مقالات
مروان حبش: ما يقارب ربع قرن في المعتقل 1970 – 1994
مروان حبش– التاريخ السوري المعاصر
في أواخر حزيران 1967، تم توافق بين الرئيس الأمريكي جونسون ورئيس وزراء الاتحاد السوفييتي كوسيغين باجتماعهما في مدينة “غلاسبورو” بنيو جرسي بالولايات المتحدة على صيغة قرار، تقدم به فيما بعد، وزير خارجية بريطانيا جورج براون إلى مجلس الأمن، وتمت الموافقة عليه بتاريخ 22تشرين الثاني 1967 وعُرف بالقرار 242، رفضت القيادة السورية الاعتراف به. وفيما بعد، ومن خلال رسالتين بزمنيين متتاليين، وجهتهما اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي والحكومة السوفييتية إلى قيادة الحزب في سورية، تمنتا فيهماعلى القيادة السورية إعادة النظر في موقفها من قرار مجلس الأمن والتعامل مع السفير يارنغ ممثل الأمين العام للأمم المتحدة لمناقشة إمكانية تطبيق هذا القرار مع الدول المعنية به، وأكدت القيادة السورية على الأسباب التي أملت عليها رفض قرار مجلس الأمن.
وصلت الحال ما بين القيادة بأكثرية أعضائها وعضو القيادة وزير الدفاع الفريق حافظ إلى مفترق طرق، نتيجة أسباب عديدة وجوهرية وتباين كبير في الرؤية نحو المستقبل، وفي أعقاب تصرف <بلطجي> من الملازم أول رفعت أسد، وكان المذكور قد ارتكب عدة أعمال لا تليق ببعثي، وخارجة عن وظيفته، ونُقلت إلى شقيقه وزير الدفاع الذي كان يعد بمنع أخيه عن تكرارها ولكن الوعود بقيت وعوداً، دفعت بالأمين العام للحزب رئيس الدولة الدكتور نور الدين الأتاسي، للمرة الثانية، إلى تقديم استقالته من كل مناصبه الحزبية والحكومية، وبعد أكثر من اجتماع للقيادة القومية للحزب، تقرر دعوة المؤتمر القومي العاشر لدورة استثنائية في أوائل شهر تشرين الثاني 1970 لمعالجة الأزمة القائمة، وبعد مناقشة التقرير المقدّم من القيادة القومية توصل المؤتمر مساء 12/11 إلى قرارات عديدة ومن بينها تغيير قيادة الجيش.
بعد انتهاء المؤتمر من أعماله، توجهتُ أنا والرفيق محمد سعيد طالب إلى منزل الأمين العام الدكتور نور الدين الأتاسي للاطمئنان عن صحته < وكان قد خضع لعملية جراحية بسيطة أثناء فترة انعقاد المؤتمر >, والتقينا عنده باللواء صلاح جديد، وبعد الحديث عمّا يمكن أن يتصرف به الفريق حافظ، طُرحت وجهة نظر بأن نتعاون ( أنا و محمد سعيد طالب ) مع وزير الدفاع في حال قيامه بانقلاب وبُررت وجهة النظر هذه بسببين، أولهما: أن الفريق حافظ يودنا ويمدحنا كثيراً وعنده رغبة في التعاون معنا، وثانيهما، أنه بتعاونكماتستطيعان حماية الرفاق البعثيين في الحزب مما يتوقع أن يحل بهم، وكانت وجهة النظر هذه نابعة من شعور بالواجب وإحساس بالمسؤولية تجاه الحزب والرفاق. ولم نكن مع وجهة النظر هذه، وشاطرنا اللواء صلاح هذا الرأي.
كان السفير السوفييتي نور الدين محي الدينوف على موعد مع الأمين العام المساعد اللواء صلاح جديد صباح يوم 13/11 في مبنى القيادة القومية <الاتحاد النسائي حالياً> وطلب السفير مجدداً الاعتراف بالقرار 242 مقابل الضغط لإيقاف إجراءات الانقلاب التي بدأ الفريق حافظ باتخاذها منذ قرار القيادة دعوة المؤتمر، وتبلَّغ السفير بأن القيادة لا ترى أي مبرر للاعتراف بالقرار، كما اعتذر الأمين العام المساعد عن قبول عرض السفير باستعداد الاتحاد السوفييتي لاستضافته والإقامة فيه.
بعد مغادرة السفير انتقل الأمين العام المساعد إلى منزل الدكتور يوسف زعين المجاور لمبنى القيادة، وبعد دخوله بقليل، فوجئ الحاضرون بدورية مسلحة تقتحم المنزل وتقذف الشتائم المهينة واقتادتهم<اللواء صلاح، الدكتور يوسف، مصطفى رستم، فوزي رضا*، وجميعهم أعضاء في قيادة الحزب، ومحمد عيدعشاوي>**إلى مبنى قيادة القوى الجوية، وليلاً اجتمع وزير الدفاع مع الرفيق اللواء صلاح جديد وسأله عن المخرج، فأجابه: لقد اتخذت قرارك وانتهى الأمر، وبعد منتصف الليل اجتمع مع كل من د. يوسف زعين ومصطفى رستم كلاً على انفراد وحاول، دون جدوى، إقناعهما بالتعاون معه، وأن الأزمة بينه وبين اللواء صلاح، وأطلقهما فجر 14 / 11.
في ضحى يوم 14، أرسل الفريق حافظ عدداً من ضباط القيادة للاجتماع مع الدكتور نور الدين في منزله <حضرت اللقاء بالصدفة> في محاولة لإقناعه بأن اللواء صلاح هو سبب الأزمة، وبأن الأمور ستبقى في الحزب والدولة على حالها، وكان رده عليهم ضرورة إطلاق الموقوفين والالتزام بمقررات المؤتمر.
كانت تجمعني مع الفريق حافظ، إضافة إلى رفاقية الحزب وزمالة عضوية القيادة، علاقة ودّ متبادل، ونتيجة ذلك حاول الفريق حافظ في اليوم التالي الاجتماع معي ومع محمد سعيد طالب، <وكنا نسكن في منزل واحد> لمناقشة ما وصلت إليه الحال، وإمكانية العمل معاً، ولظرف معين لم يتم اللقاء <اعتذرت عن الالتقاء معه >، ولم يدرك الفريق حافظ أن الأزمة، أي الخلاف بيننا <القيادة> وبينه كان خلافاً بين مشروعين متناقضين تماما، وعدم الإدراك هذا قاده إلى اعتبار موقفنا هو موقف شخصي منه، وعلى هذا الأساس تعامل معنا خلال فترة الاعتقال وما بعدها.
في مساء يوم 14 / 11 نقل الموقفون الثلاثة، من مبنى قيادة القوى الجوية إلى سجن المزة العسكري، وبعد 16 / 11 فُرضت الإقامة الجبرية على الأمين العام للحزب والرقابة المباشرة على مدار الساعة على بقية أعضاء القيادة . وبعد أسبوع من ذلك اعتُقِل الدكتور نور الدين في سجن المزة، وفي فجر 21 / 12 اعتقل كلٌ من مروان حبش ومحمد رباح الطويل.
كان السفير الألماني الشرقي – قبل اعتقالي بحوالي عشرة أيام، قد نَقل إليّ بصفتي رئيس جمعية الصداقة مع ألمانيا الديمقراطية دعوة لزيارة ألمانيا الديمقراطية، ولكنني اعتذرت عن تلبيتها في مثل هذا تتابعت اعتقالات أمناء وأعضاء قيادات الفروع والمحافظين الذين رفضوا التعاون مع الوضع الجديد، وكذلك تتابعت اعتقالات أعضاء القيادة، باستثناء من استطاع منهم مغادرة القطر سراً، (الدكتور إبراهيم ماخوس، الدكتورحبيب حداد، والدكتور محمد عمار الراوي عضو القيادة القومية من العراق)، و كان أعضاء القيادة القومية، (مجلّي نصراوين وحاكم الفايز <من الأردن> وسلمان عبد الله والدكتور فؤاد شاكر <من العراق>، وعلي بن عقيل <من اليمن >) قد انتقلوا قبل 16/11 إلى لبنان.
في شهر نيسان اختُطِف سلمان عبد الله من بيروت في فجر اليوم الذي كان سيغادر فيه لبنان إلى العراق، وأوثقوا يديه وربطوا عصابة على عينيه وكمموا فمه، ونقلوه وهو على هذه الحالة إلى سورية، عبر مخاضة في نهر العاصي قرب قرية ربلة، لينتهي به المطاف في سجن المزة، وفي يوم 6 /6/1971 اعتُقل كل من الدكتور يوسف زعين وعبد الحميد مقداد، وبتاريخ 22 / 6 تم اعتقال بقية أعضاء القيادة، (مصطفى رستم، محمد سعيد طالب، حديثي مراد، أحمد الشيخ قاسم، حمود القباني، أنيس كنجو، وكامل حسين عضو القيادة السابق وسفير سورية في فرنسا)، وكان قد اعتقل، أيضاً، مجلي نصراوين الذي كان قد عاد إلى سورية بشكل سري في هذه الفترة.
دعت قيادة التنظيم الأردني الفلسطيني الموحد مؤتمرها القطري للانعقاد في مدينة درعا، وبعد مناقشة جدول الأعمال انتخب المؤتمر قيادة قطرية اعتبرتها أجهزة الأمن السورية، كما اعتبرت توجهات أكثرية أعضاء المؤتمر، غير موالية لانقلاب تشرين الثاني، مما دفعها إلى الإيعاز لبعض الحزبيين المرتبطين بها من هذا التنظيم للقيام بما أسموه حركة تصحيحية على القيادة المنتخبة، وعلى إثر ذلك اعتُقل ضافي الجمعاني عضو القيادة القومية، أمين سر التنظيم الأردني الفلسطيني الموحد، ويوسف البرجي وحسن الخطيب من أعضاء القيادة القطرية لهذا لتنظيم، بسبب عدم قبولهم التعاون، وسجنوا في فرع التحقيق في الحلبوني ثم نُقلوا بعد عدة أشهر إلى سجن المزة كأمانة لصالح فرع الاستطلاع العسكري دون أسماء، ولم ترد أسماؤهم إلى السجن إلا بعد السماح لأهالي لمعتقلين بالزيارة <أي بعد عام ونيف تقريبا>، إضافة إلى اعتقال العشرات من البعثيين الذين رفضوا العمل مع انقلاب 16/11.
في شهر حزيران 1971 اختُطف من لبنان حاكم الفايز بعد تخديره، هو والدكتور فؤاد شاكر من قبل ماجد محسن الذي يقطن معهما الشقة نفسها والمسؤول عن أمنهما، بالتواطؤ مع شقيقه زهير محسن الذي كان الرئيس السادات قد لقبه بزهير العجمي في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وظن الخاطفون أن الدكتور فؤاد قد فارق الحياة كما سمعوا تبادل إطلاق الرصاص في الشارع، فاكتفوا بنقل الفايز إلى مقر الصاعقة في بيروت، وهناك أعادوا تخديره ونقلوه في صندوق سيارة إلى سجن المزة في دمشق، وفي لحظة نزول الخاطفين من المنزل في بيروت كان قد وصل عضو القيادة القومية مالك الأمين <من لبنان> إلى المكان، فأطلق عليه رئيس فريق الاختطاف الرصاص وبادله الأمين الإطلاق من مسدس كان يحمله وأرداه قتيلا*.
كان اعتقالنا في زنازين مفردة، وحتى تاريخ حزيران 1971، كان يُسمح للمعتقلين حتى ذلك التاريخ من أعضاء القيادة ومن أعضاء قيادات الفروع، بما يُعرف في أدبيات السجن بالتّنفس، أي الخروج من الزنزانة إلى الباحة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 150 متراً مربعاً وإفرادياً، لمدة عشر دقائق تبدأ بعد الساعة العاشرة والنصف ليلاً، و قد يأتي دور آخر المتنفسين بعد الواحدة والنصف ليلاً، ولمدة عشر دقائق مرةً ثانية، تبدأ مع أذان الصبح. وحتماً، فإن الخروج لقضاء الحاجة محددٌ بعد فترات توزيع الطعام، وانفرادياً وبالتتالي ولوقت قصير جداً، يجب خلاله تنظيف الصحن البلاستيكي وقضاء الحاجة. أما الخروج في غير هذه الأوقات يتطلب موافقة من رئيس الحرس الذي كان يبخل بها دوماً، وعديدون اضطروا للتبول في الصحن الذي يأكلون به.
بأمرٍ من رئيس فريق التحقيق العميد ناجي جميل، أُلغيت فترة التنفس، وحُرم المعتقلون من النوم ليلاً، إذ بعد انتهاء حفلات التعذيب الجسدي للمعتقلين الجُدد بعد منتصف الليل- وتعرض له من أعضاء القيادة (مصطفى رستم وأنيس كنجو وأحمد الشيخ قاسم وكامل حسين ومجلي نصراوين) وجميع المعتقلين الآخرين من غير أعضاء القيادة- تبدأ حفلة دحرجة البراميل الفارغة والقرع عليها بالعصي، وقذف التنك الفارغ بالأبواط في الردهات أمام أبواب الزنازين، وأصوات عالية لمسجلات صوت سُجل عليها أصوات آهات المعتقلين أثناء تعذيبهم، وكان صدى تلك القرقعة والأصوات، يُرعب سكان المنازل القريبة من السجن في حي المزة، وتستمر تلك الحفلة حتى الساعة السادسة صباحاً، وهو موعد بدء الخدمات في السجن الذي يترافق مع الصراخ والشتم على المساجين العاديين من المجندين إضافة إلى صلصلة المفاتيح الكبيرة وفتح الأبواب وقرقعة براميل النفايات، وتوزيع طعام الإفطار المكوَّن من رغيف خبز “صمونة” فوقه عدد من حبات الزيتون أو ملعقة من اللبن المصفّى أو المربى أو بيضة مسلوقة، ومغرفة من الشاي المزفر تُسْكب في صحن البلاستيك الذي يستعمل لكل الحاجات.
يُفتح باب الزنزانة مرتين وقت توزيع وجبة الطعام، الأولى: يَطلب السجان فيها من المعتقل وضع
الصحن أمام الباب، وبعد أن يتم توزيع الطعام على صحون جميع المعتقلين في الزنازين يُفتح الباب ثانية ليستعيد المُعتقل الصحن وبما بقي فيه من طعام، بعد أن تكون الجُرذ قد هاجمته والتهمت ما
استطاعت مما احتواه قبل عودة السجان.
و بما أنه لا يُسمح للمعتقل حين استعادة صحنه، بأن يتجاوز باب الزنزانة أو يطل برأسه خارجها لذا يدفع السجان الصحن وما يحتويه، بحذائه العسكري “البوط” ليقربه من حافة الباب، وهو تقليد متوارث ولهذا التقليد دلالته العميقة التي تدل على ازدراء المُعتقل السياسي وتعمد إهانته وإذلاله.
دامت حالة الحرمان من النوم حوالي عشرة أيام، رافقتها أعمال التعذيب والإهانات اللفظية، وكان رئيس لجنة التحقيق العميد ناجي جميل يُبدع في هذه الأساليب، بدءاً من إبلاغ السجانين بأن المعتقلين جواسيس لإسرائيل لتفادي التحدث إليهم، ومروراً بثقافته العالية في “الشتيمة” وحفظه لمفرداتها، إضافة إلى حمل شالوخه بيده ليضرب به المعتقل، وكثيرا ما كان يحلو له، أيضاً، الضرب على رأس المُعتقل بالطرف الحاد للمسطرة، وهذه إشارة لينهال أعضاء فريق التحقيق (ناجي جميل، حكمت الشهابي، عدنان دباغ، علي دوبا، علي المدني، محمد الخولي)، بأيديهم وأرجلهم على جسد الماثل أمامهم، ولا يسلم رأسه ووجهه من اللكمات وخاصة، فيما يُعرف بضربة المغاوير وهي ضربة خلف الأذن تؤدي إلى اختلال التوازن، كل ذلك يحدث قبل الإيعاز بتحويله إلى المستودع، وكلمة المستودع في أدب سجن المزة تعني الفلقة والجلد بالسياط على كل نواحي الجسد، دون استثناء، وبعد أن ترتوي مؤقتاً سادية الآمر بالجلد يُصدر إيعازه بالتوقف.
استمرت،بين فترة وأخرى، أفواج المعتقلين ترفد سجن المزة، ومع ورود كل فوج تبدأ حفلات تعذيب أعضائه وتعود أصوات وأنّات المعذبين لتطرق مسامعنا، وأيضاً، كانت مشاهدتنا لتنفيذ أحكام الإعدام ببعض أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم في إحدى ردهات السجن، عودة لمرحلة جديدة من عذابنا النفسي، إضافة إلى الحرمان من النوم، واستمر الأمر على هذا المنوال حتى بداية عقد الثمانينيات إذ نُقلت إجراءات التحقيق إلى مكان آخر خارج سجن المزة.
باستثناء ثلاثة من أعضاء القيادة وضعوا في غرفة مغلقة، بقي الآخرون في زنازين مفردة برفقة جحافل النمل والصراصير، ونور المصباح الكهربائي المسلط باستمرار على الوجه، لمدد تتراوح بين ستة أشهر وعام ونصف العام، وعادت مدة التنفس وزمنه كما كان قبل شهر حزيران 1971، باستثناء المجتمعين في غرفة واحدة إذ منحوا وقتاً أطول بقليل، وبقي المعتقلون محرومين من زيارة أهاليهم لهم لمدة عام ونيف، كما حُرمنا من كل حقوق المعتقل السياسي، ومُنعت عنّا الصحف المحلية وجهاز الراديو لمدة قاربت السنوات الثلاث، ولما طالب البعض بكتب للمطالعة، وهي متوفرة في مكتبة السجن، تفتقت عبقرية ناجي جميل وأمر بشراء أجزاء من تغريبة بني هلال، وقصة الملك الظاهر بيبرس، وقصة الزير سالم لتثقيف أعضاء القيادة بها. ودام هذا الأمر عدة أشهر قبل أن يُسمح لنا بقراءة كتب من المكتبة، أما الكتب من الخارج فلم يسمح بإدخالها إلا بعد عدة سنوات، وحسب مزاج مدير السجن.
بعد انقضاء فترة السجن الانفرادي تم جمع أعضاء القيادة في موقع بالسجن يعرف بالغُرف، ووُضع كل ثلاثة أو أربعة في غرفة، باستثناء الدكتور نور الدين واللواء صلاح اللذين كانا في المكان نفسه ولكن كل منهما في غرفة لوحده.
أثناء حرب تشرين 1973، كان الحراس يهرعون إلى الملاجئ كلما سمعوا صفارة الإنذار، بينما بقينا نحن دون أية حماية، ولقد سقطت عدة قنابل بالقرب من السجن وأدت إلى اهتزازه بقوة، وخاصة في الطابق العلوي، مكان اعتقالنا. وفي الساعة الأولى من بدء الحرب صدرت تعليمات إدارة السجن بعدم خروج المعتقلين من أماكن اعتقالهم وفسر رئيس الحرس المسؤول عن الطابق العلوي بأن تلك التعليمات تعني منعنا من الخروج من الغرف المغلقة علينا إلى ” الخط” وهذه الكلمة تعني في أدبيات السجن “المغاسل والمراحيض” ولمّا باءت جهودنا لإقناعه كي يسمح لنا الخروج إلى المغاسل بالفشل، لجأنا إلى القرع المستمر على الأبواب المغلقة، ولجأ هو إلى مدير السجن للشكوى علينا، وبعدها أُفهم أنه ينفذ التعليمات بشكل خاطئ.
في ربيع عام 1974، طرأ بعض التحسن على ظروف الاعتقال، ففُتحت أبواب الغرف وأصبحنا نجتمع مع بعضنا، والأهم من ذلك أنه أصبح باستطاعة الواحد منا الذهاب إلى “الخط” لقضاء حاجته حين يريد.
إن الغرف مختلفة المساحة، وتتراوح مساحاتها ما بين اثني عشر متراً مربعاً والستة أمتار مربعة، وارتفاع
الغرفة لا يتجاوز المترين ونصف المتر، وتفتح أبوابها على موزع لا يتجاوز عرضه خمسة وسبعين سنتيمتراً، وباستثناء غرفة واحدة لها نافذتان صغيرتان وعاليتان، فإن لكل من الغرف الأربع الأخرى نافذة واحدة صغيرة وعالية، وإحدى تلك الغرف لا تصلح للسكن على الإطلاق، ولذا حشرنا أنفسنا في أربعغرف، وحولنا تلك الغرفة غير الصالحة للسكن إلى مطبخ، (وأقول للسكن لأن إقامتنا في ذلك “المنزول العامر” امتدت قرابة ربع قرن، وكنا نمزح بأن من حقنا طلب فروغ – بعد أن درجت عادة الفروغ – إذا ما تسنى لنا الخروج أحياء).
كان مكان اعتقالنا في الغرف، حاراً جداً في الصيف، وخاصة أن مدخنة قازان الحمام التي يتجاوز قطرها 30 سم، وهي مصنوعة من صاج سماكته 3 مم، تخرج من الموزع الذي تطل عليه أبواب الغرف، ويعمل الحمام بعد ظهر أغلب أيام الأسبوع ولساعات عديدة، مما ينتج عنه تحول صاج المدخنة إلى قطعة ملتهبة متوهجة تنفث حرارتها علينا. كما أن توجه موقع الغرف، لا يساعد أبدا على دخول تيارات الهواء إليها، وكنّا نعيش حقاً في مكان لا يصلح حتى كزريبة، ولذا كنا ننتظر بفارغ الصبر وقت التنفس الذي زادت مدته إلى ساعة ثم إلى ساعتين على فترتين صباحية ومسائية لنخرج إلى الباحة الصغيرة، ووقتها نشعر بالفارق الكبير ما بين الداخل والخارج.
أما في فصل الشتاء فكان لنا نصيب من الأمطار الهاطلة فوق السطح إذْ تتسلل عبر شقوقه إلى الأسرّة، ووجدنا وسيلة لتلافيها بتركيب خيم من مشمع النايلون فوقالأسرة للحماية، ولكن ثمن ذلك كان الحرمان من النوم نتيجة صوت < طقطقة > الدلف وقت ملامسته للمشمع، وغالبا ما كانت تنهار الخيمبعد أن تتجمع عليها كمية من المطر تعجز الأربطة التي تشدها عن تحمل ثقلها، وتكون النتيجة انسكاب ما تجمع من الدلف دفعة واحدة فوق سرير من يكون حَسنَ الحظ.
بقينا على هذه الحالة لمدة تزيد عن الخمسة عشر عاماً، إلى أن تم إصلاح السطح. وكانت الذريعة في تأخر الإصلاح هي أن السجن سيتحول إلى ثكنة حراسة لحماية القصر المجاور له – قصر الشعب – وقت الانتهاء من الأعمال فيه وشغله من قبل مؤسسة الرئاسة، وترافق ذلك مع نقل المعتقلين السياسيين إلى سجن صيدنايا، وأُبلغنا نحن أيضاً، الاستعداد للرحيل، ولكن ما حدث هو أن مدير السجن أبلغنا بعد فترة أمر بقاء السجن، وبقائنا فيه، ووقتها لم يكن قد بقي فيه من المعتقلين السياسيين سوانا وسوى عدد آخر لا يتجاوز العشرة، كما نقل إلينا أن الأوامر عنده هي البدء فوراً بالإصلاحات الضرورية.
نتيجة لهذه الظروف القاسية والسيئة التي كنّا نعانيها من مكان اعتقالنا، طالبنا باستمرار تبديل المكان إلى مكان آخر في السجن ورغم تكرار الطلب، لم نلق أية استجابة، وللتخفيف من وطأة هذه الظروف، طلبنا من إدارة السجن أن تسمح لنا_ ومن حسابنا الخاص- باقتناء مراوح أو براد صغير أو جهاز تلفزيون، ولكن هذه الجهود ذهبت سدى.
كان على مراقب الزيارة أن يكتب تقريراً مفصلاً عن كل ما يتم تداوله في زيارات أعضاء القيادة مع زائريهم، ويُنقل التقرير إلى الجهات المسؤولة العليا، وبعد انقضاء أكثر من عقد على اعتقالنا، وكنّا يومها أكثر من قضى مدة من الاعتقال السياسي في تاريخ سورية. كانت التقارير تسجل تراكم مشكلات أسر المعتقلين، وشبّ، أيضاً، أطفال المعتقلين ومن كان عمره عشر سنوات أصبح في العشرين من العمر، ومنهم ابنة الدكتور يوسف زعين التي طلبت من والدها في إحدى الزيارات من عام 1980 أن يأذن لها بعقد قرانها، وتمنّت لو كان باستطاعته مشاركتها تلك المناسبة، وسجّل المراقب في تقريره ما سمع، ومن ناحية ثانية أصبح النظام محرجاً أمام بعض قادة الدول والسياسيين العرب والأجانب الذين تربطهم معه علاقات ودٍّ وصداقة، وكان هؤلاء قد تمنوا، ولأكثر من مرة، على المسؤولين إطلاقنا، وكوسيلة لتخفيف تلك المطالبة وردت فكرة إمكانية نقل مكان الاعتقال، انفرادياً، ولعدة أسابيع أو أكثر، إلى استراحة القصور في دمشق.
كان الدكتور يوسف، أول من تم تبليغه فيما إذا كان يرغب في ذلك، ولم تتجاوز إقامته فيها العشرين يوماً، وأثناءها التقى بالرئيس حافظ الأسد، وبعد حديث طويل بينهما أبلغه بأن الإفراج عنّا جميعاً سيتم في وقت قريب، وسأله الدكتور يوسف: هل أنقل هذا الخبر إلى الرفاق في المعتقل؟ كان الرد بالإيجاب، وبعد عودته إلى سجن المزة العسكري، نقل إلينا ما سمعه.
وبعد أيام قليلة من عودة الدكتور يوسف إلى السجن، جاء رئيس الحرس لإبلاغ الدكتور نور الدين تهيئة نفسه للنزول إلى الاستراحة، ورغب الدكتور في أن يسمع وجهة نظرنا قبل اتخاذ قراره، فشجعناه بأكثريتنا على القبول لسببين: الأول أن سوء حالته الصحية تقتضي تغيير أجواء السجن، والثاني محاولة معرفة النوايا تجاهنا، لأن ما كنا نتساءل عنه بين بعضنا، ليس عن سبب اعتقالنا، بل إلى متى سيدوم هذا الاعتقال؟.
بقي الدكتور نور الدين في الاستراحة لمدة تقارب ستة أشهر،كان يتردد عليه أثناءها العميد محمد الخولي، رئيس مخابرات القوى الجوية، الذي أبلغه بأن إطلاقنا سيتم قريباً، ولكن للرئيس رجاء واحد، وهو أن لا تعملوا في السياسة، ومن يرغب فيها فالحزب مفتوح أمامه، كما أبلغه بأن الظروف الحياتية الجيدة والاحترام سيتوفران لكم جميعاً، وأثناء تلك الفترة تسربت أخبار نشرتها بعض الصحف في الخليج عن اتخاذ قرار بإطلاقنا في وقت قريب، ورافقتها شائعات حول مشاركتنا في السلطة.
وفي زيارة الخولي الأخيرة للدكتور الأتاسي، طرح أمامه الظروف الصعبة التي يمر بها النظام في مواجهته لتنظيم لإخوان المسلمين، واعتقال قادة وبعض قواعد الحزب الشيوعي “المكتب السياسي” أي رياض الترك ورفاقه، والحصار العربي المفروض على سورية إلخ….، وأن الرئيس يحتاج إلى دعم ومؤازرة، وتمنى عليه لو يصرح للصحافة، بما يُفهم منه أنه دعم للرئيس، وكان موقف الدكتور حاسماً في تلبية هذا الطلب، وختم كلامه للخولي قائلا: وفي كل الأحوال فإن مثل هذا الطلب لا يُطلب من معتقل سياسي إلاّ بعد إطلاقه. وعلى إثر هذا الحديث، تمّ تبليغ الدكتور بأنه سيُعاد إلى المعتقل خلال وقت لا يتجاوز الساعتين.
عاد الدكتور نور الدين إلى سجن المزة، وبعده وافق عدد قليلٌ من أعضاء القيادة النزول إلى الاستراحة، وكان النزول افرادياً وبالتتالي، وتراوحت مدة الإقامة لكل واحد ما بين الخمسة عشر يوماً والخمسة والأربعين يوماً.
في عام 1982 سُئلنا فيما إذا كان أحدٌ منّا يرغب في النزول ولم تكن هذه الرغبة متوفرة إلاّ عند عدد محدود جداً، ونتيجة لهذا العزوف لم نُسأل ثانية، وأصبح على من يرغب في ذلك أن يتوجه بطلب خطي، وكنّا نشجع الرفاق المعتقلين من أعضاء القيادة من خارج القطر، وخاصة الرفيق سلمان عبد الله من العراق، على ذلك، لأن أسرته تأتي من العراق كل عامين مرة لزيارته.
كانت المعاملة في الاستراحة حسنة، والمعتقل فيها يسمى بضيف الرئيس، أما إذا سأل أحد المارة عن سبب كثرة الحراس في الاستراحة، فكان الحرس يجيبه، بأن في الاستراحة موقوفاً من المحالين إلى لجنة الكسب غير المشروع، وطبعاً، دون ذكر الاسم.
لقد سبب النزول إلى الاستراحة إزعاجاً لسكان الحي، لأن عناصر الأمن قاموا بإحصاء أسماء الأسر القاطنة في المنازل المطلة على الاستراحة والمنازل القريبة منها وتدقيق هوياتهم.
ومما لفت انتباه الذين نزلوا إلى الاستراحة من أعضاء القيادة، دهشة الضباط المسؤولين عن الحراسة، حين علموا أنّ أي واحد من أعضاء القيادة المعتقلين لا يملك سيارة، ولم يكن تحت تصرفه قبل الاعتقال إلا سيارة واحدة فقط، وكذلك لا يملك أي واحد منهم منزلاً لسكنه، باستثناء من اشترى منزلاً بعد أن استلم سلفة سكن من صندوق السكن العسكري، أو من صندوق السكن في نقابته، وعددهم لا يتجاوز الخمسة ، وكانت تزداد دهشتهم حين علموا أن الجميع كانوا يدفعون أجرة مساكنهم من رواتبهم، وكان راتب عضو القيادة هو الراتب نفسه في وظيفته، ومن لم يكن موظفاً يُحدَد راتبه على أساس شهادته مع إضافة سنوات حصوله عليها، وبقيت الحال هكذا إلى منتصف العام 1969، إذْ حددت القيادة راتب رئيس الدولة بـ 1500 ل. س، بدلاً من 2500ل.س كما ينصُّ عليه القانون، وراتب كل عضو من أعضائها بما يساوي راتب الوزير البعثي، أي 1000 ل. س، ويتضمن الراتب أجرة السكن للجميع، بمن فيهم رئيس الدولة الذي لم يقبل السكن في قصر الروضة أو في منزل على حساب الدولة، علماً أن راتب الوزير غير البعثي كان 1600 ل س تقريباً، والواجب يحتِّم عليَّ أن أذكر بأن عضو القيادة فوزي رضا اعتذر عن استلام أي راتبٍ أو تعويض من صندوق الحزب موضحاً أن دخله من الصيدلية التي يملكها في مدينته دير الزور يكفي لتسديد نفقات إقامته في دمشق.
كانت العودة من الاستراحة إلى السجن، تولِّد أسى كبيراً في نفوس أهالي المعتقلين، وخاصة عند الأولاد الذين تركهم والدهم أطفالاً، كما أنَّ بعضهم كان قد وُلِد بعد اعتقال آبائهم بأشهر قليلة، وخلال هذه المدة القصيرة من العيش المشترك شعروا بأن لهم آباء، وشملوا برعايتهم، وتعودوا عليهم، وفجأة يخُتطفون من جديد ويُبعدون عنهم، ويعودون ثانية إلى الزيارة الشهرية وإلى المعاناة التي يلاقونها للحصول على بطاقة الزيارة والوصول إلى السجن.
إن معاملتنا في السجن كأعضاء قيادة، كانت أفضل من المعاملة التي يتعامل بها المعتقلون السياسيون الآخرون، ولكنها كانت أدنى بكثير من معاملة المعتقل السياسي المتعارف عليها، ولا تملك شرطاً من شروطها، وكنّا نحسد السجين الجنائي، لأن الظروف التي يعيشها في السجن العادي أفضل من ظروف اعتقالنا.
من أكثر الأمور مرارة في حياتي كانت تلك الساعة من ظهر يوم 17 حزيران 1990، التي كنت أنتظر فيها وصول أهلي لزيارتي، وبدلاً من مجيئهم فوجئت بتبليغ الزيارة لمحمد سعيد طالب، وأدركت أن أمراً ما قد وقع، وهذا ما حدث، إذ بعد عودة الزائر الذي حاول بصعوبة إخفاء سبب مجيء زيارته في غير موعدها بدلا عن زيارتي،ولكن إحساسي لم يتبدد، وبعد تناول الغداء أعلمني بما حدث، محاولاً كل جهده تخفيف وقع النبأ، والنبأ كان وفاة والدي ليل 16/17 حزيران، على أثر نوبة قلبية، وهو الذي كان طيلة نهار ومساء يوم 16منهمكاً في تأمين مستلزمات الزيارة من الإذن بالزيارة الذي يجب أن يحصل عليه من مقر الشرطة العسكرية في القابون، إلى ما يلزم من مواد للطعام وحاجات شخصية أخرى لابنه المعتقل، وهكذا بدلاً من أن نلتقي معاً في ذلك اليوم، تلقيت خبر استحالة رؤيته ثانية، كما حُرمت من توديع جثمانه،والعرف الدارج كان بإطلاق المعتقل السياسي لأيام في حال وفاة أحد أقاربه من الدرجة الأولى، ولكن ذلك لم يطبق علي.
بعد أن أُصيب البعض من المعتقلين بمرض عضال أو بمرض خبيث، وأكدت التقارير الطبية، بما يشبه اليقين، أن حياتهم لن تطول، تم الإفراج عنهم، وكان أولهم الدكتور يوسف زعين الذي أُصيب بورم أثَّر على عملية البلع، فنقل إلى مستشفى حرستا العسكري للمعالجة، وأجمعت تقارير الأطباء السوريين على أن حالته ميؤوس منها، فصدرت التعليمات بنقله إلى لندن للمعالجة، وقبل سفره طلب أن يُسمح له الإقامة في منزله بدمشق ليومين أو ثلاثة، وهي إقامة وداع لأهله ووطنه، وبعدها سافر إلى لندن ومن حسن حظه وبفضل التقدم العلمي والصدفة اللتين لعبتا دورهما نجحت العملية التي أُجريت له وأنقذت حياته، ولكنه ما زال يعيش في المنافي.
لم يتكرر هذا “الخطأ” مع الآخرين، حسب المعلومات التي وصلت إلينا عن لسان الرئيس ونقلا عن زواره من كبار السياسيين من الأقطار العربية الذين كانوا يتمنون منه إطلاقنا من المعتقل، لذا فإن المرضى الآخرين “نور الدين الأتاسي ومحمد رباح الطويل” قد فارقوا الحياة بعد أشهر قليلة من إطلاقهم.
تعرض الدكتور نور الدين مرتين لجلطة قلبية، وبعد إصابته في المرة الأولى، ورغم الإلحاح بإحضار طبيب مختص أو نقله إلى مستشفى لمعالجته، لم يلقَ هذا الإلحاح أية استجابة، أما الإصابة الثانية فكانت قوية جداً، وكانت آلامها شديدة، حتى أنه لم يستطع أن يتحملها وهو المعروف عنه بشدة البأس، ووجد الطبيب أن حالته خطيرة وتستدعي نقله إلى مستشفى فوراً، وبعد إبلاغه بورود الموافقة على ذلك، بذلنا كل جهودنا حتى تغلبنا على رفضه الانتقال إلى المستشفى، ويبدو أنه قدر خطورة وضعه وأدرك مآله، لذا فإنه حين وُضع على النقالة في طريقه إلى سيارة الإسعاف، واصطحبناه حتى الباب الرئيسي للغرف، ودَّعنا قائلا: سامحوني، قد لا نلتقي مرة أخرى، وفعلا لم نلتقي.
بقي الدكتور نور الدين معتقلاً في مستشفى تشرين العسكري حوالي الأربعة أشهر، وأبلغ الأطباء الجهة المسؤولة بأنه مصاب، إضافة إلى الجلطة القلبية، بورم خبيث في المري، ولم يتلق أي علاج لمكافحته، حتى انتشر ووصل إلى الكبد، وهو في هذه الحالة الميؤوس من معالجتها، تقرر إطلاقه، وحاول بعدها، دون جدوى، الحصول على جواز للسفر إلى الخارج للمعالجة، ولما أصبح الأمر مؤكداً بأن خطأ الدكتور يوسف لن يتكرر، أُرسِل إلى المستشفى الأمريكي في باريس ليفارق الحياة بعد أسبوع من دخوله وكان ذلك يوم 1/ 12/ 1992.
أُصيب محمد رباح الطويل وهو في المعتقل بجلطة قلبية، ولم تأت موافقة بنقله إلى مستشفى للمعالجة ولمراقبة وضعه الصحي، وأمره الطبيب بالبقاء في سريره دون حركة لمدة عشرين يوماً، وكنا نقوم يومياً، طيلة هذه الفترة، بدور الممرض وتقع علينا مسؤولية تنظيفه وتعقيم جسده وإعداد الطعام الخاص له.
وبقي يُعالج على أساس هذا المرض “الجلطة”، وكان الطبيب الزائر يطمئنه بأن آثارها قد زالت، بينما الحقيقة أن التليف قد بدأ ينتشر في العضلة القلبية، وادعى الطبيب، بعد وفاة المريض، بأنه كان يبلغ الجهة المسؤولة عن حقيقة المرض، وحين بلغ المرض ذروته وأصبح يهدد حياته، جاء الأمر باطلاقه، ولاقى نفس المعاملة بمنعه من السفر للمعالجة، وتوفي يوم 1/ 5/ 199أي بعد أشهر قليلة من إطلاقه .
إن قلة العناية الطبية التي كنا نتعرض لها أدت إلى وفاة الأمين العام المساعد في المعتقل، لم يكن اللواء صلاح يعاني إلا من الروماتيزم في المفاصل وبعض الالتهابات المزمنة في الجهاز الهضمي، وهذه أمراض السجناء كما يقول الأطباء.
شعر اللواء صلاح بتوعك في صحته، وبدأت معالجته من قبل طبيب السجن واختصاصه في طب الأسنان، على أن ما يتعرض له هو مرض الأنفلونزا، ولما ازدادت حالته سوءاً، نُقِل -النقل بالنسبة لأعضاء القيادة يحتاج إلى موافقة من أعلى مسؤول في السلطة- بعد ست ساعات من المعتقل إلى مستشفى المزة العسكري، ولم يلق هناك أية رعاية أو اهتمام ووصلت حالته إلى درجة كبيرة من الخطورة، حينها تقرر نقله حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل إلى مستشفى تشرين العسكري، وكانت الساعة قد بلغت الثالثة صباحاً لما وصل الأطباء المختصون الذين كانوا يشرفون عليه أثناء زيارتهم السجن، وكان حينها يلفظ أنفاسه الأخيرة.
توفي اللواء صلاح جديد صبيحة يوم الخميس 19/ 8/1993 وهو اليوم الذي كانت عائلته على موعد لزيارته ولمّا حضر ابنه البكر إلى مقر الشرطة العسكرية لاستلام الإذن بالزيارة فوجئ بارتباك المسؤولين هناك، وبعدها نقلوا إليه النبأ المفجع. وصدر عن إدارة المستشفى تقرير حدد أسباب الوفاة بـ: وهط دوراني أدى إلى قصور كلوي وهذا أدى إلى إنتان في الدم.
ونتيجة ذلك، إضافة إلى أسباب أخرى، اتُخذ قرار الإفراج عن المعتقلين من بقية أعضاء القيادة ، وتساءل بعضنا: هل يجب أن يقدم بعض رفاقنا حياتهم قرباناً، أو هل يجب أن يتأكد السجان من أن يد المنون بدأت في حصاد حياتنا حتى يبدأ إطلاقنا؟ وكما اعتقلنا على دفعات، فقد تم إطلاقنا، أيضاً، على دفعات.
في العام 1995 زارتني فيرجينيا. ن. شيري الناشطة في الـ “يومان رايتسووتش” وسألتني عن شعوري في المعتقل فأجبتها: الأمس مضى بسرعة، واليوم طويل جداً، والغد بعيد جداً، والرتابة القاتلة هي الصفة الجامعة، وأتممت بما أجاب به ابن سينا غلامه حين سأله: متى سيُفرج عنا ؟، وكان ابن شمس الدولة سلطان همذان قد سجنهما في قلعة فردجان لعدة أشهر
يقيني في الدخول كما تراه وكل الشك في أمر الخروج
وتابعتُ: المعتقل في ظروف اعتقالنا، يعني أنه لا يستطيع رؤية السماء حينما يريد.
لم نكن نعرف لبقائنا أمداً، ولا لعودتنا للحرية موعداً، كانت أعمارنا ترحل، وترحل معها آمالنا وأحلامنا، كان الموت والحياة يتراقصان خلف قضبان المعتقل، وكما يرحل النور نحو الليل كان العمر يرحل نحو الموت.
كانت الحياة تغادرنا في صمت والموت يمدُّ يده ليقطف من يريد، وبعد ثلاثة وعشرين عاماً من الاعتقال، وقبل أيام من خطف يد المنون له، وجه اللواء صلاح جديد من معتقله رسالة إلى ابنته الصغرى التي ولدت بعد أشهر من اعتقاله، كتبها على الصفحة الأولى من رواية “مذلون مهانون” لدستويفسكي، كي لا تكتشفها أعين الرقيب، وهذه الرسالة هي خير تعبير عن مشاعرنا وعن المحنة التي نعانيها، إذ ورد فيها:
( إلى أحب الناس إلي …وأعز ما في الوجود …إلى ابنتي الحبيبة وفاء …
ذكرى آلام وأيام صعبة نمربها. …لعلنا نجد ترجيعها وأصداءها في هذه الرواية. وكلي أمل أن يكون في وسعنا مستقبلاً ترديد ما جاء في نهايتها:
فانيا، فانيا، كان هذا كله حلماً أليس كذلك؟
ما الذي كان حلماً؟
كل شيء، كل شيء، كل شيء حدث هذه السنة يا فانيا، لماذا –أنا– هدمت سعادتك؟ وقرأت في عينيها: “كان يمكن أن نسعد معا إلى الأبد”.
وفاء…يا و…ف …ا …ء هل تسمعينني؟ أنا متفهم تماماً لوضعك ومشاعرك ومدرك بعمق للظروف التي أحاطت بك سابقاً وتحيط بك الآن…أنا معك …معك يا وفاء…وستجدينني دائماً إلى جانبك، ولن أتخلى لحظة عنك…فهل تفهمينني أنت يا وفاء كأب وقبل ذلك كصديق…هل أنت مدركة أبعاد الماً…<ساة> التي أعيشها الآن…؟ لا أدري يا حبيبتي …قد نلتقي يوما ما بدون رقابة وبدون سجن فنتحدث…ونتحدث طويلاً …ولكن هذا حلم …حلم بعيد قد لا يتحقق أبداً…إذن فليس لي الآن إلا الصمت، والأحلام والصمود…على طريق الرسالة التي نذرت نفسي لها …وسأموت من أجلها …فهل سنلتقي يا وفاء… على هذه الطريق …؟.
7/8/1993 أبوك…صلاح
كان صمودنا خلال هذه الفترة الطويلة من الاعتقال منطلقاً من أن البعثي الذي يتمثل قيم البعث لا يوفر تضحية مهما غلت وهو يذود عن حياض وطنه، ويقف إلى جانب قضايا شعبه ويقاسمه قدره وآلامه ومصاعبه، ويفكر بأمانة وجدية في مصيره ومستقبله، وهو الذي يجند كل طاقاته مع الجماهير المنتجة لا مع المستغلين ولا في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة، ويجب على مناضلي البعث أن يكونوا أوفياءً لكل قيم ومبادئ حزبهم مهما امتلأت بهم زنازين السجون ليتوسدوا رطوبة أرضها ويلتحفوا عفونة هوائها، أوتلقت أجسادهم سياط الجلاد، أو كلفهم الأمر أن يقضوا زهرة شبابهم في المعتقلات، أو يدفعوا حياتهم ثمناً لما يؤمنون به.
ورغم كل ذلك، كان الأمل المتجدد في كل يوم هو أن نخرج من بين جدران المعتقل، وبعد إطلاقنا منذ عدة سنوات، فإننا لا نزال نعيش ظروفه، إذْ لم نعامل حتى الآن كمواطنين، وما زالت الممنوعات مفروضة علينا، ممنوع من جواز السفر – ممنوع من مغادرة القطر ..الخ.
مروان حبش
عضو قيادة قطرية
وزير سوري أسبق
قصل من مشروع كتاب (الثورة وخيبة الأمل)
*يدعى القتيل كمال كيال من مدينة اللاذقية، كان طالباً في ألمانيا الغربية وفشل في دراسته، ارتكب هناك بعض الجرائم أدت إلى سجنه، وبعد انتهاء مدة عقوبته سُفر إلى سورية، ولمعرفته بوزير الداخلية محمد رباح الطويل تم استخدامه في بعض المهام لصالح الأمن.
- كان متوجهاً من دمشق إلى دير الزور، ومر في طريقه على منزلنا فلم يجدنا، لذلك مرّ على منزل الدكتور يوسف.
** عضو سابق في القيادة والوزارة، ووقتها كان متطوعاً في منظمة الصاعقة في منطقة الأغوار.
الظرف، كما نقل إليَّ أحد الرفاق يوم 14 / 12أنه تقرر اعتقالي ويتمنى عليّ الاختفاء أو مغادرة
القطر سراً _ لأن أعضاء القيادة مُنعوا من المغادرة بعد 16 / 11 وعُممت أسماؤهم على مراكز
الحدود– ولم أوافق على ذلك، لأنني لا أطيق اللجوء السياسي، ولكنني لم أحسب أن اعتقالي سيطول قرابة ربع قرن.
لقاء غلاسبورو في نيوجرسي بين جونسون وكوسيجن جرى اواخر حزيران 67 , اي قبل 5 شهور من قرار كارادون – 242
بين التاريخين كان هناك المشروع السوفييتي امام الجمعية العامة في حزيران , ثم المشروع اليوغوسلافي في اب ( لم يقبل عبدالناصر بهما في حينهما ) .. الى ان وصلنا الى المشروع البريطاني الذي تبناه مجلس الامن في 22 نوفمبر
انظر:
بطاقة مروان حبش عضو المجلس الوطني للثورة عام 1965
مرسوم منع منح امتياز استثمار الثروة المعدنية والنفطية في سورية
قانون تشكيل المجلس الوطني للثورة وتسمية أعضائه عام 1965
انظر ايضاً:
مروان حبش: نشأة وتكون حزب البعث العربي (1)
مروان حبش: عصبة العمل القومي (2)
مروان حبش: الحزب القومي العربي (3)
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939 (4)
مروان حبش: تكون حلقة شباب البعث العربي 1942- 1943 (5)
مروان حبش: معارك حركة البعث 1943- 1947 (6)
مروان حبش: صدور جريدة البعث والمؤتمر التأسيسي عام 1947 (7)
مروان حبش: الدمج بين حزبي البعث العربي والعربي الاشتراكي (8)
مروان حبش: دمج الحزبين وزواج لم يُعمِّر (9)
مروان حبش: قضية البعث وحسني الزعيم (10)
مروان حبش: قضية الضابط داود عويس (11)
مروان حبش: قضية انسحاب جلال السيد من حزب البعث (12)
مروان حبش: البعث والقيادة القومية (13)
مروان حبش:البعث والانقلاب على نظام حكم الشيشكلي (14)
مروان حبش: البعث والانتخابات النيابية عام 1954 (15)
مروان حبش: البعث وانتخاب القوتلي لرئاسة الجمهورية عام 1955(16)
مروان حبش: السير نحو الوحدة (17)
مروان حبش: حل حزب البعث عام 1958 (18)
مروان حبش: أزمات حزب البعث بعد الوحدة (19)
مروان حبش: حل حزب البعث عام 1958 وكلمة ميشيل عفلق (20)
مروان حبش: استقالة الوزراء السوريين في عهد الوحدة (21)
مروان حبش : إنقلاب الانفصال 28 أيلول 1961 (22)
مروان حبش: إنقلاب 28 آذار 1962 (23)
مروان حبش: مؤتمر شتورا عام 1962 (24)
مروان حبش: عصيان كتلة النحلاوي العسكرية 1963 (25)
مروان حبش: انقلاب 8 آذار 1963(26)
مروان حبش: المحادثات من أجل الوحدة عام 1963 (27)
مروان حبش: ما بين اللجنة العسكرية واللواء زياد الحريري (28)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الدواعي والأسباب – المقدمة (29)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الحزب في السلطة (30)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. سقوط حكم حزب البعث في العراق (31)
مروان حبش: بعد سقوط حكم حزب البعث في العراق 1964 (32)
مروان حبش: أزمات ما بعد المؤتمر القومي السابع لحزب البعث 1964 (33)
مروان حبش: المؤتمر القومي الثامن لحزب البعث عام 1965 (34)
مروان حبش: خلاف على مفهوم ودور الحزب والسلطة عام 1965 (35)
مروان حبش: شرخ في القيادة القطرية وبين القيادتين (36)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. انفجار الأزمة (37)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. رؤية القيادة القطرية المؤقتة للمستقبل (38)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. دواعي التفكير بالعمل العسكري (39)
مروان حبش: حركة 23 شباط .. انتصار منطق الحسم العسكري وتنفيذ الحركة (40)
مروان حبش: حزب البعث بعد حركة 23 شباط وحتى المؤتمر القومي التاسع (41)
مروان حبش: محاولة عصيان سليم حاطوم عام 1966 – المقدمات (42)
مروان حبش: محاولة عصيان سليم حاطوم عام 1966 – التنظيم العسكري السري (43)
مروان حبش: محاولة عصيان سليم حاطوم عام 1966 – احتجاز وفد القيادة في السويداء (44)
مروان حبش: محاولة عصيان سليم حاطوم عام 1966 – مرحلة الأردن (45)
مروان حبش: محاولة عصيان سليم حاطوم عام 1966 – تنفيذ حكم المحكمة العسكرية (46)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 – المقدمات والوقائع .. الوضع العربي (47)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. مشروعات التحويل (48)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. البعث والعمل الشعبي المسلح (49)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. الاعتداءات الإسرائيلية على الحدود (50)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. التحضير للعدوان (51)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. قصة الحشود (52)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. عشية الحرب (53)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. بداية العدوان (54)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. بعض أسباب الهزيمة (55)
مروان حبش: حرب حزيران 1967 .. تقييم نتائج الحرب على الجبهة السورية (56)
مروان حبش: عبد الكريم الجندي (2/1) (57)
مروان حبش: عبد الكريم الجندي (2/2)
مروان حبش: الشركة النفطية التي كانت تتدخل لإسقاط وتعيين حكومات
مروان حبش: حول اللجنة العسكرية
مروان حبش: استثمار النفط وطنياً .. بترول العرب للعرب