You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

محمد عدنان حريتاني: جقجقة حلبية في زمن الجفاف – أمي الثانية أم جلال

الجقجقة الأولى

محمد عدنان حريتاني- التاريخ السوري المعاصر

أمي الثانية أم جلال:

ثمة أشخاص مروا بحياتنا مرور الكرام، ربما لم يستغرق هذا المرور بضعة أيام أو على الأكثر بضعة أشهر ثم غابوا عنا، منهم “القابلة” أو “الداية” أو “المولدة” أول إنسان استقبلنا يوم قدر الله لنا أن نعبر المرحلة “الجنينية” في بطن أمهاتنا إلى هذه الدنيا الفانية كما يقولون ودوام الحال من المحال، ومنهم أيضاً الختّان أو “المطّهر” وكذلك “الخوجة” و”شيخ الكتّاب” حل اليوم محلهم “آنسة الروضة” أو كما تقول حفيدتي الصغيرة “الميس MISS” ، ثم يأتي دون “المعلمين” و”المدرسين” و”الأساتذة” في المدارس والجامعات، كلما تقدم العمر بنا وكبر الإنسان تتناقص ذكرى هؤلاء الأشخاص من حياته ويطويهم النسيان ويدخل حياتنا بدلاً عنهم أشخاص جدد، في استذكاري لواحدة ممن كان لهم فضل عليّ القابلة التي أبصرت النور على يديها وكانت أول من رحب بوصولي سالماً في أول خطوة خطوتها نحو هذه الحياة.

السيدة جهيدة  جلب أم جلال “القابلة” هي أمي الثانية التي أبصرت النور على يديها وكانت أول يد حملتني، كانت رحمها الله لطيفة المعشر هادئة الكلام لم يكن زيها الذي تخرج به إلى الشارع تقليدياً تلك الأيام في خمسينيات القرن العشرين، بل كانت ترتدي ما يدعى بالطقم وهو جاكيت رسمي وتنورة”جبونة” طويلة لما تحت الركبة وتلبس أحياناً المانطو النسائي المعروف، لم ترزق بالكثير من البنات بل كانت لها ابنة وحيدة، فتبنت فتاة من قرى حلب اسمها “حميدة” رعتها صغيرة حتى كبرت وكانت تساعدها في شؤون البيت وفي عيادتها كونها قابلة ولما كبرت هذه الفتاة زوجتها، كان أبنائها من الذكور جلال – علمت منذ فترة أنه توفي إلى رحمه الله- وكنان وطلال وبنان، وكان أبو جلال زوجها من آل قاطرجي العائلة العريقة يمتلك محلاً لتجارة الأقمشة و”مال عرب” وكانت هذه التسمية تطلق على المحال التي تختص ببيع الأقمشة والأثواب الجاهزة والعبي وتجهيزات العرائس للقادمين من الأرياف، بالقرب من باب الحديد في السوق الجديد الذي أقيم بعد هدم سوق بانقوسا ويقع أمام عيادة الدكتور متين طباخ والدكتور عبد الرزاق حمامي، لم تكن قابلة شعبية “داية عامية” بل كانت “قابلة قانونية” كما كانت التسمية فهي مجازة من مدرسة التمريض والقبالة وأذكر أنها كانت تكتب الوصفات بالأحراف اللاتينية، كان بيتها وعيادتها في حارة الباشا قرب خان أبو زند وقريباً جداً من حارتنا جقورجق وكان بناءاً إسمنتياً حديثاً ذو طوابق الأراضي منه “عبارة” تسمى عبارة جبسة تصل حارة الباشا بخان السبيل وتتيح للشاحنات الدخول إلى الخانات لتفرغ حمولتها من طرف بانقوسا أو من طرف حمام سوق الغزل والخروج من الطرف الآخر دون الحاجة للاستدارة كون الحارة ضيقة ولا تسمح بذلك، وترجح الأبحاث أن البناء أقيم على أنقاض قناق باشا حلب “مرعي باشا الملاح” في أربعينيات القرن العشرين الذي سميت الحارة باسمه منذ أوائل القرن الماضي.

انتقلت بعده إلى منطقة المحافظة قريباً من مدرسة الأندلس وكانت قد تقاعدت بسبب كبر السن، آخر لقاء كان لي معها في عام 1966 يومها كانت والدتي حاملاً وعلى وشك الولادة اتصلت بها هاتفياً فقالت لا أعرف بيتكم الجديد فقلت لها انتظرك وحددت لي مكاناً قريباً انتظرتها فيه، وتأخرت الولادة وقام أغلب أفراد الأسرة إلى النوم، في الصباح استيقظت لأجد نفسي أنام في جوارها رحمها الله، قالت لي ضاحكة “هلكتني وأنت ترفّسني بتحيرب أنت فايق وأنت نايم”.

مدخل بيت الأم بحلب في عبارة الباشا

كنت كلما أراها أقبل يدها كما أفعل مع والدتي ولما تذهب والدتي لعيادتها ألعب مع أصغر أبنائها بلال الذي أذكر أنه كان يعاني من مشاكل صحية، رحمك الله أم جلال ورحم الله أمهاتنا جميعاً وأمد الأحياء منهم بالصحة والعافية.

البياضة وسبيل الحسبي:

محلة البياضة اسم لحارة كبيرة تمتد من باب الحديد حتى القلعة عند الباب الأحمر تحدها الجبيلة والمستدامية ومن الشرق الخندق الذي كان محيطاً بالأسوار، هنا عند مدخلها الجنوبي قرب باب الأحمر سبيل ماء للأجر والثواب سميت المنطقة باسمه “سبيل الحسبي”.

سبيل الحسبي بعد تجديده في أربعينيات القرن العشرين

وأمامه تماماً يقع موقف باص السراي وباب النيرب، وجامع الحموي الذي يطل على خندق القلعة غرباً كان مرتفعاً عن الأرض وله بابان شرقي من طرف الحارة وغربي يطل على خندق القلعة.

سبيل الحسبي ودخلة البياضة من الطرف الجنوبي

وباتجاه مبنى البلدية كان الشارع المحاذي للخندق أمام بيت الشيخ محمد الزرقا الذي ينى في مطلع القرن العشرين ضيقاً بالكاد يكفي لمرور عربات الطنبر ولم يكن له رصيف من جهة الخندق، فنصبت البلدية أعمدة في طرفه وجعلته يشبه سقفاً كان بمثابة الامتداد للشارع الذي تم تعريضه وكان بمقام رصيف ليستخدمه المارة.

جامع الحموي وقد تم تعريض الشارع بسقفه لصنع رصيف للمشاة

ما يميزها جامعها “جامع الصروي” وحمامها وتكيتها، واحتوائها على العديد من المقامات للصالحين ومنهم الشيخ كمال والشيخ جمال في المستدامية، وكذلك مكتب الشيخ قدور شيخي وشيخ والدي من قبل تعلمنا على يديه أولى معارفنا، ويلاحظ أنه لا توحد تفريعة “نفذة” من البياضة إلى الطريق الواصل بين باب الحديد وجب القبة مطلقاً، من سكانها آل فيض الله وأل كحيل، جمال وجلال وعظمة هذه الحارات المحيطة بالقلعة تستمده من عظمتها وتاريخها الحافل، والتجول فيها له متعة خاصة، كان لي طريق دائم أسلكه عند ذهابي وإيابي مع والدتي لزيارة بيت “جدي الحجي” في حي العقبة، سألتها ذات يوم من بنى القلعة فأجابتني أجدادنا ، ولما كنت صغيراً اعتقدت أن جدي الحجي هو من بناها وهو صاحبها ومالكها، ولا زلت أعتقد ذلك حتى اليوم.

الصمندرة:

الصمندرة كم هي رائعة بيوتات حلب القديمة، لكل شيئ استعماله ووجه الإستفادة منه، الصمندرة فجوة في أحد الحوائط في البيوت القديمة تستخدم عادة لتطبيق الفرش واللحف وتغطى بستارة تحجب ما وراءها، وقديماً وبسبب سمك الجدران التي عليها تحمل ثقل السقف حيث لم يكن الإسمنت المسلح قد عرف، استغل أجدادنا هذه السيئة وجعلوا في هذه الحوائط فراغات أسموها “الكتبيات” و “الغظن” والشبابيك أيضاً ليستفيدوا من الحيز المهدور ، ومنها ما قاموا بجعله كبيراً واسعاً وسقفوه بقوس حجري وأطلقوا عليه في حلب اسم “التظر” أو “الصمندرة”.

في بعض المناطق، قالوا “ستي بالصمندرة بتحب البوس والكركرة” وهي تحزورة قديمة وحلها هو “شربة الماء” وكانت توضع في الصمندرة الباردة الجو عادة، وكانت تحتل الشفاه عند الشرب وتصدر صوتاً يشبه الكركرة، كانت جدتي تسكن بيتاً واحداً مع عدة أسر تتقاسم السكن فيه، حكت لي أنها يوم أنجبت والدي والفصل صيف كانت تضعه في التظر”الصمندرة” خوفاً عليه من عبث عمتي التي تكبره قليلاً، لكنه همست بأذني قائلة “وكما أخبيه من القطاط مشان ما يلحوسوه” وكان “طبوش صحته منيحة”، وكانت الهررة تنتشر في البيوتات القديمة، ضحكت طويلاً وقلت لها ألا يوجد مكان آخر تضعيه فيه قالت بسذاجة وبراءة “ما في غير الشعرية”.

والشعرية كانت تقوم مقام البراد حالياً، إنها بساطة الحياة وطيبة قلب أجدادنا، اليوم لم يعد بالإمكان إنشاء الصمندرة لأن الحوائط لا تسمح بذلك فبعد أن كان سمكها يتجاوز الخمسين سنتمتراً لم يعد يتجاوز اليوم بضعة سنتمرات، الصمندرة هي الشيئ نفسه الذي يسميه بعض أهلنا “التظر”.

الكحل العربي:

هكذا نعرفه ويطلق عليه اسم “الإثمد” وهو الأصح وأصله فلز طبيعي يوجد في بلدان كثيرة لكننا اعتدنا على إحضاره من الحجاز أثناء رحلة فريضة الحج، حتى المكحلة تصنع في بلادنا، ونشتريها لنعيدها هدية “أرمغان”.

استعمله القدماء لتمام وضوح الرؤيا ولأغراض جمالية، والبعض سنة نبوية، إضافة لعلاج بعض أمراض العين بالطب البديل، وقد أطلق قديماً على طبيب العيون “الكحال”، ولا تزال هذه العادة متبعة في بعض أرياف حلب خاصة للأطفال حديثي الولادة، وهذه صورة لطفل حديث الولادة التقطتها منذ فترة قريبة تبين الالتزام بها، والمكحلة تلك الحبابة من النحاس التي تحتوي الكحل بداخلها والمرود هو ذلك العود الذي يغمس في المكحلة ويمرر بين الجفنين لوضع الكحل وهو من النحاس أيضاً والبعض يسميه “الميل”.

من أمثالهم: “إذا عجبنا الكحل مندنبو – نيشل الكحل من العين- من تمك أحلى يا كحلا”.

القفة :

لا تزال تحتل ركناً في حائط بيتنا تحمل في شكلها إبداع صانعها، وتروي حكايات زمن جميل ولى، لم يعرف أكياس النايلون ولا عبوات البلاستيك ولا صناديق الستريوبور “الفلين الأبيض”.

حكي لي والدي أن أهم استخداماتها كان اصطحابها عند الذهاب للتسوق، وكان الخبز “السوقي” يوضع فيها فيتم تبريده بفعل الفراغات في محيطها ويحافظ على جودته، وكذلك باقي الخضروات وخاصة القابلة للتلف كالبندورة وغيرها، بعض العائلات تستخدمها لحفظ المونة الصيفية حتى الشتاء، فترى عدداً منها معلقاً إما في سقف القبو أو في “الدهليز: وهو ممر طويل يربط أجزاء البيت العربي القديم بالباب” حيث يوفر تيار من الهواء النقي يبقيها محفوظة لأطول فترة، كان منها قياسات متعددة تفي بكل الاحتياجات، ولما كانت مصنوعة من القصب كان عمرها طويل وتصمد في مختلف الظروف، تعتبر من الصناعات الريفية التي اندثرت لكنها اليوم تستخدم كنوع من التزيين والديكور، وقد رأيت منها واحدة صغيرة جداً في سيارة اجرة تحت المرأة، هذه القفة البادية في الصورة عمرها حوالي الثمانين عاماً، وربما أكثر عرفها والدي مذ رأت عيناه النوم، وكانت في بيت جدي سابقاً زلا تزال بقية عندها.


انظر:

محمد عدنان حريتاني: قراءة في يوميات طفل حلبي .. نانتي والراديو

محمد عدنان حريتاني: الشيخ قدور وما أدراك من هو الشيخ قدور



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى