من مذكرات أكرم الحوراني (32) – أهل الصفة
تمتنت صلاتي وصداقاتي مع أبناء حي السخانة حي المجاهد سعید العاص(1)، بعد حضوري برفقة عمي مصطفى وأستاذي في دار العلم رئیف الملقي الحفلات الوطنیة الشعبیة التي كانت تقام في ذلك الحي، وكنت متقاربا في السن مع أبو رمیح، عبد الرحمن الشارع، والشیخ عبد الرحمن خلیل، فقد أصبحنا رفاقا تجمعنا أوثق روابط الصداقة الفكرية والسیاسیة والاجتماعیة.
كان أبو رمیح نموذجا لأبناء ذلك الحي الشعبي: شابا يعمل في تسويق الأغنام، متطلعا إلى المعرفة والثقافة، متفتح الذهن، وطنیا باسلا، ومن أوعى القیادات السیاسیة الشعبیة، وقد قام بأدوار مشرفة في الحركة الوطنیة الشعبیة.
أما الشیخ عبد الرحمن(2) فكان شابا كفیفا عصامیا عنیدا شديد النھم للقراءة والمطالعة والعلم، وكان على ذكاء عمیق وإحاطة واسعة، تقدمیا وطنیا يساريا جريئا سلیم الحس، حتى لیعجب المرء أن يكون مثل ھذا الشاب الكفیف الفقیر على ذلك المستوى العالي الثقافي والتحرر الفكري والسیاسي والاجتماعي.
كانت روحاتنا وغدواتنا وسھرنا وسمرنا مع بعضنا بشكل دائم، ثم أصبح ينضم إلینا شیئا فشیئا، رفاقنا الطلاب الجامعیون والثانويون والقیادات الشعبیة، وكنا نجتمع في مقھى السعدية، فأطلق علینا الشیخ عبدالرحمن اسم: “أھل الصفة”.
كنا في اجتماعاتنا بالمقھى نتطارح ما كنا نقرأه من كتب، ونتناقش بالشؤون السیاسیة والفكرية والثقافیة والاجتماعیة، وشیئا فشیئا أصبح عددنا يزداد حتى ناف على الأربعین، وأصبحنا نشعر بأن رابطتنا تشتد وتزداد متانة ورسوخا، حتى لیصح القول إنھا لم تھن ولم تضعف أبدا خلال كل ما تلا ذلك من سنین، فقد كان “أھل الصفة” النواة الصلبة للحركة الشعبیة التي انطلقت من حماه فیما بعد.
كان الشیخ عبد الرحمن خلیل رئیس “أھل الصفة” نظرا لسعة اطلاعه وثقافته ونزاھته، وكان الدكتور توفیق الشیشكلي يحترمه كثیرا نظرا لمكانته في أوساط الناشئة .. وكانت أولى ثمرات “أھل الصفة” أن قدمنا على مسرح مدرسة دار العلم تمثیلیة “آخر ملوك بني سراج”. وقد تولیت إخراجھا بتدريب بعض الطلاب والشباب على تمثیلھا، أما النص فقد قام الشیخ عبد الرحمن بمشاركتي بتحويره عن القصة الأصلیة التي كانت من ترجمة الأمیر شكیب أرسلان .. وكان عملنا ناجحا.
ولم يلبث أھل الصفة أن تكون لديھم اتجاه سیاسي وطني يساري تقدمي ضد الاقطاعیة والعشائرية والعائلیة والرجعیة الدينیة، ووقفت “الصفة” ضد سیاسة المھادنة والمساومة والتسوية مع الزعامات العائلیة والاقطاعیة في الكتلة الوطنیة، فكنا ضد زعامة جمیل مردم في الكتلة الوطنیة بدمشق، وزعامة نجیب البرازي حلیف صديقنا الدكتور توفیق الشیشكلي في حماه، وكنا نؤيد زعامة ابراھیم ھنانو باعتباره قائدا ثوريا شعبیا.
ذكرت أن تسوية جرت بین الكتلة الوطنیة وسلطة الانتداب، بعد الأحداث الدامیة في انتخابات 1932 ، فنجحت قوائم الكتلة في دمشق وحماه وسقطت قائمة ھنانو الانتخابیة في حلب، فبدأ التصدع في بنیان الكتلة الوطنیة، بین ھنانو وجماعته بحلب وجمیل مردم وجماعته بدمشق، وھو تصدع واضح ولكنه لم يصل إلى الانشقاق العلني.
ولما اجتمع المجلس في عام 1932 ، وتألفت حكومة حقي العظم واشترك فیھا وزيران عن الكتلة الوطنیة -من أصل أربعة- بدأ ھنانو بحملة مركزة فأعلن عن عزمه على الذھاب إلى دمشق على رأس وفد حلبي لإحراج جمیل مردم وجماعته.. وھذا يعني أن الزعیم ھنانو سیمر من حماه بشكل طبیعي”، فبادرنا نحن الشباب من تلقاء أنفسنا، ودون استشارة الكتلة الوطنیة بحماه، لإعداد استقبال شعبي يلیق بھنانو.
وفي يوم 11 تموز 1932 خرجنا بالسیارات لاستقباله عند جبل زين العابدين، فتبعتنا المدينة كلھا، وكان يوما مشھودا، وحین وصل رتل سیارات الوفد الحلبي الكبیر، أوقفنا أول سیارة فیه وتفحصنا ركابھا بحثا عن ھنانو، فظننا أن جمیل ابراھیم باشا ھو ابراھیم ھنانو، لكنه أخبرنا أن الزعیم بقي في حلب واكتفى بإرسال هذا الوفد.
وبعد أن احتفلت حماه بالوفد الحلبي حفاوة بالغة ، تابع الوفد طريقه إلى دمشق وقد انضم إلیه من حماه : الصیدلي عبد الحمید قنباز، والمحامي مصطفى الحوراني، والاستاذ عثمان الحوراني، والحاج عبد الكريم الصباغ، وعمر يحیى، وسعید الترمانیني، وعرابي دھیمش، وھلال البارودي.
وجرى للوفد الحلبي في حمص عین ما جرى له في حماه من استقبالات رائعة، مع فارق واحد، ھو أن الحماصنة – حسب رواية بعض الحمويین، رفضوا تصديق جمیل ابراھیم باشا عندما اخبرھم أنه لیس الزعیم ھنانو، فأنزلوه من السیارة وحملوه على الأكتاف تحیط به عشرات الألوف من الجماھیر، وھي تھتف له وھو يقول لھم:
أنا لست ھنانو .. أنا جمیل ابراھیم باشا، فكانوا يصرون :
بلى أنت ھنانو، فكان ذلك من الطرف والنكات التي يتداولھا كل عن الآخر من أھل البلدين.
غموض الصراع الطبقي :
ذكرت تلك الحوادث لأنھا ذات مدلول في انطلاق عملنا السیاسي فیما بعد:
لم يكن توفیق الشیشكلي ثوريا باتجاھه، وقد ظل حتى وفاته في عام 1940 يعمل ضمن خط الكتلة الوطنیة على الصعیدين المحلي والعام، كما لم يستطع أن يستقل باتجاه التیار الشعبي، وظل التحالف قائما بینه وبین نجیب البرازي ممثل “الذاوات” في الكتلة الوطنیة، بالرغم من العداء المستمر بین تحالف توفیق ونجیب وبین الأسر الأقطاعیة الأخرى.
كان الاقطاع والفقر بذور التمرد على الواقع الظالم لدى الجماھیر، ولكن ذلك ظل بدوافعه وأبعاده غامضا في أذھان الرعیل الأول من رجال المدينة الذين قادوا ھذا الاتجاه، فكان فھمھم قاصرا عن إدراك حقیقة الصراع الطبقي وانعكاساته الاجتماعیة والاقتصادية، وكان إحساسھم وفھمھم له مقتصرا على الناحیتین الأخلاقیة والوطنیة فلم يكن لديھم أي تصور لمعالم المجتمع الجديد الذي سینبثق عنه ھذا الصراع.
(1) تخرج سعید العاص، أحد أبناء حي السخانة في حماه، خلال العھد العثماني من كلیة عسكرية) انشئت في اسطنبول لأبناء العشائر وتخريجھم ضباطا في الجیش، وعندما أعلنت الثورة العربیة الكبرى بقیادة الشريف حسین التحق سعید العاص بھا، وبعد احتلال الفرنسیین سورية انصرف العاص مع بعض إخوانه لانشاء مدرسة ابتدائیة في حي الحاضر سمیت ملجأ الأيتام لتركیزھا على تعلیم الأيتام، ومن ھذه المدرسة تخرج رفیقنا أبو رمیح عبد الرحمن الشارع، وقد كانت ھذه المدرسة أحد مراكز الاشعاع الوطني والعربي في مدينة حماه مثلما كانت مدرسة دار العلم والتربیة التي انشأھا الملك فیصل. في عام 1925 ، عندما نشبت الثورة السورية التحق بھا سعید العاص، وقد ذكر أحد رفاقه في ھذه الثورة، منیرالريس، في الكتاب الذھبي لتاريخ الثورات العربیة والسورية، وقائع متعددة عن شجاعة سعید العاص وعفة نفسه، وعندما قضي على الثورة السورية لجأ العاص الى الأردن وبقي فیھا حتى قیام ثورة 1936 في فلسطین فالتحق بھا واستشھد في الموقعة التي أطلق علیھا موقعة جبل النار.
عاش سعید العاص من الريع الضئیل جدا لكتیب صغیر، طبع في الأردن، فیه بعض ذكرياته، وقد وزع ھذا الكتاب سرا في مدينة حماه.
(2) استشھد الشیخ عبد الرحمن خلیل محترقا تحت انقاض منزله الذي لم يستطع مغادرته، أثناء مذبحة حماه وقصفھا عام 1982.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (31) – جذور الحركة الشعبیة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (30) – محاولة اغتیال صبحي بركات
من مذكرات أكرم الحوراني (29) – الشعب السوري يثور ضد تزيیف الانتخابات
من مذكرات أكرم الحوراني (28) – في لبنان عام 1931
من مذكرات أكرم الحوراني (27) – الصدمة الأولى في الجامعة الیسوعیة
من مذكرات أكرم الحوراني (26) – تأسیس أول ناد رياضي في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات
