You dont have javascript enabled! Please enable it!
اختيارات المحررمقالات

محمد عدنان حريتاني: الشيخ قدور وما أدراك من هو الشيخ قدور

محمد عدنان حريتاني- التاريخ السوري المعاصر

منذ خمسة وخمسين عاماً ونيف مشيت ذات صباح بجانب والدي واتجهنا عبر حارة الباشا إلى باب الحديد فعبرناه ومنه إلى دخلة الجبيلة أمام طلعة الكلتاوية قبل قبو النجارين.

كنت أسير ممتعضاً في الطريق إلى الشيخ قدور، فهذه هي المرة الأولى في حياتي التي ألتحق فيها بمكتب يديره شيخ، والشيء الطريف أنه كان شيخ والدي قبلي، وها أنا اليوم أجد نفسي في ذات المكان، هي تجربة لم أرحب بها أول الأمر لكنها كانت ممتعة وتركت أثراً جيداً في حياتي لازلت أذكره حتى يومنا هذا، حكيت عنها لأبنائي مراراً لأنهم كانوا بين الفينة والأخرى يطلبون إلي إعادة سردها، فهم يستمعون بسماعها ويعيشون لحظاتها، ولعلهم كانوا في قرارة أنفسهم يتمنون لو أنهم مروا بها، كانت جميلة تستمد جمالها من جمال ذاك الزمن الجميل.

الشيخ قدور وما أدراك من هو الشيخ قدور

بدأت العطلة الصيفية واستلمت جلائي المدرسة ناجحاً إلى الصف الرابع الابتدائي في اليوم التالي لليوم الذي انتهى فيه الفحص المدرسي النهائي، فلم نكن نرزح تحت ضغط كلمة فحص بل كانت الأمور تجري بسلاسة دون أن يشعر بها الأهل، وكان أول فحص نواجهه هو فحص الشهادة الابتدائية، وقبله بأسبوع فحص تجريبي يجريه المعلمون لمعرفة مستوى أداء التلاميذ ولتدريبهم على خوض أول فحص لهم، وكان الناجح يحصل على شهادة الدراسة الابتدائية التي كانت تصدر نتائجها في جريدة الجماهير الحلبية، ومن ثم ينتقل التلميذ إلى المرحلة الإعدادية بعد نجاحه ثم ألغيت هذه الشهادة لاحقاً.

ورغم وجود المدارس ورياض الأطفال كانت “الخوجة” لا تزال في حارتنا تستقبل الأولاد الصغار والبنات على حد سواء فقد كان بعض الأهل يرسلون أولادهم إلى الخوجة بدلاً عن المدارس ويرسلون الذكور الأكبر سناً إلى شيخ “الكتاب”، في العطلة الصيفية كنا نحن تلاميذ المدارس ننتظم في عداد “أجرات الخوجة”، أما هذا العام فقد رفضت الخواجة انضمامي لعشرات الأولاد والبنات الذين كانت تستقبلهم في قاعة كبيرة في بيتها في حارة الجامع كما كنا نسميها والجامع هو جامع البكره جي الذي كان المرحوم أبو سمعو طرّاب مؤذنه وسدينه.

كنا نعرفها بـ “خوجة بيت الطراب” وكانت جل نشاطها هو تعليم قراءة القرآن الكريم على قدّ معرفتها دون تعليم الكتابة، وفي مقابل ذلك كانت “تستقضي” الأولاد الكبار في بعض شؤون البيت فتوكل إليهم بعض المهام فيتولون سحب الماء من الجب او نقله من حنفية الجامع القريبة، وللفتيات كان لهن نصيب فكن يساعدنها في “حواسة البيت” وأحياناً تحضير “الطبخة” وشغل المؤونة لأن فصل الصيف موسمها، ومنهن الكبيرات كن يقمن بـ “تسكيت الولاد الظغار والفك والتحفيض” ولا تختلف الأوقات التي كنت نقضيها عند الخوجة عما كنا نعيشه في بيوتنا بل كنا نقوم بأعمال نرفضها عند أهلينا وكنا نؤديها رغم أنفنا، كانت الخواجات منتشرات بكثرة في كل حارات حلب القديمة داخل وخارج الأسوار وكان لهن دور أكبر وخاص في إعداد الفتيات للزواج ليكن أمهات المستقبل.

في الواقع كان الأهل يرسلون الأولاد إلى الخوجة ليس بهدف التعلم فهو آخر ما يمكن الحديث عنه، بل كي يرتاحوا من ضجيجهم طيلة النهار في البيت وكما يقولون “ردداً عن الصقاق”، قالت الخوجة لأمي “ابنك صار شب خلي أبوه يحويله صنعة يتعلما أنفعلو”، جادلتها أمي قليلاً كمن يناطح بـ “قرون من عجين” فقد “نفشها” قول الخوجة “ابنك صار شب” وربما صدقتها، عادت بي أمي إلى البيت بخيبة أمل ليست كبيرة ومن ناحيتي فقد ظننت أني “نفدت بريشي” من الذهاب إلى الخوجة هذا العام فلم أكن يوماً أحبذها لكنني كنت مرغماً على أمري.

عند المساء عاد والدي من عمله فأعلمته والدتي بالأمر لكنه لم يتوقف عنده طويلاً وقال ببساطة كأنه يتوقع حدوثه: حسناً سأذهب به غداً إلى شيخي “الشيخ قدور”، أزعجني الأمر كثيراً ولم يكن في حساباتي فقد كان أولاد الحارة يتداولون في أحاديثهم أن “الخوجة” أرحم من “الشيخ”، لأن الشيخ ظالم ومزاجه صعب وعرف عنه أنه “إيدو الفلق” وأنه يتحين الفرص ويتصيد الأخطاء للإيقاع بـ “الأجارا” كي يعاقبهم وكانوا يبدعون في تأليف  وسرد الحكايات عن عالم الشيخ المخيف.

في صباح اليوم التالي رافقت والدي على مضض إذ لم ترق لي فكرة الالتحاق بالشيخ قدور إطلاقاً، في الطريق بدا لي أن والدي مسرور وهو يحدثني عن شيخه الذي ختم القرآن على يده وعلّمه القراءة والكتابة والخط ومسك الدفاتر والدوبيا، ونظراً لتفوقه أعفاه من دفع “الخميسية” وعينه “عريفاً” على مجموعة من “الأجارا”.

من حارة البكره جي إلى بانقوسا فالجبيلة حيث يقع مكتب الشيخ قدور طريق طويل لم أعتده إضافة لضرورة عبور الشارع في باب الحديد إلى الطرف الآخر حيث تمر “الطرماي”.

شكلت كل هذه الأمور لدي توتراً ما لبث أن زال بعد عدة أيام من الدوام عند الشيخ وصار الأمر مألوفاً لدي، دخلنا المكتب الذي يقع في مسجد صغير يعرف باسم مسجد “علم الدين البلباني” أمام حمام بلبان.

في الكتاب- صورة توضيحية
في الكتاب- صورة توضيحية

سلم والدي على الشيخ وقبل يده ففعلت مثله، هذه العادة في إبداء الاحترام كانت سائدة تلك الأيام، تحادثا قليلاً ثم همّ والدي بالمغادرة وأوصاني بطاعة الشيخ والحرص على التعلم ولم ينس العبارة المتداولة المشهورة فقال له:

“شيخي اللحم إلك والعضم إلي” ثم انصرف.

الشيخ قدور: هو عبد القادر صالح جاويش، لم يكن شيخاً كما كان يعرف المشايخ في ذاك الزمان فلم يكن ذا لحية بل كان حليقاً ولم يكن يلبس الجبة بل كان يلبس صاية حريرية وفوقها شالة عجمية ويلبس فوقها “ساكوية” و أحياناً يلبس “قمبازاً” ويتمنطق “بكمر” جلدي عريض مثل  أغلب الحلبيين تلك الأيام، لم يكن يضع لفة بيضاء على رأسه بل كان يعتمر الطربوش المعروف، كان مربوع القامة ذو شارب غليظ “يبرمه بين حين وآخر”.

رشح نفسه للانتخابات النيابية ذات مرة في أربعينيات القرن الماضي ولم يفز، كان شخصاً معروفاً وله علاقات حيدة برجالات حلب وسياسييها وكذلك تجارها وكان تجار المدينة يقصدونه ليرشّح لهم كاتب دوبيا من خريجي مكتبه المتفوقين الخلوقين للعمل كمحاسب لديهم، وكانوا يكرمونه بالهدايا والتبجيل، كان الشيخ قدور بارعاً في لعب “النبوت”، وكان هذا الفن منتشراً في العراضات والاحتفالات الوطنية والشعبية والأعراس ويدعى لعبة “الحكم”.

الشيخ عبد القادر صالح جاويس- المعروف باسم الشيخ قدور
الشيخ عبد القادر صالح جاويس- المعروف باسم الشيخ قدور

في مكتبه كان يعلم قراءة وتجويد القرآن الكريم والكتابة والخط العربي و الدوبيا، وقد كان والدي ممن تخرجوا منه وعمل بعدها لفترة كاتب دوبيا لدى أحد تجار سوق المدينة، وكتّاب دوبيا لدى أحد تجار سوق المدّينة، وكتّاب الدوبيا كانوا يفاخرون بأنهم تخرجوا من عند الشيخ قدور، أما بيته فقد كان قريباً من مدرسة النهضة الإسلامية الابتدائية داخل باب الحديد بجانب “الأولق” المخفر وهو في الستين من العمر تقريباً، أما مكتبه فكان يقع أمام حمام بلبان في حارة الجبيلة عند التقاطع مع حارة المستدامية.

كان المكتب يتألف من قاعة واحدة تقع في الجهة الشرقية المطلة على الحارة، وكانت صغيرة المساحة اقتطعت على ما يبدو من صحن المسجد ونصبت في طرفها سقيفة خشبية تشغل نصف مساحتها أقامها الشيخ ليوسع المكان، وقد روى لي والدي أنه قديماً وفي فصل الصيف يجبر الأجارة الذين يحضرون طعام غذائهم معهم على أخذ قيلولة بعد تناول الغذاء، ومنهم الصبية الصغار فكانوا ينامون في السقيفة ومنهم من يتبول لا إرادياً وهو نائم فيصيب ذلك الأولاد الذين يجلسون تحت السقيفة وعندها تحدث المشاجرات ويضطر بعدها الشيخ لصرف الاثنان باكراً ليعالجا ما أصابهما.

كان لهذه القاعة شباكان يطلان على الحارة، كما أن لها بقايا فسحة سماوية من صحن المسجد، في ركنها بئر ماء وموضأ، وفي الطرف الغربي قبلية المسجد الصغيرة حيث تقام الصلوات وتتسع لنحو ثلاثين مصلياً أو أكثر، وكان باب قاعة الدرس كبيراً يشغل واجتها والشيخ يتربع على “مصطبة” تسد جزءاً من الباب وأمامه مكتب صغير يستعمل داخله كخزانة لحفظ الأدوات، ووراءه ومن حوله مجموعة من الكتب القديمة ونسخ كثيرة من القرآن الكريم، وقد على “الفلق” خلفه وبجانبه مجموعة من العصي مختلفة الأطوال، اكتشفت لاحقاً أن لكل واحدة استخدام، فلا حاجة لحضور المذنب أمام الشيخ لينال عقابه بل كانت العصا تطاله أينما كان مجلسه حتى لو كان على السقيفة، فالتحرك صعب بين “الأجارا” نظراً للازدحام، باستثناء “الفلق” الذي كان يتوجب فيه حضور المذنب أمام الشيخ شخصياً.

ألحقني الشيخ بمجموعة “أجارا” يرأسهم عريف يشرف عليهم عرفت لاحقاً أنه ابن الشيخ وطلب مني أن أحضر في الغد “جزو عمّ” وطعاماً لغذائي فقد كان الدوام ينتهي مع أذان العصر، مضى الوقت ذلك اليوم بطيئاً فالنهار طويل والفصل صيف والحر على أشده فقد جاء القظ مبكراً وكذلك كان الازدحام شديداً، لم تكن هناك مقاعد بل كنا نجلس على حصر ممدودة على الأرض.

وللتغلب على مشكلة الحر فقد كان ثمة ستارة من قماش مشدودة على إطار خشبي معلق إلى السقف يتدلى نحو الأسفل هذا الإطار مزود بحبل يقوم بشده أحد الأولاد فيحرك الهواء ويلطف الجو، وكانت ترش الأرض بالماء عدة مرات في اليوم لهذا الغرض، هذا العمل تقوم به مجموعة السخرة اليومية والتي من مهامها ملء الخابية الموجودة قرب الجب والتي يعلوها “شفشق” مربوط بسلسلة معدنية مثبتة إلى الحائط، ولم يكن الماء يبرد فيها لكثرة ما يعاد ملؤها فلم تكن تكفي أعداد الأولاد الكبيرة، ومجموعة السخرة هذه تتغير يومياً، وتضم أيضاً من “الأجارا” من هو معاقب بـ “السخرة”.

في الأيام الأولى لم أختلط مع “الأجارا” ولم أتعرف على أي منهم كونهم غرباء عني، فقد كان المكتب يبعد عن حارتنا ولم يكن معي في المكتب أحد من أبناء جيراننا، في كل يوم عند المساء كنت أخضع لاستجواب من والدي عن سير التعلم والدرس وأستمع لمحاضرة عن الشيخ ومناقبه وسيرته الذاتية، وقد شعرت أن والدي يكن له الكثير من الحب والاحترام.

اليوم السبت التحقت بالدوام متأخراً بعض الشيء فنلت نصيبي من العقاب، بعد قليل ساد هرج ومرج تبينا حقيقته حين دخلت مجموعة من “الأجارا” يقتادون ولداً في مثل سننا تقريباً وهو يصرخ ويشتم ويتعارك معهم، قام الشيخ من مجلسه فساد صمت عجيب، ثم طلب من المرأة التي كانت ترافق الولد الانصراف، وما إن غادرت المكتب حتى التف حبل الفلق حول رجليه قلم يعد قادراً على الحراك، وعملت عصا الشيخ في قدميه وعلا الصراخ والبكاء من شدة الألم والشيخ يستعرض أمامنا عواقب التمرد”والي ما بسمع كلمة أمو”، تعاطفت معه فهذه المرة الأولى التي أحضر فيها حفلة الفلق هذه وكنت قد سمعت عنها مرات عدة، همس لي أحد “الأجارا” ممن كانوا يجلسون قربي قائلاً “هاد الوليد عصيان.. ما بدو يجي عل شيخ أجت أمو واشتكت عليه قام الشيخ بعت معا كم واحد من أجرته وقاموا مسكوه وجابوه شحط”.

عند المساء قصصت علي والدي ما جرى فأخبرني أن هناك لدى الشيخ “أجارا” مثل الشرطة يفرضون النظام بالقوة داخل المكتب وخارجه وأحياناً يلقون القبض على الأولاد عندما يزعجون الشيخ من خلال الشبابيك المطلة على الحارة، فقد كانوا يصرخون من خلالها “شيخ قدور بشيل العصاية وبدور” الأمر الذي كان يدفع الشيخ لإرسالهم وراء الأولاد فيمسكونهم ويحضرونهم لينالوا العقاب، وكم أحضروا عن طريق الخطأ أولاً تصادف  مرورهم بالحارة أثناء الكمين والإغارة، وكانوا ضحايا أبرياء، وكانت تسري بين “الأجارا” مقولة أنه عقاب على ذنوب اقترفوها ولم يعاقبوا عليها.

بعد بضعة أيام مرت تذكر الشيخ أني ابن تلميذه القديم فاستدعاني للمثول بين يديه، وأخضعني لاختبار ليقف على ما تعلمته خلال الأيام السابقة، فتعجب من مستواي المتقدم ولما سألني أجبته أني تلميذ في مدرسة الحكومة وقد نجحت إلى الصف الرابع وكان يظن أنني في أيامي الأولى من التعلم، نلت عقاباً على ذلك دون ذنب مني، وطلب مني أن أحضر في الغد معي “ربع ورقة” ومصحفاً في “كنير” ودفتراً “أبو الخمسا وعشرين للنص” ويبدو أن والدي فاته أن يخبر الشيخ أنني تلميذ في المدرسة الحكومية.

في اليوم التالي أحضرت ما طلب الشيخ مني ودفعت إليه بـ “الربع ورقة” فأعطاني علبة معدنية من التنك لها غطاء صنعها السنكري عرفت أنها دواة حبر بعدما قام الشيخ بملئها بالحبر الأسود، ومعها مسكة وريشة قام بحرقها بواسطة عود ثقاب ودفتراً وطلب مني الإنتقال إلى السقيفة حيث يوجد لوح خشبي للكتابة مثل الذي كان في مدرستنا، وبدأتُ مرحلة جديدة من التعلم، ما أذكره أن الدواة كانت مزودة بداخلها بما يشبه القمع دون أنبوبة يسمح بغمس الريشة بالمداد ويمنع انسكابه لو انقلبت وكم كانت تنقلب، ضاعت الدواة لكن المسكة والريشة كنت أحتفظ بها حتى نزوحي من بيتي نتيجة الأزمة التي عصفت بوطني ويوم عدت وجدتها وقد أصابها تلف.

حمام بلبان أمام مكتب الشيخ قدور
حمام بلبان أمام مكتب الشيخ قدور

كان في مكتب الشيخ صف واحد يضم كل “الأجارا” لكنهم ينقسمون إلى مجموعات متقاربة في المستوى العمري والتعليمي يشرف عليهم “العرفاء” ولكل مجموعة عريف والعرفاء هم من الطلاب القدامى ممن حصّلوا قدراً من العلم يؤهلهم للإشراف على من هم دونهم، وعادة هم الأكبر سناً في المكتب، وكان الشيخ يعطي دروسه على مدار اليوم، لكل مجموعة درسها ويتابع العرفاء من بعده، وكنت على غيّر عادة الأولاد أتابع كل المجموعات، وعند كل اختبار يجريه لي كنت أبلي بلاءاً حسناً، لهذا تركني مستقلاً ولم يلحقني بأي مجموعة، وكان دائماً يمتدحني أمام الأولاد ويذكرهم أن والدي من تلاميذه النجباء وأن عليهم الاجتهاد في التعلم ومن جد وجد، في الحقيقة كنت أتميز عن باقي الأولاد في مستواي الدراسي فقد أرسلني أهلي منذ أن بغت الرابعة من عمري تقريباً إلى روضة في حارة الباشا اسمها “فردوس الطفل الحديث” يمتلكها المرحوم الأستاذ” كامل خياطة” وكنت نناديه بابا كامل رحمه الله وتديرها في ذلك الوقت الآنسة “شكران عطري”، ومن بعدها انتقلت إلى مدرسة “دير ياسين” الابتدائية في “الجربقلي” كما كنت في العطل الصيفية ألتحق بالخوجة.

كنت واحداً مما يقرب من عشرة تلاميذ يدرسون في المدارس العامة وكنا سنغادر فور افتتاح مدارسنا لكل باقي الأولاد وعددهم يربو على الخمسين يقضون من ستة سنوات إلى عشرة عند الشيخ، وعندما يختم الولد القرآن كان أهله يعملون له “نشيدة” حفلاً بهذه المناسبة ويدعى إليها الشيخ والأولاد والأقارب يلبس فيه الولد القمباز المطرز ويضع على رأسه طرطوراً مقصباً ويجعل له “قرنة” ذات زينة يجلس عليها مثل الحجاج أو العروس في حفل “التلات أيام” وتوزع فيها الحلوى والقضامة بسكر والمدردر وقد يقدم فيها الطعام للشيخ والضيوف المهمين، وأحياناً كانوا يطوقون الحارات بموكب يتقدمه الشيخ وأهل الولد ويتلقون التهاني بالمناسبة بينما يتولى منشد رخيم الصوت إنشاد بعض القصائد والمدائح أثناء مسير الموكب، وختم القرآن ليس كما يظن البعض وكنت منهم أن الولد يحفظه عن ظهر قلب، بل هو إجادة تلاوته دون أخطاء ما تيسر منه غيباً وخاصة من جزء “عم” وجزء “تبارك” وسورة “يس” و”الرحمن”.

لم يكن لدى الشيخ برنامج حصص، ولا توقيت للفرص، ولا جرس يرن فلم تكن هناك كهرباء أصلاً في المكتب، كانت لديه “صفارة” معدنية تشبه صافرة شرطي السير أو صافرة جابي الترام، كان يستخدمها كمنبه عندما يريد إبلاغ قراراته أو إعلان شيء ما وبعد إملاء ما يريد يقول “اشتغلوا” فتعود الضجة والقراءة والنشاط المهم ألا يلحظ الشيخ أنك متقاعس، وكان قيام الأولاد من مجلسهم لقضاء حاجة أو لشرب الماء أمراً عادياً لا يحتاج سوى لإذن من العريف ولا يتدخل فيه الشيخ، إلا اللهم عندما يزيد عن حده، كنا نحضر معنا طعام الغذاء فالنهار طويل ومن كان بيته قريباً يذهب إليه لتناوله، مما يخفف الازدحام فكنا نأخذ قسطاً من الراحة بعد الغذاء لحين عودتهم.

اليوم الأربعاء عندما ظهر انطلقت صافرة الشيخ على نحو غير متوقع.. ساد الصمت وتطلعت العيون واشرأبت الأعناق نحو الشيخ، قال يصوت حازم: “بكرا خميس ما حدا منكن ينسى يجيب الخميسية معو، والي بده ينساها بده ياكل فلق أفرجيه نجوم الظهر منين بتطلع، اشتغلو”، تكرر هذا الإعلان أكثر من مرة حتى موعد الانصراف، واكتشفت بعد فترة أن هذا الإعلان يعاد ويكرر أسبوعياً كل أربعاء.

وفي صباح اليوم الخميس نسي بعض “الأجارا” إحضار الخميسية ولا أدري ما السبب رغم تذكير الشيخ أكثر من مرة، فمن أحضرها جلس في سدته ومن نسيها وقف جانباً في انتظار ما سيقرره الشيخ، اكتمل الحضور وساد صمت غريب، تكلم بعده الشيخ بلهجة مسالمة قائلاً: من أنبيرحة ذكرتكن بالخميسية مشان ما تنسوها، ولك إش أساوي فيكن آ” ثم تناول المسكة والريشة وغمسها في دواة الحبر وبدأ يكتب أسمائهم وتابع قائلاً “هالمرة عفيت عنكن بس ما يول ويلو يلي بدو ينساها يوم السبت قمزوا ع محلاتكم” ولاحظت أنه كان يتصنع الغضب توزع “الأجارا” في أماكنهم ولست أدري إن كان يحفظ أسماء “الأجارا” أم أنه كان يتظاهر بتسجيلها، ومع الأيام اكتشفت أن هذا المشهد يتكرر أسبوعياً وأن عفو الشيخ  عن “الأجارا” الذين نسوها عادة درج عليها منذ القديم، فقد كان يراعي فقر حال ذوي بعض الأولاد أو ضيق ذات يد ذويهم وإعسارهم فكان ينظرهم لحين ميسرة، وفي أحيان كثيرة يتغاضى عن المتأخر منها، لكنه دائماً يهدد ويتوعد ويصر على وجوب إحضارها يوم الخميس وكل خميس وكان الحلبيون يسمون يوم الخميس بـ “خميس الدهب” حيث يتقاضى الشغيلة والصنايعية أجورهم.

يقترب موعد أذان العصر فتنطلق صافرة الشيخ ويعلن “حضروا حالكن على صرفة” وهمساً يدندن الأجارا “على صرفة دقوا القرفة على صرقة” وهم يجمعون أشيائهم ويغلقون محابرهم ويصلحون هندامهم، ثم يجلسون ببراءة مصطنعة، كان الشيخ يتغاضى عن ضجيجهم المفتعل ويتجاهله.

تبدأ طقوس الإنصراف حيث يختار الشيخ الأولاد تباعاً، أنت، أنت انصراف، والعيون ترنو إلى الشيخ عل رضاه يحل على الناظر فيحن قلبه ويأذن له بالإنصراف، ومع كل دفعة تتكرر تعليمات الشيخ “مع وجكن علبيت، ما بدي أشوف حدا بالصقايق” وينطلق “الأجارا” فرحين وأحياناً ينتظر بعضهم بعضاً فيسأل الشيخ “أنت لمن عما تستنى” وعندما يعرف يأذن له بالإنصراف وينطلقون.

كانت روايات الأولاد حول المعايير التي كان الشيخ يعتمدها في انتقاء “الأجارا” للانصراف كثيرة متباينة، لكن بعد بضعة أيام اكتشفت أنه يختار أولاً الأولاد صغار السن الهادئين المسالمين ليكون لديهم متسع من الوقت للوصول إلى بيوتهم، ومن ثم الأكبر سناً ممن بيوتهم بعيدة بعض الشيء عن المكتب ومن ثم باقي الأولاد، وهو لا ينسى أن يطلق خاصة “أجراتو” قبلاً لينتشروا على طول الحارات المؤدية إلى المكتب ليتدخلوا بشكل فوري في فض أي خلاف أو مشاجرة تقع بين الأولاد، فقد كان الخلاف ينشأ أثناء الدوام ولا سبيل لتصفيته إلا بعد الإنصراف، وكان ما يتم أثناء الدوام هو إقامة التحالفات وحشد التأييد استعداداً للمواجهة، وكانت العبارات تسري همساً “بكري حضر حالك عنا اليوم قتيلة”، “شحود قشاطك مو معك بدي تعيرني ياه عنا اليوم قتيلة”، ورغم كل الاحتياطات التي كان الشيخ يتخذها لمنع تجمهر الأولاد إلا أنه كانت تحدث خروقات وتقع المشاجرات، ولم يكن المكتب نقطة انتماء رغم طول الأمد الذي يقضيه الأولاد فيه، وتبقى روح الانتماء إلى العائلة والحارة والجيرة أقوى وهذا ما كان يحكم العلاقة بين الأولاد، بل كانت الروح العدائية وحب التسلط يظهران بشكل جلي لو كان الولد ينتمي لعائلة غنية أو ذات نفوذ أو عشيرة كبيرة، وفي بعض الأحيان كان كبر الحجم وقوة البنية تدفع حائزها للتسلط والعدوانية، لكن هذا يسقط عندما يتفق عليه عدد من الأولاد فينالون منه ويأكل “قتلة دق ودوس”.

عندما كنت أحكي لوالدي مجريات الأمور اليومية وما كان يحدث كان يضحك أحياناً ويكمل ما أسرده من حكايات وكانت السعادة تبدو عليه، الشيء المؤكد أن مكتب الشيخ قدور لم يتطور ولم يتغير مذ تركه والدي حتى التحقت به بعده، فقد استوفى ووصل إلى السقف، وربما كان في زمانه يضاهي أفضل معاهد اليوم وجامعاتها لأنه يقدم للمجتمع أهم المعارف وكانت تتمثل في القراءة والكتابة والحساب، والشيء اللافت أن يوميات الشيخ متكررة فكل يوم كسابقه لا تغيير فيه يذكر، ويبدو من تصرفاته أنه اعتادها.

محمد عدنان حريتاني أمام مكتب الشيخ قدور
محمد عدنان حريتاني أمام مكتب الشيخ قدور

لم أستمر عند الشيخ قدور وتركت مكتبه فور افتتاح مدرستي أبوابها، كانت تجربة رائعة خضتها رغم أني لم أكن مرحباً بها، لكنها كانت طيبة الذكرى لم تفدني كثيراً وكانت أهم فائدة جنيتها أنني تعلمت طريقة الكتابة بالريشة وبعض قواعد الخط العربي رغم صغر سني، وكان الشيخ صاحب خط جميل يستعرض مهاراته أمام الأولاد عندما كان يقوم بكتابة بعض اللوحات بخطه الجميل، وربما كانت لقاء أجر معلوم، كان بعض كبار السن ممن عايشتهم يفضلون الشيخ على المدرس ويقدمونه وكان خيارهم الأفضل بعيداً عن العلوم الحديثة الشبيهة بعلوم الإفرنج.

رحل ذلك الجيل وتغيرت نظرة الناس للعلم والمدارس التي انتشرت على امتداد حلب، وأغلقت المكاتب تباعاً بعدما توفي مشايخها، أهم ما كان يميزها أنها لم  تكن ذات توجه ديني ولم تكن تسوق لأي فكر على عكس بعض المدارس الدينية التي كانت موجودة، تلك صفحة من صفحات الماضي تباينت الآراء حولها بين إيجابي وسلبي أما أنا فأكتفي بالقول أنها من صفحات الزمن الجميل، وليس قولي هذا نأياً بالنفس بل لأني موقن أن ترك ذكراها الجميلة أفضل من تشويهها بانتقاد لا ولن يغير ما مضى.

منذ فترة أسعدني الحظ وحصلت على كتاب “أخبار حلب” كما وردت في يوميات المعلم نعوم بخاش “1810-1875” بأجزائه الأربعة، تعرفت من خلالها على جانب هام من حياة الحلبيين، إضافة إلى ما كتب موضحاً عنها الراحل الأديب الأب يوسف قوشاقجي “1914- 1995” الذي حقق تلك اليوميات والتي غطت نحواً وخمساً وثلاثين عاماً بدءاً من عام 1834 وحتى عام 1870 من حياة أهل حلب في أواسط القرن التاسع عشر، بكل براءة وصدق، وبعد إطلاعي على هذه اليوميات أود القول أنني اكتشفت أن إخواننا المسيحيين كانت لهم مكاتب أو “كتاتيب” لا يختلف دورها عن الدور الذي كان منوطاً بالشيخ قدور والقيمون على مكاتب مشابهة ولما عمدت إلى المقارنة بين ما كتبت أنا عن تجربتي التي عشتها ودونتها في مكتب الشيخ قدور وما قرأت عن المعلم نعوم بخاش لم أجد فروقاً كبيرة تذكر فالطريقة متشابهة والهدف واحد هو رفد المجتمع بأفراد على قدر من العلم يسهم في تطوره.


انظر:

محمد عدنان حريتاني: قراءة في يوميات طفل حلبي .. نانتي والراديو



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى