مقالات
مروان حبش: حل حزب البعث عام 1958 وكلمة ميشيل عفلق
مروان حبش– التاريخ السوري المعاصر
القرار الأكثر إثارة للجدل ..حل الحزب، وكلمة الأمين العام الأستاذ ميشيل
خاضت القوى التقدمية في سورية وفي طليعتها حزب البعث العربي الاشتراكي سلسلة من المعارك على الصعيدين الداخلي والخارجي، تُوجت كلها بمعركة حاسمة في شباط 1958 وهي قيام الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية.
لقد فرض البعثيون في الميثاق القومي الذي تبنته الأكثرية البرلمانية تطوير العلاقات مع مصر حيث يشمل مختلف المجالات التي يمكن توحيدها أو تنسيقها في الشؤون الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتضمن البيان الوزاري الذي تقدمت به بتاريخ 27/6/1956حكومة التجمع القومي التي شكلها صبري العسلي إلى البرلمان ذلك الميثاق، وتمسك مندوبو حزب البعث على أن ينصَّ البيان الوزاري بشكل لا لبس فيه على تحقيق الاتحاد بين مصر وسورية، وفي جلسة لمجلس النواب السوري في شهر تموز من العام ذاته أقر المجلس بالإجماع الاتحاد مع مصر، كما عمل الحزب جاهداً لتكريس زعامة عبد الناصر الذي بدأ نجمه يسطع في الفضاء العربي.
في مطلع 1957 طلب وزراء البعث ( صلاح البيطار وخليل كلاس ) من مجلس الوزراء الاستمرار في بذل الجهود لتحقيق الاتحاد مع مصر.
عكفت قيادة حزب البعث على وضع مشروع للاتحاد الفيدرالي، وفي تصريح للأستاذ أكرم الحوراني نشرته جريدة الرأي العام بتاريخ 11/12/1957 بيَّن فيه الأسس التي يؤسس عليها المشروع، وهي: رئيس واحد، نائب للرئيس، مجلس نيابي اتحادي ومجالس نيابية قطرية، توحيد التمثيل الخارجي والدفاع الوطني ….
كان وزير الخارجية الأستاذ صلاح البيطار يحضر جلسات الأمم المتحدة، وبعد انتهائها عرّج على القاهرة والتقى الرئيس عبد الناصر الذي أسرّ له عن خشيته من قيام بعض ضباط الجيش السوري بانقلاب للسيطرة على السلطة والحيلولة دون قيام الوحدة، ولذلك فهو يريد التأكد من موقف القوات المسلحة السورية قبل المضي في اتخاذ خطوات عملية نحو الوحدة. وبعد عودته إلى دمشق اجتمع معه الملحق العسكري المصري اللواء عبد المحسن أبو النور ونقل إليه الهواجس نفسها وأبلغه تخوف الرئيس عبد الناصر عن معارضة بعض أعضاء مجلس القيادة العسكري لقيام الوحدة، وسمّى له أسماء هؤلاء الضباط، وعلى إثر هذه المعلومة اجتمع الأستاذ البيطار معهم يوم 11/1/ 1958، وطرح عليهم خشية الرئيس ناصر من موقفهم تجاه الوحدة الموعودة، فنفوا هذه المعلومات وأكدوا بأنهم مع السير نحو الوحدة ولا يرضون عنها بديلاً، وأكدوا له أن مجلس القيادة العسكري الذي يمثل قيادة الجيش ومختلف وحداته والمناطق العسكرية مجمع على الوحدة، ونتيجة لهذا الاجتماع مع الأستاذ صلاح البيطار اجتمع في اليوم نفسه، مجلس القيادة العسكري المكون من حوالي 20 ضابطاً.
تسارعت الأحداث، ودخل أعضاء مجلس القيادة العسكري في مزاودات بين بعضهم، ومنهم من كان يطالب بوحدة اندماجية، وأعدوا مذكرة باسم الجيش والقوات المسلحة تضمنت إجماع أعضاء هذا المجلس على قيام الوحدة الكاملة مع مصر، ومما ورد في مقدمة المذكرة: “الوحدة بين مصر وسورية إن هي إلاَّ ضرورة قومية مستمدة من ماض وحاضر ومستقبل مشترك ما بين أمة واحدة عربية وذلك تحقيقاً لوحدة شاملة واحدة في العصر الحديث.
وقد عبر القطران عن إرادتهما في الوحدة الكاملة في شتى المناسبات القومية وخاضا في سبيل ذلك معارك ضارية ضد الرجعية الداخلية والاستعمار الخارجي حتى توصلا إلى هذه المرحلة التي تمكنا فيها من إعلان إرادتهما رسمياً على لسان ممثليهما في كلا القطرين في الجلسة التاريخية المنعقدة في دمشق، في 18 تشرين الثاني 1957″.
سمّى مجلس القيادة، ومن غير علم السياسيين، وفداً من بين أعضائه للسفر إلى القاهرة في الليلة نفسها لتقديم المذكرة إلى الرئيس ناصر، كما يقوم وفدٌ آخر من هذا المجلس بتقديمها “المذكرة”، صباحاً، إلى الحكومة السورية، وفوجئت الحكومة، باستثناء الأستاذين الحوراني والبيطار، بأن طائرة أقلت وفداً من المجلس العسكري يضم 14 ضابطاً ستصل الساعة 12ليلاً لمقابلة الرئيس عبد الناصر، وأن الوفد يحمل معه مذكرة تم إعدادها في دمشق.
لا يشك الأستاذ أكرم الحوراني بالضغط الذي مارسه عبد الحميد السراج على بعض أعضاء مجلس القيادة العسكري وإيحائه لهم بأن حزب البعث يعد مؤامرة للاستيلاء على السلطة، مما دفهم لتشكيل الوفد العسكري والسفر إلى القاهرة.
كان أول اجتماع لهم بعد وصولهم إلى القاهرة مع المشير عامر وتحدث أعضاء الوفد السوري مطالبين بالوحدة الاندماجية فوراً، وبعد حوار طويل دام ثلاثة أيام بين مندوبين عن الرئيس ناصر وأعضاء الوفد، اجتمع الرئيس ناصر معهم وأوضح لهم الفوارق القائمة بين الوضع السياسي والعسكري في القطرين، وسأل البعثيين في الوفد فيما إذا كان حزب البعث يقبل بحل نفسه؟
اتفقت إجابة أعضاء الوفد على ما طرحه الرئيس عبد الناصر بأن هذه التحفظات لا تشكل عائقاً أمام تحقيق الوحدة، ووضعوا أنفسهم تحت تصرفه ليقرر بشأنهم ما يرتئيه مناسباً، وبعد نقاش قصير وافق الرئيس ناصر على تحقيق الوحدة بين القطرين بشروطه، وهي:
1 – وحدة اندماجية لا اتحاد وعلى أن يكون الحكم رئاسياً لا برلمانياً.
2- حل الأحزاب في سورية.
3- إبعاد الجيش عن السياسة، وتأكيداً لذلك وضع مجلس القيادة نفسه تحت تصرف الرئيس ناصر وترك له الحرية بتعيين أفراده في الأمكنة التي يريدها أو تكليفهم بأي عمل يشاء.
في يوم 13/1/58 اجتمعت قيادة الحزب القومية مع القيادة القطرية ومجلس الحزب وأقروا مشروع الاتحاد الفيدرالي الذي قدمته اللجنة الحزبية التي كُلفت بإعداده وتولى عبدالله الريماوي تلاوته مادة مادة، بعد إدخال بعض التعديلات عليه.
تبنّى مجلس الوزراء السوري مشروع حزب البعث، وكلف وزير الخارجية الأستاذ صلاح البيطار بالسفر إلى مصر للتباحث مع الحكومة المصرية بشأن الاتحاد بين القطرين.
سافر الأستاذ صلاح في الثامن عشر من كانون الثاني عام 1958 إلى القاهرة وبرفقته سفير مصر في سورية محمود رياض، وفي اجتماعاته مع الرئيس عبد الناصر لم يطرح معه المشروع الذي يحمله بذريعة أن وفد مجلس القيادة العسكري كان قد أنجز اتفاق الوحدة الاندماجية، وخشي من خسارة أي إنجازٍ وحدوي في حالة طرح مشروع الاتحاد الفيدرالي، ومن هذا المنطلق صرح أكثر من مرة للصحف المصرية عن قيام الدولة العربية الواحدة، وعن حل الأحزاب السياسية في سورية.
في الثاني والعشرين من كانون الثاني عاد الأستاذ البيطار إلى دمشق، وفي مساء اليوم نفسه اجتمع مجلس الوزراء برئاسة رئيس الجمهورية السيد شكري القوتلي واستمع إلى الاتفاق الذي تم بينه وبين الرئيس عبد الناصر بشأن توحيد البلدين.
يتحدث الأستاذ أكرم الحوراني عن مزاودة ومناورة الرأسماليين ومن بينهم خالد العظم، ويورد في الصفحة 2506 من مذكراته تصريحاً لخالد العظم نشرته جريدة “الصرخة” بتاريخ 19/1/58 جاء فيه: “إننا نريد الوحدة بين سورية ومصر وحدة كاملة شاملة، وأن تتوحد الدولتان بدولة واحدة، لأن هذا النوع من الوحدة صميمي أكثر وأشمل من غيره”.
ويستنتج الأستاذ الحوراني: “أن هذه هي الصورة التي تعلل حماسة الطبقة الإقطاعية والرأسمالية للوحدة مع مصر، كما كانت أملاً في نظر التجار لزيادة الأرباح، وذلك بحل حزب البعث العربي الاشتراكي وإقصائه عن السلطة، وهو الأمر الذي كان يعدهم به ويؤكده لهم رجال المخابرات المصرية والمسؤولون في مصر”. المذكرات ص 2507.
كما يؤكد: “أن رجال السياسة من شكري القوتلي إلى صبري العسلي إلى رشدي الكيخيا إلى أصغر شخص من الموالين لهم، كانوا يعتقدون أن الحكم سيؤول إما إلى حزب البعث وإما إلى الجيش وأن الوحدة مع عبد الناصر هي الحل الوحيد أمامهم” المذكرات ص 2518.
أما أعضاء حزب الشعب والكتل البرلمانية المعارضة لحزب البعث ولحكومة التجمع القومي فقد أخذوا وعداً من مبعوثي الرئيس عبد الناصر بإقصاء التجمع القومي و كبار ضباط الجيش عن الحكم في سورية.
يقول خالد العظم في الصفحة 144 الجزء الثالث من مذكراته حين ذهب رئيس الجمهورية والحكومة إلى مصر للتوقيع على اتفاق الوحدة: “جاء للسلام عليَّ فريق من أبناء عمي فوجدتهم مستبشرين فرحين لقيام الوحدة بين سورية ومصر، ولما سألتهم عن سبب هذا الشعور قالوا: “إن البلاد سوف تتخلص من البعثيين الاشتراكيين ومن التجمع، فقلت لهم إنني أشك بإمكان إبعاد هؤلاء عن الحكم القادم، وعلى فرض تحقيق ذلك فهل يعادل التخلص من أخصامنا السياسيين زوال دولتنا واستقلال حرياتنا؟”.
يبدي الأستاذ الحوراني دهشته “من إلحاح الأستاذ صلاح على مصطفى حمدون ضرورة التفاوض على وحدة اندماجية، وذلك حين جاء إلى بيتي وكان عندي الأستاذ صلاح ليبلغنا عن قرار المجلس العسكري”.
بَيَّن الأستاذ صلاح البيطار بعد عودته من مصر أمام اجتماعٍ ضم قياديين حزبيين من سورية والعراق والأردن ولبنان أن الرئيس عبد الناصر اشترط لقيام الوحدة التامة شرطين وهما: حل الأحزاب السياسية، وأن يضع قادة الجيش أنفسهم تحت تصرفه.
ويذكر الأستاذ الحوراني أن المجتمعين وافقوا بالإجماع على حل الحزب، وأنه شاهد بأم عينيه بعد انتهاء الاجتماع عبد الكريم زهور يعانق جمال الأتاسي فرحاً، وسمع منهما جملة: “الحمد لله، خلصنا من الحزب”.
ابتهج عبدالله الريماوي لقرار حل الحزب، لأنه كان يظن بأنه أصبح المرشح الأكثر حظاً ليصبح الأمين العام للحزب في الأقطار العربية.
كان الأساتذة الثلاثة يأملون استناداً إلى وعود جمال عبد الناصر أن يكون الاتحاد القومي حزباً موحداً للقوى التقدمية في القطرين، وقائماً على مبادئ حزب البعث.
كانت انتقادات مختلف منظمات الحزب تعبر عن الممارسات السلبية لأجهزة عبد الناصر، وعن خيبة الأمل في قرار حل الحزب.
بينما كان آخرون يرون أن قادة الحزب بتناقضاتهم كانوا يشعرون بثقل وطأة الحزب عليهم وبالتشرذم والانقسام الذي حلَ بالحزب وهذه فرصة قلَ نظيرها فليكن حلَّ الحزب في سبيل قضية مقدسة هي الوحدة، وإلاَّ فإن الحل قد يقع بلا ثمن إذا استمرت أوضاع الحزب على ما هي عليه، لأنه، حسب رأي البعض، ظهرت في الحزب بوادر تيارات مختلفة يلتقي بعضها مع التفسيرات الماركسية وبعضها مع النازية والفاشية وبعضها مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والتبس في أذهان الكثيرين مفهوم الرسالة الخالدة بالدعوة الإسلامية …. وأصبح اتهام بعض الحزبيين بعضهم لبعض بالانحراف عن عقيدة الحزب أو التعلق بالزعامة الشخصية أو الارتجال، من الأمور الدارجة على ألسنة الحزبيين.
وكان بعض البعثيين يرون أن الأستاذ ميشيل تحمل مسؤولية الموافقة على قرار حل الحزب مع بقائه أميناً للحزب المنتشر في الأقطار العربية ومنظماته في بقية بلدان العالم للتخلص من دمج الحزبين، وكان يطالب بعد الانقلاب على حكم أديب الشيشكلي مباشرة بفك الدمج، ومما ورد في تقرير كانت قد أعدته لجنة تحضيرية عام 1957لطرحه على مؤتمر قطري للحزب مزمع عقده في وقت ما من العام نفسه : “إن الذريعة التي يتذرع بها دعاة الانقسام هو أن الحزب ليس وليد تجربة واحدة بل جاء نتيجة لدمج حزبين مختلفين ، ويبدؤون من نقطة هي أن عملية الدمج هذه لم توفق ، واليوم وبعد مرور أكثر من خمس سنوات على دمج الحزبين ، نجدنا مضطرين لمعالجة هذه الناحية لأن دعاة الانقسام ما زالوا موجودين ضمن الحزب ومن أعضاء الحزب السابقين …”.
ويورد عضو القيادة القومية الدكتور جمال الشاعر في كتابه “سياسي يتذكر”: قال الأستاذ ميشيل، في شهر شباط 1959، في أحد اجتماعات اللجنة التحضيرية التي تَعُد لعقد المؤتمر القومي الثالث:
“في أواخر مراحل المباحثات عن الوحدة بين مصر وسورية فاجأني الرئيس عبد الناصر بموضوع حل الأحزاب، ولم يترك لي المجال للعودة إلى القيادة القومية أو المؤتمر القومي عملاً بالنظام الداخلي للحزب واضطررت أن أُعطي الجواب بالموافقة في الجلسة نفسها”.
لم يكن حل الحزب لدى بعض القياديين مأسوفاً عليه، لأن هناك تعويضاً منتظراً لهم وهو احتمال تسلمهم زمام السلطة في سورية نظراً لدورهم الكبير في قيام الوحدة ومنهجهم الوحدوي.
حدث تذمر في قواعد الحزب من قرار الحل، ومنهم من اعتبر الحل غير شرعي لأن نظام الحزب لا يسمح بذلك، ولأن الحزب الذي يعتبر استمرار وجوده شرطاً لتحقيق وحدة العرب، وقع في مفارقة دون ريب وهي أن زواله أصبح شرطاً لتحقيق الوحدة.
ولقد وجد القادة الثلاثة الذين اتخذوا قرار حل الحزب مبررات قرارهم بالحل بأن:
1 – حل الأحزاب شرط وضعه عبد الناصر لقيام الوحدة.
2 – الحل سيشمل فرعي سورية ومصر فحسب وليس الحزب كله.
3 – الاتحاد القومي سيكون الإطار الذي سيمارس الحزبيون فيه نشاطهم السياسي بعد قيام الوحدة.
هناك بعض البعثيين ممن أصبحوا مؤيدين للرئيس عبد الناصر، يتغاضون عن شهادة جميع أعضاء وفد مجلس القيادة العسكري بأن شرط حل الأحزاب فرضه الرئيس عبد الناصر، ويقرؤون، خطأً، أقوال عبد الناصر في مباحثاث الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق في شهري آذار ونيسان 1963، ويتجاهلون أن الأستاذ صلاح البيطار حينما وصل إلى القاهرة حاملاً مشروع الوحدة الفيدرالية، كان كل شيء بحكم المنتهي بين الرئيس ناصر ووفد مجلس القيادة، وهذا التوضيح يوجب قراءة ما دار في المباحثات المنوه بها بشكل صحيح.
قال الرئيس عبد الناصر: لما بدأت الوحدة هل قلتو الحزب ما يتحلش ؟
الكلام اللي أنا با قولو دلوقتي بأن هذا الاتجاه كان خطأ، وان الحقيقة كان يجب أن يكون كذا.. ما في حدا اقترح هذا الرأي.
السيد ميشيل عفلق: باعتقد أنه بدون الحل ما بتكون تصير وحدة ….
الفريق لؤي الأتاسي: يعني جايز افتكروا أنه عملية تسهيل للحكم … يعني بافتكر أنه كان تسهيل لطريقة الحكم حتى يوصل للنظام الأفضل فقرروا حل الحزب في سورية.
السيد صلاح البيطار: هذا كان رأينا.
الرئيس عبد الناصر: ليه ما اتكلمتوش.
السيد صلاح البيطار: في اللجنة قلنا.
الرئيس جمال عبد الناصر: لا … لا … بعد الوحدة ، بعد الوحدة بفترة .
السيد صلاح البيطار: آه …صحيح .
الرئيس عبد الناصر: لا.. أنا بتكلم على قبل الوحدة … نحنا قعدنا واتكلمت ويانا … أنت الوحيد اللي قعد معانا.
السيد صلاح البيطار: بس نحن قلنا بأن الاتحاد القومي فكرة بحد ذاتها سليمة إذا كان له مضمون ثوري بمعنى أنه ما في مانع نجمع كل من هو وطني بشرط أن تكون القيادة ثورية … وبعبارة أخرى تكون الطليعة هي العمود الفقري له… هون صار في اختلاف …أنت تقول انه لا أنا أعتبره بكامله هيئة يجمع المتناقضات.
أوردت جريدة البعث في مقالها الافتتاحي في العدد 87 تاريخ 17/12/1958 ضرورة تماثل الأوضاع في القطرين وتحقيق الانسجام بينهما، ومما ورد في هذه الافتتاحية: (….وكل ما يعتبر عائقاً في سبيل الاتحاد، من أوضاع خاصة في سورية، فإن إرادة الشعب مجمعة على إزالته وتذليله، وإن الوضع الدستوري في مصر، وهي القطر الأكبر والأقوى، إنما يصح أن يكون أساساً للاتحاد ونقطة البداية فيه، وإذا كان عدم تماثل الأوضاع السياسية بين مصر وسورية يعتبر عثرةً، وعائقاً، فإننا أول من يطلب ويعمل لتطبيق ما يحقق تماثل الأوضاع السياسية في القطرين).
أدركت قيادات وقواعد الحزب بأن ما ورد في هذه الافتتاحية يعني أن تقوم الأحزاب بحل نفسها، وهذا ما دفع بهم الحضور إلى دمشق للاستفسار والتساؤل عمَا إذا كان بالإمكان إيجاد صيغة بديلة عن حل الحزب، وأمام تزايد إلحاح الحزبيين بضرورة عقد اجتماع لمجلس الحزب يناقش فيه هذا القرار، وافق الأمين العام الأستاذ ميشيل عفلق على عقد اجتماع عام بشروط ثلاثة:
1 – أن يكون الاجتماع بعد إجراء الاستفتاء الشعبي في سورية ومصر على قيام الوحدة.
2 – عدم اعتبار جلسات الاجتماع رسمية بسبب حل الحزب بعد قيام الوحدة.
3 – عدم إجراء أي نقاش في الجلسات.
وبناء على هذه الشروط تم توجيه دعوة عامة تشمل بعض أعضاء من مجلس الحزب وأعضاء ليسوا من المجلس حتى لا يأخذ الاجتماع صفة رسمية، وتقرر أن يكون زمن الاجتماع في 23 /2/1958 ومكان انعقاده في مقر قيادة الحزب في الحلبوني.
حضر الاجتماع حوالى الخمسين عضواً، ومن القادة الثلاث حضره الأمين العام فقط، وأطلق بعض البعثيين على كلمة الأستاذ ميشيل في هذا الاجتماع “خطبة الوداع”، وبناء على طلبه لم تنشر هذه الكلمة لمبررات تذرع بها حينذاك، وبعد سنوات وافق على نشر قسم منها في كتابه “في سبيل البعث” تحت عنوان “الوحدة ثورة تاريخية” الصفحات 275 -283 من منشورات دار الطليعة- بيروت- تموز 1970- الطبعة الرابعة.
وبعد مضي أكثر من نصف قرن على هذا الحدث، لابد من نشر القسم الآخر المتعلق بحل الحزب وبالاتحاد القومي المزمع إنشاؤه بديلاً عن التعددية السياسية، ليطلع قدامى البعثيين وغيرهم من القراء عليه.
(… ونستطيع القول إن الحزب والثورة في مصر وصلا خلال سنوات قليلة، ولكن من خلال أزمات صعبة وظروف عاصفة وخطرة، وصلا إلى تفاهم والتقاء، إذا لم أصفه بأنه تام، فهو يكاد يكون تاماً بكل معنى الكلمة، وهذا الفارق في الأسلوب والبداية بين الثورة وبين حزب البعث إن كان في الماضي لم يمنع من حصول هذا التفاهم والتلاقي فليس ما يوجب أن يبقى ويستمر ، ليس ما يوجب أن تبقى الثورة بعيدة عن طريق الحزب الثوري الشعبي وهذا ما أصبح في حكم القناعة المنتهية عند رجال الثورة، أي أنهم مقتنعون بأنه لا بد من تدعيم هذه النتائج التي حصل عليها الشعب، والإستناد إلى قوة الشعب باعتبارها القوة الأساسية في صنع الثورات وفي صنع التاريخ. لذلك عندما تم الاتفاق على توحيد مصر وسورية لم يكن ثمة مشكلة بالنسبة إلينا عندما قضى الانسجام والتماثل في الوضع السياسي للدولة الجديدة ألاَّ يكون في سورية أحزاب متعددة بل أن يسري نظام الاتحاد القومي.
لم يكن ثمة مشكلة لسببين:
الأول: إننا بكل بساطة نعتبر الوحدة أكبر كسب يمكن لأمتنا أن تحققه في هذا الظرف، لأن هذه الوحدة فيها من الطاقة الثورية ما سيفجر في كل مكان على أرض هذه الجمهورية الجديدة وفي الأرض العربية الواسعة كلها، سيفجر طاقات، لا تحسب، من الوعي ومن النضال ومن التقدم. فإذاً أي قيمة تبقى لوجود أحزابٍ أمام هذه الخطوة وما ينتظر منها فحسب بل لتوكيدها وتعميقها وتوعيتها لأنها ستنقل العرب إلى مستوى جديد أرفع من كل ما عرفوه حتى الآن.
الثاني: إن حلَّ الحزب لم يكن شرطاً طُرح ولا تضحية قبلنا بها في سبيل هذا الكسب العظيم، وإنما هو حلٌ من جهة وتكوين من جهة أخرى.
قلت لكم بأن رجال الثورة في مصر مقتنعون بعد تجارب وتردد ودراسة وصلوا إلى أنه لابد من العمل على الطريق نفسه، طريق الوعي، طريق العقيدة، طريق النضال الشعبي المنظم. والاتحاد القومي هو مجال تطبيق هذه القناعة وهذه الفكرة، فما علينا إلاَّ أن نُحسن ملء هذا الإطار الجديد بنشاط ووعي وحماس. فالحزب هو حركة تاريخية للوطن العربي كله ولا يمكن أن ينحجب أو يزول أو ينسحب ما لم يحقق أهدافه ورسالته.
فالحزب موجود في الوطن العربي، أما في هذا الوطن الصغير الذي هو الجمهورية العربية المتحدة ، فالحزب باق كعقيدة لأن جمهورية كهذه ولدت من نضال عقيدتنا من النضال الشعبي، من نضال التحرر، من نضال الاشتراكية، لا يمكن أن تكون لها سياسة وأن يكون لها اتجاه مختلف عن العوامل التي أوجدتها وساهمت في تكوينها. والاتحاد القومي سيحمل عقيدة البعث كما نقدر ونعتبر. أما تنظيم البعث فسينحل ولكن البعث كقيادة على أوسع مدلول لكلمة قيادة، وكقاعدة تشربت هذه العقيدة على طول السنين وجربت هذه العقيدة من خلال النضال فعندما تدخل الاتحاد القومي ستعمل بالروح ذاتها، وسيدخل آخرون، لأن الاتحاد القومي سيجمع عناصر كثيرة، المفروض أن لا يسمح للعناصر الخائنة والفاسدة بالدخول إليه، ولكن هناك عناصر وسط ليست بالرجعية ولا بالتقدمية ينقصها شيء من الوعي، فيمكن للاتحاد القومي، كما نتصور، أن يقوم بتربية هذه العناصر وأن يختار أحسنها وأن يكسبها إلى الاتجاه الثوري التقدمي. وهكذا يكون ذوبان حزب البعث أو فرع حزب البعث في الاتحاد القومي، بمعنى من المعاني، مثل توسيع لنشاط البعثيين، مع العلم بأن الأسلوب سيختلف والعقلية يجب أن تتطور لأن العمل الإيجابي هو المطلوب، لأننا طهرنا البيت ولم يعد هناك أجنبي، والمفروض أنه لم يعد مكان لوجود عملاء للأجنبي يستطيعون التخريب والتآمر، فأكثر العمل إن لم يكن كله، ينصرف إلى البناء وهذا يتطلب تطويراً للعقلية والنظرية دون أن ينسينا ذلك قيمة الأهداف التي لم تتحقق بعد وبقية أجزاء الوطن العربي التي لم تتحرر بعد، ولا نشك لحظة بأن جمهوريتنا الجديدة سيكون نصف عملها على الأقل منصرفاً إلى المهام القومية الواسعة لتحرير وتوحيد الأقطار العربية الأخرى، وعملنا إذاً، سيكون في المجالين: في البناء الداخلي، وفي النضال في الأقطار العربية الأخرى إلى أن تتحرر أمتنا.
أيها الأخوان:
إذا قدرتم حق التقدير أهمية الدور الذي ساهم كل واحد منكم أنتم الحاضرين وكل رفاقكم في هذا الحزب وجميع أفراد الشعب المؤيد والمناصر لحركتنا، إذا قدرتم أنكم ساهمتم بدور تاريخي كل حسب استطاعته وقدرته وفي حدود عمله، فإنكم ستدركون بأن الذي ساهم في صنع هذه الوحدة لا يجوز له ولا يحق له أن يبتعد، وإنما هو أجدر من أي كان بأن يكمل العمل وأن يكمل الصنع والبناء، وهذا هو الشيء الطبيعي والمشروع الضروري لأنه ليس أعرف من الصانعين بما يجب أن يصنع في المستقبل، وليس أكثر غيرة وأكثر إخلاصاً على هذه الوحدة والجمهورية الجديدة من الذين ناضلوا في سبيلها. فالطبيعي أن يكونوا، هم، في الساحة والمعركة لكي يكملوا عملهم ولكي لا يتركوا المجال والفراغ تملؤه عناصر أقل صلة بالنضال منهم وأقل غيرة على الوطن منهم.
هذا ما أردت أن أقوله لكم وأعتقد وأشعر دون أن أسأل أحداً منكم بان هذه المرة هي الأولى التي تشعرون فيها بالتجاوب التام مع الأحداث ومع قيادة الحزب ومع الحزب، وأشعر أنكم مطمئنون إلى أن حلّ الحزب ليس شيئاً ننظر إليه مع فرحتنا بالوحدة التي تحققت بشيء من الأسف، إن هذا الحلَّ لفرع الحزب هو منسجم كل الانسجام مع هذه الثورة، وبداية جديدة للعمل بوحي العقيدة، وهي العقيدة نفسها التي لا تتبدل، ولكن بشروط أسلم وجو أنظف وفي إمكانية للانتقاء والاختيار أقوى من الماضي.
كدنا مع ظروف النضال وضغط القوى الاستعمارية نفقد حرية الاختيار فنتغاضى عن أشياء وأشياء، واليوم تتاح وتنفسح الفرصة لبداية ناصعة غنية بالإمكانيات، وأعتقد بأننا مرتاحون لهذا، متفائلون، ومحققون أمل أمتنا فينا.
وفي نهاية الجلسة، ورغم أن الاجتماع لم يكن لمجلس الحزب، أذاع الأستاذ ميشيل عفلق باسم مجلس الحزب، البيان التالي:
“في الساعة السادسة من مساء الأحد 23/2/1958 عقد مجلس حزب البعث العربي الاشتراكي بالقطر السوري اجتماعاً استمع فيه إلى بيان القيادة القومية وقرارها بحل فروع الحزب في الجمهورية العربية المتحدة، وبذلك يعتبر حزب البعث في الجمهورية العربية المتحدة منحلاً بكافة منظماته ومؤسساته”.
كان قرار القادة الثلاثة ( عفلق – البيطار – الحوراني ) بحل الحزب، القرار الأكثر إثارة للجدل، وظهر ذلك بشكل واضح في القرارات المتناقضة بشأن حل الحزب للمؤتمرين القوميين الثالث والرابع، وكذلك عند القاعدة الحزبية في سورية أثناء محاولة إعادة تنظيم الحزب في القطر ومطالبة أغلب هذه القاعدة بإبعاد القادة الثلاثة عن التنظيم ومحاسبتهم حزبياً في أول مؤتمر قطري منتخب يتم انعقاده بعد إعادة التنظيم.
وورد في تقرير عن أسلوب العمل الحزبي قدمته القيادة القومية وأقره المؤتمر القومي الرابع: “لقد خلق قرار حل الحزب في الجمهورية العربية المتحدة هزة عنيفة في الأوساط الحزبية وفي الرأي العام المؤيد للحزب، ولم تتضح خطورتها إلا بعد زوال موجة الحماسة الكبرى التي رافقت حد ث الوحدة. ومما زاد من حدة هذه الهزة عدم وضوح مبررات هذا القرار الخطير بالنسبة للقاعدة الحزبية لا بل حتى بالنسبة للقيادات، ومن جهة ثانية فإن التنظيم الحزبي في سورية كان بالنسبة للحزب بمثابة الموجه الأول، وحل الحزب في القطر الذي لعب الدور الأساس في النضال الحزبي، زعزع إيمان عدد من الحزبيين باستمرار الحزب وبالنضال الحزبي مضافاً إلى ذلك أن التطورات التي حدثت في الجمهورية العربية المتحدة خلقت انطباعاً شاملاً بأن هذا القرار كان خاطئاً من أساسه، وأنه جاء يؤكد مدى ضعف قيادة الحزب السياسية وتردي وضع الحزب العام …”.
انظر:
بطاقة مروان حبش عضو المجلس الوطني للثورة عام 1965
اقرأ:
مروان حبش: الشركة النفطية التي كانت تتدخل لإسقاط وتعيين حكومات
مرسوم منع منح امتياز استثمار الثروة المعدنية والنفطية في سورية
قانون تشكيل المجلس الوطني للثورة وتسمية أعضائه عام 1965
مروان حبش: حول اللجنة العسكرية
مروان حبش: استثمار النفط وطنياً .. بترول العرب للعرب
اقرأ ايضاً:
مروان حبش: أزمات حزب البعث بعد الوحدة (19)
مروان حبش: حل حزب البعث عام 1958 (18)
مروان حبش: السير نحو الوحدة (17)
مروان حبش: البعث وانتخاب القوتلي لرئاسة الجمهورية عام 1955(16)
مروان حبش: البعث والانتخابات النيابية عام 1954 (15)
مروان حبش:البعث والانقلاب على نظام حكم الشيشكلي (14)
مروان حبش: البعث والقيادة القومية (13)
مروان حبش: قضية انسحاب جلال السيد من حزب البعث (12)
مروان حبش: قضية الضابط داود عويس (11)
مروان حبش: قضية البعث وحسني الزعيم (10)
مروان حبش: دمج الحزبين وزواج لم يُعمِّر (9)
مروان حبش: الدمج بين حزبي البعث العربي والعربي الاشتراكي (8)
مروان حبش: صدور جريدة البعث والمؤتمر التأسيسي عام 1947 (7)
مروان حبش: معارك حركة البعث 1943- 1947 (6)
مروان حبش: تكون حلقة شباب البعث العربي 1942- 1943 (5)
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939 (4)
مروان حبش: الحزب القومي العربي (3)
مروان حبش: عصبة العمل القومي (2)
مروان حبش: نشأة وتكون حزب البعث العربي (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الدواعي والأسباب – المقدمة (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الحزب في السلطة (2)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. سقوط حكم حزب البعث في العراق (3)