شهادات ومذكرات
ساطع الحصري: يوم ميسلون والأسبوع الذي يليه..
من كتاب ساطع الحصري، يوم ميسلون .. صفحة من تاريخ العرب الحديث
(إن بدء اليوم الرابع والعشرين من تموز كان موعد انتهاء الهدنة التي عقدناها مع الجنرال غورو. فكان من الطبيعي أن يبدأ هجوم الفرنسيين على ربى ميسلون في فجر ذلك اليوم.
وأخذت تتوارد علينا بعض الأخبار – عن المعركة التي بدأت فعلاً – في الوقت المذكور، منذ الصباح الباكر.
وما كنت أستطيع أن أمني نفسي بأي أمل في الانتصار، بعد أن علمت ما علمت من أحوال جيشنا، وشاهدت ما شاهدت من عدد الجيوش الفرنسية، وماكنت أجد مجالاً للشك في النتيجة الأليمة التي ستنتهي إليها المعركة، ولكني مع هذا كنت أتمنى أن تطول المعركة على قدر الإمكان، وأمني نفسي بمعركة عنيفة تساعد على حفظ شرفنا العسكري على أقل تقدير.
ولكن النتيجة لم تبطئ كثيراً: فقد وردت الأخبار قبل الساعة العاشرة بانكسار الجيش واختراق الجبهة.
وقالوا يوسف العظمة قتل في ميسلون
فقلت: بل انه انتحر هناك! … واستشهد، على كل حال.
إن كل ما أمكن جمعه من الجنود والعدد، وكل ما أمكن ارتجاله من التحصينات ما كان ليصمد أكثر من بضع ساعات أمام الهجوم العنيف الذي شنه الجيش الفرنسي المجهز بجميع وسائل القتال من مدافع ثقيلة ودبابات وطيارات..
* * *
بين دمشق والكسوة
تقرر أن تنتقل الوزارة إلى الكسوة بالقطار، على أن يذهب الملك إليها بالسيارة.
غير أني اقترحت أن نصدر قبل سفرنا بياناً إلى الشعب، نعلن فيه خروج الحكومة من العاصمة، بغية مواصلة الدفاع عن حقوق البلاد واستقلالها. ونال هذا الاقتراح موافقة جميع الزملاء، فكتبنا مسودة البيان، وسلمناها إلى الديوان، لتبيضيه وإرساله إلى النشر، بعد توقيعه بتوقيع رئيس الوزراء هاشم الأتاسي.
ثم تفرقنا، ليذهب كل منا إلى داره ويأخذ حقائبه، على أن نعود فنجتمع في محطة الحجاز، استعداداً للرحيل إلى الكسوة في الساعة الواحدة بعد الظهر.
وصلت المحطة بعد أن أخذت من داري بعض الملابس وبعض الأوراق، ووجدتها غاصة بعدد كبير من الوطنيين الذين كانوا يرون من الضروري أن يتباعدوا عن دمشق قبل وصول الفرنسيين. وكان بعض هؤلاء في حالة فزع شديد: آذانهم مفتحة لسماع كل حديث، وأذهانهم مستعدة لتصديق كل خبر، ومخيلاتهم ميالة إلى تكبير كل خطر.. وكان من الطبيعي أن تنتشر في هذا الجو المعنوي المتكهرب شتى الشائعات: هذا يقول إن الفرنسيين يلغوا الغوطة وأخذوا يتقدمون نحو القدم، وذاك يروي أن أهل الميدان أخذوا يتجمعون، استعداداً لحرق المحطة ونسف القطار، وآخر يدعى أنه لم يبق لوصول الفرنسيين إلا برهة من الزمن.. وكان يتبع كل شائعة من هذه الشائعات سلسلة طويلة من الاقتراحات، كلها ترمي إلى طلب تعجيل القطار قبل اشتداد الخطر أو فوات الأوان.
وقد تعبنا كثيراً لتسكين هذه الأعصاب الهائجة، وتفنيد هذه الشائعات المثيرة ومنع حركة القطار قبل حلول الميعاد المقرر للسفر.
في هذه الأثناء خطر لي أن اتأكد من مصير البيان الذي قررنا اذاعته على الناس، فعلمت أنه سلّم إلى هاشم الأتاسي، فسألتُ هاشم الأتاسي عنه، وعلمت أنه لم يقرأه بعد، فأخرجه من جيبه وصار يقرأه باهتمام..
* * *
عندما قرب موعد السفر كان الوزراء جميعاً قد حضروا إلى المحطة، ماعدا فارس الخوري وعلاء الدين الدروبي. وعلمنا أن فارس الخوري أرسل حقيبته، ولكنه لم يصل بعد. فأخذنا ننتظر وصوله بفارغ الصبر. وأما علاء الدين الدروبي، فلم نعرف عنه شيئاً. فقد علمنا فيما بعد، انه كان أخبر رئيس الوزراء بأنه يرى أن بقاءه في دمشق – بصفته وزيراً للداخلية- أوفق للمصلحة من خروجه إلى الكسوة، وأنه بقي متمسكاً برأيه هذا، وبالرغم من اعتراض رئيس الوزراء عليه.
في الأخير حان وقت السفر، وقمنا بركوب القطار، وعندما هممت بالمشي، رأيت أن أسال هاشم الأتاسي عما فعل بالبيان، ولكنه رأيته يتفجر غضباً، ويصيح بأعلى صوته:
– البيان ! البيان! لماذا تلح علي كل هذا الإلحاح؟
لاحظت أن أعصابه كانت قد توترت كثيراً بتأثير الجو المعنوي المكهرب الذي ملأ المحطة، فقلت له بكل هدوء: لأني أ‘تقد أننا سافرنا من غير أن نصدر هذا البيان، نكون قد انهزمنا من العمل.. في حين أننا لا نذهب من هنا فراراً من الواجبات المترتبة علينا، بل لنتمكن من أداء تلك الواجبات بأحسن الوسائل وأكملها.
وعندما كنت أقول ذلك، كان هياج بعض اللاجئين إلى المحطة قد ازداد، واشتد الحاحهم في طلب السفر بدون تأخير. وفي هذا الجو الهائج، ارتبك هاشم الأتاسي ارتباكاً غريباً.. فاضطررت، إلى التأكيد عليه قائلاً:
– لا يحلق لنا أن نغادر هذا المكان، دون أن نصدر البيان، إذ لا يسوغ لنا أن ننهزم من الميدان في هذا الآونة، بعد أن أ×ذنا على عاتقنا مسؤولية الحكم حتى الآن..
فهدأت كلماتي هذه غضب الأتاسي، واضطرته إلى توقيع البيان.. وبعد ذلك أمر بإيصال الببيان إلى الدروبي، لضمان نشرة بوسائل مختلفة.
ولكنا علمنا بعد ذلك، أن الدروبي أهمل نشر البيان عن قصد وعمد.
* * *
وصلنا إلى الكسوة، واتخذنا عربات القطار الذي أوصلنا إليها مكتباً ومسكناً، وكان بين تلك العربات صالون خاص، أعد ليكون مسكناً للملك فيصل وكتباً له عند وصوله إلى الكسوة..
وصل الملك فيصل- مع حاشيته – بالسيارات مساء قبيل غروب الشمس. وقد كان في حالة شاذة، تختلف عن حالاته المعتادة اختلافاً كبيراً. فجميع حركاته وسكناته كانت تدل على أنه كان مشغول اللب بشيء يميل إلى إخفائه عنا. فقلت لنفسي:”ربما كان لا يزال يأمل في التفاهم” وقد تبين لي بعد قليل أن ظني هذا كان مطابقاً للحقيقة والواقع: إنه كان قد أوفد نوري السعيد لمقابلة الفرنسيين، وأرجأ جميع قراراته إلى حين وصول أخبار هذه المقابلة. ولهذا، كان ينتظر هذه الأخبار بفارغ الصبر، ويتجنب التكلم وإبداء الرأي في أي موضوع كان).