من مذكرات أكرم الحوراني- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
في عام 1946 عندما حقق الشعب جلاء القوات الأجنبیة عن البلاد نشر الأستاذ عثمان الحوراني أحد قادة الثورة مقالا: ضمنه ذكرياته عن ثورة حماه عام 1925 ورد فیه ما يلي[1] “نحن الآن لیلة الخامس من تشرين الأول ما بین الأذانین، المغرب والعشاء والناس منتشرون على ضفاف العاصي وفي مقاھي الصیف، غافلون عما ستفاجئھم به الأقدار بعد حین مع الأذان.
كان نذير الثورة أذان العشاء، وشعار الثورة: لله أكبر. علا صوت المؤذنین على المنارات، لله أكبر، وعلا صوت المظلومین من كل جانب : لله اكبر، وعلا أزير الرصاص وھاجم المجاھدون في وقت واحد جمیع المخافر والثكنات، أما المخافر فاستسلمت راضیة، وأما الثكنات فصبت على المدينة نارا حامیة.
وتدفق المجاھدون من كل صوب الى دار الحكومة، ففیھا مستودع للسلاح وجنود ونفر من الدرك، فاستقبلوا المجاھدين بالرصاص، وكانت معركة حامیة انتھت باقتحام الباب ودخولھا عنوة ثم بإحراقھا على الجنود الذين تحصنوا بالطابق العلوي منھا، وظلت النیران تلتھب فیھا إلى الصباح حتى أتت علیھا برمتھا مع مدرسة التجھیز القديمة الملاصقة لھا.
سكن أزيز الرصاص حینا، ومرت فترة قصیرة من الھدوء وظن جنود الاستعمار أن الثورة قد انتھت فخرجوا من ثكناتھم قبیل شروق الشمس، وأخذوا يقبضون على كل من يلقونه في الشارع. فھاجمھم فوزي ورجاله مع الشمس، وعلى جسر العاصي، فولوا الأدبار بعد معركة قصیرة، واعتصموا بالثكنات، وشدد علیھم فوزي الحصار فكانت المعركة الكبرى. وقد اشتركت فیھا مدفعیة الشرفة والطائرات، وارتفعت أعمدة الدخان وأكلت النیران عددا كبیرا من المخازن والبیوت، وأتت في منطقة واحدة (ھي منطقة الموقف المجاورة للثكنة) على نحو 120 دكانا ومخزنا بما فیھا من بضائع وأموال.
اشتدت المعركة وصمت الأذان من قصف المدافع وقذف الطائرات والقنابل الیدوية، ورصاص الرشاشات والبنادق، وعظم الھول، وكثر الضحايا من الفريقین.
أما فوزي فقد كان بطل المعركة، يقاتل وينظم خطط الھجوم. أرأيته واقفا مقابل الثكنة! ووراء الرشاش غیر وجل ولا ھیاب، والفرنسیون يصبون علیه النار صبا أرأيت المجاھدين يلقون بالحطب والعشب والبترول على باب الثكنة لیحرقوه ويلجوه، غیر مبالین بالقنابل والرصاص المنھمر كالمطر! أرأيت مدينة الثورة يتھافت رجالھا إلى میدان الشرف والاستشھاد! .
أرأيت الشباب والشیوخ والنساء والأطفال يتساقطون كورق الخريف صرعى! أرأيت الاطباء يتعرضون للھلكة في سبیل انقاذ الجرحى! بل أرأيت الى وحدة القلوب وقد اصبح الناس كلھم اخوانا! .
إنك لو حضرت تلك المعركة، وشھدت تلك الساعة؛ لرأيت عجبا، ولملئت اعجابا.
ودامت المعركة على عنفھا وھولھا الى الظھیرة؛ فخف اطلاق النار من الثكنات، وأوشك ان تستسلم حامیتھا، وغدا اكثر رجالھا ما بین قتیل أو جريح.
فما راع الأھلین الا نجدات المستعمرين تتدفق على المدينة، وتدخلھا بمدافعھا ورشاشاتھا لتنقذ المحصورين، وھي تطلق نارھا الحامیة ذات الیمین وذات الشمال، على غیرھدى؛ من الھلع والفزع. وبعد قتال دام استبسل فیه الحمويون حتى نفد عتادھم، انسحبوا من المدينة في المساء. فأسرعت القوات الفرنسیة – واكثرھا من ھمج السنغال – الى احتلال المرتفعات، وأخذت ترمي برصاصھا على الشوارع والطرقات والمنازل والنوافذ، وعلى الذين يدفنون القتلى في المقابر، فاستشھد عدد من المسالمین اكثرھم من النساء والعجزة والاطفال.
ثم تغیب شمس ذلك النھار على كارثة جلى ھزت المدينة ھزا عنیفا،وأدمت قلوب اھلیھا. فقد سقط علامة حماة وزعیم نھضتھا الدكتور صالح قنباز صريعا في میدان الشرف والشھادة وھو يؤدي واجبه الانساني والوطني.
فكان الخطب جسیما والمصاب عظیما. وكانت خسائر حماة يومئذ تفوق خسائرھا في ثورة أيار 1945 في الانفس والأموال والمباني، لأن الفرنسیین كانوا يطلقون نیرانھم علیھا من داخل المدينة ومن خارجھا، ولأن الحكومة بدركھا وشرطتھا وموظفیھا كانت تأتمر بأوامرھم، ولم تكن في سورية قوات بريطانیة تتدخل حین يروق لھا التدخل فتوقف طغیان الفرنسیین.
وعلى كل حال فلن يضیر حماة ان تكون سريعة الغضب جسیمة التضحیة، اذا كانت بثورتھا قد اسدت للوطن يدا بیضاء؛ واطالت سنتین في أجل الثورة السورية، وصیرتھا في مصاف اعظم ثورات الدنیا، وجعلت ريح الثورة تھب على جمیع البلاد فتشعلھا نارا على المستعمر الغاشم.
ولما سیطر الفرنسیون على المدينة اعتقلوا عددا كبیرا من أھلھا؛ ولا تسل عن تفننھم في تعذيب ھؤلاء المعتقلین، ولا عما اقترفوه في المدينة من الجرائم والفظائع، فاللسان والقلم يعجزان عن وصفھا.
اما الثائرون فقد تمزقوا ايدي سبأ تحت ظلام اللیل، لانھم لم يقرروا من قبل مكانا يجتمعون فیه بعد المعركة.
فالقائد فوزي نجا من مخالب الفرنسیین؛ وكانوا جد حريصین على الانتقام منه والفتك به، فاجتاز الصحراء الى العراق مع بعض اخوانه، وكنت من مرافقیه في رحلته. وخاطر فريق فسلكوا طريق الجنوب، ونجحوا بالوصول الى الجبل العربي ومنھم السادة سعید الترمانیني ومصطفى عاشور وعبد القادر ملیشو وعبد الرحمن المط والدكتور خالد الخطیب وسواھم، وأوى كثیرون إلى مضارب الاعراب في الصحراء، وتوارى آخرون ينتظرون ما تأتي به الأقدار”.
ويتحدث عثمان الحوراني عن دواعي الثورة والأيام القلیلة السابقة لانفجارھا:
“يزداد الاستعداد، وتكثر المؤتمرات والمؤآمرات، والخلوات والمفاوضات. ھنا وھناك؛ في الجبل والغوطة ودمشق، وفي حماة وحمص … ويتعاھد قادة الدروز وزعماء دمشق ويتواثقون. ويبعث فوزي برسله الى شتى الجھات:
فسعید الترمانیني – وقد كان ساعده الأيمن – إلى دمشق وحمص وقرى الجراكسة، والدكتور الخطیب ومنیر الريس ومظھر الدروبي (وكاتب ھذه السطور) الى دمشق والجبل، للاتصال بالقادة والزعماء ومتقاعدي الضباط.
ويعود الیه رسله بكتاب من القائد العام سلطان باشا الاطرش، والزعیم الدكتور الشھبندر، وقد تم الاتفاق على الا يعقد صلح منفرد، وعلى أن تثور دمشق وحماة وحمص وبعلبك في لیلة واحدة وھي لیلة المولد النبوي في الثاني عشر من تشرين الأول 925 – ربیع الأول 344 يعرض الأمر على الوطنیین في حماة، فیتحمس للثورة المتطرفون قائلین : نلبي نداء عبد الكريم ، وننصر اخواننا بني معروف، ونرغم الفرنج على توزيع جیوشھم.
وينظر جماعة بمنظار العقل والحكمة فیقولون: ان شعبنا لما يبلغ منالوعي القومي والتنظیم والقوة المبلغ الذي يجعله اھلا للثورة. فلنھيء الشعب ولنكمل العدة، حتى اذا ضربنا نكون واثقین من حسن العاقبة.
ويشك فريق باخلاص فوزي قائلین : كیف نطمئن ونسیر تحت قیادة رجل نجھل حقیقته وغايته؟ الا يخشى أن تكون ھناك خدعة؟ ولكن حماسة المتطرفین غلبت حكمة العقلاء وتردد المتشككین. وثارت حماة”.
[1] احتفظت طويلا بھذا المقال مقصوصا، ومن المؤسف أنني لم أسجل اسم ولا تاريخ الجريدة التي نشرته، وھي على الأغلب جريدة محلیة حموية.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة