You dont have javascript enabled! Please enable it!
شهادات ومذكرات

من مذكرات أكرم الحوراني – في قصر العظم

الجزء الأول - (12)

من مذكرات أكرم الحوراني – في قصر العظم


كان قصر العظم في حماه، ولا يزال، من أجمل الصروح العمرانیة[1]، سواء بھندسته البديعة ونقوشه العربیة، أو بموقعه الجمیل على العاصي وسط البساتین والنواعیر، وعندما أراد الفرنسیون شراءه سارعت ھیئة أمناء مدرسة دار العلم والتربیة لشرائه من آل العظم وجعله مقرا للمدرسة بمساعدة محافظ حماه السید نورس الكیلاني فانتقلت المدرسة إلیھا، وبذلك حافظت مدينة حماه على ھذا القصر الأثري الجمیل.

كنت أحب مدرسة دار العلم والتربیة كثیرا، ولكنني كنت في مساء يوم الجمعة من كل أسبوع أشعر بالحزن والكآبة إذ اضطر لترك الأھل ورفاق الحي لأعود إلى قضاء ستة أيام متواصلة في القسم الداخلي الذي كنت اشعر في لیالیه بوحشة وغربة وكأنني على بعد ألوف الأمیال عن البیت ورفاق الحي.

كان اللیل في قصر العظم الكبیر، الملیئ بالأقبیة والأدراج والممرات المظلمة، لیلا موحشا رھیبا، وكان أنین النواعیر يرافق في مخیلتنا ما كنا نسمعه من الأساطیر الشعبیة عن الأرواح والأشباح التي تحوم لیلا في أرجاء القصر.

كانت الأساطیر تقول إن تحت كل عمود من الأعمدة الرخامیة عبد من عبید آل العظم الذين تخرج أرواحھم لیلا مستغیثة من وطأة الأعمدة التي بنیت فوق رؤوسھم، كما كانت الأرواح الھائمة تخرج من الأقبیة الكبیرة المعتمة التي بنیت فوقھا قاعة القصر الاثرية، فتطوف في الغرف لتنتقم مما عانته من عذاب بعد أن دفنت في أرض تلك الأقبیة التي عذبت فیھا، وكانت مخیلتي الجامحة في تلك السن تمتص ھذه الأساطیر وتزيد علیھا، وتجعل من أنین النواعیر نواحا وبكاء.

كان يجتمع في القسم الداخلي من دار العلم والتربیة أبناء الذاوات” والأسر المیسورة كآل الكیلاني والعظم والبرازي وأبناء التجار، فقد كانت الاقساط المدرسیة معتبرة غالیة في ذلك الوقت.

وعندما سافر مديرھا عمر الترمانیني لفرنسة لإتمام دراسته الزراعیة، حل محله الموسیقار الحلبي أحمد الأوبري، فسكن مع عائلته في أحد أجنحة المدرسة، وكنت أحاط مع أخي واصل من قبل مدير المدرسة وأساتذتھا برعاية خاصة بفضل الصداقات والسمعة الطیبة التي خلفھا والدي بعد وفاته، بینما أرسل أھلي أخي الكبیر محیي الدين الى باريس للتخصص بالعلوم السیاسیة فكان فیھا رفیقا لمحسن البرازي حیث اجتمع ھناك مع عدد من شباب حماه من آل الأحدب والكیلاني والبارودي والأرمنازي، وقد عاد أخي عام 1925 حاملا إجازة في العلوم السیاسیة، وكلفت دراسته تلك مبالغ باھظة تحملھا أھلي بسرور لأنه كان الأخ الكبیر.

تولى الاستاذ عثمان الحوراني تدريسنا التاريخ من الصف الأول، وقد روى لنا في الدرس الأول معركة میسلون بتفاصیلھا  ووقائعھا مما جعلنا نبكي جمیعا[2] كان الاستاذ عثمان متشیعا للامام علي بن أبي طالب، وكان يروي لنا التاريخ العربي بشكل مؤثر وجذاب، وكأنه حلقات من القصص البديعة الأخاذة، بالطريقة التي سلكھا جرجي زيدان في رواياته لأحداث التاريخ العربي، وكان عثمان معلما ووطنیا مجاھدا يستھدف من تدريس التاريخ تربیة الناشئة الصغار تربیة وطنیة نضالیة، وكذلك كان أخوانه الأساتذة الآخرون.

كان جو المدرسة جوا وطنیا حماسیا ملتھبا، ولم يحمھا من شر إغلاقھا من قبل الفرنسیین إلا المحافظ نورس الكیلاني الذي كان رئیس عمدتھا، وحكمة الدكتور صالح قنباز، ولا أزال أذكر تلك الأناشید الوطنیة التي كان يؤلفھا الدكتور صالح، ويلحنھا ويعلمنا إنشادھا المدير أحمد الأوبري وھو يعزف على القیثار :

وطني روحي فداك وطن العرب ھناك

حیث نور الصدق والاخلاص يسطع في العیون

حیث حب الوطن في القلب كالنار يكون

أيھا البطل العربي ھذا وطنك فاحم وطنك.

وغیره كثیر من الاناشید الحماسیة التي كانت تلھب

مشاعرنا وتشعل جذوة الحماسة في نفوسنا.

كان برنامج المدرسة مضطربا، ففي الصفوف الأولى مثلا كنا نقرأ دفترا مكتوبا أملاه الدكتور صالح عن تعلیل الناسخ والمنسوخ في القرآن، وكان في بحثه واستنتاجاته العقلیة ما يفسح مجال التطور الدائم للأحكام التشريعیة، وبالنسبة لصغر سننا ما كنا نستوعب من تلك الأفكار إلا ما تطیقه مداركنا.

وكان الأساتذة يشجعون على تفتیح مواھب التلامیذ، وأذكر أنني اندفعت ذات مرة لتألیف الشعر فألفت قصیدة وعرضتھا على أستاذ اللغة الشیخ أمین الكیلاني، فأبدى إعجابه الشديد بھا، ثم نقحھا وأصلح ھفواتھا وطلب إلي أن أقرأھا في مجلس الأساتذة، كان يعتقد بأنني سأكون شاعرا.

تولى إدارة المدرسة قبل الثورة السورية الاستاذ عبدلله  المشنوق[3]، فطبق فیھا منھاج الجامعة الأمیركیة التربوي وشكل الفرق الكشفیة وشجع الألعاب الرياضیة … كنا نحب الاستاذ المشنوق كثیرا لأنه كان متحررا يسخر بجرأة من الخرافات والأساطیر وقد نھض بالمدرسة وبرامجھا واسلوب تدريسھا، وكان ممتلئا نشاطا وحماسة وذكاء.

كبرنا قلیلا وأصبحنا نشارك في التمثیلیات المدرسیة التي تدور مواضیعھا حول البطولات الوطنیة، إذ كانت المدرسة تقیم في كل عام أربع حفلات تمثیلیة في قاعتھا الأثرية، وكان الأوبري يلحن ما يؤلفه الاستاذ أمین الكیلاني من القطع التمثیلیة القصیرة المعبرة عن أھداف الأمة العربیة، وكان التمثیل والموسیقى يلھب عواطف المشاھدين. وقد لحن الأوبرى أكثر من ثلاثین نشیدا.

والف فرقة موسیقیة من شباب المدينة الھواة. كانت تستحي في البداية من الظھور أمام الجمھور، فشجعھم واشترك معھم بالحفلات الموسیقیة، وھكذا جعل الموسیقى من أعظم مقومات النھضة الثقافیة.

كانت حماه تشھد في تلك الأعوام زيارات لبعض الفرق المسرحیة المصرية التي كانت تطوف في المدن السورية، وقد انتشرت أناشید ثورة عام 1919 المصرية انتشارا واسعا، كما أصبحت أغاني السید درويش تتردد على كل لسان.

وكنا نحضر باستمرار الندوات الفكرية والحفلات التي كان يقیمھا النادي الأدبي الذي أنشأه الدكتور صالح قنباز والدكتور توفیق الشیشكلي. وقد أغلق الفرنسیون ھذا النادي أثر ثورة عام 1925 ، وسلمت مدرسة دار العلم والتربیة من الاغلاق.

 مذكرات أكرم الحوراني

 

 

[1]  كتبت ھذه الصفحات من مذكراتي قبل مذبحة حماه وقصفھا، خلال شھر شباط 1982 من قبل ) سرايا الدفاع بقیادة رفعت الأسد شقیق رئیس الجمھورية حافظ الأسد، تلك الأحداث التي أدت إلى ذبح اكثر من ثلاثین ألفا من سكان المدينة والى تھديم قسم كبیر منھا، ولم ينج قصر العظم من ھمجیة القصف العشوائي.

[2] بدأ ھجوم الفرنسین على دمشق من میسلون فجر الرابع والعشرين من تموز 1920 ، ولم يكن ) ما جمعه يوسف العظمة من جنود، وما ارتجل من تحصینات بقادر أن يصمد أكثر من بضع ساعات أمام القوات الفرنسیة المزودة بكل وسائل القتال، وقد سمعت من شكري القوتلي أن يوسف العظمة قال للمسؤولین ولأصدقائه قبل توجھه الى میسلون أن الفرنسیین لن يدخلوا دمشق إلا على جثته. كما يذكر ساطع الحصري أن يوسف العظمة قال له : انني اترك ابنتي الوحیدة لیلى أمانة لديكم أرجو ألا تنسوھا” ويقول الحصري : “لقد أدركت حالا ما كان يقصد من كلامه ھذا، إنه يتوجه نحو الجبھة موطدا العزم ألا يعود منھا”. (يوم میسلون ، ص 158 ) . وقد اتخذت الحركة الوطنیة من ضريحه في میسلون مكان استشھاده، محجا لزيارته في كل عام، بینما تبارى الشعراء بتمجید موقفه وأثره البعید على الأجیال السورية وقد جاء في قصیدة شوقي عن معركة میسلون: مقیم ما أقامت میسلون يذكر مصرع الأسد الشبال  وجاء فیھا : وظل نھاره يلقي ويلقى فلما زال قرص الشمس زالا. كان يوسف العظمة قبل الثورة العربیة من ضباط الأركان في الجیش العثماني، وقد عین بعد عودته من الأسر في صیف 1919 مرافقا للملك فیصل ثم عین وزيرا للدفاع قبیل معركة میسلون.

[3] عبدلله المشنوق، من أسرة حموية وأحد خريجي الجامعة الأمیركیة، استقر في بیروت بعد  تركه إدارة مدرسة دار العلم والتربیة، حیث عمل بالصحافة تولى الوزارة مرتین في لبنان.


اقرأ:

من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر

من مذكرات أكرم الحوراني (24) –  في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان  

من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي

 من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق

من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج 

من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة

من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟

من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم

من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه

من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925

من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة

من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي

من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً

من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم

من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل

من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة

من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة

من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین

من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه

من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا 

من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة

من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي

من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟

من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل

من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة 



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى