ولد في دمشق التاسع من كانون الثاني عام 1910م.أسس حزب البعث عام 1940، وانتخب أميناً له في نيسان 1940. وأصدر جريدة البعث عام 1946م بالاشتراك مع صلاح الدين البيطار.
انتخب نائباً عن الروم الأرثوذكس لدورة 1945م. اختير وزيراً للمعارف في وزارة هاشم الأتاسي عام 1949. بعد اندماج الحزبين، البعث والاشتراكي في حزب واحد، دعي حزب البعث العربي الاشتراكي، وانتخب أميناً عاماً له.
غادر سورية بعد قيام حركة 23 شباط عام 1963 إلى العراق الذي استقر فيه حتى وفاته في الثالث والعشرين من حزيران 1989عام.
من مؤسسي حزب البعث
13 آذار 1947
انظر مقالات ووثائق ميشيل عفلق:
في الثلاثينيات:
عهد البطولة | 1935 |
ثروة الحياة | 1936 |
في الأربعينيات:
انظر ايضاً:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة
أرشيف كلمات ميشيل عفلق- نصوص:
نضال الشعب كفيل باحباط المؤامرات (1)
قبل عام خلا، في اول عيد للجلاء، أفصحت، الفئة الحاكمة، في خطاب رسمي، عن السياسة التي تنوي اتباعها بعد زوال الاحتلال وعبرت عن نظرتها الحقيقية الى الاستقلال كواسطة لاستعباد الشعب واستغلال الحكم، واظهرت بشكل لا يدع مجالا للشك ان الحرية عندها لا تحوي اي معنى ايجابي، وليست سوى احلال الاستبداد الوطني محل الاستعمار الاجنبي. هكذا لم يجيء في الخطاب الرسمي اي ذكر لحق الشعب في توجيه سياسته ومقدراته، وأية اشارة لحق الشعب في تأليف الاحزاب السياسية وعقد الاجتماعات العامة والتعبير عن آرائه وإرادته بملء الحرية، بل كان الخطاب دعوة الى الشعب لكي ينصرف عن السياسة الى اعماله الخاصة وإغراء لشباب الامة بالوظائف، واقناعهم بأن الطريق الذي يستطيعون فيه اثبات الكفاءآت ونيل المكافآت هو طريق الالتفاف حول الحكومات والدخول في طاعتها، وتسخير معارفهم وضمائرهم لتأييدها وتقويتها.
وتألفت اول وزارة بعد الجلاء على هذا الاساس ونعتت نفسها بأنها “انقلابية” وظهر من اعمالها انها تقصد بالانقلاب القضاء على البقية الباقية من الحرية والحكم الدستوري التي كانت تضطر الى المحافظة عليها في وقت الاحتلال وتقدمت هذه الوزارة الى المجلس النيابي بمشروع الملاكات المشهورة التي عدت على الدستور فتركته مزقا وحطاما. وسعت الفئة الحاكمة بكل ما لديها من وسائل لتنفيذ تلك المؤامرة الشنيعة على حرية الشعب وحقوقه فاستخدمت الاقناع والاغراء والارهاب، واستغلت حادث انتخاب سوريا عضوا في مجلس الامن فجسمته وضخمت اهميته اضعافا مضاعفة. والقي خطاب رسمي يوهم الشعب بأنه اصبح حَكَما بيم أمم الارض ورقيبا على القنبلة الذرية، فما باله يتعلق بالتافه من الامور، اي بالدستور والحرية؟ ولكن الشعب الذي شرى حريته بالدماء الغالية انتفض انتفاضة الاباء والشرف، وارغم الفئة الحاكمة على سحب الملاكات والرجوع -ولو الى حين- عن تنفيذ مؤآمراتها. والقي خطاب آخر يسجل هذا التراجع، وقيل فيه بأن من حق الامة ان تؤلف احزابا! هذه الكلمة التي لو قيلت على أثر الجلاء لدلت على شيء من الصدق والوعي والجرأة، ولكن قولها على اثر فشل المحاولة الدكتاتورية الحقيرة، وبعد ان مضى على جلاء الجيوش الاجنبية ثمانية اشهر، كان دليلا جديدا على ما اتصفت به الفئة الحاكمة من كذب وتلاعب. وقصر في النظر وجبن في النفس. لقد قدر عليها ان تمشي في مؤخرة الشعب دوما، فالشعب يجرها الى النضال ضد الاجنبي جرا ولكنها تنتحل هذا النضال وتقطف ثماره والشعب يقبض عليها متلبسة بجريمة خرق الدستور، ولكنها تظهر بمظهر من يصون الدستور ويحمي ذماره.
ثم جاءت الحكومة الحاضرة، حكومة السيد جميل مردم الذي كسب شهرته السياسية من براعته في خداع هذا الشعب واللعب عليه والتلاعب بمقدراته ومصالحه طول عشرات من السنين، فأوكلت اليه مهمة انقاذ الفئة الحاكمة بعد ان انكسرت شوكتها امام غضبة الشعب، فقام بمهمة التخدير والتغرير خير قيام واعلن في المجلس النيابي تعهده بصيانة الحريات الدستورية، وتلبية الرغبة العامة في تعديل قانون الانتخاب، وما زال يسوف ويماطل. حتى فاجأ البلاد بهذه المؤامرة الاجرامية على حريتها ومستقبلها فخان العهد الرسمي الذي قطعه هو ووزراءه على انفسهم اما المجلس والامة، وامتنعت الحكومة، بعد اضاعة الوقت الطويل، عن تقديم اي مشروع بتعديل القانون النتخابي، مع انها لم تنل الثقة وتستمر في الحكم الا على اساس القيام بهذا التعديل.
اننا نتهم حكومة السيد جميل مردم بالتآمر على الدستور ومصلحة الامة. فالدستور لا يجيز لها ان تقف هذا الموقف السلبي من تعديل قانون الانتخاب، بل يقضي عليها ان تقدم الى المجلس مشروعا بالتعديل وتلقي عندئذ مسؤولية قبوله او رفضه على المجلس نفسه، خاصة وان القيام بتعديل القانون الانتخابي كان ابرز نقطة في بيانها الوزاري. اما مصلحة الامة فلا تسوغ ان تتجاهل الحكومة أمرا حيويا كهذا الامر، ورغبة عميقة شاملة عبر عنها الشعب بكل الوسائل واقوى الطرق، لانها تتصل بأمله في التقدم وحرصه على توطيد دعائم استقلاله.
ان الفئة الحاكمة في سوريا ما فتئت منذ أربع سنوات تتآمر على الحكم الدستوري بغية الوصول الى حصر جميع السلطات في ايدي افراد معدودين يمثلون مصالح اسر اقطاعية لا تعيش الا لتستغل الشعب وتسرق ثمار تعبه وجهده، ولا تفكر الا بعقلية الطغاة والمستبدين. وهي الآن ماضية في مؤآمراتها، تحاول ان تسد على الشعب ابواب التحرر والانعتاق، واول ما ترمي اليه من وراء احتفاظها بقانون الانتخاب الاستعماري ان تطعن النظام الجمهوري في صميمه، فتعدّل الدستور لتحويل الحكم الجمهوري الى حكم فردي دكتاتوري.
تلك هي رغباتها الاجرامية، ولكن حيوية الشعب العربي، ووعيه المتنامي، وارادته التي يزيدها النضال قوة وصلابة، سوف تقضي على هذه الرغبات، وتحبط المؤآمرات، بوقفة جبارة عنيدة تقفها الامة بمختلف طبقاتها وهيآتها، في الايام القريبة الآتية، لتقول للحكومة ولمن يشايعها في المجلس: لقد دخل الشعب ميدان العمل القومي، فلترتعد فرائص المستغلين والمستهترين!
ميشيل عفلق
23 نيسان 1947
(1) افتتاحية جريدة “البعث”، العدد 156 الصادر بتاريخ 23 نيسان 1947.
انجازان في عام واحد
اذا زال العائق الأجنبي ظهر الشعب بوجهه الحقيقي
لم يكد يمضي عام واحد على جلاء المستعمر عن أرضنا(1)، حتى كان الشعب العربي في هذا الجزء المتحرر من وطنه الأكبر قد قدم جملة براهين عملية قوية على إن الإستعمار، بما يخنق في الأمة من مواهب ويكبت من قوى وإمكانيات ويشوه من أخلاق ويزيف من قيم، لهو اكبر نقمة يمكن أن تحل بها، وان الإستقلال هو حقا نعمة الله الكبرى.
إن ما حققه الشعب خلال هذا العام قد جاء ردا صارخا عنيفا على كل المستعمرين الغاشمين الذين كانوا يفترون على شعبنا الافتراءات، فيصغرون من شانه، ويطعنون في حيويته وكفاءته وخصائصه فلقد تطور الشعب بسرعة عجيبة هي من ابرز خصائص العرب، وبرهن بأجلى صورة على أن فيه استعدادا صادقا أصيلا، ليس لان يلحق بركب الأمم الناهضة فحسب، بل لان يكون لها في اقرب وقت، خير مثال للتحرر والتقدم.
لقد قام شعب سوريا العربي، خلال هذا العام، بعملين خطيرين يصح بان يؤلفا معا ثورة سياسية اجتماعية، وبان يخلدا في تاريخ الأمة العربية فتذكرهما الأجيال الآتية كما يذكر الانكليز حادث “العهد الكبير” وكما يذكر الفرنسيون يوم سقوط الباستيل. أما العمل الأول، وهو القسم السلبي من تلك الثورة الخطيرة، فقد تم قبل ستة أشهر، حين اجتمعت البلاد، بوعي عميق رائع، على مقاومة المحاولة الدكتاتورية التي قامت بها حكومة “الملاكات”. فكانت تلك المقاومة السلبية أول ظفر للشعب بحريته الداخلية بعد أن كسب حريته الخارجية بإجلاء الأجنبي عن ارض الوطن. وهكذا أصبح الدستور، منذ ستة أشهر فقط، ملكا حقيقيا للشعب، امتلكه امتلاكا نهائيا كاملا بعد أن أدى ثمنه على دفعتين: الأولى في نضاله ضد الإستعمار. والثانية في نضاله ضد الفئة الحاكمة المستغلة، تلميذة الإستعمار ووريثته.
وأما القسم الثاني الايجابي لهذه الثورة، فهو العمل الذي تم اليوم بتحقيق الانتخاب على درجه واحده، وإذا جازت المفاضلة بين عملين كل منهما جزء متمم للآخر، وكل منهما عظيم خالد، فلا شك إن الأخير منهما هو الأجل في الشأن والأعظم في الأثر، وهو الذي يكمل الأول ويعطيه معناه الحي، ومدلوله العملي.
إذ لو لم ينل الشعب هذا الظفر الحاسم في معركة قانون الانتخاب، لبقي ظفره في معركة الملاكات والدستور ناقصا أجوف، ولبقيت الحريات العامة، التي كسبها بنضاله العنيد المجيد شيئا نظريا سلبيا، لان الحرية التي لا يدعمها دخول الشعب في ميدان السياسة، وممارسته الصحيحة لحقه في انتخاب ممثليه، ليست سوى لغو وترف عقيم، وأداة للهدم والتخريب، تتيح للشعب أن يتظلم، دون أن يجد سبلا إلى ما يزيل الظلم عنه، وتسمح له بان ينقد ويعترض، بينما تحرم عليه أن يصلح ويبني. وأخيرا لان الحرية التي لا تتجسد في حكم شعبي صحيح، هي حرية واهية الأساس، مضعضعة البنيان، معرضة في كل لحظة للغدر والعدوان من قبل مجالس نيابية على شاكلة المجلس الحالي، تتشكل الأكثرية فيها من طبقة مناوئة للشعب، متآمرة عليه، غريبة عن روحه، عدوة لمصلحته.
لقد خطا الشعب خطوتين حاسمتين في طريق المستقبل العربي الحر الموحد الراقي. وان لمن حقه أن ينظر إلى هذا المستقبل نظرة ثقة وتفاؤل، كما ان من حق العرب في سائر أقطارهم أن ينظروا إلى سوريا العربية نظرة أمل ورجاء، فلقد برهن شعبها المناضل الواعي على انه يقدر نعمة الإستقلال ومسؤوليته، ويعرف كيف يفيد من هذا الإستقلال لبناء حكم شعبي عادل حر، يكون فيه للعرب قدوة ومعونة، فيرون فيه الصورة الصادقة للشعب العربي إذ يتخلص من شوائب الحكم الأجنبي، ويجدون فيه المساعدة الصادقة الفعلية لهم في نضالهم من اجل الحرية والوحدة.
ميشيل عفلق
30 نيسان 1947
(1) جريدة ” البعث ” العدد 161
بيان عن تزوير الانتخابات في لبنان
ان الانتخابات التي جرت مؤخرا في لبنان (1) ليست بالحادث المحلي الذي يمكن ان يهمل ويسكت عنه، بل هي ذات مساس مباشر بمصلحة الشعب العربي العليا، وذات أثر عميق في حاضر هذا الشعب ومستقبله.
ولقد دلت هذه الانتخابات على ثلاث ظواهر:
1-ان الحكومة اللبنانية، بلجوئها الى أساليب التزوير والتلاعب، وأعمال الارهاب والضغط، في بلاد حرة مستقلة قد أساءت اكبر إساءة الى الاستقلال الذي تدعي لنفسها شرف الحصول عليه والدفاع عنه، وبرهنت مرة اخرى على انها تتخذ من الاستقلال ستارا ووسيلة لاحتكار واستغلال نفوذه وخيراته.
2- ان السياسة التي اتبعتها الحكومة اللبنانية في الانتخابات قد قرنت اسم الاستقلال بأعمال الغش وتشويه الحق والتعدي على الحريات، الى حد كاد يجعل النزاهة والحق والحرية في صف الخونة وصنائع الأجنبي، مما يقوي هؤلاء ويثبت أقدامهم في البلاد، ويكسبهم عطفا لا يستحقونه، بدلا من ان يقضي على البقية الباقية منهم ويمحو آخر اثر من آثارهم.
3- ان الغاية الحقيقية التي ترمي اليها الحكومة اللبنانية من وراء تذرعها بمحاربة أعداء الاستقلال هي الحيلولة دون نجاح العناصر الواعية المخلصة التي تمثل حاجات الشعب العربي في لبنان ورغباته تمثيلا صادقا وتشكل الخطر الحقيقي على الفئة الحاكمة ومطامعها في السيطرة والاستغلال.
فالشعب العربي في سوريا اذ يعلن استنكاره الصارخ لأعمال الحكومة اللبنانية، وتأييده المطلق لشعب لبنان الشقيق في مطلبه العادل الحق بالغاء هذه الانتخابات المزورة وفسح المجال لظهور الارادة الشعبية الصحيحة، ويعرف معرفة واضحة ان ما حدث في لبنان لن يكون شيئا مذكورا بالنسبة الى ما يتوقع حدوثه من قبل الفئة الحاكمة في سوريا بمناسبة الانتخابات المقبلة القريبة. لذلك فهو يشعر شعورا عميقا قويا بضرورة التضامن مع شعب لبنان الشقيق في سبيل وضع حد حاسم لهذا النوع من الحكم الجاثم على صدور السوريين واللبنانيين، الذي هو في الواقع أشد خطرا على الاستقلال من أطماع الدول الاستعمارية ودسائس عملائها المأجورين وانه ليغتنم هذه الفرصة ليعلن منذ الآن للفئة الحاكمة في سوريا، دون استثناء او تفريق بين أشخاصها، سواء كانوا وزراء أم رؤساء، وسواء أكانوا في الحكم أم خارج الحكم، انه مصمم على النضال المستميت من اجل انتزاع حريته واسترداد حقوقه القومية المقدسة، غير مبال ولا منخدع بالتصريحات الرسمية عن حياد رجال الحكم في الانتخابات، لأن السلطة التنفيذية قد أمست مشبوهة كلها في نظر الشعب فلا ينتظر منها الا الخداع والتآمر.
ان حزب البعث العربي الذي ما برح يناضل في سبيل استقلال الشعب العربي وحريته ووحدته في سبيل مصلحة الطبقة الشعبية الكادحة، يقف اليوم ليضم صوته وجهوده الى جهود جميع المناضلين العرب في لبنان وكل قطر عربي آخر، مهيبا بهم الى مواصلة النضال ومضاعفته لكي تخلص الحركة العربية من شوائب الطغيان والاستثمار، وتظهر بوجهها الحقيقي المؤتلف مع فكرة الحق ومبدأ الحرية وسيرة العدل والاستقامة.
عميد “البعث العربي”
ميشيل عفلق
دمشق في 30 آيار 1947
(1) بيان من حزب البعث العربي الى الشعب العربي في سوريا ولبنان يطالب فيه بالغاء الانتخابات لبنان المزوره وتوحيد نضال العرب ضد الطغيان والاستثمار. وقد نشر في جريدة “البعث”، العدد 184 الصادر في الاول من حزيران 1947.
حزب البعث العربي الإشتراكي يطلب ترخيص له رسميا بممارسة نشاطه السياسي
كان الحزب سنة 1945 قد انطلق، ولم يعد احد يشك في وجود وفي تقبل الشعب له، وان كانت الأكثرية الساحقة من أعضائه لا تزال من الطلاب الثانويين او الجامعيين. وكانت المناسبات التي وقعت في سنة 1945 متلاحقة (توقيف صلاح البيطار ومحاكمته ونفيه وما كان يتخلل ذلك من اصدار بيانات والقيام بمظاهرات ضخمة، ثم التصدي للشيوعيين ولإساءاتهم وتحديهم لمهرجان العامل العربي، وأخيرا تشكيل فرق للجهاد الوطني وقيام هذه الفرق مع قيادة الحزب بزيارة الأحياء الشعبية في ايام الخطر والتوتر)، بشكل ان الحزب تغلغل في الوسط الشعبي وأصبح معروفا ومواقفه معروفة ومحترمة. صحيح ان معظم قوته وعدده في ذلك الوقت كان لا يزال في دمشق، ولكن الفروع كانت ايضا آخذة بالتشكل في المدن والمناطق كحمص واللاذقية وحلب. (أصبح عدد اعضاء الحزب في هذا الوقت يقدر بالمئات).
كانت القيادة العليا في ذلك الوقت تتألف في أول الأمر من الأستاذ ميشيل عفلق والأستاذ صلاح البيطار، ثم ادخل اليها الدكتور مدحة البيطار، وبعد هذا التاريخ بقليل ادخل ايضا جلال السيد.
وبضوء تنامي حجم الحزب التنظيمي وتصاعد دوره النضالي، قدم الحزب كتابا الى وزارة الداخلية في العاشر من تموز عام 1945 يطلب فيه الترخيص له بالعمل. وقد رفضت الوزارة هذا الطلب.
وفي عام 1946 اي بعد سنة تقريبا من تاريخ تقديم طلب الترخيص الاول، اعلنت الحكومة انها تسمح بتأليف الاحزاب، فتقدم الحزب بطلب آخر للترخيص له بممارسة نشاطه السياسي، ولكن الحكومة لم تجبه بشيء. وفي الثاني من حزيران1947 أعاد الحزب تقديم طلب آخر لوزارة الداخلية لنفس الغرض.
وفيما يلي نص الطلبين اللذين تقدم بهما الحزب الى وزارة الداخلية في 10/7/1945 و 2/6/1947.
*****
الى وزارة الداخلية:
ان ما حاق بسوريا من شرور وآثام منذ الحرب العالمية وطيلة ربع قرن، وما حل بعرب سوريا من تنكيل واضطهاد على يد مستعمر باغ هدف منذ يوم احتلاله الى إبادة العرب، وقتل الروح العربية وإذلال الأمة العربية، قد بعث من بين الآلام والشجون، وفي كل بقعة من سوريا، رجالا صادقين في عروبتهم، مؤمنين بقدر أمتهم حاملين لرسالتها فرحين بما يتحملون من مشقة وعناء في سبيل رفع شأنها وإعلاء كلمتها.
ولقد أتاحت ظروف مختلفة لتلاقي بعض هؤلاء الرجال وتالف قلوبهم على حب أمتهم وتوحيد كلمتهم وجهودهم في سبيل بعثها والنهوض بها. وكان من نتيجة تمثلهم لروح أمتهم ووعيهم لحاجاتها العميقة، ومن نتيجة مساهمتهم في العمل القومي خلال اكثر من عشر سنوات، ما جعلهم يمشون في طريق شقوها بأيديهم وعقولهم بعيدة كل البعد عن الطرق السياسية السهلة التي مشت فيها الحركات الوطنية في بلادنا.
هكذا نشأت حركة البعث العربي منذ عدة سنوات، ومضت دون كلل تبشر بفكرتها وتدعو الشباب في جميع الاقطار العربية الى اعتناقها وتنفيذ تعاليمها. وقد وصلت اليوم الى نقطة تستطيع معها ان تخطو بقوة واطمئنان الخطوة الإنشائية التنظيمية، وتنقلب حزبا قويا يصب فيه كل عربي مؤمن ما عنده من خير وعروبة في سبيل بعث أمته، وبصورة تأتي معها النتائج متناسبة مع ما يصرف في سبيلها من مجهود.
ونحن اذ نتقدم الى الحكومة ونعلمها بتأليف حزبنا القائم على مبادئ قومية وأفراد تتمثل فيهم هذه المبادئ، لا نجهل وجود نزعة سائدة عند بعض رجال الحكم لإعاقة قيام الهيئات والأحزاب السياسية التي لا يقوم من دونها حكم دستوري صحيح، ولكننا نأمل ان تسيطر الروح الدستورية على النزعة الشخصية في مثل هذه الشؤون القومية، وان يقابل طلبنا هذا بما يستحق من تقدير وترحيب وبعد نظر، فيرخص لحزبنا بأداء مهمته في جميع المناطق السورية وفي مختلف نواحي نشاطه.
وعملا بأحكام المادة السادسة من قانون الجمعيات نرفع هذا البيان مع نسختين من مبادئ الحزب ونظامه مع اسماء هيئته التنفيذية وعنوان مقره الموقت.
وتفضلوا بقبول فائق الإحترام.
الهيئة المركزية التنفيذية
ميشيل عفلق، صلاح الدين البيطار، مدحة البيطار
دمشق في 10 تموز 1945
*****
الى وزير الداخلية المحترم :
منذ سنين ونحن نلاحظ خطأ الأسلوب المتبع وانحرافه في معالجة مشاكل المجتمع العربي: فمن جهة يلاحظ ابتعاد الحركة القومية عن الشعب مما أدى الى فتور النضال وضعفه ودخول الاستغلال والانتهازية فيه، ومن جهة ثانية شاهدنا خلو الحركة القومية من كل ما هو ايجابي يقويها وينظمها من ناحية الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. ومن جهة ثالثة لاحظنا تفكك الحركة القومية وترديها في نطاق العمل الإقليمي الضيق.
كل هذا أشعرنا بان على العرب ان يوقفوا هذا التدهور بنتيجة تحول عنيف واستجماع للإرادة ووعي إمكانياتهم الكامنة فيسيروا في طريق جديد صاعد يستمد قيمه وأحكامه وغايته من الخلق العربي الأصيل ومبادئ الرسالة العربية المتعالية على الواقع ونسبية أحكامه، وبالتالي كل هذا أشعرنا بالحاجة الماسة الى عمل عربي جديد تكون مميزاته:
1- الصفة الشعبية الحرة في القيادة والتنظيم.
2- النظرة القومية الايجابية الشاملة لجميع نواحي الحياة العربية يكون ابرز ما فيها الاشتراكية في الناحية الاقتصادية.
3- الفكرة العربية الواحدة التي ينتج عنها عمل عربي واحد.
ولما كان هذا العمل يقتضي بالضرورة وجود منظمة سياسية تعمل على تحقيق هذه الأهداف، فقد أسسنا عام 1940 نواة حزب البعث العربي. وباشرنا التنظيم العلني الواسع عام 1943.
ان حزب البعث العربي جاد منذ نشوئه في إبراز الفكرة العربية وتحديدها وتوضيحها وبيان الأهداف والغايات التي تقوم عليها نهضة العرب الجديدة. وقد كان لمواقفه العملية المتكررة أثر لا ينكر في محاربة الاستعمار وتثبيت دعائم الحرية والتمسك بالنظام الجمهوري وتقويته لأنه النظام الأصلح لممارسة الشعب حقوقه، وتكوين رأي عام عربي قائم على تقديس الفكر ومحاربة الخرافة والجهل والتدجيل والطغيان والاستثمار وهو يواصل نضاله في سبيل بناء مستقبل خليق بماضي العرب المجيد وبحاضر الأمم الراقية.
وكنا تقدمنا في مناسبتين مختلفتين الى الحكومات السابقة طالبين إعطاء حزبنا ترخيصا يسمح له بممارسة نشاطه الحزبي فلم نحظ بجواب. الا ان هذه السياسية التعسفية التي انتهجتها الحكومات السابقة باعتدائها على الحريات العامة لم تسعنا من المضي في تنظيمنا الحزبي واداء رسالتنا القومية.
ولما كان حق تأليف الأحزاب حقا طبيعيا كفله الدستور وليس لأي سلطة ان تنتقصه وتضع العوائق في وجهه وتمنع الأفراد من ممارسته.
وكان ليس من الحكمة ان تكون الأحزاب قائمة وموجودة بالفعل وتمتنع الحكومة عن الاعتراف بها بشكل رسمي، وكان استمرار هذا الوضع مما يضر بالمصلحة العامة.
وحيث ان الحكومة الحالية أعلنت استعدادها بالترخيص للأحزاب. لذلك فقد تقدمنا بطلبنا هذا، مرفقا بدستور الحزب، ونظامه الداخلي مجددين طلبنا السابق.
واقبلوا فائق احترامنا.
عميد حزب البعث العربي
ميشيل عفلق
دمشق في 2 حزيران 1947
آن للشعب ان
يفضح المؤامرات ويقضي عليها
دمشق مسؤولة عن مصير البلاد كلها (1)
قبل يومين او ثلاثة أفضى رئيس الوزراء بتصريح أدّعى فيه ان حكومته حكومة حيادية، وان الدليل على حيادها هو انها موضع هجوم المعارضين والمؤيدين على السواء.
ويهمنا هنا ان نكتشف عن المغالطة التي تكمن في هذا الادعاء. ان المعارضة التي تهاجم الحكومة وتنكر عليها حيادها، والتي عناها رئيس الوزراء في كلامه هي المعارضة الشعبية التي تكاد تشمل مجموع الشعب والتي لم يكن لها في المجلس الراحل من يمثلها، في حين ان المؤيدين الذين يشتركون في المهاجمة انما هم من نواب ذلك المجلس، ويكاد لا يكون لهم وجود خارجه. اما المعارضة البرلمانية فهي مؤيدة لبقاء الحكومة الحاضرة لأنها مشتركة فيها مطمئنة اليها. فرئيس الوزراء يغالط اذن عندما يدعّي ان المعارضة تهاجم حكومته، لان المعارضة التي يهتم بها ويحسب لها حسابا هي المعارضة البرلمانية، وهذه مؤيدة له، في حمص وحماه وحلب. وهو يغالط مغالطة أبشع وأفظع عندما يحاول ان يوهم الشعب بأن المؤيدين -والذين هم ليسوا سوى بعض افراد الفئة الحاكمة وأتباعها- انما يهاجمون الحكومة لخوفهم من تدخلها في الانتخابات، لان مهاجمتهم لها هي في الواقع لخوفهم من عدم تدخلها التدخل الكلي لنصرتهم وضمان النجاح لهم وحدهم، دون اشراك احد معهم من أفراد المعارضة البرلمانية الممثلة في الحكومة الحاضرة.
لم ينس الشعب بعد ان الوزارة الحاضرة تشكلت بنتيجة ثورته على حكومة الملاكات المشؤومة، مما أتاح للمعارضة البرلمانية التي وقفت أثناء تلك الازمة -تحت ضغط الشعب واحراجه- موقف المدافع عن الدستور والحريات العامة، ان تدخل في الوزارة ممثلا لها يدعم موقفها في الانتخابات المقبلة. ومنذ ذلك الحين تظاهر بعض المؤيدين، من أعضاء حكومة الملاكات الدكتاتورية وأنصارهم، بالمعارضة للحكومة الحاضرة، لا لان أكثر أعضاء هذه الحكومة ورئيسها ليسوا من حزبهم، بل لانهم تساهلوا بقبول وزير واحد من غير حزبهم، مما يخل بالقاعدة التي درجوا عليها وهي الاستئثار المطلق بالحكم.
فالهجوم الذي يوجهه اليوم الى الحكومة بعض المؤيدين من “الكتلويين” او اعضاء “الحزب الوطني” الجديد، في المدن الثلاث حمص وحلب وحماه، يقصد منه إصلاح ما طرأ على القاعدة من خلل جزئي، والرجوع الى ذلك الاستئثار المطلق، بان يبعد عن الحكم الوزير المعارض الوحيد الذي كان وجوده في الوزارة كافيا لكي ينعش زملاءه من النواب المعارضين في مدن ثلاث كبيرة، ويرفع ضغط الخوف عن أنصارهم. فيهدد بذلك حزب الفئة الحاكمة في تلك المناطق بالزعزعة والانهيار.
هذا هو الحياد الذي يدّعيه رئيس الوزراء: تسوية ومساومة بين الاكثرية والاقلية من نواب المجلس السابق، على حساب الشعب وحريته ومصلحته، تدخل وضغط وتلاعب من قبل الحكومة لمصلحة الطرفين المتعاقدين، بنسبة أهمية كل منهما وقوته.
ولئن شقّ على الفئة الحاكمة ان تقبل هذه التسوية، وهي التي ما اعترفت بالمساواة لوطنيّ غيرها ولئن آلمها ان تلجأ الى تلك المساومة، وهي التي ما اعتادت ان تساوم غير الاجنبي، فهي بالرغم من ذلك راضية مطمئنة، ورضاها واطمئنانها يعودان الى سببين هامين:
اولا- لأن الخصم الذي تعاقدت معه هو خصم وليس عدو، يختلف عنها في الدرجة لا في النوع وهو ان لم يكن من الفئة الحاكمة فانه من الطبقة الحاكمة، طبقة الاقطاعيين ومحترفي السياسة، وهو على كل حال بعيد كل البعد عن الشعب وعن تمثيل المصالح الشعبية الصادقة.
ثانيا- لأن دمشق، وهي عاصمة البلاد ومحور سياستها، بقيت بعيدة عن المساومة، وحيدة في نضالها ضد طغيان الفئة الحاكمة، لم يمثل الشعب فيها طوال السنوات الاربع الاخيرة في المجلس نائب واحد، وليس لها، ولا يعقل ان يكون لها في الحكومة احد ترى الطبقة الشعبية في وجوده ضمانة لرفع الضغط عنها، ودفع التعدي عليها، والوقوف بصدق وجرأة في وجه التلاعب والتزوير.
هكذا حسبت الفئة الحاكمة حسابها، ودبرت مؤامرتها، فهي عندما رأت ان لا مناص من الاعتراف بالمعارضة، اعترفت بمعارضة المجلس لكي تتجاهل معارضة الشعب، واتفقت مع معارضة المجلس في عدد من المحافظات، لكي تقوى بها على قتل المعارضة الشعبية في المكان الذي له التأثير الاول والاكبر في توجيه المجلس ومراقبة الحكومات وتقرير سياسة الدولة، اي في دمشق.
ولكن شعب سوريا العربي الذي خبر نتائج تلك المؤآمرة الاجرامية التي كفلت قبل اربع سنوات نجاح القائمة الحكومية بكامل عددها، وعرف أن عزل مدينة دمشق عن السياسة كان السبب الاساسي في استهتار الحكومات وعجز المجلس النيابي وارتكاب افظع انواع الظلم والسرقات، يعرف الآن أن اول واجب قومي يترتب عليه تجاه مستقبله ومصيره هو أن يتضامن ويهب لزحزحة كابوس الفئة الحاكمة عن عاصمة بلاده. لأن في ذلك وحده مفتاح حل الأزمة السياسية المستعصية التي يعمّ أذاها البلاد جميعا.
أما أهل دمشق وضواحيها فيعرفون أن مسؤوليتهم ستكون في هذه الفترة مسؤولية تاريخية. ان التدهور الذي يقود رجال الحكم اليه البلاد لا يوقف الا اذا وقفت دمشق في وجه استئثار هؤلاء الرجال واستهتارهم. ولقد استطاعت دمشق التي لم يكن لها في المجلس او في الحكومة رجل واحد يمثلها ان تفرض ارادتها على المجلس وعلى الحكومة مرتين حاسمتين خلال العام الأخير. وهي اليوم، بعد أن زادها النضال قوة ووعيا، اقدر منها في اي وقت مضى، على ضربه الضربة الثالثة والاخيرة لتصفية حساب الاستعمار وتلاميذه.
ميشيل عفلق
15 حزيران 1947
(1) افتتاحية جريدة “البعث”، العدد 195 الصادر في 15 حزيران 1947.
مبرر نشوء البَعث
اذا كانت البرامج(1) هي أهم ما يصف الأحزاب ويعرّفها، فثمة شيء آخر قلما يعيره الناس اهتماما مع انه لا يقل عن البرامج قيمة وأهمية هو: الحالة النفسية التي يصدر عنها الحزب.
لقد نشأ حزب “البعث العربي” في وقت وظروف كانت فيها ثقة الأمة بأفرادها وقادتها قد تزعزعت وأوشكت ان تنهار، فالقيادة القديمة التي أولاها الشعب ثقته في بدء مرحلة النضال السلبي عجزت عن مجاراة الشعب في نضاله وأخذت تساوم الأجنبي على إنهاء هذا النضال وافتتحت عهد السياسة الإيجابية قبل الأوان واستطاعت ان تقيم الدليل بأقصر مدة ممكنة على نفعيتها وانتهازيتها وضعف كفاءتها.
لقد خيّبت القيادة القديمة أمل الشعب بها في نواحٍ رئيسية ثلاث: فهي تراجعت عن أمنية الشعب العربي في الوحدة العربية الكبرى وكادت تنحصر في نطاق العمل القطري، وهي قد نفضت يدها من العمل الشعبي النضالي واستسلمت لوعود الأجنبي ومغريات الحكم، وهي أخيراً قد أظهرت في حكمها من ضروب الفوضى والفساد ومن أساليب الإستئثار والإستثمار ما هوى بالحركة العربية من سماء الرسالة الى حضيض الحرفة والتجارة.
تلك هي الحالة النفسية التي كانت تسود الشعب والتي استدعت ظهور تصحيح لها فكان حزب “البعث العربي”. ونعتقد ان عكس هذه الحالة هو الذي كان سائداً عند ظهور الحركة الوطنية القديمة وتشكل حزب الكتلة .
كانت الأمة إذ ذاك ضعيفة الثقة بنفسها لذلك منحت ثقتها سهلة رخيصة لأي فرد كان يتقدم لخدمتها ويدّعي تمثيل إرادتها والقدرة على تحقيق هذه الإرادة. كان أهم شيء في نظر الشعب في تلك الأوقات هو ان يصمد لوطأة الإستعمار ويُبقي على حياته ووجوده، غير مبال بالشكل الذي يمكن ان تتخذه تلك الحياة، وبالمعنى الذي يتضمنه ذلك الوجود، لقد كانت المسألة مسألة بقاء او فناء.
ولكن بعد أن قطع الشعب العربي أشواطاً في الجهاد والنضال أعادت له شعوره بعِظم أهدافه ومراميه وحقيقة وجوده العربي الأصيل، فلم تعد المشكلة بالنسبة اليه مجرد البقاء والحياة، بل الحياة العربية البناءة الصادقة .
هكذا أدّت به المقارنة بين آماله الواسعة وإمكانياته الغنيّة وبين عجز القيادة القديمة وتقصيرها الى نزع الثقة من كل من يتصدى للقيادة، والى التشكيك في مقاصد كل من ينبري للعمل العام.
في تلك المرحلة الجديدة من تاريخنا الحديث، كاد عجز القيادة الوطنية ان يسلّم افراد الأمة لليأس وما يجرّه اليأس من جمود او انحراف. لقد وجدت الدعوات الضارة والحركات الشعوبية مرتعاً خصيباً لعملها وافسادها، وأوجدت عذراً وذريعة لكل من أغراهم اليأس بالفرار من تحمل مسؤولية أمّتهم فراحوا يلوذون بأحلام عقيمة مستحيلة تخرجهم من دائرة قوميتهم وشخصية أمّتهم وتاريخها، او يؤثرون التقلص والإنكماش في نطاق قوميات صغيرة مصطنعة، كل ذلك بدافع الفرار من مجابهة الواقع وواجب معالجته المعالجة الصحيحة الناجعة.
وقد كان الواجب ان توجد الفكرة التي ترتفع الى مستوى استعداد الشعب العربي للنضال، وتتسع لكل ما يتمخض عنه هذا الشعب من قوى الإنشاء والإبداع.
سيذكر الشعب العربي “للبعث العربي” انه وجد في الوقت المناسب والظرف العصيب ليرجع بأسلوبه النضالي المثالي الى الأمة ثقتها بنفسها وبأفرادها، وليتسع بفكرته الإنقلابية الإيجابية الشاملة لكل ما يلبّي حاجاتها دون ما رجعة او انحراف، دون ما جمود او جحود .
ولكن “البعث العربي” ما برح يذكر وهو لن ينسى ابداً ان وجوده كله مستمد من الشعب العربي وانه لا فضل لرجاله وافراده في تكوين الفكرة وتنظيم الحركة، لانهم لم يكونوا سوى مفصحين عن حاجة عميقة في الشعب، وناقلين صادقين لرغبته التي لا يفخرون بغير السبق الى تلمسها و تلبية ندائها.
أيّها الإخوان
حدّثكم الخطباء عن الإنتخابات وهي حديث هذه الأيام وقالوا ان الشعب ينتظر ان تكون نتيجة الإنتخابات إنهاء لفلسفة عقيمة مشؤومة، إنهاء لعهد أسود، إنهاء لصورة كاذبة أراد القائمون على الحكم في سوريا وفي باقي الأقطار العربية ان يظهروها كأنها الصورة الحقيقية لأمتنا الكريمة الأبيّة.
والواقع هو ان في البلاد العربية اليوم اتجاهين يحمل كل منهما عن المجتمع العربي صورة جد مختلفة عن الصورة الاخرى، وعلى الشعب اليوم عندما يقوم بممارسة حقه في الانتخاب ان يختار بينهما: مجتمع سادة وعبيد، يحكم فيه الشعب بالضغط والخوف والتلاعب والكذب في سبيل حصر الجاه والثروة بين ايدي عدد قليل من محتكري النفوذ ومحترفي السياسة ويكون فيه طريق العمل والتقدم مفتوحاً ومعبّداً امام المواطنين بقدر ما يظهرونه من خضوع وممالأة للحاكمين ومن استخذاء امام جورهم وسكوت على مؤامراتهم وفضائحهم وتسابق في خدمتهم وتنفيذ اغراضهم. تلك هي الصورة التي تسعى الفئة الحاكمة الى فرضها وتحقيقها.
أمّا الصورة الثانية فهي التي تنبعث عن ارادة الشعب وتتجاوب مع اعمق حاجاته ومشاعره وخصائصه والتي تجد اقوى واصدق تعبير لها في افكار الجيل العربي الجديد وحركاته، فهي صورة مجتمع يكون الشعب فيه مالكاً لمقدراته ممثلاً برجال ينبثقون من اعماقه ويتحسسون بآماله وآلامه، ويدركون ادراكاً عفوياً فقره وجهله ومرضه، ويشعرون بمسؤوليتهم الخطيرة حياله ويمثلون عبقريته الكامنة ونبوغه المكبوت.
مجتمع ينافس ماضيه ويطمح الى استباقه، وينقلب على حاضره، ويحشد كل قواه وامكانياته في سبيل مستقبله. مجتمع تعلو فيه ارادة الشعب على كل ارادة او سلطة او حكومة او زعامة.
هذا ما يريده الجيل العربي الجديد، وذاك ما تريده الفئة الحاكمة، من اقطاعيي البلاد ومحترفي السياسة فيها .
ومن هنا تظهر الخطورة الكبرى التي تحملها –في نظرنا ونظر الشعب– مرحلة الانتخابات القائمة حاليا، لان على نتائجها سيترتب انتصار احدى الارادتين: ارادة الفئة الحاكمة او ارادة الجيل العربي الجديد.
فالشعب العربي وفي طليعته الجيل العربي الجديد يدرك تماما الآن ان سوريا التي سبقت غيرها من الاقطار العربية في التحرر النهائي من الأجنبي تتحمل اليوم مسؤوليتين خطيرتين تجاه نفسها وتجاه الأمة العربية كلها. فهي مسؤولة اولاً عن تقديم البرهان القاطع على ان الاستقلال انما يعني الجدارة والكفاءة لفهم الحرية المنسجمة مع الواجبات القومية، وفهم الحكم الدستوري الاستقلالي وتحقيق الإنقلاب على كل ما خلّفته عهود الإستعمار والظلام من فساد الأنظمة الإجتماعية، وتقييد لقوى الشعب المبدعة، وتشويه لقيم العروبة الرفيعة التي كانت دوماً مؤتلفة ومترادفة مع فكرة الحق والحرية والعدالة .
والمسؤولية الثانية التي تترتب على سوريا في العهد الاستقلالي العتيد هي مسؤولياتها تجاه الاقطار العربية وواجبها في العمل على تحريرها من كل نفوذ أجنبي والسير بها نحو الوحدة المنشودة والعمل على بناء العروبة الحرة الموحدة، ودفع الأخطار عنها، تلك الأخطار المعنوية التي تهدد اخلاقها وكيانها، والأخطار المادية التي تهدد ارضها وثرواتها.
وواضح جداً ان الأحداث التي تعاقبت على البلاد منذ الإنتخاب الماضي حتى الآن، ومواقف الفئة الحاكمة حيال هذه الأحداث واساليبها في معالجة المشاكل الداخلية والخارجية قد برهنت تماماً على ان هذه الفئة قد عجزت كل العجز عن القيام بأعباء مسؤوليات العهد الإستقلالي الضخمة، ذلك لأنها أقامت حكماً مهلهلاً متداعياً لا يستند الى ارادة الشعب ولا يسيره برنامج علمي واضح منبثق عن دراسة شاملة عميقة لمشاكل الوطن وأمانيه.
أيّها الإخوان
تحتل دمشق في هذا الظرف مكاناً بارزاً في الركب العربي له اثره البالغ في تقرير مصير سوريا ومصير البلاد العربية، فهي مفتاح السياسة السورية، والى حد كبير مفتاح السياسة العربية ايضاً. ذلك لأنها غدت بعد فوزها باستقلالها الناجز اليد الطليقة من الجسم العربي المكبل، والزاوية الحرّة من الصرح العربي الذي تعبث فيه اهواء المستعمر وتسيطر عليه فئات من صنائعه ومرتزقيه .
ومما يعزز أهميّة دمشق أيضاً هو ان الحكم في سوريا يتأثر بالدرجة الاولى بجوّها وتياراتها. والفئة الحاكمة، التي تدرك ذلك كله، تحرص كل الحرص على ان لا يفلت الأمر من يدها في هذه المدينة. فهي قد تتساهل وتنحني امام موجات المعارضة في المناطق الاخرى، ولكنها تبذل قواها كلها وتطلق كل ما لديها من اساليب المناورات والدس والفرقة لكي تحطم المعارضة في دمشق، وتفرض رجالها نواباً عليها وتصبح سيدة الموقف فيها.
فدمشق مسؤولة اذن عن قيادة معركة الإنتخابات نحو الظفر، وتغيير مجرى هذا الحكم بتأييد الرجال الأحرار الذين يدركون هذا الواقع الفاسد ويلمسون استياء الشعب ويرسمون البرامج العملية والعلمية الصحيحة للمستقبل .
ان الدلائل كلها تنذر بأن الشعب قد بلغ حداً كبيراً من الإستياء، وان التناقض بين حقيقة الشعب وواقعه، بين ارادته وبين السلطات الرسمية التي تدّعي تمثيله لهو تناقض فاضح مخيف.
لقد بلغ هذا الإستياء والتناقض حدّاً خطيراً لا يزول الاّ بالنضال القوي العنيد والمعارضة الواعية الرافضة لهذا الحكم هي البناء والغيرة على الاستقلال بعينهما وهي نداء الضمير العربي الذي لا يقيم على ضيم ولا يسكت عن ظلم ولا يصبر على اختلال ميزان الكفاءة والعدالة والمساواة.
ايّها الإخوان
هذا ظرف للكلام والتبشير والدعاية في نظر غيرنا، وهو في نظرنا اهم واسمى من الدعاية للأحزاب والأشخاص لاننا نعتبره ظرف التوجيه ومتابعة النضال القومي المجرد عن كل غاية حزبية او شخصية ضيّقة، ونعتقد ان له اصدق مساس بالمصلحة القومية العليا. فلنترك الدعاية لغيرنا ولنبادر الى المسؤولية العامة الملقاة على عاتق كل منا، تلك المسؤولية الضخمة التي ترمي الى تحويل الشعب عن السير في طريق الهاوية.
ان البعث العربي الذي تكلم وعمل في الأوقات التي كان الكلام فيها محرّماً والعمل متعذّراً أيام الإستعمار ووطأته الشديدة والطغيان الداخلي ليس بحاجة لان يتكلم اليوم كثيراً من اجل الدعاية لنفسه لانه مؤمن بأن عليه واجباً قوميّاً خطيراً هو ان يوجه ويذكّر. وان الاساس الذي بني عليه الحزب من الثقة التي لا حد لها بالشعب العربي هو الذي يسمح له بان يتفاءل بالمستقبل كثيراً وان ينتظر من الشعب الذي خطا خطوتين جبارتين في معركة الملاكات ومعركة قانون الانتخاب الاستجابة الى دعوته الصادقة المخلصة لحل أزمة الحكم الفاسد والتطويح بهذه الطبقة النفعية المستأثرة المستعبدة لمصالحها الخاصة.
أيّها الإخوان
ان البعث العربي يعرف مكانه الحقيقي في موكب النضال، وهو اذ يقدم على تحمّل مسؤولياته الجسيمة يدرك تماماً ان الشعب قد يتساهل مع المسيئين ولكنه لا يتساهل مع المخلصين لانه ينتظر منهم أن يحققوا كل الآمال وهذا ما ينتظره في المستقبل القريب.
20 حزيران 1947
(1) كلمة في حفلة البعث الانتخابية، نشرت في جريدة “البعث” العدد 200 و201.
حزبية الحزب الوطني
هي اكبر خطر يهدد الوطن
في هذة الأيام القليلة الحاسمة التي تسبق يوم الانتخابات (1)، يتوجب على الشعب ان يستجمع كامل وعيه، وينبه اعماق ضميره، ويقف وقفة كلها ارادة وعناد في وجه الخطر الذي يفوق سائر الأخطار، وليس اشد في نظر الشعب من خطر الفئة الحاكمة وحزبيتها.
لقد بقي الشعب الى زمن قريب ينظر الى هذه الفئة كمجموعة من الأشخاص فيها الصالح والفاسد ويهمل النظر اليها كحزب له اسلوب ومنطق واتجاه ان يكن مستمدا من عقلية الأشخاص ومصالحهم واخلاقهم، فهو يعلو عليهم ويسيرهم جميعا في طريق لا يستطيعون الانحراف عنه، وإلى مصير لا يقوون على تغييره او تجنيه.
ولكن التجربة الأخيرة التي جربها الشعب قبل اربع سنوات: فتحت عينيه على اشياء كثيرة، فأعاد النظر في تفكيره، واكتسب من الواقع خبرة عرف بنتيجتها ان الفساد هو في الحزب اكثر منه في الأشخاص وأن من طرق الفساد والغش في هذا الحزب انه اخذ يلجأ، بعد ان انكشف للناس زيفه وتتالت مساوئه وفضائحه، الى التستر وراء بعض اشخاصه الذين ظلوا ابعد من غيرهم عن الشبهات.
لقد عرف الشعب بالتجربة المرة القاسية ان الحزب الفاسد لا يجديه ولا ينفع فيه وجود شخص او اشخاص يمكن اعتبارهم صالحين، لأن فساد الحركة يغلب على أفراده، ولأنه لا يتبنى الحركة الفاسدة او ينطوي تحت لوائها ويستطيع التنفس في جوها الا من كان فيه استعداد كبير لمجاراتها في شرها وفسادها.
فالمهمة الكبرى التي يستعد الشعب اليوم للقيام بها هي تحطيم هذه الحزبية الفاسدة -الحزبية الكتلوية- التي امست قبرا تدفن فيه فضائل الأمة وتفيض كفاءتها ونزاهتها وكل استعدادات الخير والابداع فيها. اذن فليس المهم ابعاد شخص او اكثر من هؤلاء عن النيابة والحكم، اذ ان ذلك عديم النفع ومتعذر ما دامت حزبية “الكتلة” او “الحزب الوطني” قائمة لم تهدم وتحطم، لأن “الكتلويين” ليسوا اشخاصا معينين بالذات، بل هم كل شخص قبل او يقبل الدخول في نطاق هذه الآلة الجهنمية، فيستمرئ اساليبها في الاستئثار والكذب والاحتيال، ويذوق حلاوة السيطرة والاستغلال، وتطبق عليه شبكة تبادل المنافع والتضامن على الضلال.
ان الشعب يدرك كل الادراك ان الخطوة الاولى في طريق الاصلاح وتنقية الجو السياسي وفتح باب الامل امام عناصر الخير في البلاد هي اقصاء هذا الحزب بمجموعه، حتى ولو كان لبعض رجاله مزايا وكفاءات، لان في ذلك قضاء على حزب يحكم البلاد بروح العصابات، وبنفسية الشركات الاجنبية الاستثمارية.
واذا جاز ان ينظر في الأشخاص ويفرق بينهم من حيث شدة الخطر او ضعفه، فلا شك ان اشدهم خطرا هم اشدهم حزبية، ولقد تمثلت هذه الحزبية العاتية في وزراء المرسوم 50، الذين كانوا اجرأ من غيرهم في الافصاح عن نوايا الفئة الحاكمة وتصميمها الاجرامي على حصر السلطة بيدها الى الابد بغية استعباد الشعب ونهب امواله وخنق مواهبه وقتل اخلاقه.
في معركة الانتخاب، كما في معارك الحرب، يقضي واجب حفظ البقاء بأن تحصر الجهود كلها في دفع الخطر الداهم. وقد عرف الشعب ان اكبر خطر يهدد بقاءه واستقلاله هو استمرار هذا الحكم الذي تنبع منه وتصدر عنه سائر الأخطار الأخرى، فلولا الحكم الحاضر ومساوئه لما دبرت المؤآمرات الاستعمارية على استقلالنا، ولما استطاعت الحركات الفاسدة ان تنتشر في ارضنا، مستغلة النقمة والاستياء، مستفيدة من الفوضى وتراكم الأخطاء، ولما استطاع الملوثون ان يعودوا من جديد ليظهروا، بالقياس الى رجال الحكم، بمظهر الطاهرين الأبرياء.
ان شعب سوريا العربي الذي رفع عن نفسه، بنضاله العنيد، وطأة الاستعمار الأجنبي، يقف في هذه الأيام الحاسمة موقف الوعي والكرامة والارادة ليرفع عن حياته الاستقلالية الحديثة وصمة الاستئثار والاستثمار، ويقضي على آخر مخلفات الحكم الأجنبي بقضائه على “الحزب الوطني”!
ميشيل عفلق
26 حزيران 1947
(1) افتتاحية جريدة “البعث”، العدد 203 الصادر في 26 حزيران 1947.
مأساة فلسطين وتعديل الدستور السوري
لم تقتصر (1) مصادفات القدر على أنها جمعت في ظرف واحد بين حادثين خطيرين في حياة العرب هما مشروع تقسيم فلسطين ومشروع تعديل الدستور السوري، بل إن هذه المصادفات قد ذهبت إلى أبعد من ذلك فجعلت أمر وقوع هذين الخطرين على حرية فلسطين العربية وحرية الشعب العربي في سوريا معلقا على تصويت “أكثرية الثلثين” من أعضاء هيئة الأمم المتحدة، ومن أعضاء المجلس النيابي السوري. والواقع ان بين المأساتين اللتين تهيئان للعرب أكثر من وجه للشبه. فالعرب قد نظروا بشيء من التفاؤل إلى هيئة الأمم المتحدة التي تأسست بعد الحرب للدفاع عن مبادئ الحق والعدل والسلام، فإذا بهذه الهيئة تتجاهل حقهم الصريح في أرضهم وارض أجدادهم وتزمع ان تهبها لشعب غريب ظالم باغ. والعرب في سوريا قد نظروا إلى الاستقلال الذي انتزعوه من المستعمر بدمائهم وتضحياتهم العزيزة نظرة كلها الاستبشار والأمل، متوقعين ان يكون الاستقلال محققا للحرية التي حرمهم الأجنبي منها، وللعدالة التي احتجب نورها عن سمائهم زمناً طويلا. ولكنهم فوجئوا غداة نيل الاستقلال بنوع من الضغط على الحرية والانحراف عن العدل لم يعهدوا جزءا منه أيام حكم المستعمر الأجنبي. وها هم اليوم يقلبون أنظارهم بين هيئة الأمم البعيدة وبين “الهيئة الوطنية” القريبة، مذكرين بالمبادئ والعهود، لعل في التذكير نفعا، ولكن أين المؤمنون!.
إن تاريخ الحركة الوطنية في سوريا لم يخلُ منذ بدئه من شوائب الاستغلال والاستئثار، ولكن ما آل إليه الأمر في هذه السنوات الأخيرة، بل في هذه الأيام الأخيرة، من طمع الأشخاص وجشعهم، ومن اشتداد وطأة الأنانية وتعريها من كل حجاب أو نقاب، كل ذلك يدفع الشعب إلى الأسف على أيام الحركة الوطنية الخوالي، بما حوته من هنات وسوءات، والى ذكر أشخاصها وزعمائها بالخير الكثير، لأنهم بالرغم من كل شيء لم يعدموا حسن التقدير والتقديس للقضية التي رفعوا لواءها، وللأمة التي أرادوا تمثيلها، وللدستور الذي جاهدوا للحصول عليه حتى وفقوا إلى وضعه كأمتن أساس لبلادهم وأعلى نبراس لجهادهم.
إن هذا الشعب الذي لن نمل من وصفه بأنه شعب عربي، لنذكر الحاكمين بطباعه وأخلاقه وتقاليده، قد يغتفر لرجال الحكم كثيرا من المساوئ، وقد يغضي عن السرقات والمحسوبيات والتصرفات النفعية ولو إلى حين، ولكن شيئا واحدا لا يستطيع شعبنا ان يطيقه أو يسكت عنه، خاصة وانه قريب العهد بالجهاد الوطني وما يوحيه الجهاد والوطنية من كرامة ووقار، وترفع عن الصغار، هو ان يرى الشخص ساعياً إلى المجد ـ وأي مجد زائف!ـ بغير الأساليب المشروعة واللائقة، بدلا من ان يسعى المجد إليه من محض اختيار الناس وطوعهم، إن الشيء الذي لا يطيقه الشعب هو إن يرى في مطلع عهد الاستقلال والحرية ان الشخص إذا اؤتمن على سلطة عامة، لم يكن أهلا للائتمان فسخرها لنفسه وحصرها في شخصه. ومما يزيد في استغراب الشعب واستنكاره انه لا يجد أي مبرر لتعديل للدستور هو بمثابة القضاء عليه، وان كل المبررات التي تحتج بها فئة التعديل باطلة. فالأضرار التي لحقت بالبلاد من جراء التصميم على تعديل الدستور، ابتداء من الانتخابات النيابية وما جرى فيها من تزوير فاضح شامل، حتى المضبطة (2) في جلسة المجلس النيابي الأخيرة، إنما هي مهزلة لها في حياتنا القومية أضرار بعيدة المدى، عميقة الأثر، لا تقل عن كارثة الغزو الأجنبي، لأنها في حقيقة الأمر تلغم الاستقلال وتصم الجمهورية وتهيء لضياعهما معا.
ولو ان اعلى المزايا اجتمعت في شخص من الأشخاص لما عادلت جزءا يسيرا من هذه الأضرار الأخلاقية والقومية التي جرها على البلاد حبه للتحكم وشهوته في السيطرة والاستئثار. فكيف بنا والحكم الذي يريدون تجديده وتخليده لم يكن سوى سلسلة من الفضائح والمظالم وأعمال التعسف والغش والفساد والإفقار!.
إننا إذ نتطلع في هذا الظرف بأنظارنا وقلوبنا إلى فلسطين المجاهدة المهددة. ونصمم على الاستماتة في سبيل حقنا الخالد فيها. ورد باطل المعتدين. لا ننسى ان قضية الحق واحدة وان حرية العرب لا تقبل التجزئة، فالشعب مصمم بنفس القوة على تثبيت حقه في الحرية والعيش الكريم، وتقديم البرهان للأمم المستخفة بحقوقنا، المتشككة في أخلاقنا ومثلنا على اننا ندفع العدوان من أية جهة أتى ولن يكون الدفاع عن دستور سوريا وإنقاذها من خطر الدكتاتورية اقل قدرا ونفعا وسمواً، في نظر المصلحة العربية العليا، من الدفاع عن عروبة فلسطين.
16تشرين الثاني 1947
(1) نشر في جريدة “البعث” في 16 تشرين الثاني 1947.
(2) وهي المضبطة التي أريد بها الإحتيال على الدستور لتجديد انتخاب رئيس الجمهورية.
النضال الايجابي سبيل الجيل الجديد الى تحقيق الانقلاب العربي
منذ ايام ذهب طبيب شاب الى بيروت ليحجز لنفسه مكانا على باخرة تنقله الى فرنسا للتخصص في معاهد باريس الطبية، بعد ان تهيأ لهذه الرحلة منذ أشهر. ولكنه سمع عن الحوادث الاخيرة في فلسطين، ونسف اليهود للابنية العربية في يافا والقدس، مما سبب سقوط العشرات من القتلى والجرحى فعاد أدراجه الى دمشق، وتطوع في صفوف الجهاد لانه قدر ان حاجة فلسطين اليه في هذه الاونة -وهو الطبيب الجراح- أمس من حاجته هو الى الاستزادة من العلم. لقد عاد الى دمشق مساء، وفي صباح اليوم التالي كان في طريقه الى فلسطين.
لقد كنا في ذلك المساء واياه على ميعاد في مكتب البعث العربي لنودعه وداعا اخويا، واذا هو يدخل ويفاجئنا بتصميمه الجديد ويطلب موافقة الحزب عليه. والحق ان احدا منا لم يفاجأ بذلك لأننا نعرف رفيقنا حق المعرفة، ولاننا في قرارة نفوسنا كنا نتوقع منه ان يغير وجهة سفره في اللحظة الاخيرة.
ان الحادثة جديرة بأن تثير الاعجاب، وان يكون فيها لشباب العرب قدوة، خاصة اذا لوحظ انها بالنسبة الى صاحبها لم تكن حادثة بل عملا طبيعيا بسيطا، ولكن الذي يعنينا نحن منها ليس اثارة الاعجاب والحماسة وانما القاء ضوء على تفكيرنا القومي السياسي من خلال سلوك هذا الشاب.
ان الذين يؤمنون بأن الوحدة العربية، والانقلاب العربي، ورسالة الجيل الجديد، ليست ألفاظا يتطرف بها الكتاب والخطباء او عناوين وشعارات تتاجر بها الاحزاب، اوذرائع تتخذ لمحاربة الخصوم ورجال الحكم، بل هي حقائق راهنة، وأهداف واقعية وانها هي الغاية التي من اجلها نكتب ونخطب ونشكل الاحزاب ونحارب الخصوم ونعارض الحكومات، ان الذين يؤمنون بذلك كله يعرفون ان الغاية التي يسعون اليها لن تتحقق بالاقتصار على الكلام والنقد، والانكماش والاستنكاف عن كل عمل، بل ان السبيل الوحيد لتحقيقها هو دخول ساحة العمل، والاقبال على التضحيات، وتحمل أعباء النضال بدرجة من الجد والحيوية تظهر للشعب الفارق الجوهري بين القيادة الجديدة وبين قيادة الزعامات القديمة والحكومات. وهم يعرفون أيضا ان الجهاد في سبيل فلسطين هو أرحب مجال، وانسب فرصة، وأصدق امتحان لكفاءة القيادة الجديدة وقدرتها على فرض احترامها واقامة بنائها على امتن الأسس الشعبية النضالية.
ولئن كان اكثر رجال السياسة والاحزاب يتخلون في وقت الازمات العصيبة عن مبادئهم وأفكارهم، ويستسلمون بحجة التصافي وتوحيد الصفوف، للسياسة الحاكمة، أي سياسة التخدير والتضليل والجمود والفوضى، فيبرهنون بذلك على ان المبادئ، والافكار بالنسبة اليهم لم تكن الا مزاحا يجيزه العرف السياسي والتنافس الحزبي في الاوقات العادية، ويصبح غير جائز ولا معقول في ظروف الجد والخطر، فلسنا نرى نحن خيرا من ظروف الازمات والاخطار لكي تزيدنا استمساكا بمبادئنا العربية الشاملة، واقتناعا بفكرتنا الانقلابية وعزما اكيدا على تحقيقها فالعمل بوحيها.
فالعمل الايجابي في سبيل كل قضية قومية، وفي سبيل قضية فلسطين بوجه خاص، ليس امرا يفرضه الواجب القومي فحسب، بل هو من منطق الفكرة الانقلابية التي يؤمن بها الجيل الجديد، والتي تدعوه ان يشق طريقه بين تخاذل الحكومات وتآمر المصالح الاستعمارية والاقطاعية على مصير الشعب العربي، لكي يقود هذا الشعب ويتيح له ان يقبض على قضيته بيده، وينقذها من نتائج التآمر والفوضى والاستغلال. وبدلا من أن يحسب الجيل الجديد ان اقدامه على الجهاد في سبيل قضية فلسطين يوقعه في شراك الفئات الحاكمة المشرفة على هذه القضية، ويشجعها على التضليل والاستغلال، يجب أن ينظر الى نضاله الايجابي كخير وسيلة لانتزاع الاشراف من يدها، ووقف محاذيره أو التخفيف من شروره. فاذا غابت هذه الحقيقة عن اذهان البعض ودفعها الحذر من الحكومات الى التردد في نصرة فلسطين، فانهم بهذا الاسلوب الخاطئ لا يكونون قد حرموا من نشاطهم أخطر قضية قومية فحسب، بل يكونون أيضا قد حكموا على فكرتهم الانقلابية بالعقم والفشل، لانهم أوصدوا في وجهها باب النضال والعمل.
ان النضال الحقيقي لا يكون في يوم من الايام هدما وسلبية وتنكبا عن العمل، بل هو خلق وبناء وعمل ايجابي مثمر، الا ان صفة الخلق والجدة فيه تظهره في أعين الكثيرين، وخاصة في أعين الذين يوجه ضدهم بمظهر السلبية والهدم، لان مجرد ظهور العمل الصحيح يهدم أعمالهم الفاسدة، ومجرد انتاج السبيل القويم يبدو تحديا لاعوجاج سيرهم ومجرد ارتفاع البناء الجديد يحجب النور عن أبنيتهم الهرمة، ويحد من المكان الذي كانت تستأثر به!
10 كانون الثاني 1948
سياستنا الخارجية
لعل وضع الأمة العربية (1) في مرحلة التحرر التي تجتازها وضع فريد في التاريخ السياسي، وما ذلك إلا نتيجة لوقوع الأمة بين عدوين في الداخل والخارج. لا تدري أيهما تناضل وبأي منهما تبدأ.
ففي الوقت الذي تتآمر فيه قوى الاستعمار والصهيونية على مستقبل العرب في فلسطين والبلاد العربية جمعاء، نرى الحكومات العربية تتسابق إلى عقد المعاهدات السياسية وتثبيت الاتفاقيات الاقتصادية مع هذه الدول نفسها التي تعتدي على حقوق العرب وسيادتهم والتي كانت المسبب الحقيقي والعامل الرئيسي في محنتهم الحاضرة في فلسطين، مع ان ابسط قواعد السياسة وأقل واجبات الإخلاص للمصلحة القومية كانت تقضي بأن تتجه سياسة الحكومات العربية، في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر، إلى الابتعاد عن نفوذ الدول المستعمرة لبلادها.
في العالم كتلتان كبيرتان تقتسمان السيطرة والنفوذ فيه. والأمر الراهن أن كل الدول التي تقف عثرة في طريق تحرر العرب ونهضتهم سواء بسيطرتها السياسية واستثمارها الاقتصادي كما هو الحال مع بريطانيا وأميركا بالشرق العربي أو باحتلالها الثقيل واستعمارها الغاشم كما هو الحال مع فرنسا في المغرب العربي، كل هذه دون استثناء متجمعة في إحدى الكتلتين العالميتين. ومن البديهي ان توثيق الروابط مع هذه الدول وتسخير البلاد العربية بمواقعها الحربية وثروتها الاقتصادية الهائلة، ومجرد السكوت والتغاضي عن استعمار البعض الآخر، كل هذا لن يكون من شأنه ان يدعم مركز هذه الكتلة ويرجح وزنها في الصراع العالمي فحسب، بل يؤدي كنتيجة لهذا الدعم والترجيح، إلى تمكينها من بلاد العرب أكثر من ذي قبل واستئثارها بمقدراتهم والقضاء على ما يناضلون من اجل تحقيقه من حرية ووحدة وتقدم.
لو ان العرب كانوا اليوم في وضع خال من شوائب الاستعمار والاحتلال والتجزئة وأرادوا أن يقفوا من الصراع العالمي موقفاً حراً هو اقرب ما يكون إلى مثلهم ومصلحتهم القومية، فلربما كان هذا الموقف أميل إلى جانب الأمم الديمقراطية منه إلى جانب الدول الدكتاتورية، بالرغم من النواقص الفاضحة التي يتبينونها في ديمقراطية الغرب وبالرغم من إمكانيات التحرر والتقدم التي يرونها كامنة في ديكتاتورية المعسكر الأوروبي الشرقي ذلك لأنهم يعرفون حق المعرفة ان الحرية هي جوهر حياتهم وانها كانت الأساس المتين لنهضتهم الماضية وستظل كذلك في المستقبل. ولكن الوضع الراهن الذي يعيش فيه العرب والذي يتصف بفقدان السيادة والوحدة، وبضياع ثرواتهم القومية وحرياتهم السياسية بين المستعمرين الأجانب والإقطاعيين من أهل البلاد يحرم عليهم وقوف ذلك الموقف المثالي، ويضطرهم اضطراراً إلى التنكر لهذه الديمقراطية الغربية التي لا تعني بالنسبة إليهم غير الاستعمار الأجنبي، وتشجيع الطبقة الرجعية المستغلة في داخل بلادهم.
إن في السياسة التقليدية التي تتمشى عليها بريطانيا وأميركا وفرنسا في علاقاتها مع العرب، كما في سياسة الاتحاد السوفياتي نفسه الذي أقدم مؤخراً على طعن العرب في قرار التقسيم، لجهلاً بيناً وخطأ فادحاً، فكلا الطرفين الغربي والسوفياتي لا يمتد نظرهما إلى ابعد من حدود الحكومات العربية، ويتجاهلان أنها شيء عارض بالنسبة إلي تلك الحقيقة الثابتة الراسخة التي هي الشعب العربي. فلو حسب السوفييت، وهم حملة لواء الاتجاه الشعبي حساباً لهذا الشعب، لما كانوا أقدموا في إقرار التقسيم على عمل لم يمله عليهم غير استيائهم من سياسة الحكومات العربية الخاضعة لنفوذ أعدائهم، ولو تبصرت الكتلة الانكلوساكسونية في الأمر جيداً لعرفت ان الصداقة التي يجدر بها ان تنشدها في الوطن العربي لا يمكن إن تقوم أسسها إلا على أشلاء جيوش الاحتلال والاستعمار وتمزيق الاتفاقيات الاقتصادية الظالمة، وإلا على أنقاض هذا الحكم الرجعي الإقطاعي القائم في البلاد العربية والذي تؤيده حراب هذه الدول ودسائسها.
ذلك ما يجدر بساسة الغرب إن يذكروه. أما ما يجب أن يذكره السياسيون العرب فهو:
1- إن البلاد العربية وحدة لا تتجزأ وان مصلحتها هي كذلك.
2- إن أعداء البلاد العربية في الوقت الحاضر هم أيضاً يشكلون وحدة لا تتجزأ، فبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا تتقاسم العالم العربي استعماراً واحتلالاً واستثماراً اقتصادياً، وهي في الوقت ذاته تجتمع في كتلة عالمية واحدة : الكتلة الغربية.
إذن فكل ما يتستر باسم محالفة أو اتفاق أو صداقة مع هذه الدول بعضها أو كلها، هو دعم للاستعمار المفروض على بلاد العرب. وفي الوقت نفسه، فكل إضعاف لهذه الدول، كلها أو بعضها، يخفف من وطأة الاستعمار المفروض على البلاد العربية ان لم يقض عليه.
فمصلحة البلاد العربية لا يمكن ان تكون بشكل من الإشكال في جانب الكتلة الغربية أو في جانب أي عضو من أعضائها، وبالتالي فسياسة الحكومات العربية يجب إن تكون سياسة حياد في النزاع القائم بين الكتلتين العالميتين. لا ان ترتبط مع أعداء العرب بمعاهدات جديدة في الوقت الذي يجب ان تتخلص فيه من كل رابطة تربطها بهم.
ولئن اتخذ النزاع القائم بين الكتلتين شكل نزاع بين الديمقراطية والدكتاتورية فإنه بالنسبة إلى العرب بعيد كل البعد من هذا المعنى، لان دول الغرب الديمقراطية هي عدوة حريتهم واستقلالهم ووحدتهم وهي أيضاً حامية الحكم الديكتاتوري الوطني الذي يشقى به العرب فوق شقائهم بالاستعمار.
21 كانون الثاني 1948
(1) نشر في جريدة “البعث” في 21 كانون الثاني 1948.
في معركة الدستور والحرية
الشعب العربي بكامله يؤيد سورية
تحسب الفئة الحاكمة ان الشعب العربي في سورية سيكون وحيدا في المعركة القريبة التي الجأته الى خوضها دفاعا عن حريته ودستوره (1).
ولكن الحوادث ستكذب حسابها هذه المرة كما كذبتها في الماضي، وكما كذبت حساب صالح جبر وحكومته في العراق، لأن الشعب العربي واحد في جميع اقطاره، يزداد كل يوم وعيا لوحدة مصيره ومصلحته، وشعورا بضرورة التضامن للظفر بحريته وحقوقه فكل يوم يمر على نضال العرب يأتيهم ببرهان جديد على هذه الحقيقة الثابتة: وهي انهم لن يتحرروا من الاستعمار الأجنبي تحررا نهائيا، ولن يتخلصوا في داخل وطنهم من الاستثمار والظلم والفقر والجهل، الا متى اتخذ نضالهم صفتين اساسيتين: بأن يصبح شعبيا حقا، بعيدا عن سلطة الحكومات، وموجها ضد ظلمها واستثمارها، وان يصبح عربيا شاملا لجهود الشعب وقواه في الأقطار العربية جمعاء فاذا فقد شرط من هذين الشرطين، فقد النضال قوته وأخطأ غايته، وليس كمعركة فلسطين مثال تتجسم فيه تلك الحقيقة، اذ ان اشتراك الأقطار العربية في هذه المعركة قد تحقق حتى الآن الى حد بعيد، ولئن لم يؤد النتيجة المطلوبة، فذلك لأنه لا يزال بيد الحكومات وتحت اشرافها، ولم ينتقل بعد الى يد الشعب.
لو ان شعب سورية كان وحيدا في نضاله ضد الفئة الحاكمة، لما كانت له تلك القوة التي ضمنت له النصر بمثل تلك السرعة التي انتصر بها على اعداء حريته في معركة المرسوم رقم 50، وفي معركة قانون الانتخاب على درجة واحدة. ولكنه كان في المعركتين السابقتين كما سيكون في المعركة المقبلة لانقاذ الدستور من التعديل، مدعوما بتأييد العرب جميعا، لأنه يعمل باسم العرب، ويدافع عن حريتهم ووحدتهم وعيشهم الكريم المنشود.
ان ما يشكو منه الشعب العربي في سورية من حكم الاستئثار ونزعة الأشخاص الى التحكم والاستبداد، هو عين ما يشكو منه العربي في مختلف اقطاره. وان الويلات التي تجرها هذة النزعة الشخصية الاستبدادية على سورية، انما هي صورة وخلاصة لما تعانيه بلاد العرب من اثر قمع الحريات وتجاوز القوانين والتلاعب بأموال الدولة ووظائفها، والتضحية بالأخلاق والوطنية ومستقبل الأجيال الصاعدة. فاذا وقفت سورية في وجه هذه السياسة المشؤومة، فان ارادة الأمة العربية لتتمثل في وقفتها. ولن يكون في مقدور شخص او عدة اشخاص ان يغلبوا هذه الارادة.
ميشيل عفلق
23 شباط 1948
(1) افتتاحية جريدة “البعث”، العدد 221 الصادر في 23 شباط 1948.
الجيل الجديد
والمجتمع العربي المقبل
أيها الاخوان
قد تسمعون منا كثيرا ترديدنا للفظة الشعب ومناداتنا باسم الشعب في كل مناسبة ذلك لأننا نؤمن بأن الصفة المميزة للمجتمع العربي الجديد هو انه المجتمع العربي الشعبي. ونحن نريد لهذه الصفة الشعبية شيئين على غاية من الخطورة.
الشيء الاول: ظاهري خارجي، هو ان يعترف بالشعب مصدرا لكل سلطة وسيادة، وان يمارس الشعب فعلا هذه الحقوق الطبيعية التي لا يعترف له بها الا على الورق وبالاسم والشكل فقط. على ان هذه الحقوق لن تصل الى الشعب هبة وتبرعا، او اتفاقا ومصادفة، فهي شيء جوهري في حياة الأمم انتزعتها الشعوب انتزاعا بعد كفاح عسير مرير. وكانت هي العامل الاساسي في استقرار الحياة، وفي امكان تطورها وتقدمها.
ان شعبنا لا يمكن ان يبقى كتلة منفعلة سلبية مسيرة لأنه عندئذ لا يجوز ان ينتظر منه اي عمل ايجابي مبدع انشائي.
ان الشعب اذا لم يتحول الى كتلة منتظمة متناسقة من افراد مسؤولين واحرار يكون وزنا ميتا، وعبئا ثقيلا، وبالتالي يقضي على كل معنى وكل رسالة تطمح الامة الى ادائها. نقول هذا ونحن نسمع في كثير من الاحيان الادعاء بان بقاء شخص من الاشخاص للبلاد والامة امر جوهري وحيوي وانه اذا فقد هذا الشخص تعرضت البلاد كلها للخراب والفناء.
وقد يصح هذا الادعاء اذا بقيت النظرة الى الشعب بأنه هذه الكتلة الميتة المنفعلة التي تتقاذفها الاحداث والظروف دون ان تستطيع تغييرها او التأثير فيها.
ثم ما قيمة الشخص او الاشخاص ما داموا دوما معرضين للزوال؟!. اننا ما لم نبن للبلاد والامة حرزا وحصنا من نفسها: من مجموع افرادها، ومن ترقية كل فرد وشعوره بهذه الحرية المرفقة بالمسؤولية فالبلاد تبقى مهددة في كل لحظة ومناسبة بأدهى الاخطار.
ولا بأس ان نذكر حادث اليمن الذي هو حديث الناس في هذه الايام، وان نشير الى سيرة امام اليمن الراحل، ذلك الرجل العربي الذي كان بلا شك غيورا على ارضه وتراث آبائه. وكان، في الظاهر يقظا كل اليقظة من تعديات الاجانب واطماعهم، اقام سدودا وحواجز بينه وبين العالم الخارجي حتى لا يمتد الى اليمن طامع او مستعمر ولكن هذا الرجل بعقليته البسيطة، وعزلته المخيفة التي عاش بها بعيدا عن تطورات العالم وعن مقتضيات الحياة الحديثة -لم يستطع ان يدرك بأن السدود والحصون كلها وهمية اذا لم يقم في نفس كل عربي من عرب اليمن حصن وسد وحرز تجاه اطماع الاجانب واعتداءآتهم. ولم يكن احد منا ليغتر بتلك المنعة التي كانت لليمن لأنا نؤمن اقوى الايمان بأن هذه السياسة العتيقة لا تعمل الا لتأجيل اليوم الذي يظهر فيه ضعفها.
ولا يقتصر هذا الاسلوب من الاعتقاد بالاشخاص ووضع الثقة بهم والتسليم اليهم تسليما أعمى لا مبرر له، على قطر واحد فحسب، بل انا نلمس آثاره ونتعرف الى مظاهره في مختلف البلدان العربية وفي هذا القطر العربي الذي نعيش فيه، فما يزال عندنا من يؤمن بأن البلاد بحاجة الى شخص دون آخر، وانها تكون مهددة اذا استغنت عنه.
ولكن الى متى يستمر هذا الاسلوب في الفهم وهذه العقلية الملتوية؟ الى متى نستعيض عن تربية الشعب بجميع افراده، وعن خلق القوة الحقيقية في نفس كل مواطن، وفي خلقه ايضا، بقوة وهمية وبخرافة لم يعد جائزا ان نستمر في القول بها والاستسلام لها خرافة الاشخاص بماض غير معروف او غير واضح.
بل لو صدّقنا كل ما ادعوه ونسبوه لانفسهم فانا نقول: ان شخصا او عدة اشخاص عاجزون كل العجز عن ان يعادلوا في المنعة والقوة والحصانة قوة شعب بأسره.
حتى لو كنا نعيش في عهد الانبياء لما جاز ان نسلم بخرافة الشخص ولما جاز ان نهمل تربية الشعب وتعويده على استعمال حرياته وممارسة حقوقه. ولكنكم كلكم تعرفون بأن مرحلتنا هذه -وهي تحمل اثقل التركات من الماضي، من ماضي الانحطاط والتأخر- ليست هي مرحلة انبياء بل العكس هو الصحيح. فكيف يجوز اذن ان نتساهل في امر حيوي كهذا وان نهمل امر التربية، السياسية، القومية.
أيها الاخوان
واما الامر الثاني، الذي تستهدفه الصفة الشعبية في تربية الجيل العربي الجديد، فهو شيء يمت الى الروح والحياة اكثر مما يمت الى السياسة والحقوق والحريات.
اننا نحمل- كما قلنا- تركة ثقيلة من الماضي فقدت فيها الامة شيئا كثيرا من سجيتها الحرة ومن حركتها العفوية ونشاطها الحي وأختلّت فيها القيم والمقاييس، ونشأت على سطحها طبقات وقشور طفيلية زائفة، وليس ثمة مخرج من هذه الحال المعكوسة المشبوهة، المشوبة بالفساد الا عن طريق اعادة الحياة الى الشعب، وفسح المجال امام الروح الشعبية لكي تنبع وتنفجر، فتتكسر هذه الطبقة من الجليد: طبقة الأوهام والجمود، وطبقة الاثرة والاخلاق الانانية المغموسة بالشهوات والقائمة على استغلال الآخرين واستعبادهم.
هذه الطبقة لا يمكن ان تتكسر وان تنفذ الى نبع روح الامة الاصيل الحار الا اذا لجأنا الى هذا المجموع المبارك: هذا الشعب، بأن نسمح لروحه بأن تنعتق بعد الكبوة والانحناء الطويل. وحين ذلك يجرف النفس الطويل السليم، كل ما تجمد وتراكم على وجه مجتمعنا من انانيات ومن فساد واستئثار ومن ضيق نظر وفقر مخيف في النفس.
واذا قلنا بأن الشعب عندما يسترد حقوقه وحرياته يشكل لبلادنا وأمتنا المنعة الحقيقية التي يعجز الاشخاص عن ايجادها: نضيف ايضا انه من الناحية الايجابية: من ناحية الابداع المتواصل وتحريك المجتمع بقوة، وبعث مواهبه الكامنة ليس غير الشعب يستطيع ان يهبنا هذه القوة المبدعة التي ضمرت وتقلصت وجفت في الطبقات الغنية المترفة التي قتلها استئثارها واستغلالها.
فاذا كان امر امتنا يعنينا بصدق واخلاص نظرنا نظرة جريئة نافذة الى حقيقة اوضاعنا. اننا اذا لم نقض بعمل جريء حاسم عنيد، واذا لم نضع حدا للعقلية القديمة التي تريد ان تعتبر الشعب قطيعا من البشر يسير ويضلل ويخدر، اذا لم نضع نهاية فجائية عنيفة لهذة العقلية كنا معرضين للخطر: خطر العدوان الاجنبي لان الشعب الميت المحروم من فهم الحرية لا يمكن ان يدافع عن ارضه. وخطر آخر قد يكون اهم من الاول وهو ان تبقى امتنا امة عقيمة ناضبة جافة عاجزة عن اي انشاء او ابداع.
27 شباط 1948
تعديل الدستور فاتحة الدكتاتورية
بذلت الحكومة السورية كل ما في وسعها لتخفي عن الشعب العربي في سوريا والاقطار العربية الاخرى حقيقة الازمة الدستورية الخطيرة التي تسببت فيها. وسعت بصورة خاصة ان تخفت صوت “البعث العربي” ولكن هذه المساعي والاساليب من قبل الحكومة لم تفعل اكثر من تقديم الشواهد والبراهين على التواء قصدها وصدق ما اتهمناها به من التآمرعلى حريات الشعب ودستور البلاد.
لقد عطلت الحكومة كل صحيفة خالفتها في رأيها في “التعديل” وعطلت صحيفة “البعث” لهذا السبب ثلاث مرات، كل مرة شهرا كامل، ولم تكتف بذلك، بل صادرت مؤخرا اعداد الجريدة من مكتب ادارتها دون ان يكون في القانون ما يجيز المصادرة، ثم ارسلت رجال الامن فداهموا مكتب الحزب بحجة التفتيش عن متفجرات، واعتقلوا ستة من الشباب وأباحوا لانفسهم استعمال افظع انواع التعذيب مع احد هؤلاء الشباب لا لشيء سوى انه عامل. واعتقلوا شبابا في حمص، واغلقوا مكتب الحزب فيه، واحاطوا مكاتب الحزب في العاصمة والمحافظات بنطاق من رجال الشرطة السرية يلاحقون قادته واعضاءه اينما ذهبوا، ومنعوا المطابع في طول البلاد وعرضها من ان تنشر للمعارضين شيئا، بينما جندت الحكومة صحفها وكتابها ليهاجموا حزب البعث العربي ويردوا عليه اثناء تعطيل صحيفته.
وفي مساء الاحد الواقع في 4 آذار دعا الحزب الى استماع محاضرتين للاستاذين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار في موضوع “الدستور والحرية” فأرسلت الحكومة بعض رعاعها ليعطلوا الاجتماع. وبينما كان الاستاذ البيطار في الربع الاول من محاضرته، انبرى له احد هؤلاء مقاطعا، وساعده رفاقه على احداث الشغب، ثم انفجرت مفرقعة في فناء مكتب الحزب تبين انها القيت من سطح البيت المجاور، وهجم على باب افراد مسلحون بالعصي والخناجر يعتدون على بعض الشباب الواقفين في الباب بمساعدة رجال الامن العام. ودخل على الفور عدد كبير من رجال الامن العام فاعتقلوا خمسين شابا من الطلاب الجامعيين واساتذة المدارس وتغاضوا عن الاشخاص المعتدين.
ففي الوقت الذي يجاهد فيه شباب البعث العربي في جبهة فلسطين تجيز الحكومة لنفسها استعمال هذه الاساليب البربرية لتمنعنا من تنبيه الشعب الى خطر الديكتاتورية المحدق به من وراء “تعديل” الدستور.
وما كان حزبنا ليقاوم “التعديل” لو انه تعديل بالفعل. ولقد سبقنا غيرنا الى المطالبة لا بتعديل الدستور فحسب بل بوضع دستور جديد وذلك على اثر الجلاء مباشرة. الا اننا كنا وما نزال نطالب بتعديل الدستور او تبديله ليصبح اقرب الى نزعة الحرية واقوى على ضمان حريات الشعب وحمايتها من طغيان السلطات الحاكمة. في حين ان “التعديل” الحكومي يرمي الى تضييق هذه الحريات تمهيدا للقضاء عليها. وليس ادل على ذلك من الاسلوب الذي تتبعه الحكومة السورية لاجراء التعديل بالقوة والارهاب والتضليل وافساد الضمائر وبمخالفة القوانين والدستور نفسه. وقد جاء مشروع “التعديل” الحكومي نتيجة لمقدمات اظهرت بوضوح ما يهدف اليه رجال السلطة من وراء مشروعهم. اذ انهم هم الذين وضعوا قبل سنة ونصف مشروعا لاقامة الديكتاتورية عرف بالمرسوم (50). كما ان اقتصار هذا التعديل على تجديد الرئاسة يظهر ان رجال الحكم يسخرون دستور البلاد من اجل الاشخاص. ومن جهة اخرى انهم، بدلا من وضع مشروع كامل لتعديل الدستور باتجاه ديقراطي تقدمي حر، اهملوا كل ذلك وتصدوا على العكس للمادة التي تكفل ترسيخ فكرة الجمهورية والحرية عند الشعب بجعل الرئاسة متداولة ومنع من يصل الى الرئاسة من سوء استعمال صلاحياته ليجدد انتخابه.
فالمسألة في نظرنا جد خطيرة لانها تتعلق بالمبادئ لا بالاشخاص، ولاننا نعتبر ان الفائدة التي يمكن ان تحصل من بقاء شخص بالذات في الحكم هي في ظروفنا الحالية اقل بما لا يقاس من الاضرار الجسيمة التي تلحق بالبلاد من جراء تضحية ذلك المبدأ الديمقراطي المتضمن في المادة المنوي تعديلها والمتضمن في دساتير الديمقراطيات الناشئة.
تلك هي حقيقة الخطر الذي يتهدد البلاد وحرية الشعب ومصالحه، نعلنها بصراحة وجرأة، مستهينين في سبيل اعلانها بالأذى والاضطهاد، لان مستقبل سوريا بصورة مباشرة ومستقبل البلاد العربية بصورة غير مباشرة، معلق على هذه الخطوة التي ستقودنا اما الى الدكتاتورية المظلمة الغاشمة واما الى توطيد دعائم الحرية وانفتاح حياتنا للتطور والرقي.
ان مسؤولية الشعب خطيرة ومسؤولية النواب الشعبيين المعارضين اخطر، لان في استطاعتهم تجنيب البلاد هذه الكارثة، ولان الشعب لم ينتخبهم الا ليضعوا حدا لنزعة الاستبداد المسيطرة على الحكم الحاضر.
ايها الشعب! أيها الجيل الجديد!
ان نضالك ضد الاستبداد في السنتين الاخيرتين قد أوصلك الى نتيجة ثمينة، اذ اجبر رجال الحكم على ان يرفعوا عن وجوههم آخر برقع يجلل حقيقتهم. فحكموا الشعب عنوة بأساليب الاستعمار البغيض. واليوم تنتظرك معركة جديدة من معارك حريتك المقدسة وليس في خوضها لك الا الربح الاكيد. فالحرية عمل ونضال يزيدانك وعيا لقيمتها وتعلقا بنعمها ومرانا في الدفاع عنها الى ان تتحقق لك كاملة بعد ان تكون قد دفعت ثمنها كاملا.
عميد البعث العربي
ميشيل عفلق
15 آذار 1948
(1) بيان آخر حول مؤامرة تعديل الدستور صادر عن حزب البعث العربي في 15 آذار 1948.
محاولة تعديل الدستور
خطر على الجمهورية والحرية والاستقلال
لقد شرعت الحكومة السورية بتطبيق حكمها الديكتاتوري بصورة علنية ولم تعد تحسب حسابا لا لقانون أو دستور يكفل حرية الكلام والتعبير عن الرأي. واكبر شاهد على ذلك مصادرتها جريدة البعث الدمشقية لسان حزب البعث العربي استنادا الى امر شفوي من وزير الداخلية ودون ان يصدر مرسوم بالتعطيل الاداري. والذي اغضبها حقيقة أردنا كشفها للشعب وأرادت هي طمسها واخفاءها عنه، تلك هي مؤامرة تعديل الدستور التي تحاك في “الاوكار المظلمة” لتفرض على الشعب دون ان يطلع على خطورة مراميها، واليكم هذه الحقيقة التي نشرناها في المقال الافتتاحي(1) والتي ننشرها الآن بمنشور:
فوجيء طلاب الجامعة بقرار من وزارة المعارف يقضي بتمديد عطلتهم ثلاثة عشر يوما بحجة اجراء “ترميمات” في بناء الجامعة، كأن أوقات الدراسة الغالية على نشئ البلاد المثقف يجوز اهدارها عبثا وباطلا في سبيل هذه الذرائع التافهة الرخيصة، وكأن الحاجة الى ترميم أبنية المدارس لا تظهر ملحة الا في ظروف ومناسبات سياسية خطيرة: في هذا الشهر الذي يزمع فيه المجلس النيابي ان يبتّ في قانونية الاقتراح الحكومي بشأن تعديل الدستور، وقبل ثلاثة اشهر عندما اصطنعت الحكومة “مضبطة” لتأييد اقتراحها ادعت انها جمعت توقيع ثلثي النواب، وقبل ذلك بمدة، عندما اراد المجلس ان ينظر في جريمة تزوير الانتخابات الشامل المفضوح الذي اشتركت وتسببت فيه السلطة التنفيذية بكاملها لتصل عن طريق التزوير الى مأربها في تعديل الدستور.
لقد فوجيء الطلاب، والشعب معهم، بهذه التصرفات الشاذة وامثالها، حتى لم تعد ثمة مفاجأة لأحد. وشاهد الجميع، خلال الشهور المنصرمة، من التعدي على حرمة العلم ومستقبل الناشئة، ومن العبث بوظائف الدولة وأموال خزينتها، ومن افساد للضمائر وتضحية للاخلاق والمصالح العامة، ما لم يشاهدوا جزءا منه في أشد العهود البائدة سوءا وفسادا.
فاذا تساءل افراد الشعب -ومن حقهم ان يتساءلوا- عن الغاية التي من اجلها تضحي الحكومة بأموالهم ومصالحهم ومستقبل ابنائهم وبلادهم، لما وجدوا ثمة الا غاية شخصية حزبية ضيقة، تكتنفها النفعية من كل جانب وتبرز فيها الانانية على ابشع صورة. تلك هي غاية تعديل الدستور، في سبيل تمديد اجل الاستثمار والانتفاع لزمرة السياسيين المحترفين وحواشيهم.
ان محاولة “التعديل” التي تسعى الحكومة الى تنفيذها في غفلة من الرأي العام، لهي اخطر من ان تمر وتتم بأسلوب الحيل والاختلاس دون ان يتاح للشعب ان يقول فيها كلمته الحرة الجريئة، اذ انها في الواقع قضية مصالحه الحيوية المهددة بأدهى الاخطار. والتعديل شر على الشعب والبلاد، سواء اعتبرت فيه ناحية المبدأ، أم الناحية الاسلوب، ام الناحية الواقعية المجردة.
1- لئن كان لا يزال في البلاد عدد من الذين يستهينون بقيمة المبادئ الاساسية والاشكال القانونية، وينظرون الى السياسة نظرة مجردة عن الاعتبارات التي تمس تربية الشعب واستقرار الحكم في الصميم، نقول: لئن كان هؤلاء يكتفون من الامور بنتائجها الظاهرية الجامدة ويرون في تعديل الدستور -على اي شكل تم- تحقيقا لفائدة عامة تنتج عن بقاء شخص او اشخاص على رأس الحكم فاننا نجيبهم بأن الحكم الذي سينشأ عن “التعديل” لن يكون بحال من الاحوال الا استمرارا لا بل استفحالا، لهذا الحكم المشوه المضطرب الذي عانته البلاد في السنوات الاربع الاخيرة، والذي لم يستطع ان يبقى يوما واحدا دون اضطهاد لحرية المواطنين، او استغلال لجهود الشعب، وإرضاء للانصار والمحاسيب، وفتح باب الرشوة وسوء الاستعمال على مصراعيه، وتسخير جهاز الدولة والصحف والاذاعة لمصلحة رجال الحكم وأتباعهم. ولئن ظهر فرق بين العهدين في المستقبل، فسيكون في ان العهد “الجديد” سيزيده النجاح جرأة في الاستهتار، ويزيد أتباعه شرها في الاستثمار والانتفاع.
2- ولكن هذ ه الفئة المتعامية عن قيمة المبادئ الحقوقية في حياتنا القومية الناشئة فئة يقل عددها ويتضاءل شأنها يوما بعد يوم امام تقدم الوعي الشعبي الجارف. ان الشعب بأكثريته الساحقة يدرك اليوم ان ما يميز سوريا ويؤهلها لقيادة الحركة العربية هو دستورها الجمهوري الديمقراطي الذي يضع سدا منيعا في وجه الداء العضال الذي يئن منه المجتمع العربي منذ عصور، داء تحكّم الافراد في مصير الامة، واتخاذ السلطة والاستبداد سبيلا الى استثمار الملايين من افراد الشعب لمصلحة الطبقة الحاكمة، فالقضاء على المادة الدستورية التي تمنع ان يخلد شخص واحد في الحكم، وان يستفيد من استمرار حكمه ليقضي على حرية الشعب ويجعله فريسة لاستثمار الاقلية الممتازة، كل هذا يذهب بفضيلة الجمهورية ويطوح بخيرات الحرية والديمقراطية، ويدفع ببلادنا دفعا قويا الى الرجعة والتأخر، بعد ان دفعت اغلى الاثمان والتضحيات ليفتح امامها طريق التحرر والرقي.
3- تلك هي المخالفة الصريحة لمبدأ التقدم والتحرر وسيادة الشعب الذي وضعته الجمعية التأسيسية في الدستور السوري، والذي تريد الحكومة بالتعديل ان تنسفه نسفا، ولكن مخالفة الحكومة لم تقف عند حدود المبدأ بل تجاوزته الى الاساليب التي اصطلحت عليها الامم الراقية في حياتها العامة لتضمن للشعب حرية رأيه وعمله، وللحكم امكان استقراره وتطوره، فالدستور هو قوام الحياة في اي امة من الامم وتعديل الدستور احتمال يواجهه الدستور نفسه، ويضع له من الشروط والقيود القانونية ما يسمح له تحقيق الغرض العام المقصود من ورائه وما يمنع عنه سيطرة الاشخاص واغراضهم وشهواتهم. لذلك كان لا بد عندما تلمس الحاجة الى التعديل، ان يطرح الموضوع على الرأي العام ليعالجه ويناقشه بمطلق الحرية في القول والكتابة والاجتماع. وبما ان اقتراح التعديل جاء على اثر الانتخابات النيابية مباشرة فقد كان اول واجب على الحكومة والسلطة التنفيذية ان تعلن عن رأيها قبل الانتخابات لتجرى على أساس التعديل او مقاومة التعديل. ولكن هذه السلطة التنفيذية عمدت الى التضليل والتزييف بدلا من مصارحة الرأي العام واحترامه، فكتمت قصدها وتدخلت في الانتخابات تدخلا شنيعا معروفا لتأتي بأكثرية مزورة من النواب يماشونها في تآمرها على الدستور. وهكذا عطلت كل صحيفة ناقشت امر التعديل برأي مخالف لرأيها، وعملت ما هو ادهى، اذ منعت المجلس النيابي نفسه من بحث هذا الامر الذي هو اهم ما تتعرض له الحياة النيابية. وخالفت الدستور ونظام المجلس افظع مخالفة اذ استعاضت عن تصويت النواب ومناقشتهم، بعريضة مشبوهة تلاها رئيس المجلس وانسحب معلنا اختتام الجلسة.
تلك هي الاساليب الشاذة غير المشروعة التي تتبعها الفئة الحاكمة في مطلع حياتنا الاستقلالية الدستورية، متحللة من كل قيد قانوني، ورادع اخلاقي، مستبيحة لنفسها افساد تربية الشعب القومية وزعزعة الحكم الاستقلالي في سبيل شهوات وانانيات ومنافع شخصية.
ولكننا نؤمن اعمق الايمان بأن الشعب هو اقوى من كل هذه المؤامرات والعراقيل التي توضع في طريق تحرره ونهضته، وبأن مناعته الاخلاقية ووعيه المتزايد لحقوقه وكرامته ورسالة أمته العربية سيتغلبان على هذه السموم التي تنفثها في جسم الامة طبقة الحاكمين المستغلين قبيل انحلالها القريب.
عميد حزب البعث العربي
ميشيل عفلق
18 آذار 1948
(1) بيان صادر عن حزب البعث العربي حول مؤامرة تعديل الدستور، نشر في جريدة “البعث” كمقال افتتاحي في العدد 222 الصادر في 8 آذار 1948.
إنقاذ فلسطين
ليس يجدر بنا(1) في هذا الظرف العصيب الذي تجتازه معركة فلسطين أن نعود إلى الماضي ونذكر أخطاءه الفاحشة. بل الأجدر بنا أن نحصر تفكيرنا وعملنا في كيفية إنقاذ الموقف وإنقاذ سمعة الأمة العربية ومستقبلها.
إن الدروس القاسية التي ألقتها الحوادث علينا في الأسبوعين الأخيرين لجديرة بأن تقنع رجال الحكومات العربية بأن سياستهم معكوسة فاشلة وان أفضل سياسة يتبعونها في هذا الوقت هي أن يكفوّا عن كل سياسة ويضعوا قضية فلسطين بين أيدي المقاتلين بعد أن يجهزوهم بكل ما تقتضيه حرب حديثة جدية قاسية.
لقد كان مفروضاً أن تكون معركة فلسطين منذ البدء معركة العرب جميعاً. لان مصيرهم مرتبط بمصيرها. ولكن السياسة المعكوسة عملت على خنق وتبديد إمكانيات الشعب العربي بشتى السبل. وأدت إلى أن عرب فلسطين أنفسهم ظلوا بأكثريتهم الساحقة بعيدين عن المعركة وعبئاً عليها، لا يجدون إلى أداء واجبهم سبيلا.
والآن، يهمنا أن نحسن الاستفادة من هذه التجارب الأليمة لنحول مجرى المعركة تحويلا أساسياً لمصلحتنا ونضمن النصر لقضيتنا فالحرب التي تدور رحاها بيننا وبين الصهيونيين لا تشبه معارك الاستقلال التي خضناها ومازلنا نخوضها ضد قوى الاستعمار.
اذ إننا في هذه الحرب نعمل لأول مرة كعرب متحدين متضامنين من سائر الأقطار. ونكافح عدواً مهما قيل في قوة استعداده وكثرة وسائله، فهو أقل من أن يقاس بجزء من القوى الاستعمارية التي نكافحها. لذلك لم يكن جائزاً أن تبقى المعركة بيننا وبين الصهيونيين طوال هذه الأشهر معركة دفاعية وان نقنع بالتكافؤ مع عدونا. لان العدو لم يكن يطمع في أكثر من الصمود لقوتنا. ولأن مجرد التكافؤ مع هذا العدو يصيب معنوياتنا في الصميم. إذ يجوز كل شيء إلا أن تتعادل الأمة العربية مع عصابات الصهاينة. أذن فأول ما ينبغي عمله هو ان تصبح القوات العربية المحاربة، في عددها ومعداتها، أصدق ما يكون تعبيراً عن إمكانيات الأقطار العربية. وأن تشجع بصورة خاصة إمكانيات عرب فلسطين ويستفاد منها إلى أبعد حد ممكن. لأن الغاية من اشتراك الأقطار العربية لم تكن تعطيل هذه القوى بل دعمها وتأييدها.
ومما لا يقل عن ذلك أهمية هو أن تصبح معركة فلسطين أصدق ما يكون تعبيراً عن روح النهضة العربية الحديثة فالمجال واسع أمامنا لكي نجعل من هذه المعركة المرتجلة حرباً نظامية تتحقق فيها عناصر الوعي والتنظيم المتفتحة في أفراد شعبنا. ويمسك زمام التوجيه الشامل فيها جميع الذين يمثلون الإيمان بوحدة الأمة العربية وبمؤهلاتها العظيمة للتحرر والأبداع ما دامت معركة فلسطين معركة العروبة الفتية الناهضة.
إن جيل الشباب المثقف المؤمن هو وحده قادر على توجيه الأفكار الحائرة وابتعاث القوى الكامنة، وتنظيم الجهود المشتتة. سواء في الجبهة الداخلية أو في خطوط القتال. وهو وحده قادر على الارتفاع بمجهود العرب إلى مستوى المهمة الشاقة التي تنتظرهم.
إن النواقص والأخطاء التي تيسر لنا مشاهدتها في الجبهة الداخلية كثيرة وخطيرة. وهي بحاجة إلى إصلاح جدي وتدارك سريع. ولكننا لم نكن في يوم من الأيام أكثر تفاؤلاً بالنصر مثلنا الآن بعد أن لمسنا لمس اليد بطولة جنودنا وأفراد شعبنا وتصميمهم على تخطي المصاعب والعقبات مهما كلفهم ذلك من تضحيات.
8 أيار 1948
(1) كتب الأستاذ ميشيل عفلق هذا المقال خلال وجوده في جنين (فلسطين) لقيادة مجموعات المتطوعين البعثيين مع زميله البيطار، وقد نشر في جريدة “البعث” في 8 أيار 1948.
تبديل الحكومة واجراء انتخابات جديدة
واجب وطني وقومي
لا تزال الفئة الحاكمة في سوريا (1)، رغم الفضائح والنكبات التي تتالت على البلاد في عهدها وخاصة في قضية فلسطين، تصمم على الاستمرار في سياستها الاستغلالية الطائشة، متحدية ارادة الامة، ومعرضة أرض الوطن لأخطار أدهى مما تعرضت له في الماضي.
ان تشكيل الوزارة الجديدة وفي البيان الذي ألقته هذه الوزارة أمام المجلس من مظاهر الاستهتار بارادة الشعب ووعيه، ومن دوافع الانانية الشخصية والمصالح الذاتية، ما لا يجوز السكوت عنه او التردد في محاربته.
الحكم في خمس سنوات: لقد استأثر بالحكم في السنوات الخمس الأخيرة فئة من محترفي السياسة الذين يمثلون مصالح الاقطاعيين وعقليتهم. ويعتبرون الدولة ملكا خاصا لهم ولذويهم وحواشيهم. ويرون ان الشعب وجد ليكون مستثمَرا مستعبَدا، وليقنع بحياة الفقر والذل والجهل، هكذا أضاعوا على سوريا فرصة ذهبية لم تسنح لها منذ أجيال، وبدلا من أن يفيدوا من الظروف الخارجية المؤاتية، ومن استعداد الشعب المعتز باستقلاله، المتفائل بمستقبله، لينشئوا الدولة على أسس حديثة عادلة، ويخلقوا نهضة متكافئة مع امكانيات الشعب وطموحه القومي، مدعومة بتضامنه وثقته ومساهمته الفعلية الحرة فيها، فقد تركوا الاوضاع الفاسدة على حالها، وأمعنوا في استغلالها حتى استفحل فسادها الى حد لم تعرفه البلاد في عهود الاستعمار المظلمة. وقد تعدى الفساد نطاق الشؤون الداخلية البحتة، وكانت معركة فلسطين مناسبة لظهور بعض المؤامرات التي كان جيش البلاد أولى ضحاياه، ولا عجب، فالسياسة التي تقوم على الاستبداد والاستثمار الجشع في الداخل، لا يمكن أن تكون الا تخاذلا وتآمرا في الخارج.
الوزارة الجديدة: لقد كان ينتظر ان يكون للنكبة القومية الفادحة التي منيت بها البلاد في معركة فلسطين بعض الاثر في نفوس الفئة الحاكمة يحد من استئثارها وعنادها ونفعيتها، فتحسب لرأي الشعب ومصلحة الوطن العليا حسابا، وتحدث تبديلا ملموسا في السياسة والاشخاص معا.
ولكن الشعب فوجيء بتشكيل الوزارة الجديدة من أولئك الاشخاص الذين مثلوا طوال السنوات الخمس الاخيرة سياسة بغيضة مشؤومة. (والذين عافتهم البلاد وخذلتهم في الانتخابات النيابية خذلانا اجتماعيا حتى اضطروا، لكي ينجح بعضهم في الانتخابات التكميلية، الى استعمال التزوير العلني بقوة السلاح). وكانت المفاجأة بالغة والتحدي مثيرا في تسليم وزارة الداخلية الى الوزير الذي كان استلامه لها منذ عامين سببا في اراقة دماء المواطنين استنكارا للمرسوم رقم 50 الذي أراد هذا الوزير بواسطته أن ينفذّ أخبث مؤامرة على دستور البلاد وحريات الشعب.
ان الذريعة الجديدة التي لجأت اليها الحكومة لتبرير بقائها، وتمديد أجل استغلالها، هي ذريعة التعبئة لمتابعة المعركة في فلسطين، ولكن هل في البلاد من يصدّق ان هذه الحكومة التي لا تستطيع البقاء، يوما واحدا في الحكم الا اذا أباحت أموال الدولة للانصار والمحاسيب، والتي لا يفهم أشخاصها من الحكم الا انه وسيلة للانتفاع وعقد الصفقات، وتدعيم النفوذ الشخصي والعائلي على حساب المصلحة العامة، هل في البلاد من يصدق انهم هم الذين سيعملون بالتجرد الواجب. والكفاءة المطلوبة، على تحقيق التعبئة اللازمة لاحراز النصر هل يستطيع هؤلاء الاشخاص، في هذا الظرف الدقيق الحاسم، وبعقليتهم ومصالحهم التي لم تتبدل أن يرجعوا الى نفوس الشعب الثقة. ويوحوا له الايمان بالمستقبل، ويحققوا بين صفوفه التضامن، ويستثيروا فيه الجهود الخارقة والتضحية القصوى، وهم الذين أذاقوه الظلم والفقر، وعودّوه الكذب والتضليل، وقادوه الى النكبات والهزائم، وكادوا يفقدونه الثقة بنفسه، والايمان بحقه ومستقبله!
اننا نحن أيضا نقدم قضية فلسطين على كل شيء آخر، ومن أجل ذلك نرى في بقاء الحكومة الحاضرة، وفي استمرار السياسة المتبعة، خطرا على مستقبل البلاد يفوق كل الاخطار السابقة، ولن يشغلنا في هذا الظرف ما ارتكب الحاكمون في الماضي من أخطاء الا بالقدر الذي يفيد في تلافي هذه الاخطاء في المستقبل، ويحول دون جعل المستقبل تكرارا لهذا الماضي المليء بالنكبات.
علة الحكم: فالعلة الاساسية في الحكم القائم كانت ولا تزال علة الافساد الدائم للنظام الدستوري، والاعتداء المتكرر على حرمة الدستور، فالدستور قد وضع ليضمن للبلاد امكان التطور والتقدم. وذلك باطلاع الشعب على سياسة بلاده، ومشاركته في هذه السياسة، حتى يستطيع معرفة الاخطاء والارتكابات. وتعيين المسؤولين عنها، ومحاسبتهم عليها، وتقديم من هو أصلح منهم للحكم. ولكن حب الاستئثار عند رجال الفئة الحاكمة، وما يخفي وراءه من طمع في استثمار الحكم واحتكار منافعه، قد دفعهم الى افساد الحياة الدستورية، وسد الباب في وجه كل تطور واصلاح، حتى ظلت الاخطاء تتكرر وتتفاقم، والارتكابات تصل الى حد الخيانة، دونما مسؤولية او خوف من حساب.
ولقد كانت هذه النقطة ولا تزال أساس الخلاف بيننا وبين الفئة الحاكمة، فالواقع ان الدستور الذي يخرق باستمرار منذ خمس سنوات، لا يخرقه الحكام عبثا ولهوا، بل لستر الفضائح وتزوير الانتخابات، وحصر الحكم في أشخاص معينين رغم ارادة الشعب، وتسخير الدولة لخدمة مصالح الاقطاعيين والرأسماليين، وتحويل السياسة الخارجية الى أسرار ومؤآمرات تجري في معزل عن رأي الشعب وممثليه. ووفق انانية الحكام وأهوائهم ومصالحهم، وهذا كله ليس-كما تدعي الفئة الحاكمة- من جزئيات الامور وثانويات الشؤون بل هو السبب الرئيسي في هدر جهود الشعب واضعاف معنوياته، وفي تخريب الجيش. وتباعد السياسات العربية، وهزيمة فلسطين، كما انه سيكون السبب الرئيسي في فشل التعبئة المطلوبة، اذا بقي الحكم على حاله.
الحل: ان ما وصلت اليه البلاد من فوضى وتأخر وانحلال في الداخل، ومن ضعف أمام العدو الخارجي، ليس له من علاج فعّال غير ان تعود الى الشعب ثقته بنزاهة الحكام وكفاءتهم، ولا يكون ذلك اذا ساهم الشعب بملء الحرية في اختيار هؤلاء الحكام. فلا المجلس الحاضر الذي نجح أكثر من نصفه بالتزوير وقوة السلاح. ولا الحكومة الحاضرة التي تضم أبطال التزوير، وكبار المستغلين والوصوليين، بقادرة على اعادة الثقة التي فقدت، وتعبئة الجهود التي خنقها الضغط وبددها الاستثمار، فواجب الشعب وهيئاته المخلصة ان يناضلوا في سبيل اجراء انتخابات نيابية حرة تحت اشراف حكومة مضمونة الحياد والنزاهة، لكي ينشأ في البلاد حكم يقدر على مجابهة الاحداث والاخطار. ويأسو بعض الجراح التي خلفتها الحكومات السابقة في جسم الأمة، ويمحو بعض آثار العار الذي لحق بسمعة العرب.
عميد حزب البعث العربي
ميشيل عفلق
7 أيلول 1948
(1) بيان صادر عن حزب البعث العربي في 7 أيلول 1948 يطالب فيه بتبديل الحكومة واجراء انتخابات جديدة.
محاكمة الاستاذ ميشيل عفلق
نص دفاعه امام محكمة الاستئناف (1)
يجدر ان تقتنع المحكمة الكريمة بأن مسألة الحكم والسجن وغير ذلك هي آخر ما أفكر فيه، والدوافع التي دفعتني الى نشر المنشور والى نشر عشرات المناشير قبله والى كتابة مقالات، هذه الدوافع كانت ولا تزال واحدة وهي التي تهمني الآن اكثر مما يلحق بي:
لقد مضى على اعتقالي شهر ونصف، وبالرغم من انني ما زلت انادي بهذه الافكار منذ تأسيس حزب البعث العربي منذ ثماني سنوات مع اخواني قادة واعضاء الحزب، فلقد كان بالامكان ان ارجع الى نفسي واحاسبها وأعيد النظر فيما فكرت وكتبت خلال هذه المدة من الاعتقال. ولكني وجدت ان هذه المدة القصيرة (شهر ونصف) قد عملت اكثر من اي وقت مضى على تثبيت فكرتي وقناعتي وتوكيد ما اتهم به هذا الحكم منذ زمن طويل حتى الآن. لأن الحكومة قد قدمت لي في هذه المدة من البراهين الجديدة اكثر مما انا في حاجة اليه. ولن اطيل في هذا البحث بل اكتفي بالاشارة الى ما تم في هذه المدة من الفظائع التي ظهرت، والى أمور تتعلق بسلامة الوطن وبسلامة حماة الوطن..
كما اشير بشكل اقوى الى ما تم في المجلس النيابي في تلك الجلسة المشهورة التي منع فيها النواب من الاعتراض على خرق الدستور. ومنعوا بالعنف والضغط وبأسلوب غير شرعي وغير مقبول، اسلوب تقديم عريضة لمنع البحث في ذلك الموضوع، أشير الى امور كثيرة اخرى سواء ما اتصل منها بالمعارف او الامتحانات ونزاهتها او بما يشاع عن اتفاقية النقد او شركة البترول (التبلاين)، كل هذه الامور التي تهدد كيان الدولة جاءت هذه المدة القصيرة وفضحتها. وكان يجب علي أن انشر بيانات جديدة فأنبه فيها الشعب الى مساوئ جديدة تنتج عن العلة الاساسية الكامنة.
وزارة التعبئة لا تعبئ
لقد اخذت على الحكومة انها ابعد ما تكون عن القدرة على تحقيق التعبئة التي ادعت بأنها أُلفت من اجلها فسمت نفسها (وزارة التعبئة)، وأصدرتُ بيانا بأن كل شيء يجب ان يتلاشى امام هذه المشكلة الاساسية وهي مشكلة الوطن، وقلت بأنها اعجز حكومة تستطيع ان تضطلع بهذه المسؤولية. وها قد مرت مدة شهرين وانا اتساءل عن هذه التعبئة التي اعدتها الحكومة وماذا جرى بها. هل تبدل شيء في الشعب تبدلاً يتلاءم مع حالة التعبئة؟
لقد تعهدت الحكومة بأن تقلب اوضاع البلاد رأساً على عقب فهل إنقلب شيء من حياة الشعب، وهل تغير شيء في سبيل الحرب؟
لا اعتقد.
ذرائع للبقاء في الحكم
لقد قرأت في السجن كتاباً مترجماً يقول فيه صاحبه ( أندريه موروا) في فصل عنوانه (فن الفكر): “اليكم مثلا رئيس حكومة او رئيس مجلس نواب يتفوه بلفظة تعبئة فإذا هذه اللفظه التي لم يحتج صاحبها الى أكثر من تحريك الشفتين يقيم الدنيا ويقعدها فيحرك رجال اوروبا ويبعث بأسراب الطائرات تدك المدن وتدمرها بل تخرب العالم أجمع وتجهز على الحضارة.”
ففي البلاد السوية الحال والمستقيمة الاوضاع تجد الكلمة التي تخرج من فم رئيس تقابلها حقيقة راهنة، لذلك قلت في تلك النشرة بأن لفظة التعبئة لم تكن بالنسبة الى الحكومة سوى ذريعة من الذرائع، لان الذرائع عند الفئة الحاكمة لا تنتهي، فتارة معركة فلسطين وتارة الرجعية الدينية التي اتخذوها ذريعة لتزوير الانتخابات كما يعرف الجميع، وتارة الخوف من الاخطار الخارجية.
وما غرض الحكومة من إختلاق الذرائع الا المد في اجل حكمها للإستئثار والاستثمار والقضاء على كل مقاومة شعبية تحاول ان تنقذ البلاد من اوضاع ساءت الى حد الخطر المداهم.
نحارب سياسة الاشخاص
لقد كنا في كل وقت نعالج القضية في شكلها العام ولا يخطر لنا ببال ان نحسد او نكره اشخاصا، امامنا فكرة، امامنا قضية. نحلم بمستقبل لبلادنا، ننظر الى الواقع الذي يعترض هذا المستقبل ويخالف الفكرة التي نؤمن بها، فنعمل ونثور ونتكلم ونكتب ولكن لا تهمنا الاشخاص.
والآن إذا تعرضت الى شخص وزير الداخلية فإن تعرضي له عارٍ عن كل شعور شخصي، لأنني لا اعرفه ولم أجتمع به الا مرة واحدة خلال خمس دقائق من زمن بعيد، ولكنني اعرفه من سياسته ومن اعماله ولا اكرهه ولكنني أكره سياسته وانقم على أعماله، وأمقت اسلوبه.
الذي يهمني في الموضوع هو ان حزبنا قد إصطدم بسياسة السيد صبري العسلي منذ اربع سنوات وحضرة رئيس المحكمة يعرف ذلك، إذ ان الحكومة أحالت على القضاء الاستاذ صلاح الدين البيطار أمين الحزب. فمنذ ذلك الحين نرى في الاسلوب الذي ينتهجه السيد صبري العسلي تجاه حرية الفكر والصحافة والدستور استخفافا بهذه الامور التي نعتبرها نحن جوهرية ويستسهل هو العبث بها والتحايل عليها، فكأنه يشق بصراحة وعزم طريقا وسنّة في البلاد نحو حكم ان سميته دكتاتوريا اكون قد رفعت من مستواه. وانما هو اقل من ذلك اذ ليس فيه من الدكتاتورية الا تعطيل الصحف وخاصة (البعث) واعتقال المناضلين وخاصة مناضلي البعث العربي وأخيرا احالتي الى القضاء وسوء معاملتي التي تعرفون شيئا عنها. وسحب امتياز جريدة “البعث” دون اي مبرر وبجرة قلم. حتى انه سعى ليمنع عني حق تخلية السبيل في امر لو كان جرما عاديا لجاز فيه اخلاء السبيل فكيف وهو عمل سياسي لشخص معروف الاقامة ولا يمكن ان يفكر قط بالفرار. فهذه التعديات وهذا التحامل لو كان مقتصرا على شخصي او حتى على حزبي لكان اهتمامنا به اقل، ولكنها سياسة عامة، ولكنه اسلوب ونظرية ينتهجها السيد العسلي منذ زمن طويل، وهو يدعو في ايام الشدائد الى تطبيق هذا الاسلوب، ونحن نعتقد ان كل الخطر يكمن في سياسته واسلوبه.
لنحصر الكلام في الاتجاهات ولنترك الاشخاص، نعتقد بأن اتجاه الحكم الحاضر مناقض لما نريد نحن، ونعتقد بأنه مناقض لمصلحة الامة والوطن. هذا الاسلوب في خنق الحريات، وفي العبث بالدستور وفي تزوير الانتخابات وفي التأثير على القضاء.. هذا هو الذي يشوش الطمأنينة العامة وهو الذي يخل بالامن وهو الذي يفعل فعل التحريض على الفتنة والثورة.
فاذا سدّت أمام الشعب كل السبل المشروعة فالسبيل الوحيد هو الثورة. فمن هو المحرض؟ أنحن المحرضون ام الحكام…
تذرع بالواقعية
انني أحرص ايضا على ان اسجل بأن ما سميته أسلوبا لرجال الحكم ليس هو مجرد اجتهاد في الحكم وليس هو نظرية تحتمل الخطأ والصواب بل هو شيء مدبر، الدافع اليه اغراض بعيدة عن المصلحة العامة.
كيف لا نختلف مع رجال الحكم، وسعي الحكومة موجه لمنافع لها ولرجالها وللبقاء في الحكم، وهي تشوه الحقائق والدستور وتنحرف بالحكم عن جادته. كثيرا ما وجهت الينا من رجال الحكم وحواشيهم وصحفهم تهمة البعد عن الواقع لان رجال الحكم يبررون ما يظهر في حكمهم، وان الواقع هو غير التفكير، وان هذا هو الممكن وحده، اقول ان شيئا واحدا يبرر السياسة التي تسمي نفسها واقعية والتي تتذرع بالواقعية الا وهو النجاح، اذا كانت هذه السياسة ناجحة عندئذ نصدق انها واقعية واننا كنا نحلم، ولكنها هي الفشل بعينه ولم نر شيئا ناجحا منذ سنين سواء في الداخل او في الخارج. لقد استلموا البلاد وهي في احسن وضع من حيث الاستعداد والقابلية: شعب متفتح الى النور كسب استقلاله بدمه، يريد ان يبني بعد ان ناضل كثيرا، وهو مستعد للتضحية الى اقصى الحدود في سبيل حياة سعيدة فماذا تمّ في هذه السنوات الخمس؟
لقد قال وكيل النيابة العامة في البداية بأن تطورا عظيما قد تم. وانا اقول ان تأخرا عظيما قد تم من الناحية المادية والمعنوية معا، والناحية المعنوية هي دوما أهم، ولا احسب ان أحدا ينكر علينا ان نفسية الشعب ومعنوياته وثقته بنفسه وبالحكم وبالاستقلال والمستقبل قد تراجعت وتأخرت اشواطا كبيرة الى الوراء في هذه السنوات الخمس.
هذا بالاضافة الى الامور الملموسة التي ظهر فيها كل شيء: ظهر البؤس والتأخر والانحطاط والجوع في اكثر طبقات الشعب، وظهر العجز في احراز النصر في فلسطين.
القضاء ضحية كالشعب
وهنا سرد الاستاذ الاسباب بصورة مفصلة ستنشر عندما يساعد الظرف على نشرها، ثم قال: احب وأتمنى على المحكمة الكريمة بأن تقدر وضعي حق التقدير، لقد قلت في بدء كلامي بأن ما يلحق بشخصي او بأي فرد من أفراد حزبنا هو مستعذب لدينا فليس هذا ما اعنيه. انما يهمني علاوة على نشر الافكار التي نشرتها في البيان وعلى اصراري في هذا الدفاع الذي سجلته والحاحي على دعوة الشعب إلى تلافي الخطأ قبل وقوعه، وان يناضل لكي يقي البلاد كارثة كبرى، انما يهمني علاوة على كل هذا الآن هو وضع القضاء، وهو سلطة اساسية في البلاد، وركن هام من اركان الدولة، وإذا كنت ادافع وارافع رغم ما تبين لنا جميعاً من تحامل خلال مدة إعتقالي وضغط وإيحاء ومن تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، فلأنني اصر ان اقف من القضاء موقفاً متفائلا، لأنني اعتقد ان القضاء في هذا الوضع ضحية مثلي ومثل الشعب، والشعب في مجموعه في صف المتهم للفئة الحاكمة، لذلك لا يمكن ان اشعر نحو القضاء بضغينة ولكنني لا ارضى لقضائنا ان يستسلم للواقع، فالقضاء سلطة قوية وتوجيهية وأشخاصه بمثابة الموجهين المربين للشعب في أحكامهم وفي حرصهم على العدل، ولهم بذلك صفة الاستاذ تماما، ولا اعلم لماذا اطلب من نفسي التضحية ولا اطلبها من اخواني ورفاقي الذين وضعهم علمهم في مناصب القضاء، لماذا لا اطلب منهم ان يبرهنوا بأن في الامة روحاً جبارة ولا يمكن ان تستسلم للواقع!
30 تشرين الاول 1948
(1) في الساعة العاشرة من صباح السبت في 30-10-1948 نظرت محكمة الاستئناف في الدعوى التي اقامتها النيابة العامة على عميد حزب البعث العربي الاستاذ ميشيل عفلق بزعم اصداره نشرة من شأنها اشاعة الذعر وفيها قذف بالحكام بموجب القرار الصادر عن المفوض السامي عام 1925 الذي يستهدف قمع الثورة.
وقد حضر للدفاع عن الاستاذ عفلق خمسة عشر محاميا ويبنوا الاسباب التي تدعو الى فسخ الحكم وبراءة الاستاذ عفلق كما ان محكمة البداية لم تسمح بإثبات مفاد النشرة وما جاء فيها من وقائع واتهامات وهذا مخالف للقانون ولحق الدفاع.
وقد ارتجل الاستاذ ميشيل عفلق كلمة استغرقت اكثر من ساعة. ثم اخليت المحكمة، وبعد المذاكرة قرأ رئيس المحكمة القرار الذي يقضي:
1- بفسخ الحكم البدائي لعدم انطباق مفاد النشرة على الذيل الثاني للمادة 66.
2- بحبس الاستاذ عفلق مدة ستة اشهر عملا بالقرار 3943 الصادر عن المفوض السامي عام 1930 وتخفيف العقوبة الى شهرين باعتبار الاستاذ عفلق من الذين ناضلوا ضد الافرنسيين اثناء الانتداب، وعندما انتهت المحكمة من تلاوة قرارها هتف المستمعون للاستاذ عفلق وللبعث العربي وللحرية.
ومما يلاحظ في هذه المحاكمة حيرة القضاء في ايجاد مادة قانونية تنطبق على النشرة. فالنيابة وقاضي التحقيق رأيا مضمون النشرة معاقبا عليه بموجب القرار 491 ومحكمة البداية طبقت الذيل الثاني للمادة 66، وأخيرا جاءت محكمة الاستئناف وطبقت قرارا جديدا هو القرار (3943). وقد ميّز المحامون هذا القرار لمخالفته الاصول والقانون.
وقد نشر دفاع الاستاذ عفلق امام المحكمة في جريدة “النضال” الدمشقية (صاحبها د. سامي كبارة)، العدد 2023، في 2 تشرين الثاني 1948.
لماذا انسحب البعث
من مؤتمر الاحزاب العربية
كان حزب البعث العربي(1) اول من دعا الى فكرة جامعة شعبية تتألف من الاحزاب العربية ذات الإتجاه الشعبي الدستوري الصادق وذلك في نشرة له صدرت في شهر كانون الاول عام 1945.
وبعد عام من صدور تلك النشرة تلقى حزب البعث العربي دعوة من حزب الإستقلال بالعراق الى عقد مؤتمر من الاحزاب العربية، فأجاب بالقبول شريطة أن تنحصر الدعوة بالاحزاب العربية الممثلة للاتجاه الشعبي الصحيح أي التي لا تمت الى الحكم القائم في البلاد العربية بصلة واضحة او متسترة.
ولكن عدم التقيد بهذا الشرط، وتسرب الاحزاب الاقطاعية والحكومية الى لجنة المؤتمر التحضيرية في القاهرة أديا الى فشل المؤتمر قبل انعقاده.
ومنذ حين أراد حزب النداء القومي بلبنان ان يتبنى الدعوة الى عقد هذا المؤتمر. وجرت اتصالات بين حزب البعث العربي وحزب الإستقلال ثم بين حزب البعث العربي وحزب النداء القومي، وكان حزب البعث العربي في كل مرة يوضح فكرته ويلح على شرطه في حصر الدعوة في الاحزاب التي تتبنى الإتجاه الشعبي المحض.
ولكن هذا الشرط لم يتحقق في هذه المرة ايضا فأعلن حزب البعث العربي في جلسة الافتتاح وقبل المباشرة بأي بحث رأيه الذي كان أعلنه تكرارا في السابق وطلب من المؤتمرين أن يولوا هذا الرأي حظا أكبر من الاهتمام والدرس، ثم انسحب في هذه الجلسة نفسها لعدم استطاعته الاشتراك في اتحاد لا يضمن سلامة العمل الشعبي النضالي من الانحراف والضعف.
والبعث العربي يعتبر أن الاحزاب القومية تتخلى عن مسؤوليتها التاريخية في إنقاذ الأمة العربية من الأخطار الداخلية والخارجية المهددة لصميم كيانها اذ لم تقر مبدأ الانفصال عن الطبقة الاجتماعية والفئة السياسية الممثلة لهذه الطبقة المسؤولة عما تعرضت وتتعرض له البلاد من اخطار متزايدة.
إن حزب البعث العربي الذي يؤمن بضرورة قيام حركة شعبية اشتراكية واحدة في جميع أقطار العروبة، ويعمل منذ تأسيسه في هذا السبيل، لا يشك في أن التجارب والكوارث التي تمر بالعرب في هذه الظروف العصيبة ستقنعهم بهذه النظرة في المستقبل القريب وعند ذلك تظهر الفكرة العربية بوجهها الحقيقي وتقطع الطريق على جميع المؤامرات الأجنبية والحركات الشعوبية والانفصالية المخادعة.
19- كانون الثاني – 1949
(1) كان ( حزب النداء القومي –لبنان ) قد وجه الدعوة في صيف عام 1948 الى عدد من الاحزاب القومية في العالم العربي لعقد مؤتمر لبحث القضايا القومية الكبرى. وفي اواخر عام 1948 سافر الى العراق ممثلون عن الحزب المذكور للاتصال باقطاب الاحزاب القومية وبحث موضوع المؤتمر. وفي شهر كانون الثاني من عام 1949 انعقد المؤتمر في بيروت بحضور ممثلي حزب النداء القومي – لبنان وحزب الإستقلال وحزب الشعب – العراق وحزب البعث العربي والحزب الوطني – سوريا وأعقب الجلسة الاولى انسحاب ممثلي حزب البعث العربي من المؤتمر وقالت الصحف اللبنانية ان الأستاذين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار انسحبا بسبب اشتراك الحزب الوطني السوري بالمؤتمر وقد نشرت مجلة ( بيروت – المساء ) هذا التصريح للأستاذ ميشيل عفلق في 19 كانون الثاني 1949 ردا على سؤال المجلة عن انسحاب الحزب من المؤتمر ونشر في جريدة ( البعث ) العدد 230.
حزب الانقلاب
السؤ ال المطروح للمناقشة الآن يدور حول معنى الحزب، ما هو الحزب وما هي الصورة الصادقة للحزب الذي تحتاجه امتنا. لا اريد ان ابحث في حزب البعث العربي بصورة خاصة ولا اريد ان ادخل في موضوع طويل مفصل عن مبادئ البعث العربي، كل ما ابغيه من هذا الحديث هو ان احدد بصورة واضحة ومختصرة الفارق الجوهري بين وظيفته في امم اخرى واوضاع مختلفة.
في امم العالم الراقية ينظر الى الحزب على انه نموذج للدولة او تصميم لدولة مقبلة او لاصلاح دولة قائمة، فالحزب يتخذ في مبادئه وفي تشكيلاته واعماله اوصاف الدولة واهدافها. وغاية ما يطمح اليه الحزب في تلك البلاد ان يعد تمام الاعداد جهازا جديدا يستطيع في الوقت المناسب عندما تتوافر الشروط وتحين الفرصة ان يستلم الحكم ويدير الدولة. فهل هذا هو مبتغانا وهل هذا ما نحتاج اليه وهل هذا هو ما يلبي حاجتنا ويسد النقص الذي نشكو منه؟
عندما تقوم الاحزاب في البلاد ذات الاوضاع السليمة السوية لا يكون النقص الا في الدولة، ولا يكون هذا النقص في الدولة نقصا فادحا جوهريا خطيرا، فيعمل الحزب في وقت قد يطول وقد يقصر على اعداد الرأي العام لتأييد وجهة نظره ورأيه وعلى اعداد أعضائه والصفوة منهم لكي يستطيعوا عندما يتولون الحكم ان يصلحوا ذلك الخطأ الذي يرونه في الدولة في ناحية او أكثر. والدليل على بقاء الامة سليمة في الدول الاخرى هو ان الأحزاب على اختلافها وتناقضها احيانا يكمل بعضها عمل بعض. ولكن الحزب هناك قلما يتعرض للامة لان الخلل في البلاد ذات الأوضاع السليمة لا يتجاوز الدولة ولا يصل الى الامة، فالامة هناك قائمة وهي شيء حقيقي راهن قوي منسجم للحد الكافي واع لذاته ومصلحته، وانما الخلل في من تولوا ادارة تلك الأمة وفي الجهاز الاداري او ناحية من نواحي ذلك الجهاز.
لننظر الان في حالتنا، في حالة الامة العربية، هل النقص والخلل هما في الدولة فحسب، هل كل ما نحتاجه هو ايجاد دولة قوية واعية منظمة؟ ولنتساءل لكي يتوضح الموضوع اكثرمن ذلك، لنتساءل ما هي الدولة؟ الدولة آلة لا اكثر، الدولة جهاز، الدولة جسم لا روح فيه وانما هي آلة مدبرة عاملة لأن المشرفين عليها هم اشخاص أحياء غالبا ما يكونون من ذوي الخبرة والقدرة. وكل ما يطلب من الدولة هو ان تضمن تسيير الافراد وسلامة العلاقات بين الافراد والمواطنين وبين ذلك الشيء المعنوي الذي هو الدولة والممثل في حكومة ومجلس وغير ذلك، فهل اذا تصورنا امكان قيام دولة منظمة في بلادنا نستطيع ان نطمئن الى ان الغاية الكبرى قد بلغت ام هل نستطيع ان نتصور امكان قيام دولة مدبرة ومستقيمة الحالة اذالم يكن ثمة أمة حية منسجمة واعية؟ فالفارق كل الفارق بين حياتنا وحياة الأمم الراقية هو ان ما نحتاج اليه هو معالجة الأمة، وما نقص الدولة عندنا وكل النواقص الفادحة التي تعتري الدول القائمة في البلاد العربية الا نتيجة لذلك النقص الاساسي الموجود في حياة الأمة. فاذا صح هذا التفكير يكون واجب الحزب ورسالة الحزب الذي ينشا في بلادنا ويعول عليه لتلبية الحاجات العميقة الاساسية ان يعالج الأمة قبل معالجة الدولة، وتكون بالتالي رسالته ان يكون على صورة الأمة المبتغى خلقها او بعثها لا على صورة الدولة، فاذا قامت الاحزاب في بلاد الغرب علي صورة الدولة وكانت تكتفي بالجسم دون الروح فلأن بلادهم لا تتطلب اكثر من ذلك، ولكننا نحن في حالتنا هذه، في وضع الامة العربية الآن، انما نحتاج الى حزب، الى حركة تمثل بالدرجة الاولى عنصر الروح وتخلق عنصر الروح والحياة وتتوفر فيها هذه الروح لتشع منها فيما بعد على المجموع الاكبر، والحزب الحقيقي، الحزب الحي، الذي يمكن ان يؤدي رسالة في العصر الحاضر للامة العربية هو الذي يجعل هدفه خلق امة او بعثها شريطة ان يحقق هذا الوصف في نفسه اولا، اي ان يكون هو أمة مصغرة للامة الصافية السليمة الراقية التي يريد ان يبعثها. ليس غريبا ان نسمع في بلاد العرب من اقصاها الى اقصاها منذ حين وخاصة في الزمن الاخير تتردد كلمة تخرج من افواه البسطاء قبل المثقفين وكانها كلمة السر وكأن فيها العلاج والحل والخلاص هي كلمة الانقلاب.
ليس غريبا ان نسمع ذلك اذا رجعنا الى الماضي والى التاريخ واستجوبناهما عندها نرى حقيقة لاتكاد تكون موضع خلاف وهي ان العرب في تاريخهم الطويل لم يعرفوا غير نوعين من الحياة، الانقلاب والانحطاط، خلافا لكثير من الامم التي عاشت في الماضي ولكثير من الامم التي تعيش في الحاضر، هذه تكاد تكون ميزة او علامة فارقة حقيقية للامة العربية. اما ان تقوم بانقلاب يحدث نهضة تفيض على بلاد العرب وتبلغ الشمول وتصبح نهضة عالمية انسانية واما ان توغل في النوم والانحطاط. فليس من حل وسط في تاريخ العرب، او ما يصح ان يسمى تطورا، في حين اننا نعرف ان تاريخ الامم الاوروبية منذ مئات السنين عبارة عن تطور في أكثره، والانقلاب هو الاستثناء والشذوذ عن القاعدة. فاذا نظرتم الى ما يقاسيه العرب في هذا العصر من المصائب والكوارث التي تتوالى عليهم، وكل واحدة اثقل وافدح من التي سبقتها، اذا تدبرتم هذا الواقع المر الذي نعيش فيه والذي يكاد يوصل الى اليأس واخذتم بعين الاعتبار تلك النظرة التي المحت اليها، وهي ان الامة العربية بطبيعتها لا تعرف حلا وسطا فهي اما ان تعيش على الانقلاب واما ان تعيش في الانحطاط، واذا نظرتم من جهة الى قسوة الواقع ومرارته، ومن جهة اخرى الى تلك الظاهرة التي هي بمثابة قانون، ادركتم ان ايغال العرب فيما يبدو في الظاهر انه تأخر وانحطاط هو عبارة عن تحفز للانقلاب الذي هم مهيأون له.
اذا كان الجسم جبارا فافضل له العري من لبس ثوب ضيق، واذا كانت النفس عظيمة الاهداف والغاية فالفقر والعدم اشهى اليها من المادة المتواضعة التي لا تروي رغبتها وعظيم حاجتها. فمصيبة العرب في هذا الدور هو ان الطبقة التي فرضت نفسها عليهم تعيش في طريق معاكس تماما لنفسيتهم وامالهم، فهي طبقة شائخة طبقة فاسدة افسدها الترف، افسدها الاستثمار، أفسدها ظلمها للآخرين، ونفسية الظالم و نفسية المستثمر، نفسية الغاصب هي دوما نفسية شائخة هرمة متعبة لذلك تنظر هذه الطبقة الى ابسط الامور وتحسبها غاية ما يطمح اليه ويرغب فيه تنظر الى مظاهر بسيطة من التقدم فتقول للشعب، للامة العربية جمعاء، هذا اقصى ما يمكن ان تصلي اليه. عندها تفضل هذه الامة التي اعتادت على احد حالين لا ثالث لهما اما ان تلبس الثوب الذي يوافقها او ان تبقى عارية، اما ان تملك الوسائل التي تساعدها على تحقيق رسالتها في الحياة او تكون فقيرة معدمة، عندها تفضل هذه الامة ان يطول اجل خلاصها من ان تقبل بخلاص مزيف، فاذا قلنا ان الحزب الذي تناديه الامة العربية من اعماقها والذي تدعوه الامجاد العربية من ماضي التاريخ العربي السحيق هو الحزب الذي يجعل الامة غاية له لا الدولة، وان يكون هو امة مصغرة تكون نموذجا للامة الشاملة، اذا قلنا ذلك لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة اذ كلنا نشعر هذا الشعور، نشعر ان احتياجنا ليس الى اصلاح جهاز الدولة او ترميم خلل موضعي وانما هو الى انقلاب عميق شامل. فاذا كان ذلك صحيحا، اذا كانت هذه الحاجة صادقة فكيف يكون الحزب صاحب الرسالة قادرا على حمل رسالته؟
هو كما قلت ان يكون امة الانقلاب قبل ان يحقق انقلاب الامة وهذا يعني ان هوة سحيقة، ان فارقا اساسيا حاسما قد وضع بين الواقع، بين الحياة الواقعة في بلاد العرب، وبين هذا التكوين الجديد الذي هو الحزب، فرقا جوهريا في النوع، فرقا مطلقا لا يقبل النسبية ولا يتعرف عليها. ان يؤلف الحزب من نوع جديد يختلف في كل شيء عن الواقع الذي نثور عليه ونريد التخلص منه. فامة الانقلاب التي هي الحزب يجب ان تبرهن ليس فقط في الاهداف المكتوبة، ليس فقط فيما تضعه على الورق من برامج ومناهج واساليب التنظيم، بل تبرهن على عقلية جديدة، على روح جديدة، على خلق جديد، لا تجمعه بالواقع الفاسد اية رابطة او جامعة، ان لذلك علائم ودلائل وليس من الصعب ان نلمس الدلائل التي تدلنا على ان هذا التركيب الجديد، هذه الامة المصغرة، هذا الحزب، هو فعلا انقلابي ام انه لا يحمل من الانقلاب الا اسمه وعنوانه. وهذه الدلائل هي ان تتحقق في الحزب نفسه، في اخلاق أعضائه واسلوب عملهم وفي طريقتهم نحو تحقيق اهدافه، ان تتحقق كل الفضائل التي يبغون خلقها في المجتمع المقبل. لا يمكن ان يكون الحزب مماثلا مشابهامتجانسا مع الواقع الفاسد المريض وان يدعي ان باستطاعته خلق مجتمع صحيح جديد، فكما اننا نريد ان تكون امتنا في مستقبل قريب امة حية منسجمة حرة طليقة من كل الاعتبارات البالية، يحتل فيها المواطن المكانة التي تؤهله اليها كفاءته وخلقه واخلاصه كذلك يجب ان يكون الحزب الانقلابي محققا لهذه الصفات في تشكيله وفي اثناء طريقه نحو غايته. اذا لم يكن الحزب الانقلابي مجالا لظهور الكفاءات المخبوءة في الامة، اذا لم يكن مجالا لاحتلال كل فرد حسب ما تؤهله اليه قدرته لا اسمه ولا اسم عائلته، اخلاصه لا وجاهته او وسائله المصطنعة الخارجية، اذا لم يكن الحزب منذ بدئه في طريق النضال قادرا على تحقيق هذه الفضائل التي يدعو الشعب اليها ويسعى الى تحقيقها في الامة فكيف يمكنه ان يحققها في ما بعد؟ لنقل باختصار ان مستقبل العرب متوقف على هذه المرحلة من النضال، فاذا لم نقدر خطورتها التاريخية، اذا لم نكن واثقين من اننا نكتب صفحة جديدة في تاريخنا وفي تاريخ الانسانية فلن نقوى على تحقيق شيء. اما ان نأتي بشيء مبدع خطير يقلب حياة العرب من الذل الى المجد ومن الانحطاط الى الرقي، واما ان تفشل محاولتنا فشلا تاما، لن نعرف الحل الوسط، وقديما قلنا في اكثر من مناسبة ان التطور يعني التأخر واننا لا نستطيع ان نعتنق النظرة النسبية، وان نقول ان هذا الحزب رغم كل اخطائه ونواقصه هو خير من كل الاحزاب الاخرى.
هذا لا يمكن ان يسمى مديحا او حسنة اوفضيلة، الفضيلة الحقيقية التي يجوز ان نسميها فضيلة في الحزب هي عندما نقول انه يناقض الاحزاب الاخرى والواقع الفاسد. ان النظرة النسبية تقضي عليه بالعقم، وبالفشل على كل حركة. فنحن اذا وعينا هذه المسؤولية، وهي مسؤولية تاريخية، واذا قمنا بما ترتبه علينا من واجبات نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية ليس فقط جنودا محاربين بل افرادا مناضلين، واشخاصا واعين مفكرين. بل اننا نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية روحا صادقة اصيلة قوية ذات طاقة تقدر وتستطيع ان تفجر الحضارة تفجيرا، وان تملأ صفحات التاريخ بالابداع في مختلف نواحي الحياة. ولا ننسى ان حضارة العرب في القديم لم تكن ممكنة وما كانت لتتحقق لولا تلك الفترة النضالية التي لم تتجاوز عشرات السنين، ولكنها كانت هي الخميرة الروحية، كانت هي الكنز النفسي الخلقي الذي سمح للعرب فيما بعد ان يتوسعوا وينتشروا ويختلطوا بامم عديدة في جو حضاري مترف ومع ذلك ان يحتفظوا بقوة الابداع وبقوة الخلق.
شباط 1949
الانقلاب العسكري الاول في سوريا
مذكرة اللجنة التنفيذية لحزب البعث العربي
الى القائد العام للجيش والقوى المسلحة (1)
من دواعي الاغتباط ان نراكم تسجلون، في بيانكم الذي اذعتموه أمس على الشعب العربي في سوريا، ما كان لهذا الشعب من التأثير الاكبر في تحقيق الانقلاب الاخير. والحق ان الجيش الذي يتألف من ابناء الشعب لم يكن سوى الاداة الامينة المباركة التي نفذت رغبة قومية وارادة عامة طالما اعلنها الشعب، خلال السنوات الاخيرة في نضاله الجريء العنيد، وقدم في سبيلها الضحايا العديدة في مناسبات كثيرة.
ان هذه الحقيقة البارزة التي تعطي للانقلاب الاخير اقوى حجة لتبرير ما حدث، يجب ان تكون ايضا اقوى اساس لبناء المستقبل. فالشعب العربي في سوريا وفي جميع اقطار العروبة، لا يقنع من الانقلاب بان يكون نهاية عهد اسود فحسب، بل يريد ان يجد فيه نقطة انطلاق نحو الحياة الحرة المنتجة القوية.
ومن الواضح الجلي ان ضعف العهد السابق وانهياره كانا نتيجة السياسة التي قامت على خنق حريات الشعب وتزييف ارادته، وتسخير جهوده وموارد بلاده، لمصلحة الحكام وطبقتهم المستثمرة الجشعة. فلا بد اذن من قلب هذه السياسة من اساسها حتى يقّدر للانقلاب ان يحيا ويدوم.
ولا يكون ذلك الا اذا اعتبر الشعب هو العنصر الاساسي الثابت في الحادث العظيم الذي تّم، وان من حقه بل من أوجب مقتضيات المصلحة القومية، ان يتبنى هذا الانقلاب، يحميه ويقويه ويوجهه الوجهة الصالحة.
ولكي يستطيع الشعب ان يحمي انقلابه ويثبت دعائمه على الاسس الصحيحة المتينة، عليه ان يكون حرا في التعبير عن ارداته ورغباته، وأن يشارك عمليا في رسم منهاج العهد الجديد وتطبيقه. عندئذ يجد الشعب بقاء العهد الجديد مرتبطا ببقائه ومصلحته ويكون مستعدا للدفاع عنه بالنفس والنفيس، وعندئذ تكون لهذا العهد قوة لا تؤثر فيها الاخطار مهما عظمت ومن اي ناحية اتت.
ان حزب البعث العربي الذي قدّر في جميع مراحل نضاله، المسؤولية القومية التي ترتكز على فكرته الشعبية الاشتراكية الحرة يعتبر نفسه في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ سوريا العربية، مسؤولا ايضا عن بيان الخطوات الضرورية التي تحقق للبلاد ثمار نضالها الطويل. ولذلك فالحزب يرى ان تبنى السياسة على الاسس التالية:
1- تشكيل حكومة مؤقتة حائزة على ثقة الشعب.
2- تطهير الجهاز الحكومي من جميع صنائع العهد البائد، ومحاكمة المسؤولين عن فضائحه وارتكاباته.
3- تأمين الحريات العامة التي نص عليها الدستور.
4- اجراء انتخابات حرة في المدة المحددة للدستور، وعودة الحياة الدستورية الجمهورية الى مجرها الطبيعي.
عميد البعث العربي
ميشيل عفلق
دمشق في 4 نيسان 1949
(1) قبيل حدوث الانقلاب كانت الدلائل تشير الى وقوعه لان الشعب لم يعد يطيق تآمر الفئات الحاكمة وتخاذلها امام السياسة الاستعمارية والذي ظهر بوضوح من كارثة فلسطين، فارتكز قائد الجيش “حسني الزعيم” على هذا الشعور الشعبي وقام بالانقلاب الاول، فصفق له الشعب وأيده الحزب ضمن شروط قدمها في مذكرة خاصة. وسعى لتشكيل جبهة سياسية تمنع قائد الجيش من الشطط والاستئثار فلم يثمر سعيه بسبب من انقسام رجال السياسة. فبقي الحزب وحده في الميدان يوجه المذكرات والتحذير. وقد كلف الحزب للاشتراك في الوزارة مرتين فرفض لعدم وجود الضمانات لقيام حكم دستوري حر، واخيرا عمد الحزب لمصارحة الرأي العام بتوزيع مذكرة شرح فيها سوء الوضع وانحراف قادة الانقلاب. ولكن السلطة اعتقلت عميد الحزب وعددا كبيرا من الاعضاء، واخذت تنكل بهم، كما منعت جريدة “البعث” من الصدور. وبعد ان خر ج قادة البعث العربي واعضاؤه من السجون انصرفوا الى تنظيم المقاومة السرية بالشكل المتلائم مع حكم دكتاتوري عسكري، وتفاهموا على ذلك مع عدد من رجال الجيش والسياسة.
حول اتفاقية التابلاين
إلى رئيس مجلس الوزراء القائد العام للجيش والقوى المسلحة
إن حزب البعث العربي، الذي وقف من هذا العهد موقف المؤيد، ليرى من واجبه أن ينبه إلى كل ما من شأنه تهديد المصلحة الوطنية، أو إلحاق الضرر بها، ليكون العهد الجديد متجاوبا كل التجاوب مع حاجات الشعب وأمانيه.
لقد علمنا إن اتفاقية ” التابلاين” هي الآن، قيد دراستكم، فجئنا بهذه المذكرة نلفت أنظاركم إلى ما فيها من إجحاف بحقوق الوطن، وما تتضمنه من أخطار جديرة بالعناية والحذر. ونحن إذ نشير إلى هذه الأخطار فانا نكتفي بالأخطر منها، ونحيلكم إلى مطالعة الكراس المرفق بكتابنا هذا، لتكونوا رأيا نهائيا فيها.
1- لقد أعطيت الشركة حق بناء مطارات ومنشآت مختلفة لا يستلزمها المشروع لو انه كان اقتصاديا بحتا.
2- إن في الاتفاقية كل الغبن والخسارة نظرا للامتيازات المالية التي تتمتع بها الشركة، وضآلة الفوائد المالية التي تجنيها سوريا، وضخامة أرباح الشركة.
3- تنازلت سوريا عن سلطتها القضائية والتشريعية، وارتبطت مع الشركة إلى الأبد، ومنحتها حق تمويل الاتفاق، وفقدت -في بعض الأحيان- حق الرقابة على موظفي وعمال الشركة مما يخل بحق السيادة من أساسه.
4- لم ترد ضمانات في المشروع، للعمال وعددهم وزمن عملهم وأجورهم.
5- تمنح الحكومة الشركة حق تأسيس خدمات مختصة بالتعليم والصحة والماء والنور، مع إعفائها من دفع الضرائب الخاصة لهذه الخدمات (مادة 12)، ومعنى ذلك تنازل الحكومة عن التوجيه القومي والثقافي والاجتماعي لشركة ودولة أجنبية.
إن حزب البعث العربي الذي قدر الأخطار الكامنة في هذا المشروع فقاومه في العهد السابق اعنف مقاومة، لا يسعه اليوم إلا أن يطلب إليكم إرجاء التصديق عليه، إلى أن يجتمع المجلس النيابي المقبل.
عميد حزب البعث العربي
ميشيل عفلق
دمشق في 6 نيسان 1946
(1) مذكرة صادرة عن حزب البعث العربي في 6 / 4 / 1946
الانقلاب والشعب العربي(1)
هذه ساعات حاسمة في تاريخك، وعليك وحدك ايها الشعب يتوقف مصيرك ومستقبلك. لقد كانت تقوم في وجه اخلاصك وحيويتك ووطنيتك عقبات جسيمة وعراقيل دائمة، هي عقبات متراكمة من الفساد والاستبداد والاستثمار والشهوات الدنيئة والمؤامرات والخيانات. وفي عمل واحد أزيلت من طريقك هذه العقبات، فانفتح الطريق أمامك، فلا عذر لك بعد اليوم لان ما سيقوم في هذه البلاد من سياسة واعمال، انما انت الذي ستقوم به، فلا ارادة فوق ارادتك، هذه هي القناعة التي يجب ان تتمسك بها دوما، ان الذي قضى على العهد السابق وأوصله الى الحضيض ليس السرقات والخيانات والمحسوبيات فحسب، بل عدم اعتماده على الشعب. لقد مات هذا العهد بفقر الدم لان الشعب لم يكن يمده بدمه الزكي.
أيها الاخوان
ليس من قوة في الارض تعادل قوة الشعب اذا كان الشعب حيا واعيا لحقوقه. ان الاسلحة والاموال والدسائس، تلك القوى الكاذبة التي اعتمد عليها العهد البائد، فأفسد الضمائر بالاموال وصوّب الرصاص الى صدور الشعب وفرض عليهم الخوف والقلق، كل هذا لم يغن عن الحكم البائد الفاسد شيئا، ان القوة الحقيقية هي ملايين الشعب من الطلاب والعمال والفلاحين وبقية الجماهير العاملة.
فاذا كنا نستقبل عهدا جديدا فعلينا اولا ان نعتبر بعهد قد مضى، وانقضى الى غير رجعة، علينا ان نعتبر بأخطائه وعلينا ان نتدارك تلك الاخطاء ونبني حكمنا منذ اللحظة الاولى على القوة الحقيقية، القوة الشعبية.
أيها الاخوان
ليس ما حدث في سوريا انقلابا، وهو في الواقع خطوة نحو الانقلاب، اننا نستبشر بهذا الحادث ونعلق عليه الآمال، ولكن علينا ان نوسع افقنا وننظم صفوفنا وان ننظر دوما الى الامام، الى العلاء. فالانقلاب الذي يطمح اليه الشعب العربي هو انقلاب شامل. الانقلاب الذي يجب ان نسعى اليه دائما وان نجعل من انقلابنا الحاضر وسيلة وخطوة نحوه، هو الانقلاب الذي يحقق للشعب العربي في جميع اقطاره الاشتراكية العربية والوحدة العربية.
ان الانقلاب الذي ننشده هو الذي يحول هذه البلاد العربية الواسعة من بلاد ضعيفة مشلولة الى بلاد يكون فيها كل عربي جنديا قويا يدافع عن بلاده، الى بلاد تقوم على (70) مليونا من العرب الاحرار الواعين المنتجين.
هذه هي الامة العربية التي نريدها والتي صممنا على بعثها. لا الأمة التي تحتكر ثروتها طبقة اقطاعية وتضيع عليها سياستها وشرفها وكرامتها.
الامة العربية التي نريدها هي التي تجمع لنا كل اقطار العروبة، لا الدويلات المجزأة التي اوجدتها انانية الحكام.
أيها الاخوان
إذا كان الانقلاب في سوريا سيكون على هذا المنوال فاننا مستعدون والشعب كله مستعد لان يبذل في سبيله الدماء.
ميشيل عفلق
7 نيسان 1949
(1) الخطاب الذي القاه عميد الحزب في تظاهرة البعث العربي بدمشق في 7 نيسان 1949 بمناسبة الانقلاب، ونشر في العدد الرابع من النشرة الداخلية الدورية.
طريق الانقلاب الصحيح
تعلمون ولا شك (1) ان حزب البعث العربي كان قد ايد الانقلاب منذ يومه الاول تأييدا فعليا. وقام اعضاء الحزب في العاصمة ومختلف المدن والقرى بتظاهرات شعبية في صبيحة اليوم الثاني لتوطيد دعائم الانقلاب.
ان موقف حزبنا الايجابي من هذا الانقلاب كان مبنيا على الاسباب الآتية:
اولا: كان الحزب قد فقد اخر أمل بصلاح العهد الماضي مذ أشرف رئيس الجمهورية السابق على تزوير الانتخابات ووصم العهد بوصمة اللاشرعية. فاعتبرنا ان التخلص من ذلك العهد هو خلاص للبلاد من جميمع الاخطار والكوارث التي تنجم حتما عن كل عهد غير شرعي. وأيدنا الانقلاب لاعتبارنا إياه فرصة تعيد الى الحكم شرعيته والى الشعب حقوقه وسيادته.
ثانيا: ان تأييدنا للانقلاب كان أيضا بنتيجة اطمئناننا الى التصريحات الاولى والبيانات التي صدرت عن قيادة الجيش السوري الباسل والتي كان طابعها الصريح القوي مبادئ الحرية والدستور والتقدمية والاشتراكية وهي اقرب ما تكون الى مبادئ (البعث العربي).
ثالثا: لاطمئناننا الى ذلك العدد من ضباط الجيش الذين كانوا في طليعة الانقلاب، والذين نعرف فيهم العقيدة القومية الصادقة وتقدير المسؤولية.
رابعا: لاقتناعنا بأن التفاف الشعب وهيئاته القومية الواعية حول الانقلاب هوفي كل الاحوال أضمن لسلامة الحدث الانقلابي ومنع الانقسام الداخلي والاستغلال الخارجي، وادعى الى حسن توجيه العهد الجديد بحيث لايبقى للقائمين عليه عذر اذا هم ابتعدوا عن الإتجاه الشعبي الصحيح.
وهكذا كان حزبنا ايضا اول الاحزاب الذي اتبع تأييده الفعلي بتأييد رسمي عبرت عنه المذكرة الاولى التي قدمناها لكم واشرنا فيها الى ضرورة اعتماد العهد الجديد على قوة الشعب وتأييده الحر الواعي، وبينا الشروط التي تضمن لهذا العهد التأييد الشعبي الصحيح وتأييد الحزب بصورة خاصة. وهذه الشروط تتلخص في تشكيل حكومة حائزة على ثقة الشعب وتطهير الجهاز الحكومي ومحاكمة المسؤولين واجراء انتخابات حرة لإعادة الحياة الدستورية.
وقد كان في تصريحاتكم الخاصة لنا وفي اذاعة مذكرتنا ما جعلنا نطمئن الى ان هذه الشروط ستكون اساسا لسياسة العهد الجديد، ولكن لا نكتمكم اننا فوجئنا بعد ذلك بأعمال وتدابير مخالفة للتصريحات التي بدأ بها الانقلاب وهذا يظهر في الأمور الآتية:
اولا: في التعيينات في وظائف الدولة الكبرى ولا سيما الالتجاء الى اشخاص كانوا من ابرز دعائم العهد الماضي الذي جاء الانقلاب ليمحوه.
ثانيا: في التسريحات التي لم تشمل الاشخاص الكبار المسؤولين.
ثالثا: في تشكيل حكومة مبنية على اساس تجاهل كل النزعات السياسية التي تحملها وتمثلها الاحزاب، وهو الشيء الذي كانت تشكومنه البلاد في العهد الماضي. مع ان الانقلاب لم يكن ليتحقق او يفكر فيه مجرد تفكير لولا وجود احزاب منظمة مثلت المطالب الشعبية طوال العهد الماضي، ويرجع لها وحدها الفضل في الابقاء على روح النضال في الشعب مما سهل حدوث الانقلاب.
رابعا: في إلغاء امتيازات الصحف لاسيما صحف الاحزاب التي مثلت المعارضة فى العهد السابق. ومع ذلك فقد قدرنا ظروف الانقلاب الاستثنائية اكبر تقدير. وفرقنا بين ما هو شكلي مؤقت وبين ما هو جوهري أساسي..صبرنا بعض الصبر على تأخير اعادة الوضع الدستوري للبلاد، وبقينا أميل الى التفاؤل بان الأمور ستأخذ بعد حين مجراها الطبيعي المتفق مع اهداف الانقلاب.
ولم يفتنا العلم بأن من الخطأ ان ننكمش ونبتعد عنكم في هذه الظروف العصيبة الصعبة، وان علينا واجب الاتصال بكم وعرض ما نعتبره مطالب الشعب المشروعة والتنبيه الى الاخطاء والانحرافات،خاصة فيما له مساس بسيادة البلاد واستقلالها وبسيادة الشعب وحقوقه الاساسية.
هكذا جرت المقابلة ولفتنا نظركم الى جملة اشياء منها عدم المشروعية في تأليف لجنة الدستور من موظفين، وضرورة ترك ذلك للمجلس المقبل؟ كما اننا قدمنا لكم في مقابلة اخرى مذكرة عن اتفاقية التابلاين بعد ان فوجئنا بتصديقكم لاتفاقية النقد. وقد بينا لكم فيها من جهة الاجحاف الصارخ في شروطها الحالية ومن جهة اخرى ضرورة ايقاف أمر البت فيها الى المجلس النيابي المقبل لأنه وحده صاحب الحق في ذلك
ولم يفتنا ان نلفت نظركم اثناء هاتين المقابلتين الى مضار النهج العقيم المعكوس الذي سار عليه العهد السابق في علاقاته مع الاقطار العربية الشقيقة،وأعربنا لكم عن املنا في ان نرى العهد الجديد يبتعد عن سياسة التكتل والتفرقة والمهاترة التي اوصلتنا في الماضي الى اسوأ النتائج.
وبينا نحن ننتظر نتيجة ايجابية لاتصالاتنا ومذكراتنا ونتوقع بفارغ الصبر ما يدل على انتهاء التدابير الاستثنائية والشروع في تحقيق الوضع الدستوري المشروع للبلاد، اذا نحن نرى بدل ذلك ايغالا في هذه التدابير حتى بتنا نظن انها احجار اساسية في العهد الجديد.
وبالرغم من ذلك فلم نقطع الامل، واحببنا ان نعرض عليكم في مقابلة جديدة وجهة نظرنا في أمرين اساسيين نعتبرهما من أسس النظام الديمقراطي الصحيح الذي جاء الانقلاب لإقامته: نعني قضية الدستور وقضية قسم الموظفين.
وفي. هذه المقابلة التي تمت مساء الاحد 15 آيار 1949 لم نكتمكم دهشتنا من التصريح الذي نشرته الصحف على لسانكم،والذي يعلن بان النية متجهة لعرض الدستور الجديد على الاستفتاء الشعبي للمصادقة عليه. وقلنا آنئذ ان الدستور لا يجوز ان تضعه لجنة معينة من الموظفين،كما ان الشعب لا يمكن ان يصادق مباشرة على امر خطير كهذا، ولا بد من انتخاب مجلس نيابي تأسيسي ينتخب انتخابا حر ا يضع هو الدستور بملء الحرية، ويكون للشعب وهيئاته السياسية وصحفه الحرية التامة في مناقشة هذا الدستور وإبداء آرائها فيه، ويجوز بعد إقراره من قبل المجلس التأسيسي، ان يعرض على الاستفتاء الشعبي وهذا هو الطريق الوحيد المتبع في البلاد الديمقراطية كفرنسا وايطاليا، وهذا ما يجري حاليا في الهند وباكستان.
ثم أبدينا في هذه المقابلة استغرابنا من صدور مرسوم اشتراعي يقضي بان يؤدي الموظفون قسما يتعهدون فيه بعدم الانتماء في الحاضر والمستقبل لأي حزب سياسي، وقلنا بان هذا التدبير لا يوجد له مثيل في البلاد الديمقراطية ولا في اي قطر من الاقطار العربية: وان فيه تجاوزا لأبسط حقوق المواطن ومساسا بعقيدته القومية وكرامته الانسانية. فالحكومات مهما تطرفت وغالت في هذا الإتجاه (المعاكس للديمقراطية) فانها لا تصل الى ابعد من حظر النشاط السياسي على موظفيها اثناء قيامهم بوظيفتهم، وثمة ناحية لها مساس بصميم تكوين امتنا السياسي والاجتماعي هي ناحية الحياة الحزبية وضرورة احترامها واحلالها المقام الاول في سياسة الدولة في هذا العهد الجديد. ومما لاشك فيه ان حكومات الانتداب اولا وحكومات العهد السابق ثانيا، قد عملت بكل الوسائل على إعاقة انتظام الشعب في احزاب عقائدية واضحة الاهداف مما جعل البلاد تتخبط في الفوضى والجهل وضياع المسؤولية، وأوجد هوة متزايدة الاتساع بين الشعب وحكامه، ولقد خرجنا من هذه المقابلة بأثر طيب بعد ان استمعتم لملاحظاتنا وذكرتم بأنكم ستعيدون النظر في هذين الأمرين وتهتمون بهما بالغ الاهتمام.
ومع ذلك فقد فوجئنا في اليوم الثاني بخبر تصديق اتفاقية التابلاين دون الأخذ بها جاء في مذكرتنا.
لقد ألمحنا في مذكرتنا الاولى التي قدمناها لكم الى حقيقة لا يمكن نكرانها، وهي ان الجيش، بقيامه بالانقلاب كان اداة منفذة لرغبة قومية ولإرادة عامة عند الشعب.وان الانقلاب لا يقدر له البقاء الا اذا اعتبر دوما انه ثمرة هذه الارادة الشعبية وتلبية لها، فالجيش هو جيش البلاد، ولم تكن قوته بسلاحه ولكن بتجاوبه مع أماني الشعب وحاجاته، والشعب لم يشعر بهذا التجاوب العميق مع حركة الجيش لمجرد انها اقصت عن الحكم شخصا بالذات بل لاعتقاده انها ستقضي على سياسة ضارة كان العهد السابق ينفذها.
من ابرز سيئات السياسة الماضية خنقها للحريات في سبيل ستر الفضائح و الارتكابات وبقصد التلاعب بمقدرات البلاد و بمصير العروبة وفق مصالح الاشخاص، وانانيتهم. واليوم لا يطمئن الشعب الى ان تلك السياسة قد زالت نهائيا ما لم تضمن له الحرية التي تمكنه ان يراقب الاعمال ويقيس مدى انطباقها على الوعود والتصريحات، ومدى انسجامها مع مصلحته وأهدافه القومية في الداخل والخارج.
لهذا يرى حزب البعث العربي ان طريق الانقلاب الصحيح هو في تحقيق الخطوات الاتية:
اولا: تأليف حكومة من الاحزاب التي مثلت في العهد السابق المعارضة لانها هي الاحزاب التي تمثل الشعب.
ثانيا: اعادة الحريات كاملة ولا سيما لتلك الاحزاب وصحفها.
ثالثا: ثم الشروع في اجراء انتخابات لا اثر فيها للتدخل او الضغط ووضع دستور بالطرق المشروعة من قبل المجلس المنتخب او الابقاء على الدستور القديم وتعديله وانتخاب رئيس للجمهورية من قبل المجلس ايضا.
ان حزب البعث العربي، اذ يصارحكم برأيه في سياسة العهد الحاضر، يقدم اليكم المطالب التي بتحقيقها يعود الى الشعب اطمئنانه، والى العهد سلامة اتجاهه ليأمل ان تقدروا الدوافع القومية التي تدعو الى هذه المصارحة ورغبته الأكيدة في ان يبقى متجاوبا مع هذا العهد، ليوجه جهوده نحو الإنشاء والبناء، بعد ان كان يوجهها في المعارضة والنضال.
ان البلاد لم تقصر في تقديم أقصى ما تستطيع من حسن الاستعداد وصادق التشجيع لكي يكون الانقلاب بدء تحول جوهري في حياتنا وقد طال انتظارنا لما يطمئنها على ان العهد الجديد يقدر هذا الاستعداد ويستفيد منه الاستفادة المرجوة.
ويعتبر حزبنا انه يقدم للبلاد خير خدمة اذا هو استطاع ان يحفظ للشعب ثقته بالانقلاب ويوجه الانقلاب الى ما يؤهله لمثل هذه الثقة.
عميد حزب البعث العربي
ميشيل عفلق
دمشق في 24 أيار 1949
(1) المذكرة التي تقدم بها حزب البعث العربي الى رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للجيش والقوى المسلحة في 24 آيار 1949 والتي تتضمن رأي الحزب في الخطوات اللازمة لتحقيق الانقلاب الصحيح.
مهمّتنا النضال لإنقاذ أهداف
العَرب من الأيدي المأجورَة
تمرّ على الشعب في هذه الآونة(1) حوادث سياسية تضطره الى أن يزداد واقعيّة ويزداد يقظة وحذراً من الإستسلام إلى الأحلام المريحة. وهو يقترب يوماً بعد يوم نتيجة لهذه الحوادث التي تمرّ عليه من مجابهة الحقائق القاسية والتعرف على مشاكله وإدراك مدى صعوبتها وعمقها، و بالتالي يقترب من معرفة الحلول التي يمكن ان تنجح. وهذه الحلول لن تكون ناجحة شافية اذا لم تكن بدرجة عمق واتساع وخطورة المشاكل نفسها.
البعث العربي أمل الأمة
هذا بوجه عام، أما فيما يخص موقف حزب البعث العربي من هذه الحوادث والإضطرابات فمهما يكن رأيه واجتهاده وتحليله، والموقف الذي يتخذه منها، فهناك حقيقة لا غنى للحزب عن أن يدركها ويتمسك بها على أنها الحقيقة القوية الثابتة التي هي مقياس كل الحقائق الأخرى والتي يجب ان تكون مرجعه في كل شيء. هذه الحقيقة هي أن حزب البعث العربي الصخرة المتينة الوحيدة في وسط هذا البحر الهائج أو هذه الرمال الواهية المضطربة، وأنه بقدر ما يحتفظ بمكانته وتماسكه وفعاليته وقدرته على إدراك الحوادث والتأثير فيها، يستطيع ان يضمن للبلاد أملاً حقيقيّا ًبالتدرج نحو الخلاص. فكل شيء ما عدا هذا الحزب بفكرته وبأشخاصه العاملين حسب هذه الفكرة نستطيع ان نحكم عليه بالعقم والبطلان والكساد. فاذا كان في البلاد نقطة ارتكاز مهما تكن صغيرة، شريطة ان تكون حيّةً متينةً قابلةً للنمو عندها لا يبقى أي مبرر لليأس والتخاذل. فإذا جاءت الأحداث على أحسن ما يتوقع المخلصون ملائمة للمصلحة العامة وموافقة للرغبات، ولم تكن في البلاد قوة واعية مضمونة الإخلاص قد توفرت لها الشروط للعمل، ما قيمة هذه الأحداث اذا جاءت على هذا النحو ما دامت الفرص ستذهب سدى ولن يستفاد منها كقوة تستخدم لمصلحة البلاد وخيرها.
واجبات أعضاء البعث العربي
فاذا كانت هذه الحقيقة واضحة في أذهاننا راسخة في نفوسنا، وأيقنّا بعد شتى التجارب أن هذا الحزب هو الأمل الوحيد وأنه قد يكون مهدداً بالضياع إذا قصّر أعضاؤه في مهمتهم ولم يؤدوا الواجبات المترتبة عليهم ليكونوا في مستوى حزبهم، إذا أيقنّا أن الأحداث الخارجية لا قيمة لها إلاّ اذا ضمنت القوة الداخلية لأنّ هذه الأحداث منفعلة تنتظر قوة تسيرها لمصلحة البلاد. إذا أيقنتم من كل هذا ومن أنّه لا يوجد من يستطيع إيجاد هذه القوة غير هذا الحزب عندها تخرجون من عداد الأكثرية الساحقة التي تنظر الى الحوادث نظرة رعب وخوف وجهل او تفاؤل في غير محلّه، وتنشأ في نفوسكم هذه القوة الخارقة التي تضمن الإستقرار النفسي الذي تنطلقون منه للقيام بواجباتكم.
فلا مجال اذا للرعب والذعر والتساؤل المتلهف عن أسباب الأحداث المتعاقبة وأسرارها وغوامضها. فعليكم ان تقوموا أوّلاً بواجبكم وبعد ذلك تكون لأسئلتكم معنى وفائدة، إما إذا أهملتم هذا الواجب فإن الأسئلة والتساؤلات والغيرة المذعورة على الحزب وعلى سلامة البلاد لا تعدو أن تكون نوعاً من الهيجان المؤقت أو ضرباً من التلّهي الفكري لمعرفة الأسباب والنتائج معرفة حيادية متفرجة لا دخل لها في العمل ولا اشتراك لها فيه.
الآن بعد أن بيّنت لكم بأن الأساس دائماً في هذا الظرف وكل ظرف هو ان نقوم نحن بواجبنا ومهمتنا، وهي أن نحقق هذه الحركة التي صمّمنا على إيجادها والتي عرفنا أنها تلبّي الحاجات العميقة في أمتنا، الآن نستطيع ان نلقي نظرة على ما يجري خارج الحزب ونقف الموقف المناسب ونكون مطمئنين الى أن تفكيرنا سيكون دائماً مجدياً نافعاً للبلاد وان موقفنا سيكون صائباً.
أهداف العرب في أيد مأجورة
لقد اتضح في هذه الآونة أكثر من أي وقت مضى بأن الأهداف القومية المقدسة، أهداف العرب التي يجب أن تنبعث في صميم كل عربي وتكون مدار حياته ونقطة التجمع والتركز لجميع جهود العرب، لقد اتضح بأن هذه الأهداف قد تناولتها الأيدي المأجورة المحترفة وشوّهتها وجزّأتها، وجعلتها ذرائع لغير المقاصد الحقيقية منها وشعارات لمصالح ليست غريبة عن البلاد فحسب بل معادية لها، ولم يعد النزاع اليوم بين العرب، كما كان قبل حين، بينهم وبين الإستعمار على حقّهم في الحرية والسيادة وانما انتقل النزاع الى مرحلة أخطر، وارتدى ثوباً مموّهاً فصار النزاع بينهم وبين بعضهم، أي أن قسماً منهم أو اقساماً قد تبنّوا المصالح الإستعمارية وألبسوها باسماء قومية. وهكذا اصبح النزاع في الظاهر على الأهداف القومية التي تخفي وراءها مصالح ومآرب عدوانية. كنا نحارب الفرنسيين لأنهم احتلوا البلاد وكنا نعرف أن العرب يحاربون الإنكليز للسبب نفسه، فالمعارك مستمرة بين طرف وطني وطرف أجنبي لا لبس فيها ولا خفاء. أما الآن فالنزاع على الوحدة والإتحاد وعلى الجمهورية والديمقراطية وعلى الحرية والسيادة بين العرب انفسهم، او بكلمة أصح وأكثر إنصافاً يجري النزاع على أيدي فئات محترفة باعت نفوسها وضمائرها للأجنبي، وهناك من يريد تحقيق المصالح الإستعمارية عن طريق الدعوة للوحدة والجمهورية والحرية، وهناك حكومات عربية ملكية تناصر الجمهورية في سوريا وأخرى تستسلم للأجنبي ولكنها تدّعي انها تحمل لواء الوحدة والإتحاد. فعلينا ان نترفع عن هذه المنازعات التي لا تمت الى حقيقة القضية القومية بصلة، وإن سميت باسمها واتّخذت لها ألفاظاً عربية وتسميات اشتقت من الاهداف القومية، ولكنها في الواقع أجنبية.
علينا أن ننظر الى هذه الأمور من عل، وأن ندرك ما فيها من خطأ وتضليل، وأن نفهم حقيقة هذه المنازعات وأن نفهمها للشعب حتى لا يذهب ضحية منازعات لا تعبّر عن مشاكله الحقيقية.
هدفنا الوحدة والحرية والإشتراكية
لقد عمل البعث العربي منذ نشوئه على الدعوة والعمل للأهداف العربية الصحيحة وكثيراً ما لخصها في ثلاثة: الوحدة والحرية والإشتراكية، وكثيراً ما دخل المعارك الإنتخابية وشعاره فيها هو العمل لهذه الأهداف الثلاثة. والبعث العربي قد أدرك حقيقة الأهداف القومية عندما جمعها في هذه المبادئ وأدرك انها تشكل وحدة تامة. فالعمل للوحدة أمر ضروري طبيعي بالنسبة للعرب لضمان مستقبلهم، كذلك العمل في سبيل الحرية أيضاً، إذ ما قيمة الوحدة ان لم تكن تضم شعباً حراً واعياً لحقوقه قادراً على ممارستها… والمبدأ الثالث الإشتراكية وهو ان يكون في هذه الوحدة شعبٌ حرٌ منتجٌ قادرٌ على الحياة، وتكون لأفراده فرصٌ متكافئة فتظهر قواه وامكانياته دون عرقلة مصطنعة تفرضها طبقة على أخرى او استثمار داخلي. عندها يُعطي العرب طاقتهم القصوى ويكون مجتمعهم قادراً على البقاء والدفاع عن نفسه.
لا تعارض بين أهدافنا
اننا عندما نتصور حاجة العرب المتساوية الى هذه الغايات الثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية، ندرك بأن هذه الاهداف تتعاون دون ان تتعارض، وتنسجم موحدة، كل منها يساعد الآخر ويمهد له. غير انها اصبحت مجزأة متناحرة على ايدي الفئات السياسية المشبوهة في اخلاصها وفي صلاتها. فالذين يدعون للوحدة يحاربون الحرية والاشتراكية، والعكس صحيحٌ ايضاً. فكيف يمكن ان يكون بين اهداف قومية واحدة متممة لبعضها مثل هذا الإنقسام والتعارض؟ والأصح هو في ان نقول: ان التعارض هو في الفئات المأجورة لا في الاهداف القومية.
البعث العربي لا يستطيع ان ينظر الى الأمور نظرة سطحية تقليدية مقتبسة من عالم السياسة المملوء بالغش والاصطلاحات المصطنعة والارتجال، لانه يستمد احكامه من اخلاصه وتجاوبه مع مصير الامة، لذلك لن يكون له هذا الموقف السطحي الطائش المشوّه الذي يقفه الآخرون الذين هم تارةً يحاربون هدفاً بحجة الإنتصار لهدف آخر، وتارةً يتذرعون بهدف ليحطموا آخر، وهكذا…
موقفنا من الجامعة العربية
تذكروا ان حزبنا وقف من الجامعة العربية موقفا سلبياً حذراً منذ تأسيسها فأصدرنا البيانات والمقالات نحذر فيها الشعب العربي من خديعة جامعة الدول التي شكلت لتحول دون الجمع بين العرب ولتلهيهم بجمع كاذب عن حاجتهم الى الوحدة الحقيقية، ولكي تخدرهم وتبث بينهم الفوارق والتجزئة وتحول دون اي تعاون حقيقي تفرضه مصلحتهم وظروفهم القاهرة.
لقد كانت نظرتنا منذ البدء ان الجامعة العربية هي جامعة حكومات اقطاعية فهي تمثل خطرين كبيرين: خطر الاستعمار الخارجي وخطر الاقطاعية الداخلية، والعرب لا يشكون الا من هذين الدائين.
فاذا وصلت البلاد الى هذه الحالة المؤلمة من تشتت أهداف العرب القومية تتناهبها الدول الإستعمارية فليس ثمة ما يدعو الى التشاؤم والهلع، بل يجب ان نرى في ذلك سبيلاً إلى تصفية الميدان السياسي من كثيرين من الخداعين الذين كانوا يموهون ويضلّلون، والى ان نكتشف حقيقة الاغراض التي كانت تحرك السياسيين لنحذرهم ونحذر الشعب منهم، فلا نكون أداة مسخرة لمنازعات مأجورة لخارج البلاد ولمآرب غير وطنية.
المهمة الملقاة على عاتقنا
ان ما يجب ان يبقى في اذهانكم هو اولاً: ان ما يجب ان يعول عليه ليس مشاهدة الحوادث او البحث في أسبابها ونتائجها، وإنما المعول عليه ان توجد في البلاد حركة نقية واعية فعالة تستطيع ان تؤثر في الحوادث وان تحولها إلى الطريق الذي يعود بالخير على البلاد. فمرجع كل شيء هو حزب البعث العربي، ومهما تعاقب على بلادنا من أحداث وعواصف أشدّ من التي جرت فلا مجال للذعر لأن هذه النواة ستنمو وتتغلب على الأنواء.
اما الفكرة الثانية فهي ان ننظر دوماً الى حقيقة اهدافنا ونستمد ذلك من تفكيرنا لا من الصحف والسياسيين المحترفين، فأهدافنا القومية موحدة منسجمة لا تناقض بينها، وعلينا ان نرسم الخطة القويمة لهذه الأهداف مهما كانت الصعوبات -إنها الوحدة والحرية والإشتراكية. فالوحدة التي تتعارض مع الحرية هي وحدة كاذبة، والحرية التي تتعارض مع الإشتراكية والوحدة هي كاذبة ايضاً، واذا كان هناك من يستغل ذلك ليقدم طريقاً مضللة كاذبة فمن واجبنا ان نحذر الشعب كي لا يسلك سبيل الخداع بل الطريق الصحيحة.
ميشيل عفلق
29 كانون الاول 1949
(1) حديث القي على الطلبة الجامعيين، ونشر في جريدة البعث، العدد 336.
الخمسينات
العرب بين ماضيهم ومستقبلهم
ان علاقة الدين بالدولة التي تثار الآن في سوريا بمناسبة وضع الدستور الجديد هي من أهم القضايا القومية، لا كما يريد البعض ان يصورها بأنها مسألة تافهة. فهذه القضية تشمل شيئا اوسع من علاقة الدين بالدولة، وهو علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها، كما أنها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل.
أما الذين يقللون من شأن هذه القضية فالمرجح أنهم يقصدون فساد الأسس التي يبني عليها دعاة مزج الدين بالدولة نظريتهم وفساد الأساليب التي يلجأون إليها لدعم هذه النظرية، وسوء النوايا والأغراض السياسية والاجتماعية التي تحرك بعض المتزعمين لهذا الموقف أو بعض المناوئين له، لذلك وجب أن نتناول كل نقطة من نقاط الموضوع ونوضح حقيقتها الفكرية ونتائجها العملية، القريبة والبعيدة، في حياة الأمة العربية.
لماذا ظهرت هذه المشكلة في سوريا، وماذا يعني ذلك؟ لا شك أن قيام جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد كان المناسبة لظهور هذه المشكلة، ولا شك ايضا ان في وضع سوريا السياسي الشاذ وما يلابسه من أغراض حزبية ومداخلات أجنبية، عاملا كبيرا في اثارة هذه المشكلة وتوسيعها. ولكن الى جانب ذلك توجد عوامل أخرى تعطي للأزمة القائمة معنى أوسع وأعم وأعمق من معنى الازمات الحزبية والسياسية الطارئة، وهذه العوامل منها ما يتعلق بوضع سوريا التاريخي أي بكونها تضم عدة طوائف ومذاهب، ومنها ما يتعلق بوضع سوريا القومي بالنسبة الى النهضة العربية الحديثة، أي باعتبار سوريا أكثر الأقطار العربية اتصالا بفكرة القومية العربية وبحركة انبعاثها، وأكثرها تهيؤا لوضع الأسس الشاملة لهذه الفكرة ورسم الخطوط الواضحة لمستقبل الأمة العربية.
والحق أن لسوريا وضعا قوميا ممتازا تضافرت على خلقه عوامل عدة، تاريخية واجتماعية وسياسية. فسوريا قطر عربي صغير ليس فيه من الإمكانات ما لمصر مثلا، وهي أيضا رغم تقدمها النسبي في الثقافة والأوضاع الاجتماعية، إذا قيست ببعض الأقطار العربية المتأخرة في هذا المضمار، فأنها تقصر عن مصر ولبنان ولا تفوق العراق.
يمكن القول ان سوريا تمثل النقطة الوسط بين التيارات التي تتجاذب العرب في هذا العصر. فصدرها منفتح لتأثيرات الحضارة الغربية، وقلبها زاخر بالعواطف والذكريات العربية. لذلك كان كل تفاعل بينها وبين حضارة العصر الحديث يهز فيها وجدانها العربي، ويؤدي إلى تعبير جديد عن هذا الوجدان المستيقظ على شروط جديدة في الحياة. في حين نرى الأقطار العربية الأخرى موزعة بين طرفين متطرفين، فهي اما شديدة البعد عن تأثير الحضارة الحديثة، بعدا يترك الوجدان القومي فيها هاجعا متبلدا، وأما شديد القرب من تأثير هذا الحضارة، بشكل يطغى على هذا الوجدان فيجعل يقظته أشبه بيقظة المحموم تذهله عن شخصيته وهويته وتسبب له انحرافا عن الطريق الطبيعي السوي.
العرب بين الماضي والمستقبل – والأصح أن نقول أن المشكلة القائمة هي بين حاضر العرب ومستقبلهم، اذ لا يوجد في البلاد العربية نزعة فكرية خالصة يصح بأن تسمى رجعية، أي انها تقول بالرجوع الى الماضي، واعادة بناء المجتمع العربي على أساسه. ولكن النزعتين الراهنتين اللتين تتوزعان العرب في هذا العصر وتتجاذبانهم هما: نزعة محافظة تحاول الاحتفاظ بالأوضاع الراهنة وما يلابسها من تقاليد ومصالح، ونزعة قومية تقدمية تضيق بهذه الأوضاع وتسعى لتحطيمها والانفلات منها الى حياة تكون أصدق تعبيرا عن امكانيات الشعب العربي وحاجاته. فالمحافظون هم جميع الذين لهم مصلحة في بقاء الأوضاع الراهنة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم فكرية. وهم بحكم هذا التعريف أقلية بالنسبة الى مجموع الأمة تجمعهم على اختلافهم صفة الاستغلال. اما التقدميون فيمثلون الكثرة الساحقة التي تتوقف حياتها على التخلص من تلك الأوضاع. وكما ان نقص الوعي عند بعض المحافظين يقودهم الى التناقض وتأييد ناحية من نواحي التحرر، فكذلك نقص الوعي عند جمهور الشعب ما زال يدفعه الى معاكسة ناحية او أكثر من نواحي قضيته القومية التقدمية.
أما المشكلة النظرية التي تقوم في أذهان البعض على الإختلاف بين الإستمساك بالماضي والتحرر منه، فهي مشكلة وهمية يكفي لتبديدها ان توضح. فالماضي الذي تحنّ اليه الأمة وتجد فيه ثروة لها قوة، هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس الا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية أن تتحقق من جديد. ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب أن يكون رجوعا وهبوطا أي ايغالا في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب أن يكون سيرا حرا صاعدا وبتعبير آخر، يريد الفريق الأول ان يصل الى الروح عن طريق الأشكال الميتة، بينما يسلك الفريق الثاني، الطريق الطبيعي الصادق، وذلك بالانعتاق من كل ما هو جامد ميت، وباستثارة كوامن الحيوية وروح الحرية والمسؤولية في نفوس العرب. وبينما يعتبر الأولون الماضي منحة وهبة تكافأ بها العبودية والجمود، يرى الآخرون في الماضي استحقاقا لا يبرره الا النضال الصاعد والمواهب المنطلقة، فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها.
الهدم والبناء – يظهر مما تقدم ان الموقف الذي يتبناه البعث العربي هو الموقف الروحي الايجابي البناء. ولكن في الحالة التي وصلت اليها الأمة العربية نتيجة قرون من الانحطاط وفقدان الشخصية والعجز عن الابداع، أصبح من العسير ان نطمئن الى القيم والمفاهيم الاصطلاحية، ولم نعد بد مع من اعادة النظر فيها للكشف عن ينابيع الروح وعناصر الخلق والبناء. وان النظرة الفاحصة المتعمقة لتوصل الى رؤية الروح في المظاهر المتنكرة لها، كما توصل الى رؤية المادة والزيف والنضوب، في المظاهر المقنعة بقناع الروح، تلك هي حالة التناقص التي تؤذن بالثورة. فالتدين الرائج الذى ينطوي على الشيء الكثير من النفاق والنفعية والجهل، والاخلاق السائدة التي تقوم أيضا على النفاق والنفعية والاعتبارات الرخيصة السطحية والتقاليد الموروثة التي نضبت منها الحياة وفقدت كل تجاوب مع الحاجات الجديدة، كل هذا لم يعد صالحا ولا قادرا على امداد الأمة بالحيوية ودفعها الى السمو. وليس يمنع ذلك من ظهور بعض تفتحات للروح وسط هذه البيثة المشوهة الناضبة، الا ان هذه التفتحات لا تلبث ان تختنق وتخمد بسبب افتقارها الى التربة الندية والهواء الطلق فإذا لم تصحح القيم وتغير التسميات فستظل هذه البيئة الروحية في عنوانها، المادية في حقيقتها قبرا مفتوحا يبتلع كل محاولة للإنبعاث، ويقضي باسم الدين والاخلاق والتقاليد، على كل ارتعاشة روحية ووقفة اخلاقية صادقة، وكل يقظة للشخصية القومية.
وفي طلائع الحياة الجديدة تكمن القوى الروحية الحقة مختلطة ببعض الزيف والسطحية والشر، ويفرض عليها هذا الاختلاط فرضا لاستمرار الإلتباس في القيم والمفاهيم، ويسبب لها ارتباكا في السير وقلقا في الإتجاه، وخللا في التجانس. واذا لم تصحح التسميات وتصبح الفروق والحدود واضحة حاسمة بين مفهوم الرجعية ومفهوم الثورة فسيظل قسم غير ضئيل من قوى التحرر ضائعا مهدورا. ان التصحيح الذي نطلبه هو الذي يختصر مرحلة الهدم ويفسح المجال واسعا للبناء القومي المحكم، لان الهدم ليس هو، كما تدعي الفئات المحافظة المستغلة، في وثبات التحرر، ولكنه في التضليل الذي يؤخر انطلاق العناصر الحية من سجن البيئة المحافظة، كما يؤخر خلاص القوى التحررية من العناصر المزيفة والسطحية والمنحلة.
القيم الروحية والاقتصاد – لعل أهم ما يميز هذا العصر اكتشافه لحقيقة كبرى هي أهمية الاقتصاد وتداخله في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والفردية. وقد كان اكتشاف هذه الحقيقة مصحوبا بالغلو والجموح فاضطرت -لكي تعلن عن نفسها وتحتل مكانتها المشروعة بين الحقائق الانسانية- ان تظهر بمظهر الاستئثار والتعسف، وقدمت نفسها على انها الحقيقة الأولى والاخيرة، والحقيقة الوحيدة. ونتج عن ذلك تشويه وتضليل كبيران. ولا يحارب التشويه والتضليل بالتجاهل والعناد بل بروح الانصاف والتجرد، أي بالاعتراف لهذه الحقيقة بنصيبها العادل الراهن من الوجود.
والعوامل الاقتصادية ان لم تكن كل شيء في حياة البشر فهي شيء كبير وخطير، وان لم تكن المؤثر الأول فان لها على كل حال تأثيرا متبادلا وفي بعض الأحيان حاسما مع العوامل الأخرى. وان كل تعريف للروح وقيمها لا يحتوي في صلبه اثرا للعوامل الاقتصادية وتقديرا لأهميتها وتوقعا لنتائجها، انما هو تعريف ناقص وزائف. والخطر على الروح لا يأتي من الذين ينكرونها ويتحدونها بل من الذين يزيفونها ويسترون بعض جوانبها الأساسية. وكل توكيد للقيم الروحية يقف عند حدود الألفاظ والمبادىء المجردة، ويجبن عن مجابهة الحقائق الواقعية والسير بالمبادئ الى آخر طريق التحقيق، انما هو في الواقع خيانة وانكار للروح وستار لتوكيد نقيضها أي ستار للمادة الغاشمة. وعندما تتشوه القيم الى حد التناقض، وتفسد الأوضاع حتى تؤدي الى عكس الغاية التي وجدت من أجلها، في مثل هذه الحالة تصبح الدعوة الروحية الأصيلة هي التي تتحرر من نفسها، أي من الزيف الذي وقعت فيه الروح، ومن المصطلحات التي باعدت بينها وبين وظيفتها الحيوية، وتصبح الدعوة الروحية وعاءا رقيقا شفافا للمشاكل الإجتماعية والمادية، فتعطي لهذه المشاكل المقام الأول من الإهتمام وتصعد منها في ارتقاء شاق بطيء لتعلن في نهاية هذا الصعود -بظفرها على مشاكل المادة- عن حقيقتها.
الدين في البعث العربي – لقد ظهر البعث العربي في حياة العرب الحديثة وفي وسط الجمود والجحود والنفعية والانحلال حركة إيمان عميق تستقطب النفوس النقية السليمة، وتجتذب الإرادات القوية الصادقة وتجمع حولها الأفراد المشبعين بحب الأمة العربية، المؤمنين بعظمتها، الذين لم يعمهم ما طرأ على هذه الأمة من فساد عن رؤية جوهرها وامكانيات مستقبلها، ولم تستطع مغريات الواقع ومصاعبه أن تغلب فيهم ارادة العمل للكشف عن هذا الجوهر وبعث تلك الامكانيات. فنشوء البعث العربي إنما هو دليل ساطع على الإيمان، وتوكيد للقيم الروحية التي ينبع منها الدين.
ولكن هذه الصفة نفسها، صفة الإيمان المميزة للبعث العربي هي التي فرضت عليه الاصطدام بجميع الحركات التي تنكر الإيمان أو تتستر بإيمان سطحي زائف. وقد كان ظهور البعث العربي منذ عشر سنوات إيذانا بحرب صريحة على الجانب المادي السلبي الحاقد من الحركات التحررية، وعلى القومية اللفظية الرائجة التي تمثل الجفاف والنضوب والعجز عن الخلق، وترى في الواقع الفاسد الحقيقة النهائية فتفقد كل سيطرة عليه، كما انه لم يكن بد من التعرض للتدين الرائج الذي تتمثل فيه أيضا هذه الشوائب وقد تحدى البعث العربي منذ ظهوره هذه المظاهر المريضة وأرجعها كلها الى سبب واحد هو فقدان الثقة بالنفس. ففي الشيوعية في بلادنا يقظة مصطنعة للذين فقدوا الاتصال بروح أمتهم ويئسوا من كل خلاص يأتي من داخلها، فارتضوا خلاصا خارجيا مصطنعا. والقومية الرائجة ارتضت بالمرض حالا عادية سوية، وأقرت النفعية والعبودية والكذب قيما ثابتة للمجتمع لان الثورة على هذه المفاسد كانت تقتضي منها ثقة بقدرة الأمة على التغلب عليها. والتدين الرائج فقد كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة احياء وتجديد ويناء فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل، فسحت أرحب المجال للرياء والاستغلال.
وقد دعا البعث العربي الى مفهوم جديد للحياة القومية والحياة بصورة عامة، قوامه الإيمان بالقيم الروحية الإنسانية، وبقيمة الروح العربية الاصيلة، ومظهره الانفصال الحاسم عن مفاسد الواقع ومكافحتها في طريق صاعدة شاقة تسير فيها الأمة ببطء وجهد نحو الاتصال بروحها من خلال هذا الصراع الدامي بينها وبين واقعها. لذلك لم يبق في مفهوم البعث العربي مجال لأي تدين لا يحمل آثار هذا الإيمان المثالي. والبعث العربي الذي هو حركة روحية ايجابية لا يمكن أن يفترق عن الدين او يصطدم معه ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق.
البعث العربي حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد وتنظر الى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام. ولكنها ترى الى جانب ذلك في الإسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي والقومية العربية، وتعتبر هذه الناحية ذات صلة وثيقة بتراث العرب الروحي وبمميزات عبقريتهم. لقد كان البعث العربي أول حركة أوضحت هذه الصلة ووضعتها في صيغتها السليمة فحلّت بذلك أزمة مزمنة وأنقذت القومية العربية من مفهومين منحرفين: مفهوم القومية المجردة الذي يفرض عليها الاصطناع والفقر، ومفهوم القومية الدينية الذي يقضي عليها بالتناقض والتلاشي.
فالاسلام من حيث هو دين صرف مساو لغيره من الأديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتحترم حرية معتقدهم. والاسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها، الا ان هذه المكانة لا تفرض فرضا بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومن مدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها. وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية. تستقي من نبعه فضائل الإيمان والمثالية والتجرد عن المنافع الشخصية والمغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي. والبعث العربي اخيرا يستمد من حركة الاسلام الخالدة قوة الصبر والمقاومة لتيار الواقع المريض، ويجد فيها قدوة رائعة تحتذى في الغيرة الصادقة على مصلحة الأمة وفي معالجة أمراضها بجرأة وصدق دون تملق رخيص للعواطف السطحية، ودون استناد الى قوى الجهل والحقد وعبودية النفس والفكر، وهو مؤمن بأن هذا الاسلوب المنسجم مع سمو المبادئ التي ينادي بها هو الأسلوب الذي يكتب له النجاح آخر الامر كما كان ذلك في الماضي، وكما سيكون دوما.
الدولة في البعث العربي – ان الدولة العربية التي يعمل لها البعث العربي هي التي تتيح لجميع المواطنين أن يعملوا متعاونين على تحقيق امكانيات الأمة العربية في مجال الروح والمادة، وذلك بتحقيق امكانيات كل فرد من افرادها دونما عائق مصطنع. وبذلك تبعث القوى الكامنة في الأمة وتصحح القيم البالية ويستعيد كل مواطن حقه المقدس كاملا في الحرية والمسؤولية. فالدولة اذن تقوم على أساس اجتماعي هو القومية، وأساس أخلاقي هو الحرية. وافرادها يكونون مرتبطين بقوميتهم مسؤولين عن اداء واجباتهم نحوها بقدر ما يكونون احرارا فيها. وعندما نفهم الدولة على هذا الشكل ونرى فيها مجالا لبعث الأمة وبعث قوى افرادها ولتصحيح القيم وإزالة الكذب والزيف والضغط من حياة المجتمع، ودفع هذا المجتمع في طريق ايجابية مبدعة لاداء رسالة الأمة إلى الإنسانية فمعنى ذلك ان هذه الدولة هي نقيض الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام. وعلمانية الدولة بهذا المعنى ليست إلا إمعانا في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي، لانها ليست إلا إنقاذا للروح من شوائب الضغط والقسر ووضع العراقيل المصطنعة أمام يقظة الروح واستقلال الخلق وانطلاق النشاط في نفس كل عربي.
وما دام الدين منبعا فياضا للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من ظروف السياسة وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة.
عام 1950
المستقبل
ليس بيننا وبين المستقبل الذي يتحدث عنه البعث العربي والذي هو موضوع عملنا ونضالنا زمن حسابي يقدر بالاشهر والسنين. انه زمان نفسي نستطيع أن نحققه منذ الآن وان نملكه فنملك به الخلود.
ليس المستقبل هو الزمان الذي سيأتي، بل المستوى النفسي والفكري الذي علينا أن نصل اليه في الوقت الحاضر.
لسنا بحاجة الى سنين ولا الى أشهر، فقد يصل المرء الى هذا المستقبل في ثانية واحدة، عندما يدرك الفرد ذاته المثالية ويعي ويصمم.
فالمستقبل الذي يمثله البعث هو الصورة عن حياة أمتنا عندما يتحقق البعث، أي عندما يتحقق الانقلاب العربي. انه صورة الامة العربية في حياتها السليمة المقبلة، فعلى هذه الصورة ان تتحقق منذ الآن في البعث العربي حتى ينجح.
ان بيدنا أسلحة كبيرة وقوى كبيرة هي قوة المبادئ التي نعمل لها ونحيا من أجلها، وقوة التنظيم، ولكن ثمة قوة تفوق كل القوى الاخرى هي ان نجسم للامة مستقبلها، وأن نحقق هذا المستقبل منذ الآن وان نحياه بيننا.
فلن نقول للعرب انكم ستصلون الى الحياة الموحدة الحرة الاشتراكية، وبكلمة واحدة، للحياة البعثية، في المستقبل عندما يتحقق البعث العربي، وانما نقول لهم : هذه هي صورتها منذ الآن. هذه الحياة التي تزول فيها الفروق الاجتماعية والحواجز الاقليمية والنعرات الطائفية، وكل أثر للعبودية والمصلحة الخاصة والجهل والتقليد. عندها يأتي المستقبل الينا، وينمو فينا ولا يعود شيئا منفصلا وخارجا عنا.
عام 1950
البعث العربي هو الانقلاب
ساتناول (1) في حديثي معنى من معاني حركتنا، هذا المعنى هو ان البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب. ولا اعتقد المجال متسعا للافاضة ولتناول الفكرة من مختلف نواحيها، فاكتفي في هذا الحديث بان القي ضوءا على الروح التي تدفع حركة كحركتنا.
لكل حركة روح او عاطفة او صورة تسبقها وتحفز على تحقيقها. وراء كل حركة نظرة الى الحياة تكون صميمة راسخة في اذهان الذين يقومون بالحركة، وهي التي تلون حركتهم وترسم لها منطقها. فما هي اذن روح الانقلاب او فلسفة الإنقلاب او عاطفته؟
ان مجتمعنا العربي يوحي الى ابنائه الذين يشعرون بصلة صادقة به انه بحاجة الى بعث الروح، لان ما آل اليه من انحراف وتأخر وتشويه ليس مجرد مظهر، بل هو نتيجة لفتور او نضوب شاب الروح العربية في فترة من الزمن بفعل عوامل كثيرة مختلفة. هذه النظرة التي تحدونا الى العمل وترسم لنا منطق عملنا تتلخص هكذا : اننا نشعر بان مجتمعنا العربي بحاجة الى ان يغالب نفسه ويناضل نفسه، بحاجة الى بذل جهد ومشقة كبيرة حتى يسترد ذاته الحقيقية، حتى يصل بالجهد والمشقة الى اصالته، حتى يتحرر من الزيف الذي اصابه. ولا يكون التحرر سهلا ولا بدون ثمن، فنحن نعتقد ان العرب عليهم ان يدفعوا الثمن حتى يصلوا الى حالة جديرة بهم، لائقة بعبقريتهم، لائقة بماضيهم، وكل ما يأتي سهلا رخيصا يكون سطحيا مصطنعا. الانقلاب تعبيره العملي هو النضال، والنضال له معان كثيرة او له معنى واسع لا ينحصر في النضال السياسي وحده. وقد يظن بان النضال اسلوب للعمل وهذا هو الشائع والمطبق عند الكثيرين، في حين ان النضال بالنسبة الى العربي ليس اسلوبا فحسب وانما هو غاية في حد ذاته. النضال الذي هو التعبير العملي عن فكرة الانقلاب، انما يقصد به ان تغالب الامة العربية نفسها بعد تلك الغفوة الطويلة، بعد ذلك الاسترخاء، بعد ذلك الاستسلام للحياة السهلة اللينة، بعد ذلك الابتعاد عن روح الحياة الجدية القاسية، ان يعود اليها الحنين لمصارعة الحياة والقدر، ان تنظر للحياة نظرة عميقة بطولية، وان ترى القيمة في الجهد قبل ان تراها في ثمرة الجهد. ان الآفات التي يشكو منها مجتمعنا ليست بالآفات السهلة، فالفكر مقيد مستعبد فقير هزيل مقلد. والشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الامور بصراحة. والروح فقيرة وناضبة، آفاقها محدودة، وجوها هابط منخفض. هل تمحي هذه الآفات؟ هل يسترد العرب معنى الحياة الاصيلة بمعجزة من المعجزات، او بتغيير في شكل الحكم او اشخاص الحكام، وهل هذه المظاهر تكفي لكي تتحول الامة العربية من امة تعيش على هامش الحياة والابداع، تتطفل على انتاج غيرها وقلما تحسن استعمال هذا الانتاج، هل تستطيع امتنا ان تنتقل من حالة كهذه الى حالة المساهمة الصادقة في الحضارة والابداع، ان يكون لها اثرها البين الواضح في حضارة العالم وفي تفكير الانسانية، وهل تعود الى نبع الحياة لتستلهم القيم الخالدة وتنشرها وتذيعها على الآخرين؟ وكيف ننتقل من حالة الى نقيضها اذا اكتفينا بتغيير المظاهر والاشكال دون تغيير في الروح؟.. لا نصل الى الروح والاعماق الا عن طريق هذه المشقة، هذا الانقسام الداخلي في نفس الامة ذاتها، هذه الحرب العنيفة التي لا تداني قسوتها قسوة الحروب الخارجية مع الاعداء الالداء.
ايها الاخوان، اننا نعيش في مستوى هابط من الروح، في جو فاتر يجب ان تدب فيه حرارة لاهبة تصهر النفوس وتفتح المواهب وتفجر العبقريات والبطولات وتطلق الايمان من ينابيعه العميقة. كيف نوحد بين افراد هذه الامة الذين باعدت بينهم الانانية والمصالح الشخصية والاستسلام للحياة الرخيصة النفعية والاستسلام للاوهام والتنافر والخصومات العنيفة الحقيرة؟ كيف نحقق من جديد امة واحدة تتعارف وتتآلف اذا لم يكن ذلك في طريق نضال لاهب وعر شاق يضطر كل فرد من فرد من افراد الأمة العربية الى ان يعود الى نفسه، ان يغوص في اعماقه، ان يستكشف نفسه من جديد بعد التجربة والألم.. عندها توجد الوحدة الحقيقية التي هي نوع جدي مختلف عن الوحدة السياسية، توجد وحدة الروح بين افراد امة كانت في القديم واحدة ثم اصبح كل فرد منها نتيجة العزلة والانانية والنفعية يعيش غريبا عن اخوانه، وانتصبت بين اجزاء الامة الواحدة حواجز باردة جامدة من هذه الانانية والنظرات السطحية. فلا تعود الوحدة الا في جو النضال الحار.
كيف يعود الينا ماضينا، هذا الماضي الذي نتغنى به ونحن اليه، وكثيرا ما نختلف على تفسيره ومعناه. فمنا من يحسب ان مجرد تقليد اشكاله الجامدة يعيد الينا سر قوته وعبقريته، ومنا من تنفره الاشكال فيعرض حتى عن الروح ويحاول ان يتنكر لهذا الماضي وينكره وينكر كل صلة به.
في ماضينا روح اصيلة، في ماضينا حياة حرة سامية، ولكنني اعتقد ان تلك الروح، تلك الاصالة وذلك السمو لا يمكن ان نفهمه اونتصل به بشكل من الاشكال اذا لم نصعد اليه صعودا شاقا داميا، اذا لم نستحقه استحقاقا كريما لائقا. فكل ما نطمح اليه من اسباب الخلاص، من اسباب التقدم والرقي، يجب ان يعتبر اهدافا بعيدة صعبة لا يليق بالعرب ان يحتالوا عليها احتيالا لينالوها بغير ثمن، وانما ان يمشوا اليها مؤمنين صابرين، وان يعرفوا بان قيمة تلك الاهداف هي في ان يجتازوا كل الطريق الموصل اليها.
اننا ننظر الى امتنا هذه النظرة ونؤمن بانها امة واحدة وهذا الايمان نفسه يدعونا الى اعلان الانقسام فيها، لانها لن تسترد وحدتها، لن تبلغ هذه الوحدة المثالية التي هي الآن نظرية مبدئية، الا اذا انقسمت على نفسها. ولكننا في هذا الصراع نحتفظ بالمحبة للجميع. عندما نقسو على الاخرين نعرف ان قسوتنا عليهم هي في سبيل ارجاعهم الى نفوسهم والى حقيقتهم، وعندما يقسو علينا الاخرون نعرف ان نفوسهم الحقيقية التي يجهلونها، ارادتهم الكامنة التي لم تتضح بعد، هي معنا، وان كانت سيوفهم علينا.
ايها الاخوان: عندما اقول ان النضال بمعناه الواسع العميق هو السبيل الى بعث الروح العربية وتحقيق الانقلاب العربي، وعندما أشترط المشقة الكبيرة سبيلا لصدق هذا النضال، لا اكون متشائما او داعيا الى التشاؤم بل على العكس، لأن هذه الصعوبة نفسها هي التي تمهد الطريق وتسهله.
عندما ينفتح طريق النضال الجدي امام طليعة الامة العربية، عندها تتوضح الفوارق بين النوع الجدي من المواطنين، النوع الذي حرر نفسه من المصلحة والشهوات، وبين النوع الذي استعبدته المصالح والذي ضعفت نفسه عن الايمان بكفاءة امته وبقدرتها على انقاذ نفسها بنفسها. مجرد هذا الانقسام، مجرد هذا التوضيح بين النوعين، ينقذ الامة من الغموض الذي تعيش فيه، ومن الشك، لانها ترى صورة صغيرة عن مستقبلها، لانها تلمس جزءا من حقيقتها التي تشعر بها والتي اصبحت حقيقة واقعة امامها. ان مجرد تقدم الطليعة المناضلة الى الامام يوقظ البذور الخيرة في نفس كل عربي، لان العروبة تعني التفاؤل، تعني الأيمان، ان في كل عربي امكانيات للخير والتجدد، ولان يعود العربي الاصيل الى اصله.
فطريق المناضلين صعب في الظاهر سهل في حقيقته، لانهم يحاربون ليس بقواهم وحدهم، ليس بعددهم المحدود الضئيل، وانما يحاربون ايضا بمصلحة العدد الاكبر من الشعب العربي الذي يوقظه تقدمهم في الطليعة فيتكشف ذاته ومصلحته وطريقه، يحاربون بالارادة الكامنة التي تجيش في صدر الامة جمعاء، هذه الارادة التي يعوزها المثل والقدوة الجريئة حتى تنتقل من حالة السكون والغفوة الى حالة اليقظة والفعل.
واني اتمثل بمعنى آية كريمة وهو ان العرب المسلمين في زمن ظهور الدعوة كانوا ينتصرون بعدد قليل لان الله يمدهم بجنود لا ترى ولا يراها اعداؤهم. اني افهم من هذا المعنى ما يتفق تماما مع حالة الطليعة المناضلة في مرحلتنا الحاضرة فالجنود غير المنظورة التي تحارب مع هذه الطليعة هي مصلحة العدد الاكبر لانها تعني بقاء الامة وحفظ كيانها وتحقيق تقدمها. وهذا التجاوب بين الحركة الانقلابية وبين مصلحة العدد الاكبر من الشعب هو وحده الذي يضمن لهذه الحركة الفوز والنجاح.
ايها الاخوان : اننا نعتقد بان الروح هي الاصل في كل شيء… الدافع الروحي العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب، وانما يخلقها ايضا. فالانقلاب يجب ان يتناول الروح مباشرة وان لا ينحصر او يتوقف عند حدود الاشكال والمظاهر. لو فرضنا ان صدفة من الصدف او معجزة من المعجزات حررت العرب في يوم واحد من جميع هذه المظالم والمفاسد التي تقف حجر عثرة في سبيل حياتهم وتقدمهم، وان الحكومات زالت بفعل سحر عجيب من طريقنا وحلت محلها الحكومات النزيهة القومية الغيورة على المصلحة العامة، هل تعتقدون بان الانقلاب العربي يتحقق ؟
انني اعتقد بان شيئا من هذا لا يكون، لان التبديل السطحي الذي لا يمس الروح والذي لا يفتح الفكر والذي لا يهز الخلق ويقومه والذي لا يفجر الايمان نتيجة المصاعب، ان هذا التبديل السطحي لا يلبث ان يتحول الى ما كان عليه في السابق.
المجتمع العربي المنشود والمستقبل الذي ننشده والذي تتحقق فيه الر وح العربية ويتحقق فيه العدل وسلامة التركيب بين افراد الأمة وطبقاتها يجب ان تهيأ له ادوات حية من البشر تكون من نوعه وجوهره حتى تكون امينة في تطبيقه، واعية لاساليبه وطرقه. ان النضال الذي سميته التعبير العملي عن الانقلاب، هو الذي يخلق الادوات الحية، اي المناضلين، الذي يصبح الانقلاب شيئا حيا في نفوسهم وعقولهم واخلاقهم، او يصبح حياتهم ذاتها، فلا بد اذن من اجتياز هذا الطريق الذي يخلق لنا المناضلين تباعا، والذي يكون امتحانا للنفوس القوية المثالية التي تتعفف المصلحة الشخصية وتنظر الى الحياة نظرة ابعد وارفع من اللذات والاستمتاع، والتي ترى فيها تحقيقا لعنصر سام سماوي وجد في الانسان لكي يشع في سلوكه. هذا النضال هو المصنع للادوات الانقلابية الامينة الوفية.
عام 1950
(1) حديث القي في مكتب الحزب في حمص
حول الإنقلاب
قلنا ان البعث العربي فكرة مدفوعة الى التحقيق في العمل، والبعث العربي لذلك حركة، حركة انقلابية، وعرفنا الانقلاب بانه هو التغيير الحاسم في مجرى حياة الامة، اي تحول حاسم يختلف عن التطور. وقلنا انه يلزم لتحقيق الانقلاب وجود وسائل، اي خلق جيل واع يبعد الخطر عن امته ويشعر بمسؤوليته لتحويل مجرى حياتها، ومؤمن بتحقيق ونجاح الانقلاب.
اذن اعطينا ثلاث صفات لهذا السبيل : ا – الوعي للشروط التاريخية والاجتماعية، اي انه عارف لماذا. كان هذا التحول ضروريا للامة. 2- الاخلاق، اي ان عليه ان يكون في الطليعة وان يخرج من العدد المنفعل المستسلم للاوضاع. 3- الايمان، اي انه لايكفي ان يكون فاهما لضرورة التحول ومقدرا لمسئوليته بل يؤمن بأن القدر والتاريخ وكل الظروف مهيأة لنجاح هذا الانقلاب. ومنها وصلنا الى القول بان السبيل الجديد هو وسيلة الانقلاب، ويعتمد هذا الجيل على الفرد، لان الوعي والايمان يفتش عنهما في الافراد لا في المجتمع.
بعد ذلك تكلمنا في الحقيقة والمواقع بالنسبة للشعب، فحقيقته شيء وواقعه شيء اخر، لان واقعه مفروض عليه فرضا من قبل الفئات المستثمرة والقوى الاجنبية. ان حقيقته قد طمست ولا زالت، كما ان التفاعل والاصطدام بين حقيقته وواقعه يجلو حقيقته ويهيؤه لتحقيق الانقلاب. ونظرتنا الى الشعب نظرة تفاؤل وايمان، ولمجرد تجسيد الجيل الجديد لفكرة الانقلاب، نجد الشعب يتنبه ويمشي في طريق الانقلاب. و نحن ننفي التشاؤم وسوء الظن بالشعب وباخلاقه لان واقعه الفاسد عارض طارىء، ولأن حقيقته كامنة تتجلى مع التجارب والآلام. فنفسية الانقلابي هي نفسية التفاؤل والايمان اي يؤمن بان الانقلاب قدر تفرضه شروط التاريخ ومواهب الامة نفسها، ويؤمن بان الشعب مستعد لتلبية هذا الانقلاب.
ثم تعرضنا الي مبررات هذا الايمان. هل هو استنادا الى تفسير معين للتاريخ، تفسير جبري، اي ان تطور التاريخ يؤدي حتما الى هذا المصير؟ قلنا ان لا موجب عندنا لمثل هذا التفسير، فالعربي الواعي المؤمن اليوم، حاجته لايجاد مبرر في الماضي لنهضته، بل يجد من الواقع نفسه مبررا للنهضة. فالسند هو الجيل الجديد الانقلابي، الذي اصبح حقيقة لا يجادل فيها والذي يتكون ويتكاثر ويترابط في مختلف الاقطار. هذا وحده مبرر ودليل على ان الامة قد نضجت وانتجت هذا الجيل، وهذا يدل على انها سائرة نحو الستقبل. فمبررات الانقلاب هي في الواقع نفسه لا في التاريخ.
ما دام الانقلاب هو من اجل بناء مستقبل جديد يختلف عن الحاضر اختلافا جوهريا فما هي معالم هذا المستقبل؟.. نحن لا نقول ان معالمه محددة منذ البدء ومرسومة منذ الماضي، وعندها يكون الانقلاب رجعة، كلا، نقول ان معالمه وخطوطه تحددها حاجات الامة التي تهتدي اليها بملء الحرية دون ان تكون مقيدة باي قيد. فالامة عندما تعي ذاتها ومكانتها في العالم وفي الزمن وتريد ان تتحرر من المرض والنقص تخلق وسائل تحررها ولا تستمد هذه الوسائل من اي شيء سابق. وقلنا ان هذه هي الطريقة الوحيدة التي تضمن مجيء هذا الانقلاب وهذا المستقبل منجما هو روح الامة واصالتها. أي بقدر ما تكون الامة حرة بالسعي نحو مستقبلها تكون منسجمة مع نفسها مخلصة لشخصيتها وعبقريتها وبالعكس، اذا وضعت قيودا لنفسها تخون شخصيتها وتبتعد عن روحها، وفي الماضي عندما كانت الروح العربية متجلية بقوة اوجدت لنفسها وسائل تحقيق ملائمة لظروف الزمان والمجتمع. والوسائل ليست من نفس جوهر الروح اي ليست شيئا اصيلا، اما الاصل فهو المستوى الروحي، فالعرب عندما يسترجعون المستوى الروحي العالي ويتفوقون عليه تكون الوسائل متلائمة مع روحهم بالنسبة للعصر. عندما نمشي بالابداع والحرية وتلبية حاجات صادقة وعميقة في حياتنا الحاضرة نلتقي بالروح التي كانت مهيمنة على ماضينا.
عام 1950
العمال والاشتراكية
ان بين(1) الشباب العربي والشعب العربي فرقة لم يقصدها احد من الطرفين وانما وقعت بحكم الاضطرار. فلا الشعب اراد ان يبتعد عن ابنائه ولا الشباب أرادوا أن يبتعدوا عن الشعب، ولكن حالتنا غير طبيعية، ولو كانت الاوضاع سليمة صحيحة شأن البلاد الراقية لكان هذا الاتصال أمرا ميسورا ولما كنا سمينا شعبا وشبابا وفرقنا بينهم لأن الشباب هم من الشعب ابناؤه واخوته.
ولهذه الحالة غير الطبيعية اسباب ومبررات، فوجود افراد وفئات تستغل موارد البلاد ومواهب الشعب تستعبده لكي يسهل عليها استغلاله لا يوافقها أبدا ان يكون هناك اتصال بين الشعب وابنائه المخلصين الذين يفهمون حاجاته ويطمحون للتعاون معه لبلوغ الغاية المشتركة لمصلحة الجميع.
ان موضوع حديثنا هو الاشتراكية. والاشتراكية بصورة بسيطة كما يفهم من لفظها هي أن يشترك جميع المواطنين في موارد بلادهم بقصد أن يحسنوا حياتهم وبالتالي حياة أمتهم، لأن الإنسان الفرد لا يقبل ان يجعل نفسه غاية في الحياة. حتى ان ادنى المخلوقات البشرية في الاخلاق والتفكير نرى فيها هذا الميل وهذه الحاجة الى ان تجعل لحياتها غاية ابعد من مصلحتها الشخصية، فبالأحرى الإنسان الراقي الذي لا يستهدف سوى نجاح امته وازدهارها. والاشتراكية يمكن ان تفهم أيضا بأنها نظرية اقتصادية حديثة ظهرت في قسم من بلاد العالم في هذا العصر، ولها تعاريف وأصول وأنظمة معروفة، غير انها كلها ترجع الى هذا التعريف البسيط الذي ذكرناه، أي اشتراك المواطنين في موارد البلاد التي هم منها.
لكن علينا أن نعرف بأن للاشتراكية معنى آخر غير معنى نظرة معينة ظهرت في الغرب. لها معنى طبيعي مستساغ من النفس البشرية والعقل والضمير، وهي بهذا المعنى لا تخص أمة بعينها او تخص عصرا او زمانا بذاته. هي شيء أعم وأثبت من النظرية.
أيها الاخوان: الحقائق هي دوما بسيطة. ماذا نريد من الحياة لأنفسنا ولأمتنا وللارض التي نعيش عليها؟ هل نريد لها الا الخير والتقدم؟ هل نريد لها الا ان يكون الواحد منا ضامنا لحاجاته، وان تكون السبل مفتوحة أمامه لكي يظهر مواهبه وينشط ويعمل وينتج في النواحي التي يجيدها، وان يضمن مثل هذا السبيل لأولاده؟ وبالتالي نريد لأمتنا ان تكون أمة يسودها الخير والعدل والانتاج النشيط الراقي. وان تكون حالتها الاجتماعية على ارقى شكل ممكن في العلوم والفنون، وهذا ما يريده الفرد وما يريده المجموع فكيف يمكن ان تحقق هذه الغاية؟ ان أقلية من الناس تملك معظم الثروات وتسيطر على السلطة وتتصرف بها حسب رغباتها، وهي لا تكتفي بذلك بل تطلب المزيد. والنتيجة الطبيعية هي أن تحرم أكثرية الشعب من حقوقها. ولو كان الاسياد يستطيعون أن يحرثوا الارض بأنفسهم او يشتغلوا بالمصانع لحرموا الشعب من كل حقوقه، لذلك فانهم يجدون انفسهم مضطرين الى ان يعترفوا للاكثرية بحق بقاء الرمق حتى يستطيع الشعب العمل للاسياد.
في هذه الحالة من الاستثمار والاستغلال لا يكون الغدر واقعا على افراد او فئة من الناس وانما تكون الجناية على الأمة بأسرها. والبلاد المتخلفة هي تلك التي يكون افرادها محرومين من اكثر حقوقهم متأخرين في صحتهم وعملهم وانتاجهم الاقتصادي. ان هذا الوضع الشاذ، أي سيطرة أقلية من أبناء البلاد على ثورتها، وحرمان أكثرية الشعب من الحقوق الطبيعية المشروعة، يحول دون تقدم الوطن.
فهذه المنافع التي يجنيها المستغلون تخنق مجموع الشعب وتحكم على الأكثرية الساحقة التي هي مجموع الأمة تقريبا بأن تدفن وهي حية، فالشعب الذي يستطيع ان يصنع وينتج ولا يسمح له الا بانتاج بسيط ولا يعطى الا مدى ضيقا محدودا جدا في الحياة، ويفرض عليه الجهل والمرض والخوف والعبودية، هذا الشعب هو في حكم الميت وان كانت روحه في صدره.
فاذا فهمنا الاشتراكية بهذا المعنى وهي اننا نريد ان نرجع الى الحالة الطبيعية المشروعة وان ينال كل ذي حق حقه حسب جدارته وكفاءته ويسمح للشعب بأن يظهر مواهبه ويستفيد منها، عندها يمكن ان يرتقي الشعب أي المجموع، فالطبقة الشعبية تساوي الامة تماما لانها الاكثرية الساحقة والعنصر المنتج حقا.
الاشتراكية اذن ليست شيئا غريبا صعبا اتانا من بلاد نائية، وليست نظريات معقدة. انها الشيء البسيط المشروع الذي يطلبه كل عقل سليم وضمير حي، ولا يمكن لأي فرد أو فئة أن يكون مخلصا لوطنه، يشعر شعورا صادقا نحو أمته ويأبى في الوقت نفسه على الشعب هذا الحق، لان القومية، التي هي الغيرة على مصلحة الأمة، والاشتراكية تكادان تكونان شيئا واحدا.
فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط اساسي لبقاء امتنا ولإمكان تقدمها، اذا لم تعمم الاشتراكية ولم نسع الى تحقيق العدل الاجتماعي لجميع الافراد، ولم ينقلب الشعب العربي الى شعب منتج الى اقصى حدود الطاقة، اذا لم يتحقق كل هذا يكون كل كلام عن حرية العرب واستقلالهم ضربا من اللغو ونوعا من التضليل.
ان مصلحة القومية وبقاء الأمة ومجاراتها للأمم الراقية وصمودها في تيار التنافس بين الدول متوقف على تحقيق الاشتراكية، أي السماح لكل عربي دون تمييز او تفريق بأن يصبح حقيقة ملموسة منتجة ولا وهما من الأوهام.
عام 1950
(1) حديث ألقي في إجتماع عمالي.
الحركة الفكرية الشاملة
لقد عرّفنا حركتنا في عدة مناسبات سابقة تعريفات متعددة، وأريد الآن أن ألح على ناحية هامة فيها، لذلك أستطيع تعريفها على ضوء هذه الناحية المقصودة بأنها الحركة التي تستطيع أن تسيطر على الظروف، وهذا يعني ان كل ما يجري في بلاد العرب وكل ما ينشأ فيها ويظهر ويعمل من أحزاب وتكتلات وقوى سياسية تتصف بالصفة المعاكسة تماما، وهي انها كلها خاضعة للظروف، لذلك فهي مؤذية فاشلة. ولسنا نقصد بالظروف الظروف السياسية فحسب، من حوادث داخلية وخارجية، ومن حوادث طارئة او مؤقتة تأتي في سنة من السنين او برهة من الزمن. بل نقصد الظروف الراهنة، التي هي نتيجة أجيال وفترات طويلة من الزمن، أي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية التي تميز وتطبع الوضع الذي يستدعي الانقلاب. يضاف اليها الظروف السياسية التي هي نتيجة للاوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
اذن كل من لا يستطيع أن يجابه هذه الاوضاع مجابهة جدية وان يهدمها او يشق الطريق لتهديمها ينحاز اليها. فالمشكلة بالنسبة للعرب هي ان يتمثل نزوعهم الى الحياة والتخلص من هذه الاوضاع، في حركة تستطيع أن تسيطر على الظروف التي فشلت كل الحركات والجهود الاخرى في السيطرة عليها فأصبحت مقوية للفساد ومدعمة له، لا لأنها كلها في الاصل فاسدة أو ترغب في الفساد، بل لأن بعضها لم يعد العدة الكافية لكي يسيطر على الظروف.
وأول ما يمكن أن يذكر من شروط لهذه الحركة التي تستطيع السيطرة على الظروف هو أن تكون من الناحية الفكرية في مستوى القضية التي تحاول حملها، وهذا يعني ان التفكير الذي تبنى عليه هذه الحركة يجب أن يكون تفكيرا عربيا. وهنا ينتفي كل جهد وكل محاولة محلية او شخصية لا ترتفع الى هذا المستوى والى هذا الشمول. ان هذا المستوى المرتفع الشامل لا يطلب فقط من حيث اتساع الرقعة والعدد، أي أن يضم كل العرب، وانما يطلب منه أن يعالج جميع المشاكل الأساسية التي تتعلق بحياة العرب والشعب العربي، بعيشهم وعملهم وانتاجهم، بحريتهم وكرامتهم. واعتقد ان حركتنا وضعت يدها على أخطر المشاكل في حياة العرب وعينتها عندما حصرتها في هذه النواحي الثلاث: الحرية، الاشتراكية، الوحدة العربية.
والشرط الثاني شرط عملي يتعلق بتنظيم الحركة، وكما انها تقوم على تفكير عربي شامل فان تنظيمها كذلك يجب أن يكون على نطاق عربي شامل، وكما انها تقوم على اساس فكري واقعي حيوي ينصب على المشاكل الأساسية، كذلك يجب أن يكون التنظيم مستندا على الطبقات التي تمثل هذه المشاكل الاساسية حتى تستطيع أن تضمن النجاح. لذلك يقوم التنظيم في البعث العربي على ثلاث دعائم كما ان التفكير في البعث العربي يقوم على ثلاث دعائم ايضا هي الحرية، الاشتراكية، الوحدة العربية، فالتنظيم يقوم على أساس الجيل الجديد الذي يمثل الوعي وقوة النفس والارادة والعقيدة، وعلى أكثرية العرب الذين لهم مصلحة حيوية في الانقلاب، كما يقوم على نطاق عربي شامل لا يتجزأ وبالتالي لا يتناحر وينفي بعضه بعضا.
عندما يقول الخصوم في جملة دعايتهم ضد حركة البعث العربي بأنها خيالية أو شيء من هذا القبيل، انما يتجاهلون هذه الحقائق الواقعية في حياة العرب: حقيقة الوعي والمصلحة الحيوية، حقيقة الوحدة، وحقيقة مصلحة العدد الأكبر، وهم بصورة خاصة يتجاهلون هذه الحقيقة الاخيرة، حقيقة مصلحة العدد الاكبر وما تخفيه من قوة جبارة.
فالاشتراكية وحدها لو وجد أشخاص يؤمنون بها تشكل أكبر خطر على الاوضاع الفاسدة القائمة. نحن اذن في قلب الواقع، وهذا يفترض ان يكون سلوك الحركة منسجما مع مبادئها. اذ نرى ان كثيرا من الذين يدعون الاشتراكية يتبنون الأوضاع الفاسدة، وسرعان ما تنكشف خدعتهم. والايمان بالاشتراكية وحدها يتطلب الانفصال عن الاوضاع الرجعية فكيف اذا دعمناها بجناحين لا يقلان عنها قيمة هما: الحرية والوحدة العربية.
ليس يكفي ان نقول ان حركة البعث العربي تستطيع بهذه المبادىء والشروط ان تسيطر على الظروف وبالتالي تحقق الانقلاب، فهناك جوانب يجب أن توضح ويمكن ان ألخصها في أن حركة البعث العربي لا غنى لها عن فلسفة عامة في الحياة، فهي حركة تقدمية تحررية، وهي بذلك حركة عميقة جدا تتصل بالمفاهيم الانسانية الخالدة. ولا يمكن أن تكون هذه الحركة بمثل هذا التناسق والاحكام والشمول الذي نطلبه، وان تكون في الوقت نفسه فاقدة لنظرة عامة إلى الحياة.
اننا نستمد هذه النظرة من تعريفنا الاول وهو ان تكون الحركة مسيطرة على ما يحيط بها ويتداخل فيها من ظروف. اذن لا بد للبعثيين كمجموع وللبعثي كفرد من نظرة تقويم إلى الحياة، أي لا بد للحركة من نظرة أخلاقية. وأستطيع أن أتوسع أكثر من ذلك لأقول بأن الحركة تحتاج لا إلى نظرة أخلاقية فحسب بل إلى نظرة فلسفية عامة، اي ان يكون لها نظرة في الكون ومظاهره وعلله وفي الانسان ومعنى حياته وفي الاخلاق.
اقتصر الآن على الكلام عن الناحية العملية البارزة في حركتنا. المهم في حركة انقلابية تتصدى لتغيير مجرى الحياة في امة هو ان تقلب القيم، فلا شك ان القيم المألوفة الشائعة منسجمة مع الاوضاع التي تغذيها، لذلك لا يعقل ان تظل هذه القيم سائدة عندنا وان نكون انقلابيين. والناحية الجوهرية في الموضوع هي أي نوع من الحياة نفضل، فلا نحسب ان كل الذين يسايرون الاوضاع الفاسدة ويعيشون في ظلها يطلبون حياة الظلم والافساد والتآمر والخيانة، فهذه الصفات لا تنطبق الا على عدد قليل من الرجال البارزين على المسرح السياسي والذين أصبحوا الآن في يد القوى الرجعية والاستعمارية، ولكن هؤلاء ليسوا كل الذين يجارون الاوضاع الفاسدة. والأصوب ان نقول بأن الأكثرية من هؤلاء الداعمين للاوضاع الراهنة لا يطلبون الا حياة طبيعية معقولة، لا يطلبون الظلم وانما يطلبون ان يحيوا حياة طبيعية اي يطلبون العيش الطبيعي، ولكن العيش الطبيعي في ظروف غير طبيعية وغير سليمة هو عيش غير مشروع. انما نطلب العيش الطبيعي لشعبنا بمجموعه، هذا العيش الذي نناضل في سبيل تحقيقه في مستقبل قريب، فهذا العيش اذا تحقق، قبل حصول الانقلاب، لأفراد وعن طريق غير الطريق الانقلابي انما يكون ظلما وعدوانا على الأكثرية.
فالنظرة الأخلاقية للبعث العربي بشكلها الحاضر تنحصر في الامر الآتي: مادام هذا النوع من العيش الطبيعي الكريم محرما على الاكثرية الساحقة من الشعب، نتيجة للاوضاع الفاسدة، فان المؤمنين بحق الشعب لا يقبلون ان يشاركوا في عيش يعتبرونه الآن غير مشروع، ويرونه ظلما للشعب. لذلك فهم يفضلون عليه حياة المبدأ. فالنضال وقانون الحياة الذي لا هزل فيه، لا يمكن أن يسمح بتحقيق غاية كبرى وتقدم خطير وانقلاب جوهري دون أن يقابل ذلك ثمن كبير هو التضحية هكذا فان في الشروط التي ذكرتها، الفكرية والعملية، ما يكفي موضوعيا لتحديد الطرق الصحيحة الناجحة لحركتنا.
فعندما تبنى الحركة على المبادئ التي ذكرناها، اي عندما تعالج القضايا على أساس عربي وتستند على المصلحة المعنوية والمادية للشعب يفهم من ذلك بأن هذه الحركة ستكون حركة نضالية منفصلة عن كل الفئات والاشخاص الذين يدعمون اوضاع الاستثمار والاستبداد. وبصورة طبيعية يكون المجندون في هذه الحركة بعيدين عن الاستغلال. غير انه لا يجوز أن نجعل من الانسان آلة ونكتفي بالشروط الموضوعية. وانما يجب أن نستخرج كثيرا من الشروط وننقلها إلى الضمير كي يعرف المؤمن بهذه المبادئ لماذا اختارها ولكي يجد من نفسه معينا لتغذية نضاله، لذلك لا بد من وجود فلسفة مبسطة عن الحياة تجسم لهذا الجيل المناضل رسالته في هذه المرحلة التاريخية، أي تجسم له حقيقة مهمته، وتسهل عليه التضحية، في هذا الدور، بالحياة الطبيعية التي يتوق اليها كل انسان سليم، والتي يرفضها هذا الانسان نفسه عندما يجدها عائقا لتحقيق مبادئه، ملطخة بدماء الشعب.
ان هذا المستوى الذي أردناه منذ البدء لحركتنا كما وضعناها منذ نشوئها هو مستوى واقعي لا غلو فيه ولا خيال لانه الوحيد الذي يستطيع أن يتكافأ مع الظروف القاسية. ان الكثيرين يرفضون هذا المستوى عن تصميم او سطحية او جهل، ويرون حركتنا بعيدة عن الواقع وعن التحقيق، وينسبون الجدية إلى حركات ليس فيها أثر للفكر فيرفضون سلوك هذا الطريق ويكتفون بحركات ارتجالية تقوم على زعامات ملفقة، ويسمون هذه الحركات واقعية وهي أبعد ما تكون عن تلبية الحاجات. انهم يقبلون بالحركات المأجورة من الاجانب وينتظرون منها الخلاص، ويسمون خيالا هذا التصوير الصادق لحاجات الامة العربية.
ونحن الذين لا ننخدع بالمظاهر نعلم ان وراء كل رأي عوامل نفسية وعوامل خلقية وعوامل مصلحية. وفي أغلب الاحيان ليس هذا التباين بيننا وبين الآخرين تباينا في الفكر، وانما هو تباين في المصلحة ومقدار التجرد عن المنافع الخاصة. فالذين يجدون ان الامة العربية لم تنضج بعد كي توضع قضيتها في الشكل العلمي كما وضعت قضايا الامم ذات المهام الخطيرة في التاريخ، ان الذين يرون ان أمتنا لم تنضج بعد لا يعبرون في الحقيقة عن رأيهم في الامة وانما عن أنانيتهم ومصالحهم الخاصة.
عام 1950
معنى الرسالة الخالدة
طالما وجه إلي أعضاء الحركة وأصدقاؤها السؤال عما نعني بالرسالة الخالدة. وكنت دوماً أجيب جواباً بسيطاً لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر، واعتبرت هذه النظرة بعيدة عن الحياة وعن التجربة، ورأيت أنهم يحسبون الرسالة شيئاً جامداً منفصلاً عن نفوس أبناء الأمة وحياتها وتجاربها. فكنت أجيب دوماً بأن رسالة العرب الخالدة ليست للمستقبل وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة وهذا القبول بان تكون نهضتهم نتيجة التعب والألم، هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت حياتهم ومجتمعهم، هذه الصراحة في رؤية عيوبهم، هذه الجرأة في الاعتراف بها، وهذا التصميم الرجولي على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية غير معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر، هذه التجربة المرة المملوءة بالكوارث… هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة، لأنهم في هذه التجربة سيعرفون من جديد ما معنى العمل والتضحية، ما معنى التفكير السليم المستقل الذي لا يخاف ضغط الغوغاء، ما معنى الخلق الحر الذي لا يستسيغ التقليد. في هذا الحاضر الذي يبدو أسود قاتماً بشعاً فقيراً، تكمن الكنوز الوفيرة، الكنوز الروحية والخلقية والفكرية للنوع السليم من العرب، ففي كل عربي بذور السلامة والصحة.
إن القيم التي نتغنى بها والتي نعرف معرفة سطحية جامدة أن جدودنا الأبطال قد مثلوها، ثم نعجز عن تحقيق جزء بسيط منها في حياتنا، علينا أن نستكشفها من جديد، وهذا هو معنى التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة بأنها تنكر التراث القومي والأخلاق القويمة، بينما هي في الحقيقة وصول صحيح إلى القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية والتي لا يمكن أن ترجع إلينا من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا بها ولادة جديدة واكتشفناها اكتشافاً جديداً.
أيها الاخوان، في الوقت الذي تكثر فيه موجات التشاؤم والتخاذل، وتتكاثر فيه الكوارث والنكبات، يشعر العرب الصادقون بأن يوم الخلاص قد قرب، لأن الطريق قد فتح لتهتز النفس العربية أخيراً، لتهتز اهتزازاً عميقاً، لتتذكر ذاتها ومهمتها وتنتفض بانطلاق وحيوية وإيمان مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل تحقيق رسالتها في الوجود. في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب ويكثر المتشائمون يجب أن يظهر المؤمنون الحقيقيون، ولا يأتي الإيمان الحقيقي إلا بنتيجة التجربة والمعاناة، ونتيجة الامتزاج الفعلي بين الأفراد وبين مصير أمتهم. عندما يتم هذا الامتزاج نستطيع أن نثق بأن العرب يسيرون إلى ظفر محقق في آخر هذه التجربة، وأنهم سيحملون ثماراً روحية وخلقية وفكرية لا تغذي مستقبلهم فحسب وإنما بمقدورها أن تنقذ الإنسانية مما ينتابها من اضطراب في القيم، ومن تشويه فيها لأن هذه التجربة التي يمر العرب بها اليوم لا أعتقد بأن امة غير العرب قد عانتها، فإذا كان ابتلاؤها بهذه المصائب أليماً موجعاً، فعلينا أن ننظر أيضاً إلى حكمة القدر الذي يوصل الأمة العربية للعظمة والمجد حتى في أوقات محنتها وتأخرها، فارتقاؤها يكون عظيماً وقيمتها أيضاً عظيمة، ولا تكون الآلام عميقة إلى هذا الحد إلا لكي نستكشف كنوزاً عجزت عن الوصول إليها أمم غيرنا. وما هذه التجارب التي يفرضها القدر علينا إلا في سبيل أن نخرج من بعد طول القعود والسبات بتجديد وإكمال للرسالة وللقيم وللحضارة العربية التي إنما قدر لها أن تتغذى دوماً بالآلام والأتعاب.
( عام 1950 )
الرسالة الخالدة
يحسب البعض أن الرسالة الخالدة شيء جامد وأنها عبارة عن أهداف منفصلة عن الحياة، وينتظرون يوماً من الأيام أن تستطيع الأمة العربية بلوغ المستوى الذي يؤهلها لحمل هذه الرسالة.
إن الرسالة العربية الخالدة بادئة منذ الآن، فهي ليست شيئاً منفصلاً عن العرب في هذه المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض. الرسالة العربية بدأت منذ أن بدأ العرب، وخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر، وأنه لابد من حركة إنقاذ، أي لابد من الانقلاب الشامل.
عندما بدأ العرب يواجهون مشكلاتهم بجرأة وصدق وصراحة ووثقوا بأن حل هذه المشكلات سوف يأتي من داخلهم، لا من معجزة أو من دولة خارجية وإنما بتعبهم وثباتهم، عندها بدأت الرسالة الخالدة تتحقق على الأرض العربية.
فنحن لا نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا نستطيع الآن تحقيقها بل ونكاد لا نحسن فهم حضارة الآخرين. الرسالة شيء أعمق وأصدق من ذلك. انها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة وتضع في هذه التجربة كل حياتها.
إنها تدخل هذه التجربة بإيمان، وتسعى للتغلب على كل المفاسد بنفسها وقواها الذاتية، دون مواربة أو خداع أو أنصاف حلول أو حلول سطحية.
إن هذا الطريق سيوصل العرب إلى تغذية الروح الإنسانية بكاملها لأنهم يكونوا قد جربوا أعظم تجربة، ولأن آلام العرب لم تمر على أحد من البشر أو أمة من الأمم.
فمن هذه المشاكل القاسية والمعقدة ومن مواجهتها بالصدق والصراحة، ومن الاتكال على قوى الأمة وحدها، من كل هذا سيخرج العرب في النهاية وهم أرفع روحاً، وأعمق حساً وشعوراً، وأوسع وعياً وأكثر واقعية، من أكبر أمة على وجه الأرض.
عندها يستطيعون أن يقدموا للإنسانية ثمرة جديدة هي نتيجة هذا التوحيد بين النظرة المثالية والواقعية، هي أن يغذوا الروح بقوة العمل، وأن يرفعوها إلى مستواها الرفيع العالي، وهي أن لا تؤمن بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه. عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب، وإنما كنز روحي.
( عام 1950 )
البعثي هو العربي الجديد
أيها الإخوان
نحن نجتمع الآن في مكتب حزب هو حزب البعث العربي، فكلمتنا إذن هي عن فكرة هذا الحزب وهي كلمة حزبية، لا نستحي من ذلك أو نخشاه فحزبيتنا صريحة ونحن مقتنعون بها ومقتنعون بضرورة التحزب الصحيح لأنفسنا وللآخرين أيضا.
ماذا نقصد بالبعث العربي؟ ومن هم الأفراد الذين تتوافر فيهم الشروط لكي ينضموا الى حركة البعث العربي ويعملوا تحت لوائها؟ هل هم كل الناس على الإطلاق أم العرب وكل من هو عربي، أم نوع من العرب؟
فكرة البعث العربي هي بطبيعة الحال للعرب وترمي الى ان تكون في يوم من الأيام ملبية لحاجات العرب كلهم ومنتشرة بينهم الى أبعد مدى، وجامعة لكل أفرادهم. ولكنها في بدء سيرها لا يمكن أن تضم العرب على الإطلاق وان تكتفي بهذه الصفة العامة المبهمة التي هي الانتماء الى الشعب العربي. فليس كل من قال أنه عربي هو من البعث العربي. ونحن نرى في الواقع أن كل الذين يدّعون العروبة ويقبلون بهذا الانتساب اليها لا تتحد كلمتهم على رأي واحد او منهج واحد.
فهناك عرب يقبلون فكرة مناقضة للفكرة العربية ومعاكسة لها. وقد لا يشعرون بهذا التناقض او أنهم يقبلون به ويعرفونه ويسخّرون العروبة لمقاصد أخرى. وهناك عرب يقولون بفكرة أقليمية ولا ينتبهون الى التناقض بين فكرة العروبة وبين الفكرة الإقليمية المجزئة للعروبة والمناقضة لوحدتها الطبيعية. وهناك عرب آخرون يعترفون بالصفة العربية لهم ولكنهم يعملون ويفكرون بوحي أفكار دينية أو طائفية. وهم كذلك يتعامون عن هذا التناقض وهذا الاختلاف البيّن بين الفكرة العربية التي هي قومية في أساسها وجوهرها، وبين الفكر والحركات الدينية والطائفية.
إذن ليست المشكلة هي الاعتراف بالعروبة أو عدم الاعتراف بها، وإنما هي مشكلة تحديد الشروط التي ينبغي ان تستقيم بها هذه العروبة وتتحقق أحسن تحقق.
ماذا يعني انتماء عضو للبعث العربي؟
انه يعني اولاً انه قد رفض رفضاً باتاً نهائياً الأفكار المناقضة والمخالفة للفكرة القومية، أي انه عرف وأقتنع بأن العربي في مفهوم البعث لا يمكن أن يكون شيوعياً أممياً، وان العربي لا يمكن أن يكون إقليمياً، أو طائفياً أو ان يعمل بوحي غير وحي العروبة نفسها. ولكن انتماءه للبعث العربي يعني فوق ذلك انه رفض كل تلك الأفكار والاجتهادات كما رفض كل الحركات التي تتجسد فيها. وبصورة أوضح يعني انتماؤه للبعث العربي انه وجد الحركات العربية الأخرى التي توافق على العروبة وترفض الشيوعية والإقليمية والطائفية، وجد هذه الحركات نفسها غير صالحة فقبل بفكرة البعث العربي.
فعضو البعث العربي اذن في نظرنا هو العربي الجديد، العربي الصالح، العربي المستقيم الفكر والخلق، الذي فهم بالتجربة والخبرة والتفكير الحر المستقل، أن العروبة لا يمكن ان تتحقق الا على ضوء نظرية واضحة منسجمة متينة الأسس الفكرية متحققة في عمل واعٍ نشيط. هذا العربي الجديد هو الذي ننشده وهو الذي نخاطبه.
عام 1950.
حول القسم
لا شك(1) أن هذه اللحظة التي تقدمون فيها على أداء القسم للحزب هي لحظة خطيرة في حياتكم. فانتم بالرغم من ان مجيئكم الآن الى الحزب يفترض انكم لم تكونوا في الماضي بعيدين عن فكرتنا، وان أشياء كثيرة مشتركة جمعتكم بالحزب قبل ان تفكروا بالانتساب اليه. بالرغم من هذه الروابط فان عملية الانتساب تبقى عملية خطيرة. اذ ان ثمة فرقا هاما بين ان يلتقي الفرد في كثير او قليل من النقاط مع مبادئ حزب من الأحزاب فتعجبه هذه المبادئ من بعض نواحيها ويروق له ان يشارك الحزب بين الحين الآخر في نضاله وأعماله، الا ان ذلك كله لا يكتسب صفة الجدية الا عندما يقرر القرار النهائي بان يربط مصيره بمصير هذا الحزب وهذه الحركة، فلا يعود التقاؤه بالحزب التقاء عفويا تابعا لهواه ولرغبته وللصدف، ولا يعود التقاؤه بالحزب ومساهمته في بعض نضال الحزب من قبيل التبرع والهبة يقدمها لهذا الحزب الذي ليس هو منه ويستطيع بالتالي ان يمنع عنه هذه الهبة اذا أراد. بين هذه الحالة وبين الحالة التي ينتقل اليها الفرد بعد الإنتساب فرق كبير، لان في الحالة الثانية –بعد الانتساب– لا يعود متطوعا ومتبرعا، بل جنديا يقدم ما يعتبر انه مسئول عن تقديمه وانه إذا تأخر أو قصر في تقديمه فانه يكون قد خان فكرته وخان وجوده.
والواقع ان العلة الاساسية في مجتمعنا العربي الحاضر هي فقدان هذه الجدية في الارتباط، ليس في الأحزاب فحسب انما في الأعمال وفي كل التصرفات. هذا المجتمع الذي ما زال مائعا وضعيفا رخوا لا يوحي بعد لأفراده بجدية الحياة. لان الحياة شيء جدي وخطير للغاية، وانه هو الخطورة بعينها. ان الحياة هي المسرح الوحيد، المجال الوحيد أمام الإنسان لكي يحقق إنسانيته، لكي يحقق شخصيته، لكي يعبر عن جدارته بهذه الحياة، لذلك لا نرى في مجتمعنا بعد علائم الابداع وعلائم البطولة الا نادرا، لان الابداع ولان البطولة لا يأتيان الا من هذا الشعور، هذا الشعور العميق الذي يشعر معه الانسان بأنه مرتبط بشيء أساسي في الوجود، وانه مسئول في كل لحظة من حياته عن أداء واجبه نحو هذا الارتباط.
المفروض اذن في الانتساب الى الحزب الا يكون استمرارا لحالة سبقته. وانما ان يكون قطعا وإنهاء لتلك الحال وبدءا وانطلاقا الى حالة جادة ونفسية جديدة ومستوى جديد. فالذين كانوا انصارا واصدقاء للحزب يشاركون اعضاء هذا الحزب في بعض أفكارهم وفي بعض أعمالهم، يجب الا يفهموا انهم عندما ينتسبون الآن للحزب انهم سيتابعون الطريق الذي كانوا يسيرون فيه ولكن بجد أكثر وبتفرغ أكثر وبعطاء أكثر، لا يجوز ان ننظر الى الدخول في الحزب على انه استمرار للمرحلة السابقة مع تقوية وتنمية لها، وإنما الأصح ان نحاول النظر إليه بأنه حالة جديدة يجوز ان تعتبر نقيضا للحالة السابقة.
فلقد ذكرت لكم بان الحالة الأولى يصح اعتبارها انها تطوع وتبرع. والحالة الثانية –الحالة الحزبية– هي مسؤولية. وقد ندرك المقصد من هذا الكلام –من هذا التفريق بين الحالتين– اذا اعتبرنا ان الاندفاع في فكرة وفي اتجاه تكون قوته بنسبة البعد عنه لا بنسبة القرب منه. بمقدار ما كنتم بعيدين عن فكرة الحزب واتجاهه بمقدار ما تشعرون بالظمأ والجوع الى ان تتشربوا هذه الفكرة وان تدخلوا الى أعماقها، وان تجسدوها في شخصياتكم وفي أعمالكم. وهل ثمة حاجة الى الاستشهاد بحوادث وشخصيات تاريخية؟ من لا يذكر مثلا عمر بن الخطاب؟ الذي كان اكبر مناهض لدعوة الاسلام، ولما انفتح قلبه لها أصبح اكبر عضد واكبر دعامة فيها. وكأن مناهضته السابقة لم تكن الا صورة معكوسة عن استعداده العميق لتقبلها. ولكنه استعداد أصيل لا يقبل السطحية ولا الزيف. ولذلك لم يشأ ان يقبلها دون تمحيص وتشكيك ومراقبة. وكأن مناهضته كانت امتحانا لهذه الدعوة.. بل امتحانا لنفسه. هل هو جدير بها؟ هل تتسع نفسه لها ولعمقها ولجدتها؟ كان يمتحن نفسه… ولما أتم الامتحان أقبل عليها، وكان من المبرزين فيها.
وامثلة اخرى قد تكون معروفة لديكم. ولكني لا اريد من هذا ان اقول ان يُشترط في طالب الانتساب الى البعث ان يكون قد عادى الحزب وناهضه. انما اقصد ان طالب الانتساب الى هذا الحزب يجب ان لا يعتبر مساهمته وقربه وميله الى الحزب مدة من الزمن شيئا كافيا لكي يفهم دعوة هذا الحزب ولكي يرتفع الى مستوى المسؤوليات التي يتطلبها هذا الحزب ويرتبها على المناضلين من اعضائه.
والانتساب الصحيح الى اية فكرة… الى أي موقف جديد في الحياة هو أزمة، ولا كالأزمات هو زلزال في النفس لا يأتي هينا سهلا، لا يأتي تدرجا، لا يأتي وكأن المرء ما غير شيئا من نفسه، وبقي في مكانه. إنما يأتي نتيجة أزمة في النفس، نتيجة انقلاب. الانقلاب الذي يدعو اليه الحزب بذرته هي تلك التي تحدث في النفس عندما تكتشف دعوة هذا الحزب وفكرته.
وكل المستقبل العربي.. كل مستقبل الأمة العربية متوقف على هذا الانقلاب في النفوس. متوقف على هذه الأزمة العصيبة.. على هذا الانتقال المفاجئ من حال الى حال.. على هذا الصراع النفسي الشديد بين حالتين: بين الحالة العادية المألوفة التي لا تنتج الا الضعف والا الفساد، وبين الحالة المرتقبة والتي ستكون نتيجة التمرد على كل ما هو عادي ومألوف ونتيجة توتر شديد وعصيب في الإرادة وفي الشعور لاستخراج أعمق ما في نفوس العرب من إمكانيات غير متحققة، إمكانيات مخنوقة ومهملة. ويتوقف على كل فرد منكم ان ينظر الى هذا الحزب إحدى نظرتين، وبحسب النظرة التي يختارها يكون قد اختار نفسه وعبر عن نفسه وعن إمكانياته اكثر مما عبر عن الحزب وحقيقته.
ان واحدكم عندما ينظر الى الحزب بانه حزب يضم الافراد ليتعاونوا، وليضموا جهود بعضهم الى بعضهم الآخر، هذه الجهود العادية التي ألفوها، وانه لا يطلب من الحزب اكثر من ذلك، اي نظرة عددية.. نظرة كمية تفترض ان هذا الواقع هو واقع حسن لا ينقصه الا تجميع العدد، ويبقى الافراد كما كانوا لا يغيرون شيئا في نفوسهم ولا في عقولهم ولا في ارادتهم، هذه النظرة الكميه السطحية هي واردة ويوجد كثيرون يتبنونها، ليس خارج الحزب فقط بل داخله. وهذا مناقض للحزب. وهذا ضعف يشكو منه الحزب ويجب ان يتخلص منه.
ونظر ة اخرى انقلابية، هي ان الحزب لم يوجد لكي يجمع أعدادا وانما لكي يخلق أفرادا. والخلق تبديل أساسي في النفس في المشاعر والسلوك والتصرف..
وقلت بأن النظريتين متاحتان لكل منكم. والذي يختار يكون في الوقت نفسه قد عبر عن حقيقته. الذي لا يستطيع ان يبدل نفسه.. ان يستخرج منها القوة الخلاقة الكامنة ليتغلب على ما فيها من استسلام فيختار النظرة الكمية -الزائفة- السطحية. والذي يختار النظرة الإنقلابية يكون قد عبر عن نفسه، اذا كان جادا في اختياره، واذا كان يعني ما يقول، فأنه مصمم على تبديل نفسه.
لذلك لا يصح ان تدخلوا الى الحزب وانتم منتظرون منه ان يعطيكم كل شيء وان تكونوا منفعلين آخذين لا تعطون ولا تقدمون. لا تظنوا ان الحزب شيء موجود خارج نفوس أعضائه فالحزب هو أعضاؤه. الحزب هو كل واحد منكم، وكما تكونوا يكن الحزب، وكما تريدوا ان يكون الحزب.. يكن. هذه النظرة هي اعتماد على شخصيات الأعضاء وعلى دافعهم الذاتي العميق هي التي تضمن لحزبنا النمو.. أن يتغلب على الضعف وان يرتقي ويقفز حتى يصل الى المستوى الذي يمكنه من تحقيق اهدافه وغاياته.
عام 1950
(1) حديث خاص بالذين تقدمون لأداء القسم الحزبي، القي عام 1950.
نريد أهدافاً ايجابية
لم يعد احد(1)، بعد نكبة فلسطين، يخدع بالمظاهر التي لا ترتكز على الحقائق، ولم يعد العدد وكثرته، بعد انهزام الدول العربية السبع أمام عصابات اليهود، ليغني عن الكيفية والنوع. فكل اتحاد يزمع العرب تحقيقه، بعد التجارب والمحن القاسية التي مروا بها، يجب أن تتوافر فيه عناصر الحياة، أن تراعى فيه الكيفية لا العدد والشكل والمساحة. وبكلمة موجزة، يجب أن يقوم على اتحاد قوى الشعب في سبيل زيادة الإنتاج وزيادة قوى الدفاع، ورفع مستوى الوعي السياسي والقومي الذي هو بمثابة الإنتاج الروحي والدفاع الروحي، إلى جانب الإنتاج المادي والدفاع العسكري.
وكما أن الاتحاد يكون وهماً خداعاً إذا اقتصر على الأشكال والمظاهر ولم يحمل في جوهره معنى ايجابياً خلاقا يصهر النفوس ويطلق القوى الكامنة، ويجدد النظم والأساليب البالية، فكذلك “الجمهورية” التي تريد بعض الفئات أن تظهرها اليوم كنقيض للاتحاد، والتي هي في الواقع متممة له ومساعدة عليه، يجب أن تحوي ايضاً هذا المعنى الايجابي.
قد يكون النظام الجمهوري بالنسبة إلى الكثرة من السياسيين شيئاً يسير القيمة والاهمية تسهل التضحية به في سبيل أي نظام آخر ولكن هذه الكثرة غير الواعية هي التي لا قيمة لرأيها في نظرنا، إذ المعول على الطليعة القومية التي تمثل النضال الشعبي الصاعد في بلاد العرب، والجمهورية في نظر هذه الطليعة تمثل أكثر من نظام للحكم، ففيها معني التقدم، وضمان الحرية، والتمهيد لحكم الشعب، وللمجتمع الاشتراكي ولا عبرة للمغالطات التي تدعي بأن النظام الملكي إذا كان دستوريا مقيدا يستطيع أن يؤدي هذه الأغراض كلها. فبلادنا ليست شبيهة ببلاد الانكليز الذين توصلوا خلال قرون إلى التوفيق بين تحرر الشعب وبقاء الملكية والعرب اليوم في مفترق الطرق، فإما تحرر جذري عميق حاسم، وإما رجعة وفناء.
فالنظام الجمهوري الذي أنشئ في سوريا مصادفة واتفاقاً، قد جاء تلبية صادقة لحاجة عميقة عند الشعب العربي، وشرطاً ضرورياً من شروط النهضة الحديثة، لذلك كان بقاؤه في سوريا شيئاً ضرورياً وحيويا للعرب جميعاً.
إلا ان الوقوف عند الأشكال والمظاهر، وتجاهل المعاني الايجابية التي ينطوي عليها هذا النظام، والتنكر لها، ذلك هو الخطرالحقيقي الذي يهدد الجمهورية أكثر مما تهددها مؤامرات الملكيين والاستعماريين.
ولئن كان اليوم في البلاد عدد غير قليل يقف وقفة اللامبالاة من الصراع القائم بين فكرة الجمهورية وفكرة الملكية، فجريرة ذلك تقع على اولئك الذين شوهوا الجمهورية ومسخوها طوال السنوات السبع الأخيرة. وإذا تعرضت الجمهورية في غد للخطر، فالمسؤولية تقع على “أبطالها” الجدد الزائفين الذين قبلوا اليوم ان يقرنوها بالإقطاعية والرجعية والخيانة، فتركوا الشعب، القوة الايجابية الحقيقية، ولجأوا إلى الدول الاستعمارية وعملائها، ليجعلوا من هذا النظام الذي أوجد لتحرير الشعب وضمان رخائه، ستاراً لاستعباد الشعب وضعفه، بما سيدفعونه لتلك الدول من امتيازات وتأمين مصالح وإرجاع نفوذ بائد!
4كانون الثاني1950
(1) نشر في جريدة “البعث” في 4 كانون الثاني 1950.
إلى المناضلين الواعين: إحفظوا وحدة النضال واحذروا المغامرين
إذا أردنا(1) أن نخطو بنضال الشعب العربي خطوة جديدة إلى الأمام فالواجب يدعونا إلى توضيح أمور لها اكبر الأثر في مستقبل هذا النضال، أي في مستقبل الأمة العربية.
من الأمور البديهية أن النضال الصحيح الذي يكتب له النجاح هو الذي يعتمد على قوى الأمة، والذي يستطيع أن ينقذ هذه القوى ويجمعها وينظمها. ولا حاجة إلى القول أن النضال الذي نعنيه، والذي هو وحده جدير، بأن يندفع إليه العرب وينتظموا فيه، هو نضال الشعب العربي في سبيل بلوغ الأهداف القومية الكبرى: الحرية والاشتراكية والوحدة. فإذا كانت هذه المهمة في غاية الصعوبة لأنها تصطدم بقوى هائلة من الرجعية الخارجية والداخلية، وإذا كان الضامن الوحيد لنجاحها هو اعتمادها على القوى الحية التحررية في الأمة، فلا بد إذاً من أن تنهض بهذه المهمة حركة واحدة، تتوصل إلى توجيه هذه القوى بأسلوب واحد ونحو غاية واحدة. فكما أن فكرة هذا النضال هي شيء أساسي خطير، وبمثابة الروح للنهضة العربية الحديثة، نعني بها فكرة: الحرية والاشتراكية والوحدة، فكذلك طريق هذا النضال، الطريق الذي يسمح للفكرة بأن تتحقق، هو ايضاً شيء أساسي خطير في حياة العرب، وبمثابة الجسم لنهضته. هكذا يظهر الخطر الكبير على مستقبل النضال وبالتالي على حياة الأمة من أولئك المغامرين المرتجلين الذين يدعّون أن للفكرة الواحدة أكثر من طريق، وأكثر من أسلوب واحد للتحقيق، وهم في الواقع يريدون أن يستغلوا روعة الفكرة الشعبية وقدسيتها لنجاحهم الشخصي، دون أن يكون لديهم أي استعداد جدي، وأي عزم صادق على خدمتها. وكيف يستطيع هؤلاء الأفراد المغامرون أن يحملوا أعباء فكرة لا تقوى على النهوض بها إلا قوى الأمة بكاملها، وكيف يستطيعون أن يصمدوا لمؤامرات أعدائها الكثر، وما هي الضمانة لصمودهم أمام إغراءات هؤلاء الأعداء ووسائل إفسادهم، ما داموا -بحكم اتباعهم أساليب المغامرة والإرتجال- يرفضون السير في أي طريق واضحة منظمة، ويتهربون من كل مراقبة على أعمالهم ؟
والفرق واضح بين المناضلين والمغامرين، فالمناضلون يخلقون النضال ويظلون مع ذلك أدوات خاضعة لقانون الحركة التي خلقوها ويحيلون كل قوى يكسبها النضال لأشخاصهم إلى قوى تغذي الحركة نفسها وتعينها على المزيد من الصبر والمقاومة، وعلى السير القويم المتفق مع منطق الفكرة، أما المغامرون فهم أولئك الذين يستهويهم النضال في مراحله الحماسية السهلة، أو يندسون في صفوفه دون إيمان، حتى إذا نالوا قسطا من الشهرة والنفوذ تبين لهم أن الانفلات من قيود النضال ومنطقه القاسي، وطريقه الطويل، يسمح لهم بالقفز في مضمار النجاح الشخصي. وهذا ما يقودهم بسرعة مفاجئة إلى التآمر والخيانة، إذ ليس لهؤلاء من طريق وسط.
إن شعار البعث العربي ركز سمات النهضة الحديثة في حقيقتين: وحدة الأمة العربية وخلود رسالتها، وإن لهذا الشعار ترجمة عملية تجعل قانون النضال العربي قائماً على الشرطين التاليين: وحدة الحركة وثبات فكرتها.
5 كانون الثاني 1950
(1) نشر في جريدة “البعث” في 5 كانون الثاني 1950.
من معاني الانقلاب
لن اطرق في هذا الحديث(1) موضوعا شاملا كاملا، بل افضل ان آخذ بعض ما توحيه فكرة الانقلاب التي يقوم البعث العربي عليها.
ايها الاخوان : لنحاول ان نتخلص من افكار اصطلاحية كثيرة ومن نقل العبارات المألوفة، والالفاظ المجردة، ولنحاول ايضا ان نرتفع قليلا فوق المشاكل القريبة العارضة، لنحاول ذلك كله، لكي نقترب من حقيقة مشكلتنا الكبرى، ومن حقيقة قضيتنا كأمة حية تنشد الحياة الصحيحة، وتشق طريقها بنفسها وبجهدها واثقة مؤمنة.
ما هو الانقلاب؟ هل تقف عند حدود التعريفات السياسية؟ هل يبقى فهمنا مقصورا على البرامج السياسية، وما تحويه من مشروعات ومقترحات، لتنظيم الحياة العامة في مختلف نواحيها؟ ام نفهم من الانقلاب شيئا اعمق واصدق؟
اننا نفهم من الانقلاب هذه اليقظة الحقيقية التي لم يعد مجال لانكارها والتشكك فيها ، يقظة الروح العربية في مرحلة فاصلة من مراحل التاريخ الانساني. الانقلاب في حقيقته هو هذه اليقظة، يقظة الروح التي تراكمت عليها اثقال الاوضاع الجامدة الفاسدة، وحالت زمنا طويلا دون ظهورها ودون انبثاقها واشعاعها. هذه الروح، تشعر اخيرا بالخطر الكبير، بالخطر الحاسم، فتنتفض انتفاضة حاسمة. وانتفاضتها هذه، وسيرها لن يكون الا في تيار معاكس للاوضاع التي عاقت ظهورها، والتي اثقلت عليها الاحمال، وشوهت طريقها، السير في طريق معاكس للاوضاع الراهنة، للاوضاع الفاسدة المريضة الزائفة، هذه المغالبة للتيار بقصد ان تستيقظ بقايا الروح الاصيلة في كل مكان توجد فيه، وتتجمع وتتكتل، لابد من هذا السير المعاكس للمادة، الذي يحيا في كل خطوة من خطاه، الذي ينبه ويوقظ، الذي يرد الى القوى الغافية والكامنة انتعاشها، وجديتها، وصحوها، وشعورها باستقلالها، وقيمتها وتأثيرها. فالانقلاب قبل ان يكون برنامجا سياسيا واجتماعيا هو هذه الحركة الدافعة الاولى، وهذا التيار النفسي القوي، هذه المغالبة الي لابد منها، والتي لا يفهم اي بعث للامة بدونها، ذلك ما نفهمه من الانقلاب.
اذن فنحن لا نحارب الاوضاع الراهنة لانها فاسدة فحسب، بل نحاربها لاننا مضطرون الى ان نحارب، لانه لا بد لنا من ان نحارب، لا بد للامة من ان تستكشف في نفسها بقايا القوى الصادقة، وان تستخرج من اعماقها كنوز الحيوية الكامنة، اننا نناضل ونكافح الاوضاع السياسية والاجتماعية الزائفة، الفاسدة، لا لمجرد ازالتها وتبديلها، بل ايضا لكي تعود للامة وحدتها في هذا النضال. فالامة انكرت ذاتها نتيجة الغفوة الطويلة، ونتيجة التشويه الطارىء عليها حتى لم تعد تعرف ذاتها، ولم يعد يعرف بعضها بعضا، لقد انقسمت ايما انقسام، فتناثرت اجزاؤها وافرادها، وهبطت الى مستوى وضيع والى سجن الانانية، وسجن المصالح الصغيرة، وسجن اعياد الجمود والقعود. وفي مثل هذا المستوى لا تنشأ وحدة بين الامة، ولا توجد الحرارة الكافية للتعارف والتآلف بين هذه الملايين من العرب. لا بد اذن من غليان لا بد من مستوى مرتفع، مضطرب، متحرك، لا بد من مشاق نجتازها، لا بد من سير طويل يدخل فيه الفكر مع الخلق مع الايمان، وان نجرب ونخطىء، ونصحح اخطاءنا. هكذا نتعارف، وهكذا يعود بعضنا الى بعض، فتتوحد الامة في طريق النضال والمشاق.
هذا بالنسبة للأمة كمجموع، واما بالنسبة الى افرادها، فالانقلاب الذي عرفناه بانه مغالبة للتيار، هو وحده الذي يكون الشخصية العربية من جديد، هوالذي يلقي على كل فرد تبعة اعماله، وهو الذي يطلق الفكر حرا مستقلا، ويقيم الخلق مسؤولا جديا، وهو الذي يفجر نبع الايمان في الروح، لان مثل هذا السير الطويل الشاق لا يستغني عن الايمان، بل ان مادته ودمه ينبعان من هذا المصدر الروحي.
فالانقلاب اذن طريق، طريق الى الغاية المنشودة، الى المجتمع السليم الذي ننشده. ولكنه ليس طريقا من الطرق، انما هو الطريق الوحيد. لهذا السبب الذي ذكرته -حتى لو ازيلت هذه الاوضاع من امامنا بمعجزة من المعجزات- فلن نكون الأمة المطلوبة ولن نصل الى الأهداف المطلوبة ولن نبني المجتمع المطلوب ولكن الأمة التي نريدها، والمجتمع الذي نريد ان نبنيه، متوقف علينا نحن، متوقف على جهودنا، على صدقنا، على وعينا، ولا يهبط من السماء، ولا يخرج بشكل آلي، ولكنه في فكرنا، وخلقنا، اذن لابد ان نمشي في هذا الطريق.
مغالبة التيار هي، في مثل حالتنا، المقياس الوحيد الذي يميز بين الصدق والكذب، بين الجد واللهو. عندما نجد الاستعداد لمغالبة التيار، عندئذ تصبح الاقوال والافعال والبرامج، وكل شيء آخر، ثانوية، ويصبح الشيء الوحيد الملموس الراهن الذي يمكن ان نطمئن الى وجوده هو ان نجد من يستطيعون تحمل هذه التبعة، ومن يسيرون في طريق معاكس للوضع القائم في البلاد العربية، وعندها تنشأ تباعا، وتنبت الفضائل المطلوبة لإكمال الطريق، وللبناء الجديد في نهاية الطريق. فالانقلاب هو مغالبة الحقيقة للواقع، لان للامة حقيقة رغم تخلفها ورغم تشوهها، وهذه الحقيقة تعلن عن نفسها مهما تكن سيطرة الواقع. والانقلاب هو هذا الاعلان، هذا الاثبات لوجود الحقيقة. الانقلاب هو مغالبة المستقبل للحاضر، لان اهدافنا المستمدة من اعماقنا ومن روحنا شعت وانطلقت تسبقنا، لتغرينا بالسير نحوها والتسابق اليها، هذا هو المستقبل، فالانقلاب هو اذن مغالبة هذا المستقبل، الذي هوحقيقة انفسنا واهدافنا، للحاضر المزيف، للحاضر الغريب عن حقيقتنا.
ايها الاخوان : الماضي شيء حقيقي، وشيء اصيل في حياة امتنا، ومن العبث ومن الخطل ومن العقم في التفكير ان ننكر هذه الحقيقة، اننا نقصد بالماضي ذلك الزمن الذي كانت فيه الروح العربية متحققة. وماذا نقصد نحن بالمستقبل، وما هو هذا المستقبل الذي يغرينا ويدفعنا الى النضال ان لم يكن هو الزمن الذي يجب ان تتحقق فيه روحنا الاصيلة. فماضينا بهذا المعنى الصافي الصادق، ارسلناه امامنا، اشعاعا ينير لنا الطريق ولم نتركه وراءنا نندب عهده ونستصرخ عونه، وننتظر بجمود وخمول ان يأتي هو الينا، وان ينزل الى مستوانا. ليس هذا هو الماضي، الماضي كحقيقة للروح العربية، كحقيقة متحققة للروح العربية لايمكن ان يأتي، ولا يمكن ان يرجع ويهبط وينزل، وانما علينا نحن ان نسير نحوه سيرا تقدميا الى الامام، وان نرتفع اليه ونصعد، وان نسلك طريقا وعرة صعبة حتى ننمي فينا الفضائل والمواهب والقوى التي تؤهلنا اخيرا لان نفهمه، فنمتزج به ونلتقي معه. فالسير التقدمي، والسير الصاعد في طريق الانقلاب هوالسبيل الوحيد لالتقائنا بماضينا. وهذا الالتقاء لايكون الا ارتقاء، ولا يكون هبوطا وانحدارا، او جمودا وامعانا في الجمود والقعود.
الى جانب هذه النظرة نحو الماضي التي نضعه في مستقبل بعيد يستثير فينا الهمم، نرتفع اليه ونبلغه بعد الجهد، ونستحقه استحقاقا كريما، توجد النظرة الاخرى التى تعكس ظلال الحاضر السوداء، البشعة، الثقيلة، على ذلك الماضي، فيفهم من الماضي انه استمساك بالحاضر وتشبث عنيد للاحتفاظ به، والاغراق في اخطائه ومفاسده. فكيف يكون هذا الماضي انطلاقا روحيا، وفكرا مبدعا وخلقا قويما مستقلا، وايمانا حيا فياضا؟ التشبث بالاوضاع الراهنة، المحافظة عليها ،الدفاع عن هذه الاوضاع التي تهدد العرب بالانقراض، ليس هذا هو الماضي، بل انه هو الحاضر، هو الواقع الفاسد، هو النفعية، هوعبودية المصالح. اما الماضي الحقيقي فهو الذي يدعونا حنيننا اليه، الى ان نعي ونجد، ونناضل ونرتفع. هذا هو الماضي الروحي الحر السليم الذي كان للعرب. لقد كان هذا الماضي عهدا تحققت فيه الروح، اي انه كان هو نفسه انقلابا بلغ فيه الفكر حريته واستقلاله، ونضارة احساسه بالحياة وبالعلم فابدع ونظم، وانسجم مع قوانين الحياة والطبيعة، وبلغت فيه الشخصية حريتها وفرديتها وجديتها ومسؤوليتها، فانطلقت تعمل اعمالا حرة، وتقف مواقف بطولية وتتجاوز حدود الانانية الى الانسجام مع الارادة العامة والانسجام مع المجموع وبلغت فيه الروح ينبوعها الصافي فامتلأت خصبا و تجددا، وعرفت قدرها الازلي، فاشبعت بالايمان.
لقد كان ماضينا انقلابا، ولن نبلغ مستواه، ولن نلتقي به الا عن طريق الانقلاب. فالانقلاب الجديد هو السير الواعي الجاد، المؤمن، نحو هذا المرتفع الذي يحل فيه التناقض وتوحد الاضداد، ويلتقي الماضي بالمستقبل، وتتصالح الامة مع نفسها في الابداع واداة الرسالة.
يسالوننا ايها الاخوان ماذا تقصدون بالرسالة، الرسالة العربية الخالدة؟ الرسالة العربية ليست الفاظا نتغنى بها، ليست مبادئ توضع في البرامج، ليست مواد للتشريع، كل هذه اشياء ميتة زائفة، لان بيننا وبين الوقت الذي نستطيع فيه ان نشرع من وحي روحنا ورسالتنا مسافة طويلة، وفاصلا كبيرا. ما هي اذن الرسالة الآن؟
هى حياتنا نفسها، هى ان نقبل بتجربة لهذه الحياة، بتجربة عميقة صادقة ضخمة جسيمة مكافئة مع عظمة الامة العربية، مكافئة مع عمق الآلام التي يعانيها العرب، متكافئة مع جسامة الاخطار الي تهدد بقاء الامة. هذه التجربة الحية الصادقة، التي تردنا اخيرا الى ذواتنا، والى واقعنا الحي، وتحملنا مسؤولياتنا وتضعنا فى طريقنا الصحيح، لكي نكافح هذه الامراض وهذه الحواجز، وهذه الاوضاع الزائفه، نكافح الظلم الاجتماعي والاستثمار الطبقي، وعهود النفعية والرشوة والاستغلال ونكافح الاستبداد، وتزييف الارادة الشعبية وامتهان كرامة الفرد العربي كمواطن وانسان، في سبيل مجتمع حر يسترد فيه كل عربي شعوره بذاته ووجوده وكرامته، بفكره ومسؤولياته.. التجرية التي نكافح فيها تقطيع اوصال الامة العربية الى اقطار ودويلات مصطنعة مزيفة، حتى نصل الى توحيد هذه الاعضاء المتناثرة حتى نصل الى حالة سليمة طبيعية لا يتكلم فيها عضو مبتور باسم الكل، حتى نتخلص من هذا الوضع الغريب الشاذ. عندها يستقيم للعرب ان يجتمعوا كلهم فتستقيم نفوسهم، وتتصحح افكارهم، وتتقوم اخلاقهم، ويتفتح مجال الابداع امام عقولهم، لانهم اصبحوا كائنا طبيعيا سليما، امة واحدة. فهذه التجربة السليمة الصادقة لمكافحة هذه الاوضاع حتى نصل الى الوضع السليم، تلك هي الرسالة العربية. والرسالة هي ما يقدمه جزء من البشر الى مجموعة الانسانية، ولا يعطى معنى الرسالة لشيء ضيق اناني وانما لابد لها من المعنى الانساني الشامل الخالد
فد تتساءلون كيف تكون رسالتنا هذه فى معالجة مشاكلنا، فاقول لكم بان العرب عندما يقدمون على هذه التجربة، وهم في الواقع قد بدأوا فيها وانغمسوا فيها ولن يتراجعوا مطلقا، عندما يقومون بكل ذلك، فانه لن يقتصر عمل هذه التجربه على حل مشاكلهم فحسب، بل يخرجون منها بتجربة انسانية عميقة تخلق فيهم شخصية مشبعة بآلام الحياة الانسانية ومعرفة اسرارها، ومداومة امراضها، فيقدمون للعالم وللانسانية كلها ثمرة هذه التجربة الخالدة.
شباط 1950
(1) حديث القي في مكتب البعث العربي في حمص
التقدمية سبيل اتصالنا بماضينا
بين الذين يقاومون كل محاولة للتحرير والتقدم في هذه البلاد من لا يستحقون ان يسموا حتى بالرجعيين ، لان الرجعية التراثية والدينية وان تكن في حقيقتها وفي النتائج التي تؤدي اليها خيانة للأمة مزدوجة في ماضيها ومستقبلها معاً فهي على كل حال ليست بالخيانة الواعية المقصودة، اما الذين يتصدون لتحرر الامة بدافع النفعية والاستغلال وبتكليف من الدول الاستعمارية فهؤلاء ليسوا إلا دجالين من النوع الرخيص ومتآمرين مثيرين، يستطيع القانون ان يطالهم بسهولة وليس هؤلاء هم موضوع كلامنا بل ذلك العدد غير القليل من ابناء البلاد الذين لم يرتفع تفكيرهم الى مستوى نواياهم الحسنة، فهم يسيئون من حيث يقصدون الاحسان الى الامة التي يحبونها ويغارون عليها، وهؤلاء وحدهم جديرون بان يوجه اليهم الكلام والاقناع.
ان غايات المخلصين هي في الجملة دوماً واحدة، فالتقدميون والتراثيون على السواء ينشدون لهذه الامة القوة والرقي والسعادة في ظل مجتمع منتج عادل سليم الاخلاق الا ان الفريقين يختلفان في فهم الوسائل والسبل المؤدية الى تلك الغاية والنظرة التقدمية العميقة الصحيحة التي تتصف بسلامة التفكير وتجرد النفس عن النفع والهوى، باتصال صادق عميق بروح الامة وتراثها وحاجاتها، وبالغيرة على بقائها واستمرار اجيالها، هذه النظرة التقدمية التي هي حب وايمان، وبناء وابداع، وجهد ومسؤولية لتخالف بل تناقض كل ما يرمي تحت ستار هذا اللفظ الى التحلل والانحلال والهدم. والتقدمية بمعناها الصحيح ليست الا استئنافاًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًًً لسير الامة في تاريخها الحي الصاعد قبل ان ينتابها الجمود والانحطاط.
وما التحرر الذي نطلبه الا تحرر من اثقال القيود والرواسب التي تراكمت على صدر الامة خلال تلك الفترة الطويلة التي توقفت فيها عن السير وعن الاتصال بمعين روحها الاصيل . ومما لا شك فيه ان هذه الروح الحرة المبدعة قد هجرتها منذ زمن طويل ، وان استردادها لا يكون في زيادة التعلق بما نحن عليه من تأخر، بل في بذل جهد كبير خارق نخلق بواسطته شخصيتنا من جديد ، وننمي في نفوسنا بذور الحرية والابداع ، غير معتمدين الا على ما نملكه حق الملك من قدرة على تفهم الحياه وشروطها ، والاستجابة لحاجاتها ، حتى نصل بهذا الجهد الحر المستقل الى درجة من قوة الحيوية وصدق الشعور واستقلال الشخصية تقربنا على مستوى روحنا الاصيلة وماضينا الحي ، وعند ذلك ترجع الصلة الضائعة ويتبين لنا ان التقدم الذي كان في ظاهره تحررا من القديم وابتعادا عنه ، لم يكن في الواقع الى سلوك الطريق الطبيعي الوحيد لعودتنا الى ماضينا وذواتنا .
والماضي الذي نحن اليه والذي كان السبب في قوة العرب وحريتهم ونهضتهم تاريخياً ، هل كان إلا تقدمية صريحة جريئة بالنسبة الى ما سبقه من عقلية واوضاع ؟ لذلك قلنا في اول كلامنا عن الرجعية البريئة القصد ، التي تتوهم انها تغار على ذلك الماضي وتحفظ عهده ، انها في حقيقتها خيانة له ولمثله واغراضه .
كل ذلك يظهر واضحاً ومعقولاً اذا نحن فهمنا من الماضي انه كان قوة روحيه فحسب ، وان عودة اتصالنا بماضينا لا يجوز ان تعني إلا بلوغنا ذلك المستوى الروحي الذي هو وحده كفيل بان يبني لنا الحياة القوية المبدعة الراقية والمجتمع السليم الاوضاع ، القويم الاخلاق ، وبان يلهمنا استنباط الوسائل والاشكال الملائمة لعصرنا وشرائط مجتمعنا .
7 شباط 1950
التنظيم الإنقلابي
ان الصفة المميزة للبعث العربي هي انقلابيته، اذ قد توجد احزاب تهدف الى تحقيق بعض مبادئ البعث العربي او كلها ولا تكون انقلابية لانها لا تكون صادقة في تبنيها تلك المبادئ ومحاولتها تحقيقها. فالبعث العربي، لا يفترق عن الاحزاب الرجعية فحسب، تلك الاحزاب التي تقاوم عن وعي وتصميم الدولة العربية الموحدة الاشتراكية التقدمية بل يفترق ايضا عن الاحزاب التقدمية الزائفة التي تدعي ان بامكانها تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، او بعضا من هذه الاهداف عن غير طريق الانقلاب. فالانقلاب في البعث العربي ليس هو الطريق الصحيحة لتحقيق مبادئه فحسب بل هو ايضا محك واختبار لصدق تلك المبادئ واخلاص معتنقيها.
وكما ان الانقلابية تفرض نوعا معينا من العمل في الوسط الخارجي السياسي والاجتماعي فهي تفرض كذلك نوعا معينا من التنظيم والسلوك في داخل الحزب. فالحزب الذي ينبري لمقاومة الاحزاب الرجعية والاحزاب التقدمية الزائفة، لا يستطيع ان يؤدي مهمته الا باتباع اسلوب صارم شديد يضمن له وحدة الاتجاه وتماسك العمل وقوته. ولقد ادت حركة البعث العربي للقضية العربية حتى الآن خدمتين كبيرتين، الاولى توضيح الاهداف العربية الصحيحة وما بينها من ترابط ووحدة، والثانية توضيح الطريق الصحيحة التي تضمن تحقيق هذه الاهداف. وقد امتلأ الجو العربي بهذه الافكار النظرية والعملية التي نشرها البعث العربي، ولكن بقيت المهمة الثالثة والاكثر خطورة من سابقتيها وهي خلق الاداة الفعالة الصادقة الملائمة لحمل الاهداف العربية والسير بها في طريق الانقلاب. ويمكن القول بان عمل البعث العربي كان اكثره حتى الآن مقتصرا على التوجيه، اي على تهيئة الجو الخارجي والاستعداد الفكري والنفسي لتقبل الفكرة. ولكن دور العمل الخاص بالبعث العربي كحركة منظمة تضم افرادا مؤمنين منسجمين ما زال ينتظر التنفيذ.
ان تحقيق الانقلاب العربي المنشود رهن بتجسيد الروح الانقلابية في نفوس اعضاء البعث العربي وعقولهم، وان انضمام الافراد الى حزب البعث العربي لا يعني خروجهم من الواقع الفاسد وتهيؤهم لمحاربته والظفر عليه الا اذا تجسدت الروح الإنقلابية في فكرهم وسلوكهم. فاذا لم يتحقق هذا الشرط الاساسي بقي انفصالهم عن الوسط الخارجي شكليا وانتماؤهم الى الحركة الانقلابية سلبياً، اذ لا قيمة لمبادئ يعتنقونها ولا يتحملون تبعاتها ومنطقها العملي الدقيق. وليس البعث العربي مدرسة فكرية حتى يكتفي باعلان حقيقة آمن بها، وانما هو حركة رسالتها النضال في سبيل ظفر هذه الحقيقة.
ان التنظيم الانقلابي هو الذي يضمن تحقيق هذا الانفصال الحاسم بين الواقع الفاسد ونفسيته المنفعلة واخلاقه النفعية وعقليته الرجعية، وبين حركة الانقلاب اي الجيل العربي الجديد المتحرر من كل هذه الامراض. ومهمة هذا التنظيم الاساسية هي التوفيق والتوحيد بين غايتين تبدوان في الظاهر مختلفتين متناقضتين، خلق الفرد العربي الذي هو اساس الجيل الجديد، الفرد الواعي المسؤول المؤمن، ثم جعل هذا الفرد اداة فعالة صادقة في الحركة التي ستغير تاريخ امته. وكما ان كل اهمال لإيقاظ الوعي والمسؤولية الاخلاقية والإيمان الروحي في نفس هذا الفرد ينتقص من انتمائه للحركة الانقلابية وانسجامه معها، فكذلك كل تهاون في ضبط هذا الفرد في منطق القدر التاريخي الذي يرتب عليه ان يكون اداة منفذة لهذه الحركة يجعل منه عنصر عرقلة وهدم وتخريب. هذا التوفيق بين الغايتين هو الذي يجعل الفرد العربي عضوا بعثيا.
الحركة الانقلابية مسؤولة عن تهيئة ادوات صادقة للانقلاب، اي عن انسجام أعضائها مع نظرتها ومبادئها، وبهذا المعنى نقول ان لا فرق بين الغاية والوسيلة وان الوسيلة جزء متصل بالغاية نابع منها، وانها ليست مجرد طريق تختاره للوصول الى الغاية بل اشعاع من الغاية يعين لنا الطريق الموصل اليها. والحركة مسؤولة بالدرجة نفسها عن نجاحها في اداء مهمتها، اي عن ضرورة تماسكها ووحدتها واطراد نموها واتساعها، والتنظيم المطلوب هو الذي يضمن للحركة وحدتها واتساعها مع بقاء العقلية والاخلاق والروح الانقلابية مسيطرة عليها.
للحركة الإنقلابية كما ذكرنا نوعان من الأعداء ، العدو السافر وهو كل الفئات والاحزاب الرجعية (والرجعية تشمل الرجعية السياسية والفكرية والاقتصادية) والعدو المقنع وهو الاحزاب والفئات القومية التقدمية الزائفة، لذلك كان عليها واجبان : المحافظة على اتجاهها الفكري، والمحافظة على اتجاهها العملي. فكل تساهل او انحراف في المبادئ يوقعها في شراك الرجعية، كما ان كل تساهل او انحراف في اسلوب العمل يهددها بالتجزئة والتناثر. فالتنظيم المطلوب هو الذي يقيها هذين الخطرين فيضمن ثبات الفكرة ووحدة الحركة.
ان التنظيم الملائم للحركة الانقلابية هو الذي يستمد من تعريفها، فهي حركة تاريخية فاصلة يتوقف على نجاحها مصير ملايين العرب وبقاء الامة العربية. ان الحركة الانقلابية لاتزال في بدء تكوينها واولى مراحلها، اي انها نواة صغيرة جدا في كيان الامة الكبير، ومع ذلك فهي مسؤولة عن هذا الكيان كله. لذلك فهي تنظم سيرها لا بالنسبة الى واقعها الحاضر بل بالنسبة الى هدفها البعيد النهائي، وهذا هو معنى مثاليتها. ومثالية البعث العربي ليست من قبيل التصوف الروحي او التحرج الاخلاقي او الفكري النظري، وانما في تقدير المسؤولية القومية التي تجعل كل خطوة من خطى المعركة ذات اثر بعيد في مصير الامة كلها.
حمص، 23شباط 1950
البعث العربي حركة تاريخية
ان ما يجب أن يعرفه كل بعثي هو أن المهمة الملقاة على عاتقنا ثقيلة وشاقة وطريقها شاق، لذلك يجب ان نعمل على تذليل جميع العقبات وننهي مرحلة الاضطراب التي تعوقنا عن تحقيق كل ما يجدر بحزب قومي نضالي كحزبنا ان يقوم به ويحققه من توثيق الصلات بين مختلف فروعه في سائر أقطار العرب، فيكون كالجسم الواحد تجري في عروقه دماء واحدة. وأستطيع أن أطمئن جميع البعثيين فأقول ان حزبنا بعد كل مرحلة من مراحل نضاله، يخرج اقوى مما كان في الماضي.
هناك شيء آخر يجدر بالبعثيين ان يعرفوه وهو أن لحركتهم منطقا خاصا لانها انبثقت من قلب العروبة ومن أعماق التربة العربية ومن صميم مشاكل أمتنا، فهي حركة صادقة أصيلة، لها موقفها الخاص كالكائنات الحية التي تنمو حسب قوانين ثابتة، ولا تستطيع ان تلبس ثيابا مستعارة وأن تؤخذ بالمظاهر والزخارف، ولا تؤثر في أعصابها بأن لها رسالة حقيقية طويلة، ولئن تباطأت في بعض الظروف وأعوزتها بعض الأشياء، فما ذلك الا لأنه من المحتم عليها أن توجد لنفسها التنظيم والوسائل الاصلية المنسجمة مع طبيعتها والمشتقة من لحمها ودمها.
ان حال حركتنا هي حال أمتنا، فالامة العربية في هذا الدور التاريخي تبحث عن الحل الملائم لها المتكافئ مع عظمة قدرها. فتأخرها عن السير في طريق التقدم والوحدة والانسجام مع أجزاء العالم الراقي لا يفهم منه دوما أنه عجز فيها ونقص وجمود، بل يجب أن يفهم منه أيضا أنها ليست كالأمم الثانوية في التاريخ، فهي تذكر بأنها حملت رسالة الى العالم، وتعرف كيف تمزق كل الأثواب الكاذبة التي يحاولون الباسها إياها.
وكذلك حركتنا، كانت مهددة في الماضي بأن تصغي الى ايحاءات الوسط والبيئة وتسري اليها عدوى التقليد، وتنتقل اليها شهوة الاستعجال والتشبه بالحركات الرائجة التي تنشد النجاح الرخيص. غير ان ذلك الجوهر السليم الذي تحتويه، وهو أنها حركة تاريخية، وتلك الثقة بالنفس والعقيدة الداخلية التي قلما يحسن اللسان الافصاح عنها لأن الضمير هو الذي يحتويها، كل هذا هو سر قوة البعث العربي، ومانسميه بالايمان.
في حركة البعث العربي يلتقي الوعي على أحسن أشكاله بالايمان في أعمق صوره. فحركتنا واعية لأنها تتطلع الى المستقبل، الى الامام، الى أعلى مستوى يمكن أن يبلغه خيرة المفكرين والمثقفين من أبناء الشعب العربي، وتقوم على الروح العلمية والتفكير المنظم، وهي تجمع الى جانب هذا ايمانا عميقا خصبا يمدها بالقوة الحيوية التي تجعلها تظفر على شتى المصاعب. وأبسط مقارنة نقيمها بين هذه الحركة ووسائلها المحدودة ونشأتها المتواضعة وبين الاحزاب والفئات التي تحشد الألوف وتقوم على النفوذ الاجتماعي الزائف والوجاهات وكل ما يستطيع الوسط النفعي أن يبتكره من وسائل الاغراء، تجعلنا نرى ان حركتنا قد استغنت عن طوع واختيار عن كل هذه القوى الكاذبة وزهدت فيها وآثرت طريق البساطة، وبهذا كانت قادرة على التغلب على أعدائها.
وانني أكرر ما قلته مراراً بأن الانقلاب هو محور حركتنا الذي يميزها عن سائر الحركات الاخرى، ويجب أن يفهمه البعثيون فهما داخليا عميقا، قبل أن بفهموا منه على أنه مجرد خطة لتنظيم المجتمع في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالانقلاب الذي يدعو اليه البعث العربي لا يستطيع أن يدعو اليه أي حزب آخر، انه اوسع من أن يكون برنامجا أو خطة سياسية او اجتماعية، وأكثر من أن يكون اسلوبا او وسيلة لتحقيق مبادئ الحزب. ان الانقلاب هو سر هذه النفسية الجديدة في حياة العرب، وهو يعني بصورة خاصة ان العرب لا يمكن أن يصلوا الى أهدافهم الا اذا ساروا في ذلك مدة طويلة، في طريق طويلة، وفي اتجاه معاكس لهذا الواقع الذي نعيش فيه. فعليهم قبل أن يقدموا أنفسهم كأطباء لهذا الواقع المريض ان يسلكوا الطريق الذي يربي شخصيتهم من جديد.
ان الانقلاب هو قبل كل شيء في هذه الحركة النفسية المكافحة، المعارضة، انه الدأب المشبع بالأيمان الذي يخلق في العرب نفوسا جديدة وأخلاقا جديدة وتفكيرا جديدا.
26 شباط 1950
(1) حديث القي في مكتب الحزب في دمشق بمناسبة زيارة بعض شباب البعث الجامعيين من بيروت.
البعث العربي إرادة الحياة
اننا لسنا الا نتاج امتنا(1)، واننا اذا استطعنا ان نعمل حتى الآن شيئا وأن نقترب من بعض الفضائل وان نطمح الى المزيد من هذه المثالية فليس ذلك العمل خاصا بنا كأفراد، وليس ذلك العمل لتفوق فردي، وانما يرجع الفضل في ذلك كله الى هذه الارادة المستيقظة في امتنا التي تفرض نفسها على طليعة ابنائها. لنؤمن دوما بأن ما نعمله وما نفكر به وما نستطيع تحقيقه في نفوسنا وفي المجتمع ليس الا صدى باهتا، وليس الا حقيقة ناقصة، بالنسبة إلى حقيقة أمتنا الخالدة. لنضع أمتنا المثالية فوق كل اعتبار وفوق كل شخص، ولنضع حزبنا الذي هو صورة الامة المثالية فوق أشخاصه وقادته، فإذا أردتم ان تحيوا أحدا فحيوا حزب البعث العربي الذي استطاع في مثل هذه المرحلة الحرجة القاسية في حياة أمتنا أن يسمو بالفكرة فوق الواقع وفوق الأشخاص. وما قيمة الاشخاص الا بمقدار ما يتمثلون هذه الفكرة وبمقدار ما يكونون صورة قريبة منها وتعبيرا صادقاً منسجما معها، أي بمقدار ما يطيعونها. فالقادة الحقيقيون هم الذين يعرفون ان يطيعوا الفكرة، كما ان الاعضاء المخلصين هم الذين يطيعون الفكرة من خلال توجيه القادة. . .
تتلخص فلسفة البعث العربي في هذه الكلمة: ثقة الأمة العربية بنفسها، واعتمادها على قواها، ومعنى ذلك ان البعث العربي الذي يريد أن يكون طليعة هذه الامة عليه أن لا ينشد أية مساعدة، وأية قوة خارجية عن نفسه وعن ذاته. لقد قام حزبنا على هذا الأساس، على هذا الشعور، على هذا الواقع، على هذه العقيدة. اذا وثقنا بأنفسنا، اذا وثق فرد عربي واحد بنفسه فالأمة كلها ستثق بنفسها.
سرنا بهذه العقيدة، ولم تخيب الحوادث أملنا ولم تخيب أمتنا أملنا. اننا نبني عملنا على عقيدة لا تمت إلى الوهم او السحر بصلة وانما ترتكز على أقوى دعائم الواقعية العلمية والعلم وهي ان مصلحة المجموع العربي هي في اتجاه هذه الحركة ان حياة المجموع العربي هي في اتجاه هذه الحركة، لهذا يكفي أن تنشأ حركة مهما تكن بسيطة حتى يكون مجرد ظهورها ومجرد تقدمها خطوات في الطريق، حافزا وموقظا لهذه المصلحة التي يشعر بها المجموع بهذه الارادة الكامنة، حتى يتم هذا التجاوب وهذا التعاون المستمر بين الحركة الرائدة وبين المجموع الغافي الذي يستيقظ يوما بعد يوم وفي آخر هذا التجاوب الذي لن يكون طويلا، يتحقق البعث العربي.
اننا نمثل الحرية والاشتراكية والوحدة. هذه هي مصلحة الأمة العربية، واقصد بالأمة العدد الأكبر ولا أقصد بها تلك الأقلية المشوهة الشاذة المنكرة لذاتها، المستعبدة لأنانيتها ومصالحها الخاصة، لأنها لم تعد من الأمة. فما دامت هذه الأهداف هي التعبير عن مصلحة العدد الأكبر فلنثق ولنؤمن بأن العدد الأكبر سيأتي الينا. وأقول اكثر من ذلك بأنه يمكننا أن نعتمد ليس فقط على العدد الأكبر من الشعب العربي في هذا الوقت، بل نعتمد على العرب وعلى تاريخ العرب وعلى تلك الارادة التي تشع من العرب الأحياء والأموات، على تلك الروح التي تسري عبر الزمن في الأرض العربية، تلك الروح وان شابتها الشوائب في فترات من الزمن فانها لا تزال ذات إرادة ولا تزال تريد الحياة والانبعاث.
فقوتنا إذن ليست قوة العدد الأكبر من مجموع العرب في هذا الوقت فحسب وانما هي قوة التاريخ العربي أيضا لأننا نسير في إتجاه الروح العربية الأصيلة، لأننا نسير وفق ما يتمنى أجدادنا الابطال ان تسير الامة العربية في كل وقت وزمن.
واننا نعتمد ايضا على قوة اخرى لا يستهان بها، ما دمنا نعتقد بأن القومية الصحيحة هي الانسانية الصحيحة، وأن بعث امتنا هو بعث للانسانية بكاملها، هذه القوة هي قوة التاريخ الانساني. فنحن نسير في اتجاه التقدم والتحرر والعدل ولسنا ندير ظهورنا ونعمي ابصارنا عن هذه الحقيقة الانسانية. فاذن نحن محاطون بقوى ثلاث أساسية تكفى لكي تملأ قلوبنا بالثقة والعزم: قوة مصلحة الشعب العربي في حاضره، والتاريخ العربي في ماضيه، والتاريخ الانساني في تقدمه نحو الحرية والاشتراكية والوحدة.
نيسان 1950
(1) من حديث ألقي في مكتب الحزب في دير الزور.
الزمن والحركة الإنقلابية
الحركة الإنقلابية بتعريفها تعني عدم ترك الزمن يسيطر على مقدرات الأمور. فالإنقلاب معناه أن حالة الأمة بلغت حداً من السوء، أصبح معه تركها للظروف والتطور أمراً يعرضها للهلاك، وأنه لا بد من ظهور الحركة التي تقوم بتبديل الأوضاع قبل ان يفوت الوقت. فهي إذن الحركة التي تعجل سير الزمن.
والحركة الإنقلابية هي نقيض الحركة الاصلاحية، فأكثر السياسيين في بلادنا يقولون بالإصلاح التدريجي، ويرفضون كل تبديل عميق، لأن في التبديل العميق معنى العنف، فالتبديل العميق في الحياة الإقتصادية عندنا يعني مثلا انتزاع الأراضي من يد الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين، وهذه الفكرة هي مرفوضة من قبل هؤلاء التطوريين، لانهم هم أصحاب المصالح الذين يحرصون على بقاء مصالحهم، وهم يدعون أن مثل هذا التبدل العميق الحاسم في أوضاعنا الإقتصادية لا يتم بدون ثورات واضطرابات وأخطار لذلك هم يفضلون التطور البطيء.
ففكرة السرعة هي من صميم الحركة الإنقلابية. وهذا يفترض أن تكون هناك حركة تستطيع السيطرة على الزمن وتعجيله، ووجود هذه الحركة يتطلب بحد ذاته بعض الزمن. فإذا قيل لنا بأن الوقت الذي نقضيه في تكوين حركتنا هو إضاعة للوقت وأنه يوصلنا الى يوم نرى فيه الأخطار تداهمنا ولا نستطيع دفعها، عندها نجيب بأننا جربنا كل الاستعدادات التي تستطيع التكتلات والمنظمات الحاضرة التي هي ليست إنقلابية أن تعطيها، فلم تتمكن من دفع الأخطار وحفظ سلامة البلاد. ولمسنا لمس اليد بالتجربة المرة المتكررة أن هذه الإستعدادات كانت واهية جداً وخادعة لأنها لم تقم على أساس الوعي والمسؤولية والجدية والإيمان والتجرد عن المصالح الخاصة، فكانت علاجات مخدرة لا أكثر، وكانت هي التي تأتي بالنكبات والخيانات. وعلى هذا أصبح وجود الحركة الصحيحة امراً وضرورة لا مفر منها ولو اقتضى الأمر أن ننتظر طويلا. فقد علمتنا الحوادث والتجارب أن الإرتجال لا يوصل الى النتائج المحمودة، وان بناء القضية العامة على أساس المصالح الشخصية لا يستطيع أن يحفظ هذه القضية، ويضمن لها النجاح، ولا بد من ان نسلك الطريق الطبيعي الذي سلكته جميع الأمم التي استطاعت أن تحيا حياة راقية متقدمة، وذلك ان تبنى القضية القومية على العقيدة الواعية التي تصهر الأفراد وتخلق منهم نواة صادقة لخدمة القضية العامة، وتخلق فيهم الفكر النير الذي يعرف كيف يسير ويتصرف، وكيف يشعر بجدية واجباته.
والشروط اللازمة للحركة الانقلابية تقوم على الوعي أولاً، وعلى الشعور بالمسؤولية ثانياً، وعلى الإيمان اخيراً. ولابد أن تتحقق هذه الشروط لكي تخلق الحركة الصحيحة، وكل عمل يستهتر بهذه الشروط أو ببعضها بحجة الإسراع، هو عمل متناقض وزائف، إذ ما الفائدة من السرعة إذا أوصلتنا الى النتائج القديمة نفسها ألا وهي عدم القدرة على مجابهة الأخطار… فالزمن الذي يصرف في تهيئة الشروط الأساسية ليس هو بالزمن الضائع، وان ما يحسبونه عقبة في الطريق ليس الا الطريق نفسه.
غير أن تحقيق هذه الشروط يجب أن لا يتطلب زمناً طويلاً، لأن كل العناصر موجودة متوافرة لإنماء هذه الإمكانيات في الجيل الجديد، فهو ليس جيلاً تائهاً في الصحراء، وانما هو ابن الوسط الذي يعيش فيه والأمة التي ينتسب اليها. ففي كل عربي تكمن بذور الوعي والخلق والمسؤولية والإيمان، وكل المحاولات التي قمنا بها كانت بمثابة تجارب، ولم يبق علينا إلا أن نخطو الخطوة الأخيرة ونستفيد من الماضي. فعندما نقول بأننا نريد ان نخلق جيلا جديدا لا نقصد باننا سنعلمه كل شيء بل نعني تنظيم ثقافته وتوجيهه توجيها صحيحا. فنحن لن نخلق فيه الأخلاق بل سننميها ونقويها، ولن نخلق فيه الإيمان لأنه مؤمن الإيمان الرائج البسيط، بل نسعى الى ان نقوي فيه هذا الإيمان ونجعله أعمق من الفورات الآنية. فعمل الحركة الإنقلابية ليس هو بالعمل التطوري البطيء، ويجب أن يزول الوهم القائم في أذهان البعض عن البعث العربي بأنه حركة بطيئة تشبه مدرسة.
إن زمن الحركة الانقلابية يرجع آخر الأمر الى نشاطها والى صدقها وجديتها، فإذا كانت مقدرة لمسؤوليتها فإنها لن تضيع أية لحظة، فعملها في السطح أو العمق يتطلب تحقيقاً مادياً مستمراً، وتثبيتا للمبادئ في النفوس وترسيخا لها. أما إذا ضعفت في الحركة صفتها الجدية فانها تصبح عندئذ بطيئة، فتحسب أن مجرد البطء يساعد على ترسيخ الافكار والمبادئ في نفوس الاعضاء. فالإكتفاء بالإنتساب الى الحزب والإيمان السطحي بمبادئه، لا يعني ان هؤلاء الأفراد قد أنقذوا أنفسهم من هذا الواقع الفاسد وأصبحوا في عداد الفئة الواعية المؤمنة، دون أن تترتب عليهم أية واجبات ودون أن يبذلوا جهداً في هذا الإنتساب. فإذا لم يتسغل الزمن لإنماء كفاءات الحزبيين أصبح مضيعة للجهد وقتلاً للكفاءات نفسها. فالحركة الانقلاية هي وحدها الحركة السريعة.
30 نيسان 1950
الإشتراكيّة العربيّة
تحدّد بالنسبة الى أهداف النهضة العربيّة
ان عدّة اسئلة تعرض بهذه المناسبة(1): هل يصحّ ان تسمى المواد التي وضعت في الدستور إشتراكية؟ وهل في الإشتراكية اعتدال وتطرف، أم أن الإشتراكية واحدة ومجال الإعتدال والنظر هو في التطبيق وحده، فأما ان تتحقق دفعة واحدة، او تضطر الى تأجيل بعض اهدافها تبعاً للظروف؟ وهل الإشتراكية التي يحتاجها العرب تحدد بالنسبة الى مصالح بعض الأفراد من ذوي النفوذ والإقطاع؟
لئن سجل مشروع الدستور الجديد خطوة الى الأمام من حيث النص على فكرة الإصلاح الإجتماعي فإن هذه الخطوة ما تزال جد ضعيفة وهزيلة. حتى اذا قيست بما تتضمنه دساتير وتشريعات بعض الدول الرأسمالية في العالم، لذلك يكون الإدعاء بأن مشروع الدستور اعتنق الاشتراكية المعتدلة من قبيل اللغو والمبالغة.
اما التذرع بصفة الاعتدال ففيه مغالطة وتمويه. فالإشتراكية مهما تنوعت صفاتها واختلفت فيها الإجتهادات حدود واحدة واضحة تفرقها عن النظام الرأسمالي. ان الإشتراكية تعني دوما تأميم المرافق العامة والصناعات الحيوية الكبرى. كما تعني التوزيع العادل للاراضي واشراف الدولة او وضع يدها على التجارتين الخارجية والداخلية.
ولئن جاز التفريق بين اشتراكية متطرفة واخرى معتدلة فلا نجد ان ثمة ما ينطبق عليه صفة الاعتدال مثل اشتراكية حكومة العمال في بريطانيا. هذه اشتراكية معتدلة في بلاد عرفت دوما بالاعتدال والاتزان والتطور البطيء الذي يتجنب العنف والصدمات. ومع ذلك فأين من اصلاحات حكومة العمال البريطانية ما ورد في مشروع الدستور السوري؟. لقد حققت حكومة العمال الشيء الكثير من برنامجها الاشتراكي في مدة خمس سنوات، وما تزال ماضية في تطبيقه، ولما اضطرتها الاحداث الدولية وبعض المصاعب الداخلية الى تأجيل تنفيذ قسم من هذا البرنامج، لم تتنازل عن هذا القسم الذي اضطرت الى تأجيله، ولم تقل ان القسم الذي حققته هو كل اشتراكيتها، وهكذا يكون الاعتدال في مراحل التحقيق لا في اصل المبادئ والبرامج.
وما دمنا في صدد الاشتراكية الانكليزية، فلنتخذ منها مناسبة لتوضيح معالم اشتراكيتنا المستمدة من حاجات الشعب العربي في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة. ان الاعتدال الذي تتصف به الاشتراكية الانكليزية يظهر في المبدأ والأسلوب معا. فهي و مبدئها ليست جذرية تعيد النظر في جميع الأسس التي يقوم عليها النظام الإقتصادي والإجتماعي الانكليزي، لذلك لم تلجأ الى اعادة توزيع الثروة والأراضي كما حدث في بلاد اخرى، وهي في اسلوبها ليست انقلابية بل تطورية تحقق ما يمكن تحقيقه بالطرق السلمية. وتفسير ذلك في شيئين: رقي المجتمع الانكليزي ونضجه السياسي وانسجامه القومي، وامتلاك الدولة الانكليزية للمستعمرات.
فاذا قارنا بهذه الحالة حالة البلاد العربية ظهر لنا الفرق واضحاً: فتأخر المجتمع العربي وضعف انتاجه والتفاوت المخيف بين طبقاته يجعل كل معالجة لا تتناول الأسس بالقلب والتبديل معالجة سطحية فاشلة. كما ان ضعف البلاد العربية كدول مجزأة منقوصة السيادة يحرمها من استغلال أكثر قواها الذاتية. فضلا عن القوى الاضافية التي تستمتع بها دولة ذات امبراطورية كبربطانيا. ففي حين يشارك العامل الإنكليزي الى حد ما بصورة آلية، في الفوائد التي لدولته من مستعمراتها، فيكون بهذا المعنى، وضمن حدود معينة رأسمالياً، اي مستثمراً لجهود غيره نجد الرأسمالي العربي يفقد بعض ثمرات قدرته الاستثمارية لمصلحة الدول والشركات الإستعمارية المتحكمة في بلاد العرب.
والآن اذا عرّفنا الاشتراكية تعريفاً واقعياً سليماً، وقلنا انها ليست غاية في ذاتها بل وسيلة ضرورية لتضمن للمجتمع أعلى مستوى من الإنتاج مع أبعد حد من الانسجام والتضامن بين المواطنين، نجد، على ضوء هذا التعريف، ان بلوغ المجتمع العربي في وضعه الراهن لهاتين الغايتين يتطلب نظاما اشتراكياً يكون أعمق اسساً وأشمل نطاقاً، وأعنف تحقيقاً من النظام الذي ارتضاه الانكليز وفق حاجاتهم التي هي دون حاجات الشعب العربي ارهاقاً والحاحاً.
اذن فليس الاعتدال والتطرف في المبادئ الإشتراكية امراً تابعاً لهوى الأشخاص واجتهادهم النظري، بل هو مرتبط بحاجات المجتمع. ومتى فهمت هذه الحاجات فهماً صحيحاً، فلا يعود ثمة مجال للاعتدال والتطرف. بل تتوجب تلبية هذه الحاجات الحياتية بأمانة وصدق عزيمة. اما اذا وضعت المبادئ والبرامج بمعزل عن حاجات المجتمع سواء أكانت رخوة سطحية كالتي يتبناها واضعو مشروع الدستور او عنيفة مجردة مصطنعة كنظرية الشيوعيين، فإنها بابتعادها عن تلمس حاجات المجتمع الحقيقية، ستتسبب في استفحال المرض بدلاً من تخفيفه وشفائه.
ان انكلترا التي يسير تاريخها منذ مئات السنين في اتجاه تقدمي صاعد، عندما بدأت تخسر بعض سيطرتها العالمية سارعت الى التعويض عن هذه الخسارة في القوة الخارجية باستغلال قوتها الداخلية على شكل أصح ونطاق أوسع مما كان في الماضي. وهكذا اخذت بالاشتراكية المعتدلة التي تنمي قدرة الشعب الانكليزي بتحسين حالة طبقته العاملة. أما الامة العربية التي يسير تاريخها منذ مئات السنين في هبوط وتدهور فليس لها اية قوة خارجية، بل على العكس هي موضع اعتداء المستعمرين الطامعين، وما ذلك الا لانعدام قوتها الداخلية.
فالاشتراكية التي توافقها وتلبي حاجاتها ليست للتعويض والإصلاح والترميم، بل للانقاذ من خطر الفناء وللخلق من جديد. لذلك لن تكون الإشتراكية العربية الا انقلابية في فكرتها، ثورية في اسلوبها، حتى تؤدي مهمتها.
المسألة الآن هي إحياء عشرات الملايين من أفراد الشعب العربي ولو اقتضى الامر موت عشرات أو مئات من الإقطاعيين العرب.
ميشيل عفلق
12 آب 1950
(1) مقالة كتبت بمناسبة مناقشة الجمعية التأسيسية في سوريا للمواد الاقتصادية في الدستولا، نشرت في جريدة البعث، العدد 462.
البعثيون بُناة حضارة جديدة
أيها الأخوان (1)
لا شك أنكم بعد تهيئتكم هذا المخيم أدركتم حقيقة عميقة وهي أن التحقيق هو أقوى شيء في حياة الإنسان، وان تحقيق عمل بسيط هو أقوى من أكبر فكرة تبقى في مجال الذهن والوهم. فهذا العمل وكثير من الأعمال التي سبق لحزبنا أن قام بها والأعمال الكثيرة الخطيرة التي تنتظره تعلمنا شيئاً فشيئاً هذه الحقيقة الإنسانية: أن ننعتق من عبودية الكلام واللفظ وكل ما هو خيالي باهت عقيم وأن ننشد معنى حياتنا في العمل وحده، العمل النافع الخلاق. إن هذه البقعة الصغيرة التي تضم عددا صغيراً من مختلف فروع حزبنا إنما هي رمز للنضال الذي ينتظرنا عندما يصبح هذا الرمز الماثل أمامنا الآن حقيقة كبرى أي عندما يتسع ويعم أرجاء البلاد العربية ويفسح للأعضاء في كل مكان أن يجردوا كفاءآتهم ليقتلعوا جذور الأوضاع الفاسدة كما اقتلعوا الصخور والحجارة من أرض هذا المخيم. إن هذا التكامل الذي يسير البعث العربي إليه فيجمع إلى قوة الوعي قوة الساعد بالعمل الرياضي الذي يمت بأوثق صلة إلى النضال القومي الشعبي إنما يكمل الشخصية البعثية ويضعها في صميم الحياة العملية الجدية، وينقذها من حقارة الإعتبارات الأنانية والنفعية التي تشغل جميع الذين يستسلمون لهذا الواقع الفاسد وعقليته الإنحطاطية. إن هذا المخيم الذي افتتحه الحزب هذا العام لم يقصد به أن يدخل الحياة الرياضية على الحزب فحسب وإنما قصد بصورة خاصة أن يقذف بأعضائه الى القرى العربية إلى الأوساط الشعبية الحقة ليلتقي البعثيون بإخوانهم وزملائهم في النضال: فلاحي القرى العربية ليتعاونوا معاً على السير في النضال لا لمصلحة حزب أو فئة بل في سبيل الوحدة والحرية والإشتراكية.
إن المبادئ التي قام البعث العربي عليها والتي وقف حياته في سبيلها أراها متحققة في هذه الصورة الصغيرة الصادقة في هذا المخيم.. أرى في هذا الإجتماع الحرية متجلية على حقيقتها أي منسجمة مع النظام وأرى الإشتراكية في نظام حياتكم وفي أصولكم الشعبية الصريحة يا أعضاء البعث العربي كما أرى الوحدة العربية الحقيقية في هذه الصورة الصادقة المصغرة لحزبنا، أرى العراقيين إلى جانب السوريين والأردنيين إلى جانب اللبنانيين والحضرميين يجتمعون الإجتماع المكين لا الاجتماعات المسرحية التي تضم عقولاً متنافرة ومصالح متضاربة وأساليب متباينة كما يجري الأمر في واقع السياسة العربية حتى الآن. وطبيعي أن تفشل هذه السياسة ما دامت تقوم على غير الاسس المعقولة وتهزأ بالعقل والفكر والاخلاص.
اننا لم نأت إلى البعث العربي بالزعماء وأصحاب المصالح الذين (يتبنون) القضية العربية ليشوهوها ويستغلوها، بل أتينا بعقول حرة مستقلة، ونفوس نضرة متجردة، أتينا بجيل جديد (ولد) أفراده في البعث العربي ولادة جديدة فكانوا أبناء العروبة الصادقين وكانت صلتهم بروح أمتهم ومصلحتها صلة عضوية لا تنضح إلا بالصدق والإنسجام والعمل العفوي القوي.. هذه هي الجامعة العربية الصحيحة عقل واحد وقيادة واحدة ونظام واحد.
أيها البعثيون
إني انظر الى البعثي على أنه الرجل الصامت الدائب وراء عمله الذي إذا نطق بكلمة تحولت إلى عمل نابض بالحياة. لقد سجل حزبكم في حياة الأمة العربية مرحلة تاريخية لأنه ابتعد على السواء عن الأفكار الخيالية اللاهية وعن “واقعية“ الحسابات النفعية والمصالح الحقيرة. وركز قواعده على صخرة جبارة في قوتها ومتانتها هي مصلحة عشرات الملايين من العرب يريدون أن يتحرروا من البؤس ليصبح كل منهم مصدر حياة وخلق لحضارة جديدة في العالم.
2 ايلول 1950
(1) حديث في افتتاحالمخيم الاول في بلودان، نشر في جريدة “البعث” العدد 464.
الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية
صلتنا بالماضي : هناك نفر يكاد يفهم من البعث العربي الذي هو حركة إنقلابية متجهة بقوة وعنف نحو المستقبل، انها حركة فاقدة الصلة بالماضي، وانها تعتبر أن كل التفاتة إليه تضيع جهداً يجب ان يبذل في بناء المستقبل… إن في هذا تشويهاً لفكرة البعث العربي التي تميز بين الماضي كروح والماضي كشكل.
كان يوجه للبعث العربي منذ نشوئه تهمة الرجعية، فقد فهم الكثيرون من البعث أنه إرجاع للماضي. فهموا من تعلقنا بماضينا وشخصيتنا أننا رجعيون ومحافظون، ثم انقلبت التهمة الى نقيضها.
أهمية التراث القومي: ان التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقاً العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الإبتكار والتجديد بل يعني العكس تماماً. والواقع ان الذين يفقدون روح التجديد وروح الإبتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي وتلك الروح الا القشور والمظاهر الجامدة.
إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائماً لروح أمتنا. إننا عندما ننطلق من أساس متين هو التشبع بروح أمتنا، ومعرفة واضحة لأنفسنا ولواقعنا، وإحساس صادق بحاجاتنا، لن نكون عرضة لأخذ الأفكار المصطنعة وتقليد الآخرين، وانما تأتي افكارنا طبيعية ومبتكرة لأنها نتيجة لشعورنا الصادق وحاجاتنا الصادقة. إن شعورنا بهذه الصلة القومية العميقة بأمتنا هو الذي يفتح عيوننا على حاضرنا الأليم وهو الذي يرينا التناقض بين واقعنا وحقيقتنا، وهو الذي يحملنا مسؤولية إنقاذ الأمة وبالتالي هو الذي يوصلنا الى الإنقلاب.
الصلة القومية تقود الى الإنقلاب وتساعد على تحقيقه : إن الصلة القومية التي توصل الطليعة والأمة الى التفكير الإنقلابي هي نفسها التي تساعد أكبر مساعدة على تحقيق هذا الإنقلاب. لأننا بانقلابيتنا نمثل إرادة الأمة كلها، وهذه الارادة التي لم تتوضح بعد إلا عند القليل، والتي لا تزال مبهمة عند الكثيرين نعرف انها متمثلة قي حركتنا، ونعرف ان كل خطوة نخطوها ستلاقي صدى في النفوس وستحرك وتراًًً ًحساساً، وان كل يوم يمر علينا في نضالنا سيفتح عقولاً جديدة ويوقظ نفوساً جديدة. وبما اننا بنينا انقلابيتنا على صفتنا العربية، وانطلقنا الى المستقبل بنسبتنا الى أصلنا، فاننا حتماً سنتكلم اللغة التي يفهمها الشعب وحتما سنجد سبيلا الى سمعه وقلبه.
الإنقلابيون صورة سباقة لمجموع الأمة : إننا نعرف بأن هذه الفئة القليلة من الإنقلابين الذين تضمهم حركة البعث العربى هم قلة في الظاهر، قلة في البدء، ولكن صفتهم القومية الصادقة تجعلهم صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة. نحن نمثل مجموع الأمة الذي لا يزال غافيا منكراً لحقيقته ناسياً لهويته، غير مطلع على حاجاته، نحن سبقناه فنحن نمثله، لذلك بيننا وبينه تجاوب عميق، حتى عندما نتصارع، حتى عندما يبطش بنا، هو منسجم معنا لأن طريقه هو طريقنا الآن، وإن لم يدر في الوقت الحاضر فسيعلم ذلك في المستقبل. إنما إيماننا مختلف عن الإيمان السحري لأنه مبني على أرسخ قواعد العلم، على الوقائع. هذه العقيدة هي اننا نمثل مصلحة الأمة وإرادتها، إذن نعتمد على تأييدها، وهذا التأييد الذي هو في حالة الكمون سينتقل الى حالة الظهور والفعل.
فقوانا ليست هي هذه القوى المنظورة المحدودة، قوانا لا حد لها في غزارتها. وأضيف أننا نعتمد على قوة أخرى هي أن حركتنا في اتجاه التقدم الإنساني. فهدفها ان ترتفع بالأمة من حالة التأخر الى حالة العمل والجد والإبداع، والتاريخ هو في هذا الإتجاه ونحن نمشي باتجاهه ومنطق التاريخ يقضي بأن تنهض الأمة العربية وأن تحتل مكاناً خلاقاً ايجابياً، وأن تقوم بدورها وتنشىء، فالتاريخ ايضاً يساعدنا.
هناك عدد كبير في أمتنا اصبح فاقد السيطرة على نفسه وعلى رأيه ونضارة شعوره، استعبدته المصالح وجمدته الإعتبارات الإصطلاحية، ففقد الحركة الحيوية اللازمة لكي يتمرد على المصالح الخاصة، لكي يتمرد على الإعتبارات الإجتماعية الكاذبة، لأن كل تمرد من هذا النوع يهدده في مصالحه ونفوذه ووجاهته، وهو يستمد وجوده من هذه الأوضاع والإعتبارات الزائفة لأنه لا يؤنس في نفسه القدرة على التحرر من مصالحه، فهو ينظر الى الأمة بمنظار نفسيته، ويرى الأمة على شاكلته عاجزة عن التحرر والتمرد على واقعها كما هو عاجز على التمرد على واقعه. فأعداء الفكرة الإنقلابية في بلادنا أو الذين يتمنون ولا يستطيعون السير في طريقها، هم أنفسهم أعداء القومية العربية. فلو كانت هذه الصلة حية لانتفضوا وشعروا بألم الواقع وبعار الحاضر، ولشعروا بالمسؤولية المترتبة عليهم من ضرورة تبديل هذا الحاضر بصفتهم جزءاً من هذه الأمة، ولاستطاعوا بالتالي ان يبدلوا نفوسهم وواقعهم ويتمردوا على مصالحهم.
صراع بين معسكرين، والظفر للإنقلابيين : عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة، فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية، عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين ،أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، عن التجرد والمثالية، التجرد والتضحية، يكون هذا الإنقسام في الأمة شكلياً وموقتاً في الواقع، لأن نفس المعسكر القديم المدافع عن الجمود والمصالح الخاصة فيه بذور إمكانيات نشوء الفكر الجديد، فكأن المعسكر الثاني هو التجسيد والتوضيح لهذه البذور والإمكايات الخيرة والكامنة فيه، وكأن معسكر الجمود والنفعية والمحافظة في صراعه مع المعسكر الثاني انما يصارع نفسه ويغلبها، ويتصارع مع غرائز الخير والحياة فيه لكي تستيقظ هذه الغرائز الخيرة ولكي ينميها الصراع ويقويها ويسمح بتفتحها الكامل. إن الحركة الإنقلابية في حيويتها وعنفها وصبرها وإيمانها، هي التي تتمكن اخيراً من إيقاظ وتحقيق هذه الإمكانيات الموجودة في نفس كل عربي. بهذا المعنى نستطيع أن نثق ونؤمن بأن معركتنا ظافرة لأن كل يوم يمضي عليها يضيف الى جيشها جنوداً أيقظهم صبرها واستمرارها وإشعاعها وأرجعهم الى نفوسهم، أي الى الصف النضالي الإنقلابي.
إن حركتنا إنقلابية عربية وقد بينا العلاقة بين الإنقلابية والصفة القومية وقلنا أن انقلابيتنا تنبع من صلتنا القومية وشعورنا بفقر الواقع وفساده وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع الى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقة وروحها وأخلاقها، والآن نتساءل عن وسيلة الإنقلاب؟ صحيح أن الإنقلاب فكرة ولكن لا بد لهذه الفكرة من أشخاص يفهمونها ويؤمنون بها ويمثلونها ثم يحققونها. إذن للإنقلاب أدوات حية من البشر هم الذين يعتنقون فكرته ويناضلون في سبيل تحقيقها. وبمقدار ما يكون اعتناقهم للفكرة عميقاً ونضالهم في سبيلها صادقاً، يكون الإنقلاب قوياً كاملاً. فالإنقلاب إذن هو صورة للذين يؤمنون به ويعملون له، وليس هو معجزة تهبط من السماء أو حادثة خارجة عن إرادة البشر وعن أعمالهم. وهذا يؤدي الى نتيجة أولى وهي ان الإنقلاب يجب ان يتحقق أولاً في نفوس الفئة القليلة التي تؤمن به وتبشر به العدد الأكبر، وتعمل على تحقيقه في مجموع الأمة، وكل تساهل في صدق تمثل هذه الفضائل في نفوس الإنقلابيين يهدد الحركة بالفشل والزيف. ولا يعقل أن نطلب من الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه، ولا نكون قد برهنا للآخرين بأنه قابل البلوغ.
لا انقلاب بدون صراع : لاشك ان الغرض الظاهر للإنقلاب هو إزالة الأوضاع المصطنعة المفروضة على الأمة والتي تشوهها سواء أكانت هذه الأوضاع سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. ولكن الأوضاع تتمثل في أشخاص، وهي عبارة عن عقلية أشخاص ومصالحهم وعاداتهم، يألفون هذه الأوضاع ويحرصون عليها، ويدافعون عنها، فلا يمكن محاربة هذه الأوضاع الا من خلال الذين يتمسكون بها، ويستفيدون منها. إذن حركة الإنقلاب لا بد ان تهز كل الذين يستسلمون للأوضاع الفاسدة، ولا بد أن تعاكسهم، حتى تخلق في الأمة رد فعل للمرض عندما يستيقظ الفكر الحر والخلق القويم وتستيقظ الروح السليمة. فالإنقلاب ليس له الا معنى واحداً واضحاً صريحاً هو الصراع والمعاكسة للعقلية والخلق والمصالح السائدة، والبعث يولد من هذا الصراع.
وان الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع السياسية يوصل الأمة الى هدفها يخطئون أيما خطأ، فلو فرضنا ان الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجاة بفعل صدفة من الصدف، فنعتقد أن هذا التغيير لن يتناول الا الظواهر، لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها. فالواقع الفاسد ليس شيئاً مادياً متجسماًَ في الأوضاع السياسية أو الإجتماعية فحسب، وإنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة، ويمكن القول ان كل فرد يحمل اثراً من آثار هذا الواقع. فالفرد الإنقلابي هوالذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل ان يصارعه في المجتمع والأوضاع المادية. وان كل الذين لا يصارعون الواقع، ويحيون حياة طبيعية هادئة مريحة هم ضمن الواقع الفاسد الذي يجب أن نحاربه، إذ لولم يكونوا منه لوجب ان تتحول حياتهم الى ألم ونضال.
وأضيف ملاحظة أخيرة وهي أن مجتمعنا المتأخر المريض يعني وجود أكثرية ضعيفة جاهلة مستعبدة لا تقدر مسؤولياتها ولا تعي وجودها على حقيقته، لذلك تبقى الأقلية هي التي يمكن أن يتوفر فيها الوعي والشعور بالمسؤولية، وهذه الأقلية هي التي تنقسم في الواقع الى معسكرين : المعسكر الإنقلابي، والمعسكر النفعي والمعاكس لكل تجدد ولكل تبديل عميق في حياة المجتمع. فالمشكلة في مجتمعنا إذن هي مشكلة القيادة، مشكلة الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط لقيادة المجتمع. واذا كان مجتمعنا ما زال متأخراً حتى الآن فلأن هؤلاء الأفراد لا يحققون في أنفسهم الشروط الفكرية والأخلاقية والروحية اللازمة لملء مركز القيادة، والصراع هو بين القادة الصادقين والقادة الكاذبين.
10 ايلول 1950
عهد جديد بعقلية قديمة ومصالح أزلية
لن نعجل على هذا العهد ونصدر فيه منذ يومه الأول رأيا سلبيا نهائيا. بل لا بد ان ننصفه في نقطتين ما زلنا نكررهما منذ حين وهما:
اولا: ان الشعب كان صادقا كل الصدق في انتفاضه على عهد ما قبل الانقلابات العسكرية، فهو اذن يطمح الى تجديد في حياته وأوضاعه، ولا يفكر في العودة الى القديم السقيم.
ثانيا: ان رجال هذا العهد الذين لا يختلفون عن رجال العهد القديم من حيث العقلية الاجتماعية الجامدة والانقياد للمصالح الشخصية والعائلية، لا يخلون من فضيلة واحدة سلبية تميزهم عن سابقيهم، وهي انهم لم يتبذلوا بعد الى حد المتاجرة بالجهاد المزعوم ولم يستحلوا في سبيل الحكم ومغانمه كل مقدس ومحرم، ولم يتصفوا بأسلوب الشقاوة ونفسية العصابات!
ولكن هذه المفاضلة ليست مضمونة الدوام، وقد لا تعمر طويلا فلقد ظهرت حتى الآن بعض البوادر من الحكام الحاليين، رغم حداثة عهدهم بالحكم، تنبئ عن مدى ما يستطيعون الوصول اليه، في مستقبل قريب، من سوء فهم لمعنى الحرية، واستهتار بإرادة الشعب، واستغلال للنزعات الرجعية، ومجارات للمصالح العائلية والإقطاعية. فهل في مقدور بعض المزايا الشخصية التي تظهر الآن عند بعض زعمائهم ان تحول دون تدهور هذا العهد وانتظامه في القانون العام الذي يسيّر جميع العهود القائمة على المصالح الإقطاعية والنفوذ العائلي؟.
إننا نؤمن أن قضية شعبنا ليست قضية أشخاص او فروق شخصية ثانوية في الكياسة واللباقة، وإنما هي قضية حاجات اجتماعية حيوية، وأهداف قومية شاملة، وان كل حكم لا يتفهم هذه الحاجات والأهداف بعمق، ولا يستجيب لندائها بحرارة وصدق، هو حكم مصطنع، مصيره الزوال السريع.
ميشيل عفلق
10 أيلول 1950
التضحية بمعاني الحياة الجميلة
أيها الاخوان (1)
اعتقد ان الفائدة التي حصلتم عليها من المخيم تمت بصلة وثيقة الى مبادئ الحزب. ففكرة البعث نضالية انقلابية تقضي بأن يتكون في الامة جيل يتصف بصفات اساسية تمكنه من قيادة الانقلاب .
فالانقلاب العربي لن يحققه اعضاء البعث وحدهم، فهم ليسوا الا الطليعة التي سترشد الاكثرية من الشعب نفسه. وهذه الطليعة التي يجب ان تعد عشرات الالوف هي الضامن لتحقيق الانقلاب. وقانونها هو ان تنظر الى الحياة نظرة جديدة مختصرة قوية، اي ان تتحرر من كثير من الاثقال التي يحملها للافراد مجتمعنا المريض، اثقال التعلق بالمادة والاعتبارات المعنوية الزائفة، والانانية والمنفعة الخاصة وان تصبح هذه الطليعة خفيفة في نفسها اي ان تكون متحررة من القيود غير عابئة بالمنافع واسباب اللذة والراحة، خفيفة ايضا في اسلوب عملها كي تستطيع تحقيق الانقلاب .
فالشرط الفكري والنفسي لنضال كنضال البعث العربي هو ان يكون كل بعثي كما كان اعضاء المخيم في هذه الفترة الوجيزة من الزمن. فليست الغاية من المخيم تجربة عارضة محصورة في عدد من الاعضاء لفترة ما، بل هي تجربة يجب ان تكون قدوة لحياتكم، اي ان تكون غاية البعثي ان يعيش كجندي غير عابىء بالاعتبارات الزائفة التي تسود المجتمع.
هكذا تتركز الحياة في نقطة واحدة وتتجمع الامكانيات وتتجه في طريق واحد فيكون أثرها خلاّقاً عظيما. ففي مرحلة الانقلاب يجب ان نفرق بين ما يمكن الاستغناء عنه، وما يجب الاستغناء عنه، أي بين ما هو رئيسي وما هو غير ذلك.
في الحياة اشياء كثيرة ذات قيمة وفيها جمال، والانسان السوي هو الذي يحس ويدرك معاني الحياة وقيمتها وجمالها. ولكن عندما لا تكون هذه القيم متوفرة لجميع افراد الشعب، وتكون حياة الاكثرية من الشعب فاقدة لكل معنى وبهجة وكرامة، فان الذين يدركون جمال الحياة يدركون ان تضحيتهم بهذه المعاني الجميلة هي الطريق الوحيدة لكي تصبح هذه القيم مشاعة بين ابناء العروبة جميعا لذلك يتخلون عنها طوعاً واختياراً .
كثيرا ما نسمع من الجيل القديم من الذين لم تمسهم روح المثالية والتضحية في سبيل المجموع، يشفقون على الذين يضحون بجمال الحياة في سبيل مبدئهم ويقولون ان هذا شيء حسن، وهذه مبادئ جميلة، الا انها لا تستحق ان يشقي الانسان نفسه من أجلها ويعيش في البؤس ويتخلى عن متع الحياة. وكثيراً ما سمعنا من اهلنا وجيراننا مثل هذه النصائح المتخاذلة الانهزامية، وجوابنا كان دائما بأن هذه الاشياء المعروضة علينا في الحياة وفي هذا المجتمع خاصة قد تكون جميلة وفيها ما يغري العقل والنفس، الا انها لا تستحق ان يتخلى الفرد العربي عن ذرة من مبادئه في سبيل الاحتفاظ بها.
هذه العقيدة باننا اخترنا طريقنا مرة واحدة وأخيرة، واننا لن نلتفت وراءنا ولن نتحسر على ما تركناه لاننا حكمنا بأنه لا يستحق ذلك، هذه العقيدة تخفي وراءها قوة وغنى، لان المادة لم تكن يوما حقيقة في الحياة بل مظهر وهي مظهر خادع، والحقيقة كلها هي في القوة التي ينفذ بها الانسان الفكرة الاصيلة في حياته .
16 أيلول 1950
(1) حديث في استقبال العائدين من مخيم البعث في بلودان، نشر في جريدة “البعث”، العدد 466.
في الإشتراكية بقاء الأمة وَتقدمَها
استهل الأستاذ ميشيل عفلق حديثه عن الصلة بين الشعب والشباب:
ان بين الشباب العربي والشعب العربي فُرقة لم يقصدها احد من الطرفين وإنما وقعت بحكم الاضطرار، فلا الشعب أراد ان يبتعد عن أبنائه الشباب ولا الشباب أرادوا ان يبتعدوا عن الشعب، ولكن حالتنا غير طبيعية، ولو كانت الأوضاع سليمة صحيحة شأن البلاد الراقية لكان هذا الاتصال امراً ميسوراً وطبيعياً ولما كنا سمينا شعبا وشبابا وفرقنا بينهم لان الشباب هم من الشعب أبناؤه وإخوته.
ولهذه الحالة غير الطبيعية أسباب ومبررات، فوجود أفراد وفئات تستغل موارد البلاد ومواهب الشعب وتصده لكي يسهل عليها استغلاله، لا يوافقها ابدا ان يكون هناك اتصال بين الشعب وأبنائه المخلصين الذين يفهمون حاجاته ويطمحون للتعاون معه لبلوغ الغاية المشتركة لمصلحة الأمة جمعاء.
ثم انتقل الى الكلام عن الاشتراكية فقال:
موضوع حديثنا عن الاشتراكية. والاشتراكية بصورة بسيطة كما يفهم من لفظها هي ان يشترك جميع المواطنين في موارد بلادهم بقصد ان يحسنوا حياتهم وبالتالي حياة أمتهم لان الإنسان الفرد لا يقبل ان يجعل نفسه غاية في الحياة حتى أن أدنى المخلوقات البشرية في الأخلاق والتفكير نرى فيها هذا الميل وهذه الحاجة الى ان تجعل لحياتها غاية أبعد من مصلحتها الشخصية، فبالأحرى الإنسان الراقي الذي لا يستهدف سوى نجاح أمته وازدهارها. والاشتراكية يمكن ان تفهم ايضا بأنها نظرية اقتصادية حديثة ظهرت في قسم من بلاد العالم في هذا العصر، ولها تعاريف وأصول وأنظمة معروفة، غير انها كلها ترجع الى هذا التعريف البسيط الذي قلنا اي اشتراك المواطنين ني موارد البلاد التي هم منها.
لكن علينا ان نعرف بان للاشتراكية معنى آخر غير معنى نظرية معينة ظهرت في الغرب. لها معنى طبيعي مستساغ من النفس البشرية والعقل والضمير، وهي بهذا المعنى لا تخص امة بعينها او تخص عصرا او زمانا بذاته. هي شيء أعم واثبت من النظرية.
أيها الاخوان:
الحقائق هي دوما بسيطة. وليس كنور الشمس حقيقة ملموسة وهو من أبسط الحقائق. ماذا نريد في الحياة لأنفسنا ولأمتنا وللأرض التي نعيش عليها؟ هل نريد لها الا الخير والتقدم؟ هل نريد لها الا ان يكون الواحد منا ضامنا لحاجاته، وان تكون السبل مفتوحة أمامه لكي يظهر مواهبه وينشط ويعمل وينتج في النواحي التي يجيدها وان يضمن مثل هذا السبيل لأولاده. وبالتالي نريد لأمتنا ان تكون امة يسودها الخير والعدل والإنتاج النشيط الراقي، وان تكون حالتها الاجتماعية على أرقى شكل ممكن في العلوم والفنون. هذا ما يريده الفرد وما يريده المجموع فكيف يمكن ان نحقق هذه الغاية؟
ان أقلية من الناس تملك معظم الثروات وتسيطر على السلطة وتتصرف بها حسب رغباتها، وهي لا تكتفي بذلك بل تطلب المزيد. والنتيجة الطبيعية هي ان تحرم أكثرية الشعب من حقوقها. ولو كان الأسياد يستطيعون ان يحرثوا الأرض بأنفسهم أو يشتغلوا بالمصانع لحرموا الشعب من كل حقوقه. لذلك فأنهم يجدون أنفسهم مضطرين الى ان يعترفوا للأكثرية بحق بقاء الرمق حتى يستطيع الشعب العمل للأسياد.
في هذه الحالة من الاستثمار والاستغلال لا يكون الغبنُ واقعا على أفراد او فئة من الناس وانما تكون الجناية على الأمة بأسرها. والبلاد المتأخرة هي تلك التي يكون أفرادها محرومين من أكثر حقوقهم متأخرين في صحتهم وعلمهم وإنتاجهم الاقتصادي. ان هذا الوضع الشاذ أي سيطرة أقلية من أبناء البلاد على ثروتها، وحرمان اكثرية الشعب من حقوقه الطبيعية المشروعة، يحول دون تقدم الوطن، فهذه المنافع التي يجنيها المستغلون تخنق مجموع الشعب وتحكم على الأكثرية الساحقة التي هي مجموع الأمة تقريبا بأن تدفن وهي حية، فالشعب الذي يستطيع ان يصنع وينتج ولا يسمح له الا بإنتاج بسيط ولا يعطى الا مدى ضيقا محدودا جدا في الحياة، ويفرض عليه الجهل والمرض والخوف والعبودية، هذا الشعب هو في حكم الميت وان كانت روحه في صدره.
فاذا فهمنا الاشتراكية بهذا المعنى وهي اننا نريد ان نرجع الى الحالة الطبيعية المشروعة المعقولة وان ينال كل ذي حق حقه حسب جدارته وكفاءته ويسمح للشعب بأن يظهر مواهبه ويستفيد منها، عندها يمكن ان يرتقي الشعب اي المجموع، فالطبقة الشعبية تساوي الامة تماما لأنها الاكثرية الساحقة والعنصر المنتج حقيقة.
فالاشتراكية اذن ليست شيئا غريبا صعبا أتانا من بلاد نائية وفيه نظريات معقدة. انها الشيء البسيط المشروع الذي يطلبه كل عقل سليم وضمير حي، ولا يمكن لأي فرد او فئة ان يكون مخلصا لوطنه، يشعر شعورا صادقا نحو أمته ويأبى في الوقت نفسه على الشعب هذا الحق، لان القومية التي هي الغيرة على مصلحة الامة، والاشتراكية تكادان تكونان شيئاً واحدا.
فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط اساسي لبقاء أمتنا ولإمكان تقدمها، واذا لم تعمم الاشتراكية ولم نسع الى تحقيق العدل الاجتماعي لجميع الافراد، ولم ينقلب الشعب العربي الذي يعد سبعين مليونا، الى شعب منتج الى أقصى حدود الطاقة اذا لم يتحقق كل هذا يكون كل كلام عن حرية العرب واستقلالهم ضربا من اللغو ونوعا من التضليل.
ان المصلحة القومية وبقاء الامة ومجاراتها للامم الراقية وصمودها في تيار التنافس بين الدول متوقف على تحقيق الاشتراكية، اي السماح لكل عربي دون تمييز او تفريق بأن يصبح حقيقة ملموسة منتجة لا وهماً من الأوهام.
7 تشرين الاول 1950
البعثيون بُناة حضارة جديدة
أيها الأخوان (1)
لا شك أنكم بعد تهيئتكم هذا المخيم أدركتم حقيقة عميقة وهي أن التحقيق هو أقوى شيء في حياة الإنسان، وان تحقيق عمل بسيط هو أقوى من أكبر فكرة تبقى في مجال الذهن والوهم. فهذا العمل وكثير من الأعمال التي سبق لحزبنا أن قام بها والأعمال الكثيرة الخطيرة التي تنتظره تعلمنا شيئاً فشيئاً هذه الحقيقة الإنسانية: أن ننعتق من عبودية الكلام واللفظ وكل ما هو خيالي باهت عقيم وأن ننشد معنى حياتنا في العمل وحده، العمل النافع الخلاق. إن هذه البقعة الصغيرة التي تضم عددا صغيراً من مختلف فروع حزبنا إنما هي رمز للنضال الذي ينتظرنا عندما يصبح هذا الرمز الماثل أمامنا الآن حقيقة كبرى أي عندما يتسع ويعم أرجاء البلاد العربية ويفسح للأعضاء في كل مكان أن يجردوا كفاءآتهم ليقتلعوا جذور الأوضاع الفاسدة كما اقتلعوا الصخور والحجارة من أرض هذا المخيم. إن هذا التكامل الذي يسير البعث العربي إليه فيجمع إلى قوة الوعي قوة الساعد بالعمل الرياضي الذي يمت بأوثق صلة إلى النضال القومي الشعبي إنما يكمل الشخصية البعثية ويضعها في صميم الحياة العملية الجدية، وينقذها من حقارة الإعتبارات الأنانية والنفعية التي تشغل جميع الذين يستسلمون لهذا الواقع الفاسد وعقليته الإنحطاطية. إن هذا المخيم الذي افتتحه الحزب هذا العام لم يقصد به أن يدخل الحياة الرياضية على الحزب فحسب وإنما قصد بصورة خاصة أن يقذف بأعضائه الى القرى العربية إلى الأوساط الشعبية الحقة ليلتقي البعثيون بإخوانهم وزملائهم في النضال: فلاحي القرى العربية ليتعاونوا معاً على السير في النضال لا لمصلحة حزب أو فئة بل في سبيل الوحدة والحرية والإشتراكية.
إن المبادئ التي قام البعث العربي عليها والتي وقف حياته في سبيلها أراها متحققة في هذه الصورة الصغيرة الصادقة في هذا المخيم.. أرى في هذا الإجتماع الحرية متجلية على حقيقتها أي منسجمة مع النظام وأرى الإشتراكية في نظام حياتكم وفي أصولكم الشعبية الصريحة يا أعضاء البعث العربي كما أرى الوحدة العربية الحقيقية في هذه الصورة الصادقة المصغرة لحزبنا، أرى العراقيين إلى جانب السوريين والأردنيين إلى جانب اللبنانيين والحضرميين يجتمعون الإجتماع المكين لا الاجتماعات المسرحية التي تضم عقولاً متنافرة ومصالح متضاربة وأساليب متباينة كما يجري الأمر في واقع السياسة العربية حتى الآن. وطبيعي أن تفشل هذه السياسة ما دامت تقوم على غير الاسس المعقولة وتهزأ بالعقل والفكر والاخلاص.
اننا لم نأت إلى البعث العربي بالزعماء وأصحاب المصالح الذين (يتبنون) القضية العربية ليشوهوها ويستغلوها، بل أتينا بعقول حرة مستقلة، ونفوس نضرة متجردة، أتينا بجيل جديد (ولد) أفراده في البعث العربي ولادة جديدة فكانوا أبناء العروبة الصادقين وكانت صلتهم بروح أمتهم ومصلحتها صلة عضوية لا تنضح إلا بالصدق والإنسجام والعمل العفوي القوي.. هذه هي الجامعة العربية الصحيحة عقل واحد وقيادة واحدة ونظام واحد.
أيها البعثيون
إني انظر الى البعثي على أنه الرجل الصامت الدائب وراء عمله الذي إذا نطق بكلمة تحولت إلى عمل نابض بالحياة. لقد سجل حزبكم في حياة الأمة العربية مرحلة تاريخية لأنه ابتعد على السواء عن الأفكار الخيالية اللاهية وعن “واقعية“ الحسابات النفعية والمصالح الحقيرة. وركز قواعده على صخرة جبارة في قوتها ومتانتها هي مصلحة عشرات الملايين من العرب يريدون أن يتحرروا من البؤس ليصبح كل منهم مصدر حياة وخلق لحضارة جديدة في العالم.
2 ايلول 1950
(1) حديث في افتتاحالمخيم الاول في بلودان، نشر في جريدة “البعث” العدد 464.
الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية
صلتنا بالماضي : هناك نفر يكاد يفهم من البعث العربي الذي هو حركة إنقلابية متجهة بقوة وعنف نحو المستقبل، انها حركة فاقدة الصلة بالماضي، وانها تعتبر أن كل التفاتة إليه تضيع جهداً يجب ان يبذل في بناء المستقبل… إن في هذا تشويهاً لفكرة البعث العربي التي تميز بين الماضي كروح والماضي كشكل.
كان يوجه للبعث العربي منذ نشوئه تهمة الرجعية، فقد فهم الكثيرون من البعث أنه إرجاع للماضي. فهموا من تعلقنا بماضينا وشخصيتنا أننا رجعيون ومحافظون، ثم انقلبت التهمة الى نقيضها.
أهمية التراث القومي: ان التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقاً العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الإبتكار والتجديد بل يعني العكس تماماً. والواقع ان الذين يفقدون روح التجديد وروح الإبتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي وتلك الروح الا القشور والمظاهر الجامدة.
إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائماً لروح أمتنا. إننا عندما ننطلق من أساس متين هو التشبع بروح أمتنا، ومعرفة واضحة لأنفسنا ولواقعنا، وإحساس صادق بحاجاتنا، لن نكون عرضة لأخذ الأفكار المصطنعة وتقليد الآخرين، وانما تأتي افكارنا طبيعية ومبتكرة لأنها نتيجة لشعورنا الصادق وحاجاتنا الصادقة. إن شعورنا بهذه الصلة القومية العميقة بأمتنا هو الذي يفتح عيوننا على حاضرنا الأليم وهو الذي يرينا التناقض بين واقعنا وحقيقتنا، وهو الذي يحملنا مسؤولية إنقاذ الأمة وبالتالي هو الذي يوصلنا الى الإنقلاب.
الصلة القومية تقود الى الإنقلاب وتساعد على تحقيقه : إن الصلة القومية التي توصل الطليعة والأمة الى التفكير الإنقلابي هي نفسها التي تساعد أكبر مساعدة على تحقيق هذا الإنقلاب. لأننا بانقلابيتنا نمثل إرادة الأمة كلها، وهذه الارادة التي لم تتوضح بعد إلا عند القليل، والتي لا تزال مبهمة عند الكثيرين نعرف انها متمثلة قي حركتنا، ونعرف ان كل خطوة نخطوها ستلاقي صدى في النفوس وستحرك وتراًًً ًحساساً، وان كل يوم يمر علينا في نضالنا سيفتح عقولاً جديدة ويوقظ نفوساً جديدة. وبما اننا بنينا انقلابيتنا على صفتنا العربية، وانطلقنا الى المستقبل بنسبتنا الى أصلنا، فاننا حتماً سنتكلم اللغة التي يفهمها الشعب وحتما سنجد سبيلا الى سمعه وقلبه.
الإنقلابيون صورة سباقة لمجموع الأمة : إننا نعرف بأن هذه الفئة القليلة من الإنقلابين الذين تضمهم حركة البعث العربى هم قلة في الظاهر، قلة في البدء، ولكن صفتهم القومية الصادقة تجعلهم صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة. نحن نمثل مجموع الأمة الذي لا يزال غافيا منكراً لحقيقته ناسياً لهويته، غير مطلع على حاجاته، نحن سبقناه فنحن نمثله، لذلك بيننا وبينه تجاوب عميق، حتى عندما نتصارع، حتى عندما يبطش بنا، هو منسجم معنا لأن طريقه هو طريقنا الآن، وإن لم يدر في الوقت الحاضر فسيعلم ذلك في المستقبل. إنما إيماننا مختلف عن الإيمان السحري لأنه مبني على أرسخ قواعد العلم، على الوقائع. هذه العقيدة هي اننا نمثل مصلحة الأمة وإرادتها، إذن نعتمد على تأييدها، وهذا التأييد الذي هو في حالة الكمون سينتقل الى حالة الظهور والفعل.
فقوانا ليست هي هذه القوى المنظورة المحدودة، قوانا لا حد لها في غزارتها. وأضيف أننا نعتمد على قوة أخرى هي أن حركتنا في اتجاه التقدم الإنساني. فهدفها ان ترتفع بالأمة من حالة التأخر الى حالة العمل والجد والإبداع، والتاريخ هو في هذا الإتجاه ونحن نمشي باتجاهه ومنطق التاريخ يقضي بأن تنهض الأمة العربية وأن تحتل مكاناً خلاقاً ايجابياً، وأن تقوم بدورها وتنشىء، فالتاريخ ايضاً يساعدنا.
هناك عدد كبير في أمتنا اصبح فاقد السيطرة على نفسه وعلى رأيه ونضارة شعوره، استعبدته المصالح وجمدته الإعتبارات الإصطلاحية، ففقد الحركة الحيوية اللازمة لكي يتمرد على المصالح الخاصة، لكي يتمرد على الإعتبارات الإجتماعية الكاذبة، لأن كل تمرد من هذا النوع يهدده في مصالحه ونفوذه ووجاهته، وهو يستمد وجوده من هذه الأوضاع والإعتبارات الزائفة لأنه لا يؤنس في نفسه القدرة على التحرر من مصالحه، فهو ينظر الى الأمة بمنظار نفسيته، ويرى الأمة على شاكلته عاجزة عن التحرر والتمرد على واقعها كما هو عاجز على التمرد على واقعه. فأعداء الفكرة الإنقلابية في بلادنا أو الذين يتمنون ولا يستطيعون السير في طريقها، هم أنفسهم أعداء القومية العربية. فلو كانت هذه الصلة حية لانتفضوا وشعروا بألم الواقع وبعار الحاضر، ولشعروا بالمسؤولية المترتبة عليهم من ضرورة تبديل هذا الحاضر بصفتهم جزءاً من هذه الأمة، ولاستطاعوا بالتالي ان يبدلوا نفوسهم وواقعهم ويتمردوا على مصالحهم.
صراع بين معسكرين، والظفر للإنقلابيين : عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة، فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية، عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين ،أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، عن التجرد والمثالية، التجرد والتضحية، يكون هذا الإنقسام في الأمة شكلياً وموقتاً في الواقع، لأن نفس المعسكر القديم المدافع عن الجمود والمصالح الخاصة فيه بذور إمكانيات نشوء الفكر الجديد، فكأن المعسكر الثاني هو التجسيد والتوضيح لهذه البذور والإمكايات الخيرة والكامنة فيه، وكأن معسكر الجمود والنفعية والمحافظة في صراعه مع المعسكر الثاني انما يصارع نفسه ويغلبها، ويتصارع مع غرائز الخير والحياة فيه لكي تستيقظ هذه الغرائز الخيرة ولكي ينميها الصراع ويقويها ويسمح بتفتحها الكامل. إن الحركة الإنقلابية في حيويتها وعنفها وصبرها وإيمانها، هي التي تتمكن اخيراً من إيقاظ وتحقيق هذه الإمكانيات الموجودة في نفس كل عربي. بهذا المعنى نستطيع أن نثق ونؤمن بأن معركتنا ظافرة لأن كل يوم يمضي عليها يضيف الى جيشها جنوداً أيقظهم صبرها واستمرارها وإشعاعها وأرجعهم الى نفوسهم، أي الى الصف النضالي الإنقلابي.
إن حركتنا إنقلابية عربية وقد بينا العلاقة بين الإنقلابية والصفة القومية وقلنا أن انقلابيتنا تنبع من صلتنا القومية وشعورنا بفقر الواقع وفساده وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع الى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقة وروحها وأخلاقها، والآن نتساءل عن وسيلة الإنقلاب؟ صحيح أن الإنقلاب فكرة ولكن لا بد لهذه الفكرة من أشخاص يفهمونها ويؤمنون بها ويمثلونها ثم يحققونها. إذن للإنقلاب أدوات حية من البشر هم الذين يعتنقون فكرته ويناضلون في سبيل تحقيقها. وبمقدار ما يكون اعتناقهم للفكرة عميقاً ونضالهم في سبيلها صادقاً، يكون الإنقلاب قوياً كاملاً. فالإنقلاب إذن هو صورة للذين يؤمنون به ويعملون له، وليس هو معجزة تهبط من السماء أو حادثة خارجة عن إرادة البشر وعن أعمالهم. وهذا يؤدي الى نتيجة أولى وهي ان الإنقلاب يجب ان يتحقق أولاً في نفوس الفئة القليلة التي تؤمن به وتبشر به العدد الأكبر، وتعمل على تحقيقه في مجموع الأمة، وكل تساهل في صدق تمثل هذه الفضائل في نفوس الإنقلابيين يهدد الحركة بالفشل والزيف. ولا يعقل أن نطلب من الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه، ولا نكون قد برهنا للآخرين بأنه قابل البلوغ.
لا انقلاب بدون صراع : لاشك ان الغرض الظاهر للإنقلاب هو إزالة الأوضاع المصطنعة المفروضة على الأمة والتي تشوهها سواء أكانت هذه الأوضاع سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. ولكن الأوضاع تتمثل في أشخاص، وهي عبارة عن عقلية أشخاص ومصالحهم وعاداتهم، يألفون هذه الأوضاع ويحرصون عليها، ويدافعون عنها، فلا يمكن محاربة هذه الأوضاع الا من خلال الذين يتمسكون بها، ويستفيدون منها. إذن حركة الإنقلاب لا بد ان تهز كل الذين يستسلمون للأوضاع الفاسدة، ولا بد أن تعاكسهم، حتى تخلق في الأمة رد فعل للمرض عندما يستيقظ الفكر الحر والخلق القويم وتستيقظ الروح السليمة. فالإنقلاب ليس له الا معنى واحداً واضحاً صريحاً هو الصراع والمعاكسة للعقلية والخلق والمصالح السائدة، والبعث يولد من هذا الصراع.
وان الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع السياسية يوصل الأمة الى هدفها يخطئون أيما خطأ، فلو فرضنا ان الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجاة بفعل صدفة من الصدف، فنعتقد أن هذا التغيير لن يتناول الا الظواهر، لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها. فالواقع الفاسد ليس شيئاً مادياً متجسماًَ في الأوضاع السياسية أو الإجتماعية فحسب، وإنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة، ويمكن القول ان كل فرد يحمل اثراً من آثار هذا الواقع. فالفرد الإنقلابي هوالذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل ان يصارعه في المجتمع والأوضاع المادية. وان كل الذين لا يصارعون الواقع، ويحيون حياة طبيعية هادئة مريحة هم ضمن الواقع الفاسد الذي يجب أن نحاربه، إذ لولم يكونوا منه لوجب ان تتحول حياتهم الى ألم ونضال.
وأضيف ملاحظة أخيرة وهي أن مجتمعنا المتأخر المريض يعني وجود أكثرية ضعيفة جاهلة مستعبدة لا تقدر مسؤولياتها ولا تعي وجودها على حقيقته، لذلك تبقى الأقلية هي التي يمكن أن يتوفر فيها الوعي والشعور بالمسؤولية، وهذه الأقلية هي التي تنقسم في الواقع الى معسكرين : المعسكر الإنقلابي، والمعسكر النفعي والمعاكس لكل تجدد ولكل تبديل عميق في حياة المجتمع. فالمشكلة في مجتمعنا إذن هي مشكلة القيادة، مشكلة الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط لقيادة المجتمع. واذا كان مجتمعنا ما زال متأخراً حتى الآن فلأن هؤلاء الأفراد لا يحققون في أنفسهم الشروط الفكرية والأخلاقية والروحية اللازمة لملء مركز القيادة، والصراع هو بين القادة الصادقين والقادة الكاذبين.
10 ايلول 1950
عهد جديد بعقلية قديمة ومصالح أزلية
لن نعجل على هذا العهد ونصدر فيه منذ يومه الأول رأيا سلبيا نهائيا. بل لا بد ان ننصفه في نقطتين ما زلنا نكررهما منذ حين وهما:
اولا: ان الشعب كان صادقا كل الصدق في انتفاضه على عهد ما قبل الانقلابات العسكرية، فهو اذن يطمح الى تجديد في حياته وأوضاعه، ولا يفكر في العودة الى القديم السقيم.
ثانيا: ان رجال هذا العهد الذين لا يختلفون عن رجال العهد القديم من حيث العقلية الاجتماعية الجامدة والانقياد للمصالح الشخصية والعائلية، لا يخلون من فضيلة واحدة سلبية تميزهم عن سابقيهم، وهي انهم لم يتبذلوا بعد الى حد المتاجرة بالجهاد المزعوم ولم يستحلوا في سبيل الحكم ومغانمه كل مقدس ومحرم، ولم يتصفوا بأسلوب الشقاوة ونفسية العصابات!
ولكن هذه المفاضلة ليست مضمونة الدوام، وقد لا تعمر طويلا فلقد ظهرت حتى الآن بعض البوادر من الحكام الحاليين، رغم حداثة عهدهم بالحكم، تنبئ عن مدى ما يستطيعون الوصول اليه، في مستقبل قريب، من سوء فهم لمعنى الحرية، واستهتار بإرادة الشعب، واستغلال للنزعات الرجعية، ومجارات للمصالح العائلية والإقطاعية. فهل في مقدور بعض المزايا الشخصية التي تظهر الآن عند بعض زعمائهم ان تحول دون تدهور هذا العهد وانتظامه في القانون العام الذي يسيّر جميع العهود القائمة على المصالح الإقطاعية والنفوذ العائلي؟.
إننا نؤمن أن قضية شعبنا ليست قضية أشخاص او فروق شخصية ثانوية في الكياسة واللباقة، وإنما هي قضية حاجات اجتماعية حيوية، وأهداف قومية شاملة، وان كل حكم لا يتفهم هذه الحاجات والأهداف بعمق، ولا يستجيب لندائها بحرارة وصدق، هو حكم مصطنع، مصيره الزوال السريع.
ميشيل عفلق
10 أيلول 1950
التضحية بمعاني الحياة الجميلة
أيها الاخوان (1)
اعتقد ان الفائدة التي حصلتم عليها من المخيم تمت بصلة وثيقة الى مبادئ الحزب. ففكرة البعث نضالية انقلابية تقضي بأن يتكون في الامة جيل يتصف بصفات اساسية تمكنه من قيادة الانقلاب .
فالانقلاب العربي لن يحققه اعضاء البعث وحدهم، فهم ليسوا الا الطليعة التي سترشد الاكثرية من الشعب نفسه. وهذه الطليعة التي يجب ان تعد عشرات الالوف هي الضامن لتحقيق الانقلاب. وقانونها هو ان تنظر الى الحياة نظرة جديدة مختصرة قوية، اي ان تتحرر من كثير من الاثقال التي يحملها للافراد مجتمعنا المريض، اثقال التعلق بالمادة والاعتبارات المعنوية الزائفة، والانانية والمنفعة الخاصة وان تصبح هذه الطليعة خفيفة في نفسها اي ان تكون متحررة من القيود غير عابئة بالمنافع واسباب اللذة والراحة، خفيفة ايضا في اسلوب عملها كي تستطيع تحقيق الانقلاب .
فالشرط الفكري والنفسي لنضال كنضال البعث العربي هو ان يكون كل بعثي كما كان اعضاء المخيم في هذه الفترة الوجيزة من الزمن. فليست الغاية من المخيم تجربة عارضة محصورة في عدد من الاعضاء لفترة ما، بل هي تجربة يجب ان تكون قدوة لحياتكم، اي ان تكون غاية البعثي ان يعيش كجندي غير عابىء بالاعتبارات الزائفة التي تسود المجتمع.
هكذا تتركز الحياة في نقطة واحدة وتتجمع الامكانيات وتتجه في طريق واحد فيكون أثرها خلاّقاً عظيما. ففي مرحلة الانقلاب يجب ان نفرق بين ما يمكن الاستغناء عنه، وما يجب الاستغناء عنه، أي بين ما هو رئيسي وما هو غير ذلك.
في الحياة اشياء كثيرة ذات قيمة وفيها جمال، والانسان السوي هو الذي يحس ويدرك معاني الحياة وقيمتها وجمالها. ولكن عندما لا تكون هذه القيم متوفرة لجميع افراد الشعب، وتكون حياة الاكثرية من الشعب فاقدة لكل معنى وبهجة وكرامة، فان الذين يدركون جمال الحياة يدركون ان تضحيتهم بهذه المعاني الجميلة هي الطريق الوحيدة لكي تصبح هذه القيم مشاعة بين ابناء العروبة جميعا لذلك يتخلون عنها طوعاً واختياراً .
كثيرا ما نسمع من الجيل القديم من الذين لم تمسهم روح المثالية والتضحية في سبيل المجموع، يشفقون على الذين يضحون بجمال الحياة في سبيل مبدئهم ويقولون ان هذا شيء حسن، وهذه مبادئ جميلة، الا انها لا تستحق ان يشقي الانسان نفسه من أجلها ويعيش في البؤس ويتخلى عن متع الحياة. وكثيراً ما سمعنا من اهلنا وجيراننا مثل هذه النصائح المتخاذلة الانهزامية، وجوابنا كان دائما بأن هذه الاشياء المعروضة علينا في الحياة وفي هذا المجتمع خاصة قد تكون جميلة وفيها ما يغري العقل والنفس، الا انها لا تستحق ان يتخلى الفرد العربي عن ذرة من مبادئه في سبيل الاحتفاظ بها.
هذه العقيدة باننا اخترنا طريقنا مرة واحدة وأخيرة، واننا لن نلتفت وراءنا ولن نتحسر على ما تركناه لاننا حكمنا بأنه لا يستحق ذلك، هذه العقيدة تخفي وراءها قوة وغنى، لان المادة لم تكن يوما حقيقة في الحياة بل مظهر وهي مظهر خادع، والحقيقة كلها هي في القوة التي ينفذ بها الانسان الفكرة الاصيلة في حياته .
16 أيلول 1950
(1) حديث في استقبال العائدين من مخيم البعث في بلودان، نشر في جريدة “البعث”، العدد 466.
في الإشتراكية بقاء الأمة وَتقدمَها
استهل الأستاذ ميشيل عفلق حديثه عن الصلة بين الشعب والشباب:
ان بين الشباب العربي والشعب العربي فُرقة لم يقصدها احد من الطرفين وإنما وقعت بحكم الاضطرار، فلا الشعب أراد ان يبتعد عن أبنائه الشباب ولا الشباب أرادوا ان يبتعدوا عن الشعب، ولكن حالتنا غير طبيعية، ولو كانت الأوضاع سليمة صحيحة شأن البلاد الراقية لكان هذا الاتصال امراً ميسوراً وطبيعياً ولما كنا سمينا شعبا وشبابا وفرقنا بينهم لان الشباب هم من الشعب أبناؤه وإخوته.
ولهذه الحالة غير الطبيعية أسباب ومبررات، فوجود أفراد وفئات تستغل موارد البلاد ومواهب الشعب وتصده لكي يسهل عليها استغلاله، لا يوافقها ابدا ان يكون هناك اتصال بين الشعب وأبنائه المخلصين الذين يفهمون حاجاته ويطمحون للتعاون معه لبلوغ الغاية المشتركة لمصلحة الأمة جمعاء.
ثم انتقل الى الكلام عن الاشتراكية فقال:
موضوع حديثنا عن الاشتراكية. والاشتراكية بصورة بسيطة كما يفهم من لفظها هي ان يشترك جميع المواطنين في موارد بلادهم بقصد ان يحسنوا حياتهم وبالتالي حياة أمتهم لان الإنسان الفرد لا يقبل ان يجعل نفسه غاية في الحياة حتى أن أدنى المخلوقات البشرية في الأخلاق والتفكير نرى فيها هذا الميل وهذه الحاجة الى ان تجعل لحياتها غاية أبعد من مصلحتها الشخصية، فبالأحرى الإنسان الراقي الذي لا يستهدف سوى نجاح أمته وازدهارها. والاشتراكية يمكن ان تفهم ايضا بأنها نظرية اقتصادية حديثة ظهرت في قسم من بلاد العالم في هذا العصر، ولها تعاريف وأصول وأنظمة معروفة، غير انها كلها ترجع الى هذا التعريف البسيط الذي قلنا اي اشتراك المواطنين ني موارد البلاد التي هم منها.
لكن علينا ان نعرف بان للاشتراكية معنى آخر غير معنى نظرية معينة ظهرت في الغرب. لها معنى طبيعي مستساغ من النفس البشرية والعقل والضمير، وهي بهذا المعنى لا تخص امة بعينها او تخص عصرا او زمانا بذاته. هي شيء أعم واثبت من النظرية.
أيها الاخوان:
الحقائق هي دوما بسيطة. وليس كنور الشمس حقيقة ملموسة وهو من أبسط الحقائق. ماذا نريد في الحياة لأنفسنا ولأمتنا وللأرض التي نعيش عليها؟ هل نريد لها الا الخير والتقدم؟ هل نريد لها الا ان يكون الواحد منا ضامنا لحاجاته، وان تكون السبل مفتوحة أمامه لكي يظهر مواهبه وينشط ويعمل وينتج في النواحي التي يجيدها وان يضمن مثل هذا السبيل لأولاده. وبالتالي نريد لأمتنا ان تكون امة يسودها الخير والعدل والإنتاج النشيط الراقي، وان تكون حالتها الاجتماعية على أرقى شكل ممكن في العلوم والفنون. هذا ما يريده الفرد وما يريده المجموع فكيف يمكن ان نحقق هذه الغاية؟
ان أقلية من الناس تملك معظم الثروات وتسيطر على السلطة وتتصرف بها حسب رغباتها، وهي لا تكتفي بذلك بل تطلب المزيد. والنتيجة الطبيعية هي ان تحرم أكثرية الشعب من حقوقها. ولو كان الأسياد يستطيعون ان يحرثوا الأرض بأنفسهم أو يشتغلوا بالمصانع لحرموا الشعب من كل حقوقه. لذلك فأنهم يجدون أنفسهم مضطرين الى ان يعترفوا للأكثرية بحق بقاء الرمق حتى يستطيع الشعب العمل للأسياد.
في هذه الحالة من الاستثمار والاستغلال لا يكون الغبنُ واقعا على أفراد او فئة من الناس وانما تكون الجناية على الأمة بأسرها. والبلاد المتأخرة هي تلك التي يكون أفرادها محرومين من أكثر حقوقهم متأخرين في صحتهم وعلمهم وإنتاجهم الاقتصادي. ان هذا الوضع الشاذ أي سيطرة أقلية من أبناء البلاد على ثروتها، وحرمان اكثرية الشعب من حقوقه الطبيعية المشروعة، يحول دون تقدم الوطن، فهذه المنافع التي يجنيها المستغلون تخنق مجموع الشعب وتحكم على الأكثرية الساحقة التي هي مجموع الأمة تقريبا بأن تدفن وهي حية، فالشعب الذي يستطيع ان يصنع وينتج ولا يسمح له الا بإنتاج بسيط ولا يعطى الا مدى ضيقا محدودا جدا في الحياة، ويفرض عليه الجهل والمرض والخوف والعبودية، هذا الشعب هو في حكم الميت وان كانت روحه في صدره.
فاذا فهمنا الاشتراكية بهذا المعنى وهي اننا نريد ان نرجع الى الحالة الطبيعية المشروعة المعقولة وان ينال كل ذي حق حقه حسب جدارته وكفاءته ويسمح للشعب بأن يظهر مواهبه ويستفيد منها، عندها يمكن ان يرتقي الشعب اي المجموع، فالطبقة الشعبية تساوي الامة تماما لأنها الاكثرية الساحقة والعنصر المنتج حقيقة.
فالاشتراكية اذن ليست شيئا غريبا صعبا أتانا من بلاد نائية وفيه نظريات معقدة. انها الشيء البسيط المشروع الذي يطلبه كل عقل سليم وضمير حي، ولا يمكن لأي فرد او فئة ان يكون مخلصا لوطنه، يشعر شعورا صادقا نحو أمته ويأبى في الوقت نفسه على الشعب هذا الحق، لان القومية التي هي الغيرة على مصلحة الامة، والاشتراكية تكادان تكونان شيئاً واحدا.
فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط اساسي لبقاء أمتنا ولإمكان تقدمها، واذا لم تعمم الاشتراكية ولم نسع الى تحقيق العدل الاجتماعي لجميع الافراد، ولم ينقلب الشعب العربي الذي يعد سبعين مليونا، الى شعب منتج الى أقصى حدود الطاقة اذا لم يتحقق كل هذا يكون كل كلام عن حرية العرب واستقلالهم ضربا من اللغو ونوعا من التضليل.
ان المصلحة القومية وبقاء الامة ومجاراتها للامم الراقية وصمودها في تيار التنافس بين الدول متوقف على تحقيق الاشتراكية، اي السماح لكل عربي دون تمييز او تفريق بأن يصبح حقيقة ملموسة منتجة لا وهماً من الأوهام.
7 تشرين الاول 1950
ثورية الوحدة العربية
لا شك ان اهداف “البعث العربي” التي لخصناها في “الحرية والإشتراكية والوحدة” هي اهداف اساسية متساوية في الاهمية لا يجوز فصل او تأجيل بعضها عن البعض الآخر. ولكن الشيء الذي لا شك فيه ايضا هو ان للوحدة وهي التي تعبر عن الصفة العربية الشاملة تقدما ورجحانا معنويا يجب ان لا يغفل عنه البعثيون لئلا ينساقوا مع تيارات فكرية وسياسية هي ابعد ما تكون عن فكرة “البعث العربي.”
كان ” البعث العربي” عند تأسيسه في الاربعينات اول حزب اشتراكي في العالم العربي، ومع ذلك لم يختر لنفسه اسم الحزب الاشتراكي. وقد اعطى للحرية الدور الاساسي في بعث الامة العربية، ومع ذلك لم يتسم بالحزب الديمقراطي. ولئن كان قد تسمى بالبعث العربي فليس ذلك لانه اول حزب آمن بالوحدة العربية فكرا وعملا، وجعل تنظيمه على اساس عربي شامل فحسب، بل لانه آمن منذ البدء ان كل نظرة ومعالجة لمشاكل العرب الحيوية في اجزائها ومجموعها لا تصدر عن هذه المسلمة: “وحدة الامة العربية” تكون نظرة خاطئة ومعالجة ضارة. فليس اذن الفرق بين “البعث العربي” وبين الاحزاب الاخرى التي تنشأ في الاقطار العربية والتي منها ما ينادي بالديمقراطية،ومنها ما ينادي بالاشتراكية، ومنها ما ينادي بالاثنتين معا في حدود القطر الذي تنشأ فيه، واكثرها يقول بالوحدة العربية كنتيجة وهدف سيصل اليه كل قطر عندما يكتمل تطوره، نقول ان الفرق بين حزبنا وهذه الاحزاب ليس فرقا في الكم بل في النوع. ان الحرية التي يطلبها حزب مصري او لبناني، والاشتراكية التي يعمل لها حزب عراقي او سوري، هما غير الحرية والاشتراكية اللتين تحتاجهما وتقدر على تحقيقهما الامة العربية كأمة ذات تراث حضاري واستعدادات وامكانيات لنهضة جدية اصيلة. فالحرية التي يسعى اليها كل قطر عربي على حدة لا يمكن ان تبلغ من العمق والشمول والمعنى الايجابي ما تبلغه الحرية التي تنزع اليها الامة العربية عندما تضع مصيرها ومصير الانسانية موضع التساؤل. كما ان الاشتراكية التي تتقلص وتتشوه –في حدود القطر الواحد- حتى تقتصر على اصلاحات جزئية خادعة. تأخذ كل مداها النظري والتطبيقي عندما يكون مجالها الوطن العربي كوحدة اقتصادية وكوحدة شعبية نضالية. وهذا الفرق ايضا بين الحرية والاشتراكية كما تفهمان في حالة التجزئة (وفي عقلية التجزئة) وبينهما في عقلية الوحدة هو فرق في النوع لا في الكم. فلم يعد اذن عمل الاحزاب القطرية مرحلة توصل الى الوحدة، بل اتجاها جديدا وطريقا مختلفا يبتعد عنها ويضعف امكانياتها، وهو الفرق نفسه بين الجامعة العربية التي تجمع العجز الى العجز، والاحقاد والاطماع والمصالح الخاصة بعضها الى بعض، وبين الوحدة العربية التي تخلق العرب خلقا جديدا. وليس الذي يمنع اتحاد او انصهار الاحزاب ذات الاهداف الواحدة المتواجدة في عدة اقطار عربية هي الحواجز والعراقيل التي تضعها الحكومات في طريق اتحادها، بقدر ما هي طبيعة هذه الاحزاب وطبيعة اهدافها المستمدة مباشرة من وضع التجزئة، وعقليتها، والتي تستعصي على كل توحيد.
وفي حين يعتبر “وحدويو” التجزئة الوحدة شيئا آليا يبلغ بالتوحيد السياسي عندما تتهيا الظروف وتسنح الفرص، وانها لا تحتاج الى تهيئة سابقة اللهم الا التهيئة السياسية بالمفاوضات والمناورات، واما التهيئة الفكرية فلا تعدو ان تكون، في احسن الاحتمالات، تبشيرا عاما بالوحدة يتسع لشتى الارتجالات والتناقضات. وفي حين تمثل الوحدة في نظر الاحزاب القطرية وممارساتها الشيء السطحي الذي تعوزه الجدية، ويأتي في أدنى درجة من الأهمية بالنسبة الى المشاغل القطرية التي تستأثر عمليا بكل اهتمام هذه الاحزاب، فان الوحدة في نظر “البعث العربي” فكرة اساسية حية لها نظريتها كما للحرية والاشتراكية نظريتهما، ولها مثلهما نضالها المبدئي اليومي المنظم المستمر، ومراحلها التطبيقية التي تزيد في قوة هذا النضال وتمهد الطريق للنصر الاخير.
الوحدة العربية فكرة ومستوى : ليست الوحدة العربية محصلة او نتيجة لنضال الشعب العربي من اجل الحرية والاشتراكية، بل هي فكرة جديدة يجب ان ترافق وتوجه هذا النضال. ان امكانيات الامة ليست مجموعا عدديا لامكانيات اجزائها في حالة الانفصال بل هي اكثر في الكم ومختلفة في النوع.
نفسية التجزئة هي التي تفسر الى حد بعيد ليس تكاثر الاتجاهات المتنافرة المتناقضة فحسب، بل ايضا سلبية هذه الاتجاهات وعجزها عن كل بناء. هي نفسية الفرار والعجز، فرار الى التوسع الوهمي (الاممية التقدمية والرجعية) او التقلص المصطنع (الاقليمية اللبنانية والمصرية)كأن ربط العرب بعجلة عالم اوسع من عالمهم يغنيهم عن التحرك الذاتي، او كأن الجهد الروحي الذي يبذل لبعث الحياة في قسم منهم لا يكفي لبعثهم جميعا. نفسية التجزئة تحلم بالثورات الصاخبة العاصفة وتقنع بالاصلاحات الرخيصة والترقيعات الهزيلة المضحكة، تتكلم عن المبادئ وتعني اقتسام المناصب والمنافع. نفسية الوحدة تخلق الفكر الجريء النزيه والعمل العميق الصبور.
ان شعار “البعث العربي” (امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) يشير الى مستوى الوحدة اذ يقرنها بالرسالة. فالتفكير في الرسالة والكلام عنها لا يكونان مشروعين وجديين الا على نطاق الوحدة. ذلك لان الانقلاب، وهو خلق الشروط التي تمكن الامة من التغلب، بقواها الذاتية، على اسباب تخلفها، لا يكون مشروعا ولا جديا إلا على نطاق الوحدة ايضا. والرسالة ليست الا الانقلاب وثمراته. فانقلابية البعث العربي نابعة مباشرة من فكرة الوحدة، واداة هذا الانقلاب هو الجيل الذي له عقلية الوحدة ونفسيتها، الجيل العربي الجديد الذي يستمد قيمه من امكانات الامة العربية الكامنة لا من الواقع المريض.
الوحدة العربية عمل نضالي : كما ان الوحدة العربية فكرة جوهرية لها وعيها الذي يجب ان يوضح ويعمم حتى يقوم التفكير ويلهب النفوس – فهي كذلك عمل له تنظيمه الذي يجب ان يحكم ويتسع حتى يسيطر على الظروف ويقلب الاوضاع. اذن فليست الوحدة عملا آليا تتم من نفسها نتيجة للظروف والتطور. فالظروف لا تخدمها، والتطور قد يسير معاكسا لها نحو تبلور كاذب للتجزئة. فهي بهذا المعنى فاعلية وخلق ومغالبة للتيار، وسباق مع الزمن، اي انها تفكير انقلابي وعمل نضالي. ان هجوم الاستعمار والصهيونية يكاد يتركز على الوحدة العربية. ولا يحتاج الاستعمار الى تدخل مباشر لتزييف الديمقراطية والتقدمية فالتجزئة كفيلة بذلك ما دام وضعها ومنطقها يغريان كل جزء بأن يستغلها لبلوغ بعض الفوائد الخادعة على حساب الاجزاء الاخرى. وهكذا فبالرغم من وحدة حاجات الشعب العربي في جميع اقطاره، فان معظم نضاله يهدر ويبعثر. فمنطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في البلاد العربية من التوحد والتعاون فحسب، بل يدفعها الى التعاكس والتناقض.
وهكذا نصل الى هذه الحقيقة : لا يحقق الشعب العربي وحدة النضال، ما لم يمارس نضال الوحدة.
ميشيل عفلق
شباط 1953
البعث لا يرضى باستغلال الواقع
أيها الاخوان(1)
آمل أن تتاح لنا فرص عديدة في المستقبل للتباسط وللكلام دون كلفة، لكي يحصل التفاهم والتجاوب بين جميع أعضاء الحزب على الأمور الكبيرة والصغيرة. لأن ذلك شرط أساسي لقيام الحزب كقوة فعالة تنطلق من عقيدة موحدة.
ولا يتسع المجال لإعطاء جميع شعارات الحزب حقها من الشرح، لذلك سأكتفي بأن أقول كلمة في موضوع الحزب نفسه:
مهمة حزبنا
لابد لنا من تكوين فكرة واضحة وبسيطة معا ً عن مهمة حزبنا في هذه المرحلة الخطيرة من حياة أمتنا. وأخشى كثيرا ً من أن تطغى المشاغل السياسية ومعارك النضال المتلاحقة وما يتبعها أيضا من فترات يستسلم فيها الحزب لنشوة الظفر أحياناً ويسترسل في الكلام، وغالباً ما يكون الكلام غامضاً وعاماً ومشوشاً، أخشى أن تضيع بساطة المهمة التي يحملها الحزب ووضوحها وتضيع خطورتها وسط هذه الجلبة. فعلينا أن نعود دوماً الى هذه المهمة بجديتها وببساطتها، وعلينا ان نتذكرها مراراً وتكراراً.
يجب ان نكون بمستوى الحركات العالمية
نحن نعيش في هذا العصر وحزبنا لن يكون حزباً بالمعنى الصحيح الا اذا كان في مستوى الحركات العالمية في هذا العصر.
حزبنا انقلابي كما يعرفه كل منكم. وهو لا يرضى باستغلال الواقع كما هو، بل صمم على إحداث انقلاب تاريخي فكري في حياة أمتنا، فما هو المقياس الذي يجب أن نرجع اليه لمعرفة ما اذا كانت أماني الحزب لم تبق وهماً وحلماً بل أصبحت حقيقة راهنة أو في طريق التحقيق الجدي؟ المقياس هو ان نقارن حركتنا بالحركات العالمية الجدية في عصرنا هذا .
النضال رسالة لا هواية
تذكرت ذلك عندما سمعت كلمة قيلت لكم: “ليقدم كل منكم هوايته أو ميله”، وسواء أقصد ذلك بالذات أم لم يقصد، فأني اغتنم هذه المناسبة وأستفيد من هذه اللفظة لأقول ان حزباً انقلابياً جدياً لا يقوم على هواية ولا يقبل في صفوفه الهواة. هذا الحزب أما أن يولد من الشعور القاهر، من الشعور العميق الأليم بضرورة حياتية قاهرة تدفع بطلائع أمتنا الى التضحية والمعاناة لإنقاذ الأمة من خطر الموت والفناء، وأما أن يكون خدعة لنفسه وللشعب الذي يطلب تأييده: فالعمل في حزب انقلابي ليس هواية ولا ميلاً وانما هو وظيفة هي أخطر من كل وظيفة وأكثر جدية من أي واجب، وهي كما عرفها الحزب منذ نشوئه، “هي رسالة” وعندما نفهم مهمة الحزب على هذا الشكل ندرك بالتالي ان الشيء الوحيد الجدير بحزب كهذا هو تنظيم حديدي، تنظيم لا يكتفي بجمع الكفاءات والمواهب وجمع أوقات الأعضاء، بل يضع هدفاً له ان يخلق منهم أناساً جدداً وأشخاصاً جديدين متكيفين مع ما تتطلبه المهمة الخطيرة منهم. فالتنظيم ليس جمعاً فحسب وانما هو خلق وإبداع في الدرجة الأولى. وليكن في بادئ الأمر مختصراً محدوداً، ليس في هذا ضير ولكن ليكن جدياً.
نتحرى الكيفية قبل الكمية
وإذا كان جدياً فانه يستطيع ان يتسع وأن يتوالد ولكنه إذا بدأ بغير الجدية، إذا بدأ بروح التساهل وعدم التقدير لخطورة المهمة فليس من شيء يقدر على إصلاحه. وهذا ما يهيب بنا دوماً الى أن نتحرى الكيفية قبل الكمية والى ان نتطلع دوماً الى الافراد قبل المجموع، لأن الافراد هم الذين يستطيعون بالاتصال الحر العميق، وبربط مصيرهم بمصير أمتهم ان يدركوا حقيقة الطريق المرسوم لهم. وهم الذين يستطيعون ان يغيروا مجرى الحزب إذا وجدوه منحرفاً أو متهاوناً. وقد لا يكون الحزب دوماً في الطريق الصحيح السليم. فالحزب يضم بشراً والبشر يخطئون ويتهاونون ويتكاسلون وتطرأ عليهم شتى نقاط الضعف التي تصيب كل إنسان، ولكن الخطر كل الخطر هو الا يظهر في هذا المجموع بين حين وآخر أولئك الافراد الذين يقارنون بين ما رغبوا اليه في البدء واستهدفوه وصمموا عليه وما آل اليه الحزب، فيهتزون في أعماقهم ويهتز وجدانهم ويصلحون ويغيرّون ويرجعون الحزب الى الصراط القويم.
القدرة على إعادة النظر
هذا قدرنا ولن نطمئن يوماً واحداً على أننا بلغنا ما نريد بلوغه وأننا ملكنا الحقيقة وسرنا في الطريق القويم. وبجانب ثقتنا بحزبنا والى جانب ثقتنا بشعبنا يجب ان تكون في نفوسنا القدرة على اعادة النظر دوماً في سيرنا ونهجنا وتفكيرنا حتى يكون تفكيرنا ناضجاً أصيلاً وحتى لا تطغى عليه السطحية والتقليد، لكي لا يودي بنا الغرور الى ما أودى بالكثيرين.
9 نيسان 1954
(1) كلمة في المهرجان الذي عقده حزب البعث العربي الاشتراكي في التاسع من نيسان، نشرت في جريدة “البعث”، العدد 532.
قوميتنا المتحررة أمام التفرقة الدينية والعنصرية
(افتتح هذا الحديث، الذي ألقي في اجتماع لطلبة المغرب العربي، بسؤال من أحد الطلاب طرح عن الاقلية البربرية بالمغرب ومحاولة فرنسا تقوية هذه العنصرية وكيف يمكن التوفيق بينها وبين الفكرة العربية التي ندعو لها ونعمل من أجلها).
يجب التساؤل أولا: هل نحن سنعمل كالسياسيين الموجودين بأسلوب مرتجل لتمشية الحال دون أن يكون هناك نظرة شاملة وبعيدة للمستقبل، أو أن الوقت حان لوجود جيل عربي في كل مكان من أقطار العروبة ينظم تفكيره وعمله على أساس هذا التفكير الشامل.
فأسلوب السياسيين الموجودين في البلاد العربية هو أسلوب مرتجل كما هو معروف لا يقوم على نظرة علمية مدروسة شاملة تعتمد في المستقبل على إمكانيات الشعب العربي وتسعى الى تحقيق أهدافه وفق مراحل مدروسة.
فالسياسيون يصدرون من هذه النظرة، ولأن مصالحهم أيضا لا تسمح لهم بالعمل الطويل ولا تسمح لهم بالتجرد والنضال المستمر لذلك نراهم يرتجلون. فالعلل الموجودة في المجتمع العربي من رأسمالية وإقطاعية يضخمها الاستعمار باستمرار الى جانب عصبيات عنصرية وطائفية ومذهبية. ومعالجة السياسيين لهذه العلل معالجة مرتجلة وسطحية، تارة يكذبون على الشعب وتارة على أنفسهم ويتجاهلون هذه الامراض ويخضعون لها الخضوع التام فنرى من السياسيين من يماشي النعرات الطائفية المذهبية، وآخرين لكي يتحاشوا الاصطدام بالفروق العنصرية يلجأون الى الشعارات التي في عرفهم تجمع المجتمع. ففي المغرب مثلا يظن أن الإسلام يجمع الجميع لذلك لا يعود مجال للاختلاف العنصري. كما يوجد في الشرق العربي من يقول بهذا الرأي مع أنه أصبح ضعيفا.
اني أذكر بأن في سورية قبل خمس وعشرين سنة قلما كان الزعماء يذكرون كلمة عرب وعروبة. كانوا يجدون في كلمة سورية والسوريين مخرجا من مآزق كثيرة ولم يكونوا يستعملون تعابير قومية وانما وطنية بقصد أن يلتقي الجميع مسلمين ومسيحيين وعربا وأقليات غير عربية كلها باسم الوطنية لمقاومة الاجنبي المحتل. وبقي هذا لما قبل عشر سنوات. وقد اضطرتهم حركتنا في آخر الامر أن يتبنوا شعارات العروبة ولكن حتى الآن يظهر في تعابيرهم من حين لآخر بقايا الأسلوب القديم فيقولون بأمة سورية.
فالمشكلة ما زالت مطروحة ولكن في الشرق العربي خفت حدتها مع انها لا زالت باقية في لبنان، اما سوريا فقد سبقت غيرها من الأقطار واعتمدت الوضوح والصراحة. اما في العراق فما يزال هذا المفهوم موجودا نظرا لوجود أقلية كردية. أذكر مثلا منذ سنتين جاء وفد عراقي لزيارة سورية ولبنان -وكان الشيشكلي ما يزال موجودا- وتحدثوا لي عن خلاف عنيف وقع بينهم عندما دخلوا سورية وقبيل دخول دمشق، على رفع العلم العربي، فهناك قسم من الطلاب لم يوافق على ذلك، منهم الشيوعيون، والشيوعيون يستغلون هذه التفرقة العنصرية فيجدون أرضا خصبة بين الاكراد في العراق. أما في مصر فالمشكلة من نوع آخر، ليست هناك عناصر مختلفة وانما مر على مصر زمن طويل وهي في ظل الحكم الأجنبي من اتراك وانجليز أضعفوا فيها هذه الصفة العربية وغذوا فيها الشعور الإقليمي وأوجدوا شيئا من الاعتزاز المصري ونبشوا الحضارة المصرية القديمة من الآثار وكادوا يوهمون المصريين بأنهم غير غرب. ولكن هذه المحاولات فشلت. والآن لم يعد يجرؤ أحد أن يطالب جديا بقومية مصرية فرعونية. وفي لبنان ينظر الى العروبة نظرة الاسلام لانها رافقته، لذلك فالعناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي تكافح الفكرة العربية بحجة ان العروبة معناها سيادة وسيطرة الاسلام كدين وتشريع وتقاليد وحضارة. فكل هذه الافكار كانت معروفة لدينا حين بدأت حركتنا قبل خمسة عشر عاما. فنحن لم نخف منها لأننا مؤمنون بأنها أشياء مصطنعة في أكثرها تتلاشى وتذوب مع التوجيه واكتشاف الشعب تدريجيا لمصلحته في الوحدة، والوحدة مصيره، واكتشاف بطلان ما يختبئ وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة، من رجال الدين أو من زعماء بعض الاقليات العنصرية أو من اقطاعيين، والاستعمار وراء الجميع. فلو أردنا أن نمشي على غرار السياسيين والزعماء التقليديين في البلاد العربية كان علينا ان نكتم دعوتنا والشيء الكثير من أفكارنا ان لم يكن في كل الاقطار على الاقل في بعضها، ولكن لمعرفتنا بحقيقة شعبنا وبحقيقة هذه الامراض ومن أين تأتي ومن يغذيها واعتبارنا لهذه الأمراض سطحية وقابلة للكشف، فان التصريح بعقيدتنا وفكرتنا يساعد على شفاء هذه الامراض مثل الطبيب الذي يعتمد ارادة المريض في شفائه. فالطبيب الذى يكتم عن المريض مرضه يفقد عنصرا أساسيا في الشفاء. ومعنى ذلك انه لا يشرك المريض في عملية الشفاء في حين ان الطبيب الواعي يشارك المريض. لماذا كانت لنا هذه الثقة بفكرتنا وبأنفسنا؟ لأن فهمنا للعروبة يختلف كثيرا عن المفاهيم التقليدية. لقد اعتبرنا انتشار هذا المفهوم الجديد في أوساط الشعب يكفل تأييد الشعب له وبالتالي التغلب على الأوهام والمفاهيم البالية والاعتبارات القديمة. فهناك جملة مفاهيم للعروبة أو للقومية تخلق مشاكل ليس لها آخر فتمزق وحدة الشعب وخاصة وضع الشعب العربي في هذه المرحلة بعد قرون من التأخر، فنحن أحوج ما نكون الى مفهوم صحيح للعروبة نقدمه للعالم وللحضارة وللتفكير الإنساني. القومية المغلقة المتعصبة أكبر خطر علينا لانها تغذي الفروق بدلا من القضاء عليها. ولقد وجد دوما في البلاد العربية مئات من الناس كانوا يتبنون النظرة النازية حتى قبل ظهور النازية نتيجة للجهل، ووجد دوما من صوّر العروبة بأنها مقتصرة على نوع معين وعدد معين من الناس وانها تفاخر واستعلاء على الآخرين. وطبيعي ان يُحدث هذا رد فعل، وان تشعر الأقليات العنصرية بأنها مهددة بوجودها أمام مثل هذه القومية، لذلك كان هناك رد فعل على القومية المتعصبة من الأكراد والآشوريين والأرمن ورد فعل ديني ومذهبي. إن القومية الإسلامية والدعوات الطائفية الاخرى كان مصيرها الفشل كما كان مصير القومية الطاغية المتعصبة. اذا كيف عرفنا نحن العروبة منذ البدء وكيف وجدنا لها ضمانات قوية جدا لكي لا تصطدم بأي عقبة من هذا النوع ولكي لا تتحجر، بل تكون دوما منفتحة ومتطورة وانسانية؟ ليس تعريف العروبة وحده كافيا ولكن الشيء الاساسي في الموضوع هو أننا فسرنا قوميتنا بالاشتراكية وبفكرة الحرية. هذه هي الضمانات الحقيقية في الواقع عندما تكون القومية ملازمة للاشتراكية او الاشتراكية ملازمة للقومية.
فنحن عندما ننادي بالمساواة الاقتصادية وبتكافؤ الفرص نعني اننا سلمنا قضية البلاد لأصحابها الحقيقيين وهم أفراد الشعب. وهم في حقيقتهم شيء واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي وعربي وكردي وبربري… الخ..
فلا يعقل مطلقا أن تكون القومية اشتراكية وفي نفس الوقت متعصبة لان الاشتراكية في فلسفتها هي محو لكل تمايز واستغلال وسيطرة من فئة لأخرى. فاذن نحن صدرنا من البدء عن فكرة وليست نظرية، اذ انها مستمدة من صميم هذا الشعب العربي الممتد على هذه الرقعة الممتدة في الشرق والغرب، والذي تجمعه أواصر في الماضي ومصالح وأواصر روحية في الحاضر والذي يجب أن يكون له اسم. فالاسم الذي هو أقرب ما يكون الى الواقع والى الماضي والى المستقبل هو العروبة. فاذا قلنا الاسلام فسنختلط مع عالم آخر نصطدم معه بالمصالح. فالفروق القائمة في وسط مجتمعنا العربي تظهر أنها لا شيء أمام الفروق في وسط العالم الاسلامي. اذا أخذنا الاقليات العنصرية ما بين العالم العربي والاسلامي نجدها كثيرة فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيرا من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل وحدثت تقريبا في أوقات متقاربة في البلاد الاسلامية وفي أوروبا المسيحية. في أوروبا كان هذا الحلم عند الباباوات والأباطرة الجرمان من ألف سنة. لقد حاولوا أن يجعلوا من أوروبا دولة مسيحية واحدة باسم النصرانية، وكانت من نتائجها حروب مستمرة وتورط للسلطة الدينية في مغامرات سياسية بشعة لا تليق بالدين، حتى أصبح رجال الدين في أوروبا وزعماء الكنيسة أكثر شرا وفسادا من الملوك. كذلك أباطرة الجرمان ظلوا يعيشون وراء هذا الخيال مئات السنين وكانت النتيجة فشل المحاولة لظهور القوميات منذ القرن السادس عشر. فقد تبلورت فكرة القوميات في أوروبا وقضت نهائيا على هذا الحلم. أما في الشرق الاسلامي فقد فشلت المحاولة ايضا ونتائجها معروفة كذلك، بين حروب وثورات عديدة مستمرة انفصلت على أثرها الشعوب غير العربية وشكلت كيانات مستقلة مثل ايران وتركيا.
وانني أورد هذه الامثلة والتفصيلات لكي لا نقع في تجارب فاشلة. أعود الى الفكرة التي ابتدأنا منها: هل نريد أن نعمل دون خطة ودون نظرة بعيدة ودون أسس مدروسة متينة أم نعتبر أنفسنا مسؤولين عن مصير أمتنا وأن نختار لها أمتن الأسس وأحسن الاشكال التي تضمن ازدهارها وسعادتها ووحدتها؟ فالجواب هو ان نفرق بين العمل الماضي المرتجل وان نعتمد على المستقبل وان نتحمل في الحاضر كثيرا من الجهود والتضحية ريثما تتوضح فكرتنا للجميع وتحقق المصير الذي اخترناه لأمتنا.
وهذا لا يحدث في يوم ولا في سنة بل يحتاج الى زمن حتى يلمس جميع العرب بأن هذا هو الحل الوحيد لتطويرهم وازدهارهم. لا يجوز لنا ان نضحي بفكرتنا التي نؤمن بها أمام عقبات مؤقتة. فلمجرد وجود مسيحيين في لبنان يغذيهم الاستعمار بأفكار خاطئة، هل نساير لبنان ونقول له انه غير عربي!.. كلا لا يمكن ان نضحي بفكرتنا. وواجبنا أن نشرح للبنانيين الانعزاليين بأن العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى، انهم يتهربون من العروبة -وهي مرادفة في نظرهم للاسلام- لأنها في نظرهم لا تسمح بتكوين مجتمع يحفظ حرية الفرد ويساير التطور الحديث في العالم. فاللبنانيون الانعزاليون بحكم موقع القطر اللبناني، وبحكم الاتصالات بينهم وبين الغرب ووجود ارساليات أجنبية، تذوقوا مظاهر الحضارة الغربية اكثر من أي قطر عربي آخر، وتعلقوا بالحرية الفردية، فهم يخشون بعد ان حصلوا على شيء من هذه الحرية، اقول يخشون اذا ما اندمجوا في الجسم العربي أن يفقدوا حريتهم. واذا أخذنا الاقليات العنصرية مثل الاكراد مثلا.. نتساءل.. لماذا يتخوف الأكراد أو قسم منهم من العروبة؟ ان هذا التخوف أكثره ناتج عن دعاية استعمارية حديثة ترجع الى خمسين سنة، يوم دخل الانكليز والفرنسيون الشرق العربي. فالأكراد ظلوا مئات السنين يعيشون مع العرب ويحاربون ويستبسلون في الدفاع عن الأراضي العربية. فأفراد الشعب من الأكراد ماذا يريدون وأي شيء يطمحون اليه أكثر من ان يعيشوا حياة كريمة سعيدة، وأن يكون لهم ما للجميع وعليهم ما على الجميع باستثناء بعض الزعماء الذين لهم مصالح اقطاعية؟ أفراد الشعب هؤلاء لا يريدون أكثر مما يريده العرب أنفسهم.
والآن ليس هناك اقليات مضطهَدة وطوائف مضطهَدة وانما هناك اكثرية شعب مضطهَد هو الشعب العربي، وهناك اقلية مضطهِدة من المتآمرين مع الاستعمار. العربي والكردي والبربري والاشوري والمسلم والمسيحي والدرزي الخ.. افراد الشعب الذين يشكلون 90 بالمائة من افراد الأمة العربية مضطهدون محرومون من قبل أقلية تستغل الأوضاع الفاسدة وتستفيد من وجود الأجنبي.
فعندما تطرح المشكلة على هذا الشكل، أي ان الاشتراكية تطرحها على هذا الشكل، وقوميتنا اشتراكية، هناك طبقات مستغلة متآمرة على حساب الشعب، فعلينا ان نقضي على هذا الاستغلال عندها لا يعود هناك فرق بين المواطنين. واذا رجعنا الى تعريف العروبة كما نفهمها نحن وكما نريد ان تتحقق بأنها هي العنوان والاسم والروح التي تجمع بين هذا الشعب الواحد وتشعره بشخصيته ورسالته في الحياة فليس فيها أي جمود أو تحجر أو استعلاء.
لا أحد يمنع الأكراد ان يتعلموا لغتهم شريطة ان يكونوا خاضعين لقوانين الدولة ولا يشكلون خطرا على الدولة، والطوائف المسيحية مثلا لا يوجد من يمنعها من ممارسة شعائرها الدينية ومن الثقافة المسيحية ضمن هذه الثقافة العربية العامة. فمفهومنا بعيد جدا عن مفهوم القومية النازية التي تؤمن بأن هناك عرقا مفضلا وله مميزات خاصة يجب أن يتطهر من كل شيء وبالتالي ان يضطهد كل من لا تتوفر له الشروط من حيث النسب والعادات المعينة… فالعروبة هي انسانية ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الإنسانية الصحيحة وبأنها تقديس لقوميات الآخرين، فنقدس هذا الشعور عند كل شعب آخر.
ولكننا لا نقول بالاممية التي يقول بها ادعياء الماركسية بل نعتبرها مصطنعة لانها محاولة لأفقاد كل شعب شخصيته وربط الشعب بروابط طبقية بحتة، وهي محاولة فشلت كما فشلت محاولة الدولة الدينية في القرون الوسطى على ما في ذلك من مفارقة. فالشعب في حاجة الى من ينبهه الى أن الاممية التي تجاهلت الحقيقة القومية تتحول يوما بعد يوم الى طريق الفشل. وهكذا نرى أن نظرتنا الى الإنسانية هي النظرة العلمية لأننا نعتبر ان الإنسانية الصحيحة هي في القومية الصحيحة.
فلنعد الى المشكلة المطروحة ونضيق البحث ونعين الحل العملي على ضوء هذا التوضيح. هناك في المغرب عنصر يسمى العنصر البربري وهذا العنصر يمتزج مع العرب امتزاجا كليا، كما اعتقد، من الفتح العربي على الأقل لأن هناك بعض النظريات التي توجد صلات بينهما قبل الفتح، ولكن منذ الفتح العربي الى اليوم أصبحت أرضا واحدة ودينا واحدا وثقافة واحدة ولغة واحدة ومصلحة حاضرة واحدة.
ونغمة التفريق هذه قد اصطنعها الاستعمار وغذاها، اذن هل نقول اننا نريد ان نتحرر من الاستعمار اولا تحت الشعارات الملائمة التي تجمع ولا تفرق بعد ذلك نسعى أن نزيل هذه الفروق، أو أن نظهر للبربر الذين يتحفظون تجاه القومية العربية بأنها عين ما يطمحون اليه وانها حريتهم وحياتهم وازدهارهم وانها القوة الحقيقية؟ ثم بأنهم لن يكونوا فئة قليلة وبأنهم سيكونون جزءا من امة واسعة منتشرة في الشرق والغرب وهذا اضمن لقوتهم وسعادتهم؟ فالواقع ان المستقبل هو ابن الحاضر وان ما نتساهل فيه اليوم لن نستطيع تلافيه غدا. اننا لا نريد ان نكرر الاخطاء في المغرب فنحن لا يهمنا رجال الحكم والزعماء التقليديون الموجودون هنالك. فالاعتماد على الجيل الجديد، ولا يجوز له ان يساوم على فكرته وعقيدته لانه يبني للمستقبل وعليه اذن ان يبشر بهذه الفكرة: الفكرة الإنسانية الحرة الاشتراكية التي لا تبقي أي مجال للاستغلال بين عنصر وآخر وطبقة وأخرى. اذا لم نزرع هذه الفكرة من الآن فسنجد من الصعب جدا زرعها عندما تتحرر البلاد لان التحرر سيرافقه ايضا يقظة للمصالح الخاصة وحرص من الزعماء على أن يقتطعوا لانفسهم مناطق نفوذ، وهكذا فيجب أن نوجد الخميرة عند الشعب منذ الآن. فعلينا أن نوضحها ونقويها لأن لهذه البلاد في شرقها وغربها اسما واحدا ولغة واحدة وقومية واحدة. انكم ستجدون مقاومة لهذه الفكرة من قبل السياسيين، هذا منتظر ولكن هذا سيقوي فكرتكم وانتشارها وسيضغط على رجال السياسة بالذات ليراقبوا نفسهم ويبدلوا من اتجاهاتهم وارتجالاتهم كما حدث هنا. فنحن بهذا التيار الشعبي الذي أوجدناه منذ خمسة عشر عاما حتى الان اضطررنا الزعماء انفسهم بأن يخففوا من انتهازيتهم فيما يخص مصلحة البلاد وأن يعدلوا من ارتجالهم. انكم بتمسككم بهذا الاتجاه شريطة ان يكون مفهوما لديكم حق الفهم -إن ما نفهمه بالعروبة، هو هذه الرابطة الانسانية السمحة وهذه الفكرة الواقعية التي تضمن قيام مجتمع عادل- فبعض السياسيين القائلين بعروبة هوجاء متعصبة غامضة ومتسلطة سيضطرون للتراجع عن هذه النظرة الهوجاء وبذلك يخف رد فعل العنصر البربري. وانا لست مؤمنا بأن ما تتصورنه موجود الى هذا الحد. على كل حال مهما يكن من امر فدعوتكم أنتم من جهة ستعدل كثيرا من النظرة القومية الهوجاء… وهناك فئة اخرى تحمل أفكارا تتهرب بها من المشكلة فتقول نحن مسلمون ونحن مغاربة الى غير ذلك.. هؤلاء ايضا نتيجة لدعوتكم سيخرجون من المعركة وهم مؤمنون ولو بمقدار بسيط بهذه الفكرة العربية السمحة وعندها تكون الخميرة وجدت. العهد الاستقلالي لا يكون صحيحا وغير معرض لهزات ولانقسامات الا اذا طرحت المشكلة على الشكل الذي سردناه سابقا.
سؤال: ان حزب البعث تجنب الشيوعية لانها ستفقده شخصيته اذا انخرط فيها فالبرابرة يقولون بفكرة تشابه هذا القول ويقولون المغرب كوحدة يحقق الشخصية البربرية لانه ليس كله عربيا ولا بربريا.
جواب: ليس المقصود بالاحتفاظ بالشخصية التمايز بل المقصود شيء ايجابي، نحن نرفض الاممية الشيوعية لاننا نجد فيها شيئا سلبيا يحاول محو شخصية الأمة العربية. والشيوعيون انفسهم بدأوا يرفضونها عمليا وان كانوا لم يصرحوا بذلك بعد. وروسيا نفسها سائرة في فكرة القومية، وظهر ذلك اثناء الحرب عندما اخذوا يستندون الى بعث الروح القومية حتى ينتصروا.
نحن قلنا في تعريفنا لقوميتنا العربية بأنها ستسمح بالحرية للجميع. فلا شك ان المغرب عندما يكون جزءا من الوطن العربي الكبير سيكون امنع استقلالا وحرية واخصب ازدهارا مما لو كان وحده معرضا دوما للعدوان والمطامع واستغلال الدول القوية الاستعمارية. وأنتم تعرفون ان المعقل الاخير للاستعمار هو افريقيا، والدول الاستعمارية وأميركا خصوصا تتوجه بنظرها نحو المغرب. والاحتفاظ بنفوذ في المغرب من قبل الدول الكبرى غايته تركيز دعائم الاستعمار في هذه البقعة الباقية من افريقيا. ففي الوقت الذي يثبت فيه الاستعمار شعور الانقسام والفرقة والتمايز والكره للاكثرية نجده نفسه يبث عند عملائه من السياسيين بأن الاكثرية تحاول فرض سلطانها على الاقلية، وبنفس الوقت الذي يغذون الشعور بالاقلية عند البربر يخلقون عند الاكثرية زعماء متعصبين يسلكون سلوكا يثير نقمة الاقليات. فالقومية المتعصبة هي ايضا من النتاج الاستعماري في بلادنا والدعوات الطائفية كذلك لتدعيم الاستعمار. فلا الشخصية البربرية يحافظ عليها اذا استقلت لان البربر يصبحون عبيدا للمستعمر ولا يحافظ عليها اذا انعزل المغرب عن المشرق العربي لان المغرب بدون المشرق العربي سيبقى ضعيفا امام الاستعمار لان اوروبا متسلطة ومشرفة اشرافا مباشرا عليه.
عام 1955
المعركة بين الوجود السطحي والوجود الأصيل
بين واقع الامة العربية، وبين ما تصبو اليه من آمال وأهداف، بون شاسع..
بين شعور الامة العربية بأن لها رسالة إلى العالم، هي وحدها التي تبرر وجودها وتعطيه معنى وحافزاً، وبين تخبطها في أوضاعها البالية ووجودها المتخلف عن كل نهضة جدية وتأثير فعال في الاحداث، بين هذا الواقع وذلك الشعور من البعد ما يكاد يبلغ حد التناقض. والحياة لا تستطيع القرار على التناقض، ولا بد لها من ان تحله، إما بإماتة هذا النـزوع إلى الرسالة والاهداف الاصيلة، بقبول الواقع السهل والاستسلام له، وإما بتحريك القوى التي تتجاوب مع تطلع الامة إلى اصالة وجودها، والتي يؤدي تحركها إلى اخراج هذا التطلع من نطاق التمني العاطفي العاجز، وزجه في معترك التفاعل مع الارادات والقوى والمصالح الحيوية، ليبرهن على ما يكمن فيه من امكانات هي امكانات الامة ذاتها.
فالمعركة اذن هي بين الامكانات المتحققة في واقعنا الراهن وبين الامكانات الدفينة الكامنة في الامة العربية، والتي على مدى انطلاقها وعمق تحققها يتوقف مصيرنا ويتعين مكاننا ودورنا في العالم.
المعركة هي بين تلك الأقلية التي تستمسك، هنا وفي كل بلد عربي، بالاوضاع الراهنة وتدّعي أن هذه الاوضاع، رغم سوئها، هي نهاية ما يستطيعه العرب. وهؤلاء يلتقون، شاءوا أم أبوا، بالاستعمار وأعداء العروبة من كل صوب، ويدعمون كل ما في مجتمعنا من فساد وظلم وتأخر- وبين نوع آخر من المواطنين، هو أيضا أقلية، يؤمن على العكس بأن بقاء الاوضاع الراهنة هو الذي يحجب حقيقة الامة العربية ويخنق معظم كفاءاتها ويشوه نظرتها إلى نفسها وإلى الوجود.
هذا النوع الثاني، هذا النوع الجديد الذي يعطي مجرَد ظهوره إلى الميدان، أقوى دليل على صدق حدسه وواقعية نظرته، هذا النوع من المواطنين العرب يعبر بالضرورة- سواء توافر له الآن كل الوعي أم بعضه- عن ارادة الحياة في امتنا ومصلحة العدد الأكبر من أبناء شعبنا، ويلتقي طريقه بطريق التحرر والتقدم، والتفتح للمستقبل ولكل ما في الحياة من نزوع عميق إلى الخلق والبناء والخير والسمو والتضحية.
لقد آن للعرب ان يضعوا مشكلتهم الاساسية في وضع صحيح صريح، يليق بشعب عظيم، صادق شجاع، يأنف من محاباة نفسه على حساب رسالته التاريخية.
آن للعرب أن يضعوا حداً للأعذار والتهرب من المسؤولية وإلقاء جميع التبعات على الاستعمار، وان ينظروا إلى مشاكلهم نظرة عميقة من الداخل، ويعتبروا أنفسهم وحدهم المسؤولين عن مصيرهم أولاً وآخراً.
آن لنا ان نعتبر الاستعمار نتيجة لتقاعسنا عن تبديل أوضاعنا الداخلية البالية، لا سبباً في قيام هذه الأوضاع واستمرارها. وما كان ليتسنى للإستعمار أن يشن علينا هذه المعارك المتلاحقة لولا تأخرنا في فتح المعركة المباركة التي تضع العربي أمام قدره وجهاً لوجه، وتضطره أن يختار وأن يضع إرادته في الميزان.
وهذه المعركة التي نطلب فتحها لا تعني ان نكف عن مقاومة الاستعمار والعدوان الاجنبي بكل قوانا، كما أنها لا يمكن أن تعني ان نعمل في بعضنا قتلاً وتدميراً.. إن ما نرمي اليه هو أن نضع حداً للإنفعال والإستسلام، وأن نشرك أكبر عدد ممكن من أبناء شعبنا في قضية أمتهم ومصيرها، لأن في تحريك هذه القوى الشعبية الضخمة، التي كانت حتى الآن مهملة الوزن بعيدة عن ساحة المعركة، الأمل الوحيد في تغيير نظرتنا إلى أنفسنا، وتبديل موقفنا من الإستعمار، فلا نعود نعتبر وجوده قدراً ورغباته أوامر واجبة التنفيذ.
هذه هي النقطة الأساسية الفاصلة بيننا وبين الحكومات في الوطن العربي. وهي في الوقت ذاته نقطة الإفتراق بين الحاضر المطبوع بالعجز، والمستقبل الزاخر بالممكنات.. فالحكومات العربية تعتبر الخضوع لمطالب الإستعمار أهون وأيسر من تلك الرغبة الجامحة عند الشعب العربي إلى التحرر. لذلك فهي تختار دوماً الطريق السهل، وتتحول مرغمة إلى أدوات يستخدمها الإستعمار لعرقلة تحرر الشعب وتأخير نهضته. لقد إختارت الحكومات هذا المنطق وفرضته على الشعب، وليس الشعب العربي بملوم اذا اعتبر- تبعا لهذا المنطق ذاته- أن أجدى نضال يقوم به ضد الإستعمار هو نضاله ضد الطبقة الحاكمة المسخّرة له.
وفي هذا اليوم الذي نحتفل فيه بذكرى جلاء القوات الأجنبية عن سورية العربية، يجدر بنا أن نذكر أن العرب في جميع أقطارهم نظروا إلى الجلاء عن سورية على أنه نقطة الإنطلاق إلى تحرير الوطن العربي وتوحيده. وبعد مرور تسع سنوات على الجلاء، نرى أن حكومات سورية لم تفعل شيئاً لنجدة الشعب العربي المناضل ضد الإحتلال والطغيان، وأن حكومات سورية كانت طوال هذه السنين أكبر أداة في أيدي أعداء الوحدة ومستغلي القطيعة والتجزئة.. وفي هذه الظاهرة ما يكفي لإنهاء خدعة التذرع بالأجنبي، وتحميله تبعة تآمر الحكومات على الاهداف القومية. وفيها ما يكفي ايضاً لوضع مشكلتنا الأساسية وضعاً صحيحاً، فنقتنع بأن السبيل الوحيد إلى تحرير الوطن العربي وتوحيده، هو في إيصال الجماهير الشعبية إلى حكم البلاد وإستلام مقدراتها، لأن في هذه الجماهير وحدها تتوافر الإرادة والمصلحة والقوة لتحقيق استقلال العرب ووحدة أرضهم ونهضة مجتمعهم.
لقد جاء دور الجماهير في العالم، والجماهير الحقة هي شعوب آسيا وافريقيا التي عانت أعمق تجربة إنسانية من الإستعباد الخارجي والداخلي، من الظلم الوطني والأجنبي -فخلافاً لما حدث في الغرب في هذا العصر من ثورة الطبقات المستثمَرة على الطبقات المستثمِرة، ثورة بقيت في حدود المصالح المادية الضيقة ولم تتعارض مع مشاركة ضمنية للجماهير الغربية في استغلال الشعوب الشرقية عن طريق الإستعمار- نقول: خلافاً لما حدث في الغرب، فإن ثورة الشعوب الشرقية تحمل بالدرجة الأولى طابعاً تحررياً انسانياً، لأنها تتوجه ضد الإستعمار الذي يحمل في طياته جميع أنواع الظلم وأشكاله. وفي حين لا يصيب الظلم في الغرب إلا طبقات، فالشرق عبارة عن أمم مظلومة. والأمة العربية إحدى هذه الأمم المظلومة التي تكمن في تجربتها بذور رسالة جديدة إلى الامم وإلى الإنسانية، لا إلى الطبقات الاجتماعية وحدها.
فالبعث العربي إما أن يكون قومياً أو لا يكون مطلقاً، لأن قوميته ضمان لإنسانيته. وإن إعتماد حركة “البعث” على نضال الجماهير العربية المظلومة يعني ايماننا بأن هذه الجماهير، تمثل، نتيجة لمعاناتها الظلم والاضطهاد، حقيقة الأمة الصافية، كما أن فيها تكمن معظم قوى الأمة وكفاءاتها. فإشتراكيتنا بهذا المعنى هي وسيلة لبعث قوميتنا وأمتنا، والباب الذي تدخل منه الأمة العربية إلى التاريخ من جديد. واتجاهنا القومي يقي إشتراكيتنا شرور السلبية والنقمة الهدامة والمادية الشرهة، ليبقيها في جو الإيجابية والعطاء وحمل الرسالة.
وقومية “البعث” ضمانة لصدق انسانيته. اذ ليست إنسانيتنا تلك الإنسانية المثالية التي تفتقر إلى المعاناة ودم الحياة، بل هي حصيلة نضالنا العسير وخلاصة آلامنا ومآسينا، وتحملنا لمسؤولية مصيرنا كأمة لها ماضيها بمزاياه وعيوبه، ولها حاضرها بكل قسوته وجديته، وأمامها مستقبل يتوقف عليها وحدها أن تجعله من صنع إرادتها ومن وحي حريتها.
وقد تظل يقظة الجماهير في نظر الكثيرين يقظة غامضة مشبوهة، معرّضة لأن تحمل معها الشيء الكثير من الحقد والهدم والسطحية، والمادية. ولكن يقظة الشعب العربي، إذا نُظِر إليها من الزاوية القومية ومن خلال مأساة الأمة العربية وآلامها، يقظة واضحة الملامح والإتجاه، مضمونة النتائج. فالامة العربية ضحية أضخم ظلم عرفه هذا العصر، ولا يمكنها أن تحارب ظلماً بهذا الحجم التاريخي وأن تتغلب عليه إلاّ إذا عمقّت نضالها حتى يلامس جذور إنسانيتها ويلتقي بكل نضال إنساني تاريخي. لقد خبر العرب، بالتجربة المرة القاسية، إلى أي حد يتضاءل شأنهم وتهون نفوسهم ويهبط مستواهم الروحي، عندما تُعزل جماهير الشعب عن مقدراتها، ويمسي قدر الأمة لعبة بين أيدي الوجهاء المستغلين والهواة المازحين والمغامرين المغرورين، وكيف يتعفن الجو، ويسود التبذل، وينتشر التشاؤم، وتنغلق النفس أمام معنى المصير والمهمة التاريخية.
فهل غير الجماهير العربية من يخرج قدر العروبة إلى الهواء الطلق، ويعيد اتصاله بحرارة الحياة ونبضات التاريخ، ويطهره بآلام الملايين من المظلومين، ويغنيه بعديد الآمال المكبوتة والطاقات المدخرة منذ قرون؟ وهل يمكن أن تكون يقظة الجماهير العربية إلا يقظة الروح والضمير والجد والرجولة والعقل المتحرر المبدع والشخصية المستقلة المنتجة؟..
فاذا كان لا يزال ثمة في بلادنا فئات وأشخاص، من رجال الحكم والطبقة المستعبَدة لمصالحها، ينشدون مصيرهم خارج مصير أمتهم، ويرضخون لضغط الإستعمار كقدر لا يقاوم، ويروّجون لأحلاف الغرب ومساعداته، كسبيل إلى إنعاش البلاد إنعاشاً مصطنعاً مشبوهاً، وحمايتها حماية خادعة كاذبة، فإن جماهير الشعب العربي تقف خارج جميع الحلول السياسية المصطنعة، وفي اتجاه متعال عليها. فلا الدكتاتورية الاصلاحية بقادرة على تحقيق شيء جدي دون نضال الشعب، ولا السياسة الاتحادية التي تسلك طريق القمع والطغيان وتحمي ابشع أنواع الإستغلال الطبقي والفساد، بمستطيعة ان تحقق شيئاً اذا لم يندفع فيه الشعب بكل قواه النضالية، ومن اجل أهدافه الكاملة في الحرية والإشتراكية والوحدة.
إن الشعب العربي، تتقدمه الطليعة الواعية المؤمنة، سيمضي في نضاله التحرري التاريخي سالكاً الطريق الذي اختطته الحياة لكل عمل صادق أصيل، طريق الانبعاث من الداخل، لتتكون النفوس قبل الوسائل، والعزائم قبل الاسلحة، والتيار الحي الذي يخترق روح الامة، ويكشف عن كوامنها ويلامس حريتها في أعمق جذورها. وعندما يصهر النضال روح أمتنا، ويضم تياره جماهير شعبنا، عندئذ تظهر لنا الامور على غير ما نرى الآن، ويعرف العرب أن الإستعمار الآثم، والصهيونية الباغية، وكل عدوان خارجي وظلم داخلي لم تكن كلها إلا مناسبات لكي يجسد الشعب العربي قيمه الحضارية، ويجدد رسالته الانسانية. ولئن كانت تجربته في هذه المرحلة الجديدة من البعث قد حوت مزيداً من المذلة والقسوة والألم، فلكي يحمل التعبير عن الرسالة العربية مزيدا من الحرية والرحمة والحق.
عام 1955
خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب
… لننظر(1) ما هي حقيقة هذه النظرة (خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب ) وما نصيبها من الصدق وبالتالي ما هو أثرها في حياتنا وانشاء مستقبلنا؟ ينظرون الى الحياة نظرة سطحية تأخذ بالمظهر، فيرون ان الانسان يبدأ صغيرا في جسمه وفي عقله فيرون ان الصغر هوا لنقص وأن الكبر هوا لكمال. ولكن اذا تعمقنا قليلا فاننا واجدون ان الانسان في سن الشباب يحتوي على أعلى درجة وأكبر طاقة من الفضائل الحية، وأنه ان كان لايستطيع التعبير عنها باللفظ والكمال وبالحكمة والرصانة فما ذلك الا لأنها فضائل حية متقدة لا تترك لها حيويتها مجالا لان تصاغ في الكلام، الكلام الحكيم والافكار الرصينة، ولا تترك لها مجالا ان تنظر الى الوراء وتراقب وتشاهد بدل أن تندفع وتعمل، بدل ان تقرر، بدل أن تخلق وتبدع. فما يراه الجيل القديم وذوو النفوس الضعيفة نقصا في الشباب ليس الا الكمال ذاته، وما يحسبونه كمالا في الشيخوخة ليس الا نقصا: فالشاب تؤهله الحياة لان يبقى متحررا من شتى المؤثرات النفعية الجبانة الانهزامية لان الحياة تأبى عليه كل ذلك وعندما يبدأ يجتاز سن الشباب ويبدأ الوسط يعمل فيه تأثيرا وتخديرا ليهبط به الى مستوى العجز والخنوع والتشاؤم وليكبله بشتى القيود الاصطلاحية المصطنعة وليجعل منه حيوانا اليفا، عندها يدخلون في روعه انه بدأ يكتمل ويختمر، وانه زاد عما قبل واكتسب شيئا جديدا وهو بالواقع بدأت خسارته وبدأت حيويته ينال منها الضعف وبدأت عفويته تؤسر وبدأ ينبوع نفسه المتدفق تلقى فوقه الاحجار والصخور حتى ينضب ويجف.
فاذا نظرنا أيها الاخوان الى حالة الامة العربية في هذا الظرف الخطير… اذا عرفنا ان شر ما تبتلى به امتنا هوا لنفعية والجبن والتخاذل استطعنا ان نستنتج بسهولة أن صفات الشباب ومميزات الشباب هي وحدها المتلائمة مع حاجات أمتنا المتحفزة للبعث والنهوض.
وبين الشباب وبين أمتنا موعد وتلاق وتوافق وانسجام. وما يسمونه خيالية الشباب وما يسمونه طيشا وقصرا في النظر وعدم تقدير للعواقب، هوالحدس الصافي والحس السليم والفهم العميق لمبادئ حركة الانقاذ في حياة امتنا.
فاذا أضفنا الى سن الشباب صفة الثقافة والوعي اهتدينا الى الشرطين الاساسيين اللذين لا غنى عنهما لحركة الانقاذ والخلاص :
1- شرط الوعي والثقافة.
2- شرط الشباب.
ولكن في مجتمع كمجتمعنا ما زال يتحكم به الاجنبي تارة بصراحة كما في بعض أجزاء أرضنا وتارة بصورة مستورة من وراء الطبقات النفعية المتآمرة على حياة شعبنا، وما دام مجتمعنا مسيرا لمصلحة الاستعمار والطبقات المستثمرة، فمن العبث أن ننتظر منهما لرسالة الشباب ورسالة الثقافة نفعا يصدر عن مؤسسات المجتمع الرسمية وعن المدارس بصورة خاصة. فهذا المجتمع الذي يسيطر على تنشئة اجيالنا يزيف رسالة الشباب ورسالة الثقافة، ويحاول ان يجعل من الشباب شيوخا وهم في ميعة الصبا ويحاول أن يجعل من الثقافة أداة خمول بدل ان تكون أداة ثورية لتعيد الينا الحياة العربية السليمة الصافية…
لذلك لا بد أن يضطلع بهذه المهمة من هم متحررون من آثار المجتمع وسيطرة الحكومات والمؤسسات الرسمية ليعيدوا الى الشباب ثقته بنفسه وليحملوه مسؤوليته بيده. فكانت مهمة الاحزاب الانقلابية والحركات الشعبية، هي أن تنشئ مدرسة صريحة سليمة يسمع فيها الشباب نداء روحهم، ليؤدوا رسالتهم.
أيها الاخوان: في المجتمعات السليمة تكون مهمة التثقيف ان يحافظ الشباب على شباب نفوسهم وعلى نضارتها وعلى حرارة عاطفتهم وعلى عفوية اندفاعاتهم حتى بعد ان يجتازوا سن الشباب. فالمجتمع السليم هو الذي يمد في عمر الشباب، يمد في أجل الشباب. اننا نشاهد آثار ذلك في بعض الامم الراقية وكيف ان الشيوخ والكهول هم من القدرة على التجدد المستمر والابداع المستمر مما هيأ لمجتمعاتهم أن تقوى على الفناء وأن تتكيف مع نواميس الحياة وان تستمر في الصعود.
فميزة المجتمع السليم هي انه يبقي على النزعة المثالية، يبقي على النظرة الحرة المنطلقة، وعلى روح الكفاح، هي انه يقضي على النظرة النفعية… يجدد فتوة النفس بشتى الوسائل، بالفن، والفكر، لكي يبقى الانسان جديرا بهذه التسمية ولكي تبقى انسانيته سليمة.
ولكن المجتمع المتأخر، المجتمع الذي يحتاج الى ثورة وانقلاب هو على العكس، يسعى لجعل شبابه كهولا وشيوخا متخلفين…
هذا ما نشاهده في مجتمعنا الحاضر… هذه المحاولة المجرمة التي تريد أن تقضي على اندفاعات الشباب التي هي أثمن كنز في امكانيات امتنا، فاذا وعى الشباب هذا القدر الجليل الذي يؤهلهم ان يمثلوا انتفاضة امتهم في هذه المرحلة وأن يستغلوا فضائل الحياة أبعد استغلال… أن ينشدوا الثقافة الحرة التي تربطهم بمصير أمتهم…
وأي حرية أوسع وأعظم من أن يربط الانسان نفسه بنهضة امته وثورتها.
عام 1955
(1) ألقي هذا الحديث في حفلة اقامها الطلاب الثانويون في دمشق للتعارف بتاريخ 7 نيسان 1955
جدية المسؤولية الحزبية
أحب ان أنبه الى ناحية في هذا الحديث القصير وهي جدية مسؤولية الاعضاء (1).
تعرفون اننا نلح دوما على أهمية القاعدة في الحزب ونعتبرها الضمانة الكبرى لمبادئ الحزب. ولكن يخشى ان تفهم هذه النظرة الى القاعدة فهما سطحيا ومنحرفا، فيعتقد بان واجب القاعدة ينتهي عند إعطاء الرأي، وان قاعدة الحزب هي هذا المجموع الكبير من الاعضاء، من شتى الانواع، من المثقفين ومن الطليعة الشعبية التي تجتمع في مناسبات وتنتقد وتحتج وتستنكر وتعارض وتستفسر لماذا حدث الشيء الفلاني ولماذا اتبع الحزب السياسة الفلانية ولماذا تصرف هذا الشخص على هذه الطريقة الخ..
ان اقتصار دور القاعدة على هذه المهمة لا يختلف كثيرا عن اقتصارها على التأييد والموافقة، اي ان قاعدة لا تعمل في الحزب إلا القول في بعض المناسبات: ان تقول لا وتقول كيف وتقول لماذا؟ هي تقريبا مثل القاعدة التي تجمع بين الحين والآخر لتقول نعم كالقطيع. الا ان المرض في الحالة الاولى مكتوم ومبطن وغير ظاهر في حين انه في الحالة الثانية مكشوف. فالقاعدة التي تستخدم كالقطيع مرضها واضح وهي قاعدة مزيفة مضللة وبالتالي يكون الحكم عليها سهلا فإما ان تستبدل او تصلح. اما المرض الذي يأخذ الشكل السلبي والاحتجاج فانه يوهم بأنه حالة سليمة وبأنه ليس مرضا وانما هو غاية الصحة طالما ان المظاهر تدل على الوعي والتدقيق والوجدان الحزبي الذي يستوضح دائما أو يناقش ويدقق. وكلتا الحالتين مرض، فما هي الحالة السليمة للقاعدة السليمة؟
الحالة السليمة هي ان يكون قول القاعدة بقدر عملها، وان تكون حقوقها بمقدار مسؤولياتها فلا تطالب الا بمقدار ما تؤدي من خدمة وعمل، ولا تحتج ولا تعترض الا بمقدار ما تؤيد وتعمل وتنفذ يوميا.
هذا معناه اولا ان هذه القاعدة لا تتلهى بالنقد تلهيا ولا تتشفى تشفيا، وانما تنتقد عن غيرة حزبية صادقة، لان وراء نقدها عملا ومساهمة وتضحيات. فمن حقها، ملئ حقها، ان تستفسر وان تعرف اذا كانت جهودها وتضحياتها مصبوبة في الطريق التي تحقق الغايه من هذه التضحيات، أم انها ستذهب عبثا او لأغراض خاصة غير سليمة وغير قومية. وثانيا لان الاعتراض والانتقاد عندما يصدران نتيجة الممارسة يكونان جديين ويكونان صائبين. فالذي يمارس العمل يعرف بالتجربة والمعاناة ماذا يجب ان يصنع في مثل هذه الحالة. وعندما يعترض لايعترض اعتراضا نظريا بل يدرك ان هناك خطأ قد وقع.
فانتم أيها الإخوان، معاذ الله ان نعتبركم تلك القاعدة السلبية اللاهية غير الجدية وغير المؤمنة، والتي تكتفي بالقول والنقد السلبي للتلهي او للتشفي. نحن نعرف ونؤمن بأنكم شباب مملوؤن غيرة على بلادكم وقضية شعبكم، وانتم مرتبطون روحيا بمبادئ حزبكم، والى حد بعيد مرتبطون فكريا بهذه المبادئ، والى حد اقل وابسط مرتبطون عمليا. وواجبكم ان يصبح ارتباطكم العملي في مستوى ارتباطكم الروحي والفكري. ولا أقول هذا فقط عن وضعكم الحاضر وانتم ما زلتم في وضع خاص، وضع الدراسة الذي لايؤهل لحمل مسؤولية الحزب بكل نواحيها، فنحن نعرف ذلك ونقدره، ولكن الحزب لا يخاطب أعضاءه بالنسبة الى اليوم الحاضر فقط، الحزب يفترض ان أعضاءه دخلوا إليه ليبقوا فيه نهائيا وليربطوا مصيرهم بمصيره، وانهم بعد ان يجتازوا وضعا خاصا معينا سيستقبلون وضعا آخر قد يكون مستقلا، وفي اي وضع وجدوا فهم مطالبون دوما ان يجعلوا الواجب الحزبي في رأس الواجبات. فسواء اعتبرنا وضعكم الحاضر او نظرنا الى وضعكم المقبل، عليكم ان تعرفوا ان المسؤولية الحزبية تتطلب جدية اكثر بكثير مما ألفتم واعتدتم حتى الآن.
انكم كثيرا ما تتمسكون بعقائدية الحزب، وتظهرون الحرص عليها والخوف من ان ينالها اي تشويه. وطبيعي باعتباركم الجزء المثقف من الحزب، ان تشعروا اكثر من غيركم بهذا التجاوب بينكم وبين العقيدة، وان تظهروا عليها مثل هذه الغيرة. ولكن في واقع الامر ما هي العقيدة؟ هل هي المبادئ المسطورة سواء أكانت مختصرة ام مفصلة وسواء أكانت واضحة ام نصف واضحة؟ هل العقيدة شيء مكتوب وشيء للمعرفة والدرس، يستوعبه الذهن فقط؟ وهل هي امتحان مدرسي كامتحانكم؟ هل العقيدة هي هذا الشيء السطحي الذهني؟ وهل هي ان تحفظوا ما يملى عليكم وان تقارنوا بين ما حفظتم وبين ما يطبق بعيدا عن مشاركتكم في الحزب، فتجدون احيانا ان التطبيق بعيد عن الدرس الذي حفظتم؟
من تحصيل الحاصل ان نقول ان العقيدة هي ابعد ما تكون عن الدرس المحفوظ. انها وان كانت لابد ان تمر بطريق الذهن حتى تفهم، غير ان الذهن ليس الا طريقا، ليس الا ممرا لا اكثر. وواجب هذا الممر ان ينقلها الى الشعور والى الاخلاق والحيوية بكاملها، فتتحرك شخصية الانسان: تتحرك روحه، تتحرك عاطفته وأخلاقيته فيسجل مواقف جدية. ورب اناس يفقدون هذا الممر الذي يتوفر لكم انتم، اي ليس لهم ثقافة. رب اناس لا يفكرون في العقيدة لأنهم لا يملكون وسائل المعرفة الكافية ليجعلوا من العقيدة فكرا. ولكنهم يستطيعون ان ينقلوها الى الاخلاق والعاطفة والحيوية كلها ويستطيعون ان يجسدوها عمليا في مواقف حية وجدية. وهؤلاء قد يكونون اكثر عقائدية من المثقفين.
أتيت بهذا المثال المتطرف لكي أنبه تنبيها عنيفا الى ان الذهن وحده غير مجد، مع اقتناعي بان لا عقيدة جدية دون تفكير، وان عقيدة الفئات غير الواعية لا يمكن ان تكون جدية ولا يمكن ان تكون مضمونة متينة وبالتالي لا يمكن ان تخلص من الشوائب. إلا انه يجدر بالمثقفين ألا يغتروا وألا يناموا على ثقة الثقافة.
اذ لا فائدة من المعرفة عندما تكون خاتمة المطاف، وعندما تصبح غاية في حد ذاتها. فالمعرفة جسر الى العمل الجدي، واذا لم تكن كذلك فهي افيون للتخدير وهي واسطة للغرور ولتبرير الكسل والخمول. فنحن في وسطنا هذا الذي نعيش فيه ونصمم على تغييره من اساسه، نجد ان لهذا الوسط قوانين، وان فيه قوى واقعية لا يمكن تجاهلها، وان له أساليب. فالعقيدة يجب أن تنزل الى الارض لكي تستطيع التأثير في هذا الوسط وهي لم توجد الا للتأثير فيه. فاذا نظرنا الى العقيدة هذه النظرة عندها لا يمكن ان نقبل بان تبقى العقيدة في عالم من الغيوم والسحب، لا هي في السماء ولا هي في الارض. العقيدة وبالتالي العقائديون يجب ان تكون أقدامهم على الارض، ولكن يجب ان تكون نفوسهم حرة طليقة وان تكون عيونهم شاخصة الى مثل أعلى. لا يمكن ان تتغلب العقيدة وان يتغلب العقائديون على فساد الاوضاع، على القوى الاجتماعية والسياسية المزينة – وهي قوى محسوسة في وسطنا – الا اذا تجسدت في عمل واقعي. لا تكتسب العقيدة مبررها الوحيد – وهي الحرية – الا اذا استطاعت ان توازن وتعادل القوى الواقعية الفاسدة الراهنة، واكثر من ذلك ان تتفوق عليها وتنتصر. ولا يمكن ان ننتصر على القوى الفاسدة بالكلام، بترديد الشعارات، بالاستنكار، بالاحتجاج الخ… نتمكن من مجابهة القوى الفاسدة ومن التغلب عليها بالعمل الايجابي، بعمل واقعي على الارض، وليس في سحب الالفاظ والافكار الغائمة وترديد الشعارات.
لولا ذلك لما جعلنا حزبنا منذ اليوم الأول لتأسيسه حزبا سياسيا. وما زلت اذكر ان الكثيرين ممن يغارون على الحزب او يظهرون الغيرة عليه اخذوا يتساءلون عندما ظهر الحزب، لماذا اخترتم هذا الطريق وانتم جماعة مثقفة خيرة؟ لماذا لا تكونون حركة لنشر الفكر والتبشير؟ بل ربما كان بعض الاعضاء الذين دخلوا الحزب في اول عهده قد اخذوا بهذا الوهم او هذا الخطأ. ولقد اجبنا المتسائلين بان الصفة السياسية التي حرصنا على ان تكون اصيلة في الحزب منذ اول تأسيسه، منذ ولادته، هي امتحان لجديته ولواقعيته وهي درء لشتى الاخطار التي تتعرض لها الفئة المثقفة كالخيالية، والمثالية، والجبن الذي يتستر بالمبادئ، وفقدان الرجولة.
هذا الحزب حزب سياسي ولكنه ليس كسائر الاحزاب السياسية. وانه حزب عقائدي وله اهداف يسعى الى تحقيقها وهي الوحدة والحرية والاشتراكية. وهو حزب انقلابي لا يساوم ولا يقبل بالاصلاح الجزئي، بل سيناضل الى آخر الطريق. أنها – الصفة السياسية – امتحان للبرهان على إن هذه العقيدة ليست أحلام مراهقين وخيالات لمعلمي المدارس وضعوها ليلهوا بها انفسهم في ساعات الأرق، بل فيها من الحيوية ما يكفي لتدخل هذا الواقع الفاسد دون تردد وان تغير بالصبر والمرونة حتى تصل الى تغيير هذا الواقع تماما فلا يبقى الا واقعها الجديد وبذلك تتحقق العقيدة.
فاذا كنتم الان تضمكم صفوف المدارس، وتأتون من شتى المدن والنواحي لتجمعكم الجامعة، وليس لكم في الوقت الحاضر ارض تطأونها وتركزون عليها اقدامكم كما يجب، فانتم مطالبون في أقرب فرصة ومنذ الآن – لأنكم لم تنفصلوا نهائيا عن الوسط الذي أتى كل واحد منكم منه – بان تعتبروا ان عملكم يجب ان يكون متجسدا، وان يكون على الارض، في وسط معين، في قرية، في حي، في بلد، في هيئة، مع جماعة، مع طبقة، مع بشر أحياء، وان تدخلوا هذا الوسط المملوء بالمصالح الخاصة، بالنفاق والكذب، بالجبن والانهزامية، بالجهل وبلبلة الافكار، بالعجز: يجب ان تدخلوا اليه كل في ناحيته المتيسرة له، وان تكافحوا وان تنقلوا حزبكم الكبير الى هذا الوسط الضيق الذي انتم موجودون فيه. انتم مطالبون بالتالي بان تمثلوا الحزب بأفكاره وتوجيهاته، بأسلوبه ونضاله وان تلمسوا يوما بعد يوم تقدما محسوسا بأنكم غيرتم شيئا ولم تتغيروا، واذا تغيرتم فالى أحسن، ان تزدادوا جرأة ومتانة ومرونة. أما إن تبقوا في جو ليس له حدود وليس له ملامح وليس له ارض يمشي عليها الا هذه الاجتماعات في المكتب، وهذا الانفعال العاطفي كالذي يسكر ويثمل بالعقيدة وترداد شعاراتها والفاظها المبهمة، كل هذا لا يؤدي الى نتائج جدية.
لا أنكر ولا احد ينكر بان لكم كطلاب مهمة خطيرة، وقد قمتم بها في اكثر الاحيان وستقومون بها. وسيظل الطلاب عنصرا خطيرا من عناصر حركتنا القومية… بان تقفوا المواقف القومية ضد الاستعمار والطغيان واستغلال الشعب. هذا دور له أهمية ولا احد ينتقص منه. ولكن هل تريدون الا يكون لكم الا هذه الصفة، الصفة المؤقتة، وانه عندما تنتهي دراستكم تفقدون كل مؤهل للعمل الحزبي؟ فالذي يلتحق بوظيفة ينسى حزبه، والذي ينتقل الى الحياة العملية ينسى حزبه ايضا الخ.. ابحثوا منذ الآن – اذا كنتم جديرين بمعنى الكلمة – عن الوسائل التي تتضمن استمرار حزبيتكم وبصورة جديه، لان الصفة الطلابية، بصراحة، لا تدل على قوة الحزب. فالحزب لا يحتاج الى قوة مبدئية كبيرة وقوة تنظيمية كبيرة لكي يكسب الطلاب، اذ انهم مهيأون لكي يكونوا مع الحزب. ولكن الحزب يبرهن على انه فاعل وخلاق ومبدع ومرب عندما يكسب الاشخاص في غير هذه الحالة السهلة العارضة المؤقتة.
ايها الاخوان
الخلاصة انكم مطالبون الان وفي المستقبل: الان في هذه الحالة المؤقتة بان تتحملوا مسؤوليتكم الحزبية بجد اكثر، ليكون لمواقفكم العقائدية ولمناقشاتكم ومطالباتكم للقيادة وللحزب وزن ومعنى، وليكون فيها نضج وخبرة يجب ان تتحملوا المسؤوليات بجد اكثر بان تبادروا الى العمل فاعلين لا منفعلين محرِكين لا محرَكين، ان تقبلوا بدافع ذاتي وان تملؤوا كل الفراغ الموجود في الحزب، وهو فراغ كبير، عندها يكون لانتقادكم وزن وتأثير. اذ ما الفائدة من الاعتراض والصراخ بان المبادئ لا تراعى ولا تحترم وان ثمة انحراف الخ… هذه أشياء قد تنجح في التخريب والبلبلة وإشاعة جو التشاؤم واليأس ولكنها لا تخيف منحرفا ولا تخيف أشخاصا ليست لهم عقيدتكم. ولكن الذي يخيف والذي يرعب والذي يضع حدا لكل انحراف ولكل تهاون او تفريط هو ان تكون قاعدة الحزب قائمة بواجباتها متسابقة الى ملئ الفراغ متصلة بالشعب متفننة في خلق الأساليب التي تنمي النضال. عندها يصبح جو الحزب جوا عقائديا صحيحا منتجا ويصبح الذين يخالفون مبادئ الحزب في وحشة وغربة وذعر، وعندها اما ان ينصاعوا او ان يخرجوا. فحمايتكم للمبادئ تكون بالعمل وبتحمل المسؤولية الآن وفي المستقبل عندما تتركون الدراسة.
يجب ان تعرفوا الحقيقة وهي ان خدمة مبادئ الحزب، هذه المبادئ العامة، تكون في تنفيذ العمل الخاص ولا اقصد بذلك عمل الافراد لأنفسهم بل اقصد التنفيذ الجزئي. ان مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية لا تتحقق بالتظاهر والهتاف، من قبل المئات والألوف لهذه الشعارات، وانما تتحقق عندما يعمل العضو الفلاني في قريته مع خمسة او عشرين من أهل القرية عملا منظما متواصلا يوصل الى نتيجة، فيبدل فيهم التفكير والعاطفة وقوة النضال.
اني لواثق ان في نفوس الشباب كل الامكانيات وكل الاستعداد لتفهم هذه الدعوة الى الجدية، اذ لا انقلابية الا في مستوى من العمل جدي يصل الى حد التضحية.
نيسان 1955
(1) حديث القي في الاجتماع الحزبي لطلبة كلية الآداب بتاريخ 13 نيسان 1955
نظرتنا الحية للحزب
سمعتم أيها الاخوان رفيقكم يقول:(1) ان حركة البعث العربي الاشتراكي أصبحت في بلاد العرب شيئا لا يمكن نكرانه. وأستطيع ان أقول بأن حركتنا أصبحت قدر العرب في هذا العصر. والحق اننا آمنا بذلك منذ اليوم الاول الذي انطلقت فيه هذه الحركة. ولعل الشباب الذين دخلوا حديثا الى الحزب لا يستطيعون أن يستوعبوا المرحلة التأسيسية وما رافقها من إيمان وثقة واندفاع، وهم قد أتوا الى الحزب بعد أن سجل كثيرا من المواقف وخاض كثيرا من المعارك، لذلك يحسن بهم أن يعرفوا ان كل ما يقوم به الحزب الآن وما يمكن أن يقوم به في المستقبل ليس الا تحقيقا لذلك الايمان الاول، ذلك الايمان الذي لن نستطيع الاستغناء عنه في يوم من الايام حتى بعد ان يسيطر حزبنا على قدر امتنا، فهو الشرط الاساسي وهو الدعامة المتينة لحركتنا. وجدير بالشباب أن يستلهموا دوما هذا النبع الروحي وأن يعرفوا ان الذين استطاعوا أن يسجلوا شيئا في هذه الحياة، أن يسجلوا شيئا في التاريخ، هم الذين كان لهم إيمان الابطال واستطاعوا أن يحفظوا في أنفسهم براءة الأطفال وقوة اندفاعهم نحو المثل دون أن يعيروا للمصاعب ولضغط الوسط اي اهتمام.
لقد جاء حزبنا متجاوبا مع يقظة في الروح العربية، مع حاجة عميقة في روح أمتنا الى الانطلاق وإلى الخلق، فلا يجوز ان ننظر الى الحزب الا نظرة حية: إنه يجب دوما أن ينطلق ويجدد ويخلق وفي انطلاقه وتجدده وخلقه يستطيع أن يصلح نفسه ويطهر ما قد يعلق به من أدران.
اياكم والنظرة الجامدة التي لا تفهم سر الحياة وكنه الحياة، فليس من عمل جدي يؤثر في الواقع ويخلق منه واقعا جديدا الا ويكون هذا العمل عملا فيه ما في البحر الواسع المتحرك من شوائب، فاذا اردتم عمل حزبكم تاريخيا فليكن كالبحر لا كالساقية الصافية، فمن السهل أن تكون حركتنا ساقية صافية ولكنها لن تروي أمة ولن تصنع تاريخا. ففي الحزب كثير من النقص، وبين ما تحقق وبين ما نرجو أن يتحقق فارق كبير، ولكننا نستطيع أن نقترب من مثالنا اذا نحن تابعنا السير، اذا ضاعفنا الهمة، لا اذا وقفنا وحولنا حيويتنا الى نقد جامد وتفكير نظري، فالحياة لا تعرف التوقف وتيار الحياة تيار مبارك طاهر مهما تكن الشوائب التي تعلق به.
وإذا وجب أن أدعوكم الى المزيد من النشاط والاستبسال والتضحية في سبيل حركتكم التي أصبحت كما قلت، قدر الامة العربية، والتي لا يمكن لأي حركة اخرى أن تنافسها او أن تحتل مكانها، اذا وجب ذلك فيجب ان أنبه الى ناحية أخرى، بأنه بقدر ما تتوسع الحركة، وبقدر ما يتسع نطاقها ويكثر عدد أعضائها يصبح واجب الفرد فيها أكبر من ذي قبل. فكل حركة، وهذه طبيعة الحركات الاجتماعية وطبيعة المجتمعات، معرضة لأن تفقد من عفويتها، من حريتها، من أصالتها، وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية، أن تطغى عليها الالفاظ، ان تصبح صنما، فليس الاشخاص هم الذين يصبحون أصناما فحسب، فقد تصبح الحركة صنما وقد تصبح أفكارها أصناما، وهذا شر ما يمكن أن تبتلى به حركة تريد أن تخلق وتبدع.
المجموع له قانون، وكل جمع مدفوع بطبيعته، بغريزته، إلى تمجيد الظواهر والشكليات والعناوين والالفاظ والصفات العامة، لأن الجمع ليس له أرهاف الفرد وحساسيته وقدرته على التعمق. فاذا أردنا أن تتابع حركتنا مراحلها بكل صدق وأمانة دون أن تبتسر أو تختصر، دون أن تتجمد وهي في نصف طريقها، وأن تعطي كل ما فيها من امكانيات الخير، إذا أردنا أن يحصل كل ذلك علينا ان نقدر دور الأفراد. فالأفراد هم الذين لا يستعبدهم الجو الجماعي، هم الذين يحتفظون بحريتهم، باستقلال تفكيرهم، بصفاء نفوسهم حتى ولو كانوا مشاركين في اندفاع المجموع. هم الذين ينشدون المعنى وراء اللفظ يبحثون عن الشيء الحي وراء التعبير العام. هم الذين يرجعون الى الصمت كثيرا ويكون كلامهم وعملهم وليدا لصمت مثمر منتج، هؤلاء هم الرقباء على الحركة، هم الذين يصححون كلما كادت تتردى في السطحية وفي التقليد، هم يخلقون التوتر في الحركة كلما ضعف هذا التوتر الداخلي، لاننا لا نستطيع أن ننكر ان مجتمعنا يحمل أوزارا كثيرة ثقيلة من عصور الانحطاط والتأخر، واننا ان لم نلح كثيرا عليه لكي تكون يقظته أصيلة وانبعاثه انبعاثا عميقا فانه يميل بطبيعته الى أن يختتم هذه المرحلة البطولية قبل أوانها، وان يقول ان امنا بكم وبحركتكم، وان يدين لنا بالطاعة والموافقة قبل أن نكون قد استخرجنا من داخل أمتنا كل الكنوز الروحية.
لا بد من زيادة التوتر والصراع، لا بد من الدفع الدائم ومحاربة كل كسل وكل ميل للراحة وكل محاولة لانهاء النضال أو اختصاره، وهذا كما قلت من عمل الأفراد، لأنهم هم الذين يشعرون بهذا الخلل وهم الذين يثور ضميرهم عندما يرون الحركة قد انساقت وراء الشعارات الاصطلاحية وجعلت كل ايمانها في ترديد الكلام والالفاظ أو تمجيد قيم هي جديدة، ولكننا اذا لم ننفخ الروح فيها يوما بعد يوم فانها ستكون كالقيم القديمة سواء بسواء.
اذكروا دوما ايها البعثيون الاشتراكيون بأن رفاقا لكم قبل عشر سنوات أو اكثر كانوا في سنكم الشابة هذه والتفوا حول رفاق سبقوهم في السن ودعوهم الى عمل تاريخي فلبوا الدعوة، في ذلك الوقت آمن هؤلاء الشباب بأنهم سيصنعون تاريخا للأمة العربية وانهم سيكونون الجنود المحاربين والشهداء لنهضة عربية أصيلة تغذي الانسانية جمعاء. فلا تقبلوا دون هذا الهدف بديلا ولا تقبلوا الا ان تكون النهضة العربية تاريخية تستخرج أعمق ما في النفس العربية من كنوز وانسانية أصيلة.
نحن حزب سياسي، لا جدال في ذلك، ولكن السياسة وسيلة، وقد أردنا أن نقول منذ البدء لشعبنا وللجيل العربي الجديد اذ عرّفنا حركتنا بأنها حزب سياسي أردنا أن نقول لهم هذا هو الواقع فلا تتلهوا بالخيال ولا تنسحبوا من مواجهة الحقائق القاسية، فالسياسة هي أكثر الأمور جدية في المرحلة الحاضرة. ولكننا اذا قصدنا ان نلح على واقعية نظرتنا في مواجهة الواقع في كل معناه ومواجهة المسؤوليات العملية بكل قسوتها، فليس معنى هذا ان السياسة غايتنا. السياسة هي امتحان لمثاليتنا: هل هي مثالية العاجزين الذين يرصفون الاوهام، أم هي المثالية الحية العملية لمن يريد أن يخلق وان يعمل. لذلك جعلنا السياسة امتحانا للايمان والمثالية، ولكنها لم تكن غاية في حال من الاحوال. حركتنا هي حركة بعث بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى -بعث في الروح والفكر والاخلاق والانتاج والبناء وفي كل هذه المؤهلات والكفاءات العملية. واذا تذكرنا دوما بأن رسالتنا ليست أقل من ذلك وبأننا قد نتعرض بين الحين والآخر الى أن نركز عملنا على الجزء وننسى الكل، ان نذوب في الفرع ونبتعد عن الاصل، فان الافراد الواعين الحساسين فيكم، هم المسؤولون والمطالبون بأن يعيدوا الدعوة الاولى وان يذكّروا اخوانهم لكي يعود الصراع الداخلي في نفس كل فرد من أعضاء البعث، لكي يأتي هذا البعث بعثا أصيلا، ولكي نكون في مستوى القدر الذي اختارنا لتلبية حاجات أمتنا واختار الأمة العربية لتكون في المواقف الحاسمة في التاريخ منقذا وهاديا.
نيسان 1955
(1) حديث مع وفد البعث من لبنان عند زيارته لمقر الحزب في دمشق.
دور معركة الجزائر في نضالنا
مشكلة فرنسا مع الجزائر أعمق مشكلة تعرضت لها فرنسا، وفضحت فيها، وعرف فيها ضعفها واسباب ضعفها، لان مشكلة الجزائر جاءت بعد انتهاء مشكلة الهند الصينية، فلو كان كيان فرنسا ما يزال يملك المقومات الايجابية لكان ينبغي ان تكون اقدر على حل مشكلة الجزائر، بعد ان ارتاحت من عبء الهند الصينية واستعمارها المرهق. ان مشكلة فرنسا مع الجزائر أضخم من مشكلتها مع الهند الصينية، وهي تثير أزمة أعمق وأوسع. ان فرنسا تنظر الى ارض الجزائر خاصة، والى ارض المغرب العربي عامة، على انها امتداد حيوي قريب لارضها، وان حرمانها من هذا الامتداد يهدد حياتها، اقتصاديا وعسكريا الخ.
ورغم ذلك نرى اكثرية الشعب الفرنسي تقف ضد سياسة الحكومات في تشبثها العنيد المصطنع باستعمار المغرب والجزائر، ومعنى هذا انه اصبح هناك تناقض واضح جدا بين مصلحتها القومية التي يمثلها الشعب ويعبر عنها، وبين وضعها الاجتماعي الذي تدافع عنه الحكومات لمصلحة فئات مستثمرة ليس للجزائر فحسب، بل للفرنسيين انفسهم ايضا. نستطيع ان نقول ان فرنسا منذ زمان، والآن خاصة، في حالة تفسخ، وقد يؤدي هذا الى ولادة شيء جديد، وقد لا يؤدي الى شيء من ذلك.
وقد ظهر هذا التفسخ في الحرب الاخيرة، وظهرت في مقابله بقايا الايجابية والحيوية في فرنسا، تمثلت في مقاومة الالمان. وقد ادركت العناصر الموجهة في حركة المقاومة عمق المشكلة التي تعانيها فرنسا، أدركت انها مشكلة أساسية تتناول النظام الاجتماعي كله، وحاولت أن تكون هذه المقاومة مناسبة لنهضة فرنسا على أسس جديدة. ولم تكن هذه العناصر كافية، كما ان العناصر الاخرى غير الثورية دخلت معها، وحدّت من عمق حركتها وشمولها فاقتصرت هذه الحركة آخر الامر على تحرير فرنسا من الاحتلال، وبقيت المشكلة الاساسية معلقة.
ومرة أخرى انتصرت فرنسا انتصارا كاذبا قائما على الغش (لقد كان انتصارها عام 1918 كاذبا، وكان عام 1944 أكذب، فقد قام على مساعدات أجنبية وعلى تغطية للمشاكل الاساسية). وطبيعي ان لا يحول هذا الانتصار المغشوش دون ازدياد المشاكل الداخلية والخارجية.
في بلد كفرنسا يملك هذه الحضارة وهذا الوعي، كل كلمة تقال، وكل موقف يتخذ، تكمن وراءه مصالح حيوية. فموقف احرار الفكر، الى جانب موقف الاحزاب اليسارية، الى جانب تظاهرات الشعب نفسه، ليست مجرد مثالية مجانية، وانما هي تعبر عن مصالح واقعية لهذا الشعب الفرنسي نفسه، وهذه المصالح نفسها تصرخ: يجب ان تستقل الجزائر وان تتخلص فرنسا من الاستعمار، فكأنهم لا يهبون الاستقلال للجزائر بل يطلبون تحررهم من عبء استعمارهم للجزائر، يطلبون التخلص من اوضاع ستؤدي بفرنسا الى الانحلال المحقق. والواقع يرينا ان هذه الفئات الاستعمارية المحصورة بالشركات الرأسمالية والطبقة الاقطاعية تشتري الحكومات والصحافة والجيش نفسه وتتستر وراء الشرف القومي والكرامة الفرنسية والمصلحة القومية وهيبة فرنسا ومستقبلها ولكن هذا كله أصبح بالنسبة الى الشعب الفرنسي مفضوحا ولا يلقى لديه أي صدى.
ان مصالح الشعوب لا تتصادم، فمصلحة الشعب العربي في الجزائر والمغرب تتمشى مع مصلحة الشعب الفرنسي في التحرر من أوضاعه الجائرة. وفي هذا ضمانة لانتصار العرب في المغرب، لان كل امعان من قبل فرنسا في السياسة الاستعمارية، ان كان يوقع ضررا في عرب الجزائر، فهو يوقع في مصالح الشعب الفرنسي اضعاف هذا الضرر مما يؤدي الى ثورة الشعب الفرنسي.
على ان هذه الضمانة ليست بالوحيدة ولا هي الضمانة الأولى او الأهم، فالضمانة الاولى ايجابية لا سلبية، أي هي لا تأتي من ضعف العدو بل من قوة العرب أنفسهم ومن وعيهم لمصالحهم وتفتح امكانياتهم الهائلة التي ظلت خلال زمن طويل مكبوتة ثم حركها الظلم والاستثمار واخذت تتفجر في كل مكان من ارجاء الوطن العربي وتأتلف وتتناسق.
وينبغي ان نشير الى فروق اساسية بين المعركة التي يخوضها العرب في شتى أقطارهم في هذه المرحلة التاريخية، وبين العدوان الاستعماري وما يخفي وراءه وما يعبر عنه. فمعركة العرب معركة ايجابية بكل معنى الكلمة لانفسهم وللعالم، فبمقدار ما يتحررون يحررون العالم، وهي معركة صادقة تنبثق شعاراتها من صميم واقعها، وهي لذلك قوية بالنسبة الى العرب وبالنسبة الى الرأي العام العالمي لانه ليس فيها تزييف ونفاق، وهي معركة رابحة لانها تقوم على الشعب كله وتسير في اتجاه مصلحة الشعوب، شعوب العالم.
وهي اذن معركة انسانية، هي معركة الحضارة والقيم الانسانية والمستقبل، اما معركة الاستعمار فهي نقيض ذلك كله. ومعركة العرب معركة موحدة، توحد العرب انفسهم وتوحدهم مع التاريخ والعصر والشعوب، اما معركة الاستعمار فهي معركة مجزئة، تقسم البلد الاستعماري على نفسه، وتخلق اعمق الازمات بين فئات الشعب الواحد وتفضح تناقضات الوضع المؤدي الى الاستعمار وتعزل الدول الاستعمارية عن شعوب العالم واتجاه الحضارة. وهي كذلك معركة سلبية رغم هجومها الظاهر، فهي تهاجم لتدافع عن بقايا مصالح لم تعد تأتلف مع اتجاه العصر… وهي معركة قاضية، فشعوب الدول الاستعمارية تصبح يوما بعد يوم اقل تحمسا لهذا الحروب الاستعمارية، وهي تنسحب منها انسحابا متزايدا لتقتصر المعركة أخيرا على اصحابها الحقيقيين بدون قناع: الرأسماليين والمغامرين والمرتزقة الذين يستفيدون من الحروب، وعندما تصل الى هذا الحد، تكون قد وصلت الى نهايتها، لأن الحروب الاستعمارية لا تقوم على الاستعماريين وحدهم بل على قدرتهم على خداع شعوبهم، وعلى زجها في تلك الحروب.
ان حدا ادنى من الوعي كان ضروريا ليبدأ العرب نضالهم القومي التحرري ولكن هذا النضال نفسه كان باستمراره واتساعه وتوالده ينمي في الوقت نفسه ذلك الوعي الذي يولد النضال ويرفع مستواه ويكشف عن آفاق جديدة له. وان ما يطلب منا اليوم هو ان نعود فنرفع نضالنا الى مستوى الوعي الجديد الذي خلقه النضال.
لقد كنا قبل عشرات السنين لا نطمع في اكثر من رفع القيود عن انفسنا وعن وطننا معتبرين هذه المرحلة مرحلة سلبية، على هامش حياتنا وتاريخنا على هامش الحياة والتاريخ، منتظرين يوم التحرر الكامل ليدخلنا الى التاريخ.
واليوم ندرك اننا دخلنا التاريخ منذ بدأنا النضال، وان كل قيد حطمناه سواء من قيود الاستعمار أو قيود اوضاعنا، البالية المساعدة للاستعمار، كان في الوقت نفسه قيدا من قيود الانسانية يتحطم وحجرا من احجار المستقبل يرتفع. وان رسالتنا لم تعد ذلك الشيء البعيد الاجل الذي يبتدئ بعد الاستقلال وبعد الوحدة وبعد الثورة الداخلية، بل اننا اخذنا نحيا هذه الرسالة ونؤديها منذ اللحظة التي وعينا فيها انه يجب ان تكون لنا رسالة.
نحن اليوم في قلب التاريخ الانساني، نؤثر فيه اكثر مما نتأثر به، فبقدر ما نهدم من أوضاعنا الاستعمارية والاستثمارية، ونساهم في تحرير الشعوب المستعمرة لنا بقدر ما يكون نضالنا ضد الاستعمار صادقا وشاملا ومعبرا عن تجربتنا القومية التي هي تجربة الانسانية.
كانت عقيدتنا حافزا ومحركا، واليوم حان الوقت لتصبح منهاجا عمليا نعبئ اقصى امكانياتنا لتحقيقه في وعي تام لأهداف نضالنا القومي البناء، فهل قدّرنا الموضع الخطير لمعركة الجزائر من هذا النضال؟
عام 1956
نظرتنا للرأسمالية و للصراع الطبقي
لا احسب ان ثمة حاجة للتفصيل في ان كل نظرة الحزب وما كتب خلال هذه السنوات تفيد اننا رفضنا منذ البدء ونهائيا النظرة الرأسمالية، او اننا رفضنا كل مفهوم يجعل الاشياء اعلى من الإنسان لانه هو القيمة العليا في نظر حزبنا والرأسمالية بجملتها قائمة على العكس.
ليست الرأسمالية فلسفة انما هي واقع: انها تنازل الانسان وتراجعه امام الأشياء التي خلقها والتي أبدعها وأنتجها. واذا فهم من الرأسمالية التسليم بالحرية التي لا حد لها للتملك الفردي و لما ينتج عنه من نتائج، وان هذه الحرية بهذا الشكل مقدسة لا يجوز للانسان او للمجتمع او للدولة ان تمسها او تعرقل سير نظامها، فهذه نظرة لا يوجد اليوم من يدافع عنها حتى في الدول الرأسمالية ذاتها، اذ أن هذه الدول أو المجتمعات الرأسمالية نفسها اخذت تعترف اخيرا بأن التملك الفردي المطلق من كل قيد ليس مقدسا ولا يعطي دوما النتائج الصحيحة ولا ينسجم دوما مع المصالح العامة وانه لا بد من تدخل الدولة ومن ان يحسب لمصلحة المجتمع حسابها. اما الذين يريدون ان يفهموا من الرأسمالية بل الاشتراكية التي ننادي بها نحن والتي تنادي بها شعوب كثيرة: اشتراكية حية واقعية غير مصطنعة لا تريد ان تبدل مرضا بمرض ولا تريد ان تقضي على صنم الرأسمالية لتقيم مقابله صنم المجتمع الذي يستعبد الافراد و يقتل فيهم الاندفاعات الخيرة. فهذه هي الاشتراكية، الاشتراكية التي تعتبر الانسان كما قلنا القيمة العليا وانه يبقى دوما مسيطرا على الاشياء التي خلقها وانه بالتالي يجب ان توجد تلك الصيغة الحقيقية الحية الحكيمة التي تقضي على الاستغلال بكل اشكاله دون ان تقتل حرية الافراد.
واتطرق بهذه المناسبة الى سؤال عن الطبقية و هل يؤمن بها الحزب ام لا؟ ليس في فكرة الحزب طبقية بالمعنى الذي تفهمه الماركسية ولكن فيه طبقية. أي اننا نعترف بها وان كنا لا نتبنى المفهوم الماركسي لها. فالماركسية اقرت حقيقة واقعة عندما قالت بأن الصراع في هذا العصر هو بين الطبقات وجعلته بهذا قانون التطور التاريخي وهي محقة في تعليلها واستقرائها لمميزات هذا العصر. اذن هنالك صراع بين الطبقات لا يجوز تجاهله، الا ان الماركسية انطلقت من نظرة وجعلت هذا الصراع على النطاق العالمي الاممي وتجاهلت الى حد بعيد اذا لم نقل انها تجاهلت تماما، هذا التكوين التاريخي الحي للقوميات حين اعتقدت بأن الروابط التي تجمع الطبقة العاملة والمستغلة في جميع بلدان العالم هي اقوى بكثير من الروابط التي تجمع طبقة معينة في امة معينة بقوميتها.
مما لا شك فيه ان هناك ضمن الامة الواحدة صراعا بين الطبقة المالكة لوسائل الانتاج والطبقة المحرومة منها. الا انه حتى في نطاق الامة الواحدة لا يمكن ان ينظر الى هذا الصراع بالشكل الحرفي الضيق الذي صورته الماركسية. فنحن اولا رفضنا الاممية بشكلها الماركسي وقلنا بتعاون حر بين الشعوب الاشتراكية الحرة، اذن فنحن نتعرف بصلتنا –صلة الشعب العربي– بالشعوب الاخرى وبامكان الالتقاء على صعيد واحد.
فنظرتنا اقرب الى الصواب والى الواقع حين جعلنا التعاون بين الشعوب تعاونا حرا، بين شعوب اختارت النظام الاشتراكي الحر ايضا. اما في داخل الوطن العربي فنحن طرحنا المشكلة على شكل مختلف: طرحنا المشكلة القومية كوحدة لا تتجزأ ولم نأخذ منها جزءاُ فقط كما فعلت الماركسية حين اخذت الناحية الطبقية، ناحية الصراع بين المالكين و المحرومين. مشكلتنا اوسع من ذلك واعمق بكثير: مشكلة وطن مجزأ مستعمر في بعض اجزائه، والتجزئة هي اكبر عائق في طريق نهضته، وهي مشكلة وطن متخلف في شتى النواحي: في الفكرة والاقتصاد والسياسة، وفي كل شيء، ويحتاج الى ان نبني فيه كل شيء من جديد. لذلك جعلنا الشعب العربي في صف والذين يعادون ويعرقلون القضية القومية ويقفون في سبيلها، جعلناهم في صف آخر. فليس فقط الرأسماليون والاقطاعيون هم اعداء الشعب العربي، بل ايضا هم السياسيون الذين يتمسكون بالتجزئة لانها تفيدهم شخصياٌ، وليس هؤلاء فحسب بل اولئك الذين يسايرون الاستعمار بشكل من الاشكال، وأولئك الذين يعادون الفكر والعلم والتطور والتفتح والتسامح والذين يقاومون او يحولون دون تحرر أمتنا، وضعناهم في صف ومجموع الشعب العربي في صف آخر… فنحن اذن لا نستطيع ان نقول اننا قسمنا امتنا الى طبقات او طبقتين: ان رجل دين مثلا يبذر بذور التعصب وهو فقير لا يملك ثروة يسيء الى الشعب بقدر ما يسيء الرأسمالي المستغل للعمال والاقطاعي للفلاحين…
ان على هذه الوحدة في قضيتنا وهذه النظرة القومية التي ترفع مشكلتنا الى صعيد أرقى واصدق من الصعيد الاقتصادي البحت ان لا تنسينا ان المشكلة الاجتماعية في اللب والصميم، واننا اذا تساهلنا أي تساهل بحجة القومية مع طبقة المستغلين والرجعيين نكون قد افقدنا نضالنا العصب الفعال. فهذا الصراع بين جمهور الشعب المحروم وبين الطبقة المستغلة والمستعصية على كل تطور وكل استجابة الى المصلحة القومية ليس فيه الا الخير، ويجب ان لا نخاف منه اذ منه تخرج النهضة القومية. من تحرير الشعب المحروم يتكون المواطن العربي الصالح الذي يستطيع ان يفهم قوميته وان يحقق قيمتها لان القومية تبقى مجرد الفاظ مع الظلم والفقر والحرمان.
فالمشكلة ليست سهلة كما تظنون، ان علينا، هنا كذلك، ان نبقي التوتر بين طرفي المشكلة. ولنحذر دوما ان نضيع الفكرة القومية وتلتبس مع المصالح الطبقية المجرمة حين يتغنى اصحاب هذه المصالح كذبا و بهتانا بالمصلحة القومية لينقذوا جلودهم، واقوالهم عندما يحاولون ان يؤثروا علينا: ألسنا ابناء شعب واحد؟ كل هذه الحيل الخبيثة يجب ان يبقى المناضلون فوقها وبمنجاة من التأثر بها. ان مفهوم القومية الشائع سواء في بلادنا او في بلاد الغرب هو في معظمه مفهوم سلبي زائف تدخله المصالح الرجعية و الاستغلالية، فعلينا ان نعري هذه القومية الزائفة من الزوائد السلبية الخبيثة، ونحن لا نخشى كثيراُ من هذه التعرية لانه يبقى دوما شيء قد يكون بسيطا جدا ليس له وزن مادي و لكنه شيء اساسي جدا، هذه هي القومية: انها ليست غرورا او استعلاء وليست تعصب امة ضد الامم الاخرى، انما غريبة تماما عن كل مصلحة مادية لفئة من الفئات في الامة، وهي الانسانية بالذات متحققة في واقع حي هو الامة…
اذن نحن لا نعترف الا بما في القومية من ايجابي يبقى بعد طرح كل العصبيات وكل الامور السطحية، انه عبارة عن الرابطة الروحية والتاريخية بين افراد الامة الذين طبعهم التاريخ بطابع معين و لم يغلقهم على الانسانية وباقي الامم وإنما اعطاهم لونا خاصا وتجسيدا خاصا لهذه الانسانية لكي يكونوا جزءا فعالا منها ومبدعا ومتجاوبا معها. هذه هي قوميتنا، لا تقوم على الحقد تجاه الاقوام الاخرى ولا تقوم على الحقد ضمن ابنائها. فالصراع الذي اقمناه في داخل امتنا ليس موسوما بالحقد وانما هو موسوم بالحق والخير. والحب في حقيقته قاس لاننا عندما نحب امتنا وافراد شعبنا ونريد لهم المستقبل الزاهر والحياة الكريمة، لا نتهيب من استعمال القوة ضد كل الذين يحولون دون هذا الارتقاء والنمو. فأصحاب المصالح المادية والمعنوية من حكام وغيرهم الذين يعرقلون وحدة الامة يجب ان يناضلهم الشعب نضالا عنيفا وحاسما.
عام 1956
حول الوضع في مصر
في اجتماع ضم الأمين العام للحزب الرفيق ميشيل عفلق وعددا كبيرا من شعبة بيروت طرح بعض الحزبيين اسئلة متعددة حول بعض امور الحزب الداخلية وحول الاوضاع السياسية في الوطن العربي، وخاصة في مصر وموقف الحزب منها. وفيما يلي نص الحديث:
لعل من الجواب على سؤالكم الاول عن الدستور المصري الجديد، وعن الحكم القائم هناك، ما يتيح لنا الجواب عن جميع الأسئلة الأخرى التي تقدمتم بها والتي تدور حول هذا الموضوع لانها في الواقع تنبع من وجهة نظر واحدة او من حالة نفسية واحدة معروفة لدى الأعضاء سواء هنا او في أي قطر عربي اخر.
لعلكم تعرفون اننا بقينا سنوات متحفظين تجاه الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر نتخوف ونحذر من الاخطار الكامنة في الحكم الديكتاتوري،ثم اعتدل موقفنا وتبدلت نظرتنا بعض الشيء، وذلك لاننا جربنا في سوريا عددا من الانقلابات العسكرية وكانت كلها متشابهة في إساءتها الى القضية العربية القومية إساءة مكشوفة مفضوحة… وقد ساهم حزبنا مساهمة فعالة معروفة في مقاومة هذه الانقلابات وتخليص البلاد من الدكتاتورية العسكرية وكان من الطبيعي اذن أن ننظر الى الانقلاب الذي حدث في مصر -في نفس الوقت الذي كانت تحدث فيه الانقلابات في سوريا- نظرة الاشتباه والشك، وان نقف موقف الحذر. لكن ثمة فروقا واضحة بين الحالتين سأذكرها لكم باختصار. ان الانقلابات العسكرية التي حدثت في سوريا لم يكن هناك ما يبررها باستثناء الانقلاب الاول الذي لم يخل من بعض المبررات. هذا الانقلاب الاول في سوريا سنة 1949 قوبل -كما تعلمون- بالارتياح الشعبي العام. وفي هذا دليل كاف على انه لم يقم عبثا، فالشعب كان مستاء كل الاستياء من وضعه لان الحكم في سوريا حتى سنة 1949 كان حكما مستبدا استغلاليا، يهمل الشعب وجميع مطالبه وحاجاته الملحة الى الاصلاح والتقدم… يتلاعب بالقضية العربية وبالوحدة العربية، حتى بالإستقلال نفسه ويعرضه للاخطار، حين يهمل تهيئة اسباب القوة للدفاع عن هذا الإستقلال، ويحاور الدول الإستعمارية في سبيل عقد معاهدات وغير ذلك، الامر الذي أدى الى تزايد الاستياء وتفاقمه وإشاعة الريب والشبهات حول ذلك الحكم. وكان ان قام بعض ضباط الجيش، في هذا الظرف الملائم، بانقلابهم واثقين من ان أحدا لن يدافع عن هذا الحكم. وكانت الشعارات التي استهلوا عهدهم بها مغرية خداعة… كانت شعارات تقدمية اشتراكية عربية، أي تجسيدا لكل ما كان يطمح اليه الشعب ويتحرك لبلوغه.
وموقفنا من الانقلاب الاول معروف. فنحن لم ندافع عن العهد السابق الذي كنا في طليعة المنددين به، ولكننا –في نفس الوقت– لم نتفاءل تفاؤلا أعمى بالانقلاب العسكري، بل أصدرنا مذكرة في الايام الأولى للانقلاب وضحنا فيها الشروط والضمانات التي بدونها لا يجوز للشعب ان يطمئن الى اهداف هذا الانقلاب، ومن بين هذه الضمانات ان تعاد الحياة الديمقراطية والحريات، وان يحترم الدستور، وان تجري انتخابات جديدة، وان يحافظ على النظام الجمهوري وان يعمل للوحدة العربية. لكن رجال الانقلاب الاول كانوا أناسا مشبوهين وسرعان ما انفضح أمرهم وتبين أنهم عاجزون عن القيام بأي عمل انشائي، وأنهم ألعوبة في أيدي الدول الإستعمارية وشركاتها. وهكذا فشل الانقلاب الاول بعد أربعة أشهر، وحدث انقلاب آخر حاول أن يصحح ولكنه فشل في التصحيح، وقام ألانقلاب الثالت في كانون الاول سنة 1949 هذا الانقلاب الذي أتاح لبعض ضباط الجيش وعلى رأسهم الشيشكلي ان يتقاسموا السلطة مع المجلس وبعض السياسيين مدة سنتين وان يهيئوا لانقلاب عسكري شامل يقضون به على كل اثر للحياة السياسية الحرة ويحكمون البلاد حكما دكتاتوريا كاملا ابتداء من أواخر عام 1951 واستمر سنتين وبضعة اشهر..
وبعد، لماذا قامت هذه الانقلابات في سوريا؟ وما الذي اتاح لها ان تستمر في الحكم؟ ولماذا فشلت؟ وما هي مراميها؟ اسئلة سوف نطرحها بالتتالي -كما هي بالنسبة لمصر– وستتضح لكم من خلال الإجابة عليها حقيقة الموقف.
مهما قلنا عن فساد الاشخاص الذين قاموا بالانقلابات في سوريا ومدى علاقتهم بالإستعمار وعن مطامعهم واغراضهم الشخصية فان مما لا ينكر ان الشعب كان لديه بعض الاستعداد لحكم تقدمي ولو مصحوبا بالقوة وعلى حساب الحرية. وتفسير ذلك هو نقمة الشعب العميقة على نوع من الحكم ونوعية من الحكام: نوع من الحكم هو الحكم الديمقراطي المزيف المتستر وراء مبادئ نظرية هي في حقيقتها غاية الطموح الانساني. هذا الحكم الديمقراطي المزيف، حكم الاقطاعيين والشركات الرأسمالية والسياسيين المحترفين وزبانيتهم وانصارهم، هؤلاء الذين يريدون ان يجعلوا الدولة مزرعة لهم فيزوّرون الانتخابات علنا وبتلاعبون بالدستور بكل جرأة ووقاحة ويقيمون حكما بوليسيا إرهابيا باسم الديمقراطية والدستور، هذا الحكم أفلس وفقد كل ثقة واعتبار حتى لقد أصبح الشعب ينظر الى ممثليه والمنتفعين منه والمدافعين عنه على انهم لا يفضلون الإستعمار بشيء وانهم حلوا محله في الاستغلال والسرقة والارهاب والتنكيل…. وعندما توجد هذه النفسية عند الشعب يسهل على المغامرين ان يقوموا بانقلابات عسكرية لأن الشعب لا يتحرك للدفاع عن الدستور والحياة الديمقراطية ما دام لم ير شيئا من خيرهما ولم يذق منهما الا الفقر والاستعباد…والشعب يأمل ان يأتيه الخلاص بما يشبه المعجزة عن طريق تبدل الاشخاص والأوضاع وبذلك سهل على المغامرين العسكريين ان يقوموا بانقلاباتهم.
ولكن لماذا لم ينجح هؤلاء المغامرون في إقامة حكم طويل الأمد متين الدعائم؟ ولماذا كان ينهار حكمهم بعد مدة قليلة من الزمن من قيامه، فيضطرون الى اعادة الكرة مرات متتالية حتى منوا بالفشل الذريع اخيرا بانتهاء دكتاتورية الشيشكلي؟ لقد فشلت الانقلابات العسكرية والقائمون بها في سورية بسبب وجود حركة شعبية انقلابية بالمعنى الصحيح هذه الحركة المتمثلة في حزبنا لم تكن بعد قد بلغت حدا يسمح لها بان تحول دون قيام الانقلابات، ولكنها كانت قد بلغت حدا يسمح لها بمقاومتها وإحباطها، والان رغم نمو حركتنا وازدياد قوتها عما قبل واتساع نطاقها، لا أستطيع الجزم أن بإمكاننا ان نمنع قيام انقلاب عسكري. ولكن من البديهي ان كل انقلاب من هذا النوع يمكن ان يقوم في سورية سيكون نصيبه الفشل لأن حزبنا سوف يتصدى لمقاومته.
ويمكن القول ان حزبنا – بمعنى من المعاني – شجع قيام هذه الانقلابات أو سهل مهمتها، ولكنه معنى واحد أرجو الا يساء فهمه وهو ان حزبنا هو الحزب الوحيد الذي قاوم الحكم الوطني الفاسد (منذ سنة 1943 عندما قام الحكم الوطني الى سنة 1949 تاريخ الانقلاب) مقاومة جدية نضالية وفتح عيون الشعب على حقوقه ومطاليبه والأخطار المحيطة به سواء من الداخل أو من الخارج، سواء في داخل سورية أو في الاقطار العربية عامة… وبصدد كارثة فلسطين كان حزبنا المنبه الأول الى جريمة الفئة الحاكمة في سورية والاقطار العربية الأخرى لإهمالها الاستعداد لمعركة فلسطين ولتآمرها مع الدول الغربية المستعمرة وللنفعية التي أعمت بصائرها وحجبت عنها طبيعة الأخطار. كل هذا قام به حزبنا فهو الذي مهد الطريق أذن للمغامرين العسكريين كيما يستغلوا النفسية الجديدة التي أوجدها الحزب. اما من الناحية الايجابية فان حزبنا هو الحزب الوحيد الذي خلق في جو الحياة العربية منذ خمسة عشر عاما حتى اليوم هذه المفاهيم الانقلابية الجديدة (مفهوم الاشتراكية والحياة الكريمة والمفهوم الصحيح للحرية والديمقراطية، والتحرر التام من كل استعمار اقتصادي او سياسي او عسكري، والوحدة العربية بمفهومها الصحيح السليم العميق..) هذه المفاهيم نشرها الحزب وأشاعها في الرأي العام العربي خالقا بذلك حاجات جديدة في نفس الشعب. منميا نزعات كانت ما تزال ضعيفة او غامضة.. لكن الحزب طريقه صعب طويل لا يستطيع ان يختصره ولا بد له من أن يقطعه خطوة خطوة. وهو لا يستطيع، لكي يؤدي رسالته على أتمه، أن يخادع الرأي العام العربي ويتسلم زمام الحكم قبل ان يكون قد أعد هذا الرأي العام لأن يتقبله، وقبل أن يكون قد أعد الجهاز الحزبي المنظم المحكم الذي يستطيع ان يبني الأوضاع الجديدة السليمة.. ولقد كان عليه ان يتابع نضاله العنيد وان يبقى معارضا ومناضلا. وهذا ما سهل من جهة ثانية للمغامرين العسكريين في سوريا ان يتولوا دفة الحكم وان يزيفوا المفاهيم التي نشرناها نحن وان يستغلوا عند الشعب حاجاته الطبيعية الى الأسرع في تلبية رغباته وأمانيه. فالشعب لا يستطيع الصبر الا اذا عودناه عليه وبينا له ان الصبر بنضال وتنظيم هو وحده الكفيل بحل قضاياه جميعا حلا صحيحا، وان الاستعجال خليق بأن يجعله لا يحصل ألا على حلول سطحية وخادعة.
ولكننا حتى الان لم نستطع ان ننظم الشعب العربي كله، ولا يزال هناك عدد كبير من الشعب لم يهضم بعد افكارنا الانقلابية ولم ينتظم في حركتنا ليعرف بالممارسة والتجربة ان هذا هو الطريق الصحيح فإذا جاء -من ثم- مغامر ولوح بالاشتراكية وبالوحدة العربية الخ.. كان طبيعيا أن يصدقه كثير من أفراد الشعب العربي، وليسوا على ذلك بملومين، لأنهم بحاجة الى من يحقق لهم هذه المطالب الحيوية. وهكذا نكون بمعنى من المعاني قد قدمنا أسلحة فكرية للمغامرين العسكريين يستعملونها في غير موضعها ولغير غاياتها الصحيحة ويوجهونها لخدمة الإستعمار والاقطاعية والرأسمالية، ومساعدتها جميع على الاستمرار والبقاء على حساب مصلحة الشعب وكرامته، ولحرمان الشعب من الحرية. أن هذا لا يشكل مأخذا على الحزب بطبيعة الحال لان الحزب الانقلابي معرض دوما لأن يجد في طريقه الطويلة الشاقة أشخاصا وفئات يزيفون انقلابيته مثل الانبياء الكَذَبة، فعندما يظهر في التاريخ أنبياء صادقون، لهم رسالتهم الحقيقية رأينا ذلك يغري بظهور انبياء كذبة، وهذا ما يحدث بالنسبة للحزب أيضا، فعلى الحزب في مثل هذه الحال ان يحول النكسات الى خطوات تقدمية تضاعف ثقة الشعب به وبمبادئه وتقوي نضاليته وتجربته.
هذه بالنسبة الى سورية. أما في مصر فقد كانت الحالة مشابهة من الناحية السلبية لما هي عليه في سورية، أي أنه كان هناك حكم وطني فاسد يدعي ادعاءات فارغة لا ينجز منها شيئا، يدعي الديمقراطية وخدمة الشعب والمساواة للجميع، وهو في الواقع يستغل الحكم لصالح فئة معينة دون غيرها، فكانت النفوس أذن مهيأة لتقبل الانقلاب. وكان فساد الملكية المعروف في مصر العامل الاول في نجاح الانقلاب. أن الفارق الكبير بين حالة مصر وحالة سورية هو من الناحية الايجابية: ففي سورية كانت هناك حركة شعبية تستطيع ان تقف على قدميها ولم يكن في مصر شيء من هذا القبيل، ثم ان هذه الحركة الانقلابية في مصر لم تقم على اساس المغامرة الشخصية ولكنها قامت فعلا نتيجة الآلام، آلام الشعب والتحسس العميق بها، قامت على أيدي ضباط من ابناء الشعب غمرتهم وألهبتهم النقمة الشعبية العامة ووجهتهم في طريق العمل الجدي. ولم يكن في سورية شيء من هذا لأن الفئات المخلصة الواعية والفئة الشعبية المناضلة كانت شديدة التعلق بحزبنا وكان من الصعب عليها ان تتوجه الى ضباط لم نؤيدهم نحن..لم تكن في مصر حركة شعبية اذن، فليس بدعا -والحالة هذه- أن تتجه آمال الشعب الى هذا الانقلاب العسكري وان تعلق ألآمال على هذه الفئة من الضباط التي أنقذت الشعب من حكم لم يكن له مثيل في الفساد. والشيء الذي حققه هذا الانقلاب في المرحلة الاولى هو في حد ذاته شيء كبير لأنه اطاح بالعرش، هذا الكابوس البغيض الذي كانت ترزح تحته مصر، وكان ذلك كسبا كبيرا لرجال الانقلاب. ثم تلت هذه الخطوة خطوة اخرى جريئة كان لها اثر لا ينكر في تبديل أوضاع مصر وهي توزيع الاراضي. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة لا تسمى اشتراكية بالمعنى الصحيح لأنها لم توزع مجانا جميع الاراضي. الا انها كانت تلبية سريعة لحاجة ملحة ماسة ومن ثم كان لها هذا الأثر..
والهيئة الشعبية الوحيدة في مصر التي كان بإمكانها القيام بدور حقيقي في مقاومة الحكم الدكتاتوري هي فئة الاخوان المسلمين، ولكنها فئة ضد تيار التاريخ واتجاه العصر، على الرغم من انها ليست كباقي الهيئات الدينية في اماكن اخرى من حيث النفعية والاستغلالية… فالاخوان في مصر أرفع مستوى، ولكن مجرد عنوان الدعوة ونظرتها الرجعية المخالفة لنزعات التحرر العميقة التي تختلج في نفس الشعب العربي جعلها ضعيفة أمام حركة الانقلاب، وهي لم تقاومه كما هو معروف بل أيدته وتعاونت معه سنتين ثم راحت تندد به وتناهضه في السنة الاخيرة.
والنتيجة التي اريد أن أصل بكم اليها هي ان ظروف الانقلاب فى مصر تختلف عن ظروف الانقلاب فى سوريه. فقد كان للانقلاب الذي حدث في مصر مبررات معقولة، وكانت الساحة الشعبية فارغة، فاتجهت نفوس الشعب الى الفئة العسكرية صاحبه الانقلاب، وقامت هذه الفئة جادة مخلصه ببعض الاصلاحات التي لا تنكر.. ولكن هل يجوز ان يسمى الحكم القائم في مصر حكما انقلابيا؟
الجواب كلا، فهذا الحكم ممكن تسميته حكما تقدميا، لا اكثر، والفرق بين الانقلابية والتقدمية هو كما يلي:
الانقلابية هي نضال الشعب المنظم القائم على نظريه وعقيدة، يستهدف قلب الأوضاع العامة كليا ومن الجذور، وإبدالها بأوضاع جديدة صحيحة، أي انها تبديل في أسس حياة الأمة.
وبديهي أن التبديل لا يمكن تحقيقه بواسطة الجيش وانما بنضال الشعب نفسه. قد يساهم الجيش مع الشعب ولكنه لا يستطيع وحده ان يحقق انقلابا بالمعنى الذي يفهمه حزبنا.أما التقدمية فهي اصلاح وليست تبديلا في الاسس، أصلاح في بعض نواحي الحياة العامة مع الاحتفاظ بالأسس القديمة، لا حرصا على هذه الأسس بل عجزا عن تبديلها. والذي تم حتى الآن فى مصر لم يتناول الأسس لأنه لم يقض تماما على الاقطاعية ولم يمس الرأسمالية بأي أذى، وانما الامر على العكس، فالرأسمالية تلاقى التشجيع من الحكم وان كان تشجيعا موجها، بمعنى ان الرأسمالية لم تعد مطلقة التصرف بل عليها أن تخضع للدولة وتنسجم مع مخططها الاقتصادي. أضف الى ذلك ان ألحكم لا يتجه نحو ألحرية ولا يعمل على أساس الوحدة العربية بالمعنى الصحيح، وان كان من هذه الناحية قد حقق خطوة لا بأس بها. فالأسس القديمة الباليه التي يجب أزالتها من الوطن العربي تتمثل في الاقطاعية والرأسمالية وحكم الطغيان وتقييد الحريات وواقع التجزئة القومية، وواضح ان الحكم في مصر لم تكن له القدرة على حل هذه المعضلات جميعا دفعه واحدة لذلك اعترف بها كأوضاع قائمه،وضمن هذه الأوضاع القديمة وجد منفذا لإدخال إصلاحات جدية.
وما دام حزبنا لم يصل بعد في مختلف أقطار العروبة الى مرحلة التوسع الكفيل بالحيلولة،دون تزييف الانقلاب العربي المنشود الصحيح فهو لا يستطيع أن يعارض خطوات تقدمية يؤمن بإخلاصها وجديتها. فالتفكير الواقعي أذن يقتضي منا أن نقبل مثل هذه الخطوات والخدمات في قطر لم تصل حركتنا اليه بعد. فعلينا أذن أن نسعى لكي يكون هذا الحكم خطوة مقربة من الانقلاب بدلا من أن يكون خطوة مبعدة صارخة ذهن الشعب عن أهدافه الاساسية في سبيل اهداف غير اساسية.
التقدمية – ايها الاخوان – يمكن ان نتصورها موقفا وسطا بين طرفين: بين الرجعية الراهنة السائدة في مختلف ارجاء الوطن العربي وبين الانقلابية الصحيحة التي هي في طور النمو والتكوين. وبما أن طريق الانقلابية بعيد فثمة احتمالات دائمة لظهور محاولات تقدمية، ولكن هذه المحاولات على نوعين: نوع صادق ونوع زائف.
النوع الصادق هو ما حدث في مصر والنوع الزائف هو ما حدث في سورية، وقد بينت لكم ذلك آنفا. الا ان هذه التقدمية التي هي حل وسط بين طرفي نقيض، بين الرجعية بكل ما فيها من استثمار داخلي واستعمار خارجي وامتهان للحريات وعرقلة لتوحيد الوطن، وبين الانقلابية العربية الشعبية التي لا تزال في طور التكوين تنمو وتتوسع ولكن طريقها شاق طويل. هذه التقدمية يتوجب علينا ان نكتشف حقيقتها: فهي عندما تظهر في أقطار بلغت فيها الحركة الشعبية حدا من النمو فأنها تكون تقدمية زائفة، ويكون للاستعمار شأن كبير فيها لأنها آنئذ بمثابة قطع الطريق على الحركة الشعبية، وهي عندما تكون في أقطار لم تصل أليها حركتنا بعد وعندما تبرهن في أعمالها عن جد وإخلاص وتجاوب نسبي مع حاجات الشعب فأنها تكون صادقة ولكنها معرضة دائما لخطر الزيف، لأن الاستعمار والأوضاع الرجعية التي تمسها هذه التقدمية، ولم تؤذها في أعماقها، ستحاول اجتذابها دوما الى جهتها فتصبح تقدمية معكوسة وتبعد عن الانقلاب. فواجبنا في مثل هذه الحال ان نرسم لها الطريق التي تكون خطوة جدية في طريق الانقلاب.وسأوضح لكم كيف تكون هذه الخطوة.
لقد تأثر الحكم القائم في مصر بأهداف حركتنا الانقلابية وليس ذلك بالضرورة عن طريق مباشر وانما من الجو الذي خلقته حركتنا، من الشعارات والمبادئ،ومن الرأي العام الذي خلقته هذه الحركة طوال أعوام. ولقد عمل الحكم في مصر أول ما عمل على إلغاء الملكية، وهذه بلا شك خطوة تقدمية وضعت حدا للفساد في الحياة العامة. وتبع إلغاء الملكية السير في توزيع الاراضي وإنعاش الفلاحين وهم الكثرة الساحقة من افراد الشعب، ثم تبني شعارات عربية كانت مهملة أو منسية أو موضع عداء وتنكر في مصر، والسير في طريق استقلالية في وجه الإستعمار الغربي، وتبني سياسة الحياد التي كان حزبنا أول من نادى بها منذ تسع سنوات، وبذل محاولات جاهدة لانتهاج سياسة مستقلة تجاه الغرب بالرغم من ان هذا الحكم ما يزال مرتبطا باتفاق مع بريطانيا يسعى للتخلص منه.
كل هذه الخطوات التي حققها الحكم في مصر تجعله خيرا من الماضي ولكنها ليست كل ما يرجوه الشعب لا من حيث الإصلاحات الداخلية، ولا من حيث الانفصال عن الإستعمار الغربي ولا من حيث التقارب العربي، انها بين بين، تسجل خطوة الى الامام ولكنها لا نتفذ الى الاعماق ولا تصل الى آخر الطريق.. فالخطر كل الخطر هو في أن نتصورها الطريق الصحيح، في ان نعتبرها السياسة الانقلابية الصحيحة، الخطر هو ان نجمد الاوضاع على هذا الشكل ونحول دون تقدم هذه التقدمية…أنها ان أوغلت السير في طريق الدكتاتورية ستتجمد وتصبح عاجزة عن الاستمرار في تقدمها، اذ انها ستمنع يقظة الشعب ونضاله.. ستقف حاجزا في طريق هذا الدم الذي يجري من الشعب الى الحكم، وهذا هو الخطر الماثل اليوم في الدستور الجديد. هذا الدستور سجل ما قام به الحكم في الماضي ولكنه سجل أيضا ان ألحكم سيصبح عاجزا يوما بعد يوم عن الاستمرار في القيام بالاصلاحات وبالخطوات التقدمية لأنه سجل هذه النزعة الدكتاتورية التي تحرم الشعب من ممارسة حقوقه ومن ألاشتراك الفعلي في تصريف حياته ومقدراته، ولذلك أصبح من العسير جدا على الحكم في مصر ان يخطو الى الأمام أذا هو تشبث بهذه النزعة الدكتاتورية. فالضمانة لكل حكم تقدمي هي أن ينفتح على الحرية، أن يساعد الشعب على ممارسة حقوقه وعلى الاشتراك في تصريف مقدراته، ليعود الشعب فيستأنف نضاله ضد كل هذه الاسس القديمة التي لم تغيرها التقدمية وانما غيرت بعض نتائجها فقط ولم تصل الى أسسها وجذورها. فالإستعمار ما زال في مصر نفسه،وسينتهي احتلاله بعد مدة وجيزة، ولكنه حتى عندما تنسحب الجيوش البريطانية عن قناة السويس،أليست موجودة على مقربة منها؟ وأي فرق جوهري بين احتلال أرض الاردن او العراق واحتلال ارض مصر؟ اليس الإستعمار موجودا في العراق وليبيا وتونس والجزائر ومراكش؟.ليس موجودا في المحميات؟ اليس موجودا بشكل من الاشكال في كل قطر من الاقطار العربية؟ في سورية ولبنان مثلا بشركاته وعملائه ونفوذه؟ فأذن نحن لم نتخلص من الإستعمار، ومصر وحدها لا تستطيع شيئا اذا بقي الإستعمار في الاجزاء الاخرى من الوطن العربي، والإقطاعية لم تزل زوالا تاما من مصر وأن تكن قد تلقت ضربة جدية. وفوق هذا فهي موجودة في الاقطار العربية الاخرى ووجودها في هذه الاقطار يشجعها في مصر على ان ترفع رأسها دوما وأن تحاول العودة.
والرأسمالية ما زالت في مصر على شكل واسع: وطنية واجنبية، وتعمل بتشجيع الدولة. والتجزئة، وهي اكبر خطر ومرض في كياننا العربي، ما زالت كما هي لم تتبدل ولم تتراجع، فالحكم التقدمي في مصر لم يغير شيئا من هذه الأسس وإنما غير أشياء جدية في بعض النواحي وفي قطر من الاقطار العربية له وزن كبير ويكفيه أن يؤدي هذه المهمة. أما اذا تحول الحكم في مصر الى تجميد لهذه الخطوات لكي تبقى هذه الفئة من العسكريين وحدها دون استناد الى نضال الشعب ودون توحيد للقوى النضالية العربية في الاقطار الاخرى.. اذا بقيت الفئة الحاكمة في مصر معتمدة على قوة الجيش وحده والشعب بمعزل عنها لا يشارك ولا يناضل، فان هذه الخطوات التي حققتها الثورة ستصبح مهددة بالخطر، ويمكن ان يحدث تراجع بدلا من ان يحدث تقدم. لذلك آمن حزبنا بالحرية وألح عليها كثيرا لا تعلقا بمبدأ مثالي بل لقناعة عميقة بأن الحرية هي ضمانة عملية لكي يبقى النضال منطلقا الى الأمام دائما لا أن يتراجع ويتجمد وينتكس.
والملاحظ ان مفهوم بعض الاعضاء للحرية لا يزال سطحيا، الى حد أنه يلتبس بتلك الحرية الزائفة الكاذبة التي يتستر وراءها الرجعيون المستغلون للشعب المتعاونون مع الإستعمار، وهذا خطر يجب ان نكشفه وان نتفاداه. فالحرية مبدأ يجب ان تكون له صيغة عملية في كل ظرف ومرحلة، اذ ان المبدأ يتخذ صيغا مختلفة عندما يتجسد في العمل، لذلك يجب ان نبعد عن تفكيرنا هذا المفهوم المائع الأجوف للحرية النظرية التي لا تفرق بين الشعب وأعداء الشعب، بين أبناء الوطن وبين المستعمرين للوطن، بين الذين يؤمنون بهذه الحرية وبين الذين يستغلونها لمصلحتهم وهم ألد أعدائها. فلنبعد إذن المفهوم البورجوازي الرخو للحرية والديمقراطية.
إن الحرية التي ننشدها لا تتعارض مع تشريعات وتدابير وقوانين تحد من استغلال الاقطاعيين والرأسماليين والنفعيين والانتهازيين على اختلاف أنواعهم. الحرية التي ننشدها لا تتعارض مع تدابير وقوانين تمنع تخريب الإستعمار في كياننا وانتشار عملائه بين ظهرانينا في صحافتنا وفي أجهزة الدولة وفي كل مكان يتاح له فيه أن يتغلغل ليبث سمومه باسم الحرية. يجب أن تكون نظرتنا دائما الى الحرية نظرة سليمة، إنها حرية جديدة صارمة لا تؤمن بإلقاء الحبل على غاربه. انها ليست سلبية تسمح بأن تترك الفساد يتابع سيره والميوعة تتفاقم وتستشري بل هي حرية ايجابية، حرية خلاقة، حرية تمنع الضغط والتشويش والدس على كياننا القومي من قبل أعدائنا الداخليين والخارجيين ليبقى الجو سليما ملائما لتفتح هذا الكيان ونموه. الا اننا لن نطمع بأن تطبق الفئة الحاكمة الرجعية الموجودة الآن هذا المفهوم للحرية على وجهه الصحيح. فلو قلنا مثلا، في لبنان او فى سورية يجب ان تُحدّ الحرية، أن توجد قوانين لمنع الإستعمار من التآمر علينا ولمنع الفئات الرجعية من تسخير القوانين لمصلحتها فإن الفئة الحاكمة، التي هي من الرجعية والمستغلين للشعب، لن تضع قيودا لتكبل نفسها بها، بل لتكبلنا نحن اعداءها المناضلين والعاملين لمصلحة الشعب. نحن إذن لا نطالب بتقييد الحرية في ظل حكم رجعي فاسد، لان الحرية البرجوازية بكل مساوئها خير من فقدانها. ولكن عندما يوجد حكم تقدمي كالذي في مصر يجوز تقييد الحرية بالشكل الذي بينته لإحباط مكائد الإستعمار ومكائد الرجعية، بالشكل الذي لا يمنع الشعب من المشاركة في تقرير أموره والنضال فى سبيل قضيته. فلو كانت هذه القيود التي نص عليها الدستور المصري الجديد لمنع الإستعمار والرجعية فحسب لكانت مقبولة، ولكنها قيود لمنع الشعب من الانطلاق، لذلك فهي مرفوضة لأنها وخيمة العواقب.
لن أتوسع أكثر من ذلك لأن الوقت لا يسمح، ولا حاجة الى تناول الدستور المصري من ناحية الوحدة والاشتراكية ما دمنا قد تعرضنا نوعا ما في سياق الحديث لهذه الناحية إذ لا شك أن نص الدستور على عروبة مصر هو خطوة طيبة تسجل تقدما كبيرا بالنسبة الى العهد السابق في مصر، وتبشر بالخير وتدل على أن الرأي العام القومي العربي قد وصل الى حد من الضغط أثر على الحكام المصريين وحملهم على وضع ذلك الدستور، ولكن هذه الخطوة قليلة وليست هي غاية الأماني، إذ لا تزال هناك هذه الجفوة وهذه المخاوف من زيادة الالتقاء والتعاون مع البلاد العربية، فلم ينص دستور مصر كما نص دستور سورية بأن النواب مطالبون بالعمل للوحدة العربية. وليست هذه هي العلة الوحيدة، بل نستطيع اذ نقول أن دستور مصر ككل دستور عربي آخر قائم على منطق التجزئة. وإذا كان لنا أن نلوم حكومة مصر التي وضعت هذا الدستور فان علينا ان نوجه لوما اشد واكبر، وان تكون مآخذنا أظهر وأعمق على حكومات سورية والعراق التي تتباهى بالقومية العربية منذ القديم ومع ذلك فان الدستور في كل من هذين القطرين قائم على منطق التجزئة، أي أنه يرتب سياسة القطر من كل النواحي عسكريا واقتصاديا وثقافيا… على أساس أن القطر كل قائم بذاته، وهذا هو العيب الاساسي. فدستور سورية الذي يدعو للوحدة العربية ليست دعوته الا نظرية اذ لو كان واضعو الدستور صادقين في ايمانهم بالوحدة العربية لما نظموا سياسة سورية على اساس انها مكتفية ومستقلة بنفسها. فعندما تنظم سورية والاردن ولبنان وليبيا والعراق وأي قطر آخر على اساس التجزئة، أي أن يكون لكل قطر من هذه الاقطار اقتصاد كامل، فكيف يمكن أن تتحقق الوحدة العربية؟.
إن الوطن العربي وحدة اقتصادية عدا عن كونه وحدة سياسية وعسكرية، أي أن هذا الوطن يكمل بعضه بعضا. فما في سورية من موارد أولية ومن وسائل الانتاج ليس الا جزءا من هذه الوحدة الاقتصادية التي هي الارض العربية كلها، وهكذا عندما ينظم الاقتصاد في سورية على أساس أن يكون لها صناعة كاملة تشمل كل الصناعات التي تحتاج اليها دولة مستقلة، ومن تكون لها المرافق والسلاح الذي تحتاج اليه دولة مستقلة، وتنتهج لبنان والعراق وغيرها الخطة نفسها، فلا تمضي بضع سنوات حتى يكون كل قطر قد غرق اكثر فأكثر في أوضاع التجزئة، وتصبح كل قوى العالم عاجزة عن انتشاله من هذه الأوضاع لكي ينفتح على الوحدة القومية، لكي يتعاون أو يتوحد مع غيره من الاقطار، وهكذا تهدر وتضيع وتبذر معظم قوى الأمة العربية وخاصة من الناحية الاقتصادية، ويمكن أن نطبق ذلك على جميع النواحي الاخرى اذ أن المجهودات التي تبذل في سبيل قطر واحد كان يمكن أن تكفي جميع الاقطار.
21 كانون الثاني 1956
الوحدة العربية .. والإشتراكية [1]
سؤال (1): ما علاقة الوحدة العربية بالاشتراكية؟ وهل الاشتراكية شيء أساسي في النضال العربي؟
– إن القضية العربية يجب أن تؤخذ ككل لا يتجزأ، وان تُعالَج على هذا الاساس. واعتقد ان بعض الذين يحصرون اهتمامهم بالوحدة، هم مُجَزِئون للقضية العربية. ان نظرة حزب البعث الى قضيتنا القومية قامت على أساس أنها قضية واحدة، وأن حلها هو رهن بتحقيق انقلاب عربي، انقلاب بالمعنى العميق، لا ينحصر بالسياسة، وانما يتناول الفكر والروح والتربية الاجتماعية والاوضاع الاقتصادية. والسياسة في نظرنا هي التعبير عن موقفنا الانقلابي في جميع هذه الاوضاع والحالات.. واذا كانت السياسة لا تكفي دوماً للتعبير الصادق عن هذه النواحي، إلا انها بلا شك اقوى وسيلة لهذا التعبير. فعندما نقول ان الحل الصحيح لقضيتنا القومية، هو الحل الانقلابي البعثي، فان ذلك يعني بصورة بسيطة أن الحالة التي وصل اليها العرب منذ قرون عديدة، وليس فقط منذ بدء الاستعمار الغربي، وان الاوضاع التي نشأت في بلادنا منذ مئات السنين الى اليوم، احدثت خللاً وتشويهاً عميقاً جداً في بنيان الامة، وتباعداً بين شعور الامة العربية وبين الحياة نفسها فلم تعد أمتنا -بالتالي- تستجيب لدواعي الحياة الاستجابة السليمة.. فالانقلاب هو هذه المحاولة لاعادة الاستجابة السليمة الشفافة بين الامة وبين متطلبات الحياة. ويظهر بصراحة من هذا التعريف البسيط ان السياسة بمفهومها العادي لا يمكن ان تنفذ الى اعماق المشكلة واعماق المرض، ولا يمكن ان تغير شيئاً أساسياً في حياتنا، فما هو المطلوب اذن؟ هو تحريك الامة العربية تحريكاً عميقاً عنيفاً في الروح.
ولكي لا نقع في الالتباس المحتمل الوقوع كأن يُظَن بأن مشكلتنا الاقتصادية، مشكلة توزيع الثروة، هي المشكلة الوحيدة أو أنها هي المشكلة الحقيقية، نقول: انها مشكلة خطيرة تحتل المكان الاول في تفكيرنا ونضالنا، ولكننا دوماً نعتبر المشكلة الحقيقية – كما سبق مني القول- هي ان تبعث الروح في امتنا، هي ان يعود العربي والامة بمجموعها الى هذا الموقف الايجابي الفاعل الارادي السليم أيضاً.. موقف السيطرة على القدر، سيطرة العربي على قدره، معرفة الامة لمبررات وجودها، لغاية وجودها، والقدرة على تحقيق هذه الغاية. فالاوضاع الفاسدة وخاصة الاوضاع الاقتصادية، هي بمثابة المانع والحائل والمعيق لادراك الامة لذاتها ولوعيها حقيقة رسالتها. ان التعبير العملي عن هذه النظرية الانقلابية هو النضال بأوسع معانيه، لتربية الامة من جديد لكي تعرف كيف تواجه الصعوبات، لكي تستخرج قواها الدفينة وعزيمتها الغافية بالاحتكاك والاصطدام بالمصاعب..
وهذا النضال -كما قلت- يجب ان يفهم بأوسع معانيه. فهو في آن واحد نضال مع القوى الخارجية (والقوى الخارجية هي الصهيونية والقوى الاستعمارية) وهو نضال ضد الأوضاع الفاسدة في داخل الوطن وهذه الأوضاع سواء اكانت ظلماً سياسياً ام اجتماعياً، استغلالاً ام جهلاً، وضعفاً في الفكر وتعصباً ونقصاً في المحبة والتسامح.. كل هذه الاوضاع عندما ندعو المواطنين الى محاربتها فليست الغاية تهديم هذه الأوضاع الفاسدة فقط، وانما الغاية – على الأخص- أن يستعيد الشعب ادراكه لقيمه الأصيلة ولغاية وجوده الحقيقية بهذا الصراع الجدي. والنضال يكون ايضاً في نطاق النفس وخاصة بين المناضلين وبين ذواتهم، اذ ليس اخطر من ان يتجمد المناضلون، وهم مكلفون باحداث هذا الانقلاب فى حياة الامة، ان يتجمدوا على مفاهيم سطحية.. اذ لو انهم تجمدوا فكيف يمكن ان يحركوا الاخرين؟ فالمناضل يجب ان يكون في نضال مستمر مع نفسه ليعمق فكرته ويعيد النظر فيها دوماً فيحذر من ان يخدع نفسه وان يجبن عن المزيد من الجرأة والمزيد من التوغل في طريق فكرته الانقلابية حتى يصل الى الصفاء الخالص والصدق التام..
هذه الاسئلة تأخذ القضية كما قلت من وجهة نظر تجزيئية، وهذا ما يجب ان ننتبه اليه محاولين دوماً ان نعيد الى قضيتنا القومية وحدتها، وعلى هذا الاساس اجيب الاخوان الذين سألوا عن سبيل تحقيق الوحدة العربية وعن علاقة ذلك بالاشتراكية وعما اذا كانت الوحدة تسبق الاشتراكية وعما اذا كان ثمة علاقة بين الهدفين.. اقول بناء على نظرتنا الموحدة للقضية العربية: لا نعتقد ان بالامكان الفصل بين الوحدة العربية والاشتراكية، ان الوحدة العربية أعلى وأغلى في مراتب القيم من الاشتراكية. ولكن مطلب الوحدة العربية يبقى لفظاً مجرداً واُلهية، وفي بعض الاحيان خداعاً مؤذياً، اذا لم يوضع في نصابه الحقيقي، اي اذا لم يوضع على الصعيد الشعبي، اذ ما من قوة تستطيع تحقيق الوحدة غير الشعب العربي.
ليست الحكومات وليست الدول الأجنبية وليس السياسيون ولا المفكرون بقادرين على ذلك وإنما الشعب وحده، جماهير الشعب هي التي تستطيع تحقيق هذا المطلب الخطير، فكيف يمكن ان يتحرك الشعب لحمل هذا المطلب الثقيل، وهو رازح تحت هذه الاوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟
فتوحيدنا اذاً بين الوحدة والاشتراكية هو مثل اعطاء جسم لفكرة الوحدة. الاشتراكية هي الجسم، والوحدة هي الروح، اذا صح التعبير والتشبيه. فان القوى التي لا حصر لها، المعادية للوحدة العربية، القوى التي تعاديها عن وعي وتصميم (والقوى الاستعمارية والصهيونية من أخطرها) والقوى الداخلية المستعبدة للمصالح والتي تضحي بأغلى المصالح والاماني القومية في سبيل مصلحتها الخاصة، هذه القوى جميعها الواعية في عدائها للوحدة، يضاف اليها كل ما في مجتمعنا من جمود ومن جهل ومن رواسب وعادات كلها تشد الى الوراء، وكلها تجبن عن التجدد وتخشى أي خطوة جديدة فيها تعب وفيها تضحية.. كل هذه الآراء الشتيتة والعصبيات المختلفة: الطائفية والاقليمية والفكرية التي تجزئ وتقطع بنياننا القومي.. كل هذه الحوائل والعوائق ضد الوحدة، وان لم تكن ارادية واعية، لابد لنا لكي نقوى على مجابهتها وقهرها من الاعتماد على قوى حية، قوى في مستوى هذه العوائق.. وليس من قوة حقيقية يعتمد عليها غير قوة الشعب. والشعب كما قلت اذا سلمنا بأن عاطفته ايجابية نحو الوحدة، وهذا شيء طبيعي، فماذا تجدي العواطف، اذا بقي هذا الشعب عاجزا مكبلا؟ ولكننا اذا حركناه للنضال، في سبيل حياة حرة كريمة، واذا عودناه التمرس بهذا النضال، ثم استطعنا ان نجد ضمن هذا النضال منفذاً للوحدة.. وهذا الامر ميسور وطبيعي جداً – فعندئذ تصبح الوحدة موضوعاً عملياً وتصبح مطلباً واقعياً. لذلك لم يكن حزبنا حزباً اشتراكياً فحسب، ولم تكن الاشتراكية اول صفة له، فهو حزب عربي، حزب بعث عربي، والبعث هو الانقلاب كما تعرفون، وكل مطلب آخر نفهمه ونُفَهِّمه للشعب انما هو منبثق من خلال هذه النظرة، نظرة اننا نسعى الى بعث عربي، الى انقلاب عربي.. وفي نضال الحزب لم نغفل هذه الآراء لحظة واحدة، وفي كل قرية وفي كل معمل حيث العمال والفلاحون يناضلون في سبيل حياة أفضل، في انتزاع حقوق مغصوبة لهم.. يردد الجميع بأفواههم ويشعرون بقلوبهم، ويعرفون أن ذلك ليس إلا وسيلة وخطوة نحو هدف أعظم، هو توحيد الوطن العربي.. وهذا التوحيد ليس الهدف النهائي ولكنه بدوره وسيلة لكي تقوم الأمة العربية بمهمتها في الحياة.. وهذا المزج بين الهدفين، شيء اساسي نحرص عليه دوماً، ولكننا نعرف ان التطبيق لا يأتي دوماً صادقاً كل الصدق، متفقاً كل الاتفاق مع الخطة او التصميم الموضوع له.. فأحياناً يرجح مطلب على آخر، وتكون الظروف في بعض الاحيان سبباً في هذا التفاوت بين مطلبين لا يجوز الفصل بينهما ولا الترجيح.. تأتي ظروف مواتية لانتشار وتوسيع النضال الاشتراكي كما تأتي ظروف اخرى مواتية لتوسيع النضال الوحدوي – هذا شيء لا مفر منه اذا بقي في هذه الحدود، اذ أن الواقع يختلف تماماً عن التصميمات النظرية، ولا نستطيع دوماً ان نتحكم في الظروف، بل واجبنا ان نحسن الاستفادة من كل ظرف على افضل وجه ممكن.. وهناك أخطاء لا تعزى الى الظروف وانما الى الحركة نفسها، أي ان افرادها أو بعض أعضائها يكون فهمهم لوحدتها فهماً ناقصاً سطحياً. فمنهم من يعتقد ان الاشتراكية هي ارجح وافضل وأن الوحدة تأتي في الدرجة الثانية، ومنهم من يرى العكس، ولكن الشيء الذي يهمني التنبيه اليه، هو أن نكون حذرين كل الحذر أمام من يتذرع تذرعا ببعض الاهداف أو المطالب أو القيم القومية لإخفاء مصالحه الخاصة.. للدفاع عن مصالح خاصة سواء أكانت هذه المصالح ضخمة أم صغيرة.. فالاجتهادات الفكرية ليست دوماً فكرية، وكثيراً ما تخبئ وراءها المصالح والاهواء الشخصية. او ليس مما يدهش أو يدعو إلى شيء من التساؤل والتشكك أن نرى ذوي المصالح الاقتصادية في الوطن العربي -أكثرهم أو بعضهم- يتحمسون للوحدة العربية تحمساً مشبوهاً، لا يُقْصَد منه أكثر من ضرب الحركة الاشتراكية، ومن إلقاء الشبهة عليها، وإثارة الريب حولها بأنها معيقة لتحقيق الوحدة ومبعثرة للجهود ومشتتة للأفكار، وأن أوانها لم يحن بعد، وأن الوحدة اذا تحققت كفيلة بحل كل هذه الصعوبات؟
ثم لننظر الى هذا الوهم الآخر: هل صحيح أنه اذا تحققت الوحدة فالاشتراكية وكل الامور الاخرى تتحقق؟ ليس هذا صحيحاً ولا مضموناً، وفي التاريخ وحدات قومية تحققت على أساس رجعي إقطاعي تعصبي.. على أساس الإستغلال وإحتقار الفرد والمواطن والحرية.. فهل نحن نؤمن بالوحدة كصنم أم نؤمن بها على أنها وسيلة لتحقيق رسالة الامة؟ .. فاذا لم تظهر من الآن ملامح الامة العربية الجديدة التي نريدها انسانية حرة إيجابية.. إذا لم تظهر هذه الملامح منذ الآن – والسياسيون جلهم من طبقة ذوي المصالح المجرمة- فمن يضمن لنا أنها سوف تظهر عندما يحقق السياسيون الرجعيون الوحدة؟ أم انهم سينشئون دولة للعبيد مرة أخرى؟ اننا لا نفصل بين أهدافنا البعيدة ونضالنا الحاضر في سبيل تحقيق هذه الاهداف. ان ما نريده لامتنا بعد عشرات السنين يجب ان يظهر ولو بشكل موجز مصغر، يجب ان يظهر منذ الآن في نضالنا، نريد أمة حرة كريمة تؤمن بالانسانية والقيم العليا.. لها رسالة.. رسالة خَيِّرَة. فلا يمكن ان نتجاهل هذه القيم اليوم ونرجئ تطبيقها الى حين تحقيق اهدافنا بعد عشرات السنين.. واذا كانت هذه القيم لم تتجسد في نفوسنا واعمالنا منذ ان بدأنا النضال ووعينا هذه القيم، فاننا لن نحققها في يوم من الايام في المستقبل.. فالإنقلاب العربي ليس هو الذي يتحقق عند ما يستلم حزب انقلابي الحكم في البلاد العربية كلها.. الانقلاب العربي يبدأ وفي نفس اللحظة منذ ان تتكون فكرة الإنقلاب في اذهان الطليعة. وكلما زاد عدد افراد هذه الطليعة وجب أن يزداد تجسيد هذه القيم في تفكيرهم وسلوكهم النضالي.. عندها يكون استلام الحكم ثمرة لاختبار طويل طبيعي صادق بين هذه الافكار وبين حياة الشعب، ولا فرق بين الانقلاب وأدوات الانقلاب، الذين هم المناضلون وهم افراد الشعب. اذا لم يكن المناضلون محققين لقيم الانقلاب منذ البدء، فمن المستحيل أن نصدّق بأنهم سيتغيرون عند إستلامهم الحكم، بل أن السلطة والقوة عرضة للاغراء ومجلبة لضعف النفس بدلاً من رفعها الى مستوى تلك القيم.
سؤال (2): كيف يمكن ان نعلل نضال الشعب العربي في المغرب بينما هو يعيش في فقر، وحزب البعث يعتبر الاشتراكية شيئاً اساسياً في النضال العربي؟
– لم اقل بأنه يجب ان يرتفع مستوى الشعب المادي حتى يستطيع النضال. واقع الحوادث وتاريخ حركتنا يدل على ان مستوى الشعب يرتفع نتيجة للنضال، وكلما ناضل استطاع تحقيق شيء من التحسن في أوضاعه، وكلما كان النضال محققاً لمستوى اقتصادي اعلى كلما كان اقوى واجدى. ان نضال المغرب لا يشذ عن القاعدة بل هو اقوى دليل عليها. نضال اقطار المغرب الثلاثة يتجلى بأكمل صورة في نضال احد هذه الأقطار وهو الجزائر، مع ان الاوضاع في تونس ومراكش كانت احسن بكثير من حيث الحرية، من حيث الوضع الاقتصادي، من حيث مستوى السيادة السياسية.. فتونس ومراكش كانتا في مستوى المحميات، في حين ان الجزائر كانت تحكم حكماً مباشراً ويُفنى شعبها ويُجلى عن أرضه ويتحمل كل انوع الاضطهاد.. فكان نضال تونس ومراكش شبيهاً بنضال العراق وسورية زمن الانتداب الفرنسي والبريطاني، لذلك لم يعط هذا النضال كل نتائجه، وتوقف عند حد وسط من المساومة والمفاوضات كما هو معروف لديكم، وقبلت تونس في العام الماضي بعد ثورة سنتين وتضحيات هائلة.. قبل زعماؤها باتفاقية لا تغير شيئاً أساسياً في الوضع، وتبقي لفرنسا السيطرة على كل شي، وانما سمحت ببعض الاستقلال الذاتي كأن تكون للتونسيين وزارة ومجلس ثم عاد زعماء تونس فحصلوا على تعديل لهذه الاتفاقيات، وانتزعوا حقوقاً جديدة بفضل نضال الجزائر. كذلك مراكش يقال فيها نفس الشيء.. ففي تونس ومراكش، الحركة الاستقلالية ليست شعبية بالمعنى الصحيح لان قيادتها ليست شعبية.. الشعب يناضل ويدفع الثمن، ولكن القيادة هي تلك التي كانت منها طبقة النضال في سورية ولبنان والعراق.. طبقة اقطاعية بورجوازية. وهذه الطبقة تحارب الاستعمار: عين لها على العدو وعين على تجارتها واملاكها، لذلك لا يمكن ان تصل في النضال الى آخره. ويأتي يوم تصبح فيه هذه القيادة التي عرفناها هنا وعرفها الشعب العربي في مراكش وتونس، تصبح قيادة النضال هذه خائفة من الشعب عندما يزداد نضال الشعب، اكثر مما هي خائفة من الاستعمار. اما في الجزائر، فالاستعمار نفسه حل المشكلة، لانه منذ قرن وربع القرن يعمل على افناء الشعب العربي هناك وعلى حرمانه من أبسط عوامل البقاء لتحويل هذه الأراضي العربية الى أرض فرنسية يستغلها الفرنسيون ويتكاثرون فيها.. ولكن العنصر العربي فيه صمود وفيه حيوية، وقد اوصله الاستعمار الى حالة يستوي فيها الموت والحياة. هذه هي الحالة الثورية الممتازة: إن العرب في الجزائر يقبلون على الموت لانهم لا يخسرون شيئاً وقد يكسبون كل شيء. اذا خسروا فحياة ذليلة، وان كسبوا فحرية واستقلالاً ووحدة مع مجموع امتهم. والاستعمار الفرنسي لم يبق طبقة ارفع من طبقة، فكلهم في الفقر وفي الذل سواء. ولذا كانت اهدافهم القومية ومصالحهم الاقتصادية مترابطة كل الترابط، وكان نضالهم من اجل الحرية والاستقلال نضالاً من اجل أوضاع مادية أفضل في وقت واحد، فكان نضالاً جدياً وشاملاً، وهذا يدل على أن الوضع المادي هو اساس التحرر، فحيث لم يصل الوضع المادي الى هذا الحد من الانخفاض – في تونس ومراكش حيث المستوى أرفع- لم يكن النضال شاملاً.
اما في الجزائر فانه نضال شامل، لأنه نضال حياة أو موت، وخلاص المغرب العربي هو بيد الجزائر، لأنها هي البقعة الثورية الصحيحة التي لا يمكن ان تتراجع عن الثورة مهما حشد الاستعمار من قوى لإبادة هذه الثورة. فالشعب هنا إما ان ينال حريته أو يفنى ولن يفنى إذ أن استمراره في النضال سيحرك جميع العرب وسيكون الظفر له آخر الامر.
وإني أعود لأُلح على اهمية الاوضاع المادية لان الشباب المثقف يعيش في وضع هو نسبياً مريح، لذلك قد تنشأ عنده أوهام لها نتائج خطيرة عندما يفكر في قضيته القومية – فالأجدى والأجدر بالشباب ان ينـزل الى صفوف الشعب بين الحين والاخر، وان يتصل بالفلاحين في القرى وبالعمال وبالطبقة الفقيرة، وان يتعلم منها، لأن في حياتها دروساً كثيرة رائعة، لا يستطيع الشباب ان يتعلموها في المدارس.. فالأوضاع المادية ليست مادة وانما هي الروح. عندما يصل الإنسان الى حالة يصبح معها كأنه شيء وليس بشرا.. عندما تعوزه أبسط الوسائل للإبقاء على الحياة في نفسه وللابقاء على الحياة في اسرته، فان نضاله عندئذ في سبيل تغيير هذا الوضع، وفي سبيل رفع مستواه، هو نضال من أجل إرجاع انسانيته.. فالأكل ليس للأكل، والدواء ليس لتسكين الألم، وإنما ليعود الانسان انساناً يمارس مهمته كانسان، فيجدر بنا أن لا نستهين بالوضع المادي، بل نعتبره أهم تعبير عن واقع الانسان..
سؤال (3): كيف يمكن أن تتحقق الوحدة العربية؟ إن الأفكار التي ذكرها الاستاذ تحاج إلى وقت طويل لتتحقق، بينما “اسرائيل” خطر داهم وقريب جداً؟
– كنت أعطي بعض الملاحظات العامة عن نظرتنا الى الوحدة ونظرة الآخرين إليها، وعن علاقة الوحدة بالإشتراكية، ولكني لم أتعرض بعد للخطوات العملية، وأسارع إلى القول بأننا لا نذهب إلى أن الوحدة العربية ستتم دفعة واحدة، بل أن الطبيعي والمعقول أن تتم على مراحل، ونحن نقول بهذه النظرة ، نظرة المراحل، ونعمل بها ولها: فالاتحاد بين قطرين او ثلاثة هو مرحلة يجب ان تنصبّ عليها كل جهودنا حتى تثمر، وهي بدورها ستسهل الوصول إلى مرحلة أعلى، إلى توحيد اوسع وأبعد.. وأعتقد بأن سياسة الحزب في هذه الناحية ليست مجهولة، فالحزب قبل سبع سنوات وافق على مشروع الإتحاد بين سورية والعراق ضمن شروط، وفي السنة الماضية طرأت ظروف سياسية معروفة جعلت تحقيق هذا المطلب متعذراً الآن. وقال الحزب بإتحاد يقوم بين اقطار متحررة كل التحرر من النفوذ الاستعماري ملتقية في سياستها الخارجية والعربية.. أن يكون بين هذه الأقطار إتحاد أو ما هو قريب من الإتحاد. وهكذا ساهم الحزب في مشروع الميثاق العربي، الذي كان مقدراً له منذ عام أن يضم مصر وسورية والمملكة العربية السعودية.. وقبل شهر من الزمن وُضِع في سورية ميثاق قومي بين الأحزاب، وكان حزبنا يطالب بالإتحاد التام مع مصر، وقد رفضت ذلك الأحزاب الأُخرى بدون إستثناء، وانتهى الجميع الى صيغة ضعيفة قريبة من الميثاق تقول بتوسيع الإتفاقيات بين مصر وسورية والسعودية حتى تشمل إلى جانب الناحية العسكرية، النواحي السياسية والإقتصادية والثقافية. وفي اليوم الذي يتخلص فيه العراق من أوضاعه الشاذة لا يعود شيء أثمن من الاتحاد مع العراق. وأعتقد بأن هذا التحول الذي فرضته الظروف – ظروف خارجية لم يكن لنا حيلة فيها – كان لخير القضية، إذ أنه قرّب بين مصر والأقطار العربية الاخرى، واختصر الزمن مسافات طويلة. وهذا التفاعل الذي نراه ونلمسه بين مصر التي كانت مغرقة في الإنعزالية، وبين الأقطار العربية الأخرى هو من الحوادث الخطيرة، التي تدعو الى الاستبشار، وليس لنا إلا أن نشجع هذا التفاعل بكل قوانا. أما القول بأن خطر إسرائيل لا يسمح بالإنتظار عشرات السنين فيحتاج الى توضيح.
إننا عندما نقول بأن اهدافنا تتطلب عشرات السنين حتى تتحقق، فليس يعني ذلك بأننا سنبقى ضعفاء نحرص على التجزئة وعلى كل الاوضاع الراهنة حتى تتحقق جميع الاهداف دفعة واحدة. فالأهداف الإنقلابية – كما قلت- بدأ تحقيقها منذ اليوم الأول لوجودها في افكار الأفراد، وهي في تفاعل مستمر مع الشعب، والشعب يضغط على الأوضاع الرسمية لتستجيب له، بقدر ما يكون في ضغطه من قوة. انني ما أردت من قولي إن عشرات السنين تنتظرنا، إلا أن أُبين أن اهداف الإنقلاب العربي اهداف أصيلة وصعبة وجدية، تحتاج إلى نضال طويل حتى نصل إلى ذلك المستوى الجدير بأمتنا، لان مطلبنا ليس هيناً.. ان مطلبنا ببساطة هو أن تعود الأمة العربية للمساهمة من جديد فى الحضارة الإنسانية.
أذكر أننا قبيل معركة فلسطين الأولى، قبيل قرار التقسيم وبعده، وقبيل الحرب في سنة 1948، عندما كان حزبنا يطالب ويلح في الطلب على الحكومات العربية لكي تعد الاعداد اللازم لمواجهة تلك المعركة، ويؤكد أن مواجهة المعركة في فلسطين تستوجب تحرير الشعب داخل الأقطار العربية لأن المستعبد لا يستطيع ان يحارب.. أذكر أن الرسميين في البرلمانات وفي دعاياتهم كانوا يجيبوننا دائما هكذا: “هل من المعقول أن نفكر في أمور أخرى غير الحرب أمام خطر أكيد داهم كالخطر الصهيوني”؟ وهذه مغالطة شنيعة لأن الحرب غير ممكنة، إذا لم يقم بها الشعب، والشعب لا يقوم بالحرب اذا لم يكن شاعرا بالحياة وحاصلاً على الحد الادنى من
الحياة.. وبعد النكبة تغيرت دعايتهم: “نحن الآن مشغولون بالإعداد لاسترداد أرضنا من العدو” والحجة أو الغرض في كلتا الحالتين هو عدم التعرض لهذه الأوضاع الفاسدة. قبل النكبة ليس هناك وقت والخطر مداهم. وبعد النكبة ليس هناك وقت للتفكير أيضاً في الحلول الجذرية، وإنما يجب أن نعد الوسائل الممكنة لمواجهة الخطر..
لقد حان الوقت اذن لكي نكشف المغالطة والخداع في هذا المنطق، فبدون نظرة جذرية إلى أوضاع الشعب لا تكون هناك مقاومة جديّة للخطر الصهيوني.. بدون رفع المستوى الإقتصادي، بدون التوحيد الممكن لبعض الاقطار العربية، لا يكون للدخول في معركة فعلية مع الصهيونية معنى جديّ.
فالخطرالصهيوني – فيما اعتقد لن يجد متحمسين ومستعدين لمواجهته مثل هذه الفئة الانقلابية ومثل الجمهور الشعبي الذي يتبعها، لأنه بدأ يدرك معنى الحياة القومية والرابطة القومية.. ونحن- مع علمنا بأن مشكلة بقاء الصهيونية في فلسطين قد لا يحل هذا العام حتى لو وقعت حرب، إذ أنها تتطلب تحقيق مستوى أعلى من النضال، من الإمكانيات المادية والمعنوية- فإننا لن نتأخر عن خوض المعركة ولو كانت بعد أشهر، فان اعتقادنا راسخ بأن المعركة إن وقعت قريباً أو بعيداً فستكون محررة لا لفلسطين وحدها، بل للوطن العربي كله، لأن الشعب عندما يدخل ساحة النضال لن يكتفي بالقضاء على عدو واحد.
وبهذه المناسبة أقول: إن نظرتنا إلى الوحدة العربية تجعلنا نهتم بنضال الجزائر مثل اهتمامنا بقضية فلسطين، في حين أن الحكومات- كما تعرفون- تؤجل وتتجاهل هذا النضال العظيم الذي يخوضه الشعب العربي هناك، فتنظر إليه نظرة مادية سطحية جداً، بحجة حل مشاكلنا الداخلية أولاً، مع أن المعركة في الجزائر لا تتطلب غير شهور حتى تنتهي بالظفر فيما لو أُمدّت بالعون اللازم..
عام 1956
[1] حديث في النادي الثقافي ببيروت في شباط 1956.فكرتنا في طريق التحقيق
أيها الاخوان
بعد ان قطع الحزب أشواطاً من حياته، ودخلت فيه أجيال جديدة متعاقبة صرنا نشعر بالحاجة الى أن نلقي بين الحين والآخر نظرة على تاريخ الحزب، لكي يعرف الأعضاء الجدد ولكي يتذكر الأعضاء القدامى الغاية التي من أجلها وُجد هذا الحزب، لكي يحاكموا بأنفسهم، ويروا هل الحزب سائر في الطريق الموصل إلى هذه الغاية؟ وأي حد قطع من الطريق؟ وهل اضطرته الظروف والحوادث والاصطدام بالواقع أن يغير ويعدل من فكرته الأساسية ومن غايته؟ وهل بالتالي هذا التعديل والتغيير اللذان طرأا على الحزب، هل كانا لا مناص منهما، وهل كانا في مصلحة الحزب أو لا؟..
أيها الاخوان
أستطيع أن أقول لكم وأنتم شباب هذا الحزب أكثر مما استطيع أن أقوله لغير الشباب: أن الغاية التي كانت تنبعث في وقت واحد من الحاجات العامة ومن نفوس تلك الطليعة التي تقدمت لحمل المسؤولية كانت ترمي إلى خلق شيء جديد وجدي وكبير في حياة العرب.
ولعل تعليل ذلك.. تعليل هذا الطموح الذي داخل النفوس إذ ذاك، يرجع إلى طبيعة المرحلة القومية والى الآلام الكثيرة والحادة والعميقة التي كانت تنتاب حياة الأمة العربية. وكان ثمة شعور غامض يمكن توضيحه بهذا الشكل: بأن مثل تلك الآلام يجب أن تزول أو لا تبقى مسبباتها، ويجب بالتالي ان يخرج من الظفر عليها وضع جديد بل صورة جديدة لحياة العرب، لا يستبعد أن تصبح صورة جديدة لحياة الانسان بصورة عامة.
وكان وراء هذا الشعور اعتقاد بأن أي شعب، وأية أمة إذا أخلصت لنفسها، وأخلصت في فهم أحوالها ومشاكلها وفي تبين طريقها فإنها بهذا الإخلاص، بهذا الجد، بهذه الصراحة التي تواجه بها نفسها ومشاكلها انما تلامس علاوة على نفسها، نفس الإنسانية، وتصل إلى أبعد من مشاكلها الخاصة وحل هذه المشاكل.. انها تصل إلى شيء يشترك فيه كل الناس.
فالإنسانية ليست شيئاً عائماً في الهواء، وإنما هي متجسدة دوماً في حياة البشر، وفي حياة الأمم، وان كل أمة تستطيع أن تمثل الإنسانية في بعض ظروف حياتها وتاريخها.
كانت هذه الفكرة تجول بصور مختلفة من حيث الوضوح والغموض، في نفوس جميع الشباب الذين لـبّوا دعوة الحزب عندما ظهر ووجّه نداءه إليهم. والشباب المثقف هو بطبيعته مؤهل لأن يسمع هذه الدعوة، وان يطمح مثل هذا الطموح، لأن سن الشباب، وتجرد الشباب عن شتى المصالح التي تعلق بالأفراد بعد أن يكونوا قد انغمسوا في مشاكل الحياة، وثقافة الشباب، كل هذا، السن -والتجرد عن المصلحة- والوعي الناتج عن الثقافة.. يؤهل لتكوين ولقبول هذه النظرة البعيدة في مراميها، والجريئة في طموحها والبسيطة أيضاً، إذ لو لم تكن بسيطة في نظر هؤلاء الذين لبّوا نداءها لما اقبلوا عليها، ولما صدّقوا إمكان تحقيقها.
ثم يمر الزمن، ويتسع الحزب، ويثبت وجوده، فتضطره قوته نفسها والثقة التي خلقها في نفوس الشعب.. تضطره إلى النـزول من ذلك الصعيد الفكري، والى التفاعل مع الواقع ومشاكله، فلا يمضي وقت حتى يشعر الحزب أنه لم يعد كما كان، وانه تنازل عن أشياء من طموحه الأول، ومن سلامة تكوينه وتفكيره وأسلوبه، وانه لم يعد مسيطراً على نفسه كما كان في البدء.. اذ أنه في البدء لم يكن لديه الا الفكرة والإيمان يتسلح بهما، وينظر إلى مجموع الأمة، والى جميع ما يحيط بها ويتداخل فيها من مصاعب ومن آلام ومن أمراض، وإلى جميع القوى الخارجية والداخلية المعادية ليقظة الأمة وانبعاثها -كان ينظر إلى كل ذلك من علٍ ويشعر بأنه أقوى من كل هذه المصاعب. فلما اضطرته قوته نفسها -كما قلنا- أن ينـزل ويدخل صميم المعركة وصميم الواقع، لم تعد له تلك الثقة الأولى بأنه مسيطر على هذه المصاعب، وأنه هذا الجسم السليم الذي يستعد لمكافحة المرض ولخلق البنيان الجديد، بل أخذ يداخله شعور بأنه قد أختلط بالجسم المريض وأنه أصبح مزيجاً من تكوينه الأول ومن تكوين المجتمع، وان المرض قد يكون دخل اليه أيضاً.
هنا، لا بد من التساؤل، واعتقد أنكم تطرحون على أنفسكم هذا السؤال دوماً: هل اخطأ الحزب وضل الطريق؟ هل كان الأجدر به أن يبقى على حاله الأولى، وان يبقى محتفظاً بتلك الثقة بالنفس.. بذلك الوضوح بالنظر.. بتلك البساطة التي كانت تصور له المشكلة جلية واضحة، وتشعره بأن حلها ممكن وواجب؟..
هنا نلمس نقطة الأزمة في نفوس الشباب، وهي أزمة الشباب في كل مكان وفي كل عصر.
من الطبيعي -أيها الاخوان– ان أية حركة مهما تكن صادقة وقوية، لا تستطيع أن تغير شيئاً في وسط تبقى بعيدة عنه لا تدخله، ولا تصبح جزءاً من دمه ولحمه.. إذ لا يحصل التأثير الا بهذا التماس وهذا التفاعل. فلكي تغيروا الوسط يجب أن تدخلوا في هذا الوسط، وان يكون بينكم وبينه صلة حية، وإلاّ تبقى الحركة حركة وعظ لا طائل تحته. فما يحسبه البعض خسارة كان يجب تفاديها هو في الواقع ربح وتقدم. لأنه بدون هذه الخطوة.. بدون هذا التفاعل مع الوسط تنعدم في الفكرة كل إمكانية للخلق وللتأثير الفعال الجدي في وسطها، فهناك بعض الثمن لا بد من دفعه لكي تنتقل الفكرة من المجردات إلى الحياة.
والحياة -ايها الاخوان – لا ترينا الأشياء الكاملة الناصعة الا في الكتب، وعلى الورق، وفي الآثار الفنية، اما في الواقع البشري فليس ثمة أشياء كاملة لان الحياة بطبيعتها لا يمكن أن تكون كاملة، ولو كانت كاملة لكانت موتا. فحبذا لو تمعنون النظر في هذه الملاحظة وتحاولون ان تروا هذا التحول الذي لا يظهر للعيان ولا يلمس لمس اليد، ولا بد من إعمال الفكر، ولا بد خاصة من المعاناة والتجربة لكي يدرك المرء بأن ما بدا له أنه خسارة لم يكن في الواقع الا تحولاً من مظهر الى مظهر آخر.
والنظرة التي يجدر بكم ان تنظروها وتستمسكوا بها كجيل مناضل، وجد ليعمل وليغير أوضاع أمته تغييراً أساسياً، لا ليقف عند حد التأمل والتمني.. إن النظرة الجديرة به هي هذه: الافضل ان نتنازل عن شيء من كمال الصورة الأولى شريطة أن تدخل فكرتنا في العمل وتتجسد وتتحقق من أن تكون لنا فكرة كاملة وان تبقى على الورق.
عندئذ -أيها الاخوان- يتاح للشباب أن يصبحوا رجالاً، وعندئذ فقط يكون الشباب وتكون سن الشباب قد أدت مهمتها على أحسن شكل، إذ كانت الخطوة الطبيعية والضرورية لكي نتحمس لفكرة مطلقة.. لفكرة كاملة.. ونندفع في طريق حملها والتبشير بها والعمل لها..
وعندما ندخل صميم الواقع، ونتفاعل مع هذا الواقع تظهر تلك المرونة التي تجعلنا نتخلى عن بعض الأمور الثانوية في فكرتنا في سبيل أن نحقق الجوهري منها.
أما إذا تجمد الشباب على النفسية الأولى فإنهم لا يصبحون رجالاً.. ولا يبقون شباباً. فالشباب الذي يتجمد على النفسية الأولى بعد أن تكون الظروف قد أتت لكي يتطور معها ولكي ينتقل من طور التفكير والتبشير إلى طور التحقيق.. إن من يرفض هذا التحول الطبيعي ويتشبث بالنفسية الاولى يحكم على نفسه بأن يعيش كالشيخ الهرم الذي يمضي وقته في التذكر وفي البكاء على ما لم يتحقق.. إنهم يفقدون بهذا الرجولة ويفقدون الشباب معاً.
ولكن – أيها الإخوان – بين هذا القول الذي اقوله لكم وبين الظن بأني آتي بمبررات لأخطاء الحزب ولما في الحزب من نواقص.. بين الشيئين فرق كبير. فأنا لا أقول هذا القول لأستنتج منه بأن الحزب هو فعلاً قد خطا الخطوة الثانية الطبيعية، وانه دخل مرحلة التحقيق، وانه يوفيها كل حقها، وان ما فيه من تشويش ومن فوضى ومن عجز ومن تقصير ليس الا ثمناً ضرورياً لهذه المرحلة الجديدة التي دخل فيها، ان هذا بعيد عن تفكيري.
لقد أردت فقط أن أصف لكم طبيعة العمل ومراحل العمل، وكيف أن هذه المراحل رغم أنها يخرج بعضها من بعض ويكمل بعضها بعضاً فهي ليست متجانسة، وليست متماثلة، فكل مرحلة لها دورها ولها شكلها الخاص. وعلى العاملين في حركة قومية جدية أن يقدروا هذا الاختلاف في المراحل، وان يتلاءموا معها. أما ما يوجد فعلاً في واقع الحزب.. في حاضر الحزب فأكثره لا يُبرر ولا يُدافع عنه، ويجب أن ينظر إليه على أنه مرض وتشويه يجب أن يُفهما وان تُفهم أسبابهما وان نجد لكل ذلك العلاج الملائم والسريع معاً.
الا اني اريد ان أربط بين جانب مما نشاهده في الحزب من تقصير ومن تشويه وبين ذلك التجمد الذي أشرت إليه.. ذلك العجز عن التطور.. ذلك النقص في المرونة.. إذ ان بينهما صلة لا بد أن تروها وتعترفوا بها. فالأعضاء الذين لسبب من الأسباب: لنقص في توجيه الحزب لهم، لنقص في ثقافتهم، لموانع شتى حالت بينهم وبين المشاركة الفعلية في حياة الحزب وفي حياة الشعب.. هؤلاء الذين يعجزون عن الانتقال إلى مرحلة التحقيق عندما تتوافر شروطها، ويتشبثون بموقف ظاهره طلب الكمال، ورفض كل تساهل.. هؤلاء الأعضاء بتشبثهم هذا غير الطبيعي وبمكابرتهم وتمردهم على قوانين الحياة -وقوانين الحياة كما أشرنا تشترط بعض التساهل لكي تنتقل الفكرة الكاملة إلى حيز التحقيق- إن هذا التشبث إذا طال، واذا كان القائلون به كثيرين هو الذي يؤدي بصورة غير مقصودة إلى شيء من هذا الخلل الذي نلمسه في حاضر الحزب. اذ ان الحياة لا تعرف التوقف، فما دام أصحاب فكرة الحزب رفضوا أن ينسجموا معها، ويتلاءموا مع مقتضياتها وتطورها، فكأن هذه الفكرة انعزلت عنهم وسارت في طريقها وحدها دون أن يحميها أصحابها وأجدر الناس بحملها وحمايتها، وتمشي وتتفاعل هي مع هذا الواقع، وعندها بدلاً من أن يؤدي الانتقال من طور التفكير إلى طور التحقيق الى التضحية بالجوانب الثانوية في الفكرة.. يؤدي الانتقال عندئذ إلى التضحية بما هو جوهري فيها، والى أمور أساسية فيها، وعندها يقع الحزب في التناقض وتوجد الأزمة العصيبة، لأن الذي رفض أن يتنازل حتى عن الشيء الصغير يجد نفسه في آخر الأمر وقد تنازل عن أكثر الشيء أو عنه كله. فإذا لم نعط الحياة حقها من المرونة، من التساهل المعقول، من الواقعية السليمة التي لا يدركها ولا يصل إليها إلا من يعمل ويعاني العمل، إذا لم نعط الحياة حقها في هذه الأمور فإنها تنتقم بأن تفرض علينا فوضاها وتسد الطريق في وجه فكرتنا، وينعدم التفاعل بين هذه الفكرة المفروض فيها انها أتت بشيء جديد وأصيل، وانها قادرة أن تبدّل واقع أمتنا وتنبت وتخصب منه شيئاً جديداً سليماً، اذا رفضنا هذا التطور فكأننا قضينا على أمل الفكرة بأن تنفذ الى صميم واقعنا وان تخصبه، وتركنا للواقع الفاسد أن يعود وينتصر.. وأقسى انتصار للواقع الفاسد هو ان يتخذ لنفسه عنوان الانقلاب وعنوان الشيء الجديد وعنوان الفكرة الأصيلة.
آذار 1956
وحدة النضال في المغرب العربي
ابتدأ الحديث(1) بتوجيه السؤال التالي: الاقطار المغربية الثلاثة تختلف أحيانا في مراحل الكفاح.. هل من الاحسن ان تتوحد الشعوب فيها قبل الاستقلال ام بعد الاستقلال؟
نظرتنا نحن بأن كفاح الشعب العربي في كل اقطاره واحد، ويجب ان يكون موحداً اي ان تكون له نظرة واحدة، واهداف واحدة وخطة عملية واحدة، وبالاحرى ان تكون نظرتنا الى كفاح الشعب العربي في المغرب هي نظرة التوحيد لانه لا شك ان بين الاقطار العربية المختلفة بعض الفروق في الاوضاع الداخلية وخاصة الخارجية، وهذه الفروق ليست في رأينا مما لا يمكن التغلب عليه من اجل توحيد النضال، ولكن حتى مع التسليم جدلا بفائدة مراعاة هذه الفروق وبالتالي مع التسليم بامكان التدرج في توحيد النضال -اي ان نصل بعد مراحل وتدريجيا الى توحيد نضال العرب كلهم- اعتقد ان لا احد يستطيع ان يجادل في ضرورة توحيد نضال المغرب كله لان اوضاعه واحدة لا فرق بين اقطار المغرب الثلاثة لا في الداخل ولا في الخارج..
اما اذا فهمنا من الفروق اكثر مما تمثل هذه الكلمة، واغرقنا وبالغنا في اعطاء الاهمية للفروق، عندها سنجد فرقا بين مدن سورية وعندها يتعذر كل عمل. اذا رضينا ان نسترسل في طريق التفريق والتمييز واعطاء الاهمية للفروق فان في ضمن القطر الواحد، فروقا بين منطقة واخرى، وهذا الاسترسال في التمييز في عرف العمل السياسي والعمل القومي غير جائز مطلقا.
اذن في مفهوم العمل السياسي والقومي كلمة “فروق” لها حدود لايجوز ان تتجاوزها، ولها مستوى لا يجوز ان تهبط عنه فاذا قيل مثلا ان ثمة فرق بين اليمن وبين باقي الاقطار العربية، لان اليمن معزولة منذ قرون، وفى حالة اجتماعية متخلفة جدا، بقيت على حياة القرون الوسطى الموغلة في القدم، واذا قيل بأن ثمة فرقا تحسن مراعاته بين المملكة العربية السعودية وبين الاقطار العربية الاخرى فأيضا يمكن ان نسلم نوعا ما بهذا الفرق لأنه لم يوجد بعد فى المملكة السعودية ما يسمى رأيا عاما، ما يسمى شعبا ومواطنين.. فالوضع بدوي عشائري، مغلق، معدوم الثقافة، معدوم النور وحرية الرأي، ولكن لا يجوز مطلقا ان نذهب لابعد من ذلك. عندها نكون عمليا كأننا نخضع لمنطق الاستعمار نفسه، الاستعمار الذي يتذرع بفروق ثانوية مصطنعة ليمنع توحيد الامة وليمنع توحيد نضالها ضده، او انه هو يخلق هذه الفروق. وربما ذكرت لكم مرة ان الافرنسيين قبل ربع قرن جعلوا من هذا القطر الصغير سورية خمس دويلات.. كانت سورية مؤلفة من خمس دويلات كان يطلق على كل منها اسم دولة: دولة الشام – دولة حلب – دولة العلويين – دولة جبل الدروز – دولة الاسكندرون.
والافرنسيون هنا حاولوا ان يجربوا فى هذا الشعب كل اساليبهم الخبيثة التي يستعملونها في المغرب، فمثلا حاولوا ان يوجدوا في منطقة العلويين، بعد ان فصلوها عن باقي المناطق، نعرة طائفية وعنصرية، وسعوا كثيرا بدعاياتهم وبكتابات كتابهم ومؤرخيهم ان يبرهنوا ان العلويين من اصل صليبي، انهم ليسوا عربا وليسوا من هذه البلاد، ان المذهب العلوي هو اقرب الى المسيحية.
من حيث المذهب، أرادوا ان يبعدوا مذهبا من مذاهب الاسلام، ومن حيث العنصر أرادوا ان يظهروا العلويين كأنهم اوروبيون.. أرادوا استغلال التفرقة بين الطوائف وضاعفوها اضعافا. كذلك كان من أهم الاسلحة التي يتسلحون بها في احتلالهم لهذه البلاد، ويثيرونها بين الحين والآخر، أنهم جاؤوا لحماية الاقليات المسيحية، وان المسيحيين فى خطر.. حياتهم وممتلكاتهم فى خطر في هذه البلاد، وانهم هم مكلفون بحمايتها. كل هذه الخدع كان يظهر بطلانها وزيفها، وآخر الامر قهرت أمام الحق.
اذن كيف يمكن أن نقبل بالتفكير الذي يقول بوجود فروق بين اقطار المغرب وهي أقطار واحدة..؟ الحياة الاجتماعية.. الحياة الروحية… الحياة المادية واحدة.. الاستعمار واحد.. الاستعمار الذي يضغط عليها، على الشعب العربي هناك واحد. نفس المشاكل التي اصطنعوها هنا وفي العراق ولبنان اصطنعوها في المغرب وخاصة قصة العرب والبربر وهذه كما تعلمون باطلة لان القومية العربية لا تقوم على اساس عنصر أو دم وانما على اساس تاريخ وثقافة مشتركة ولغة واحدة ومصلحة مشتركة في الحياة معا وفي الدفاع عن وطن واحد والعمل لبناء مستقبل واحد.
اذا دققنا كثيرا في أوضاع المغرب نجد، على ما اعتقد، بأن الاستعمارالفرنسي هو الذي أوجد بعض الفروق بين تونس والجزائر ومراكش خلال هذه المدة الطويلة من وجوده. مثلا خلق أو نمى طبقة من الوجهاء، من الاغنياء من ملاكي الارض الاقطاعيين هي اقرب الى الولاء له او المسايرة لوجوده في كل من تونس ومراكش. لم يكن حكما استعماريا مباشرا بكل معنى الكلمة كما هو في الجزائر، لانه بقيت بعض السلطة ولو في حدود ضيقة جدا لأهالي البلاد، أما في الجزائر التي دخلها الافرنسيون بالفتح، وأعلنوا أنها جزء من فرنسا، وفتحوها للهجرة الواسعة، وللاستيطان والتعمير والاستعمار امام مهاجرين افرنسيين وأوروبيين بصورة عامة.. في الجزائر لم يكونوا بحاجة الى تشجيع طبقة بورجوازية واقطاعية، بل بالعكس كانت مصلحتهم في القضاء على هذه الطبقة حتى يزيلوا الشعب من طريقهم ويستلبوا ارضه وثرواته، ويجعلوا العرب في الجزائر بمنزلة الخدم عند الافرنسيين، ويعملوا على افنائهم بالافقارالتدريجي وبالقمع، وجعلهم ادوات للخدمة والعمل لا اكثر.
هذا الفرق بين الجزائرمن جهة وبين تونس ومراكش من جهة اخرى هو لمصلحة النضال، فهو الذي أدى الى ثورة شعبية مئة بالمئة في الجزائركما نشاهد اليوم. هذا الشيء لم يحصل في أي قطر عربي آخر لا في الشرق ولا في الغرب.
الشرق العربي هنا في كفاحه ضد الاستعمار لم يتوصل كفاحه الى ان يكون شعبيا مئة بالمئة، ولذلك كان نضاله مشوبا في كثير من النواحي وكان يتراوح بين النضال الجدي وبين التراجع والمساومة والمفاوضات الكاذبة. لماذا؟ لان في هذه الاقطار طبقة من الزعماء.. من الملاكين الكبار والاغنياء والوجهاء لهم مصالح اقتصادية ضخمة هي هي نفسها تستتبع مصالح معنوية من وجاهة وزعامة وغير ذلك. وهذه الطبقة من اصحاب المصالح لا تستطيع ان تصارع الاستعمار مصارعة جدية حاسمة، بل ان من منطق مصالحها ان تناوش من الحين الى الآخر.. ان تأخذ وتطالب كما يقال، تأخذ شيئا، ثم تهدأ، ثم تعود لتطالب وهكذا. وكانت تدفع الشعب.. تحمس الشعب لمقاومة الاستعمار، لان الشعب بغريزته مقاوم للاستعمار. واحيانا كان هو الذي يدفعها، ولكن متى حصلت على بعض المكاسب البسيطة كانت تتخلى عن الشعب الثائر وتضطره الى الاستسلام. في حين ان الوضع في الجزائر اليوم هو وضع ثورة شعبية اذ لا يوجد هناك هذه الطبقة المميزة من الشعب العربي. لم يكن هناك فروق واضحة بارزة بين افراد الشعب العربي في الجزائر وقد تساووا جميعا في الفقر وفي الخضوع للظلم، ولذلك ثاروا معا.
فاذا قيل بأن ثمة فرقا بين وضع تونس ووضع الجزائر، أو بين وضع مراكش ووضح الجزائر، نقول: نعم، ولمصلحة القضية هذا الفرق، ويجب ان تتبع تونس الجزائر، وان تكون الجزائر المقياس في النضال لان وضعها أسلم قوميا ونضاليا، ولأن هذه الثورة الهائلة في الجزائر هي اكبركسب لتونس ومراكش، اذا عرف الزعماء في تونس ومراكش كيف يستفيدون من هذه الثورة. فالعرب في الجزائر وصلوا فعلا الى الحد الممتاز ثوريا الذي يعتبر أميز حالة ثورية، وهي عندما يتساوى الموت والحياة، او عندما يصبح الموت أثمن من الحياة أو السبيل الوحيد الى الحياة، أو كما تقول الماركسية في البيان الشيوعي المشهور: بأن العمال -البروليتاريا- ستخوض الحرب ضد الرأسمالية، وهي حرب مضمونة النجاح.. لماذا؟.. لان العمال ليس لهم شيء يمكن ان يخسروه.. يمكن ان يفقدوه.. لم يعودوا يملكون شيئا يمكن ان يدافع عنه. البيان الشيوعي يقول: ليس لهم ما يضيعون الا قيودهم وأغلالهم. وهذا هو وضع الشعب في الجزائر. وهذا ما يبين لكم خطأ ومحاذير تزعم الطبقة البورجوازية للنضال القومي، رغم ان زعامة هذه الطبقة في بعضى الاحيان لا يكون منها مناص، أي ان المرحلة تقضي بها. في سورية، في العراق، في مصر: الطبقة البورجوازية هي التي تزعمت النضال ضد الاستعمار… الوجهاء عامة، التجار، الاقطاعيون، ليست هي التي حاربت وانما وجهت الشعب الى الحرب. في تونس ومراكش الامر تقريبا من هذا النوع، فالمتزعمون للنضال القومي ضد الاستعمار هم من هذه الطبقة، لذلك حتى بعد ظهور الثورة في الجزائر -وهوحادث فريد من نوعه ومليء بالامكانيات- لم يجرؤوا على الاستفادة منه ليتابعوا النضال ويحصلوا على اكثر مما حصلوا عليه، خوفا على مصالحهم من أن تتهدد. وأعود لأذكر لكم أشياء ربما ذكرتها في الماضي، بأن ظروف هذه المرحلة النضالية في حياة المغرب العربي ظروف مواتية جدا، ومشجعة جدا، لان فرنسا في حالة انهيار ونضوب، وانه في حالة تضامن الاقطار المغربية الثلاثة تعجز فرنسا عجزا صريحا عن المقاومة، فليس لديها الامكانيات العسكرية والاقتصادية الكافية لشن حرب. والدليل هو ما تشاهدون الان رغم تجزئة النضال، ورغم براعة السياسيين الفرنسيين من جهة، وقصر نظر بعض الزعماء في تونس ومراكش الذين رضوا ان يجزئوا النضال، رغم ذلك الشعب الفرنسي بكليته او بقسم كبير منه يثور على حكوماته ضد هذه الحرب في المغرب العربي، ويؤيد الى حد ما استقلال هذه البلاد، ويطلب بأن تكف الحكومة الفرنسية عن هذه الحرب التي ليس فيها الا الخسارة وضياع دماء الافرنسيين، وبعض الافرنسيين ينضمون الى الثوار او يشجعونهم.
ما دام الامر قد وصل الى هذا الحد فان توحيد النضال كان يمكن ان يختصر الطريق، وان يضع فرنسا امام الامر الواقع، بأن تسلم لمطالبنا، وفي أقل الاحتمالات واسوئها الشيء الذي يحصل عليه العرب في نضالهم الموحد هو حتما أحسن مما بحصلون عليه في حالة تجزئة النضال وانفراد كل قطر بالمفاوضة.
هذا من حيث علاقة النضال بالتحرر من الاستعمار: توحيد النضال هو من كل الوجوه أحسن واكثر نفعا. ولنأخذ من الناحية الاخرى، بالنسبة الى حياة الشعب العربي هناك.. بالنسبة الى العرب انفسهم بصرف النظر عن الاستعمار. ما دمنا مؤمنين ان الاستعمار زائل هذه السنة أو بعد سنوات، يبقى الموضوع بالنسبة الى هذه الحياة الاستقلالية التي يسير نحوها عرب المغرب، والتي سيحصلون عليها بلا ريب.. هل الافضل ان يحصلوا على الوحدة الان او بعد الاستقلال؟..
الجواب أقوى من الاول: التوحيد وقت النضال هو التوحيد الصحيح الذي يصل الى اعماق النفوس.. يصهر النفوس والعواطف وكل شيء.. أما بعد أن يستقل كل قطر، ويرتب أوضاعه على أنه مستقل فالصعوبات ستظهر بشكل لا يصدقه العقل.. ستضحك علينا اجيالنا المقبلة، سيضحكون ويتألمون من هذه التجزئة التي صنعها الاستعمار، وصدقها العرب.. ليس العرب كلهم.. ولكن الزعماء، وتمسكوا بها وهي اكبر خطر في حياتهم.
فاليوم ليس الاستعمار هو كل شيء في بقاء التجزئة وفي الحيلولة دون الوحدة، وانما الاستعمار واصحاب المصالح هم في جانب التجزئة، حريصون عليها. عندما يبحث شباب مثلكم يرون ان من السهل التضحية بالمصالح، ولكن بالنسبة الى اصحاب المصالح أنفسهم ليس من السهل التفريط بها. لذلك نعتبر ان الفرصة ذهبية من اجل توحيد المغرب منذ الان.
ولاحاجة الى ان أشرح لكم اكثر من ذلك أنه بالنسبة الى الامم التي طرأ عليها التأخر والانحطاط والجمود اجيالا من الدهر كأمتنا العربية -وهذا شيء لا مجال لنكرانه- احسن حالة يمكن لأمة متأخرة… احسن حالة لها لكي تتوحد ولكي تشعر بشخصيتها وبمؤهلاتها: هي حالة النضال. فالامة العربية هي الان شيء مجرد، شيء في اذهان الجيل الجديد، ولكنها عمليا غير متحققة.. هي حلم في اذهاننا.. في كل مكان فيه شباب مؤمن.. يؤمن ان امته قادرة على الانبعاث وستعود مجموعة حية في المستقبل. ولكن عمليا هل هناك امة عربية متحققة؟.. إنها متحققة ولكن الى حد ضعيف، ولكنها متحققة في كل مكان يوجد فيه نضال، وبشكل خاص اذا كان جديا يواجه الموت في كل ساعة.. في حالة مجابهة الموت ترتفع الغشاوات وكل اثقال الجمود التي تراكمت خلال القرون.. أثقال الجهل والمصالح المختلفة والانانية وغير ذلك.. كل هذه الاثقال التي جعلت منها امة ضعيفة وأفقدتها انسانيتها، وأفقدتها امكانية التجارب مع الحياة وامكانية الحضارة.. كل هذه الاثقال المسيئة السلبية التي حطمت امتنا لا يعود لها وجود في حالة مواجهة الموت. الرجل الذي يقف امام الموت هو الانسان الصحيح.. الانسان الذي في هذه اللحظة يغامر ويستعد للتضحية بحياته -عندها يستطيع ان يكتشف زيف الاعتبارات التي كانت تكبله: العصبيات والمصالح الخاصة.. لان الموت اقوى من كل شيء مصطنع.
امتنا اذن موجودة في كل مكان يحمل فيه افرادها السلاح.
سؤال: مارأيكم في استقلال مراكش؟
اذا قلت ان هذا المنطق في معالجة القضية القومية وانتزاع حقوق الشعب من المستعمر هو منطق خاطئ وضار فاني لا أخص بذلك زعماء المغرب، ومن الواضح جدا ان هذا ينطبق على كل زعماء سياسيي العرب في المغرب والمشرق، خاصة في المشرق. لان زعماء المشرق هم الذين سبقوا، عندما بدأ النضال هنا، بالمفاوضات مع الاستعمار الفرنسي والانجليزي في سورية ومصر والعراق وغير ذلك، ولم يكن المغرب قد وصل بعد الى حد المفاوضات، لذلك فزعماء المغرب اليوم -في مراكش وتونس- لا يفعلون اكثر من الاقتداء بمنطق السياسيين والزعماء في مصر وسوريا. فاذن نحن نستنكر هذا المنطق ونقاومه، وقد قاومناه ونقاومه فعلا في اقطار الشرق العربي، ولذلك ايضا نقاومه في المغرب مقاومة فكرية لاننا ليس بعد حزب هناك حتى يقاوم مقاومة عملية.
صحيح ان اصحاب هذا المنطق من الزعماء لا يمكن ان يسموا خونة، ولا يمكن ان ننكر عليهم كل وطنية وان لا يكون بيدهم بعض الحجج، وهذا شيء نعرفه وقد عانيناه هنا سنين طويلة. فالمسألة ليست بسيطة كما يظن بأن الذين يأخذون بمنطق المفاوضة هم خونة واجراء استعمار، وهكذا تحل المشكلة. كلا، هذا حل مصطنع ومبسط جدا. الذين يأخذون بهذا المنطق هم ايضا وطنيون ويريدون الخير لبلادهم بنسب متفاوته: بينهم المخلص، وبينهم الأشد اخلاصا، وبينهم المتاجر بالوطنية لمنافع خاصة، ولكن بالاجمال، الحركات الوطنية التي يتزعمها البرجوازيون هي حركات وطنية ليست خالصة وليست وطنية واعية كل الوعي… ليست خالصة من المصالح اذن، وتشوبها اعتبارات مصلحية.. ليست واعية كل الوعي لانها لم تبلغ بعد درجة الوعي الثوري الذي يدرك حقيقة امكانيات الشعب ويعتمد عليها ولو انها اليوم غير ظاهرة، ولكن يعرف أنها ستظهر بعد.
هذا ما يميز الوعي الثوري. الوعي العربي الثوري يتطلب النظرة الشاملة الى الظروف العالمية والعربية، ويفترض التنظيم من جميع النواحي، ويفترض مستوى حارا من النضال، مستوى لا يقبل انصاف الحلول وأنصاف التضحيات، ولا يقبل الفتور.
فاذن ان ما نقوله بحق هؤلاء هو انهم ليسوا ثوريين. ولا نقول انهم ليسوا وطنيين، الا أننا نعتقد ان الوطنية الصحيحة هي الوطنية الثورية. لذلك فوطنيتهم ليست صحيحة كل الصحة. لهؤلاء منطقهم، منطق الاخذ والمطالبة -كما قلنا-، ومنطق التدرج على مراحل.. منطق عدم ارهاق الشعب -كما يزعمون- والواقع عدم ارهاق انفسهم واتباعهم أي عدم ارهاق الطبقة البورجوازية نفسها.. منطق توفير شروط حسنة أو صالحة نسبيا في جزء من الأجزاء على امل ان يتمكن هذا الجزء من تغذية النضال في الاجزاء الاخرى، وهذا ما يقال بصدد استقلال مراكش، وما يقال من قبل هؤلاء الزعماء -الذين لايشك باخلاصهم الى حد ما- انه اذا توافرت لمراكش شروط جيدة فباستطاعتها ان تغذي النضال في الجزائر، من سلاح ومن رجال، ومن تأييد دبلوماسي الخ..
هذه نظرية، طبقت هنا في الشرق، وطبقت ايضا في بلاد اخرى، ولكنها غير مناسبة لهذه المرحلة في رأينا. قد نجد عذرا لرجال الكتلة الوطنية في سورية قبل عشرين سنة او اكثر عندما لجأوا الى اسلوب المفاوضة مع فرنسا، وقد نجد مثل هذا العذر -الخفيف طبعا- لزعماء مصر الذين ارتضوا هذا الاسلوب قبل عشرين سنة واكثر وفاوضوا الانجليز على اساس تعاقد ومعاهدة وغير ذلك، اذ انه قبل ربع قرن كان العالم غير اليوم، وكانت الدول الرأسمالية الغربية في حالة ازدهار وقوة، ولم يكن حتى بصيص امل في انهيار سريع لهذه الدول، وزوال سريع للاستعمار. انجلترا وفرنسا بعد الحرب الاولى خرجتا دولتين جبارتين قويتين بمستعمرات هائلة ومصانع وغير ذلك، والبلاد العربية كانت في حالة اغفاء ونوم، في بدء يقظة لم تتوضح بعد، ولم يشتد ساعدها، اما اليوم فما هو العذر والعالم قد تبدل تبدلا اساسيا؟… ففرنسا طرحت من الصف الاول الى الصف الثاني من الدول وبريطانية نفسها زال الكثير من نفوذها وقوتها ايضا ونشأت في العالم دول برمتها لم تكن موجودة او لم يكن لها شأن قبل ربع قرن: هذا الاتحاد السوفياتي الذي كان مشكوكا في أمره قبل ربع قرن، هل يصمد؟… هل يمكن أن يعيش؟.. فاذا به يعيش ويقوى ويصبح قوة هائلة معدلة للقوى الغربية. وهذه شعوب ودول آسيوية كانت في حكم العدم قبل ثلاثين سنة، مستعبدة محكومة بالحديد والنار، ويستغل اهلها كالعبيد، ومتخلفة في كل نواحي الحياة، واذ بها تتابع نضالها وتستفيد من الظروف العالمية وتتحرر وتبني هذا الاستقلال بناء ايجابيا.
وهذا الوطن العربي الذي كان شبه نائم ومتأخرا جدا قطع اليوم اشوطا في التقدم والتحرر. اذن ما يجب ان يدخل في حساب الزعماء في المغرب هو هذه التبدلات الاساسية التي حصلت في العالم وفي وطننا بالذات، والتي هي في مصلحة الشعوب الثائرة والمطالبة بالتحرر.
ترون الان بأن الحكومة التونسية تحاول ان تعيد النظر في الاتفافية التي عقدتها مع فرنسا، وان تحصل على اشياء جديدة وحقوق جديدة. هل هذا كان ممكنا بدون نضال الجزائر وبدون نضال مراكش؟ كلا. أليس وجود النضال في مراكش والجزائر هو الذي سمح للحكومة التونسية التي كانت تحسب قبل عام أنها حققت معجزة ان ترى اليوم انها ارتضت بشيء هزيل؟
كل يوم يأتي بدليل جديد على فائدة النضال ولو كان مجزءا. وعلى ضرورة توحيد هذا النضال لانه يعطي اضعاف ما يعطيه النضال المجزأ.
آذار 1956
(1) حديث مع طلبة المغرب العربي.
دور العمال في تحقيق الوحدة و الاشتراكية
ليس مستغربا(1) في نظرنا ان تشهد ميلاد هذا الحدث التاريخي الذي هو تأسيس أول اتحاد لنقابات العمال العرب في هذا العام بالذات، الذي حفل بالاحداث الخطيرة وبوثبات الشعب العربي الفذة في ميادين التحرر والاستقلال والوحدة القومية. فلقد بنينا عملنا ونضالنا في هذا الحزب منذ خمسة عشر عاما على مسلمة اساسية بسيطة هي ان القضية العربية كل لا يتجزأ. وربطنا بين تحرر الأمة من الاستعمار الخارجي وبين تحررها من الاستثمار الداخلي وبين تغلبها على التجزئة وتحقيقها لوحدتها القومية، وها أن الحوادث والوقائع تجيء عاما بعد عام ويوما بعد يوم مصداقا لسلامة تلك النظرة ومتانة ذلك الأساس الذي بنينا عليه نضالنا. فأية خطوة يخطوها الشعب العربي في سبيل انتزاع حريته وسيادته من الأجنبي الغاصب، تؤدي حتما وبالضرورة الى خطوة او خطوات في طريق تحرر هذا الشعب من الاوضاع الاقتصادية الجائرة المتأخرة، كما تسهل عليه توحيد نضاله في مختلف اجزاء وطنه العربي لتؤدي الى توحيد هذه الاجزاء نفسها.
في العمال العرب تتجسد وحدة القضية العربية– على أن هذه النظرة الموحدة لقضيتنا ظلت حتى الماضي القريب تقابل من الحكومات ومن أكثر السياسيين في بلاد العرب بالاستهجان والتجريح والمقاومة. ولا نستطيع أن نقول أنها ظفرت اليوم ظفرا تاما بل نعلم انه ما يزال امامها كثير من العقبات التي تقيمها في وجهها المصالح الخاصة وأنانيات الحكام ورواسب عقلية التجزئة. واذا كان في وطننا العربي فئة مهيأة لان تتحرر قبل غيرها من هذه المصالح والرواسب، وأن تجسد في تفكيرها ونضالها وحدة القضية العربية، فانها تكون فئة العمال العرب بصورة خاصة وجماهير الشعب العربي الكادحة بوجه أعم، لان هذه الجماهير تعاني بالتجربة اليومية الحية هذه الحقيقة الناصعة وهي أن أعداءها هم أنفسهم أعداء الأمة العربية. فالاستعمار الأجنبي وربيبته إسرائيل والرجعية العربية والحكام الانفصاليون، كل هؤلاء، لئن كانوا متحالفين متضامنين في تآمرهم على حرية الامة العربية وانبعاثها وبقائها، فانما ذلك يعود في النهاية الى غرض واحد هو استثمار جماهير الشعب العربي وتسخيرها لمصالحهم الاستعمارية والاقطاعية والرأسمالية، ومعنى ذلك ان مقاومة جماهير شعبنا لهذا الاستثمار الاجنبي والداخلي هي في حقيقة الامر مقاومة الامة العربية للفناء ودفاعها عن بقائها ووجودها.
الوحدة و الاشتراكية– بالامس كنت أتحدث في بيروت أمام حشد من الجامعيين، فوجه الي بعضهم هذا السؤال: لماذا نهتم الان او منذ الان بالاشتراكية قبل ان نحقق الوحدة العربية. ألا يكون النضال الاشتراكي عائقا في سبيل توحيد أقطارنا ومبعثرا لجهودنا، أليست الوحدة، عندما تتحقق، كفيلة بتحقيق كل ما ينشده الشعب العربي من حرية وعدالة ورخاء؟ ولا بد لي أن أذكر ان هذا السؤال كان يطرح علينا قبل عشر سنوات على شكل اخر من الحكام وأحزابهم وأنصارهم، اذ كانوا يسألون عن مبرر العمل للاشتراكية وللوحدة العربية قبل ان يتم التحرر من الاجنبي.
و قد أجبت الجامعيين في بيروت بأن الوحدة العربية ليست عملية سياسية ومفاوضات واتفاقات تقوم بين الحكومات بل هي عملية ثورة ونضال يقوم بها الشعب لانه وحده محتاج اليها، مخلص في طلبها، ولذلك فأن النضال في سبيل الوحدة العربية لا يكون واقعيا ومجديا إلا إذا امتزج بنضال جماهير الشعب العربي في سبيل حقوقها الحياتية ورفع مستوى معيشتها. ويجب ان نعلم ان اعداء الوحدة الكثيرين هم الاستعمار وإسرائيل التي لم توجد الا لتعطيل الوحدة وعرقلتها، والمصالح الرجعية الداخلية وكل ما في مجتمعنا من امراض وعصبيات وجهل وتأخر. ولا يمكن التغلب على هذه الكثرة المخيفة من الأعداء بالعمل الحكومي وحده، خاصة اذا عرفنا ان الحكومات ما زالت في اكثرها ممثلة لهذه المصالح المعادية للوحدة. ولا بد اذن من ان ينهض بعبء الوحدة شعب بكامله يرى فيها خبزه اليومي وتحرر وطنه من الاجنبي ويستميت بالتالي في طلبها لانها سبيل حريته وكرامته الانسانية.
فعندما ربطنا الوحدة بالاشتراكية لم نتعسف ولم نرتجل، بل وجدنا في ذلك السبيل الوحيد لكي تصبح الوحدة في حياتنا حقيقة حية متحركة، يطالب بها كل عامل عندما يطالب بخبزه وبزيادة أجره و بالدواء لأبنائه، وعندما يطالب كل فلاح فقير ومظلوم باسترداد حقه في انتاجه ويرفع الظلم و الاستعباد عن كاهله. هكذا جعلنا الوحدة العربية مطلبا حيا واقعيا يداخل حياة افراد الشعب العربي في ظروف حياتهم اليومية وفي ابسط شيء في حياتهم و هو حاجاتهم المادية.
نهضة مصر من ارادة الشعب ـ الم تروا أيها الاخوان الى هذه النهضة في قطرنا الحبيب مصر، كيف حاول السياسيون والمتزعمون الى جانب الاستعمار المجرم عشرات السنين عزله عن أمة العروبة وعن قضيته الحقيقية ومصلحته الواقعية. حتى اذا ارتفع كابوس الاستعمار وتطهرت ارض مصر من فساد الدخلاء والاجانب ومن عبث المستثمرين الداخليين، جاء الاندفاع للفكرة العربية عفويا، سهلا، بسيطا، لان العروبة لا تستيقظ الا في جو النضال وعندما يسترد الشعب شعوره بمسؤوليته وكرامته.
وليس ما حدث في مصر من قبيل المصادفة وليس هو عمل أفراد، وان كان لهؤلاء الافراد الذين قاموا بالثورة في مصر فضل كبير. ان هذا الرجوع الى الطريق الصحيح كان من وحي الشعب ومن ارادة الشعب ومن هذا الجو النظيف السليم الذي تحقق لمصر بعد ان تغلبت على الاستعمار وعلى الفساد.
اننا مع استبشارنا باتجاه رجال الثورة الجديد، نرى من الواجب ان نطالبهم بالمزيد من الجرأة في هذا الاتجاه. و ليثقوا بأن كل خطوة يخطونها في طريق الوحدة العربية والعمل الموحد للقضية العربية اذا كانت ستكلفهم بعض التضحيات الانية المحلية، فانها ستفجر امامهم مقابل ذلك امكانيات دفينة في الشعب العربي قد تبلغ حد المعجزات.
النضال في سبيل القضية العربية الواحدة– ان الشعب العربي يثبت في مختلف اقطاره في نضال المغرب الدامي، في نهضة مصر وفي وثبة الاردن، وحتى في العراق الذي لم يجرؤ حكامه ان يتركوا المجال لخروج افراد قلائل يمثلون المحامين في مؤتمرهم في القاهرة والعمال في هذا المؤتمر، وهذا دليل على ان غضبة الشعب العربي في العراق قوية جدا حتى أخافت الحكام الأذلاء إلى مثل هذا الحد.
وانني في نهاية هذه الكلمة احمل اخواني اعضاء الوفود النقابية تحية الاعجاب والتفاؤل والعهد المقيم على النضال المستمر في سبيل قضيتنا العربية الواحدة التي لا نفرق فيها بين ما هو اجتماعي اقتصادي وبين ما هو قومي لان نجاح هذه القضية رهن بابقائها وحده….
آذار 1956
(1) كلمة ارتجلت في المهرجان الذي اقيم في مكتب الحزب عند زيارة وفود اتحاد نقابات العمال العرب للحزب بمناسبة انعقاد مؤتمرهم الاول في دمشق.
نظرتنا إلى الدين
قبل ان نتحدث عن موقف الدولة العربية المقبلة من الدين. وعن مركز الدين في حياة الأمم والشعوب بصورة عامة، وعن مركزه في حياة الامة العربية، أحثكم في هذه المرحلة، مرحلة التحرر والانبعاث، على ان تجعلوا ثقافتكم ثقافة متينة، وان تستزيدوا دوما من الثقافة والفكر وان تتسلحوا بحرية التفكير قبل كل شيء، فبدون حرية التفكير لا يمكن ان تصلوا إلى الحقيقة.. إلى الحل الناجع لكم ولامتكم.
الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ أقدم العصور إلى اليوم، هو شيء أساسي في حياة البشر. فإذن بهذه الكلمة نطرح جانبا ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض الشباب السطحيين. فموضوع الدين هو موضوع جدي ولا يمكن ان نحله بكلمة او بحكم سطحي عابر، ولكن يجب ان نفرق بين الدين في حقيقته ومرماه، وبين الدين كما يتجسد او يظهر في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح، في ظرف ومكان معينين.
المشكلة إذن هي في الفرق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، لان له حقيقة وله ظاهر، والمشكلة تنشأ عندما يكون الفرق بين حقيقة الدين وبين مظهره فرقا واسعا جدا، يبلغ أحيانا حد التناقض، يكون المظهر أحيانا مخالفا كل المخالفة لمرامي الدين الأصيلة ولحقيقته، وحينئذ تتكون الأزمة عند الشعوب والأفراد. والأزمة تتمثل بأشكال مختلفة عند الناس، حسب مستويات الناس الفكرية وحسب تجردهم عن المصالح، أو عبوديتهم للمصالح الخاصة. فالمسألة معقدة يدخل فيها الفكر والعلم، ويدخل فيها الهوى والعاطفة وتدخل فيها المصلحة والمنفعة، وعلى الشباب العربي اليوم ان ينظر بكل ترو وهدوء، ونزاهة في الحكم وصفاء في الذهن.. ينظر إلى هذه المشكلة، ويعرف ما هو نصيب الهوى فيها وما هو نصيب المصلحة الخاصة. عندها يستطيع ان يصل إلى حكم قريب من الصحة والفائدة العامة.
في حياتنا القومية حادث خطير وهو حادث ظهور الإسلام.. حادث قومي، وإنساني عالمي. ولا أجد ان الشباب العرب يعطون هذا الحادث حقه من الاهتمام. لا أجد أنهم يدرسونه ويحيطون بكل ظروفه وتفاصيله وملابساته، لان فيه عظة بالغة، فيه تجربة هائلة من تجارب الإنسانية يمكن ان تغنيهم وتغني ثقافتهم العملية والسياسية وكل شيء.
هل يفكر الشباب ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية، ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد.. ومصالح؟.. وبالتالي هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام حق الفهم الا الثوريون؟. وهذا شيء طبيعي لان حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة، والآن وبعد ألوف السنين: الثورة واحدة، لها نفس الشروط النفسية، ولها نفس الشروط الموضوعية أيضا إلى حد كبير. فمن الغريب العجيب، وهذا ما يجدر بكم ان تفكروا فيه وتتأملوه، ان المدافعين الظاهرين عن الإسلام الذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم وبالدفاع عن الإسلام، هم ابعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة، لذلك لا يعقل ان يكونوا فهموا الإسلام. ولذلك من الطبيعي جدا ان يكون اقرب الناس إلى الإسلام فهما وتحسسا وتجاوبا هو الجيل الثوري، الجيل الثائر على القديم الفاسد طبعا. وهذا ما لا نراه، أي ان الجيل الثائر ليس كله ولا اكثره معترفا بهذه الصلة بينه وبين الإسلام، في حين ان الذين يدعون هذه الصلة ويتشبثون بها هم أعداء الثورة، هم ممثلو الاوضاع القديمة التي يجب ان تزول لكي تنهض الامة العربية.
إنكم بلا شك تعرفون بعض الأشياء الأولية عن الإسلام، وارجوا ان تكونوا عارفين لكل الأشياء. أول ما تعرفونه عن الإسلام ان هذه الحركة التي نادى بها فرد واحد في البدء، وآمن بدعوته افراد قلائل، واحدا بعد الآخر، وافراد أكثرهم ضعفاء بالنسبة إلى مجتمعهم، وانهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى والضغط وتحملوا الشيء الكثير مدة لا تقل عن ثلاث عشرة سنة في مكة حتى الهجرة، وبعد الهجرة ينتقل الإسلام إلى دور من القوة النسبية: إذ لم يعد المسلمون تلك الفئة المحصورة في بحر من الأعداء، بل كونوا لأنفسهم جماعة كلها مؤمنة. فهل يحق لمن لم يعرف الاضطهاد، ولمن لم يرض ان يكون من الفئة القليلة المجاهرة بالحق في وجه الفئة الكبيرة الضالة.. هل يحق له ان يتكلم باسم الإسلام وان يعتبر الإسلام ملكه الخاص؟.. وانه هو المدافع عنه؟.. انا لا اعتقد ذلك، لا اعتقد ان ذاك الحق يمكن ان يعطى فعلا الا للمضطهدين.. الا لذوي المبدأ والشجاعة الذين يجاهرون بعقيدة يؤمنون بها ويرون فيها الخير للمجموع، وان كان اكثرية الناس حولهم وجملة الاوضاع المحيطة بهم هي ضدهم، تؤذيهم، وتضغط عليهم، وتكافحهم. هؤلاء لهم الحق لان المبادئ والدعوات سواء أكانت دينية او اجتماعية او قومية او فكرية.. المبادئ والدعوات معيارها العمل وليس معيارها الكلام، فالكلام لا يكلف شيئا. الكلام سهل سواء أكان شفهيا او مكتوبا، لا يكلف اكثر من الجهد اللازم لكي نتفوه بهذا الكلام او نكتبه على الورق، ولكن قيمة المبادئ هي عندما تمتحن بالعمل. فاذا قبلنا بهذا المقياس تنقشع من على اعيننا غشاوات كثيرة، ونكتشف زيفا كثيرا وتضليلا كثيرا او جهلا وغرورا عند الذين يتوهمون ويدعون بانهم انصار المبادئ ودعاة المبادئ، ولكنهم لم يختاروا الطريق الصعب بل اختاروا السهولة والسير مع التيار الناجح، وان يكونوا مؤيدين ومدعومين بكل ما في المجتمع من وسائل الراحة والحماية، وان لا تهدد راحتهم او مصالحهم او كبرياؤهم بأي أذى.. نكتشف بان هؤلاء ليسوا هم اجدر من يدعي الدفاع عن المبادئ او الانتصار لها.
فلو تخيلنا ان المسلمين الاولين الذين عرفوا النضال من اجل المبدأ، وذاقوا كل مرارته، واجتازوا امتحانه، ودفعوا ضريبته.. هذه الفئة او بعض افرادها لو جاؤوا اليوم وهبطوا على حياتنا العربية الحاضرة.. تصوروهم بنفسيتهم المناضلة الثائرة، بشعورهم الحاد بالحق، وبان الحق شيء مقدس لا يكفي ان نعرفه، بل نعرّفه للآخرين، وان نستميت في سبيله حتى يظفر ويهتدي به الآخرون، وهذه نفسية المؤمن بدعوة حقة. لو جاؤوا اليوم، أيّ وسط يستطيبونه ويهدأون اليه، ويشعرون اليه بالقرابة؟ هل هو وسط الظلم الاجتماعي، وسط الاغنياء والوجهاء والمستثمرين للشعب والذين ينامون ملء جفونهم بينما تسعون بالمئة من شعبنا العربي يعيش حالة البؤس والمرض والذل؟. هل يستطيعون ان يعيشوا مع هذه الطبقة من المستغلين والمتربعين على الزعامات؟.. او مع حماة هذه الطبقة الذين يدافعون عنها تارة باسم الدين وتارة بأي اسم آخر؟. انا اعتقد بان المسلمين الأولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش الا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين والمستعبدين، الا في السجون مع المناضلين، فاصحاب دعوة الحق هم دوما الى جانب الحق.
الشباب مطالبون بان ينظروا هذه النظرة النظيفة، بان لا دين مع الفساد والظلم والاستثمار، وان الدين الحقيقي هو دوما مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد. وهذا يعني ان كثيرين شوهوا الدين في بلادنا وفي ارضنا كما شوهه كثيرون في غير بلاد وغير أراض. فالدين المسيحي في اوروبا، حتى اليوم، باكثرية ممثليه الرسميين هو الى جانب الفساد والظلم بحميهما ويعطيهما مبررات البقاء، لذلك فقد نفوذه وطغت موجة الإلحاد في الغرب ليس عبثا بل لهذا الناقض، لان الدين بممثليه وقع في التناقض: لان الدين وجد ليشجع المحبة والإخاء، ليحمي الضعيف، ولكن اصبح بممثليه سياجا لكل هذه المساوئ.
فالازمة اذن ليست بسيطة.. هي ازمة انسانية، أي انها تمس أعماق الضمير الإنساني في الأفراد، ولكن قد يفهمها عدد قليل من الافراد على حقيقتها، بينما اكثر الناس يفهمونها فهما سطحيا. والفهم السطحي هو ان نستنتج بسرعة، بانه ما دام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد وليسوا في صف الثورة على الفساد فإذن الدين من أساسه فاسد ولا وجوب له ولا خير فيه، لذلك يجب التخلص من الدين لانه سلاح بيد الظالمين والمفسدين. هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جدا، وهذه هي النظرة التى توقفت عندها الشيوعية. ولذلك فالشيوعية ليست عميقة في كل نواحيها –ولو انها في كثير من نواحيها جد عميقة – ولكنها بقت سلبية في كثير من المواقف: لاحظت الماركسية وملاحظتها حقة، بان الدين اصبح في اوروبا سلاحا بيد الظالمين المستثمرين المستعمرين لابقاء الشعب رازحا تحت الاستثمار والاستعباد، وهذا حق –هذه الملاحظة صحيحة ومن صميم الواقع– فقالت: الدين أفيون الشعوب.. هو المخدر.. السم الذي يمنع الشعب من الثورة، ولذلك اعلنت الإلحاد كعقيدة.. إلحاد بكل شيء خارج عن المحسوس. هذه نظرة عاطفية، فيها الهوى والحقد، وعصارة الالم من الظلم وأوضاعه: بما ان الدين واجبه الحقيقي، ومرماه الاصلي الحقيقي هو اشاعة العدل ورفع الظلم، وبما ان الدين اصبح اداة للظلم، اذن يجب ان يتحرر منه البشر.
هذه النظرة السطحية السلبية نحن لم نتوقف عندها ولم ننخدع بها، بل تجاوزناها منذ بدء حركتنا، ومنذ وضعنا التعابير الاولى البسيطة عن حركتنا. ليس فيها هذه السلبية، بل مشينا الى آخر الطريق، ووجدنا بعد اليأس الأمل والتفاؤل بالانسان، ووجدنا بعد النقمة والحقد.. وجدنا ينبوع المحبة والإخاء. لم نحكم حكما نهائيا على وضع عارض ومؤقت ومشوه، وبالتالي كانت فكرتنا فكرة روحية. الا انه يجب ان نفرق بين تفكيرنا نحن وبين تفكير آخرين اذ بينهما من الفرق ما بين الابيض والاسود. فنحن عرفنا واختبرنا صحة الحملة السلبية على مظهر الدين في هذا العصر، الحملة السلبية الي ذكرناها الآن عرفناها واختبرنا صحتها، ووافقنا على انها مشروعة في حملتها على مظهر الدين، ولكننا تجاوزناها وقلنا: ليس قدرا على الدين ان يبقى متحجرا دوما. الدين قادر على ان يعود الى حقيقته اذا وجد افرادا مؤمنين متجردين يعيدون الى الدين صفاءه الاول. الدين شيء اساسي وسيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة.
هناك فرق بين هذه النظرة التى هي نظرتنا، وبين الذين يوافقون على مظاهر الدين دون ان تنشأ في نفوسهم هذه المعركة التي عانيناها، ودون ان ينظروا الى تشويه مظاهر الدين، ودون ان يثوروا وينقموا، ويتغلبوا على هذه النقمة تغلبا ايجابيا. قلنا ان الدين شيء أساسي وسيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة. وحاربنا هذه المظاهر الفاسدة، لكي يعود الدين الى صفائه. اما الذين لا يشعرون بان ثمة معركة يجب ان يخوضوها، ولم يتجاوبوا مع هذه النقمة المشروعة التي تنشأ في قلوب المظلومين والذين رأوا في الدين في هذا العصر سلاحا يستند عليه الظالمون.. ان الذين لم يشعروا بهذه النقمة ولم يتجاوبوا معها، ولم يصلوا الى اعماقها لكي يتغلبوا عليها بحل ايجابي متفائل مؤمن بان بعث الدين يكون بازالة هذه المفاسد والمظالم، وان ألف حجة في الدفاع عن الدين لا تغني ولا تساوي حجة عملية واحدة تزيل شيئا من مظالم الحياة، فهم أعداء الدين، لن ينفع الوعظ والترديد بان الدين خير وبركة، وبان فيه الكمال كل الكمال.. ان هذا لا يغني شيئا، وهو يستغل سواء أراد الذين يتكلمون ذلك او لم يريدوا، فان مستغلي الأوضاع الفاسدة سيستغلون هذا الفساد لكي يخدروا الشعب، ولكي يمنعوا الشعب من الثورة على ظالميه ومستعبديه.
هناك نظرة سطحية جدا الى مظاهر الإلحاد في حياة هذا العصر سواء في الشرق او الغرب، نظرة استنكار واشمئزاز من كل مظهر إلحادي بانه هذا هو الشر العميم دون ان نبحث عن اسباب هذا الإلحاد وهذه المظاهر الالحادية، ولكن متى عرفنا بان الاوضاع الجائرة هي اهم سبب في هذه المظاهر، وان ما جاء في الحديث كما يذكر: (كاد الفقر يكون كفرا) معناه ان الاوضاع الجائرة تخرج الانسان عن دينه، فاذن كيف يسمح بعض الناس لأنفسهم ان يحكموا براحة وبساطة، وبدون ان يتعبوا انفسهم في البحث والتفتيش عن الاسباب، ان يكفّروا فلانا ويرموا آخر بالزندقة، ويثوروا على الالحاد وغير ذلك؟… وهم لم يتنازلوا أن يروا ما هي الاسباب التي تؤدي الى المظاهر الالحادية ولم يتنازلوا ان يتعبوا عقولهم.. لماذا اليوم توجد مظاهر إلحادية وفي الماضي لم تكن موجودة..؟ في الماضي كانت اوضاع سليمة او شبه سليمة لم تكن تستوجب هذه الثورة وهذه النقمة.
ونحن لا نرضى عن الالحاد، ولا نشجع الالحاد، ونعتبره موقفا زائفا في الحياة، موقفا باطلا وضارا وكاذبا. اذ ان الحياة معناها الايمان، والملحد كاذب: انه يقول شيئا ويعتقد شيئا آخر.. انه مؤمن بشيء… مؤمن ببعض القيم. ولكننا ننظر للالحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف أسبابها لتداوى، ولا ننظر اليه كشر يجب ان يعاقب لان ذلك لا يخفف الالحاد بل يزيده، فعندما نبحث عن الاسباب، نستطيع ان نزيل الالحاد.
قلت بان الإلحاد موقف كاذب وهذا يعني ان الملحد انسان متناقض يدعي شيئا ويعمل خلافه. فالثورة على الدين في اوروبا هي دين، هي ايمان بمثل وبقيم انسانية رفيعة، وهي اقرب الى الدين في حقيقته الاصيلة. وهذه الثورة حملت بذور الخلق والإصلاح، لأنها هزت المجتمع والأفراد هزا عنيفا، وأرجعتهم الى نفوسهم، وبينت لهم التضليل الذي كان ينطلي عليهم. وحررتهم، حررت إنسانيتهم. حررت شخصيتهم. ولكن هذا موقف ناقص. حينما طلبت منهم ان يرفضوا الدين نبهتهم إلى نصف المشكلة فقط. الدين في الأوضاع الحاضرة هو الذي يخلق المشكلة، هو الذي يساعد على بؤسهم وعبوديتهم، ولكن عندما تستيقظ الشعوب وتسترد حقوقها وكرامتها لا يمكن ان تقنع بالإلحاد، وعندها تخطو الخطوة الجديدة وتكمل النقص بالخطوة الايجابية، وتعود الى دين واضح سليم منطبق تمام الانطباق على مراميه الاولى.
آذار 1956
طبيعة الحكم في مصر أو: بين التقدمية والانقلابية
الموضوع اليوم الذي طلب الإخوان أن أعالجه: عن موقفنا من حكومة مصر الحالية، وسأخصص قسما من الوقت لعرض مجمل، وأنتظر أسئلة منكم.
أول ملاحظة ترد في هذا الموضوع هي وجوب التفريق بين الحكم العسكري الذي قام في مصر، وبين الحكم العسكري الذي عرفناه في سورية. ففي مصركانت ثمة دواع وعوامل جدية تبرر الإنقلاب العسكري إذ لا أحد يجهل ما كانت عليه مصر في زمن فاروق -زمن الملكية- من الفساد.. من الإستهانة بحقوق الشعب وكرامة المواطنين، وكان العرش في اكثر الأحيان آلة بيد الإستعمار يتلاعب بالدستور والحريات العامة وهكذا.. وكانت في مصر، كما هو معروف، أحزاب أهمها وأكثرها جدية وأقربها إلى نفوس الشعب وإلى حاجات الشعب هو حزب الوفد؛ ولكن حزب الوفد بقي متجمدا على ناحيتين من النضال لم يستطع أن يتجاوزهما: 1) مكافحة الاستعمار على أسلوبه، 2) والدفاع عن الدستور والحريات أمام تعدي الملك عليها. لقد مثل الوفد لعشرات السنين هاتين الناحيتين -وهما أساسيتان بلا شك- ولكن لم يستطع أن يتطور وأن يلبي حاجات جديدة هي الحاجات الشعبية.. حاجة العدالة الاجتماعية.. الإتجاه نحو الإشتراكية وإنصاف الكثرة الساحقة من أبناء الشعب، ذلك أن تكوين حزب الوفد لم يكن يسمح له بأن يخوض مثل ذلك النضال؛ فالوفد ككل الأحزاب التي تحصر همها في ناحية سلبية، ولا يكون لها وجه إيجابي، تجمع تجميعا الأفراد والأنصار، وترضى من أنصارها وأتباعها بشيء واحد هو مكافحة الاستعمار الأجنبي ومقابل ذلك تترك لهم الحبل على غاربه إذا لم نقل بأنها تعرض عليهم مقابل هذا الشيء الجزئي بأن تؤمن لهم المنافع الخاصة. فكان تكوين حزب الوفد من طبقة بورجوازية وإقطاعية، من الطبقة المتوسطة ومن عدد من الإقطاعيين.. كانوا من جهة، بدافع وطني -والوطنية شعور عام- يريدون التخلص من الاستعمار؟ وبدافع مصلحي يريدون أن يحلوا محل الاستعمار أي ان يستأثروا بالمنافع التي يستأثر بها الاستعمار أو يشاركهم فيها. لذلك ظهر عجز الوفد مع الزمن: بأنه غير قادر على تخليص مصر من الاستعمار الأجنبي ومن طغيان الملك وفساد الحكم.
والسبب هو هذه السلبية التي هي أساس تكوينه: فحزب الوفد لم يقم على نظرية واضحة وكاملة، ولم ينهج النهج النضالي الصحيح الذي يقضي أن يعتمد على طبقة الشعب فقط لأنها الوحيدة التي تصمد إلى آخر الطريق في النضال إذ ليس لها مصالح تساوم عليها الاستعمار. كذلك كان فهم حزب الوفد للديمقراطية والحريات العامة فهما سطحيا يتناسب وعقلية الطبقة البرجوازية ويلائم مصلحتها. وديمقراطية الوفد لها لون شعبي وطني.. ضد الاستعمار. ولكن لها أيضا ألواناً من الاستغلالية… لونها الوطني الشعبي هو الدفاع عن الدستور والحريات العامة وهو في الوقت نفسه حيلولة دون تآمر الاستعمار على الشعب أو تآمر الأسرة المالكة مع الاستعمار على الشعب. فعندما كان ملوك مصر يضربون بالدستور عرض الحائط ويقيلون الحكومات ويشكلونها كما يريدون كان ذلك -في أغلب الأحيان- لأن تلك الحكومات كانت تتمسك بحقوق البلاد ضد المحتل الأجنبي. فالدفاع عن الدستور إذن له هذه الناحية الإيجابية لأنه ضربة موجهة ضد الاستعمار وضد الأسرة الحاكمة التي هي إلى حد كبير مسخرة للاستعمار.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نرى أن حزب الوفد عندما كان يصل إلى الحكم فانه يبدأ بالبطش بخصومه ويقنن الحريات التي كان يطالب بها واسعة كاملة عندما يكون هو مضطهداً ومبعداً عن الحكم. ويجيز لنفسه التلاعب بالدستور أيضا إلى حد ما ليستر مساوماته مع الاستعمار، فالوفد أيضا ليس نضاليا بالمعنى الصحيح. كان يتدرج بانتزاع بعض حقوق البلاد تدرجا، والشعب كان يريد أكثر مما كان يحصل عليه الوفد. الشعب كان يريد تنفيذ الوعود التي كان يقطعها الوفد على نفسه: الاستقلال الصحيح وتخليص البلاد من الاستعمار الأجنبي. وهذا ما كان يضطر الوفد لأن يضغط على الحريات: حرية الصحافة والاجتماع.. الخ، لكي لا ينفضح أمام الشعب، كما أنه كان مضطرا لأن يساير الملك بعض المسايرة.
وأخيرا هناك جانب معروف من أسلوب الوفد في الحكم وهو الاستغلال البشع، الاستغلال الوقح للحكم في سبيل إرضاء الأتباع والأنصار، طالما ان تشكيل الوفد لم يكن قائما على عقيدة ولا على نظرية واضحة، وكان يقوم على تجميع أنصار أكثرهم طلاب منفعة، فكان ملزماً بان يرضيهم -عندما يصل إلى الحكم- على حساب مصلحة المجموع. لذلك كان مضطرا لأن يتلاعب بالدستور، ويسخر القوانين لمصلحة فئة معينة على حساب المصلحة العامة.
وهناك نقص آخر في حزب الوفد، تشاركه فيه كل الأحزاب الأخرى في مصر، وتزيد عليه الأحزاب الأخرى في تمثيل وتجسيد هذا النقص، وهو أن حزب الوفد كان يعمل على أساس مصري قطري، ولم يكن يفهم الرابطة القائمة بين الأقطار العربية، ووحدة المصير، ووحدة المصلحة، وإن كان من الناحية العاطفية يتظاهر بين الحين والآخر ببعض المظاهر العربية، ولكن عملياً -واقعياً- كان حزباً قطرياً.
إذا أخذنا في نفس الوقت، الوقع في سورية -قبيل حدوث الانقلابات العسكرية- لنرى لماذا تميز الإنقلاب في مصر بنواح إيجابية، بينما بقيت الانقلابات العسكرية في سورية سلبية كلها، فماذا نجد؟.
في سورية، كان يوجد ما يماثل حزب الوفد وهو حزب الكتلة الوطنية، التي بدلت اسمها مع الزمن إلى الحزب الوطني. مثلت نفس الدور تقريبا، وكانت قائمة على نفس التركيب.. نفس العناصر الاجتماعية: بورجوازية وإقطاعية، وإن كانت ثمة فروق بين الكتلة الوطنية والوفد، فالفروق كانت ترجع دائما إلى الزعماء.. إلى شخصية بعض الزعماء، والى إمكانيات القطر. فالقطر المصري ذو إمكانيات واسعة، ولذلك يمكن أن يظهر فيه رجال ذوو كفاءات أكثر مما يظهر في سورية. هذا هو الفارق الوحيد. وهو جزئي. ولكن الفارق بين مصر وبين سورية هو أنه في سورية ظهرت حركة شعبية نضالية على أسس جديدة إيجابية، وفي مصر لم يظهر ذلك. فبينما أوجد انهيار الملكية في مصر واحتجاب الأحزاب القديمة وخاصة حزب الوفد.. فراغا في الساحة، استطاع العسكريون أن يملؤوه بالعمل الإيجابي، فإن هذا الفراغ لم يكن موجودا في سورية، أو كان مملؤاً قبل الانقلابات العسكرية بحركتنا نحن، فظهرت الإنقلابات العسكرية في سورية بأنها لا مبرر لها، لأنها لم تستطع أن تعطي لا أكثر مما أعطاه حزبنا، وحتى لا شيء مما أعطاه الحزب، وكانت مهمتها أن تقلد الحزب بالشعارات دون المضمون، أقوال بلا أعمال.. أن تنادي بشيء من الإشتراكية.. بالتقدمية.. بتوزيع الأراضي.. بالاستقلال.. بالوحدة العربية.. دون مضمون، وحتى يكون لشعاراتها مضمون يجب أن يكون معها جمهور يؤيدها عن قناعة وارتباط متين، وهذا كان مفقوداً. أما في مصر فلأنه لم يكن هناك حركة شعبية انقلابية كونت رأياً عاماً، ونظمت جمهور الشعب الى حد ما، كانت الساحة فارغة فعلاً أمام الضباط التقدميين الذين ظهروا في الجيش. وهكذا استطاعت حركة الجيش في مصر أن تحقق بعض الأشياء الإيجابية.
الآن، بعد أن قارنا بين الحركة العسكرية في مصر والحركات العسكرية في سورية. ولمسنا الفارق الرئيسي بين النوعين، علينا أن نعرف الحركة العسكرية في مصر:
هي حتما ليست مثل الانقلابات في سورية، والتي كانت بدون مبرر: مغامرات طائشة.. مغامرات مشبوهة، يدخل فيها الإستعمار من طرف، وتدخل فيها المصالح الرجعية من طرف آخر.. مصالح الإقطاعيين والرأسماليين عدا عن الطموح الشخصي عند بعض الأفراد من العسكريين.
ولكن، هل يعني هذا التحليل أن الحركة العسكرية في مصر تشبه حركتنا هنا.. تشبه حركة حزبنا؟
هنا يجب التمييز بكل دقة ووضوح. قلنا أنها حركة فيها نواح ايجابية، وليست مغامرة طائشة كالإنقلابات العسكرية في سورية، وليست مشبوهة بالتدخل الإستعماري والنفوذ الإقطاعي والرأسمالي بالحد الذي كانت فيه الانقلابات العسكرية في سورية. ولكن هذا لا يعني مطلقاً أن الحركة في مصر حركة ثورية..حركة إنقلابية كحركة حزبنا. وهنا لا بأس أن نستعمل بعض الألفاظ التي تساعد على التمييز، فيمكن أن نسمي الحركة العسكرية في مصر حركة تقدمية، بينما حركتنا هي حركة إنقلابية.
والحركة التقدمية، إذا أردنا أن نعرفها تعريفا موجزا بسيطا، هي التي تحقق تقدما ملموسا في ناحية أو أكثرمن نواحي الحياة السياسية والإجتماعية دون أن تبدل الأسس العميقة التي يقوم عليها المجتمع. في حين أن الحركة الإنقلابية تتناول هذه الأسس مباشرة. ولأنها تتناول الأسس فالحركة الإنقلابية حركة شاملة ليست جزئية، لأنها طالما تنفذ إلى الأسس لذلك لا تكون جزئية، وإنما تنظر إلى كل النواحي الأساسية دفعة واحدة، ويكون عملها مستوحى من هذه النظرة الكلية. فحركة مصر العسكرية هي إلى حد كبير حركة قطرية، ولا يمكن أن تسمى حركة قومية عربية. وحركة مصر أيضا لا يمكن أن تسمى حركة إشتراكية بالمعنى الصحيح، وإنما حركة تقدم نحو الاشتراكية.
ولا أظن أننا بحاجة إلى تفصيل في هذه الأشياء، المفروض أنها واضحة لديكم. فحركة الضباط في مصر اقتصرت إذا على معالجة أوضاع مصر كقطر.. ككل قائم بذاته.. لا كجزء من الوطن العربي وإنما ككل قائم بذاته. إلا أن هؤلاء الضباط الشبان بحكم سنهم وثقافتهم الجديدة، وجوهم النضالي أيضا، وبحكم تطور الظروف كانوا أكثر انفتاحاً من السياسيين القدماء في مصر على تقدير أهمية الرابطة العربية.. ليس من بدء حركتهم، وإنما مع الزمن -فيما بعد- أخذوا يتأثرون بالفكرة العربية، ويحاولون تطبيق شيء منها في سياستهم، لكن أكثر الأشياء بقيت عندهم في مستوى الدعاية.
وهذا مفيد بلا شك وبصورة خاصة لمصر، للرأي العام في مصر لكي يرتفع فوق انعزاليته وإقليميته، ولكنه لا يجوز أن يخدعنا كثيرا وان يطمئننا كثيراً، وأن نظن أن هذه الكلمات والشعارات التي تطلق بين الحين والآخر تنم عن حقائق واقعية. فما زالت حكومة مصر -في كثير من تصرفاتها- تعمل كأن مصر كل قائم بذاته، وأن البلاد العربية مجال لنفوذها: تتدخل في البلاد العربية لتكون حولها دولا صديقة ورأياً عاماً ودياً، ويكون لها نفوذ تستطيع أن تهدد به الدول الأجنبية أو تساوم عليه عند الضرورة.
على كل حال، يجب أن نبقى متفائلين ومرتاحين لهذا الاتجاه الذي ظهر عند الحكومة العسكرية في مصر، لأنه يمثل خطوة إلى الأمام بلا شك. ويمكن مع التأثير والتوجيه والتجارب المقبلة أن يتحول شيئا فشيئاً إلى قناعة صادقة تؤثر في السياسة العملية، ولا تكون محصورة في الدعاية فقط. ولكني أشرت إلى هذا الفارق لكي نضع حكومة مصر في موضعها الطبيعي، ولا نظن بأنها حكومة انقلابية. وفي رأينا لا انقلابية إلا على أساس عربي وحدوي. وكل محاولة لتبديل الأوضاع وتجديدها يجب أن تنطلق من هذه النقطة الأساسية: أمة واحدة.. وطن واحد.. له مصلحة واحدة، ومصير واحد، وبالتالي كان ما يجب أن يتحقق في قطر هو ما يلزم للقضية العامة لكي تتقدم وتتحقق، لا أن يكون هناك تقارب بين مصلحة قطر ومصلحة القضية العربية كلها.
حكومة مصر تقوم بإصلاحات في الناحية الزراعية والإقتصادية عامة لا تنكر فائدتها. ولكن هذه الفائدة ليست دوما الفائدة المرجوة ما دامت حكومة مصر تعتبر أن مصر في اقتصادها تكوّن وحدة كاملة تكفي نفسها بنفسها، وهذا شيء واضح وبسيط إذ أنه عندما نأخذ الوطن العربي كوحدة: ننظر إلى مختلف إمكانياته الاقتصادية، ونرى أن هذه الإمكانيات يكمل بعضها البعض الآخر. وعندما نريد أن نحقق شيئا من هذه الإمكانيات، وأن نحدث تقدماً: علينا أن نضع في حسابنا هذا الترابط بين أجزاء الوطن الواحد، فلا نقيم عشرين مرفأ في قطر ونهمل الأقطار الأخرى، ولا نقيم صناعة في قطر لا يملك المواد اللازمة لهذه الصناعة وبالتالي نتكلف أشياء باهظة جدا بينما نستطيع بتوحيد اقتصادنا مع الأقطار الأخرى أو مع بعض هذه الأقطار.. أن ننشئ صناعة لنا كعرب دون أن نحتاج إلى الرساميل الأجنبية أو المواد الأجنبية.
حتى الآن لم تظهر أي خطوة جدية تنبئ عن استعداد حكومة مصر لتوحيد الاقتصاد. كذلك من الناحية العسكرية، وإن ظهرت الآن خطوة لا بأس بها، نرجو أن تتطور وتتكامل في المستقبل، وذلك في هذه الاتفاقات بين مصر وسورية ومصر والسعودية.
على كل حال المقارنة بين الحكم القائم في مصر وبين حركة انقلابية عربية كحركتنا تدل على أن هذا الحكم يمكن أن يعتبر خطوة نحو انقلابيتنا نحن، شريطة أن نقف منه الموقف الواضح الصريح لكي نوجهه وجهتنا ونضغط عليه لئلا يتناقض مع اتجاهنا الانقلابي العربي، ولئلا ينتكس بمساومات إستعمارية أو رجعية: لأن التقدمية هي حل خطر.. التقدمية تقف في الوسط بين الرجعية وبين الانقلابية.. يمكن أن تُستغل من الرجعية، كما يمكن أن تُستغل من الانقلابية.. إذا أهملنا توجيهها يمكن أن تكون طلاء وتخديراً تتبناه الرجعية لكي تخمد النزوع الثوري. لأن الرجعية والإستعمار معها عندما تتطور الظروف وتشتد الحاجات الشعبية نحو التقدم والتحرر تسلم الرجعية بما لابد منه.. بأن يحدث شيء من التقدم لكي يغني عن المطالب الأخرى، تسلم بالعشرة لكي تتفادى التسعين، أو تسلم بالعشرين لكي تتفادى الثمانين.. وهذا ما يحدث في أوروبا وبلدان عديدة من العالم. إذ أن الإقطاع.. الرجعية القديمة.. لم تعد قادرة على الصمود في هذا العصر.. الإستغلال الجشع أصبح منافياً لطبيعة العصر، لذلك فإننا نجد الرأسماليين أنفسهم يشجعون حركات تقدمية ويقفون وراءها لكي تغني عن الحركات الإنقلابية التي تطالب بنسف الأوضاع.
الخوف من الحكومات التقدمية إذن هو هذا: أن تكون لعبة رجعية واستعمارية. هذا ما ظهر بشكل فاضح في سورية، ولكن اللعبة كانت مبتذلة جداً، لذلك لم تصمد للتجربة. أي ان الإنقلابات العسكرية التي ظهرت من سنة 1949 إلى آخر سنة 1951 كانت ترمي إلى هذا الغرض في سورية: ان تطمئن جمهور الشعب والفئة الواعية في البلاد.. الفئة المثقفة الظامئة إلى التقدم والتحرر.. تطمئنها أن شيئا من التحرر سيتحقق، فلا حاجة إذن إلى النضال الطويل والإنقلابية. ورأينا فعلا قسماً من الشعب ينخدع ويصدق أن الاراضي ستوزع، والعدل سيقام، والدولة سترعى حقوق المواطنين جميعاً.
كما أن قسماً من الفئة المتنورة -سواء عن انخداع أو عن وصولية- انجرفت مع الحكم العسكري وأيدته، ورضيت أن تكون آلة بيده مساعدة له.
إذن دائماً توجد هذه الحاجة: حاجة اختصار الزمن.. الإستعجال الذي يحقق أشياء عاجلة.. أما الحركة الانقلابية فلا تستطيع أن تؤمن حاجات الشعب بوقت قصير لأنها بتعريفها تريد أن تؤمن الحاجات الحقيقية.. تريد أن تضمن للشعب أوضاعاً تقيم العدالة نهائيا والمساواة والتحرر والوحدة.
هذه المطالب الصعبة لا تتحقق في يوم واحد ونضال سهل، بل تحتاج إلى جمهور متكاثر ووعي ونضال طويل حتى يستطيع هذا الجمهور الضخم أن يرفع مثل هذا العبء الضخم.. أن يزيح الاستعمار والحكومات المعرقلة لوحدة الوطن والمستغلة للشعب، وأن يقيم الأوضاع السليمة.
وبما أن الوعي لا ينتشر بسهولة في الشعب، ولا ينتشر بسهولة بمستوى واحد، بل بدرجات متفاوتة، فتأتي الحركات التقدمية لتستغل سطحية الوعي ولتلبي عند البعض حاجة الإستعجال، وهذه حاجة بشرية، وتقول: إن ما يعدونك به أنه سيتم بعد سنين طويلة، وبعد جهود مضنية، وبعد بذل الدم والعرق، نستطيع أن نحققه اليوم في شهر أو سنة. لذلك لا نستغرب أن ينخدع البعض بالخدعة التقدمية.
ولكن للحكم التقدمي نواح إيجابية.. ليس كله خداعاً.. وهذا ينطبق على الحكم في مصر: الحكم التقدمي فيها له إذن نواح ايجابية. لم تتوافر في سورية. فهو يحقق في الداخل بعض الإصلاحات: من توزيع الأراضي، والقيام بمشاريع اقتصادية تنمي ثروة البلاد وبالتالي تؤمن شيئا من الرفاه وترفع مستوى العيش.
وفي المجال العربي.. الحكم التقدمي في مصر سار خطوة لا بأس بها نحو التضامن العربي والتحسس بوحدة المصير وبالفكرة القومية، وبصورة خاصة في المجال الخارجي كان موقف حكومة مصر موقفاً جيداً ويدل على وعي وجرأة.. أي إرادة التحرر من الإستعمار.. والإنتباه لألاعيبه.. ومقاومة مشاريعه وأحلافه.. والإعتماد على قوى عربية وعالمية تسند هذا الإتجاه التحرري.. الإعتماد على الشعوب التي تكره الإستعمار لأنها ذاقته وعانته وتكره الحرب وتنشد السلام والتعاون بين الأمم. فسياسة حكومة مصر الخارجية في مقاومة الإستعمار والحياد بين الكتلتين الشرقية والغربية سياسية حكيمة صائبة وبالتالي تقدمية صادقة.
الناحية التي تشكل بقعة سوداء في هذه الصورة هي سياسة الضغط والإرهاب في الداخل، وهذا شيء واقع لا مجال لإنكاره أو تجاهله.
ولقد قلنا في بدء الحديث بأن الشيء الذي جعل مبرراً لقيام الحكم العسكري في مصر هو انعدام وجود حركة شعبية إنقلابية في داخل مصر، وهذا ما ساعد حكومة مصر على التخلص من الأحزاب القديمة وخاصة حزب الوفد الذي له قوة كبيرة. ولكن بما أن حزب الوفد كان سلبياً لا يمثل الحاجات الايجابية للشعب، واقتصر على الناحية السلبية التي هي مقاومة الإستعمار وطغيان الملكية فحسب فإن حكومة مصر استطاعت أن تبدد القوة الشعبية لحزب الوفد وأخذت تسعى لتشكيل قوة شعبية لها، نتيجة لهذه الإصلاحات التي أخذت تقوم بها، وهذا أمر مشكوك فيه، إذ لا تتشكل القوة الشعبية بالضغط، ولا تتشكل في الحكم.. القوة الشعبية الحقيقية تتشكل في النضال ضد الحكم وليس في الحكم. وسائل الحكم معروفة.. عدا الإصلاحات يلجأ إلى الرشوة، إلى التنفيع، يؤيد مصالح أشخاص لكي يؤيدوا الحكومة، يجد أنصاراً بين الموظفين، وفي النقابات،…
وهذا شيء مصطنع لا يمكن أن يشكل قوة شعبية بالمعنى الصحيح. وأعتقد أن الحكم العسكري في مصر ما زال يشعر بالفراغ.. ليس له قاعدة صلبة يعتمد عليها.
والآن تعرفون بأنهم مقدمون على تحول وعدوا به من قبل وهو تطوير الحكم العسكري الديكتاتوري إلى حكم فيه شيء من الديمقراطية وهم يعلنون دوماً بأن الديمقراطية التي يريدونها تختلف عن الديمقراطية التي كانت ممارسة من قبل..والتي كانت زائفة.. مستغلة.. وهذا صحيح: الديمقراطية القديمة كانت زائفة، كما هي الحال الآن في سورية ولبنان حيث توجد ديمقراطية زائفة.
فإذن هم ينوون أن يظل لهم توجيه.. ان يطوروا الحكم نحو أوضاع إستشارية فيها مجال لأخذ رأي مجموعات من الشعب، والتشاور معها: من نقابات العمال، وجمعيات الفلاحين، إلى نقابات المعلمين والموظفين وغير ذلك.
على كل حال، لا نستطيع أن نحكم على المستقبل ولا نعرف ماذا سيحققون بالفعل، ولكن علينا منذ الآن أن نوضح بعض النقاط: من جهة، صحيح أن الديمقراطية -الديمقراطية الحقوقية- التي لا تقترن بنظم اشتراكية هي فارغة تتحول إلى أداة بيد الأغنياء والمالكين ليستمروا في استغلالهم للشعب.. هذا شيء محقق في تجربة الشعوب.
وصحيح في نفس الوقت ان الديكتاتورية -ولو كانت كلها لمصلحة الشعب.. كل عمل من إعمالها لمصلحة الشعب- هي نظام مزعزع وغير ثابت.. غير صالح.. ومتناقض لأنه يعرّض الإصلاحات التي تقوم بها الديكتاتورية للزوال والضياع والفقدان في يوم ما، إذ أنها لا تسمح لوعي الشعب أن ينمو وأن يحيط هذه الإصلاحات بسياج من قناعته ووعيه ونضاله.
ويبقى دوماً في الديمقراطية.. وفي أسوا أشكالها.. في أشكالها الفارغ المتحجرة.. يبقى فيها عنصر أساسي يفيد الشعب.. يفيد المحكومين والمستغلّين. وهذا ما نحياه نحن في تجربة حزبنا في سورية. إذ أن هذه الديمقراطية الزائفة فيها نواح تسمح لحزبنا مثلا أن يعيش ويناضل ويعلن عن أفكاره، ويطالب بمزيد من الحريات والحقوق للشعب.
إذن إذا كانت هناك ظروف مؤقتة تقتضي، من أجل التغلب على اوضاع فاسدة طاغية، حرمان الشعب من الحرية لفترة مؤقتة.. هذا يجب أن يكون مشروطاً من جهة بالإصلاحات أي بمستوى الإصلاحات التي تقوم بها هذه الديكتاتورية من جهة، ومن جهة أخرى باتجاه هذه الديكتاتورية: هل تسير نحو التمادي في التسلط والحكم الفردي، أو أنها تسير من التسلط نحو الحرية.
فإذا كانت إصلاحات الديكتاتورية بسيطة، كان يمكن قيامها بدون ديكتاتورية، إذن لا مبرر لهذه الديكتاتورية. وإذا كانت هذه الديكتاتورية رغم إصلاحاتها الجوهرية تمشي نحو تمكين نفسها، فلا خير يرجى منها. واذا طبقنا هاتين الملاحظتين على الوضع في مصر نكاد نخرج بنتيجة ايجابية لمصلحة الحكم في مصر.
من جهة الإصلاحات التي تمت لا نقول بأنها جبارة تاريخية، ولكنها ليست بسيطة ولا فارغة.
ومن جهة أخرى هناك بادرة تشير إلى أن الحكم سيتوجه إلى تخفيف التسلط والإرهاب، والى شيء من الديمقراطية.
ولكن، هذا لا ينفي مطلقاً ضرورة الحذر الدائم، وضرورة المطالبة الدائمة بحقوق الشعب.. بحرية الشعب من جهة، والمطالبة أيضا بأن تكون سياسة الحكومة العسكرية في مصر منسجمة إلى أبعد حد ممكن مع الإتجاه الانقلابي أو قريبة منه. فنحن مع اعترافنا بإيجابية بعض الأعمال التي قامت في مصر مثل إلغاء النظام الملكي وتوزيع قسم من الأراضي، وتخطيط مشروعات إنشائية، وتقوية الجيش، وانتهاج سياسة تحررية وذات اتجاه عربي.. مع اعترافنا بهذا كله لابد أن نذكر بان الرأسمالية ما زالت في مصر، والرأسمال الأجنبي ما زال يلعب دوراً كبيراً.. ولم يحدّ مطلقاً من دخول الرأسمال الأجنبي، والعكس قد يكون اقرب إلى الواقع. وتوزيع الأراضي كان بنسبة محدودة، وهو ليس اشتراكيا بل تقدمياً. التوزيع الإشتراكي يكون بدون مقابل لأن حق المواطنين في الأرض ثابت ومكفول. أما حكومة مصر فقد اعترفت للمغتصبين بحقوق، وأعطت للفلاحين الأراضي مقابل ثمن، وسهلت لهم دفع الثمن على أقساط، ولكنها لم تعطها لهم بدون مقابل.
وما زالت هناك نقاط حيرة واضطراب في السياسة العربية والسياسة الخارجية، إذ لم تنفض حكومة مصر يدها نفضاً تاماً من الدول الإستعمارية. بين الحين والآخر هناك تعامل.. وتفاوض.. واقتراض.. ومساومة الخ..
وفي السياسة العربية تعطي كلاماً أكثر مما تعطي عملاً. صحيح أنها في مقاومتها للأحلاف الاستعمارية: هذا عمل وليس كلاماً، ولكن في الأمور الايجابية: الخطوات نحو الوحدة.. التوحيد الاقتصادي والثقافي ما زالت حكومة مصر مترددة.. ناقصة الجرأة.. بطيئة التنفيذ.. وما زالت تستخدم أساليب الحكومات الأجنبية في بعض الأمور: لها عملاء في بعض الأقطار العربية بدلاً من أن تكون جزءاً أصيلاً من الأمة العربية.. من الوطن العربي.. ما زالت سياستها تتأرجح بين هذين المستويين: المستوى القومي، والمستوى القطري.
الخلاصة: خير تعريف للحكومة المصرية أنها حكومة تقدمية.. متوسطة بين الرجعية والانقلابية، وإذا نظرنا إليها نظرة فيها تحبيذ من بعض النواحي فليس ذلك لأننا نعتبرها مثلنا ومثل حركتنا، بل لأننا نأمل أن تكون خطوة مقربة ومساعدة لنضالنا. هذا الحكم التقدمي لا يمكن أن يغني عن العمل الانقلابي العربي. ونخشى أن يتحول هذا الحكم التقدمي إلى لعبة بيد الرجعية والإستعمار ليضرب الانقلابية ويخدع الشعب بأنه هو الانقلابية مع أن بينه وبينها فرقاً أساسياً.
***
سؤال: هل كان بإمكان الحكم في مصر أن يوزع الأراضي بدون مقابل؟
-طبيعي حينما نشير إلى هذا النقص.. لا نريد أن نقول أنه كان بإمكان حكومة الثورة أن تعطي الأراضي بلا مقابل.. هذه الحكومة ليست انقلابية، والحكومة الانقلابية وحدها تستطيع أن تنظم المجتمع على أسس جديدة.. الحكومة المصرية تنظم المجتمع على الأسس القديمة. إعطاء الأراضي بلا مقابل يمكن أن يحدث ثورة على الحكومة: يتآمر الإقطاعيون مع الإستعمار.. الخ.. فهي حكومة لم تمهد لحكمها بنضال شعبي.. ليس لها نظرية واضحة.. لم تربط قضيتها بالقضية العربية عامة.. ولا تستطيع أن تقتحم صعوبات أكثر من استعدادها.. واستعدادها يقف عند هذا الحد.
سؤال: الا يشكل موقف الحكومات العربية الرجعية عاملاً معرقلاً أمام سياسة مصر العربية ؟
-لم أشر إلى العراقيل من طرف الحكومات العربية الأخرى التي هي رجعية.. إقطاعية.. متآمرة مع الإستعمار إلى حد ما.. لأن هذا شيء مفروض ومفروغ منه.
نحن بصدد البحث عن حكومة مصر. حكومة مصر متحررة من كل الملابسات التي تحيط بالحكم الرجعي في سورية ولبنان وغيره. المفروض أن تكون أكثر تحمساً.. هي تعرض.. الآخرون يعرقلون.. يجب ان لا تقف عند عرقلتهم.. يجب أن تكون هناك مثابرة ومحاولة أكثر جدية. هذا ما قصدته. وهو ناتج عن ضعف وعيها العربي.. هي رغم هذه البوادر الحسنة فوعيها ليس وعياً انقلابياً.. لو كان وعيا انقلابيا لضحت بمشاريع كثيرة من أجل مصرفي سبيل خطوة توحيدية عربية، لأنها تعود عليها وعلى الشعب العربي بأضعاف الفوائد التي يحققها مشروع كالسد العالي مثلا.
سؤال: هل هناك إمكانية لتوحيد مصر مع سورية أو مع السعودية؟ وما هو موقفنا؟.
-السعودية: تعرفون حالها.. الشيء الجدي مع سورية، وهذا لاشك شيء ايجابي، ولكن يبقى معرضاً لشتى الأخطار والاحتمالات، لأنه لم ينفذ الميثاق المقترح الذي طوي، والذي نأمل أن يعود: توحيد في السياسة والاقتصاد والجيوش. نفذ توحيد في القيادة العسكرية.. معنى هذا: إذا غيرت مصر سياستها يبطل التوحيد العسكري، كما أن إرجاء التوحيد الاقتصادي يضعف كثيراً إمكانيات التوحيد.
مصر ستبقى دوماً سائرة في سياسة مقاومة الإستعمار، وفي السياسة العربية التحررية.. هذا لم يُنص عليه، ولكن الأمل أن يوجد هذا. وهنا الخطر: خطر 10 من مصر و50 من سورية، لأن السياسة المناوئة للاستعمار وأحلافه قد تتغير.
الاستبشار الزائد بتوحيد القيادة العسكرية ليس مفيدا كثيرا. لا تبالغوا بأهميته.. كل شيء أحسن من العدم ولكن لا يجوز الاطمئنان ولا الإكتفاء ولا القناعة. الواجب القومي الملقى علي الجيوش العربية واجب كبير شاق: خطر “إسرائيل” معروف، و”إسرائيل” معناها الإستعمار: الإستعمار يدفعها للتوسع لسحق النهضة العربية، لكي يبقى الإستعمار مستثمرا لبلادنا، أي ثروتها وموقعها. هذا لا يتم بأن يجتمع أركان سورية ومصر.. هذا أحسن من العدم.. صحيح، ولكن المهمة كبيرة وشاقة فالمهمة التي أمامنا الآن هي تزويد الجيش بالأسلحة.. والتحصينات.. والعدد المتزايد.. هذا لا يكون إلا بتنمية ثروات البلاد..
فالتوحيد الاقتصادي أساسي، إذا ضمنا عدم تغير السياسة في مصر وبقاء سياستها متحررة.
لا يجوز أن نضع هذه الحكومة في مستوى الحكومات الرجعية: هي حكومة تقدمية. ونحن كحركة ثورية.. طريقنا طويل.. يجب أن تكون لنا نظرة للحكومات، للعراقيل التي في طريقنا.. هذه أخف من غيرها.. هذه مفيدة.. هذه أنسب من غيرها، ولكن ليس أمامنا حكومة انقلابية.. حكومة انقلابية لا تعترف بتقسيم فلسطين ولا تسكت عن فرنسا بعد شهر من الحملات الإذاعية عليها. ولكنها أحسن من حكومة نوري السعيد وأحسن من حكومات سورية المتعاقبة.
عملياً: الشعب متحمس لحكومة مصر، ونحن يجب أن نُفهم الشعب حقيقة وضع حكومة مصر، وما هي حقيقتها.
الحكومات في سورية هي دون حكومة مصر بكثير: من حيث الإخلاص.. الوعي.. التحرر من المصالح.. وبالتالي التحرر من الإستعمار. ولكن إقدام هذه الحكومات على أعمال الخيانة، هذا شيء آخر فالحزب يغير لها حساباتها..
سؤال: ما هي الضمانة، إذن، لتحقيق السياسة العربية التحررية ؟
-الضمانة في طليعة الحكم النضالية الجماهيرية. الاستعمار يشجع أحيانا حكومات تقدمية…الإستعماركثيراً ما يصير «تقدمياً» يسلم 10 لكي لا يضيع 90. لو بقي فاروق وزادت النقمة.. ربما هب الشعب وأحرق الأخضر واليابس.. أميركا أيدت الإنقلاب في مصر لتوجد متنفساً لنقمة الشعب، لكي لا تنصبّ النقمة على الغرب فتطيح بكل ما له من مصالح.
أميركا لم تكتب صكاً مع رجال الثورة في مصر، ولا الشيشكلي ولا حسني الزعيم، وإنما كدولة خبيرة وقادرة.. تعرف ما يمكن أن يخرج من هذا الحكم.. إلى أي حد يصل هذا الحكم.. حكم من ضباط عسكريين ليس لهم حزب وليس لهم سند.. يحكمون بالسلاح.. يكسبون عداء الإقطاعيين.. يكسبون مودة الفلاحين، ولكن مودة الفلاحين على جهلهم ليست عنصرا فعالا.. وأرض الفلاح لا تعطي سريعا، فأميركا تضمن أن حكومة من هذا النوع لن تكسب شعبية كبيرة، ولكن حسابات أميركا لم تكن مضبوطة.. لم تكن تعرف ماذا ستفعل حكومة مصر. حكومة مصر تمخضت عن الكثير، ولكن لا نستطيع أن نبتعد كثيرا: فحكام مصر لا يغلقون ابواب مصر في وجه الرساميل الأجنبية.. اخرجوا الانجليز باتفاق وليس بالسلاح.. لا يذهبون في قضية فلسطين إلى أبعد من مقررات الأمم المتحدة.. الرأسمالية باقية في البلاد. أي أن حكومة مصر لها حدود معينة لا تستطيح تجاوزها.
سؤال: هل تأثرت حكومة مصر بمواقف الحزب؟.
-حكومة مصر تأثرت بالحزب دون اتصال مباشر، ثم طلبوا الاتصال، وحصل. وطلبوا كتابات.. وأعطينا رأينا في أعمالهم الداخلية: أصدرنا بيانا بمناسبة إعدام الإخوان المسلمين -رغم رأينا فيهم- وبينّا أننا لا نوافق على القمع والإرهاب، وأرسلوا يطمئنون على أثر بياننا، وأنهم سائرون نحو الديمقراطية.
الشيء نفسه حصل بالنسبة للحياد: قلنا بالحياد منذ 8 سنوات أو أكثر. هناك براعة في سياسة مصر، ولكن واجبنا نحن أن نلتزم الخط القومي الواضح، ونضغط على الآخرين.. نحن لا نفهم المساومة.
واجب الحزب مزدوج: أهم شيء عليه تكوين رأي عام عربي إنقلابي.. هذا الواجب أساسي. واجب آخر بالدرجة الثانوية: توجيه الحكومات حينما تكون هناك بادرة إخلاص.. هذا التوجيه يكون بضغط الشعب.. الشعب بضغطه يسمح أن يكون لرأيك وزن إذا ما قدمته للحكومة مثلا.
يجب أن يكون اتصالنا بالشعب واسعاً: جرائد – بيانات – لقاءات.. ونتصل بالحكومة إذا ما ظهر إخلاصها.
آذار1956
النضال في المغرب وأسلوب المفاوضة
ابتدأ الحديث بسؤال عن نظرتنا إلى السياسيين في تونس، الذين ساروا في الحل المعروف .. حل المفاوضة .. التفاوض والتفاهم مع الاستعمار الفرنسي، وهل نعتبرهم خونة أم مجرد مخالفين لنا في الرأي..
***
لقد سأل الأخ عن مفهومنا للخيانة، وهل تنطبق هذه الصفة على أولئك السياسيين في تونس؟.. وبالتالي هل عرفنا وجهة نظرهم كما عرفنا وجهة نظر المعارضة؟..
لا أوافق على استعمال لفظة الخيانة، ولست أرى كبير نفع من التطرف في هذه التسميات والألفاظ. ولكن الواجب أن نعين بالضبط، بالدقة، ودون اللجوء إلى كلمات إنفعالية ما هي حقيقة السياسة التي انتهجها السياسيون المعروفون في تونس.
إنني اعتبر بأن في المغرب العربي إمكانيات نضالية هائلة، وهي موجودة في الشعب العربي عامة، ولكن قد تكون متفوقة في الشعب العربي المغربي. ومن جهة أخرى نعرف بأن الدولة الإفرنسية في طريق الانهيار والإنحطاط، وأن الإستعمار عامة في طريق الإنهيار.
ونعرف من جهة ثالثة بأن أقطار الشرق العربي خطت رغم تلكؤ حكامها، رغم المآخذ التي نأخذها على الأوضاع فيها.. ورغم كل شيء.. خطت خطوات كبيرة في سبيل التحرر وخاصة في طريق الوحدة.. التحسس بالوحدة وفائدتها وأصالتها، وبأنها واقعية وليست خيالا ووهماً.
وبالإستناد إلى هذه العناصر الثلاثة كان من واجب قادة النضال في تونس أن يتفاءلوا بالشعب أكثر مما فعلوا.. أن يتفاءلوا بالشعب العربي عامة، وبالشعب العربي في تونس بصورة خاصة.. بأنه سيتحمل نضالاً أطول وأقسى لأنه في كل خطوة يزداد خبرة وعزيمة ويزداد وعي الشعب في النضال، ويزداد شعوره بحقه في الحياة، وليس هنالك خوف على الشعب أن يتخاذل أمام القوة الغاشمة. إذن حُكمنا عليهم أنهم ضعيفو التجاوب مع روح الشعب. لا نقول أنهم يعرفون إمكانيات الشعب في النضال وتآمروا عليها، ولكننا نقول: لا يعرفون حقيقة الإمكانيات الشعبية، ولذلك وقفوا في نصف الطريق، وهذا يعني الحكم بعدم جدارتهم بالقيادة.
فموضوع الخيانة في نظري موضوع ثانوي. وكما قلت: لا أستسيغ أنا شخصياً إلقاء هذه الألفاظ جزافاً، ولكنني أتوخى التحليل العلمي الواضح. فهل برهن هؤلاء القادة على ثقة بالشعب حقيقية، وبأنه قادر على الاستمرار في النضال؟.. وماذا وجدوا من الشعب ما ينبئ عن ضعفه وتعبه ما دام الشعب في الجزائر قاسى أضعاف ما قاساه الشعب في تونس، ولزمن أطول بكثير؟.. ولكنه اليوم متفوق من حيث القوة والإستعداد للمقاومة، وفرض احترامه على الآخرين.. فكيف نصدق أن الشعب في تونس أضعف منه في الجزائر..! إذن ألا يكون من حق الشعب العربي وهو الذي عانى تجارب كثيرة حتى اليوم أن يتساءل: هل وراء ذلك مصالح خاصة، ليس بالضرورة عند بورقيبه وأشخاص معدودين من مساعديه، ولكن عند طبقة معينة يستند إليها هؤلاء الزعماء وهي الطبقة التي تحرص على مصالحها الاقتصادية، ولا تستطيع أن تفرط بهذه المصالح من أجل قضية وطنية؟.
المأخذ على هؤلاء القادة أنهم اعتمدوا على طبقة ليست هي طبقة الشعب، ولا تمثل حقيقة مصالحه. والملاحظ أن هذا النوع من السياسيين ضعيف الثقة بالتضامن العربي.. وبالتعاون العربي.. ضعيف الثقة بالمساعدات الجدية التي يمكن أن تأتي من الأقطار المستقلة، لأنهم حاولوا وطلبوا ولم يجدوا تلبية، ولكن هم أنفسهم هؤلاء من نفس نوع الحكومات التي منعت عنهم المساعدة، لأنهم لو كانوا من طبقة الشعب لما يئسوا، ولما حكموا على الأمة العربية من خلال طبقة متخلفة شائخة. الأمة العربية ليست هي نوري السعيد وحكومات سورية ولبنان.. إنها أعمق بكثير وأغني بكثير، ولكنها لم تمثل بعد التمثيل الصادق. أبناء الشعب الذين لا يعتمدون في نضالهم إلا على الشعب لا ييأسون من الأمة عندما تتخاذل الحكومات. والشعب لا يكذّب هذه الثقة وهذا التفاؤل، لأن كل يوم يأتي بجديد ومفاجأة لمصلحتنا، ويفصح عن إمكانيات لم نكن نتوقعها. وكأنهم -في الواقع- كانوا ينتظرون عذراً لكي يقطعوا هذه الصلة ليس بين تونس والشرق العربي فقط بل بين تونس والجزائر ومراكش، لأنهم رضوا أن يفصلوا أنفسهم عن الشعب.
ونحن لم نكن بحاجة إلى وجهة نظر المعارضة التونسية ما دمنا جربنا هذه الأشياء هنا. صحيح أننا سمعنا رأي المعارضة، ولكننا كنا نعرفه قبل أن نسمعه لأنه هو رأينا.
على كل حال، إني اعتقد بأن هذه الخطوة لن تكون الخطوة النهائية، وإنها تجربة خاطئة سيصححها الشعب نفسه. لا استطيع التنبؤ هل سيكون ذلك الآن أو بعد سنة أو أكثر، ولكني متيقن أن هذه السياسة -سياسة المساومة والاعتدال- قد فشلت دوماً وكانت من مصلحة المستعمر لا من مصلحة شعبنا.. ولقد أصبح عند الشعب العربي من الوعي والتجارب ما يكفل بأن يصححها باستئناف النضال وتوحيد النضال في المغرب وبين المغرب وبلاد الشرق العربي.
– القول بأنه في حالة وصول الجزائر ومراكش إلى الوضع الذي وصلت إليه تونس، في هذه الحالة ماذا تكون الخطوات العملية لمتابعة النضال؟..
إنني رغم ثقتي التامة بأن النضال في الجزائر لن يهدأ، وفي تونس أيضا ومراكش، ولكن لنفرض جدلاً بأنه وجدت هناك فئات دخلت في مفاوضة مع الافرنسيين على وضع يكون أكثر قبولاً نسبياً من الوضع السابق، ولكنه لا يحقق أماني الشعب ومطالبه، واستطاعت هذه الفئات وبالتعاون مع الافرنسيين أن تفرض هذا الحل فرضاً مؤقتاً. أعتقد بان كل نظرة ايجابية إلى هذا النوع من التسوية ستسيء إساءة بالغة إلى القضية الوطنية. أي إذا سلمنا بجواز التعاون الحكومي بين الأقطار المغربية الثلاثة وبموافقة الشعب على هذا التعاون، ليس لنا حيلة في أن تتعاون الحكومات، ولكن الخوف والخطر هو أن ينظر الشعب انه لمصلحته مع انه لمصلحة الاستعمار. لم يعد احد يجهل اليوم ما هي المصالح الإفرنسية الكبيرة التي وجدت في المغرب.. والى أي حد تستعمل طبقة معينة من الإفرنسيين هذه المصالح للاحتفاظ بمركزها وسلطتها. وليس لذلك إلا معنى واحداً هو الإستغلال الإقتصادي.. لم يعد هناك مكان في فرنسا للوطنية أو النفوذ الشعبي الفرنسي، كل ذلك أصبح تدجيلاً.. الحقيقة أن هناك طبقة تستثمر أرض المغرب العربي وثرواته، وطبقة أخرى من الموظفين يعيشون أسيادا في المغرب العربي، هؤلاء فقط يحرصون على بقاء سلطة فرنسا في المغرب، هؤلاء يشترون الصحف والنواب والوزراء وقادة الجيش الفرنسي. فإذن كل تعاون مع فرنسا يفترض حتماً التسليم لهذه الطبقة المعينة الفرنسية بالاستمرار في استغلال ثروات المغرب، فأية نهضة يمكن أن ننتظر.. أي مستقبل؟؟ استقلالات شكلية تكون قد أفرغت سلفاً من محتواها الإيجابي الذي هو ثروة البلاد. وما دمنا نسمح للفرنسيين باستغلال هذه الثروات فليس هناك استقلال حقيقي. وعلى كل حال ومهما تكن الاجتهادات فان بقاء الشعب معارضاً لهذه الحلول وحذراً منها، ومستعداً دوماً لمقاومتها هو الحل الصالح والسليم، لأنه في أسوا الاحتمالات يكوّن ضغطاً على الحكومات المحلية من جهة وعلى الإستعمار من جهة أخرى لكي يعتدلوا في استثمارهم وجشعهم، لكي يقفوا عند حد. لذلك لا افهم خاصة من الشباب، الشباب الواعي، أن يستنكر وجود معارضة، مع العلم بان المعارضة في أسوأ الإحتمالات هي ضمانة لتخفيف الشر. ونحن نرجو أن تكون المعارضة وسيلة لاستئناف النضال وطرد الاستعمار، وهي في اقل الدرجات ضمان لكي لا يرجع الاستعمار إلى راحته الأولى ويسترسل في جشعه واستغلاله، لأنه يخشى دوماً من عودة النضال المسلح، ويحسب حساباً للشعب ولمصالح الشعب.
آذار1956
قضية الدين في البعث العربي
ان أول ما أريد ان أنبه اليه هو ان ثقافة الاعضاء والشباب القومي بصورة عامة لا يجوز ان تبقى ثقافة منفعلة(1)، كأن ينظر الى قضية الأمة العربية على أنها تحتوي مشاكل نظرية وعناوين لمشاكل يمكن ان تحل بجواب يعطى من شخص او من صحيفة أو مجلة كتلك الاسئلة التي توجه عادة الى المجلات والاذاعات، فذلك لا يكون ثقافة… وهذا هو النوع الرائج في وسطنا، ويكتفي به عامة الناس والذين لا يعتبرون القضية قضية جدية تتعلق بمصيرهم بل تتحول في الواقع بالنسبة اليهم الى كلام وتسلية بالكلام والنقاش لتمضية الوقت والاكتفاء بمفاهيم رائجة سطحية جدا وخاطئة من أساسها، والدوران في نطاق هذه المفاهيم العامية السطحية واحتدام الجدل بين وجهات نظر وآراء ليست هي في الواقع لا وجهات نظر ولا آراء. إن الذي يهمنا نحن بالدرجة الأولى هو تكوين الجيل العربي الجديد الذي تلقى عليه مهمة الإنقلاب العربي وإيصال القضية القومية الى الظفر والنجاح، يهمنا أن يكوّن هذا الجيل لنفسه ثقافة حقيقية متميزة تميزاً واضحاً عن العامية المسيطرة على مجتمعنا.
وباختصار: كيف يجب أن نفهم الثقافة؟ هي أولاً مشاركة في الجهد وليست انفعالا وتكيفاً، أي أن الذين عليهم أن يتثقفوا يتوجب عليهم ان يتعبوا وأن يتقاسموا الجهد مع مثقفيهم وان يمشوا بأنفسهم خطوات جديدة في طريق المعرفة والتثقف اذ لا يجدي قضيتنا شيئاً ان نجمع شباباً لا يعملون أكثر من حفظ بعض الشعارات والكليشهات والاجوبة العامة الموجزة التي يمكن أن تفهم على أي شكل أي ان لا تفهم مطلقا. على الشعب العربي ان يفهم ان الثقافة هي نوع من أنوع النضال، النضال مع النفس، النضال مع الفكر لكي يتعب في تحصيل المعرفة ولكي يجرؤ على تبديل الأسس السطحية في التفكير الشائع التي هي في داخله لكونه ابن وسطه، لكي يعيد النظر في كل الامور الأساسية حتى يصل الى النظرة الجديدة، النظرة الإنقلابية التي أوجدها الحزب في المجتمع العربي الجديد، والتي لا يعني وجودها بأن جميع المنضوين تحت لواء الحزب او المناصرين لاتجاهه قد فهموها وحققوها في أنفسهم وعاشوها بعمق. فكل شيء يمكن ان يستعار وان يقلد الا الفكر: على كل شخص، على كل فرد ان يملكه شخصيا، اي ان يمشي هذا الطريق من أوله بنفسه وبجهده الخاص حتى يصح أن يعتبر هذا الشخص انقلابيا وان تكون نظرته أصيلة نابعة من نفسه لا مجرد تقليد واستعارة.
من المهم جدا أن نعود دوما الى أنفسنا بالنقد الذاتي حذرا وحيطة لكي نهدم بعد كل خطوة نخطوها ما يعلق بنا من اصطناع وتزييف وتقليد اذ ليس أسهل من أن يستسلم الإنسان للتقليد والتزييف لأن فيهما الراحة والكسل. فالحركة الصادقة الحية هي التي تبقى في صراع مستمر مع نفسها كما هي في صراع مستمر مع أعدائها ومع الاوضاع والقيم الفاسدة التي عليها ان تحطمها. لذلك رأيت من الواجب ان ابدأ جوابي على الاسئلة بهذا التنبيه لكي تحتاطوا كثيرا لأنفسكم وترفضوا رفضا باتا وجازما أن تكون فكرتكم وان يكون إيمانكم بالحركة شيئاً غير نابع من نفس كل منكم وشيئاً سهلا يحفظ بالذهن ويلوكه اللسان ولكنه عديم الصلة بالحياة.
1- السؤال الأول: عن موقف الحزب عندما يصل الى الحكم ويحقق أهدافه او يبدأ في تحقيق الانقلاب العربي، وكيف يكون موقفه من الدين بصورة عامة؟
للاجابة على هذا السؤ ال لا بد من ملاحظة أولى وهي ان لا فرق في نظرة حزبنا بين المرحلة التي تسبق وصوله الى الحكم بالشكل الكامل وبين المرحلة الثانية والاخيرة التي هي مرحلة التحقيق الإيجابي، تحقيق الإنقلاب العربي الشامل. فعمل الحزب اذن واحد في المرحلتين ومنطقه واحد ونضاله أيضا واحد. كثيرا ما رددنا خلال نضال الحزب هذه الفكرة بأن حزبنا سيعد أو هو مكلف بأن يعد الانقلاب العربي منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه بإعداده أدوات الإنقلاب التي هي نفوس الشباب، اذ لا يمكن التفريق بين الإنقلاب وأدواته. فكما تكون الأدوات يكون الإنقلاب، وقد يكون التعبير غير دقيق، اي ان أعضاء الحزب المناضلين الذين نسميهم أدوات الإنقلاب يطلب من الحزب أن يربيهم في تفكيرهم وفي سلوكهم التربية الإنقلابية الصحيحة حتى يستطيعوا أن يحققوا الانقلاب عندما تتوافر جميع الشروط لهم. للانقلاب شروط على نوعين: شروط ذاتية وشروط موضوعية – شروط ذاتية يجب أن تتحقق في نفوس الإنقلابيين، في نفوس أعضاء الحزب وأنصاره، وشروط موضوعية تتعلق بالظروف الخارجية والظروف الداخلية ونمو المجتمع والثروة وشتى النواحي. فلو أهملنا الشروط الذاتية وتوفرت الشروط الموضوعية فلن يكون ثمة انقلاب لأنه لن يكون ثمة من يؤمن بهذا الانقلاب، ومن يعي أهدافه ومن يتصف بأخلاقه وبالإخلاص له حتى يحققه. لذلك أستطيع أن أعود الى المقدمة عن الثقافة وأقول بأن من أهم عناصر الثقافة التي يجب ان تطلبوها انتم هو النضال نفسه، هو العمل والمشاركة في حمل المسؤوليات والإتصال الحي بالواقع ومواجهة مشاكله وصعوباته والاهتداء بالوعي والإرادة الى ايجاد الحلول المناسبة لها بشكل يقوي التيار الإنقلابي ويوصل الإنقلاب الى أهدافه. هذا عنصر أساسي من عناصر الثقافة الجديدة التي نطلبها للجيل الجديد اذ ان كل ثقافة تنحصر في الذهن والتفكير فقط دون مشاركة فعلية وعملية، ليست ثقافة ناقصة فحسب، بل هي ثقافة مختلة ومنحرفة من أساسها لأن عنصر العمل مفقود فيها.
المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشاكل في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهلها حزبنا وان يتهرب من إيجاد الحلول لها. لهذه المشكلة تعبيرات مختلفة، تعبير فكري يتصل بصميم عقيدتنا الإنقلابية وتعبير أخلاقي عملي يتناول تصرفاتنا وردودنا على المشاكل الواقعية التي نواجهها. مهمة الحزب هي أن يضع للعرب في هذه المرحلة الخطيرة صورة كاملة لمشاكل حياتهم والحل لهذه المشاكل، واجبه ان يضع لهم صورة كاملة للحياة الإنسانية. فهل الدين شيء ثانوي مصطنع في حياة الإنسان والامم؟ هل هو شيء عارض ولو أنه دخل حياتهم منذ ألوف السنين؟ وإذا نظرنا اليه على أنه شيء غير أصيل، غير أساسي ولا يلبي حاجة صادقة وعميقة في النفس فهل يمكن أن ينتهي ويزول مع ما وراءه من تاريخ حافل طويل منذ آلاف السنين؟
إن الحزب لا يرى هذا بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه يمكن ان يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم او يتأخر ولكنه لا يمكن أن يزول.
اذن فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه لم نرض له ان يتكون تكوينا ناقصاً أو زائفاً، وأن نكتم عنه جانباً من الحقيقة أو نصف الحقيقة فنعطيه فكرة تخدمه وقتاً من الزمن ثم لا تعود صالحة، عندها نصل الى الشيوعية وفلسفتها، فنحن منذ بدء حركتنا نظرنا الى الشيوعية كشيء خطير وجدي وجدير بأن يعتبر، وبالرغم من كل النواحي الإيجابية الخطيرة التي أتت بها فلسفة ماركس فقد اعتبرناها ناقصة لأنها لم تعبر عن كامل الحقيقة بل أخفت بعض نواحيها، وقد يكون قصدها من وراء ذلك تقوية العمل وتركيز العزم على مجال محدود من الأهداف القريبة لكي يكون مردود العمل أكبر ونزوعه أقوى وأفعل، تاركة للزمن فيما بعد ان يصلح ما أهملته وان يكملها..
فالماركسية تقوم على أساس نفي وانكار كل معتقد يتجاوز الطبيعة والمادة والأشياء المحسوسة كما هو معروف، وليس هذا في الماركسية نتيجة عجز عن الفهم، كلا بل له دافع عملي وهو: ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة خاصة خلال التاريخ الحديث حيث تفاقمت الفروق الطبقية والإستغلال الطبقي، ما دام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه واستخدم لمنع التحرر البشري وكان في صف التأخر والعبودية والظلم، لذلك رأت الماركسية ان تنسفه نسفا. فالدافع اذن دافع عملي وليس عجزا عن فهم أهمية الدين وحقيقته. ولكننا نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية، اذ أنه ينبىء عن ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة. فنحن مع تبنينا للنظرة السلبية الى الدين، اي رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعما للظلم والتأخر والعبودية، نثق رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين، وعلى هذا النوع من التدين الكاذب والمشوه وأن يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه.
ونحن لا نجهل بأن نظرتنا هذه تتطلب هن الجهد والحذر أضعاف ما تتطلبه النظرة الشيوعية التي تخلصت من المشكلة بأن رفضتها تماماً وألقتها جانبا. أما نحن فالمشكلة بالنسبة لنا أعقد بكثير لأننا كما قلنا في مرحلة الإنقلاب، الإنقلاب العميق الجذور في كل الأمور الأساسية التي ترتكز عليها حياة العرب والتي يؤلف الدين جزءاً منها. فلو اكتفينا مثلا بالنظرة السطحية وقلنا ان الدين رغم كل انحرافاته وتردياته والاشكال التي يستغل بها ضد مصلحة الشعب وضد التقدم وحرية الإنسان، هو بهذه الصورة المشوهة وضمن هذا الاطار الرجعي، شيء صادق وأساسي لا يستغنى عنه وانه متأصل بأعماق الإنسان، لذلك فنحن نوافق عليه بهذه الصورة ونتبناه! لو مررنا على الدين هذا المرور السريع لأدّى الأمر بنا الى أن نلتقي مع الرجعية وان نقبل كل أمراضنا الإجتماعية والفكرية والأخلاقية وأن نكون قد بقينا في أرضنا لم نغير في حياة العرب، وهذا تزوير كبير للحقيقة، وقتل بل خنق للإنقلاب قبل ان يولد.
فكرتنا إيجابية تنتهي دوماً الى تقرير الحقائق الإيجابية، ولكن يجب أن لا ننسى بأن بين وضعنا الآن وبين هذه الحقائق الإيجابية التي يجب أن نصل اليها عندما يتحقق الإنقلاب العربي، مسافات شاسعة يجب أن يبقى فيها التوتر شديداً بين وضعنا السلبي المريض الذي نعيشه وبين المرامي الأخيرة لفكرتنا، وان تكون لدينا الشجاعة الكافية واليقظة التامة لكي نتبين كل مفاسد أوضاعنا ونحاربها محاربة لا هوادة فيها، وان نشق من خلال هذه المعركة السلبية التي نحارب فيها المفاهيم البالية المشوهة، طريق القيمة الإيجابية التي سنصل اليها آخر الامر. كثيراً ما قيل لنا، خلال السنوات التي مر بها الحزب في نضاله، من جماعات رجعية، متأخرة في عقليتها، استغلالية في سلوكها تمثل المصالح والعقلية والأوضاع التي يتوجب علينا القضاء عليها، كثيراً ما قيل لنا: ما دامت نظرتكم إيجابية وما دمتم تعرفون قيمة الدين فما الفرق بيننا وبينكم؟
الفرق كبير جدا، هو الفرق بين النقيضين. نحن نعتبر أن الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الإجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، وانها أكبر خطر يهدد الدين. ان هذه الرجعية التي تحمل لواء الدين في يومنا هذا وتتاجر به وتستغله وتحارب كل تحرر باسمه وتدخله في كل صغيرة وكبيرة لكي تعيق الإنطلاقة الجديدة، هي أكبر خطرعلى الدين، وهي التي تهدم مجتمعنا وتشوهه، فلولم نكن نحن ولو لم تكن حركتنا موجودة لتهدد المجتمع العربي بأن يشوهه الإلحاد، اذ أننا بمقاومتنا الرجعية الدينية بدون اعتدال وبدون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة منها، ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد.
ولكن هذا شيء والسلوك والتصرف شيء آخر، او بالأصح يجب علينا أن نعرف كيف نترجم فكرتنا ترجمة عملية وكيف يجب أن يكون تصرفنا العملي مؤدياً الى الغاية المطلوبة: ان جمهور شعبنا ما زال متأخراً وما زال خاضعاً لمؤثرات رجال الدين من شتى المذاهب والطوائف. فلو اننا ذهبنا الى جمهور الشعب، وليس لنا غنى عنه اذ بدونه لا نستطيع أن نحقق أي تبديل أساسي في الحياة العربية، لو ذهبنا اليه بأفكار فجة وبأساليب غير محكمة وتصرفنا تصرفات هي أقرب الى ردود الفعل والنزق والمرض النفسي منها الى الإيمان بحركة منقذة، فأخذنا نطعن بالدين ونتبجح بالكفر ونتحدى شعور الشعب في ما يعتبره هو مقدسا وثمينا، نكون بدون فائدة وبدون أي مقابل أغلقنا أبواب الشعب في وجه الدعوة وأوجدنا ستارا كثيفا بيننا وبينه حتى لا يعود قابلا او مستعدا لأن يسمع منا شيئا أو أن يسايرنا في نضالنا ودعوتنا.
فالمناضل البعثي يجب أن تتوافر فيه شروط صعبة جدا وتكاد تكون متناقضة، فهو حرب على كل تدجيل باسم الدين والتستر وراءه لمنع التطور والتحرر والإبقاء على الأوضاع الفاسدة والتأخر الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعرف حقيقة الدين وحقيقة النفس الإنسانية التي هي ايجابية قائمة على الايمان لا تطيق الانكار والجحود، وان جمهور الشعب ليس هو العدو بل هو الصديق الذي يجب أن نكسب ثقته. صحيح انه مضلل مخدوع ولكننا نحن لا نستطيع أن نكشف له انخداعه إلا إذا فهمناه وتجاوبنا معه وشاركناه في حياته وعواطفه ومفاهيمه، فنحن في كل خطوة نخطوها نحوه نستطيع ان نطمع بخطوة من جانبه يأتي بها إلينا، لذلك يكون المناضل البعثي مهددا دوما بالخطر: فهو ان سلك هذا السلوك مهدد بأن يتزمت وان ترجع اليه عقليته الرجعية التي ثار عليها، وهو ان سلك سلوكا آخر معاكسا، إن شهر السيف على المعتقدات الخاطئة مهدد بأن يصبح سلبيا وان يخون ما في فكرة البعث من ايجابية فيلتقي بهذا مع السلبية الشيوعية التي رفضناها او ان يلتقي مع أي شكل من أشكال التحرر الزائف المقتصر على التظاهر والتبجح. إذن على المناضل البعثي، عندما يحارب الرجعية ويصمد أمام هجماتها وافتراءاتها وتهيجاتها وإثاراتها، ان يتذكر دوما انه مؤمن بالقيم الايجابية والقيم الروحية وانه انما يحارب تزييف القيم من قبل الرجعية ولا يحارب القيم نفسها. وانه عندما يساير جمهور الشعب ويتصرف تصرفا حكيماً معه دون أن يجرح عواطفه لكي ينقله تدريجيا الى مستوى الوعي اللازم، عليه أن يتذكر انه رجل ثائر متحرر لا يقبل لنفسه ولا لأمته مستوى رجعيا رخيصا من الإعتقاد ولا صورة مشوهة للعقيدة الروحية، وان مسايرته للشعب ليست الا وسيلة مؤقتة لكي يهيئه لأن يفهم الامور الصعبة. ان ثقة البعثي بالإنسان عامة وبالإنسان العربي خاصة يجب أن تغريه دوما بالمزيد من الجرأة في مكافحة المعتقدات الخاطئة الجامدة، وان لا يحسب ان الأمة العربية لا تتحمل هذه الكمية من الثورة والتحرر فهي خصبة عميقة، وهي مختزنة لتجارب مئات السنين من الآلام، مئات السنين من التأخر والظلم، لذلك فهي مهيأة كل التهيؤ لان تتفجر وان تبلغ مستوى روحيا فيه كل الجرأة.
نيسان 1956
( 1 ) حديث ألقي على الاعضاء والانصار في طرابلس.
حول وحدة مصر وسوريا
إتجاه طريقها وعقبات هذه الطريق
سواء أكانت الوحدة التي نعمل على تحقيقها بين مصر وسورية في هذا الظرف وحدة أم إتحاداً، فان ما نريده ونحرص عليه هو أن يكون اساسها متيناً وطريقها سليماً يسير نحو النماء والتكامل، ويوصل الى الوحدة العربية الشاملة. وبتعبير آخر، نريد ان تكون عناصر الحياة في هذه الوحدة الصغرى غالبة على عناصر الجمود والتناحر والشكليات الخادعة، وان تحقق هذه الوحدة توحيداً فعلياً خلاقاً بين أجزاء الشعب الواحد في مصر وسوريا وتوحيدا فعلياً خلاقاً لإمكانيات الشعب المادية والمعنوية. فمتى كانت الخطوة الاتحادية شعبية ضُمِن لها الخلق والابداع والقوة المتفجرة بازدياد، وضُمِن لها ان تبقى في الاتجاه القومي السليم. ومقتربة يوماً بعد يوم، من التحرر الكامل، والوحدة الشاملة، والشروط الاجتماعية العادلة لجميع المواطنين.
ولكن ثمة منطلقاً آخر للوحدة أو الاتحاد، وطريقاً آخر، يمكن أن يُقَدَما لنا كبداية واقعية، هما منطلق الجامعة العربية وطريقها، وقد برهنت الحوادث والكوارث طوال السنوات العشر الأخيرة على أنه كان منطلقاً خاطئاً يكمن فيه الغش والتآمر، وان الطريق كان معكوساُ أُريد من إنتهاجه تثبيت التجزئة لا الخلاص منها، وتخدير حاجة العرب الى الوحدة لا تلبيتها.
فهل يراد لهذه الخطوة الاتحادية المرتقبة ان تكون على غرار الجامعة، وان تكون سلطة الدولة المتحدة بيد موظفين واشخاص ضعاف كأمين الجامعة العربية، وموظفيها، ويبقى لكل قطر من القطرين رئيسه المستقل، وزعماؤه المسيطرون، وهل يقتصر توحيد السياسة القومية على توزيع السفارات والقنصليات بين الدبلوماسيين من مصر وسورية بالتساوي؟ وهل ينحصر توحيد الدفاع في قيادة الجيشين، وهل يكتفي اخيراً من توحيد الاقتصاد بتبادل السلع، وبتنسيق جامد للاوضاع الاقتصادية الراهنة بين القطرين، بدلاً من تحقيق التفاعل العميق بين القوى المنتجة على ضوء الحاجات الجديدة والنظرة الجديدة التي يوحي بها الاتحاد، والتي توجب توجيه الانتاج نحو ما تقتضيه الضرورات والاهداف القومية العليا؟
اذا كنا نطرح مثل هذه التساؤلات، فلأننا نعلم أن الانحرافات والتزييفات تهدد الوحدة في أولى خطواتها، وأن العقبات في طريقها ليست قليلة ولا يسيرة. فمن البديهي ان يكون الإستعمار واسرائيل متفقين متضامنين في مقاومة كل خطوة نحو الوحدة. ومن الطبيعي أن تكون الاقطاعية والرجعية في الداخل مشاركتين لهما الى حد كبير في هذه المقاومة. ولكن ما هو ليس طبيعياً ولا بديهياً أن يجد أعداء الوحدة الخارجيون والداخليون في كثير من رجال السياسة ومحترفيها أدواتهم المنفذة الأمينة. وفي اعتقادنا ان أعدى أعداء الوحدة العربية ليس الاستعمار ولا الصهيونية وليست حتى الرجعية الخائفة على مصالحها. لأن هذا العداء الصريح أو المفضوح للوحدة يحفظ بينها وبين اعدائها مسافة بينة واضحة تمنع ان تصل اليها سهامهم وسمومهم. ولكن الخطر الجدي على الوحدة هو من اولئك المدعّين لها، المتبجحين بها، الذين إنما يلصقون بها هذا اللصوق لكي يزيفوها ويمتصوا دمها ويخنقوا أنفاسها ويضعوا على لسانها ما لا تريد قوله ويجعلوها أسيرة بين أيديهم، ويهددون بها ويساومون عليها مقابل مراكز وزعامات شخصية حقيرة، والمخرج الوحيد من أخطار هذا التآمر وذلك التزييف، هو في اخراج مطلب الوحدة من نطاق الجدل العقيم، والمفاوضات والمساومات بين الحكام والسياسيين والنواب وحتى الاحزاب، وفي تسليمها الى جماهير الشعب العربي، وان تُوَضَح لهذه الجماهير حقيقة الاغراض والمصالح والأهواء التى تتآمر على الوحدة، وأن تبين لها الإمكانيات العريضة الواسعة التي تساعد على تحقيقها فيما لو أُبعِدَ عنها التآمر، وأُزيلت من طريقها العقبات التي يضعها أدعياؤها قبل أعدائها.
ان هذا الوضوح في فهم قضيتنا، إذا انتقل الى الشعب، وتجسد في رأي عام نضالي منظم، يشكل وحده القوة الايجابية الفعالة التي تستطيع ان تجابه المؤامرات الخارجية والداخلية، والتي تخلق وتبني. والوحدة العربية خلق وبناء وثورة، لأن تحقيقها، والبدء الجزئي البسيط في هذا التحقيق هو أصعب ما يواجهنا، هو بالتالي المعيار الصحيح الدقيق لحقيقة الامكانات العربية المعبرة عن قدرة العرب أنفسهم، لا عن مجرد مواتاة الظروف الخارجية، والنفع الذي يأتي عفواً من تصارع القوى الأجنبية حولنا.
7 نيسان 1956
العلاقة بين الحكومات والشعب العربي
إذا رجعنا بأذهاننا إلى ما قبل عشر سنوات لنلقي نظرة على الوضع الحكومي في الوطن العربي نجد أنه كان ثمة ما يقرب من التناقض بين الشعب والحكومات. فالشعب كان ينظر إلى هذه الحكومات كأنها حكومات أجنبية، وكان يعتبرها بحق مندوبة عن الاستعمار وسياسته ومصالحه، وكان يرتاب في كل عمل تقوم به، ويناصبها العداء.
ولا حاجة أن أستعرض الآن مراحل النضال العربي خلال السنوات العشر الأخيرة، وكيف أن الشعب في أكثر الأقطار العربية استطاع أن يسقط الحكومات، ويفضح تآمرها، ويزيل الهالة التي كانت تحيط بها نفسها. هذا النضال كان يدور حول السياسة الداخلية والعربية والخارجية في آن واحد، فكان الشعب يناضل ضد كبت الحريات في الداخل، وضد تزوير الانتخابات، وضد استغلال الحكم لمصلحة أفراد وطبقة معينة وإهمال مصلحة العدد الأكبر من المواطنين. كما كان الشعب يناضل ضد سياسة التجزئة والتناحر بين الحكام العرب، وانحصارهم في أفق مصالحهم الشخصية، ونظرتهم الإقليمية، وتضحيتهم بمصلحة القضية القومية الكبرى في سبيل منافسات وزعامات ليست في مستوى تلك القضية.
كذلك كان الشعب في مختلف أقطارنا يناضل ضد السياسة المستسلمة للمستعمر.. الضعيفة.. المتآمرة في كثير من الأحيان مع المستعمر نفسه ضد مصلحة الوطن. ومن الطبيعي -بل من البديهي- في شعب كشعبنا أصبح من الواضح جداً أنه يجتاز انبعاث أن تكون معارك نضاله فعالة مؤثرة، وأن تأتي بثمار جدية، وهذا ما بدأ الشعب يلمسه في هذا الوقت الأخير.. وقد حصل تطور كبير في حياة العرب في هذه السنين، وإن كنا اليوم نلاحظ أن الهوة بين الشعب وبين بعض الحكومات -لا كلها- قد ضاقت، ووجد أخيرا شيء من التقارب أو التجاوب بين الشعب وحكوماته، فما ذلك إلا نتيجة ذلك النضال: النضال الواعي الذي رسمت خطوطه القيادات الشعبية الانقلابية والتقدمية في الوطن العربي.
وليس من مواطن واع يخطر بباله أن هذا التغيير في الوضع العربي وفي السياسة العربية الرسمية ناتج عن رغبة الحكام ووطنيتهم وبعد نظرهم، وعن كونهم قادة بالمعنى الصحيح، وإنهم يرسمون الطريق لشعبهم وأمتهم، لأن الواقع يكذب ذلك. كل ما جرى في هذه السنين العشر الأخيرة إذ لم نشأ أن نرجع إلى أبعد من ذلك كان نتيجة ضغط الشعب على الحكومات، وفرض الشعب لإرادته على تلك الحكومات، لا نتيجة وعي الحكومات وإخلاصها وتجاوبها الصادق مع الأماني القومية.
وفي شعب حي يجتاز مرحلة انبعاث -كما قلنا- لا تظل الأمور جامدة ساكنة، بل كل شيء يتغير ويتبدل ويتطور نتيجة حيوية الشعب، واندفاعه وتحسسه بحقوقه وبكيانه وبشخصيته الإنسانية وبدوره في التاريخ. لذلك فالحكومات أيضا تتغير.. تتغير بأشخاصها… وتتغير بعقليتها… ويتغير أفقها.. وتتغير علاقاتها مع الشعب.
وقد جرت في هذه السنوات هزات كثيرة وحوادث داخلية وخارجية خطيرة، وتبدل نوع الحكم في بعض الأقطار وقام حكم عسكري في سورية وتغير ثم تجدد وتعاقب ثم تغير، وقام حكم عسكري في مصر. وأهم هذه الهزات القومية -بلا ريب- هي معركة فلسطين، وتآمر الدول الاجنبية على القضية العربية عندما أقروا إقامة دولة للصهيونية في فلسطين.
وهذا الحادث، كما شعر بذلك المناضلون الواعون من أبناء امتنا عند حدوثه -أي منذ ثماني سنوات- وبدأ الشعب والكثرة الساحقة تلمس ذلك تدريجياً… هذا الحادث هو حادث تاريخي كان له وما يزال النصيب الأكبر في تحريك الكيان العربي، وفي كشف زيف الأوضاع التي كان عليها العرب، وفي تبديل أساسي عميق في نفوس العرب وعقليتهم، خطا بهم عشرات السنين إلى الأمام. وبكلمة مختصرة، إن كارثة فلسطين أدخلت العرب في العصر الحديث.
فماذا يمكن أن نستنتج من هذه النظرة في التبدل الذي حصل خلال هذه السنوات؟ هل نخرج بنتيجة متفائلة أو على العكس؟.. وإذا خرجنا بنتيجة متفائلة كيف يجب أن نفهم التفاؤل.. ما دمنا قررنا أن تطوراً كبيراً قد حدث.. قد تم.. وأن تكوين الحكومات في بعض الأقطار العربية قد تبدل، وأن عقلية الحكومات قد تغيرت، واقتربت نسبياً من حاجات الشعب وأمانيه.. فمن الطبيعي أن نتفاءل.. ولكن كيف يجب أن نتفاءل؟.. هل نسلم قيادنا بعد اليوم للحكومات، ونطمئن اطمئنانا أعمى، ونسير في ركابها مؤيدين مصفقين؟ أم بعد اليوم نستمر كما كنا في النضال، والضغط، ورسم الأهداف القومية الصحيحة، البعيدة، لكي تستمر هذه الحكومات في الاستجابة لمطالب الشعب، وتحسب حساباً لإرادته، وتزداد اقتراباً منه، ولكي نصل إلى اليوم الذي تصبح فيه الحكومات شعبية.. من صميم الشعب.. وثورية إنقلابية تضع الأهداف القومية موضع التنفيذ؟..
لاشك أن التفاؤل الذي يجوز لنا هو هذا الأخير مشروطاً باستمرار النضال، وباستمرار الضغط، وبرفع مستوى النضال. إذ أن نضالنا في السنين السابقة كان يراعي الإمكانيات الراهنة. وقد ازدادت هذه الإمكانيات زيادة كبرى، فمن الواجب أن تزداد مطالبنا علواً وبعداً وان يرتفع مستواها بنسبة ازدياد إمكانياتنا القومية الشعبية.
والضغط الشعبي لا يضير الحكومات عندما تكون مخلصة، إذ أنه قوتها الوحيدة.. وقوتها الكبرى. وكل حكومة تبقى مذعورة من الضغط، مرتابة فيه، تفصح في ذعرها وفي ارتيابها عن بعدها عن الشعب وعن نقص الصدق في سياستها وفي مماشاتها للشعب.
فكلنا يدرك بأن مجال الحكام هو أضيق من مجال المناضلين. الحكام هم في ميدان التنفيذ يراعون اعتبارات عدة لذلك لابد في هذه المرحلة أن يقصروا عن المطالب الشعبية الكاملة، فإذا سكت الشعب عن المطالبة، فان الحكومات تعجز حتى عن تحقيق مهمات هذه المرحلة التي ليست هي كل شيء، وليست إلا جزءاً من مراحلنا وأهدافنا القومية.
هذا ما كنا نقوله منذ سنين طويلة، ولم يكن الرسميون قادرين أن يستوعبوا ذلك أو يعترفوا بصحة هذا المنطق وهذا السير. كنا نقول دوماً منذ نشأة هذا الحزب قبل خمسة عشر عاماً -ومنذ المعارك النضالية الأولى، بأن الأمة العربية في هذا العصر ما زالت في حالة الإمكان، لم تتحقق بعد إلا تحققاً جزئياً، وكل قواها أو أكثر قواها وإمكانياتها ما زالت خبيئة مخزونة، ومن الواجب أن نراهن على هذه الإمكانيات الخبيئة، وأن نناضل من أجل تفجيرها والكشف عنها وتحقيقها، وبالتالي أن تكون سياستنا سياسة المستقبل، وأن ترمي دوماً إلى المستقبل، وأن نعتبر الحاضر وسيلة ومرحلة يجب أن تسخر لهذا المستقبل الغني بالقوى والإمكانيات وينتج من ذلك أن الفرق بين الشعب الذي هو مستودع هذه الإمكانيات وبين الحكومات التي تعالج الظرف الحاضر الراهن يجب أن يبقى بينهما فرق كبير، وأن تتحاشى الحكومات -إذا كان فيها ذرة من الإخلاص- إعتبار نفسها صورة صادقة عن الشعب لأنها بذلك تفقر الشعب إلى أبعد حدود الإفقار. لأن إمكانيات الحكومات ضئيلة وإمكانيات الشعب وفيرة.
واليوم -أيها الإخوان- ما زلنا نصطدم ببقايا تلك العقلية القديمة. ولئن تبدلت عقلية الحكام بعض الشيء فإنها لم تتبدل تبدلاً كلياً تاماً. وما زالت هناك رغبة عند الحكام في أن يعتبروا أنفسهم قادة للشعب، وأن يعتبروا أنفسهم ممثلين لحقيقة الإمكانيات الشعبية، وأن يجيزوا لأنفسهم بالتالي منع الضغط الشعبي -إذ لا مبرر للضغط الشعبي عندما تكون الحكومات المعّبر الصادق عن حاجات الشعب وإمكانياته. ولعلكم لاحظتم في البيان الذي صدر في القاهرة عن اجتماع الرؤساء الثلاثة روحاً تتأرجح بين الماضي والمستقبل، فبينما يعترف هؤلاء الرؤساء بفضل الضغط الشعبي -لم يقولوا الضغط الشعبي وإنما قالوا الوعي.. الوعي العربي.. وعي الرأي العام العربي- في نفس الوقت الذي اعترفوا فيه بفضل هذا الوعي حاولوا أن يظهروا بأنهم هم الذين خلقوه وأوجدوه، والصحيح أنه إنما خلق أثناء محاربة الشعب لهم ومقاومته لسياستهم ولعقليتهم الجامدة، ولنفسيتهم ولمكابرتهم، وفي بعض الأحيان وجد هذا الوعي في معزل عنهم تماماً ولم يكن لهم في خلقه أثر سلبي أو ايجابي.
ولا بد من التفريق أيضا بين هذا النوع من الحكومات الذي بدأ يساير الإتجاه الشعبي -فليست كل الحكومات السائرة اليوم في الإتجاه التحرري.. ليست كلها سواء..
وهنا نتعرض لسؤال طرح عن سياسة مصر وجمال عبد الناصر. فأعتقد أنه من الواضح أن سياسة العسكريين في مصر وخاصة زعيم هذه الفئة الرئيس جمال عبد الناصر سياسة لم تأت فقط من الضغط الشعبي وإنما فيها عنصر عفوي وصادق، وفيها تجاوب ذاتي مع حاجات الشعب وأماني الشعب، وبذلك نفرقها عن الحكومات الأخرى التي تسير في ركاب سياسة مصر، والتي إنما تسير مرغمة، وان هذه السياسة لا تنبع من نفسها، من أعماق نفسها، وإنما بضغط الظروف وجدت من المناسب أن تساير هذه السياسة. إذن من الإنصاف ومن مصلحة القضية القومية أن نتبين ونميز هذه الفروق. وهنا سأتوقف عند موضوع حكومة مصر لأعود إلى إكمال الجواب على السؤال الأول -إذ أن الموضوعات متشابكة- لأبين لكم كيف أن سياسة الحاكمين في مصر اليوم إن لم يجز أن تسمى سياسة إنقلابية كما نفهمها ويفهمها الشعب العربي فلا يجوز أيضا أن نساويها بسياسة الحكومات الأخرى فهي أرقى وأصدق من سياسة الحكومات الأخرى وإن كانت لم تبلغ مستوى السياسة الانقلابية.
قلت لكم أن أضخم حدث في حياة العرب في العصر الحديث هو كارثة فلسطين، وتآمر الدول الأجنبية على قضيتنا.. على حريتنا بصورة خاصة.. لقد كانت إقامة “إسرائيل” في قلب وطننا كارثة هزت بعنف وعمق بنياننا السياسي والاجتماعي والنفسي في آن واحد. وأصابت هذه الهزة قطراً عربياً كبيراً كانت السياسة الإستعمارية والسياسة الرجعية تعزلانه عن بقية الأقطار العربية، ولكن عنف الصدمة تخطىّ تلك الحواجز المصطنعة التي أقامها المستعمر وأقامها السياسيون الرجعيون في مصر. وبدأ الشعب العربي في مصر يشعر بوحدة قضيته مع أبناء العروبة كلهم، ونتج عن ذلك، الإنقلاب العسكري في مصر، على أثر الانقلابات العسكرية في سورية، وبما أنه لم يكن في مصر حركة شعبية إنقلابية تقوم على أساس عربي واضح كحركتنا، ولها نظرة شاملة تتناول القضية العربية من مختلف نواحيها الاقتصادية والتحررية والتوحيدية فكان ذلك مساعداً على أن يظهر في الجيش المصري شباب حاربوا في فلسطين، وعانوا بالتجربة الحية معركة العروبة في فلسطين، وعانوا في تلك المعركة بالتجربة المباشرة القاسية فساد الحكم وتآمر الحكام مع الاستعمار على قضية الشعب، فساعد ذلك على أن يحمل هؤلاء الرجال رسالة إلى الشعب العربي في مصر أولاً وإلى بقية أقطاره ثانياً. فكانوا استجابة لرغبات الشعب ولآلامه، وهم لا يشبهون بحال من الأحوال الحركات العسكرية التي ظهرت في سورية، لأنها كانت مشبوهة منذ البدء، ولم يكن لوجودها مبرر، ما دامت الحركة الانقلابية الحية قد وجدت في هذا القطر والشعب سائر وراءها، ويتعاظم عدده ونضاله في طريقها.. كانت الحركات العسكرية في سوريا متهمة بأنها أتت لتقاوم الحركة الشعبية الإنقلابية وتقطع الطريق عليها لا لتحقق حكم الشعب. أما في مصر فلم يكن ثمة مثل هذه الحركة وكانت عناصر الإخلاص والسلامة متوافرة أمام تلك المجموعة من ضباط الجيش لكي يحسنوا الإصغاء إلى أماني الشعب ويستجيبوا لها بأمانة، وهكذا رأيناهم يبدؤون أعمالا فذة، وينقذون مصر من حكم الملك ومن الملكية وفسادها، وينقون الجو، ويبادرون إلى تلبية أمس الحاجات الشعبية.. إلى العناية بمستوى العدد الأكبر من أبناء الشعب فوزعوا الأراضي وشقوا طريقاً إلى الإصلاح الاجتماعي، ثم بعد تردد مدة من الزمن أدركوا صلتهم بالحركة العربية العامة، وأدركوا موضعهم الخطير من هذه الحركة، فتجرؤوا وساروا في اتجاه عربي وحدوي تحرري ـ لا نقول انه غاية الغايات، ولا نقول أنه الإتجاه الإنقلابي الذي نسعى إليه، ولكنه بلا شك خطوة كبيرة على طريق اتجاهنا..
12 نيسان 1956
الوحدة الوطنية والتهادن الحزبي
من حقنا وقد تعرض خطاب الرئيس في هذه المناسبة القومية العامة الى موضوع التهادن الحزبي وتوحيد الصف الداخلي، أن نوضح مرة أخرى رأينا المعروف الذي ما فتئنا نعلنه منذ زمن طويل (1).
صحيح أن “في قاعدة الحياة الديمقراطية مبدأ السلامة الوطنية”. وصحيح بالتالي “ان الجلاء عمل من أعمال الوحدة الوطنية” وصحيح أيضا -ولكن بتحفظ وحذر شديدين- “أن سبيلنا الى الوحدة الوطنية هي سبيلنا نفسها الى الوحدة القومية”.
فكل خلاف بين الأحزاب يجب أن يقف أو ينتهي إذا تعرضت سلامة الوطن للخطر، هذا إذا لم تكن سلامة الوطن نفسها هي موضوع هذا الخلاف. والواقع أننا مختلفون مع غيرنا على كيفية تحقيق السلامة لوطننا، هل تكون هذه السلامة داخل سورية، في الابقاء على الأكثرية الساحقة من الشعب في حالة من الاضطهاد والاستثمار تسلبها إمكانية الدفاع عن أرض الوطن؟ وبالإبقاء على المصالح الخاصة تسيطر على توجيه الدولة وتحول دون كل تعبئة جدية ودفاع متكافئ مع جسامة الخطر المحدق؟ وهل تكون في المجال القومي العربي، بالمقاومة الصريحة حينا والمستترة أحيانا، لكل خطوة توحيدية وبالتلكؤ والمماطلة في هذا السبيل. حرصا على المصالح الشخصية والطبقية والإقليمية؟ وهل تكون أخيرا في المجال القومي الخارجي، في مسايرة المصالح الاستعمارية والتبعية لها وفي الاستعانة على إسرائيل بمن أوجدوا إسرائيل وما زالوا يرون في بقائها ضمانة لبقاء مصالحهم في وطننا، وفي التذرع بوحدة مشبوهة للصف العربي تكون منفذا للاستعمار إلى الأقطار العربية المتحررة منه المقاومة له؟؟.
إن الوحدة القومية هي الغاية، وهي أيضا الأساس والبداية، فكما نتصور هذه الوحدة يكون تصورنا وتصميمنا وتنفيذنا لوحدة الصف داخل القطر حتى تؤدي هذه إلى تلك، فإن كنا نريد الوحدة العربية، وحدة حقيقية إيجابية، توحد قوى الشعب فعلا وتضاعفها أضعافا، وجب أن نختار لها طريق التحرر الخارجي والتحرر الداخلي، كما يتوافر ذلك اليوم لمصر وسورية، وعلى هذا الأساس فإن وحدة الصف الوطني (أي القطري) تشترط وجهة نظر واحدة في أمر أساسي كأمر التوحيد: أما أن يسير في طريق التحرر من الاستعمار أو في طريق المساومة والانسياق معه، وهل يسير في طريق رفع مستوى الشعب وتفجير طاقاته وإمكانياته، أم في طريق استعباده وإفقاره وشل قواه المنتجة.
فنحن اذن متجاوبون مع دعوة الرئيس الى وحدة الصف في مثل هذا الظرف الذي يهدد فيه خطر العدو سلامة الوطن نفسها، وقد كنا أول من دعا إليها. ولكن لذلك كله شرطا أوليا ضروريا هو ان تكون وحدة الصف -كما جاء في خطاب الرئيس عن الاستقلال- “تحقيقا لارادة الشعب الموحدة”. وإرادة الشعب الموحدة هي أن تعني وحدة الصف شيئا إيجابيا خلاقا وشيئا صعبا يمتحن قدرتنا على التضحية وجدارتنا بالحياة لا أن نبقى تجميعا سطحيا لقوى متناقضة، ولاتجاهات متعاكسة، بغية تحاشي أو تأجيل التغييرات الجذرية الملحة التي تتطلبها المرحلة، فينخدع الشعب بالمظهر وقتا قصيرا ليفتح عينه بعد حين على كارثة جديدة!
20 نيسان 1956
(1) نشر في جريدة “البعث” في 27/4/1956.
ثورية القضية العربية
حول وحدة الشعب العربي في سورية ومصر
لا بد لي قبل ان اتطرق الى موضوع الوحدة بين القطرين العربيين مصر وسورية وللضرورات التي تحتمها في هذه الظروف بالذات، من مقدمة بسيطة أشير فيها الى نظرتنا القومية الأساسية وتصورنا العام للقضية العربية منذ بدء حركتنا، أي قبل خمسة عشر عاماً. إذ ان مواقفنا السياسية خلال هذه المدة لم تكن سوى تعبيرات جزئية ومرحلية عن تلك النظرة الاساسية.
لقد تصورنا قضيتنا العربية تصوراً ثورياً انقلابيا، وهذا يعني اننا -خلافاً للنظرة التطورية الكاذبة السائدة إذ ذاك في جو السياسة العربية والتي لا يزال لها آثار في هذا الجو- اعتبرنا الحل الصحيح لقضيتنا هو في معالجة أوضاعنا من جذورها وفي إعادة النظر في أسس حياتنا ذاتها. ولم نكتف بأن قدمنا حلنا الثوري كمستوى أعلى من مستوى الحل التطوري، بل كشفنا عن زيف الادعاء التطوري وما ينطوي عليه من خداع متعمد يقصد منه إخفاء المصالح الرجعية السياسية والاقتصادية من وطنية واستعمارية، لحماية هذه المصالح وضمان استمرارها، فالتذرع بالتطور في مرحلة لا ينجع فيها إلا الإنقلاب والثورة، ليس إلا رجعية مقنعة، وليس إلا سيراً في طريق تطورية كاذبة تعوق التطور الصحيح وتعاكس الثورة بدلاً من ان تكون مرحلة من مراحلها. وفي منطق نظرتنا الثورية مكان أصيل للتطور الصادق كمرحلة مؤدية الى الثورة. إلا ان التطور الصادق لا يكون إلا منبعثاً ومولداً من العمل الثوري نفسه، أي بضغط القوى الشعبية الثورية على الواقع وبتفاعلها معه تفاعلاً موجهاً خلاقاً، وهذا ما تحقق فعلاَّ وظهر أثره في واقع الحياة العربية في السنوات الاخيرة. فقد حمل الضغط الشعبي الثوري الى جهاز الحكم في بعض الاقطار العربية افكاراً لم ير الحكام بداً من الاستجابة لها، كما حمل هذا الضغط نفسه الى الحكم في مصر رجالاً لا مجرد افكار.
ولكن هذه النظرة الثورية الى قضيتنا العربية تتضمن اول ما تتضمن، وتفرض بشكل ضروري قاطع: وحدة القضية العربية وعدم جواز تجزئتها. وتبعاً لهذه النظرة، فان ما بدأ يتحقق من خطوات تقدمية -أي تطورية صادقة- في السياسة الرسمية في مصر أولاً، وبدرجة ثانية في سورية، يستوجب ملاحظتين هما بمثابة الشرطين: اولاً- أن نعتبر جدية هذه الخطوات التقدمية وصدقها متناسبين دوما مع مقدار الجدية والصدق في مراعاة وحدة القضية العربية، ثانياً- ان تبقى هذه الخطوات ومثيلاتها محمولة ومرتكزة دوماً على دعامة الضغط الشعبي الثوري وان تتحول هي نفسها الى تنمية وتوسيع وتعميق لهذا الضغط في القوة والوعي.
ووحدة القضية العربية تستتبع بالبداهة تحقيق الوحدة العربية، والوحدة العربية تؤلف دوماً في نظرنا هدفاً ثورياً لا ينفصل عن القوة الثورية الوحيدة التي هي الشعب العربي، وعن مطالب هذا الشعب واهدافه الثورية الاخرى في التحرر من الاستعمار، وفي التحرر الداخلي: السياسي والاقتصادي والفكري. فثورية الوحدة العربية تعني إذن ان الوحدة لا تتحقق من فوق، وعلى الاساس الذي قامت عليه “جامعة الدول العربية”، بل من اعماق جماهير الشعب العربي، ممتزجة بصميم حاجات هذا الشعب، وبصميم نضاله التحرري والاجتماعي، وتعني ايضاً ان الوحدة، وان تكن تتطلب لكي تتحقق، وقتاً وجهداً ومراحل، فان امكان تحقيقها يشترط ان نتخذها بداية وموجهاً لنضالنا، أي ان تكون جميع خطواتنا الاخرى منفتحة عليها، متصلة بها، موصلة اليها، مضحين في سبيل ذلك بكثير من المصالح القطرية الآنية، متغلبين على العقبات التي تقيمها في وجهنا عقلية التجزئة، لأننا لن نجد الوحدة في آخر طريقنا، اذا لم نضعها في أوله.
بالاستناد الى كل ما تقدم يمكن ان يفهم موقفنا من هذه الخطوة السليمة الضرورية التي هي وحدة مصر وسورية، كما يمكن ان يفهم لماذا كنا أول المطالبين بها مع جماهير الشعب العربي الموجهة توجيهاً قومياً سليماً في سورية والاردن والعراق ولبنان. ذلك لأن الدعامتين الاساسيتين المكملتين لدعامة الوحدة واللتين هما الحرية والاشتراكية لا تتوافر شروطهما لقطر عربي مثل توافرها لمصر وسورية. وحتى بين هذين القطرين، وبالرغم من أسبقية سورية الزمنية في الدعوة للوحدة العربية، فإن شروط مصر اليوم من حيث كونها اكثر تحرراً واستقلالاً حيال نفوذ الاستعمار وضغطه، وأكثر استجابة لحاجات الشعب الاجتماعية تجعلها اكثر استجابة لمطلب الوحدة القومية وحاجة الشعب اليها. وجدير بنا أن نتبين حقيقة التطور الذي طرأ في هذه الناحية على مصر في عهدها الجديد: فباستثناء التأثير التاريخي العميق الذي أحدثته معركة فلسطين فيها وفي غيرها من أقطار العروبة على السواء، فإن الاتجاه العربي الجديد في مصر لم يأتها من غيرها بقدر ما كان نابعاً من داخلها ومن صميم الشعب العربي فيها بمجرد ما انهار أمام هذا الشعب السدان المنيعان: سد الاستعمار وسد الطغيان والرجعية وتهيأت له الشروط السليمة كي يسترجع عفويته ويلتقي من جديد بشخصيته العربية الاصيلة.
لهذا كله نؤمن بأن وحدة مصر وسورية ستكون وحدة سليمة من كل أثر استعماري، ووحدة شعبية صحيحة تزخر بامكانيات القوة والتحرر والبناء، وتشكل نقطة جذب قويّ يضمن لها في وقت قريب أن تسع الامة العربية جمعاء.
25 نيسان 1956
ملامح الوحدة العربية في اتحاد مصر وسورية
اصبح اليوم واضحاً لابناء الوطن العربي، وحتى للرأي العام العالمي المطلع، ان الكارثة التي حلت بالعرب في فلسطين قبل ثماني سنوات كانت المناسبة التاريخية لتفجير الوعي العربي بحد من العمق والوضوح والشمول يؤهله لحمل عبء القضية القومية الضخم.. بما يحققه من امكانيات شعبية متوافقة متناسقة، كان اكثرها الى زمن قريب مخنوقاً مهدوراً، وكان الشيء الضئيل المتحقق منها متعاكساً مبعثراً.
ولكن الشيء الذي لم يتضح بعد الا للقلة العربية الانقلابية التي بلغت ذلك الحد من الوعي قبل نكبة فلسطين بسنوات، هو ان هذه النكبة ما كانت لتدفع بالعرب في طريق تحول تاريخي صاعد لو لم تكن ثمة خميرة من الوعي العربي الانقلابي تجسدت في نضال الطليعة الشابة في سورية والاردن وفلسطين، واثرت في الافكار والاوضاع بشكل جعل من النكبة منطلقاً للتحرر الجذري في الداخل والخارج. ولبناء الوحدة العربية بناء سليماً.
إننا نقرر هذه الحقيقة لا بدافع الوفاء للتاريخ، فالتاريخ لن يعدم من يفيه حقه، بل بدافع الايمان بأن قضيتنا القومية هي قضية فكر ووعي وعقيدة واضحة قبل كل شيء، وانها يجب ان تبقى كذلك. فكارثة فلسطين، وان لم يكن متوقعاً أن تحدث كما حدثت تماماً وفي الوقت الذي حدثت فيه، فانها على كل حال قد جاءت برهاناً حسياً على عقيدة الوحدة والحرية والاشتراكية، ومجالاً خصباً لانتشارها وتحققها. وكانت اضخم نتيجة لها ان قفزت مصر من فوق اسوار العزلة والانحراف القطري قفزة تاريخية ربطت مصيرها بمصير العروبة ربطاً واعياً خلاقاً.
قبل سنوات معدودة، كان العرب يلتفتون الى سورية والعراق، وينتظرون من احد هذين القطرين، او منهما كليهما، أن يكونا للوطن العربي المجزأ ما كانت بروسيا لألمانيا في القرن الماضي. اما مصر، فكان يبدو ان اندماجها في جسم العروبة يتطلب زمناً طويلاً. واقصى ما كان يؤمل منها الا تقف عثرة في طريق الوحدة القومية.
ثم حدث الانقلاب العسكري في مصر كنتيجة مباشرة لأثر معركة فلسطين في جيشها. ولم يكن للانقلاب نظرة واضحة نسبياً إلا في ما يختص بالاصلاح داخل مصر. وظلت التيارات الانعزالية القديمة تضغط وتتجاذب حكومة الثورة زمناً، وظل الحكام الى ما قبل عامين يقولون انه لا يهمهم ان تتحد سورية مع العراق او مع تركيا! ولكن المنطق العربي الانقلابي كان خلال هذه المدة يفعل فعله ويفيد من الظروف الجديدة ويوجهها لمصلحته. فقضية فلسطين ماثلة دوماً تشد مصر الى موضعها من الجسم العربي، والخطر الصهيوني اخذ يظهر على حقيقته بأنه والاستعمار شيء واحد، والاصلاح الداخلي هيأ الجو والسبيل لمزيد من الثقة والجرأة في مكافحة الاستعمار على نطاق عربي بل عالمي. وفي “باندونغ” استكمل جمال عبد الناصر حلقات هذا المنطق الجديد الذي كان يوجه الشعب في سورية قبل “باندونغ” بسنوات، فلولا هذه الخميرة الشعبية الانقلابية في سورية والاردن ولولا ضغطها وتفاعلها مع سياسة الثورة في مصر، لأمكن ان تتخذ الثورة غير هذا الاتجاه الذي تتجمع فيه اليوم كل آمال العرب في الخلاص.
وان اتحاد مصر وسورية الذي نسعى اليه اليوم لا تقتصر فائدته على توحيد قطرين بامكانياتهما العسكرية والاقتصادية، بل تتناول ايضاً توحيد وتدعيم الاتجاه العربي الانقلابي الذي نشأ في سورية بطريقة نضالية شعبية، وتجاوب معه رجال الثورة في مصر تجاوباً يتأكد صدقه وعمقه يوماً بعد يوم، ويهيئ لهذا الاتجاه، بما لمصر من موقع متوسط ممتاز بين اجزاء الوطن العربي وبما لها من رقي وغنى في الامكانيات، ان يحقق المعجزات ويقلب وجه التاريخ.
ان وحدة او اتحاداً يقوم بين سورية ومصر ليختلف في المستوى والاتجاه وملامح المستقبل عن الاتحاد الذي يمكن ان يقوم او كان يمكن ان يقوم في الماضي، بين سورية وأي قطر آخر. فهو اتحاد يتجاوز اولاً مرحلة التفكير القومي التعصبي الذي يتخذ بروسيا والوحدة الالمانية قدوة له، وهو ثانياً بطبيعته وبحكم منطقه الانقلابي منفتح على سائر اجزاء الوطن العربي، يتفاعل معها تفاعلاً قومياً وسياسياً واجتماعياً في صميم مصالح الشعب العربي ونضاله التحرري في الداخل والخارج، ولا يمكن بالتالي ان ينغلق او يتوقف نموه، بل يحرك الاقطار الاخرى ويتحرك بها، وهو اخيراً الاتحاد الذي يحمل منذ الآن صورة القومية العربية الاصيلة، وبذور رسالتها الإنسانية: تحقيق الحرية الفعلية للفرد وللمجموع، للعرب وللعالم، وتحقيق تعاون حر بين شعوب اشتراكية حرة.
1 حزيران 1956
ألاعيب الرجعية ويقظة الشعب
كان تكليف احد زعماء اليمين بتشكيل الوزارة (1)، وما يعنيه من تكتل رجعي ومن إعادة الاعتبار للرجعية وقيمها وأشخاصها تمهيداً لإنزال ضربة في الحركة الشعبية، كان هذا محاولة فاشلة، ولكنها نذير خطر وتنبيه عنيف للعناصر التقدمية التي لم يكتمل وعيها الثوري الصلب، والتي تحسن الظن من حين إلى حين فتنم بذلك عن ميول غير
تقدمية تغريها بالاستقرار والانتفاع والاستراحة من النضال. وما يشجع على حسن الظن في هذا الظرف هو مسايرة الحكومات في سورية في السنة الأخيرة للخطوات التحررية في السياسة الخارجية العربية، وكون العناصر الثورية لم توضح توضيحاً كافيا، ان تلك الخطوات التحررية قد فرضت على رجال الحكم فرضا، ولم تخرج من قناعتهم، ولو أننا وفينا هذا الأمر حقه من التوضيح لأظهرنا للشعب أن السياسة لا ترتجل إرتجالا، ولا سيما حين تكون في مثل مستواها اليوم، اي حين تمس مصالح ضخمة للاستعمار من جهة، وللشعب العربي من جهة أخرى، ذلك أن المسألة هي الآن: هل يستمر الاستعمار والرجعية في سيطرتهما، أم يفقدان ما لهما من مصالح؟ إن سياسة لها هذه الخطورة، لا ترتجل ولا تدخلها العاطفة. ويجب علينا، حين يتراجع الرجعيون ويلبسون زياً جديداً أن نعرف أسباب هذا التراجع وانحرافه. وان نربط دوما بين حاضرهم وبين ماضيهم، فندرك أنهم إذا تراجعوا خطوة إلى الوراء، فلكي يتحفزوا للوثوب عدة خطوات إلى الأمام، او لكي لا يضطروا إلى التراجع خطوات كثيرة.
إننا إذا استنرنا بهذا الوعي الانقلابي، واحتكمنا إليه ورجعنا إلى مقاييسه، رأينا انه من غير المعقول مطلقاً أن يحصل تراجع الى النقيض، وان يكون هذا التراجع طبيعياً مخلصاً لا يخبئ مؤامرات، ولا يبيت مكائد، لأن هذا المنطق يفرض علينا أن نربط بين المصالح الرجعية وبين ممثلي هذه المصالح من رجال الحكم الرسميين.
فإذا رجعنا إلى ما قبل عشر سنين لم يصعب علينا أن نتذكر ماذا كانت سياسة هؤلاء الأشخاص ومواقفهم والوسائل والتدابير التي لجأوا إليها للدفاع دفاع المستميت عن تلك السياسة باضطهاد الشعب وقمع حرياته وتزييف الحكم الدستوري.
إن تبدل موقف الأشخاص لا يفسر إلا بأحد شيئين: إما بتبدل في المصالح التي كانوا يمثلونها، وإما تبدل في نفسيتهم وتفكيرهم. أما المصالح الرجعية فلم تتبدل في أساسها، لأنه لم يحصل أي تغيير في النظام الاجتماعي القائم على الإقطاعية والرأسمالية. وأما تبدل النفسية والتفكير فلا بد ان يعبر عن نفسه بانفكاك الشخص عن طبقته وخروجه على مصالحه. ولكننا نرى أن الطبقة الرجعية هي التي أعادت هؤلاء إلى الحكم وهي التي لا تزال تضمن بقاءهم فيه. قد يتفق لشخص ينتمي إلى الطبقة الرجعية أن يبدل تفكيره ويستوعب مقتضيات التطور فيتبنى بإخلاص حداً معتدلاً من السياسة التحررية التقدمية، ويحاول الاستفادة من رصيده لدى الطبقة الرجعية من أجل استدراجها شيئاً فشيئاً إلى السياسة السليمة التي اهتدى إليه، فإذا تلكأت الرجعية في هذا السير أو قاومته وقع الاصطدام بينه وبينها، أو بينه وبين الشعب الذي ادعى هذا الشخص مسايرة مصالحه وتبني اتجاهه. ولكن الاصطدام الذي وقع أخيرا بمناسبة تكليف لطفي الحفار كان اصطداما مع الشعب وممثلي اتجاهه التحرري، كما انه لم يكن إصطداماً عارضاً عفوياً بل أمراً مبيتاً منذ أشهر، وظهر بشكل لا يدع مجالاً للشك أن التظاهر بالسياسة التحررية لم يكن سوى وسيلة لتخدير الشعب وإبعاد الظنون عما كان يعد في الخفاء لضرب الحركة الشعبية وهدم ما بناه الشعب بدمه ونضاله.
ما هي المصالح الرجعية، وما هي المصالح الشعبية، وما هي المناسبات التي يحصل فيها الاصطدام؟.
منذ عام وإلى اليوم، ثبت اتجاه عمل له حزبنا منذ سنين طويلة يتلخص في الانعتاق من طوق السياسة الاستعمارية والجرأة في رد هجماتها ومؤامراتها ومشروعاتها، وفضحها للشعب العربي، وبالتالي التعاون والاتصال مع دول أخرى تلتقي مصالحها ونزعتها مع مصالح الأمة العربية؛ ويتلخص أيضاً في السير العملي نحو الوحدة العربية من الناحية النضالية وناحية الخطوات الرسمية التي تحققها الدول العربية.
ومن البديهي ان هذا الاتجاه الذي ينصب في الظاهرة على السياسة الخارجية وعلى العلاقات بين الدول العربية هو في جوهره متصل أعمق الاتصال بالسياسة الداخلية لكل قطر عربي، مرتكز عليها ومدعوم بها، يستمد منها القوة.
وقد كان هذا منطق حزبنا باستمرار منذ البدء. وهذا ما تجلى عمليا في سياسة حكومة الثورة في مصر التي بدأت بالإصلاح الداخلي او على الأقل بشق طريقة وتهيئة الجو لتفتح إمكانياته، ثم انطلقت في السياسة الخارجية التحررية والسياسة العربية التوحيدية. وليس الأمر على هذا النحو في سورية. ففي سورية ليس هناك إصلاح داخلي، ولكن هناك نضال ضاغط، خلّفه ونظمه المنطق الانقلابي الذي يدرك الصلة الحية الوثيقة بين التحرر الداخلي والتحرر الخارجي، والتحرر من التجزئة القومية، ويعمل دوماً على هذه الجبهات الثلاث معاً. وكان من الطبيعي ان يضغط لتحرير السياسة من النفوذ الاستعماري ولتوجيهها نحو التوحيد القومي حتى ولو لم يصل بعد إلى القوة الكافية لبدء التحرر الداخلي الاجتماعي...
إن سياسة الحكم في سورية منذ أكثر من عام، هي سياسة متناقضة تفصح عن تناقض الوضع الاجتماعي والقومي فيه، والواقع كما يعرفه الرجعيون ويصرحون به مرارا، أن الحكومات منذ عام هي رجعية بأشخاصها وأحزابها ومصالحها، ولكنها تنفذ سياسة التقدميين في المجال الخارجي والعربي.
وهذا الاعتراف وحده ليوجب على التقدميين الارتياب والحذر والعمل للتعجيل في تخليص البلاد من التناقض، وذلك بعدم فصل النضال التحرري الخارجي والوحدوي عن النضال في سبيل تحرير الشعب سياسياً واقتصاديا من إستثمار الرجعية وطغيانها في الداخل. وإذا كان النجاح النسبي الذي سجلناه في المجال الخارجي والعربي قد نتج عنه إنتعاش معنوي للشعب وتراجع للطبقة الرجعية هو أيضاً معنوي، فإن تركيز نضالنا من أجل ضرب هذه الطبقة في مصالحها المادية هو الذي يوجد الركيزة الواقعية لسياستنا الخارجية والعربية الجديدة ويضمن تتابع خطواتها ويحميها من الانتكاس والتآمر.
إن الحركة العربية الإنقلابية اليوم على مفترق طريقين: فأما ان يؤدي بها نقص وعي الموجهين لها وضعف روحهم الثورية وقابلياتهم التنظيمية إلى الاكتفاء بهذه الخطوة التقدمية التي حققتها في بعض أقطار العروبة فتلتقي عندئذ هي وحكومات هذه الأقطار على صعيد واحد (ولكن ليس على قدم المساواة لأن بعض هذه الحكومات، وخاصة في سورية، هي حكومات رجعية أرغمت على مسايرة التقدم ولم تنس مصالح طبقاتها وعقليتها، وسوف تكون أقدر من الحركة الانقلابية على استغلال السياسة الجديدة لكسب شعبية تمكنها من تخدير الشعب والتآمر على هذه السياسة نفسها)… وأما أن تفيد الحركة العربية الانقلابية من هذه التجارب وهذا النصر النسبي لترفع مستوى وعيها ووعي الشعب ومستوى نضالها الذي هو نضال الشعب، وأن ترفض المساواة مع هذه الحكومات إن لم ترفض الالتقاء الموقت بها فتبقى حريصة على الأهداف القومية البعيدة كاملة وواضحة، وأن توضح للشعب باستمرار المسافة التي ما زالت تبعده عن هذه الأهداف، والتي تفصله في الوقت نفسه عن الحكومات الحاضرة ليس من حيث إمكانية التحقيق فحسب بل أيضاً وبصورة خاصة من حيث الجد والإخلاص في التحقيق.
15 حزيران 1956
(1) نشر في جريدة “البعث” في 15 حزيران 1956.
إتحاد سورية ومصر
ثمرة النضال العربي التحرري وضمانة استمراره
نحن الآن في قلب معركة قومية جليلة تصغر امامها المعارك وتهون. ان معركة الوحدة تتطلب من شعبنا العربي وقادته من فضائل الوعي والتجرد والاقدام اكثر مما تطلبته منهم في اي وقت مضى. فمعارك التحرر والانعتاق المتلاحقة التي يخوضها شعبنا منذ نصف قرن والتي اعطى فيها براهين رائعة على حيويته وبطولته ونزوعه الاصيل الى الحرية وقدرته على التضحية والفداء لم تكن الا مقدمة وتمهيداً للمعركة الجديدة التي تنتظره والتي تُمتَحَن فيها قابليته للخلق والبناء. واكبر امتحان يتعرض له قادة الشعب في هذا الظرف هو ان يعطوا الجواب العملي الناصع، بمواقفهم وتصرفاتهم، على السؤال التالي: هل تتعين السياسة كلها بالمصالح الطبقية والمنافسات الحزبية والانانيات الشخصية، أم ان للسياسة صعيداً آخر أعلى يمكن ان ترتفع اليه في بعض الحالات هو الصعيد القومي الذي يتلاقى عليه الجميع، من اجل تحقيق هدف يعود بالخير على الجميع وعلى الامة واجيالها؟ وبتعبير آخر: هل القومية لفظة شكلية أم ان لها محتوى حياً يجب ان يفصح عن نفسه وان يفرض نفسه في مثل الظرف الذي نحن فيه والذي تتهيأ فيه الشروط لأول مرة منذ قرون لتحقيق خطوة اتحادية تكون الضمانة لعدم ضياع ما حققه شعبنا حتى الآن من انتصارات على الاستعمار، وتفتح الطريق عريضة واسعة امام استكمال تحرره ووحدته ونهضته؟.
بهذه الروح وهذه النظرة نادينا بالحكم القومي الائتلافي وتقدمنا للاشتراك فيه لنساهم مع غيرنا في تحقيق هدف قومي عزيز على العرب في كل قطر، هو اتحاد مصر وسورية، ولم نكن نجهل ما يمكن ان ينشأ في طريق هذا الهدف من عقبات، في الخارج والداخل، وان الخطوة الاولى هي صعبة دوماً. ولكن الفرق كبير بين ان نجمع على اقرار المبدأ لنتعاون فيما بعد على معالجة العقبات وتذليلها، وبين ان نمتنع عن ولوج الطريق لان فيه عقبات. وأول عقبة نذللها هي عندما نتبنى الاتحاد بصراحة لا غموض فيها ولا تردد، وبروح ايجابية مؤمنة متفائلة تجعل الحكم القومي الائتلافي يتجاوب مع وعي الشعب وإرادته. ويقوي في الشعب هذا الوعي وهذه الارادة، لان الشعب هو الضمانة آخر الأمر.
لأول مرة تتوافر شروط الاتحاد لقطرين عربيين لا تشوب استقلالهما شائبة، ويصبح مصير الوحدة العربية بأيدي العرب أنفسهم. ولأول مرة ايضاً يظهر ان العقبات التي تعترض سبيل الوحدة هي نفسها التي تعترض سبيل التحرر، وانها في الدرجة الاولى عقبات عربية ناتجة عن فساد الوضع الاجتماعي الداخلي: ولقد ادت الخطوات التحررية التي حققتها مصر وسورية في العام الأخير الى طرح شعار الاتحاد بين هذين القطرين كشيء واجب التحقيق العاجل. ولكن التلكؤ في الاستجابة لهذا المطلب القومي الواقعي لن ينتج عنه مجرد تأجيل للاتحاد بل تعريض لخطوات التحرر نفسها ان تتراجع وتنتكس. فالنضال العربي غدا ذا منطق قاهر. وعليه ان يتقدم دوماً لكيلا يضطر الى التراجع.
ومن هنا كان اشتراطنا لدخول الحكومة القومية الائتلافية ان تتعهد بتحقيق الاتحاد بين مصر وسورية، لعلمنا بأن الحكم القومي الذي يعني فيما يعنيه تأجيلا أو تضييقاً للمعركة الداخلية، يفقد مبرراته ويتحول الى تخدير للشعب اذا لم يكن ثمنه ذلك الكسب في المجال القومي العربي الذي هو الاتحاد. في حين ان تأجيل المعركة الداخلية بلا مقابل ولا مبرر، ان هو الا تمهيد لضرب السياسة التحررية والعودة الى التبعية الاستعمارية.
هذا ما يرتب على حكومة الشقيقة الكبرى مصر ان تتفادى خطر الردة الاستعمارية باقدامها اقداماً واعياً جريئاً على تحقيق النتيجة المنطقية للسياسة الناجحة التي سارت عليها حتى الآن، وهذا ما يرتب على الاحزاب في سورية ان تقبل بهذه الخطوة وتقبل عليها بثقة وتفاؤل اذا كانت تريد فعلاً ان يسود الوئام في هذه الفترة داخل سورية، وان تحاول تجربة مخلصة للتعاون والتطور السلمي.
22 حزيران 1956
العرب والإتحاد السوفيتي
(على هامش زيارة شبيلوف)
عندما أفكر في السياسة الخارجية(1) التي بدأت تنتهجها مصر وسورية منذ عام أجد لها أسساً وخطوطاً رسم حزبنا بعضها منذ حوالي عشر سنوات -كسياسة الحياد الإيجابي- ورسم بعضها الآخر قبل ذلك بسنوات -وأعني بها موقف العرب من الإتحاد السوفياتي.
ففي أحاديث حزبية طبعت عام 1944 تحت عنوان “القومية العربية وموقفها من الشيوعية” فرقنا تفريقاً واضحاً بين الشيوعية كنظرية وكحزب قائم في بلادنا ينطلق من نظرة ومقاييس غير نظرة هذه البلاد ومقاييسها القومية، وبين الاتحاد السوفياتي كدولة تقدمية كبرى يمكن أن يكون لها وزن خطير في دعم قضايا الشعوب المظلومة المستعمَرة وفي تعديل طغيان الدول الإستعمارية. فقد كتبنا في نهاية تلك النشرة المطبوعة قبل اثني عشر عاماً ما يلي: “فنحن نفرق بين هذه الدولة (الإتحاد السوفياتي) وبين الحزب الشيوعي كل التفريق، ونعلم أن العرب لا يرون أي موجب لمعاداة دولة عظيمة كروسيا السوفيتية ما تزال منذ نشوء نظامها الجديد تظهر العطف على الشعوب المناضلة في سبيل حريتها واستقلالها. بل أن العرب ليأملون أن تُنتج نوايا الدولة السوفيتية أثرا عملياً طيباً في السياسة الدولية، فتتوثق صداقتهم بها بقدر ما يلمسون من صدق هذه النوايا ومن اتفاقها مع مصلحتهم القومية”.
وكتبنا عام 1946 في مقال نشر في جريدة “البعث” العدد(6) الصادر في 10 تموز تحت عنوان “علة الضعف في سياستنا الخارجية” ما يلي: “والسياسة التي لها وزنها الثقيل في الضغط على مقدرات العرب هي بصورة خاصة سياسة الدولتين الانكلوسكسونيتين، بريطانيا والولايات المتحدة. وليس لهذه السياسة ما يتكافأ معها في القوة والتأثير ويشكل معدلاً لخطرها إلا سياسة دولة كبرى تقف للاستعمار البريطاني والأميركي بالمرصاد، هي دولة الاتحاد السوفيتي، وان من أبسط القواعد السياسية ومن أولى الواجبات القومية التي تترتب على حكومات واعية لمصلحة بلادها حرة في تقرير موقفها السياسي الدولي هي أن تستعين على أعدائها، بأعداء أعدائها أو على الأقل أن تهدد بهم وأن تهتم بمكافحة العدو الجاثم على قسم كبير من أراضيها والعدو المعتدي على صميم قوميتها”.
هذا ما كنا نراه منذ سنين عديدة، فلننظر إلى ما يجب أن يكون عليه موقفنا القومي على ضوء التطورات والتجارب التي تمت منذ ذلك الحين سواء في العالم أو في داخل بلادنا العربية. أما في العالم، فقد قويت وتعاظمت جبهة الشعوب المتحررة من نير الاستعمار والمتمسكة باستقلال سياستها عن سياسة المعسكرات العالمية. كما تطور الاتحاد السوفييتي نفسه في الإتجاه الذي كنا نتوقعه، وهو التعاون الحر الذي يحترم خصائص الشعوب وظروفها الخاصة ومشروعية إقامتها أو وصولها إلى الاشتراكية بطرقها الخاصة بها. وهذه كلها عوامل مطمئنة ومشجعة للشعب العربي وحكوماته التقدمية لكي يمضوا دون حرج وبمزيد من الثقة والجرأة في سياسة الحياد الايجابي والتعاون مع الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. فلقد غدا اليوم واضحاً أن مصلحة الأمة العربية ومصلحة الإتحاد السوفياتي تلتقيان، ولزمن غير قصير، في أكثر من نقطة حيوية. فالأمة العربية تناضل في سبيل التحرر السياسي والإقتصادي من الإستعمار الغربي. والإتحاد السوفياتي يرى في بقاء احتلال دول الغرب العسكري والإقتصادي للبلاد العربية خطراً مباشراً يهدد وجوده. وهو لذلك، إذ يدعم العرب ويمدهم بالسلاح والعون الإقتصادي لا يطمح إلى أكثر من إغلاق البلاد العربية في وجه الإستعمار الغربي ومنعه من استخدامها مسرحاً لعملياته الحربية ومورداً اقتصادياً لتغذية نفوذه وسيطرته. ولئن كان من واجب العرب أن يكونوا واقعيين فيعرفوا ما هي المصالح التي غيرت سياسة الإتحاد السوفياتي نحوهم وقربته من طريقهم وصداقتهم، فإن من الواقعية أيضا أن يدركوا الفارق الأساسي الذي يقوم بين الدول الاشتراكية من جهة، والدول الرأسمالية من جهة أخرى، وأن من ضمن مصالح الدول الإشتراكية أن تخلص لمبادئ مجتمعاتها القائمة على الحرية والعدالة والسلام والمتنافية مع الإستعمار والإستثمار.
29 حزيران 1956
(1) نشر في جريدة “البعث” في 29 حزيران 1956.
إتحاد مصر وسورية
اذا كان ثمة موضوع يمكن ويجب أن يعلو على الخلافات الحزبية والاجتهادات الضيقة، فهو موضوع الوحدة. إذ ما نفع اجتهادات الاحزاب وعملها، بل ما الفائدة من وجودها إذا بقي وطننا مقطعاً الى اجزاء لا يستطيع أي منها-مهما يكن واسعاً قوياً- ان ينهض وحده، وبشكل عميق أصيل، بعبء المبادئ التي تنادي بها الاحزاب، هذه المبادئ التي ما كان يمكن أن تنـزع الى العمق والاصالة والشمول لو لم تكن مستلهمة من تاريخ الامة العربية يوم كانت موحدة، ولو لم تكن صورة الوحدة المقبلة دوماً في أذهان حملة هذه المبادئ وقلوبهم.
يتعذر على أي كان أن يفسر عنف النضال الذي خاضه وما زال يخوضه شعبنا في اقطاره الواسعة واجزائه الصغيرة المنعزلة، سواء ضد الاستعمار الاجنبي الغاشم، أو ضد الطغيان الداخلي والاوضاع المتخلفّة الفاسدة، اذا لم يضع نصب عينيه هذه الحقيقة وهي: ان الشعب العربي، في بقاع وطنه، كثر عدده أم قلّ، انما يناضل مسلحاً بقوة الامة العربية كلها، لانه يناضل في سبيل حرية الامة العربية كلها، كما انه يتعذر على اي كان ان يفسر كيف يرتفع شعبنا فوق نفسه في بعض اللحظات القومية المقدسة -كهذه اللحظة التي نحياها الآن ونعقد فيها العزم على تحقيق أول خطوة عملية في طريق وحدتنا- فتتلاقى القلوب والجهود على صعيد المصلحة العربية العليا، وفي سبيل بناء المستقبل، نقول انه يتعذر على المرء تفسير ذلك اذا لم يضع نصب عينيه تلك الحقيقة، وهي اننا لم نجمع امرنا هنا في سورية، ولم يوطد اشقاؤنا عزمهم في مصر، على هذه الخطوة المباركة كسوريين ومصريين إلا لاننا هنا وهناك نشعر ونعرف أن تلك هي ارادة الامة العربية في كل مكان، وانه لا يسعنا إلا الاستجابة لتلك الارادة.
من خلال هذا الافق وهذه النظرة، ندرك ان خطواتنا هذه قومية خالصة، ايجابية كلها، لا أثر لسلبية فيها. فليس فيها نكاية لفئة أو تحد لقطر ما دامت في مصلحة جميع العرب، وما دامت خير بداية هيأتها الظروف ونضال الشعب الطويل لجمع العرب في كيان واحد. واذا كان لأحد ان يستاء منها ويكيد لها، فهم الاستعماريون أعداء حرية الشعوب ودعاة الحرب وأذنابهم الصهاينة الباغون المعتدون.
لقد آمنا دوماً كما آمن الشعب بأن الوحدة هي أعظم المطالب القومية والاهداف الثورية التقدمية. اذ لا يعقل ان يكون شعبنا قادراً على أن يحقق، وهو مجزأ مبعثر، مثل هذه الانتصارات على الاستعمار ومثل هذه الخطوات في مضمار التقدم، وان لا يحقق اضعافها عندما تتكتل جماهيره، ويتضاعف عدده ووسائله. والشعب لا يأخذ على بعض مشاريع الوحدة كونها رجعية، بل كونها وهمية، لان الوحدة والاستعمار نقيضان. وما نشاهده ونعانيه في مرحلتنا الحاضرة خير دليل على ذلك. فزوال الاستعمار يوقظ الوجدان العربي في الاقطار التي كانت عروبتها هاجعة، وسيطرة الاستعمار تشل اكثر الاقطار العربية حماسة للوحدة.
وهذا يعني ان الوحدة -على جلال شأنها- لا يمكن أن تنفصل عن الاهداف القومية الاخرى، ولا أن تُجَرد عن الواقع تجريداً عاطفياً خيالياً يفسح المجال أمام تشويه الاستعمار ودسائسه. فلا بد اذن أن يكون للوحدة اتجاه، وأن تتجه نحو التحرر والتقدم، فهما طريقها وغايتها، وهي لهما الضمانة الكبرى.
وقد أعطى نضال العرب الصادق، ووعيهم النيّر، أولى ثمراته بأن تهيأت في الخطوة الاتحادية بين مصر وسورية أسلم الشروط لبداية وحدة ذات اتجاه. واتجاهها التحرري التقدمي، بالاضافة الى العوامل الجغرافية وملابسات خطر اسرائيل، يحتم عليها أن تكون نواة متفتحة وجاذبة مستقطبة لبقية أقطار العروبة في المشرق والمغرب.
واننا نخطئ أيما خطأ إذا سلمّنا بفائدة هذه الخطوة دون ان نسلمّ بضرورتها القاهرة، إذ أنها ليست خطوة الى الامام فحسب، بل انها الضمانة الوحيدة لكي لا نتراجع عما حققناه حتى الآن ولكيلا نفقده. فكل تحرر لا تضمنه الوحدة يبقى مزعزعاً معرضاً للانتكاس، وكل تقدم يظل سطحياً مشوهاً ممسوخاً ما لم تفتح له الوحدة اجواء النماء.
إذا كنا جادين في تقدير عظم الاخطار المحيقة بنا، فهذا الاتحاد خير سبيل للوقاية وللدفاع، وإذا كنا واثقين بامكانيات شعبنا، مؤمنين بنـزوعه الصادق الى الحرية والعدالة والوحدة، فهذا الاتحاد سيكون المحرك الفعال لتلك الامكانيات، يضاعف الثقة، وينسق النضال ويختصر الزمن، لخير العرب وخير الإنسانية.
6 تموز 1956
تهليل القوى الاستعمارية
يدل على وجهة الخطوة الأخيرة
ما أحوجنا بين الحين والأخر إلى تنقية الجو السياسي من الارتجال والمهاترة والاتهام، فنعالج أمورنا الخطيرة بمنطق العقل وروح الأخوة القومية. والواقع انه ما كان لفرد أو جماعة أن يضطلعوا بمهمة الإصلاح والإنقاذ لو لم تكن نقطة انطلاقهم هذا الإيمان العميق الراسخ بان سلامة النوايا الشعبية ورجحان الإمكانيات الايجابية عند الجماهير هما الضمانة الأساسية لتفتح القوى المؤيدة للتقدم وتعاظمها حتى تتغلب على الفساد والمرض آخر الأمر.
والواقع أيضا أن كل خطوة يخطوها الشعب في طريق تحرره من قيود الإستعمار وتغلبه على أوضاعه المتخلفة يجب أن يرافقها ارتفاع مقابل في المقاييس القومية التي يهتدي بها في هذه الطريق الطويلة الوعرة، فمستوى الوطنية والإخلاص في زمن الانتداب، والاحتلال الأجنبي، قبل عشرين عاماً، يوم كان الوصول إلى عقد معاهدة مع فرنسا يمثل أقصى المطالب الوطنية، لا يصح أن يكون مستوى الوطنية والإخلاص الآن عندما يكون همنا تعزيز الإستقلال من الداخل بتقوية جيشنا وتصنيع بلادنا واستثمار ثروات أرضنا وتوحيد أجزاء وطننا العربي على أسس سليمة تكفل لنا إمكانية الدفاع عن وجودنا وقوميتنا أمام خطر “إسرائيل” والقوى الاستعمارية الداعمة لها.
فليس بديهياً إذن ولا ضرورياً أن يكون الذين كانوا يُعتبرون وطنيين قبل عشرين عاماً مثلاً، متلائمين مع شرائط الوطنية كما تقتضيها ظروف المرحلة الحاضرة. وليس من أحد يجهل أن الذين يتزعمون اليوم حملة التشكيك في قدرتنا على التحرر من سيطرة الغرب السياسية والاقتصادية وفي جدوى التعامل مع المعسكر الشرقي لتسليح البلاد وتصنيعها، ويثيرون الشكوك ويضعون العقبات في طريق الاتحاد مع مصر، ويقترحون إدخال العراق بوضعه الحالي المعروف في هذا الاتحاد، كانوا من زعماء الوطنية بمفهومها القديم.
فلو سلمنا بحسن النيات لما أغنانا ذلك شيئاً. والمقاييس القومية الجدية تفرض علينا معرفة الترابط الوثيق بين هذه القضايا كلها. فالتلكؤ في أخذ السلاح ووسائل التصنيع من الدول الشرقية هو إبقاء لسيطرة الغرب وبالتالي تقوية “لإسرائيل” وخطرها. والتلكؤ في تحقيق الاتحاد بين سورية ومصر هو إضعاف للبلدين ولكل السياسة القومية العربية التي يجسدان بها أهداف الأمة العربية، وبالتالي عودة للأحلاف الاستعمارية وتسهيل لقبولها.
وما يصح على “الوطنيين” من أعداء السياسة التحررية يصح أيضا على الذين تبنوا منهم السياسة تبنياً سطحياً دون أن يتراجعوا عن تصرفاتهم وأساليبهم العتيقة التي تعرّض هذه السياسة للنكسة والتراجع في مثل هذه الظرف الدقيق الذي يقف فيه الاستعمار المهزوم الحاقد “وإسرائيل” الباغية بالمرصاد لاستغلال اقل خلخلة واضطراب في صفوفنا.
وما النفع من أن يتعهد هؤلاء للشعب العربي بمقاومة الأحلاف الأجنبية ومؤازرة حركات التحرر والإيمان بالوحدة العربية، ومن أن يتبنوا بحماسة ظاهرة خطوة الاتحاد مع مصر، إذا كان دأبهم داخل سورية محاربة القوى الشعبية التي تقاوم الأحلاف وتناضل في سبيل التحرر وتعمل من أجل الاتحاد، وهل يجدي هذا الحماس شيئاً في منع الدول الاستعمارية “وإسرائيل” وأعداء الاتحاد الداخليين في سورية وغيرها من استغلال كل ذلك لتعطيل خطوة الاتحاد مع مصر؟.
إن إخلاص الشخص لا يعرف بالنية والإعلان فحسب، بل أيضا وعلى الأخص بالقوى التي يعتمد عليها لتحقيق سياسته، وبالأسلوب الذي يتبعه في تحقيق هذه السياسة. والخلص هو الذي يعرف دوماً في كل تصرف يقوم به أي القوى تستفيد من تصرفه؟ حتى لو لم يكن بينه وبينها علاقة أو صلة.
ولقد أصابت بعض الصحف كبد الحقيقة عندما استشهدت بما كتبته صحيفة انكليزية استعمارية عن الحدث الأخير(2) واستبشار الاستعمار به كواسطة لإرجاع سورية إلى نير الغرب، وكبدء للتآمر على نهضة مصر ووضعها المتحرر.
إذن فكل تجاهل لأثر بعض التصرفات الداخلية في إنعاش قوى الإستعمار وآماله هو لا يقبل فيها عذر، وكل تصرف مثير للاضطراب والانقسام في الوقت الذي تباشر فيه البلاد تحقيق الخطوة الاتحادية هو غفلة تشبه الغدر.
ولا نريد لبلادنا إن تضيع قضيتها بين حسن نيات البعض وتآمر البعض الأخر. إن إيماننا بشعبنا وبإمكانيات الخير في كل فرد من إفراده لا يعني أن نستسلم للثقة العمياء والتفاؤل الرخيص ونقبل بالتصرفات المرتجلة والأساليب العتيقة الخطرة، بل أن هذا الإيمان هو الذي يدفعنا إلى التنبيه والتحذير، والى دعوة الشعب للدفاع عن الخطوات التي بذل في سبيل تحقيقها التضحيات الغالية.
ولنقل مرة أخرى ما كررنا ألف مرة في الماضي: أنه لا ضمانة لما حققه العرب من تحرر وتقدم جزئيين نسبيين، ولا قدرة لهم على دفع الأخطار الخارجية المتجمعة حولهم إلا بشق طريق الوحدة العربية بخطوة الاتحاد بين سورية ومصر، وان هذه الخطوة ـ على بساطتها تلقى المقاومة العنيدة من الاستعمار “وإسرائيل” ومن المصالح والمطامع التي خلقتها التجزئة في بلاد العرب، وانه في سبيل بحقيق هذه الخطوة قبلنا بقناعة عميقة أن نلتقي على صعيد قومي مشترك مع جميع الذين يخلصون لها ولو اختلفنا معهم في كثير من الأمور. وقد سجل الميثاق القومي الحد الأدنى الذي لابد منه لكي تكون السياسة الخارجية والداخلية منسجمة مع مشروع الاتحاد ومساعدة على تحقيقه. وسنتابع عملنا لنساهم مع غيرنا في تحقيق ما تعهدنا به أمام الشعب، مسلحين بقوة هذا الشعب نفسه.
13 تموز 1956
(1) نشر في جريدة “البعث” قي 13 تموز 1956.
(2) تنحية رئيس أركان الجيش الذي رافقه حشود إسرائيلية على حدود سورية ونشاط عملاء حكومة العراق وحلف بغداد.
معركتنا مع الاستعمار محتومة
يفرض علينا الاستعمار اليوم(1) معركة جدية قاسية يعد لها كل ما يملك من وسائل العدوان ويبيتها من قبل أزمة القناة، منذ أن تأكد من اختمار الوعي العربي الثوري وبلوغ الإمكانيات الشعبية في بعض الأقطار العربية مستوى التنظيم الفعال. وهذا يعني أن المعركة هي معركة العرب قبل أن تكون معركة الاستعمار، وأن اندفاع العرب الطبيعي المشروع في طريق التحرر والتقدم يشكل بحد ذاته خطراً كبيراً على مصالح الاستعمار ووجوده ليس بالبلاد العربية فحسب بل في العالم أيضاً.
ولا سبيل بالتالي إلى تفادي المعركة إلا بأحد شيئين وكلاهما مستحيل: أما أن يوقف العرب اندفاعهم نحو الحياة الحرة الكريمة وليس هذا في مقدور أحد. وأما أن يتنازل الاستعمار عن مصالحه بوعي وطواعية وهذا مخالف لطبيعة الاستعمار كنظام يقوم على التناقض ويستند إلى العدوان.
فواجب العرب أن يدركوا هذه الحقيقة بوضوح وأن يوطنوا أنفسهم على قبول المعركة والتهيؤ لها بكل ما يملكون من قوى وكفاءات وأن يحذروا من كل تخدير أو تمويه يقصد منه إضعاف مقاومتهم واستعدادهم. ان كونهم مدافعين يوجه إليهم الظلم والعدوان من غيرهم لا يعفيهم من واجب الإعداد الكامل لدفع العدوان الأجنبي ومن دخول المعركة كأنهم هم الذين اختاروها. وأول ما يجب أن يحذروه هو الاعتقاد أنهم يستطيعون بلوغ التحرر النهائي من الاستعمار بكل أشكاله دون أن يدفعوا الثمن. فحرية الشعوب تقاس بما يقدم في سبيلها من تضحيات، وهم مطالبون في أضعف الاحتمالات بأن لا يكونوا أقل قبولاً للتضحيات وتحملاً للمصاعب من شعوب الدول الاستعمارية نفسها. لقد حاولت الفئات الإقطاعية الحاكمة طوال سنين بسلوكها وتوجيهها أن تطمس هذه الحقيقة وتشوه في نظر الشعب طبيعة المرحلة التي نحياها، فهوّنت من خطر الاستعمار وبالغت في قيمة الاستقلالات القطرية متجاهلة وحدة المصير العربي ووحدة المصالح الاستعمارية، وضربت على نغمة الاستقرار والرخاء في حين أن المرحلة مرحلة ثورة ونضال، وأن حياتنا كلها يجب أن تطبع بهذا الطابع وتتمشى مع ما يتطلبه النضال من حرمان ومشقة وتعبئة جماعية.
وأول ما تتطلبه المعركة التي نقبل عليها هو أن تنسجم القيادات ومراكز التوجيه مع طبيعة مرحلتنا القومية، أي أن تصبح القيادات ثورية.
قبل خوض المعركة يجب أن نحسب قوانا وقوى العدو، فالشعب العربي لم يستغل بعد غير جزء يسير من إمكانياته الواسعة. وأعظم قوة في يده هي وحدة نضاله التي لم يكد العرب ينتبهون إليها ويضعون أيديهم عليها في هذين العامين الأخيرين حتى ذعر الاستعمار وتزعزعت أركانه. وهذه الطريق ما تزال بكراً تخبئ أعظم الإمكانيات وتفجر القوى الهائلة كلما أمعن الشعب في النضال. وقوتنا تكمن أيضاً في اتجاه نضالنا، إذ أنه لأول مرة يتخذ نضال العرب التحرري ملامحه وشعاراته الواضحة، فالشعب العربي يطلب الحرية بكل ما فيها لنفسه ولغيره من الشعوب. أنه يطلب التحرر من الاستعمار والاستثمار، ومعركته معركة شعب لا معركة طبقة. معركة جماهير لا معركة زعماء، جماهير تناضل في سبيل حياة حرة كريمة مبدعة، وشعبنا في هذا يلتقي مع اتجاه العصر، أي مع اتجاه الشعوب ومع التقدم البشري العام، لذلك يجد في طريق نضاله قوى عديدة بين شعوب العالم تدعمه وتشد أزره.
أما الاستعمار فيرتكز على قوتين، قوة إيجابية مستمدة من حركته العلمية التكنيكية ولا يمكننا أن نجابه هذه القوة إلا باقتباسها ومجاراتها واغتنام مناسبة هذه المعركة الفاصلة للقفز إلى مستوى العلم والتنظيم الحديثين، والتخلص نهائياً من بقايا العقلية الرجعية والارتجال. أما القوة الاستعمارية السلبية فمستمدة من النواقص والثغرات التي لا تزال قائمة في مجتمعنا وأوضاعه، هذه الثغرات التي تجعل للاستعمار أعواناً من بعض أبناء وطننا الذين استعبدتهم المصالح الخاصة وأعماهم الجهل والغرض.
وفي يدنا اليوم أن ننتزع من الاستعمار هذا السلاح بتصفية جبهتنا الداخلية وعزل الفئات المتآمرة والمعالجة السريعة الحاسمة لأسباب التآمر والانحراف.
يفرض علينا الاستعمار اليوم حرباً عدوانية لا هوادة فيها ليوقف انطلاقنا ويسترد ما حققناه بدمائنا. وواجبنا أن نجيب على الاستعمار بالحرب والثورة معاً فالحرب هي تعبئة وتنظيم لقوى موجودة وقوانا الموجودة لم تصبح بعد في مستوى القوى الاستعمارية، لذلك يجب أن ندعم حربنا بالثورة لتفجير إمكانيات شعبنا الكامنة وتغذية الحرب باستمرار بهذا المعين الذي لاينضب الذي هو نضال ثمانين مليوناً من العرب يعيشون على أرض غنية بالثروات، ولها من المزايا الحربية والاستراتيجية ما يندر توافره لأي بلد آخر.
لقد أعطى العرب في العامين الآخرين مقياساً رائعاً لكفاءتهم في مجالي الحرب والثورة فالشعب العربي في الجزائر استطاع بعد قرن من أقسى أنواع الاستعمار أن ينظم مقاومته المسلحة على مستوى جيوش حلف الأطلسي. والشعب العربي في مصر استطاع بعد عزلة طويلة فرضها عليه الاستعمار والطبقة الرجعية لتناسي شخصيته العربية أن يسترد وعيه لقوميته ولمصيره العربي فحرك بهذه اليقظة أعمق القوى الثورية في أرجاء الوطن العربي كله.
بالاستناد إلى هاتين الظاهرتين نستطيع أن نرسم طريق نضالنا وان نسير فيه بوعي وثقة وإيمان بالنصر.
(1) نشر في جريدة “البعث” في 24 آب 1956
ميشيل عفلق
مستقبلنا من خلال ألازمة الحاضرة
يعد الإستعماريون الإنكليز والإفرنسيون كل الوسائل والأسلحة المادية والمعنوية للإعتداء على الوطن العربي ومحاولة ضرب النهضة العربية وتأخير سيرها. ومن هذه الأسلحة العتيقة الصدئة التي راحوا ينبشونها من مستودعات دعايتهم المسمومة، هي تهمة الطائفية والعنصرية والإقليمية يلصقونها بحركة التحرر العربي، فهم يصورون انطلاقة مصر في طريق الحرية والكرامة، ورفع مستوى الطبقة الشعبية، والتجاوب مع حركة الوحدة العربية، كما كانوا قبل عام وما زالوا يصورون ثورة الشعب العربي في الجزائر على الذل والظلم وأبشع أنواع الإستعمار، بأن هذه وتلك حركات رجعية يدفعها التعصب الديني تارة، والتعصب العنصري تارة أخرى، وتغذيها الروح الفاشية وأطماع السيطرة والتوسع. ولعل التاريخ لم يعرف حتى الآن مغالطة وتجنياً مفضوحاً على الحقيقة واستهتاراً بالعقل والمنطق بلغ الشأو الذي بلغته دعاية البريطانيين والإفرنسيين عندما يسمون نضال العرب للتحرر من الاستعمار عدوانا واستعماراً.
إن العرب يجتازون مرحلة تاريخية يرافقهم فيها الحق والحرية كأنهما قدر محتوم. وهذا ما يفسر انتصار جميع الشعوب الحرة وجميع أحرار العالم لقضية العرب العادلة في أزمة القناة، وانتصار جميع هذه الشعوب وهؤلاء الأحرار لثورة العرب البطولية المشرفة في الجزائر، دونما حاجة إلى أية دعاية من جانب العرب لقضيتهم. وفي هذه الظاهرة وحدها ما يكفي لدحض الدعاية الاستعمارية المتهافتة.
نقول إن هذا وحده كاف، لو لم يكن لنا إلا موقف واحد هو موقفنا من الإستعمار. ولكن لنا موقفاً آخر أكثر أهمية وأصالة، هو موقفنا من أنفسنا ومستقبلنا.
إننا لا نرضى لامتنا العربية أن يكون اتصالها بالحرية والحق رهناً بمرحلة زمنية هي هذه المرحلة الخطيرة التي نعاني فيها ظلم الإستعمار والإستعباد والعدوان علينا من قبل الطامعين الجشعين، بل إن نظرتنا العميقة إلى هذه المرحلة بالذات هي أنها تجربة جدية وامتحان لقدرتنا ليس على التحرر من الاستعمار فحسب، بل على إعادة النظر في أوضاعنا ومقاييسنا الفكرية والخلقية قبل ابتلائنا بالإستعمار وعلى التبصر الطويل بمستقبلنا ليأتي سليما من شوائب الماضي وتوفير الشروط اللازمة والقواعد المتينة والأرض الصالحة في نضالنا الحاضر لكي يولد فيه وينمو المستقبل الذي نريده.
إن موقفنا من أنفسنا كأمة عربية ذات رسالة لا يعني بوجه من الوجوه أن نقلل من شأن موقفنا من الإستعمار، وألا نعد لمجابهة الإستعمار كل ما ينبغي، إنما هو يعني أن نحاذر ما يمكن أن يتركه الإستعمار في نفوسنا وعقليتنا من أثر وعدوى، وأن نعطي لآلامنا المعنى الإيجابي الذي يزيدنا رسوخاً في الحق وإيمانا بالحرية وانفتاحاً للمحبة.
يهمنا أن نربح المعركة في نضالنا ضد الاستعمار دون أن نفرط بشيء من اتجاهنا القومي الإنساني. بل يهمنا أن نربح المعركة ضد الاستعمار بفضل حرصنا ومحافظتنا على اتجاهنا هذا.
قلنا إن الشروط الموضوعية لمرحلة نضالنا وتحررنا من ظلم الآخرين تجعل مقدراً علينا أن نسير في صف الحرية والحق. ولكننا لن نكتفي بهذا القدر الموضوعي الخارجي المؤقت. إننا نطمع في أن يكون التقاؤنا بالحرية والحق قدراً ذاتياً إراديا لكل مواطن في الوطن العربي، وبالتالي قدراً دائماً لأمتنا، وان نعالج أمراضنا الداخلية والنواقص التي ما تزال تشوب نهضتنا، لا بدافع الخوف من دعايات الإستعمار ودسائس المغرضين، بل بدافع الأمانة لأنفسنا والإيمان بمثلنا التي هي مثل الإنسانية الحرة.
7 أيلول 1956
لا رجوع ولا تراجع
من الواضح أن الاستعماريين الانكليز والفرنسيين مصممون على العدوان على البلاد العربية واختلاق أية ذريعة لتبرير عدوانهم هذا. ومن الواضح أيضا أن أزمة القنال لم تكن سوى مناسبة لانكشاف مقاصدهم ومخاوفهم من يقظة العرب الحديثة وتصميمهم على ضربها قبل اكتمال نموها، فالمعركة إذن واقعة لا محالة بيننا وبين الإستعمار، وزمن المعركة مفروض من قبل الإستعمار نفسه، أي في هذه الفترة الحاضرة التي يرى فيها الإستعمار أنها وقت مؤات له لأن تهيئة العرب لم تكتمل بعد، ولأن الظرف الدولي يجعل من غير المحتمل أن تتوسع حربه مع العرب إلى حرب عالمية. وهذا يعني أن تأميم مصر لشركة القناة لم يعجل في مجيء المعركة تعجيلاً جوهرياً، بل على العكس عجل في فضح الخطة الإستعمارية أمام العرب وأمام شعوب العالم فضحاً أوقع المستعمرين في الإحراج والتخبط.
ولقد دأبت الدعاية الإستعمارية على محاولة تضليل الرأي العام العربي والعالمي وعرض الأمور بشكل معكوس وإلقاء التبعة على تطرف جمال عبد الناصر، فأظهرته بمظهر المعتدي والطامع في السيطرة والتوسع. وبالرغم من فشل هذه الدعاية الواهية في التأثير على الشعوب الحرة، وعلى الكثرة الساحقة من أفراد الشعب العربي، نرى من واجبنا أن نوضح هذه الناحية، للعدد القليل المخدوع من غير عملاء الأجنبي، وغير ذوي المصالح الضخمة الحليفة لمصالح الإستعمار ومنطقه. إن الاعتداء هو دوما وأبداً من جانب الإستعمار، والعرب كانوا دوماً حتى الآن مدافعين، وحسبنا أن ننظر إلى هذه السنوات الأخيرة والى الحكم الرجعي الذي أقامه نوري السعيد في العراق بدعم الأجانب، إلى حلف بغداد ومحاولة جر الأقطار العربية إليه، لندرك أن ما يسمونه تطرفاً في سياسة جمال عبد الناصر لم يكن إلا جواباً على ذلك الهجوم الإستعماري ودفاعاً عن حرية الأقطار العربية واستقلالها. وليس عبد الناصر في هذا إلا معبراً عن إرادة الشعب العربي بأسره. وليست سياسته الإستقلالية الواضحة الجريئة إلا تعويضاً عن خسارة بعض المناطق والأقطار التي توصل فيها الإستعمار بمساعدة الرجعية العربية إلى تمكين نفوذه ليهدد بذلك سلامة الأقطار المتحررة من هذا النفوذ. فلولا حدة الهجوم الإستعماري في العراق لما ظهر الدفاع الاستقلالي في مصر بتلك الحدة، ولولا تآمر نوري السعيد لما كان في سياسة عبد الناصر ما يسمونه باطلاً بالتطرف. وبإمكاننا أن نعدد الأمثلة فنبين كيف أن تعنت الإستعمار ومكابرته وبطشه الوحشي في بلد كالجزائر وكيف أن تآمر الإستعمار على الأمة العربية بإقامة دولة “إسرائيل” وتسليحها وتشجيعها على العدوان، كل هذا فرض على العرب كيما يدافعوا عن بقائهم، أن يقفوا من الدول الغربية ذلك الموقف النضالي الحاسم. هذا فضلاً عن تدخل الإستعمار وشركائه لعرقلة نهضتنا الداخلية ووحدتنا القومية بدعم الطبقات والأسر الحاكمة الرجعية حتى يظل وطننا العربي خليطاً متنافراً عجيباً يحتفظ بالمجتمعات البدائية إلى جانب مجتمع القرن العشرين، وتبدد في بعض إماراته الهزيلة ثروات كانت تكفي للنهوض بمستوى عشرات الملايين من أفراد شعبنا.
نذكر كل هذا لنخلص إلى القول: إن القضية العربية بكل مآسيها وتناقضاتها، وفي صراعها التاريخي مع الإستعمار والرجعية، هي التي تطرح نفسها من خلال أزمة القناة على بساط البحث العربي والعالمي، وفي الوقت المناسب.
فلئن كان الاستعمار مصمماً – دفاعاً عن مصالحة الجشعة الأثيمة – على إرجاع نهضة العرب عشرات السنين إلى الوراء، فان تصميمه ليس بكاف لكي يتحقق له ما يريد. لقد وصل انبعاثنا أو كاد يصل إلى منتصف طريقه. وما تباطؤ هذا الإنبعاث وتعثره الا نتيجة لتباطؤ تفتح الوعي في قسم غير قليل من أبناء وطننا ولضياع قسم من إمكانات شعبنا وأرضنا لم يستغل بعد أو لا يستغل في الطريق الصحيح، ولأن قضيتنا كلها لم تطرح بعد طرحاً عميقاً شاملاً واضحاً، وبالشكل الجدي الحاسم. فللاستعمار أن يحلم ما شاءت له الأحلام بإرجاع العرب إلى الوراء، أما نحن فمؤمنون بأن الوقت قد حان لاجتياز النصف الآخر من طريق انبعاثنا، ولم يكن معقولاً ولا ممكناً أن تتخذ أزمة تأميم شركة للملاحة هذا الاتساع وهذه الخطورة العالمية لو لم يكن وراءها تاريخ أمة بأسرها في حالة التكوين والإنضاج، ولو لم يكن ذلك مترابطاً ومتوافقاً مع حالة تكوين وإنضاج في تاريخ العالم كله، ولو لم يكن وراء ذلك قضية كبرى، تريد أن تعلن عن نفسها، هي في نفس الوقت قضية العرب وقضية الإنسان.
لا رجوع إلى الوراء إذن، فهذه المعركة التي يفرضها علينا الإستعمار ظلماً وعدواناً كفيلة بأن تفتح الوعي وتفجر ما بقي من قوى شعبنا في حالة الركود والكمون، وأن تحرج العناصر السطحية والنفعية وتضطرها إلى الاختيار، وتضطر الأمة كلها أن تقف الموقف الجدي اللائق بها، كما أنها كفيلة بتحريك الضمير العالمي واضطراره إلى أن يختار.
وإذا كنا مؤمنين بأن دخولنا المعركة لن يعرض نهضتنا لخطر الرجوع إلى الوراء، ما دامت إمكاناتنا وإمكانات الشعوب الحرة في نمو وصعود، وما دامت إمكانات الإستعمار تسير كل ساعة إلى الهبوط والزوال، فحري بنا أن نرفض كل تراجع عن دخول المعركة، إذ أن التراجع هو وحده الذي يحقق للاستعمار مآربه فينا إذ نتخلى عن قضيتنا ونقتل إمكانات المستقبل في أجيالنا. ومهما تكن النتائج المادية لهذه المعركة وخسائرها وأضرارها فان مجرد دخولها يحمل في طياته بذور الحياة والحرية وإمكانية النصر العاجل أو الآجل. أما التراجع فيعني، عدا الخسارة المحققة لكل ما يطمع الاستعمار في انتزاعه منا، ضياعاً للروح ومعنى الحياة.
14 أيلول 1956
بمناسبة المؤتمر الشعبي العربي
لقد ضم المؤتمر الشعبي الذي انعقد في دمشق بين أعضائه من جملة ما ضمّ (1)، رؤساء وزارات سابقين وممثلين عن جيش التحرير الجزائري. وكان موقف الجميع واحدا ومتقاربا من حيث شعورهم بالخطر الاستعماري المداهم وعزمهم على دفعه ومقاومته. ولسنا نجهل أن هذا التقارب بين فئات مختلفة في التفكير والأسلوب السياسي ومتفاوتة في الشروط والمصالح الاجتماعية إلى هذا الحد، مردّه بالدرجة الأولى إلى الظرف الحاضر وخطورته، والى شعورهم بأن الخطر إذا وقع فلن يستثني من شره أحدا، وأن مصلحتهم هي في التكتل والاتحاد. ولكن هذه الظاهرة تدل أيضا على مدى التقدم الكبير الذي حققه الوعي القومي العربي في السنوات الأخيرة، والذي جعل نقاط الالتقاء والتقارب بين فئات الأمة الواحدة تنمو وتنضج وتربو على نقاط الفرقة والاختلاف. ولو أن المصالح وحدها هي التي تعرّف الأمة وتعيّن العلاقات بين أفرادها لما كان للأمم والقوميات وجود، فالصعيد القومي هو حقيقة واقعة، ولكن لا بد له من بعض الشروط الأساسية. وأول شرط يطلب توفره حتى يوجد الصعيد القومي الذي يلتقي عليه الجميع ما عدا الخونة والمارقين، هو أن يكون هذا الالتقاء إيجابيا خلاقا، يجمع القوى الإمكانيات ويضاعفها لا أن يكون حيلة وذريعة من قبل فئة أو طبقة لفرض السيطرة وإخفاء الاستقلال وتضييع المسؤولية.
لقد كان “إجماع” جامعة الدول العربية خلال عشر سنوات مثالا للصعيد القومي السلبي المزيف الذي يتخذ ذريعة لكبح اندفاعة الأمة العربية نحو حقوقها وأهدافها فى الحرية والوحدة والتقدم. كما كانت كذلك كل دعوة سابقة إلى وحدة الصف الوطني أو وحدة الصف العربي. وكان القصد دوما هو التستر على الضعف والتلآمر والاستغلال.
ولكن الدعوة هذه المرة إلى وحدة الصف لم تأت من الحكومات بل من الشعب، ولم تصدر عن الطرف المكبل أو المتآمر أو المستعبد للمصالح الخاصة بقصد تكبيل الطرف المتحرر بالقيود، بل أتت الدعوة من الشعب العربي ممثلا بجرأة عبد الناصر وانطلاقه نحو التحرر والكرامة، وممثلا في الحركات الثورية والتحررية في مختلف أرجاء وطننا الكبير التي تجاوبت أعمق تجاوب وأسرعه مع خطوة عبدالناصر، فكانت الدعوة هذه المرة نداء صادقا صريحا للمناضلين، واستنهاضا للمترددين، وإحراجا للمتآمرين.
فالصعيد القومي يجب أن يكون صاعدا حتى يكون صادقا غير مشبوه،، وقد تحقق هذا الشرط أول ما تحقق في ثورة الجزائر العربية على أروع شكل عندما قبل قاده جيش التحرير أن ينضم إلى الثورة كل من يستطيع أن يؤدي قسطا من الواجب القومي بصرف النظر عن آرائه وماضيه، لأن تنظيم الثورة وشمولها الشعبي يجعلان من هذا الاشتراك والمعاون شيئا إيجابيا سليما. كما تحقق هذا الشرط في أزمة القناة وما تبعها من توحيد للرأي العام العربي الشعبي، وحتى الرسمي.
كما تحقق قبل ذلك في قيام الحكم القومي فى سورية على أساس متابعة السياسة التحررية والحياد الإيجابي وتحقيق الإتحاد بين مصر وسورية. وقد تمثل ذلك أيضا وبشكل يدعو إلى التفاؤل الكبير في هذا المؤتمر الشعبي العربي الذي ضم هيئات وأفرادا مخلصين في الاجتهادات السياسية والشروط الاجتماعية، وكانت كثرتهم من المناضلين الشعبيين وجميعهم لبوا الدعوةبدافع التقدير للمسؤولية والثقة بمستقبل الأمة العربية.
21 أيلول 1956
(1) نشر في جريدة “البعث” في 21 أيلول 1956.
النضال العربي بوجه الاستعمار وإسرائيل
ايها الاخوان
لقد عرف الاستعمار أن الأمة العربية تعيش حالة تخمر وتهيئة لانبعاث قوميتها، وان في ذلك خطراً عليه. وقد كانت هذه المعرفة من أهم العوامل التي دعت إلى تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين والذي أصبح فيما بعد دولة إسرائيل.
ولم يكن وجود الصهيونية كافياً لكي ينجح الصهيونيون في استملاك فلسطين وإقامة دولة فيها. والحركة الصهيونية في البدء لم يكن هدفها فلسطين. كانت تفتش عن أية ارض في العالم تقيم عليها وطناً قومياً يهودياً. ولكن الحركة الصهيونية من جهة ومصلحة الاستعمار من جهة.. تلاقي المصلحتين هو الذي ساعد على خلق هذه الدولة. والمفهوم بداهة بأن مساعدة الدول الاستعمارية للحركة الصهيونية على تحقيق اغراضها في فلسطين يقصد منه الحيلولة دون الوحدة العربية والحيلولة دون قوة الأمة العربية، أي بلوغ هذه القوة القدر الذي يشكل خطراً على وجود الاستعمار. فعندما يمكن لليهود من إقامة دولة في قلب البلاد العربية تساعدها الدول الاستعمارية باستمرار ينشغل العرب بهذا العدو ويبذلون قسماً كبيراً من جهودهم في دفع خطر هذا العدو وفي الاستعداد لمواجهة خطره، كما ان نفسيتهم وتفكيرهم يمكن أن يشغل عن الاستعمار بهذا العدو الظاهر المقيم. وتعرفون كيف أن بريطانيا نفسها كانت، وأحسب أنها مازالت إلى اليوم وإلى الغد، تحاول ان تظهر بوجهين وان تلعب على الحبلين، فهي التي أوجدت إسرائيل وتدعو إلى مقاومة إسرائيل وتتكلم كأنها عربية قحطانية تغار على العروبة، وتتحالف مع بعض الدول العربية بحجة الدفاع ضد الخطر الإسرائيلي أو بحجة التخلص من إسرائيل. فلم نكن مخطئين إذن عندما وضعنا دوماً العدو الأول هو الاستعمار واعتبرنا إسرائيل نتيجة للاستعمار وحليفة له وربيبة له، وان مصيرها مرتبط بمصيره. ولكن لا حاجة إلى تنبيهكم بأن هذا لا يجوز أن يؤخذ بالشكل الحرفي وان تظنوا ان إسرائيل تأتمر بالاستعمار بكل شيء، هي حليفة للاستعمار ولكنها ليست أداة بالمعنى العادي .. لها كيانها، ولها خططها ولها مصالحها ولها قوتها وذكاؤها وسياستها وتعتمد على قوة ونفوذ الصهيونية العالمية. اذن هي احياناً تورط الدول الاستعمارية وأحياناً الدول الاستعمارية تدفعها.
أشرت إلى هذا لكي ابين لكم تضليل الدعايات الاستعمارية، ودعايات عملاء الاستعمار والفئات الرجعية التي تتبنى منطق الاستعمار، لأنها اصبحت تعي صلتها بالاستعمار وان مصلحتها رهن ببقاء الاستعمار. ففي هذه الاشهر الأخيرة فقط، إذا اكتفينا بها، نرى صحفاً كثيرة في هذا البلد وفي بلدان عربية أخرى مسيرة مباشرة أو بصورة غير مباشرة من الاستعمار، ومن الانكليز بصورة خاصة، كلما قامت حركة شعبية، كلما قام نضال في بلاد العرب في وجه الاستعمار الغربي، قامت هذه الدعايات وهذه الفئات والأوساط تصرخ بأنكم نسيتم العدو الأول للعرب، إسرائيل، وان كل الانتباه يجب أن يركز عليها، وان كل الجهود يجب أن تصرف لمقاومتها. وتعرفون أيضاً بأنهم حاولوا كثيراًَ أن يُظهِروا حلف بغداد بأن مبرره الأول والأكبر أنه وجد ليساعد على محو إسرائيل وعلى التخلص منها، وان بواسطته سيحصل العراق على الأسلحة، وتقوى الجيوش العربية. وكان هذا تناقضاً مفضوحاً، واستمروا إلى الأيام الاخيرة في هذه الدعاية حتى ان الأوساط الانهزامية والانعزالية في لبنان، وهي معروفة بجفائها لكل ما هو عربي وبعقليتها الطائفية المتعصبة، وبصلاتها المشبوهة مع دول الغرب، قد شاركت فيها.
عندما نشأت أزمة قناة السويس سمعنا أصوات هذه الفئات تذوب غيرة على فلسطين وتتوعد إسرائيل وتكثر من الكلام والكتابة عن إسرائيل وخطرها على العرب والعروبة، لكي تلهي الناس عن الخطر الحقيقي وعن موضوع الساعة.
قلت لكم بان القوّة العربية قد تضاعفت أضعافاً في السنوات الأخيرة، ومن المعلوم والواضح بأن خلق دولة إسرائيل كان باعثاً كبيراً وكبيراً جداً لتنمية هذه القوى ولحفز الأمة العربية ولرفع مستواها النضالي. فالاستعمار اذن هو شيء مصطنع كاذب يعيش بالحيلة ومن يوم إلى يوم بالأكاذيب، بالبطش والقوة، والشيء الطبيعي هو ان تكون الشعوب مستقلة حرة، وان لا يكون هناك مستعمِر ومستعمَر مستغِل ومستغَل. والدليل على اصطناع الاستعمار وعلى بطلانه وعلى أنه شيء موقوت لا يمكن أن يستمر وأن يكون له أساس قوي، ان العمل.. نفس العمل الذي يأتيه الاستعمار – بضرب الأمة التي يريد أن يستعمرها ويستغلها ويخنق حيويتها- نفس العمل هذا يكون له نتائج متناقضة. فالدول الاستعمارية أقامت إسرائيل لكي تحول دون نهضة العرب، ودون وحدة العرب، ولكن هذا الفعل نفسه كان عاملاً كبيراً جداً في إيقاظ قوميتنا ورفع مستوى وعينا ونضالنا لكي نصل في النتيجة إلى القضاء على إسرائيل والاستعمار معاً. ويكفي أن نأتي بمثال مصر، ولو أن الأمثلة كثيرة، ولكنه أبرز مثال هذا الذي فعلته معركة فلسطين في نفسية مصر وشعبها، فكانت معركة فلسطين بالنسبة لمصر بصورة خاصة حدثاً تاريخياً في تاريخ الأمة العربية. لأنها قضت على تلك العزلة التي عمل الأجنبي مئة سنة ليقيمها بين مصر وبين بقية الأقطار العربية، وتحطمت هذه الأسوار العازلة لمصر. وأكثر من ذلك، بانهيار أسوار العزلة انقشعت الغشاوة عن الشعب في مصر وانتفض من حياة كانت مطبوعة بطابع الفساد والذل والميوعة واتجه في طريق صاعدة نحو البناء القومي السليم والاصلاح الاجتماعي والتفكير السياسي المتصل بصميم مصلحه الشعب. ولم يحدث هذا في يوم واحد كما تعلمون. وكل شيء في الحياة لا بد له من وقت ليأخذ حده وينضج ولا بد أن تعترض الطريق عثرات وأن يحصل تردد وتلمس، ولكن عندما تكون الدفقة قوية وعميقة وأصيلة لا بد لها ان تصل إلى نتائجها المقدورة لها وهكذا وصلنا منذ سنة من الزمن أو سنة ونصف السنة إلى شيء قريب من المعجزة إذا أخذنا بعين الاعتبار ما كانت عليه مصر من قبل إذ نجد الاتجاه العربي في الفئة الموجهة في مصر يصل إلى حد من السلامة يفوق كل قطر عربي آخر، وأقصد الحكومات.. لا أقصد الحركة الشعبية، لأن هؤلاء تتلمذوا على الحركة الشعبية التي نشأت هنا في سورية وفي العراق وفي الأردن ولكنهم تمثلوها بسرعة فائقة. واليوم نستطيع القول بأن هذا الاتجاه لم يعد محصوراً في نطاق الحاكمين بل أخذ يتفاعل مع الشعب.
قد تتساءلون كيف تنقلب الامور احيانا في تاريخ الامم انقلاباً مفاجئاً.. ما كان ليقدر أو ليحسب.. وهل هذا من صنع الأشخاص؟ وجواب سريع على ذلك هو ان الأصل نمو تفكير الشعب ووعي الشعب فإذا تحقق هذا النمو إلى حد كاف في الشعب فإنه يخلق الجو المناسب لظهور اشخاص افذاذ، وعندها يأتي دور الاشخاص، ولا ينكر دور الأشخاص الافذاذ في صنع التاريخ. ولكن من الخطأ أن نحسب أنهم وجدوا من الصدفة. انهم نتيجة امتهم واختمارامتهم، ثم تتمثل أمتهم فيهم، وهم بدورهم يدفعونها خطوات إلى الأمام. ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يتصور أن حركة مصر الأخيرة أو ما يسمونه الثورة كان ممكناً أن تقوم وان تعيش وتستمر لو لم يكن الجو العربي في مصر، وخاصة فيما حول مصر من أقطار عربية، قد بلغ ذلك النضج من النضال الشعبي.. من النضال القومي.. من التفكير القومي المقرون بالتفكير الاجتماعي التقدمي. كل هذا انعكس على مصر.. وتفاعل مع مصر.. مع أفراد كلهم دخلوا معركة فلسطين.. دخلوا هذه التجربة.. وعانوا تجربة فلسطين بتفكير جديد وبتصميم جديد.
هذا كما قلت شيء قريب من المعجزة؛ ولكن ما هو مخبأ في صدر الأمة العربية من إمكانيات يفوق ما رأيناه حتى الآن بكثير. ولسنا الا في أول الطريق.
وثورة الجزائر، يصح أن تسمى بدون تحفظ معجزة، ليست قريبة من المعجزة.. ولكنها معجزة بالمعنى الكامل. إذ لا يمكن ان نتصور إمكان القيام بالثورة لولا أن الجزائر قطر عربي.. لولا أنه متصل ولو من بعيد بأواصر روحية وتاريخية بالعروبة. وبالتالي لم يندفع شعبنا هناك بذلك العزم والتصميم والكفاءة العجيبة على التنظيم الحديث لو لم يكن مطمئناً إلى ان أمة بكاملها، وفي حالة النهوض والانبعاث تدعمه وتسنده، لأنهم شاهدوا هذا الانبعاث ووصلهم خبره. وفعلاً كانت المساعدات المعنوية والمادية ذات أثر في استمرار ونجاح الثورة في الجزائر.
وانظروا بعد ذلك إلى الاستعمار.. إلى بريطانيا وفرنسا.. الدولتين اللتين مازالتا تعيشان على الاستعمار بشكله القديم المتخلف اي الاحتلال والاستغلال لموارد بلاد أخرى والافساد والضغط والتخريب وعرقلة النهضة وعرقلة الوحدة وكل ذلك.. هذا النوع من الاستعمار لم تحتفظ به إلا بريطانيا وفرنسا. انظروا إليهما، وقد شاهدنا اجزاء الوطن العربي تتحرك الواحد تلو الآخر، وكل حركة تأتي بمفاجآت أضخم من التي سبقتها.. مع أن لهم مصالح حيوية، فالاستعمار لفظة مجردة ولكن وراءها واقعاً حياً يجب ان تتبينوه، والاستعمار يعني أن هناك في الدولة المستعمِرة طبقة من الشعب أقامت كل حياتها على وجود المستعمرات.. كل مصالحها ورساميلها وصناعتها وتجارتها.. كل ذلك.. وان هذه الطبقة بطبيعة الحال هي الحاكمة في الدولة المستعمِرة، وأنها بالتالي تؤثر في مجموع الشعب لأنها حاكمة، تؤثر في الرأي العام والثقافة والصحافة والتشريع وكل شيء، وتطبع إلى حد قليل أو كثير مجموع الشعب بالطابع الاستعماري، بالعقلية الاستعمارية، بالمفاهيم الاستعمارية.. حتى العمال في الدولة المستعمِرة لا ينجون من التأثير الاستعماري، من العقلية المستعمرة ولكن بصورة أخف بكثير من غيرهم.
ذلك لأن العامل الانجليزي هو مستعمِر يعيش بشروط من الرفاه المادي، ولو فقدت بريطانيا مستعمراتها لهبطت نسبة الرفاه كثيراً. ولكن تبقى فروق بين طبقات الشعب. فالعامل مهما أفاد من الاستعمار ينظر إلى الظلم الذي يقع عليه من مستثمريه المباشرين، ويتألم من هذا الظلم، ويستطيع إذا نضج فكره -تفكيره ووعيه- أن يكون في صف الحرية وضد الاستعمار.
هذه الدول الاستعمارية التي تنهال عليها الضربات، ليس من العرب فحسب بل من جميع الشعوب التي كانت مستعمَرة واخذت في التحرر في هذا العصر، تتمسك ببقايا استعمارها ومصالحها استمساك الغريق المشرف على الغرق، ولذلك تتكالب وتلجأ إلى هذه التصرفات التي نراها ونعانيها اليوم معاناة مباشرة. ذلك لأن الطبقة المستفيدة من الاستعمار -في الدول الاستعمارية- إذا فقدت المستعمرات فستفقد زعامتها ومصالحها في أوطانها، وستكون معرضة لثورة داخلية. والواقع أن ثورة الشعوب المضطهَدة هي بصورة غير مباشرة مقدمة لثورة الشعوب المضطهِدة المستعمِرة لتصحيح أوضاعها. لأن انتزاع هذه الثروات غير المشروعة المصطنعة التي كانت الدول الاستعمارية تعتمد عليها.. ضياعها منها يحدث انقلابا في نظام الدول الاستعمارية وتضطر إلى اعادة تنظيم شؤونها وتوزيع ثروتها، ووضع نظام اقتصادي جديد لكي تستطيع أن تعيش دون أن تتكئ على مستعمراتها. لذلك لا نستغرب هذه الوقاحة التي تبدو من الدول الاستعمارية في موقفها معنا.
وعندما يكون نضال الشعب السائر في طريق التحرر.. عندما يكون نضاله واعياً وعميقاً وجريئاً فإنه يفرض على مستعمريه أن يخرقوا كل ستر.. وان يفتضحوا تمام الافتضاح. النضال الرخو يبقي عليهم الخرافات الكثيرة ولا يظهرهم على حقيقتهم. ولكن.. عندما يبلغ نضال العرب هذا المستوى الذي ظهر في الجزائر، وفي مصر في المدة الاخيرة، لا يعود ثمة مجال للخداع والمواربة ولأي شكل من أشكال التضليل. فترونهم منذ أزمة القناة إلى اليوم يتصرفون كالحمقى..كالمجانين.. ولم يعودوا يخشون نتائج هذه التصرفات لأنها في نظرهم مسألة حياة أو موت.. هذه التصرفات حتى في القرن التاسع عشر.. قرن الاستعمار، حيث لا رأي عام عالمي يضغط، متى كانوا يلجؤون إلى مثل هذه الوقاحة؟.. وطبيعي أنهم كانوا يفضلون الأساليب الأكثر مراوغة، والأكثر خداعاً، ولكننا اضطررناهم إلى ان لا يبقى أمامهم الا الوقاحة والصفاقة. وهذا كسب كبير لمعركتنا لأننا لسنا وحدنا في العالم.
بالنسبة لشعبنا كسب كبير أن يشعر بكل حواسه وكل شعوره ووعيه ما هو الاستعمار. هذا كسب بالغ القيمة والفائدة، لأن الشعوب ليست دوماً في هذا المستوى من الوعي، وليس الجميع في مستوى واحد. قد تكون قلة واعية، ولكن يندر أن توجد ظروف يعرف فيها كل الشعب ما هي حقيقة الاستعمار. وبنضالنا الجريء الصادق اضطررنا الدول الاستعمارية أن تتصرف هكذا ولا ندع مجالا للالتباس. هذا بالنسبة لنا، ولكن هناك رأي عام عالمي وشعوب أخرى قاست من الاستعمار ما قاسيناه وتحررت حديثاً، أو مازالت في طريق التحرر، وشعوب ليس لها مصلحة في الاستعمار، وشعوب لها مصلحة ضد الاستعمار.
وموقفنا يكسبنا هذا الرأي العام العالمي المشارك بعضه لنا في التجربة والعاطفة، والمشارك بعضه لنا في المصلحة.
وأخيراً بلغ من نمو النضال العربي أن وقفنا اليوم كما لم نقف في أي وقت مضى منذ مئات السنين.
العالم كله يشهد الآن بأن في العالم شيئاً اسمه الأمة العربية.. والعالم كله يشهد بأن هناك عدواناً صريحاً عليها، وان لها قضية عادلة سواء في فلسطين وسواء في مجموع أجزاء وطننا -حيث يوجد استعمار- حيث يوجد احتلال وقيود وأحلاف ومعاهدات وشركات.
والشيء الجديد والمفيد في آن واحد هو ان هذه المعركة تتمثل بالدرجة الأولى في مصر.. مصر كما وصفتها، وكما يعرفها الجميع، كيف كانت وكيف أصبحت اليوم ممثلة للعروبة، ممثلة للأمة العربية.. وليس هذا كلاماً عاطفياً، وإنما هو الواقع بعينه. فمصر في السنتين الأخيرتين، في مواقف واضحة مشهودة، لم تعد تتصرف كبلد قائم بذاته، وإنما تصرفها كجزء من وطن كبير هو الوطن العربي. وأكثر من ذلك، لم تعد تتصرف كجزء وإنما بالنيابة عن مجموع هذا الوطن كطليعة وممثلة له. ولولا ذلك لما وقفت مصر هذه المواقف التي كان يمكن أن تسمى جنونية.. وان تنعت بالطيش والتهور، لو أنها بمفردها تتحدى كل هذه القوى الرجعية في العالم، تتحدى أخطاراً ليست وهمية وليست بعيدة وإنما على حدودها. ومعروف أن هذه القوى تتفوق على مصر كثيراً، رغم أن مصر تقدمت كثيراً. ولكن هذه التصرفات لم تكن جنونية ولا نتيجة التهور، وإنما نتيجة الايمان والوعي، لان مصر والمسؤولين في مصر أصبحوا يعملون باسم الأمة العربية.. باسم مائة مليون عربي، مائة مليون ليس من البشر الهاجع، وإنما من البشر الناهض الذي يزداد قوة يوماً بعد يوم. وواثقة بأنها اذا مثلت سياسة الحرية والبعث والاستقلال والتحرر تمثيلاً صادقاً سليماً لإنسانية خيّرة فإن هذه الملاين مرغمة على تأييدها، ليس لها الخيار، وفي هذا الايمان بطولة.
فسواء في مقاومة مصر للأحلاف الاستعمارية باسم مصلحة العرب كلهم، وسواء بتبنيها لسياسة الحياد الايجابي باسم مصلحة العرب جميعاً، وسواء بوقوفها وقوفاً صامداً عنيداً من الخطر اليهودي، ومن العروض والمساومات والتسويات التي عرضت عليها.. وقفت وهي تعرف ما هو خطر إسرائيل على الوجود العربي كله. وسواء موقفها في أزمة القناة، وشقها الطريق أمام جميع أقطار العروبة لتحدي الاستعمار والانعتاق من قيوده ومن شركاته واستثماره كل شيء.
هذه المواقف لم تقفها مصر كمصر، ولا كجزء من الوطن العربي، وإنما كمندوبة للأمة العربية، بصفتها أكبر قطر عربي، فيه إمكانيات ضخمة وتهيأت له شروط من الثقافة والانتاج والوعي حتى استرد مصيره بيده ونظف جوه، وبالتالي أصبح أهلاً لأن يتكلم باسم جميع العرب.
هذا الايمان هو بالدرجة الأولى عند تلك النخبة من الموجهين، ولكنه بفضل الأحداث وبفضل الأخطار التي تلاحقت علينا في المدة الأخيرة.. انتقلت هذه الأفكار وهذا الايمان.. انتقل من نطاق تلك الفئة القليلة من الموجهين، واخذ يتسع وينتشر بين جماهير الشعب الذين وان كانوا لم يصلوا بعد في ثقافتهم القومية ووعيهم النضالي إلى المستوى الذي يمكّنهم من فهم هذه السياسة البعيدة النظر، ولكن الأخطار ربتهم تربية عميقة، إذ أنهم شعروا بأنهم أمام بريطانيا الرهيبة التي كان يعرف عنها انها رهيبة، وأمام فرنسا، وربما أمام الغرب بكامله في أول أزمة القناة.
شعر الشعب العربي في مصر أنه لا يستطيع أن يرد هذه الأخطار وهذه القوى الهائلة، وما كان ليوافق على الخطوة التي خطاها عبد الناصر فى تأميم القناة، لولا أن عبد الناصر في نفس الوقت الذي أمم فيه القناة أكد إيمانه بالقومية العربية وبالقوة العربية وانه إنما يفعل ذلك مستنداً إلى قوة الأمة العربية، فشعر الشعب العربي في مصر أنه مسنود، وأصبحت العروبة بالنسبة إليه ليست للتغني العاطفي، وإنما مسألة إنقاذ.. مسألة حياة أو موت.
فلنترك ايها الاخوان التحليلات السياسية إلى وقت آخر، ولنقتصر على هذه الناحية القومية: عندما يتم هذا العمل التاريخي في تاريخ أمة.. عندما تتفاعل الفكرة العربية مع قطر هو أضخم قطر عربي، كان ميئوساً منه منذ خمس سنوات، عندما ينقلب هذا الانقلاب وهذه القوة الضخمة التي كانت سلبية وأصبحت إيجابية في خدمة العروبة أي جواب يجب أن يلقاه منا هذا القطر؟
كل أفراد الأمة العربية مسؤولون اليوم عن مستقبلهم، عن مستقبل الأمة العربية.. وتاريخها. هل ترسخ هذه العقيدة التي تفاعلت مع مصر، أضخم وأكبر قطر؟ هل نحقق أمل هذا القطر بنا؟.. هل نبرهن أن العروبة هي واقع وهي حقيقة وفعل وعمل وجهاد؟.. ام نتردى وننتكس؟.. ويبقى انقلاب مصر معلقاً في الهواء معرضاً لشتى الانتكاسات ايضا، ولأن يكون سطحياً، وأن تقع عليه ضربة تحدث في مصر ردة وانتكاساً. لو أخذنا هذه المعركة التي فرضها الاستعمار علينا، والتي بمعنى من المعاني نحن فرضناها عليه. لو أخذناها من هذه الناحية، ألا يجب أن نزداد التحاماً مع بعضنا سواء مع مصر أو مع الجزائر أو مع أي قطر آخر؟..
نأخذ مصر كمثال، لأنه أبرز مثال، هل نتجاوب مع متطلبات عصرنا الصاعد. وندفع الثمن، ونمتِن هذه الأواصر التي تنمو وتتشابك بين أقطارالعروبة؟.. ولو بالدم.. ولو بالتضحيات المستمرة.. لكي نكون مطمئنين إلى مستقبلنا؟ لأنه لا يعود هناك حدود تستطيع أن تفصم عرى الأمة العربية، وتعيدها إلى شتات من بشر جاهل لشخصيته ومصيره ونفسه.
هذا كله بيدنا. وبهذه الروح يجب ان ننظر إلى المعركة، وان نجعل المواطنين ينظرون اليها. وان ندخل وإياهم هذه المعركة.
ايها الاخوان
من يوم وَعَيْنا وجودنا القومي، وبصورة خاصة من يوم تأسيس هذا الحزب وهذه الحركة، وإيماننا بأمتنا إيمان قوي وعميق.. ولكن مهما قيل في الانسان. فإنه لا يستطيع ان يكون دوماً في مستوى واحد.. وحياة الانسان متحركة. واستطيع أن اقول بأننا خلال هذه السنين الطويلة التي رافقنا فيها قضية أمتنا وساهمنا في نضالها، لم نكن في يوم من الايام مؤمنين بمستقبل أمتنا كما نحن اليوم.. كما نشعر اليوم. لذلك أقول لكم بصراحة بأنني لا اهتم كثيراً في النتيجة العاجلة والقريبة للمعركة التي تدور بين العرب والاستعمار.. ولو أن واجبنا جميعاً أن نعمل كل شيء في سبيل النصر، وبإمكاننا أن ننتصر، لأن امكانياتنا عديدة. ولكن هذا ليس المهم، المهم أن تبقى الأمة.. وان تبقى سائرة في الطريق الصاعدة متفائلة مؤمنة برسالتها.
ولا يستبعد على أية أمة في العالم -في أحسن الشروط من الوعي ومن الخلق ومن الاستعداد المادي- لا يستبعد أن تأتي قوة تفوقها وتنـزل بها ضربة تقهرها مؤقتاً.. هذا محتمل.. ولكن المستحيل، انه إذا قامت هذه الأمة بواجبها ،فإنه يستحيل أن يُقضى عليها نهائياً.. قد تقهر.. قد تبقى سنوات في حالة ضعف وخسارة، ولكن بذور القوة قد تضاعفت.. لأنها قامت بواجبها.. وينتظرها مستقبل أروع بكثير.
هكذا أرى المعركة: اننا مطالبون بالدرجة الأولى -وفوق كل شيء وكل تقدير وكل اعتبار- بأن ننقذ المستقبل، وإنقاذ المستقبل يكون بأن نوفي الحاضر حقه، ان نقوم بواجبنا -في الحاضر- دون أن نحسب أو أن نضع بالدرجة الأولى حسابات الربح والخسارة. وهذا ما يترتب على سورية بشكل خاص -ولو أني لا افرق بين قطر وآخر وأعتبر أن هذه التقسيمات كلها زائلة- ولكن حتى الان كانت سورية تعتبر في نظر الأقطار الأخرى وخاصة في نظر مصر بأنها مهد الفكرة العربية، وانها على صغرها وقلة امكانياتها.. قد ناضلت أكثر من غيرها.. وأن هذه الفكرة، هذه الدعوة، لقيت هنا التربة الخصبة.. وانتشرت إلى الأقطار الأخرى، وفي مصر بصورة خاصة -كما قلت لكم- لمست هذا بنفسي: لسورية في أذهان المصريين مكانة خاصة، واسمها يفعل في قلوبهم فعل السحر، ويقولون ويعترفون بأنهم تتلمذوا على سورية بالفكرة القومية الصحيحة، والاتجاه القومي التقدمي.
وتعرفون كيف ان هذا الحزب رفع شعار الاتحاد بين سورية ومصر كخطوة في سبيل وحدة عربية سليمة من الشوائب، وأن ذلك لقي استجابة وترحيباً من مصر رغم العوائق والموانع الكثيرة في هذا الظرف.
فإذن الواجب يقضي بأن تكون سورية أسرع من غيرها إلى التضامن وإلى دخول المعركة بسرعة.. سيكون لذلك أثره القوي الفعال في مصر وفي سائر الأقطار.
تشرين الأول 1956
ثورتنا في طريق النضج
أحدثت أزمة القناة في المحيط العربي والمحيط الدولي من الأثر والنتائج أكثر مما كان يمكن أحدا أن يتوقع. ويمكن القول أن هذه هي المرة الأولى التي تبدأ فيها القضية العربية باحتلال مكانها المشروع ضمن قضايا العالم وما فيه من مصالح ومثل. والشيء الجديد على الأخص هو أن القضية العربية بدأت تبرز بشكل إيجابي فاعل، فلم تعد مجرد تعبير عن منطقة من الأراضي فيها ثروات ولها مزايا استراتيجية وعليها كتلة من البشر يمكن تسخيرها أو تعطيل مقاومتها، ولم تعد مجرد موقع لتنافس الدول الكبرى ومساومتها. بل غدت قضية شعب مستيقظ مناضل، شاعر بوحدته القومية وصلاته الإنسانية، وواع لأثر نضاله في تقرير مصير الإنسانية وصنع مستقبلها.
إن مصالح عديدة ضخمة تحبس أنفاسها وهي ترقب اليوم نضالنا: مصالح الإستعمار والإستغلال والأوضاع القديمة التي تطمع في الإستمرار وتحاول تثبيت مراكزها واسترداد ما فقدت منها، مصالح المجتمعات الجديدة والشعوب الآسيوية الأفريقية المتحررة حديثاً التي يهمها، لكي تتابع نموها في سلام وطمأنينة، أن يقوى صف الحرية في العالم، وأن يبتعد شبح الإستعمار والحرب عنها وعن جوارها. وفوق المصالح أو وراءها مثل وقيم إنسانية ترقب وترتعش..
إن أزمة القناة وموقف الحكومة البريطانية العدواني من العرب قد مس أكثرية الشعب الإنكليزي وهددها في خبزها وأمنها فوقفت في وجه سياسة العدوان، كما مست ثورة الجزائر من قبل مصالح الطبقة الشعبية في فرنسا وحركت ضمير الأحرار فيها.
وهذا كله قد أدى أيضا إلى وقوف أميركا موقف (المتميز) عن الاستعمار – كما جاء في تصريح وزير خارجيتها مؤخراً، وفي حدود ضيقة متحفظة لا يجوز أن نبالغ فيها.
فهذا التفاعل المتزايد العميق بين نضالنا القومي التحرري وبين مصير الشعوب وحريتها خليق بأن يفتح أمام نضالنا وفكرته وأسلوبه آفاقا جديدة خصبة المعنى. إن حريتنا تبدو لنا اليوم وقد أثقلت بتبعات حرية الشعوب الأخرى، فغدت أكثر نضجاً وعمقاً وواقعية. ولئن كانت هذه الأثقال والتبعات ستضطرنا بعد اليوم أن نراعي في ثورتنا التحررية العوامل التي توسع الفرقة والإنقسام بين الدول الإستعمارية وتؤلب عليها شعوبها بالذات، فإنها ستضطرنا أيضا أن نوجه هذه الثورة وجهة العمق في الداخل وأن نبني تحررنا الخارجي على تحررنا الفكري والإجتماعي والوحدوي، فنفتح في شعبنا العربي من الإمكانيات والقوى الكامنة ما يشكل رصيداً جدياً لاضطلاعنا بالمهمة التي يهيئنا لها تراثنا الحضاري وتجربتنا القاسية في حاضرنا للتخلف والإستعمار، لكي نتخلص من الإستعمار في بلادنا وفي كل مكان، ونسهم في إقامة التعاون والسلام العالميين.
5 تشرين الأول 1956
مستوى جديد لنضالنا
لقد عملت الدول الاستعمارية عشرات السنين على تأخير انبعاث الامة العربية بافقارها وتجزئتها وتكبيلها بالقيود العديدة. ثم اوجدت اسرائيل كوسيلة اخيرة بالغة المفعول والنجوع في هذا السبيل لاشغال العرب واهدار جهودهم وقواهم وقطع الطريق على تحررهم ووحدتهم.
ولكن هذ الدول فوجئت في الآونة الاخيرة بتزايد امكانيات الشعب العربي وتفجر طاقته الثورية رغم جميع العراقيل، فتراجعت موقتا لتضع من خطط الضغط والعدوان واساليب التفرقة والافساد ما تستطيع معه التفوق على الطاقة العربية الجديدة.
والاستعمار لم يتراجع الا في جبهة واحدة من الجبهات العديدة للمعركة الدائرة بيننا وبينه، اي في جبهة القناة التي فتحها دون حساب وتروّ، ولكنه ما زال يعمل في الجبهات الاخرى بمزيد من الاستعداد والقوة والدهاء. وهذا كله يوصلنا الى نتيجة منطقية وهي ان على الشعب العربي وقيادته الثورية ان يضعا بدورهما خطة جديدة ترفع مستوى النضال وتحكم اسلوبه وتفجر قوى جديدة في الشعب، حتى يتحول الاستعمار مرة أخرى من الهجوم الى الدفاع.
إن بعض الأفكار التي كانت جديدة قبل خمسة عشر عاماً عن مقومات القومية العربية والوحدة العربية، اضحت اليوم في حكم المسلمات والبديهيات، ودخلت في وعي الجماهير من اقصى الوطن العربي الى اقصاه. ولكن هذه الافكار ليست إلا جوانب واجزاء من الفكرة العربية الحديثة لا يجوز فصلها عن الكل الذي ترتبط به هذه الاجزاء ارتباطا عضوياً. ولئن كان من المسلم به ان تحقيق الفكرة العربية يحتاج الى زمن والى مراحل، فان من غير الجائز ألاَّ نسبق ذلك بوضع التصميم الكلي، وان نخطو في تطبيق المراحل دون ان نستبين الطريق بوضوح، ونعرف انها طريق واحدة يرتبط آخرها بأولها.
والذي تهم معرفته اليوم هو هل ستبقى قوميتنا العربية بهذا الشكل العام المجرد الذي يحوي من العاطفة اكثر مما يحوي من الفكر، وتختلط فيه العوامل الايجابية بالعوامل السلبية، ام ان خطورة المعركة التي نخوضها تتطلب ان ننظم عملنا ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق ايجابي مكتمل الجوانب، هو وحده الكفيل بأن يخلق في شعبنا من القوى ما يتكافأ مع متطلبات معركة التحرر والبناء، وأن يوجه هذا الشعب ضمن المبادئ والاساليب التي تقيه الانحراف والانتكاس، وتضمن له تزايد الانسجام مع نفسه ومع المجموعة الانسانية؟
كان منطق السياسيين القدامى يتخذ دوماً من معركة التحرر ذريعة لارجاء طرح المشاكل الاساسية التي تصطدم بها نهضة العرب الحديثة، اما منطق الوعي الجديد فيفرض ويحتم ان نعتبر معركتنا مع الاستعمار حافزاً لطرح هذه المشاكل وإيجاد الحلول لها بدلاً من اعتبارها عائقاً.
ان هذا التحرك القومي المطبوع بطابع مقاومة الاستعمار والعمل على التحرر منه، ما زال فيه فراغ ونقص، ولا بد من إغنائه وإخصابه بالثورة الاجتماعية والثورة الفكرية. ان قسماً غير قليل من شعبنا العربي ما زال خارج المعركة، وان جوانب عديدة في نفس كل عربي مشترك في النضال ما زالت جامدة صماء لم تحركها المعركة ولم تضرب على أوتارها العميقة.
فلا بد من قفزة الى اعماق الجماهير العربية، والى اعماق النفس العربية. ففي المجتمع العربي من انواع الظلم والعسف والاذلال، ومن التفاوت الاقتصادي الفاضح، ومن الكفر بكل قيمة للمواطن، ما يتعارض السكوت عنه والتباطؤ في معالجته مع ما نظهره من استنكار للظلم الاستعماري. وفي حياة الفرد العربي من المآسي والتناقضات التي تمس حريته وكرامته الانسانية ما يعيق تجاوبه الكامل مع انطلاقة أمته، وما يصم هذه الانطلاقة بفقر الروح وسطحية المعنى. واذا بقينا نقيس انفسنا على الاستعمار والمستعمرين، ونسجن نظرتنا في نطاق المقارنة والمفاضلة بيننا وبين المعتدين علينا، فسوف يبقى حقنا رخيصاً وحقيقتنا زائفة ومعركتنا غير اصيلة ولا حاسمة. لقد آن لنا، بعد ان بلغ نضالنا الحد الذي اعاد الينا الثقة بانفسنا وبالمستقبل، ان نقيس انفسنا بالمقاييس الانسانية الايجابية، وان نعطي لثورتنا ثقلها الاقتصادي الواقعي وعمقها الروحي وابعادها التاريخية.
هذا هو المستوى الذي ينقذ معظم جهودنا وامكانياتنا من الضياع ويسجم سيرنا مع سير الشعوب الحرة المبدعة .
واذا حاول المنطق القديم ان يعترض ويتذرع كعادته بحراجة الظرف ليقول ان هذه الاشياء سابقة لأوانها، نجيب بأننا لا نقصد ان نحمل مرحلتنا الحاضرة اكثر مما تحتمل، ولا ان نشتت الافكار ونبعثر الجهود، ولكننا مع حرصنا على توفية المعركة الحاضرة حقها، نريد أن تتفاعل بذور المستقبل مع الحاضر، وأن ينبئ الحاضر عن ملامح المستقبل ويوصل اليه.
12 تشرين الاول 1956
العروبة والألم
قد تخرج من الجزائر الصورة المثالية لعروبة المستقبل. ذلك لان شعب الجزائر قد عرف الالم الانساني كما لم يعرفه شعب في العالم. ونضال الجزائر هو مقياس حيوية الامة العربية وقدرتها على التجدد والابداع. فلقد ظهرت في هذا العصر حركات وثورات كانت بالنسبة الى العالم مفاجأة ومثار دهشة. اما ثورة الجزائر فكانت مفاجأة العروبة لنفسها.
لقد اعتدنا في اقطار الشرق العربي منذ مطلع هذا القرن ان نرى الحركات القومية متمثلة في الطبقات الوجيهة المتزعمة، فخالط قوميتنا من جراء ذلك الشيء الكثير من معاني الترف المادي والعاطفي والفكري. وبدت هذه القومية، وهي بعد ناشئة في المهد، ومغلوبة مضطهدة، كأنها تتكلم لغة ليست لغتها الطبيعية، دخلها الاصطناع والتزييف والغرور والتبجح منذ تمتماتها الاولى. وهذا ما جعلها، ردحاً طويلاً من الزمن، معزولة عن الشعب وحياته الصادقة الصميمة، كما جعل صوتها عاجزاً عن ان يتجاوز نطاق ارضنا، ويتجاوب مع مشاعر الشعوب الاخرى ويكسب عطفها وتأييدها.
كانت جماهير شعبنا العربي في جميع اقطارها وما تزال تعيش في الالم، ألم الحرمان والظلم والتأخر. لكن صوت الشعب المتألم كان يضيع في جلبة المعركة القائمة بين البلاد والمستعمر الأجنبي.
اما في الجزائر فقد عمل الاستعمار الافرنسي طوال اكثرمن قرن، بحرب منظمة للافقار والابادة، على تحقيق المساواة بين افراد الشعب العربي، في الفقر والظلم، فتحققت بذلك للشعب وحدة الشعور ووحدة القضية، ولاول مرة في تاريخ النضال العربي ضد الاستعمار اتحد المعنى القومي بالمعنى الإنساني اتحاداً تاماً، لان الاستعمار اوصل الشعب في الجزائر الى هذا الحد المتطرف الذي يدافع فيه الانسان عن مجرد البقاء وعن مجرد الكرامة التي لا يستطيع مخلوق بشري ان يحيا بدونها.
وهكذا قدر للعروبة في الجزائر ان تبلغ جذور انسانيتها وان تتعرى من كل ترف وتزييف وتمتلئ بالمعنى الايجابي لانها عانت وقاست كل مراحل السلبية والحرمان لتصبح عروبة الحق والحرية والعدالة، ولتستطيع ان تولد هذا النضال الشامل الجبار الذي بلغ الغاية في الرجولة والرصانة والعمق.
ان النقص الذي كنا نشعر بوجوده في نضالنا القومي يسده اليوم نضال شعبنا في الجزائر، لانه منبعث من الم كبير، وهو ألم اكبر من ان يستنفده الحقد ويتوقف عند الهدم ويستسلم للغرور والاهواء او للضعف والاستكانة.
فبمقدار ما يتضامن الشعب العربي في اقطاره الاخرى مع نضال اخوانه في الجزائر، وبمقدار ما يؤازر هذا النضال ويضحي في سبيله، بمقدار ما يتحقق التفاعل بين اجزاء شعبنا الواحد، وتتوحد تجربته، ونعجل في تحرير قوميتنا العربية مما علق بها ودخل عليها من سطحية الطبقات المترفة ونفعيتها، لنغمس هذه القومية في معين ألم الشعب وصدقه وانسانيته.
26 تشرين الاول 1956
حلف بغداد، وملامح اليقظة العربية: يمكن أن نسمي حلف بغداد هجوما استعماريا دفاعيا لجأت اليه بريطانيا لوقف نمو اليقظة العربية وتدارك نتائجها قبل وقوعها، فصاغت هذا الحلف في تصميمه وبمراميه على نحو يكون فيه لكل وجهة من وجهات الحركة العربية الجديدة وجهة تقابلها فتشوهها او تحرفها او تعطلها.
فاذا كان من ملامح اليقظة العربية انها تسعى للخروج من حالة التخلف الاقتصادي، بتخطيط سياسة اقتصادية تقوم على أسس شعبية تقدمية ثورية، فتوجه معظم الجهود لرفع مستوى العدد الاكبر من ابناء الأمة العربية وتنصب على الأمور الجوهرية كتقوية الدفاع وإنشاء الصناعات الاساسية لتحرير البلاد من التبعية الأجنبية، كل ذلك ضمن منطق الوحدة العربية الذي يرتب عليه ان يكون الاقتصاد العربي متكاملا ومتمما بعضه لبعض ومفتوحا للخطوات التوحيدية ومساعدا عليها، فان حلف بغداد ايضا يحاول ان يقدم انتعاشا مصطنعا متلائما مع المصالح الاستعمارية تشرف عليه الطبقة الرجعية، ومشاريع اعمار يكون نصيب الشعب منها النصيب الذي قد يخدره دون أن يطلق طاقته ويرفع مستواه.
واذا كان من ملامح اليقظة العربية تسليح تضال الشعب بالسلاح المادي وانماء القوة العسكرية كي يتمكن الشعب من نفسه ويزداد ثقة بنجوع نضاله، فحلف بغداد أيضا يمني نفسه الأماني الكاذبة بالقوة العسكرية ويعمد لفصل القوة المسلحة عن نضال الشعب، وبث التناقض والتشكك كي يقيم بينهما توازنا. واذا كانت الحركة العربية الجديدة تهدف الى توحيد الاقطار العربية، ولكن مفهومها للوحدة ان نسيجها هو وحدة نضالية شعبية يكون من ثمراتها الوحدة السياسية، فحلف بغداد يقدم ايضا وحدة هي وحدة الطبقة الرجعية والخونة والعملاء من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي، اي وحدة الطبقة المتمسكة بالتجزئة والمستغلة لها والمتآمرة على شخصية الامة العربية ووجودها. فساسة الحلف لا يكتفون بالضغط على سورية والاردن ولبنان لربط هذه الاقطار بحلف يغداد، بل يتصلون ببعض ساسة المغرب العربي ويشجعونهم على ربط المغرب بحلف الاطلسي والتنكر التام للعروبة.
واذا كانت الحركة العربية الجديدة تتجه في المجال الدولي الى اقامة السياسة العربية على اساس استقلال الامة العربية عن سياسة التكتلات الدولية وحياده ودورها الايجابي الخاص بالنسبة الى الانسانية، فحلف بغداد اتخذ هدفا آخر هو الانحياز التام الى المعسكر الغربي بحجة مكافحة الشيوعية، ومقاومة خطر الاتحاد السوفياتي، ولعب على فكرة خطر اسرائيل وضرورة مقاومتها في حين أنه بتبعيته للاستعمار يمكن لاسرائيل ويؤمن وجودها وبقاءها على حساب الوجود العربي.
وأخيرا اذا كانت الحركة العربية تهدف الى وقاية السلام وتدعميه فحلف بغداد تقدم بهدف آخر حين كون اتجاها نحو سياسة المعسكرات والاحلاف العسكرية والحرب. فشل الاستعمار وظفر العرب: ولكن الاستعمار رغم خطته هذه التي ظنها متكافئة لليقظة العربية ورغم ما حرك من فئات من العرب سلحها بمنطق كامل من المغالطات لتزييف اهداف هذه اليقظة وطريقها، فقد فشل في قطرين، سورية والاردن، وصعق امام ثورتين في الجزائر ومصر، فانكمش على نفسه وتحدد عمله بشراء بعض اضمائر واستئجار بعض العملاء والخونة للتخريب والتفرقة وإثارة الفتن، ولم يجد مناصا من تمزيق أقنعته واللجوء الى العدوان السافر فسجل على نفسه فضيحة تاريخية وسجل العرب بمقاومتهم تحولا تاريخيا.
اثر كارثة فلسطين: واذا كان الوعي والنضال العربيان قد فككا هذه الخطة المحكمة واستبانا اغراضها الخفية وهدماها، فان كارثة فلسطين هي التي اعطت أحدهما العمق والنفاذ والآخر الصلابة والتنظيم. فقد حزت الكارثة في الضمير العربي وواجهت الشعب بوجوده ومصيره فكانت منطلقه الى اعادة النظر في التكوين الداخلي لكل قطر وفي نوعية التضامن بين الاقطار العربية وفي تحديد موضع العرب من الانسانية والعالم، وهكذا طرحت على الشعب العربي من أعماق المأساة مشكلات وجوده الموحد وصورة هذا الوجود الاجتماعية الموضوعية وعلاقته بالوجود الانساني، فانبثقت ثورتا مصر والجزائر وارتبطت مصر بالمصير العربي بشكل واع وجدي، وبرزت السياسة المتحررة.
وما كانت كارثة فلسطين لتحدث كل هذا الأثر العميق ولتعطي كل هذه النتائج الايجابية لو لم يسبقها قبل يضع سنوات في سوريا والاردن والعراق ولبنان اتجاه عربي واضح الاهداف قائم علي أسس نظرية ونضالية جديدة، عبر عن وجهة العرب العميقة في هذه المرحلة من تاريخهم وتاريخ الانسانية وهو الاتجاه الذي مثلته حركة البعث، وقد جاءت الكارثة مثالا حيا مؤكدا صحة هذا الاتجاه فأغنته وفتحت امامه سبل امتداده كما كان هو من اهم العوامل التي حولت موقف العرب امامها من ان يكون موقفا سلبيا ينتهي الى التفكك والانحلال الى موقف ايجابي يحيل الكارثة الى مرتقى في طريق النمو العربي.
وحين اكره الاستعمار على الانتقال من معركة السياسة والتآمر للقضاء على اليقظة العربية، الى معركة العدوان السافر على مصر وعلى تمزيق جميع اقنعة الرياء التي كان يلتف بها، وحين اكرهت اسرائيل على ان تنكشف امام العالم بأسره.. وتبدو على حقيقتها اداة للاستعمار وجزءا منه، وكانت معرفتها من قبل مقصورة على الشعب العربي، بل على قسم منه، أتى كل ذلك برهانا على مدى القوة التي بلغها التيار العربي الجديد، ومدى الخطورة التي أحس بها الاستعمار واسرائيل على وجودهما.
واذا كانت ثورية السياسة العربية المتحررة وجرأتها قد جلبتا بعض الخسائر فقد جلبتا ايضا أضعاف هذه الخسائر من المكاسب للقضية العربية، إن بالنسبة للشعب العربي وإن بالنسبة للعالم. لقد كانت المعركة ثمينة وكانت تجربة مصر القاسية ثمينة، وكأنما كان العرب في حاجة الى هذا العدوان، ولقد كان شيئا حيويا بالنسبة اليهم في مرحلتهم الحاضرة.
لقد حسمت المعركة بضربة واحدة سياسة دامت عشرات السنين كلها مساومات وانصاف حلول وكلها تهرب من المعركة الحاسمة، وكلها نضال يقوم به الشعب بعفويته ويفرضه فرضا على الحكام والزعماء، فيثلمونه ويخدرونه ويمنعونه من الوصول الى غاياته.
أما في هذه المرة فقد تعهد قادة الثورة في مصر اتجاهات الشعب العفوية وطاقته النضالية بالتجاوب معها والرعاية والتنظيم فازدادت الاتجاهات وعيا وعمقا ونفاذا وشمولا، واكتسب النضال ثباتا وطمأنينة وكان امتحانا لاستعدادات الشعب تخمرت منذ سنوات، واجتاز قسم من الشعب العربي هذا الامتحان المرير ببطولة.
لقد أتى هذا العدوان برهانا حسيا على صحة الاتجاه الجديد القائم على الشعب، ودور الشعب في المعركة، وسيكون له نتائج ضخمة حين يعمم ما برهن عليه الشعب في مصر على الاقطار العربية جميعا.
وقد ارتدت تجربة الاتجاه الجديد، في الاعتماد على الشعب والاستلهام منه وتنظيم طاقته الثورية، ومصارحته ومشاركته في تخطيط سياسة بلاده وتحمل مسؤولية مصير الوطن، على الشعب ذاته، فاستيقظ الوعي لدى ابعد الطبقات ونفذ الى حيث كان من المستبعد ان ينفذ بسهولة ويسر، وانصب على طريق النضال قوى لم تكن في الحسبان.
كما ان هذا العدوان، والمستوى الذي بلغه الشعب كانا سببا لطرح القضية العربية طرحا واضحا على الرأي العام العالمي، فتحركت كافة القوى الحرة الثورية في اقطار الارض كافة ونهضت للاشتراك بالمعركة. لقد فرض عليها الخروج عن جهلها أو اهمالها او حيادها وشعرت بارتباط مبادئها ومصالحها في المعركة القائمة في ارض العرب. وكان ذلك من المكاسب الكبرى.
وأكد هذا التفهم الانساني والدعم للقضية العربية الاتجاه القومي العربي نحو الانسانية. ففي الواقع، وهذا دليل على سلامة الاتجاه العربي في هذه المرحلة التاريخية، انه في الوقت الذي تفتحت في الشعب العربي أواصر وحدته القومية انكشفت امامه بوضوح وعمق أواصر ارتباطاته الانسانية وبالتالي دوره في التاريخ الانساني، وفي هذا وفي تمتين هذه الصلات الانسانية اكبر ضمانة لسلامة المستقبل العربي.
القومية والانسانية: وليس مستغربا ولا من قبيل المصادفة ان تتضح صلتنا بالانسانية وتقوى في الوقت نفسه الذي تتضح فيه مقومات وحدتنا العربية ويقوي أندفاعنا في طريق تحقيقها. فنحن كلما اقتربنا من انفسنا زاد قربنا من الانسانية، وكلما اطمأننا على شخصيتنا ازدادت هذه الشخصية انفتاحا على الآخرين. وان تجربتنا العميقة القاسية لحاضرنا تؤهلنا لان نفيد من تجارب تاريخنا، ومن تجارب التاريخ كله، ولان نتحاشى الاخطاء والانحرافات في ماضينا وماضي الامم الاخرى، فتربط ربطا مبدئيا حيا بين قوميتنا وانسانيتنا ولا نسمح بأي انقطاع او مسافة بينهما، لانه لن تصل القومية الى الانسانية اذا اعتبرت مبدئيا؟ منفصلة عنها او مرحلة لها، فالانسانية هي في القومية لا قبلها ولا بعدها، وليس ثمة قومية وانسانية، بل قومية انسانية “وهي الصحيحة” وقومية منحرفة مشوهة لانها منفصلة عن الانسانية. وكل ما ظهر في تاريخ القوميات من تعصب واتجاه نحو الاغتصاب والاستعمار انما مرده الى انه سلم فيها بالبدء بانفصال القومية عن الانسانية او بامكان البدء بالقومية وانمائها للوصول في مرحلة أخرى الى الانسانية.
لقد ربح العرب معركة لم تكن هينة كما خسر الاستعمار معركة جدية ولكنها ليست اقسى معاركه ولا آخرها. فما هي العبرة التي حصلنا عليها والتي تفيدنا في تخطيطاتنا المقبلة وفي وعينا ونضالنا لمواجهة المعارك المحتملة دائما وبالتالي في اعداد مستقبلنا؟
لقد برزت قوة مصر في اتجاه عربي سليم وكان ذلك اكبر ظفر للعرب في هذه المرحلة. ولئن استحقت مصر في عهدها الجديد مكان الصدارة في القيادة العربية فلا يجوزان يلقى العبء كله عليها، لاننا نكون كأنما نال الاستعمار على هدفه الذي اذا اصابه بمقتل حل كل مشكلاته في الوطن العربي، ولذلك يجب ان يتحقق في كل قطر عربي ما تحقق في مصر من حيث العمل الداخلي، من رجوع الى الشعب ومصارحته وتأمين حاجاته الاجتماعية وتطهير جبهته الداخلية من الخيانة المرض.
وحدة النضال: كانت المعركة الاخيرة مناسبة لدفع وحدة النضال العربي خطوة جديدة جريئة الى الامام ولكن لا بد من الاعتراف بأننا ما زلنا مقصرين عن الوحدة النضالية المنظمة الخلاقة. فكثيرا ما تستبهم الحدود بين توحيد النضال وتوحيد السياسات الرسمية، ويستعاض عن ذاك بهذا، في حين ان الاصل والاساس هو الاعتماد على نضال الشعب العربي ومن ثم يمكن الاعتماد على السياسات الرسمية، بمقدار ما تتجاوب مع هذا النضال وتتأثر به، وليس توحيد النضال بمجرد تنسيق لاشياء موجودة بل هو خاصة خلق للنضال حيث لا يوجد، تنظيم له ورفع لمستواه حيث يوجد، ثم من بعد ذلك هو تنسيق.
الثقة بالنفس والمبادئ: كانت المعركة الاخيرة مجالا ايضا لظهور الوجه الايجابي الاصيل للحركة الثورية العربية. فبينما كان الكثيرون يخشون على مصر ورجال ثورتها من ردة انهزامية نتيجة لتآمر بعض الحكومات العربية عليها ولضعف تضامن بعض الحكومات الاخرى معها، جاء خطاب الرئيس عبد الناصر على اثر المعركة يؤكد سلامة الاتجاه العربي في مصر وعمقه عندما اعلن ان الشعب العربي في جميع اقطاره تضامن تضامنا فعالا مع مصر العربية وان معركة مصر كانت معركة العروبة. فهو اذن لم يحكم على الشعب العربي من خلال الاوضاع الشاذة التي يفرضها عليه الاستعمار والطبقة الرجعية وهو بهذا الموقف الواثق بالامة العربية وإمكانياتها والمؤمن بالمبادئ الثورية الشعبية، لم يكتف بأن سجل واقعة عن تضامن الشعب العربي مع مصر، بل قوى هذا التضامن وغذاه وفتح امامه مستقبلا لا حد له. وهذا الوجه الايجابي لحركتنا الثورية هو اكثر ما نحتاج اليه في مرحلتنا الجديدة لكي نتجنب المواقف المنفعلة القصيرة النظر، ونبني احكامنا وتصرفاتنا القومية على اساس الثقة والتفاؤل بإمكانيات شعبنا وأصالته.
كما اننا في مرحلتنا الجديدة بحاجة الى هذا الوجه الايجابي الاصيل في موقفنا من العالم. فنحن بعد اليوم مسؤولون عن العالم وسلامة اتجاهه وأوضاعه بقدر ما هو مسؤول عنا. وقد مضى الزمن الذي كنا فيه نكتفي بنقد الدول والامم الاخرى ومحاسبتها على ابتعادها او مناقضتها للمبادئ التي تدعيها، ونثق بهذه المبادئ او نتشكك فيها، بمقدار ما نجد عند الاخرين من انصاف لنا او اجحاف بحقوقنا. فهذه المبادئ لم تعد وقفا على غيرنا، وان تبنينا الايجابي لها سيؤثر حتما في نجاحها وفي تدعيم صف الحرية والعدالة في العالم.
البنيان الداخلي هو الاساس: لقد اصبح واضحا ان العرب حققوا في مختلف اقطارهم خطوة في التقدم، وظاهر هذه الخطوة انها ظفر على الاستعمار وكسب للحرية، اما مادتها الباطنية فهي انها تقدم شعبي داخلي في الفكر والاقتصاد وفي التربية السياسية والتنظيم، ولولا ذلك ما أمكن احراز هذا الانتصار على الاستعمار. فالموضوع اذا دائما هو بنياننا الداخلي، بنياننا القومي، هو دائما انشاء مجتمعنا وبناؤه لأن الاستعمار في الاساس انما نفذ الى مجتمعنا من ثغرات ضعف البنيان الداخلي والتخلف والامراض الاجتماعية. فاذا كان مفروضا علينا دائما ان نكافح الاستعمار، واذا كنا نعلم ان معاركه المقبلة معنا ستكون اقسى واكثر اتساعا من معاركه السابقة، فيجب ان نعلم ايضا ان مادة هذه المعارك ومادة الانتصارات انما هي في سد الثغرات في جبهتنا الداخلية، انما هي في الانشاء والبناء الداخلي. ان علينا كلما ازددنا تقدما في تحررنا الخارجي، ان نزداد جرأة في مواجهة امراضنا الداخلية ومعالجتها. وابرز ما في بنياننا الداخلي الوضع الاجتماعي، فواجبنا ان ننقذه من تناقضاته الجارحة وان نقضي على التفاوت بين الطبقات والاستغلال الطبقي لنوصله الى السلامة والانسجام والازدهار. كما ان هناك امراضا فكرية ونفسية كالعصبيات في مختلف صورها العنصرية والطائفية والعشائرية، والجهل وسواها، يجب ان تحسن مواجهتها بالعلاج الناجع.
لقد ربحنا معركة، فعلينا ان نوجه جزءا من الربح الى داخل البيت لنصلحه، فنكون اشد مناعة وأكثر تهيؤا لمواجهة الاخطار والمعارك المقبلة.
كانون الاول 1956
معركة المصير الواحد
من الطبيعي في هذه المرحلة الصاعدة من تاريخ امتنا العربية ان يتركز انتباهنا على مواطن الضعف والنقص التي مازالت تشوب حياتنا القومية اكثر من تركز هذا الانتباه على ما حققناه حتى الآن من قوة وتقدم. يكون هذا عادة في الاوقات التي تسبق المعارك الحاسمة ويكون بدافع الطموح واستعجال التقدم الذي تنشده الامة لنفسها. وهي اوقات يكثر فيها النقد وتحتد الاعصاب. ولكن ما ان تجيء المعركة ونغدو في ساحتها وصميمها حتى تنقشع الغشاوات تدريجياً عن جميع الكنوز الايجابية التي اختزنتها الامة بعملها البطيء ونضالها الطويل، فتتعرف الامة في وهج المعركة الى وجهها الحقيقي وتبدأ مفاجآتها لنفسها تتوالى، وثقتها بنفسها تنمو وتمتد بعيداً في العمق.
وهذه المعركة التي دبرها الاستعمار على أوقح شكل عرفه تاريخ البغي والعدوان، والتي لا يستطيع الذي يراقبها من الخارج الا ان يعتبرها مثالاً فريداً في الحمق والخرق، انما هي بالنسبة الى الامة العربية جزء اصيل خطير من مرحلة انبعاثها وتقدمها تتلخص فيه وتمتحن جميع الاجزاء السابقة، وهي ايضاً بالنسبة الى تاريخ الانسانية وفي نظر من يحياه من الداخل معركة جدية كل الجد ونتيجة طبيعية محتومة لنظام الاستعمار وعقلية العدوان وموقف فاصل سينتهي بتصفية ما هو غير جدير بالبقاء.
انها معركة الامة العربية اولاً ومعركة الانسانية الجديدة ثانياً. ونقول انها معركتنا اولاً لا لنضع مصلحتنا في المرتبة الاولى، ولكن لأن الانسانية لا تتحرك ولا تعير انتباهها، وهي في ذلك على حق، الا للقضايا الصادقة التي يبرهن اصحابها بمدى نضالهم وتضحياتهم في سبيلها، على مدى صدقهم في التعلق بها.
ولأول مرة منذ مئات السنين يقف العرب موقف الأمة الواحدة يناضلون في سبيل قضيتهم ويعترف لهم العالم بأنهم امة واحدة، وبأن قضيتهم ليست قضيتهم وحدهم بل هي قضية الحق والعدل والحرية.
ولاول مرة منذ مئات السنين وبعد عهود التخلف ومآسي التجزئة يقف قطر عربي تمثلت فيه هذه العهود والمآسي على اقوى شكل ليفكر ويتكلم ويعمل باسم الامة العربية الواحدة وباسم مصلحتها ورسالتها مدفوعاً بالايمان العميق والوعي الصافي بأن سلوكه هذا لئن اكسبه عداوة الاعداء في الخارج والداخل، فانه يكسبه في الوقت نفسه تأييد الشعب العربي بكامله وفي جميع اقطاره، ولئن عجل في اثارة اطماع الاستعمار واحقاده، فلقد عجل ايضا في انضاج وعي الشعب العربي وارادته وفي ايصاله بقفزة تاريخية الى مرتبة الامة الواضحة الشخصية.
وعندما تبلغ السياسة هذا المستوى من الاصالة تتبدل النظرة والمقاييس وتحتجب حسابات الربح والخسارة ويتضاءل الحاضر بكل ما فيه لكي يتجه كل جهدنا الى بناء المستقبل وانقاذ الفكرة التي تضمن ان يكون لنا مستقبل. فليست القضية اليوم ان نربح او نخسر مع عدو لا ننكر انه قوي وان كنا نؤمن أن امكانيات الامة العربية تستطيع ان تضمن لنا النصر في المعركة، ولكن القضية هي ان نخلص لمثلنا ولوحدة مصيرنا، لان احداً من العرب لا يجهل ان هذه المعركة التي نخوضها وتقودها مصر هي بالدرجة الاولى معركة الوحدة العربية، والوحدة العربية بالنسبة للعرب ليست مجرد حشد للقوة وتعزيز للبأس والسلطان – كما حدث ذلك بالنسبة لبعض الشعوب- بل هي وحدة شفافة ترتسم عليها جميع الآلام والتجارب السلبية التي عانوها وتتراءى من خلالها صورة نزوعهم الى الحق والحرية وظمأهم الى البناء والتعاون.
وقد تمثل كل ذلك في مصر وفي المعركة الحاضرة، وكانت الدول الاستعمارية واسرائيل اول من انتبه الى هذه الحقيقة، فركزت كل هجومها على مصر وصممت على تحطيمها لتحطم بذلك امل العرب في الوحدة. وقد تستطيع الدول الاستعمارية واسرائيل ان تتفوق على مصر في قوة السلاح وان تنـزل بها الخسائر دون أن يؤثر ذلك في مصير المعركة، ولكن شيئاً واحداً يمكن ان ينـزل بنا من الاضرار اكثر مما تنـزله جميع جيوش الاعداء واسلحتها الفتاكة وان يصيب منا مقتلاً اذا نحن قصرنا وتهاونا في واجب التضامن العربي على اقوى ما يكون التضامن. وفي سبيل هذا تهون اجسم التضحيات، فالشعب العربي مطالب في كل مكان ان يختار، ليس بين ربح المعركة او خسارتها امام الاستعمار واسرائيل، بل بين ربح او خسارة وحدته وانقاذ معنى وجوده بتحقيق تضامنه الفعال وتجسيد عروبته في النضال.
والجيل العربي الجديد الذي قدر له ان يعطي بفكره ونضاله مفهوم العروبة الحديثة ويشق الطريق الصحيح للوحدة العربية، مسؤول قبل غيره في هذه المعركة التي هي النتيجة المنطقية لدعوته ونضاله، عن وقوف الموقف الذي يرسخ في الشعب العربي الثقة والعقيدة، ويحمله الى جو البطولة والتضحية.
2 تشرين الثاني 1956
المعركة وارادة الأمة
أيها الإخوان
أحب أن ارجع بكم قليلا إلى الماضي.. عند تأسيس حركتنا وقبلها.. عندما كانت البلاد العربية على اثر الحرب العالمية الأولى تعاني الاحتلال الأجنبي وكل ما ينجم عن الاحتلال والإستعمار من مفاسد والآم ومظالم، كان الجيل الشاب –جيل الطلبة- ينظر إلى هذا الوضع الشاذ ويشعر بوطأته وبعاره وبألم الشعب، ويتحرق لتبديل في العقلية والعمل، وينظر إلى القيادة التي كانت تتزعم الحركة الوطنية، ويرى ويشعر بأنها دون المستوى. وظلت هذه الآلام والدوافع تفعل فعلها في نفوس الشباب حتى تجسدت أخيرا في حركة جديدة. ولا حاجة لان أقول لكم بان ظهور هذه الحركة الجديدة لم يكن شيئا سهلا، ليس فقط بسبب المصاعب والعراقيل التي وضعت في سبيلها من كل جانب، بل أيضا وعلى الأخص لان أزمة عميقة في الثقة كانت مستولية على الشعب العربي. كان من الصعب أن تعاد هذه الثقة. ومع ذلك فقد عادت الثقة فولدت الحركة، وقطعت مراحل. وان دل ذلك على بعض الفضائل في هذه الحركة الجديدة، رغم عيوب ونواقص كثيرة شابتها ولا مجال لنكرانها، ولكن هذا يدل بصورة أقوى على فضيلة الأمة نفسها، وعلى روحها وعمق إيمانها وخصب حيويتها.. وأنها لا يمكن أن تتنازل عن وجودها وعن رسالتها.. وأنها عندما يبدو عليها شيء من اليأس وضعف الثقة فلا يكون ذلك في الواقع إلا حاجة عميقة فيها إلى الارتفاع والى طلب المزيد من الصدق، ومن الجدية، وكأنها في بعض فترات أزمة الثقة التي تعتريها، كأنها في الواقع تحفز نفسها وتحفز أبنائها إلى إن يرتفعوا بمستواهم وبأهدافهم ومطامحهم ليتلاءموا مع الظروف وليتكافؤا مع مطالبها وأهدافها، وهي مطالب وأهداف عظيمة. والأمة لا تنحصر في جيل أو جيلين أو أكثر.. فالأجيال تولد وتناضل وتتساقط على جوانب حياتها الخالدة. وكل تفكير يمكن أن يشعر بان حركة ما، مهما تكن ذات قيمة ونفع، يمكن أن تتلخص فيها حياة الأمة وان تتوقف عندها حياة الأمة هو تفكير خاطئ وضار. فالحركات مراحل في الطريق؟ وإذا كان من أهم العوامل التي دعت وساعدت على تكوين هذه الحركة التي انتم فيها.. إذا كان من أهم العوامل التي ساعدت على تكوينها هو ذلك الموقف المتمرد الذي وقفه جيلنا قبل عشرين عاما.. ذلك الموقف الذي أبى أن يرضى بالسهل اليسير، ويقنع بالواقع، وينزل بأهداف الأمة العربية إلى مستوى كفاءاته أو كفاءة الزعماء… فان هذا الموقف نفسه مطلوب دوما.. مطلوب من جميع الأجيال العربية أما لتقويم السير في الحركة القائمة أو لبدء حركة اصح واقوي.
هذا كلام اعتقد بأني لا أقوله للمرة الأولى.. لأني مؤمن بهذا دوما. وكنت أصارح الشباب في كل حين وأطالبهم بهذا الموقف، ولكن الظرف الخطير الحاضر يدعو إلى أن نلح أكثر من أي وقت مضى على ضرورة وعي الشباب لمهمتهم وأنها مهمة خلاقة لا يجوز أن تبقى منفعلة ومنقادة ومستلمة، وإنما دورهم هو دوما التجديد والتصحيح، والثورة على الواقع، والمطالبة بالارتفاع دوما.
لقد دخلنا الآن معركة جديدة. ولأقل مباشرة بان هذا كان ضرورة حيوية بالنسبة إلى العرب. وان كل تهرب من هذه المعركة وحتى تأجيلها كان بمثابة تزييف لنهضة العرب وإفساد لما في هذه النهضة من أصالة ورجولة. فالنهضات وحركات الانبعاث لا بد أن يكون لها ثمن.. ولن يكون الثمن غاليا جدا بنسبة قمتها وقدرها. وشيء أكيد يجب أن تقتنعوا به، وهو يصلح أن يكون قانونا لحياة كل شاب عربي: هو إن الحياة لا يحتال عليها. الحياة الجديدة ليست هي احتيال.. التاريخ الصحيح.. إي انه لا يبقى في التاريخ إلا الصحيح.. وهو الذي يستحق البقاء.. هذا لا يحتمل الاحتيال والخدعة، ولا تستقل الأمم ولا تتربى ولا يرهف حسها وتعلو روحها وتعمق ويتفجر فيها ينبوع العمل والبناء والخير والفداء إلا إذا عانت بنفسها وعلى حسابها ودفعت ثمنا مساويا لما تطلبه من الحياة.
وعندما ننظر إلى معركتنا الحاضرة من هذه الزاوية، ومن هذا الأفق.. لا يعود للملابسات السياسية شأن كبير.
لماذا حدث هذا الحادث؟.. ولو لم يحدث لكان هذا أفضل.. ولماذا تصرفت هذه الحكومة بهذا الشكل؟.. ولماذا كان الموقف بهذا الشكل؟.. هذه أشياء ثانوية. أما إذا نظرنا من داخل مصير الأمة واندفاعها نحو مصيرها لوجدنا أن الأشخاص والحوادث والأحداث إنما تولد وتتداعى وتتجمع بفعل هذه الإرادة العميقة التي تنبعث من صميم الأمة. فالأمة العربية منيت بنكبات كثيرة من الخارج والداخل. وكانت نكباتها في الحقبة الأخيرة حادة ومثيرة.. إلى الحد الذي عجل في إنضاجها. في إنضاج الوعي فيها. فتدفقت قواها البناءة من كل جانب.. فوجئ العالم، وفوجئ الإستعمار الذي له مصالح مرتبطة بضعف امتنا وبتفرقها وتجزئتها، واتضحت الأمور، لأن من له مصلحة في بقاء امتنا ضعيفة ومجزأة يجب أن يتدارك الموقف قبل فوات الوقت. وعلى الأمة العربية أن تدافع عن نفسها أيضا.
فمن جهة، الإستعمار وأعداء الأمة العربية لم يكن لهم خيار. كانوا مضطرين أن يفتحوا المعركة، ولكن للمعركة أشكالا متعددة. والمستعمرون والغاصبون لا يهمهم أن يروا دم العرب يسفك وبلادهم تدمر بقدر ما يهمهم أن يحافظوا على مصالحهم، على المصالح الإستعمارية. فإذا استطاعوا أن يحافظوا عليها بحرب غير ظاهرة، إي أن يتمكنوا من إبقاء العرب ضعفاء أذلاء مبلبلين متناحرين فيما بينهم وفي مستوى منخفض من الفكر والروح والعمل، يستغنون عن فتح المعركة الحربية. وهذا كان هو الخطر الأكبر.
الخطر الأكبر كان أن نستمر، أن تستمر الحكومات العربية، في مداراة الإستعمار وفي تضليل الشعب وفي قبول أنصاف الحلول، وان يبقى الشعور متبلدا والوعي غامضا والنفوس قلقة وحائرة وميالة إلى اليأس أو مستهترة بكل قيم الحياة ومعانيها السامية. ولكن يوجد في الأمة العربية فئات وأفراد يدركون أن لا مفر من هذه المعركة.. أن الخير كل الخير في أن تكون معركة صريحة، وان يقبل عليها الشعب العربي بإرادته وهو واع لأهدافها ومراميها، وان يعرف على أي شيء تدور هذه المعركة، وماذا يختار عندما يدخلها. وإذا كانت المعركة بهذه الصراحة وهذا الوضوح، يكون الشعب العربي قد أنقذ نفسه لان قوى كثيرة كامنة في هذا الشعب تستيقظ وتتفتح وتنمو لدى المعرفة الواضحة الصريحة. عندما يعرف ما هي الأخطار التي تتهدده، ويعرف من جهة أخرى ما هي الأهداف التي يسعى إليها، والتي لا يجوز التنازل عنها، فهذا يكون بمثابة إيقاظ لأعمق القوى الكامنة فيه. فإذا استيقظ من هذه القوى ما يكفي لأحداث نصر مادي في العاجل كان ذلك خيرا، وان لم تكف هذه القوى لإحراز النصر الصادر، فيكون النصر المعنوي قد أحرز حتما. والنصر المعنوي معناه أن النصر المادي آت في المستقبل، ولاشك أو ريب في مجيئه.
والمواقف الحاسمة الصريحة المستوحاة من الثقة بالأمة وبجدارتها وبأصالتها، وبأنها تستطيع أن تتحمل التضحيات الجسيمة، وان تنبري للمهام العظيمة، هذه المواقف هي خير كلها في وجهيها الايجابي والسلبي، لان لها وجهين. فالمواقف الصريحة الجريئة المؤمنة لها وجه ايجابي هو نداؤها إلى كل ما في الأمة من خير لكي يستيقظ ويتضامن ويبدأ العمل، ولها وجه سلبي هو فضح كل ما في الأمة من أمراض وكل ما طرأ عليها من شوائب وما اندس فيها من تآمر وخيانة وضعف. ولولا المواقف الحاسمة لبقي الفرق بين الإخلاص وبين الخيانة فرقا نسبيا، وقد تلتبس الأمور على أكثر الناس، ومن أحوج من الأمة العربية في هذه المرحلة إلى المواقف التي من هذا النوع، ما دامت تعاني كثيرا من الأمراض الداخلية وتعيش في تناقضات غريبة غير محتملة؟ ومع ذلك فالسياسة الرخيصة المرقعة المصلحية الجبانة كانت تسدل الستر على هذه التناقضات وعلى هذه الأمراض، وتسدل البراقع وتزينها في أعين الشعب أو تلطف من بشاعتها. وكلكم تعلمون بأن في المجتمع العربي أفرادا يملكون من الثروات ما يكفي لتحرير قطر بكامله من نير الإستعمار، وان أسرا مالكة أو حاكمة تمتلك أيضا من هذه الثروات ما يكفي لإعمار الوطن العربي وإنهاضه وتحريره أو ما يساعد كثيرا في هذا السبيل.
وتعلمون أيضا أشياء أخرى اقل وضوحا في تناقضها ولكنها قد لا تكون اقل ضررا وإجراما في حق الأمة وحق مصلحتها من أساليب السياسة المتبعة وأساليب التهويش والتزييف وادعاء المبادئ والتذرع بها للوصول إلى شهرة أو منفعة خاصة. وكل هذا شائع في مجتمعنا.
فإذن، الجيل الشاب.. الفتي.. المؤمن.. الواعي لرسالته.. المستعد للتضحية ولخوض الصعاب، يجب أن يفرح ويستبشر عندما تصل أمته إلى هذه المواقف الصعبة الحرجة لأنها المواقف الوحيدة الجديرة بأمة كبيرة، والمواقف الوحيدة التي تشفي من العلل وتدفع إلى الأمام وتحقق للأمة تقدمها المطلوب. وعلى هذا الجيل أن ينظر في اتجاه واحد هو اتجاه العمل والبناء والنضال والتفاؤل، وان لا يتوقف كثيرا عند مشاهدة الوجه الأسود للحالة، يجب أن لا يضيع ساعة من وقته ومن حياته في الأسف على الأشياء والأشخاص التي لا تستحق أن يؤسف عليها. فإذا كانت هذه المواقف قد فضحت عيوبا فيجب أن تفرحوا وتتبشروا لان هذه العيوب أن لم تظهر وتنفضح فإنها لن تشفى ولن تزول. وليست مهمتكم أن تأسفوا وتتلهفوا، بل مهمتكم أن تمشوا في الطريق الصاعد، وان تنظروا إلى الوجه الايجابي، إلى جهة البناء والنضال، إلى الطريق الذي يبني المستقبل. ولا يجدر بالجيل الشاب الانقلابي أن يتطلب السهولة لأنها نقيض مهمته. والانقلاب هو الشيء الصعب أو أصعب الأشياء؟ وقد انفتح أمامنا الطريق ولا يظن احد بان المعركة هي في يد غيرنا. المعركة هي دوما في يد الأمة المالكة لإرادتها ولمصيرها. وتستطيع أن تطيلها ما شاءت لها الإطالة.
وفي الأمة العربية إمكانيات لم تدخل بعد في حيز العمل والتحقق وهي تنتظر الطليعة الواعية المنادية المضحية التي تتقدم الطريق فتوحي بذلك إلى هذه الإمكانيات أن تظهر وان تفعل.
ولننظر، بكلمة أخيرة، إلى الواقع الراهن وكيف يجب أن يكون موقفنا، موقف الشباب، موقف الشعب عامة. وما حدث حتى الآن فيه من دواعي الاستبشار والتفاؤل أكثر بمرات عديدة من دواعي اليأس والتشاؤم. فمصر تتحمل هجوما هو في مستوى الحروب العصرية بكل قسوتها وجديتها. ومصر كانت قبل سنوات تتململ أو يبدو أنها –بحكم الأوضاع الفاسدة التي كانت تسودها– يبدو أنها تتململ من نضال المظاهرات وما يقع في المظاهرات من تضحيات جزئية تافهة، هي نفسها بعد سنوات قليلة تتحمل ما تحملته الدول الكبرى في الحرب الأخيرة وفي الحروب الكبرى بإيمان وعزم ورجولة، وأقطار عربية أخرى تجاهد.. تناضل وتضحي ليس منذ أسبوع فحسب وإنما منذ سنوات باستمرار في حرب وحشية قاتلة في المغرب العربي. وأقطار تجاهد وتناضل بشكل آخر ضمن إمكانياتها الحاضرة لأنها محتلة احتلالا مباشرا، كالجنوب العربي، ولكنها تقوم بواجبها. وهناك أقطار أخرى هي الأقطار التي نالت من الحرية السياسية نصيبا اكبر من غيرها ولكنها منيت بفئات حاكمة وأوضاع اجتماعية ظالمة وجائرة أفسدت عليها تقدمها والقدر الذي حققته من استقلالها. فمنها العراق وهو مكبل بحكم رجعي بوليسي، ولكن سكوته لن يطول، وهو غير ساكت. وكل مؤمن بعروبته يستطيع أن يثق بان الشعب العربي في العراق لا يسكت حتى ولو لم تصلنا أصواته. وهنا -في سورية– ولأقل بان وضعها قد لا يختلف كثيرا في جوهره عن وضع مصر قبل الثورة، مع بعض الفوارق ولكنها غير أساسية، فهي في وضع سياسي واجتماعي فاسد ومائع يسمح بالتآمر ويسمح بالانهزامية ويسمح بشتى أعمال التخريب والعرقلة أمام المهام القومية، ومع ذلك فيها رأي عام واع وفيها صلابة وفيها إيمان، ولكن المفسدين يشوهون وجهها وحقيقتها.
وليس الموضوع الآن أن نستعرض الحوادث والتدابير وغير ذلك.. وان نعرف لماذا تأخرت سوريا عن دخول المعركة.. وهل صحيح كما يقال بان الوقت قد فات؟.. هذا لا يهمنا كثيرا إذا نحن صممنا على اعتبار المعركة مفتوحة وإنها لن تنتهي إلا إذا أردنا لها أن تنتهي، فلم يفت أي وقت بعد، ولم يشترك في المعركة إلا جزء بسيط من إمكانيات الأمة العربية، وعندنا جبهات واسعة. وهذا ما أريد أن انهي به كلمتي، كل شيء ممكن، ونستطيع أن نضغط وان نعمل أشياء كثيرة. بقي أن يقوم كل واحد بواجبه، وان لا تبقوا متفرجين، وان لا تسمحوا للبلبلة وللشك والانهزامية أن تتسرب إليكم، وان تعرفوا بان هذه المعركة بالنسبة إلى العرب هي معركة تنظيم، فقد شببنا عن الطوق وخرجنا من الطفولة. واليوم، الدول الكبرى في أوروبا العريقة في حضارتها وتنظيمها وتسلحها،لم تعد تستحي بان تجاهرنا العداء وتعلن بأنها تخاف من العرب. ولندرك أخيرا بأننا أصبحنا في مستوى العمل المنظم .. والسلام.
***
أسئلة وأجوبة
* لماذا لم تشترك قوات سورية؟ هناك شائعات تقول بان الجيش تلقى طلبين من اللواء عامر، ولم يجب الجيش. سمعنا هذه الشائعات حتى من بعض الجنود.
* هل أسباب عدم دخول المعركة تعود لتلك الحكومة أم لأسباب فنية؟..
* إشاعة تقول بان طائرة مصرية خربت فوق قبرص وأرادت أن تنزل في مطارات سوريا فمنعت ونزلت في بيروت.
سأعطيكم جوابا مختصرا ولكنه سيتضمن الواقع، ولا أظن انه يجوز بحث تفاصيل، هي في مثل هذا الظرف، يجب أن تبقى في نطاق المسؤولين العسكريين والمدنيين.
أولا– كان ثمة في سوريا، دوما عرقلة لتقوية الجيش، وهذا بتأثير الإستعمار وعملائه ومن يتأثرون به وينفذون أغراضه. واشتد هذا التأثير الإستعماري في الأشهر الأخيرة كثيرا. وكثر العملاء، كما كان ذلك واضحا للشعب. فالجيش السوري قوي في روحه وإيمانه ومعنوياته، ولكن هذا لا يكفي كما تعلمون: هناك أشياء متممة للحرب، كانت تقام العراقيل في وجه توفيرها وتنفيذها، ثم وقعت المعركة. واعتقد –هذا تقدير شخصي– بان الشكل الذي ظهرت به المعركة كان فيه بعض المفاجأة، أي كان على غير ما هو منتظر، فهذه المفاجأة أخرت قليلا تنفيذ الخطط، وسببت بعض الضرر، لأنه لم يكن منتظرا أن تبدأ الحرب في سيناء، وبهجوم الجيش الإسرائيلي كله أو معظمه، كان الإعداد يتم لمواجهة العدو في مصر، في القناة، أما بالنسبة لإسرائيل فكان الأردن وجبهة الأردن هي المعتبرة أنها موضع الهجوم المحتمل. وعندما بدأ الهجوم في صحراء سيناء، صدرت الأوامر من القيادة المشتركة لتنفيذ الخطة الموضوعة، وشرع بالتنفيذ، أي إرسال قسم من الجيش السوري إلى الضفة الغربية في الأردن، وحصل هذا، ولكني لا استطيع أن أقول، بان هذه أشياء فنية لا يعرفها إلا الفنيون والمطلعون، هل حصل هذا على أحسن شكل ممكن؟.. وفي حينه؟.. وفي أقصى السرعة؟. هذا ما لا استطيع الجزم فيه. سمعت من ممثلنا في الحكومة بان هذا تم في (36) ساعة، فهل كان يمكن أن يتم ذلك في اقل؟..
ولكن المعركة تطورت بسرعة، فصدرت أوامر جديدة من القائد الأعلى –عامر- انه لم يعد من موجب -من حاجه – للدخول، لفتح جبهة، لدخول الجيشين السوري، الأردني لأنهم -كما اقدر- قرروا الانسحاب من سيناء لمواجهة الخطر في مصر ذاتها. وهذه خطة موفقة جدا، وقد نجحوا فيها، ولكن نتج عن ذلك أن جيش إسرائيل تفرغ كله لمصر.
هذه هي الخلاصة. فإذن ليس صحيحا مطلقا -على حسب اطلاعي واطلاع ممثل الحزب في الحكومة- بأن أوامر خولفت، كلا لم يحدث شيء من هذا. الأوامر نفذت، في عرف البعض بأنها نفذت على أحسن شكل، وان هذه المدة هي اقل ما يمكن لنقل القوات إلى الضفة الغربية.
والأوامر الثانية -بعدم التحرك -.. أيضا هذا وقع. لكن المهم في الموضوع بأنه لم يفت الوقت، ولم تنته المعركة، ومن واجبنا أن نطيلها ما استطعنا الإطالة. طبعا الأمور العسكرية يجب أن يحسب لها حساب، الرأي العسكري، لأننا لا نريد أن نعمل في الفوضى، فإذا كان رأى العسكريين بان اليوم وغدا مثلا، الاشتباك غير مفيد، ويحسن الانتظار إلى بعد غد، فالشعب لا يعترض على ذلك، ولكن بشرط أن ندخل وان لا تكون هناك مماطلة.
وإذا كان الشعب معبأ واستلم الشباب السلاح، وتدربوا، وانتشروا بين الشعب ليرفعوا معنوياته وليوضحوا له خطورة الموقف والمعركة، ويحذروه من التباطؤ والتخاذل والتآمر، فاعتقد جازما بان المعركة تظل في يدنا، ونستطيع أن نتحين فرصة قد تكون مناسبة لتوسيع المعركة. ومع العلم، بان توسيع المعركة لا يعني فقط اشتباك الجيوش، وان كان اشتباك الجيوش هو أهم شيء، وهو المظهر الجدي. ولكن للمعركة مظاهر عديدة لإيذاء مصالح الإستعمار، والضغط عليه. لتخويفه بان البلاد العربية كلها ستشتعل وأنها مصممة، وأنها لن يثنيها شيء عن تصميمها. وهذا يكون بصورة خاصة، عندما يدخل الشعب وانتم طليعته في جو الحرب، وهذا لم يحصل حتى الآن.
جو الحرب وما فيه من جدية وتحمل الحرمان، وتغيير كثير من العادات، ونمط الحياة العادية، وخلق روح حماسة وتضحية وبطولة في أوساط الشعب استعدادا لكل طارئ.
لان ما حدث الآن قد يكون بسيطا بالنسبة لما يخبئه الإستعمار، لأنه لم يعد يردعه رادع. لا الرأي العام العالمي، ولا هيئة الأمم؟ صار يعتدي بشكل وقح، فما الذي يمنعه من احتلال سورية وغيرها. لذلك من الضرورة أن يعبأ الشعب، وان يستعد. وفي هذا –اعتقد– الكفاية.
* اقترحت كندا إرسال قوة بوليسية دولية لوقف القتال. ووافقت هيئة الأمم. أخشى أن يكون ذلك مانعا لتوسيع المعركة.. ألا ترون ذلك؟.. لا سيما والاقتراح صادر عن كندا !.. لغرض الصلح مع إسرائيل وتدويل القناة نهائيا.
هذا يجب أن يكون مستبعدا لدرجة المستحيلات. الموضوع دوما هو المعنوي: الإرادة – التصميم – الوعي.
الذي لا يريد دخول المعركة. ولا يقبل بالتضحية، يستطيع أن يتذرع بأي شيء لإخفاء جبنه. والذي يدرك خطورة هذه المعركة وواجبنا في دخولها لا يتوقف عند مثل هذه العوائق. فنحن اعتدي علينا، وهذا واضح كالشمس، فلا اقتراح كندا، ولا قرار هيئة الأمم يمكن أن ينتقص من حقنا. ما دام قد اعتدي علينا بصراحة، ما دمنا مصممين على الاستمرار في المعركة، فكل هذه الأشياء لا تقف في طريقنا.
* في الحرب الفلسطينية انتقلت قيادة البعث إلى نابلس. والآن الحزب لم ينقل قيادته، ولم يصدر أي بيان ولا أي أمر إلى الشباب.
الحزب كان يعد بيانات عندما كانت وسائله قليلة. اليوم رأي الحزب معروف في كل مكان، وجريدة الحزب، وأيضا يمكن أن يصدر الحزب بيانا. فهل هناك من يشك في موقف الحزب لكي يصدر بيان؟..
وفي حديث أعطي لفرع الحزب في سوريا ولبنان دعوناهم إلى أن يعبئوا أعضاء الحزب ويجندوهم. وهم في انتظار تسلم الأسلحة من الحكومة، واعتقد بان الحزب يجب أن يتجند بكامله إلا من هو دون السن أو له عذر واضح.
وأحب أن أراكم في وضع آخر.. لا تنتظروا كل شيء.. لماذا لم تسهلوا مهمة الحزب؟.. ليس فقط في الطلب، وإنما في التنفيذ؟.. المسؤولون عددهم قليل وهم منشغلون بأمور كثيرة.
القيادة المصرية تعرف إن كل بعثي هو تحت تصرفها. ولا يثقون في فئة بمقدار ثقتهم بهذا الحزب، بقي أن تكون عندكم انتم روح المبادرة، وان تنظموا أنفسكم. إذا لم تقدروا على أشياء فالقيادة تقوم بأعمالها: السلاح من الحكومة مثلا.
نظموا قوائم، والحكومة سوف تعطينا السلاح.. إذا بقي أشخاص فان باستطاعتهم أن يقوموا بأشياء أخرى أو أننا نحصل على السلاح ونبحث عنه من مصدر آخر غير الحكومة.
وإذا ا يتيسر أن نذهب إلى مصر فالمعركة ليست هناك فقط. هناك مجال للنضال في فلسطين مثلا، وفي الجيش والفدائيين والعصابات.
* لو كان تباطؤ الجيش ناتجا عن عدم وجود أوامر من عامر، الا نناقش هذا؟
لو كان الأمر في يدنا، قد لا ننتظر أوامر من عامر، ولكن الحكم ليس في يدنا، أو أن الجزء البسيط الذي في يدنا لا يستطيع تغيير طبيعة الحكم تغييرا كليا. وهناك أوامر عسكرية يتذرعون بها.
4تشرين الثاني 1956
السياسة الثورية طريق التضامن العربي
ان الغربيين الذين يقولون عن الحرب الناشبة بين العرب والاستعمار انها من صنع ايدن وموليه، وانها بصورة خاصة نتيجة حقد شخصي من ايدن على عبد الناصر يكذبون ويغالطون. فهذه الحرب هي حرب المصالح الاستعمارية في الغرب، ولو لم يمثلها ايدن لوجد مئات غيره يقومون بالدور الذي قام به. ولكن الغربيين لا يبتعدون عن الحقيقة عندما يقولون ان هذه الحرب موجهة ضد عبد الناصر، ذلك ان ايدن وموليه ومئات السياسيين في الغرب لا يمثلون شيئاً جديداً، وليس بالتالي لأشخاصهم كبير وزن في المعركة، فكلهم ادوات لنظام قديم هو الآن في دور الاحتضار، والدفاع الاخير اليائس عن بقائه.
اما عبد الناصر فهو في شخصه ونفسيته وتفكيره والنظام الذي اوجده والاتجاه الذي اعتنقه واخلص له والقاعدة المنظمة المتينة التي ركز عليها هذا الاتجاه والتي هي نظام الحكم في مصر كنواة جبارة ومنطلق فعال لاستقطاب نضال الشعب العربي في كل مكان واجتذاب كل عناصر الخير والقوة والتقدم الكامنة والمتناثرة في هذا الشعب: ان جمال عبد الناصر هو فعلاً وبالذات موضوع وهدف لهذه المعركة الفاصلة التي يشنها الغرب الاستعماري، من خلال شخصه، على العرب وحريتهم ووحدتهم وتقدمهم.
فلو زال اليوم ايدن وموليه وبن غوريون لما تبدل شيء اساسي في النظام الاستعماري القائم في بريطانيا وفرنسا أو شيء أساسي في وجود اسرائيل القائم على الاغتصاب والعدوان والتحالف الدائم مع الاستعمار، ولما تبدلت بالتالي المعركة التي تقوم بيننا وبين الاستعمار واداته اسرائيل. ولكن لو زال عبد الناصر، فان ذلك سيرجع بالعرب سنين الى الوراء، الى زمن الاحتلال والتجزئة والفساد والانحلال، لان سياسة عبد الناصر الاستقلالية العربية قد رفعت قضية العرب وامكانياتهم درجات حاسمة الى فوق، ونقلتها الى المستوى الجدي الذي يفصل فصلاً حاسماً لا لبس فيه بين الاوضاع الراهنة الفاسدة التي هي سبب ضعف العرب وسيطرة الاستعمار ووجود اسرائيل، وبين الحياة والاوضاع الجديدة التي يتطلع اليها العرب والتي توفر لهم من اسباب القوة ما يكفل تحررهم ووحدتهم ونهضتهم.
هذا ما أدركه الاستعمار منذ البدء ومنذ ان لمس التجاوب العميق بين سياسة عبد الناصر وبين اندفاعات الشعب العربي في كل قطر. ولكن الفئات الرجعية والمتآمرة في الاقطار العربية ظلت الى ما قبل ايام تنكر هذه الحقيقة وتكابر فيها وتتجاهل القفزة التاريخية التي حققها عبد الناصر في حياة الامة العربية في هذه المرحلة، وتحاول بشتى الاساليب ان تطمس هذا الفارق الاساسي الذي يتميز به لتظهره أمام الشعب على مستوى واحد مع نوري السعيد وامثاله من الخونة وأُجراء الاستعمار، بحجة وحدة الصف العربي، وان الجميع يهدفون الى غاية واحدة وان اختلفت الاجتهادات والطرق.
كان هذا الى ما قبل عشرة ايام، أي قبل ان يفتح الانكليز والافرنسيون واسرائيل المعركة بعدوانهم الصارخ على مصر. وفتح المعركة قد أغلق باب التضليل، فلم يعد احد من هؤلاء الرجعيين والمتآمرين والمأجورين يجرؤ على ان يماري ويكابر في ما هو واضح كالشمس باستثناء العراق الذي يحكم شعبه بالحديد والنار.
اذن فالمعركة قد وضعت حداً للتضليل، وهذه اولى ثمراتها الطيبة. ولكنها لم تضع بعد حداً للتعطيل والتخريب، وهذا ما يجب ان يتم باسرع وقت ممكن دفاعاً عن حياة الوطن واهله.
لم يقدم الاستعمار على فتح المعركة في هذا الوقت الا لانه حسب من جهة ان التبدل الذي أحدثته الثورة في مصر لم ينفذ بعد الى الاعماق وان مقاومة مصر لن تكون جدية، ولانه حسب من جهة اخرى ان تضامن الاقطار العربية مع مصر ليس الا تضامنا بالكلام حسب المألوف. وقد بان خطأ الاستعمار في حسابه الاول عندما تحطم هجومه على صلابة المقاومة العنيدة التي تبديها مصر، ولكنه حتى الآن لم ير من جدية التضامن العربي ما يضطره الى اعادة النظر في حساباته وخططه، رغم اجماع الشعب العربي على تأييد مصر واعتبار معركتها معركة الامة العربية، ورغم ما قام به هذا الشعب من اعمال جريئة متمرداً بذلك على سياسة حكوماته للضغط على المصالح الاستعمارية. والشعور السائد الان عند الشعب العربي انه مكبوت وملجم واسير بين حكومات تدعي رسمياً ولفظياً انها مشاركة في المعركة.
لقد خرست الاصوات التي كانت تهوش وتضلل، ولم يبق في ارجاء الوطن العربي الا صوت واحد منسجم هو صوت الشعب، ولكن أيدي الشعب لا تزال مغلولة لا تستطيع ان تنفذّ ما يجهر به هذا الصوت، وليست هذه الأيدي مغلولة إلا لان أيدي المتآمرين والمخربين والخائفين على مصالحهم ما تزال طليقة تتحكم في مقدارت البلاد وتحول بين الشعب وبين المعركة التي هي معركة بقائه أو فنائه.
فالاستعمار الذي تراجع اليوم نصف تراجع قد يعود الى الغدر والعدوان بعد ساعات أو أيام أو شهور، اذا لم يحدث في العاجل ما يظهر له خطأ حسابه عندما لم يحسب لتضامن الامة العربية حساباً. ولكي يتحقق هذا التضامن فعلا يجب ان نعرف عناصره والطريق المؤدية اليه. فنحن الان في معركة، والتضامن فيها هو تضامن في النضال والتضحية، فلا يعقل ان يتحقق اذا كانت عناصره تلك الفئات التي من طبيعة مصالحها التناحر والجشع ومن طبيعة نفسيتها الحذر والهلع من مجرد ذكر النضال. فعناصر التضامن العربي هو الشعب العربي نفسه، وطريق هذا التضامن هي السياسة الثورية الصريحة التي تسمي الأشياء باسمائها وتضع الشعب امام مسؤولياته وتزيل من طريقه كل ما يعرقل نضاله أو يتآمر عليه.
قبل ثماني سنوات دخلت دول الجامعة العربية السبع ارض فلسطين وسببت اكبر كارثة في تاريخنا، واليوم يدخل العرب معركة اشد هولاً من معاركهم السابقة، ويشعرون مع ذلك بالقوة والعزم ويؤمنون بالنصر لانهم لم يحرصوا هذه المرة على الاجماع الكاذب، بل رفضوا ان يدخل الاختلاط والالتباس الى صفهم، ولم يخشوا من فضح الخيانة بل احرجوها حتى عزلت نفسها بنفسها. ولئن خسر الصف العربي المتحرر بذلك جهود قطر أو قطرين، فلقد ربح سلامة تكوينه وربح تأييد عشرات الملايين من الشعب العربي كانت سياسة التسويات وانصاف الحلول تترك وعيهم في الظلام ومشاركتهم في حالة الشلل.
وكذلك الأمر في الاوضاع الداخلية لكل قطر عربي، فاذا لم تعالج بنفس هذه السياسة الثورية حتى يُكشف التخاذل وتُخرج النفعية وتُعزل الخيانة، فان جهود الشعب في داخل كل قطر ستبقى عرضة للتعطيل والشلل، ولن يجدينا ان نعقد المؤتمرات الحكومية والاتفاقات الرسمية اذا لم يكن وراء هذا كله أوضاع سليمة تضمن صدق التنفيذ وجديته وسرعته.
ان السياسة الثورية هي الدواء الشافي لامراض كياننا القومي والسبيل الوحيد الصحيح لانطلاق القوى السليمة المبدعة في الشعب العربي ولتغلبها الحاسم على جميع قوى الشر والفساد في الخارج والداخل. فهذه السياسة بمواقفها الجدية الجريئة تهز وعي الشعب وشعور المسؤولية فيه الى الاعماق، وتدفعه الى التكتل والفاعلية، بينما تحرج وتفضح العناصر المتذبذبة والمتآمرة وتلجئها اما الى الخضوع واما الى تمزيق قناعها والامعان في ضلالها، فتسلم هكذا صفوف الشعب من كل دخيل ويكسب الشعب المعركة لأنه عرف قوته وعرف اعداءه.
9 تشرين الثاني 1956
إجماع الشعب هو الأقوى
من دلائل قوة القضية العربية وبواعث الامل في نجاحها القريب انها بلغت من الوضوح حداً قلما تيسر لقضية شعب اخر في العالم. وقد خطت هذه القضية في السنوات العشر الاخيرة على أثر الحرب العالمية الثانية خطوات في الوعي والنضج لم تكن لتخطوها الشعوب في عشرات السنين. فقد خرج العرب على اثر الحرب العالمية الاخيرة والطبقة الاقطاعية تقبض على الحكم في جميع اقطارهم وتمثل نضالهم واهدافهم القومية. واليوم تقف هذه الطبقة في صف، ويقف الشعب العربي كله في صف آخر. قبل عشر سنوات كانت هذه الطبقة تحتكر الوطنية وتنكر على من يعارضها ان يكون له بالوطن صلة أو نسب. واليوم لم يعد لها مناص من ان تتنكر للوطن وحريته وقوميته وتقف مع المستعمر الاجنبي واسرائيل الغاصبة جهراً وعلانية في صف واحد بغية المحافظة على مصالحها الخاصة الاثيمة.
لقد تحول زعماء الوطنية إلى دعاة سافرين للانكليز والفرنسيين وأمسى الذين كانوا حتى الامس القريب يستغلون قضية فلسطين ووجود اسرائيل للتهويش والتضليل، واقفين في معسكر واحد مع اسرائيل وحليفتيها المعتديتين، بريطانيا وفرنسا. وافتضح امر الذين كانوا الى الامس القريب في العراق وخارج العراق يضللون باسم الوحدة العربية ويتباكون عليها، فاذا هم عندما انفتح الطريق رحباً وسيعاً امام هذه الوحدة يقاومونها ويلقون في طريقها بكل ثقل تآمرهم وخيانتهم فيفرضون على العراق عزلة رهيبة لم يعرف لها العرب مثيلا في تاريخهم الطويل، ويعملون جاهدين مع الاستعمار لاعادة تقطيع أوصال الامة العربية ولتجزئة القطر الواحد الى طوائف وعصبيات.
في هذه الفترة الحاسمة، وفي ابان المعركة المحتدمة بين العرب واعداء حريتهم، تطرح القضية العربية على هذا الشكل الواضح الذي ينمي وعي الشعب ويشحذ نضاله ويعجل في انتصاره. فالوطنية والقومية وكل ما تتضمنان من فضائل وقيم إنسانية واجتماعية وفردية عادت الى نصابها ورجعت الى الشعب صاحب الوطن وبانيه وحاميه، بينما استأثرت فئات المصالح الخاصة والجشع المادي والزعامات المصطنعة باللاوطنية والخيانة.
وفي هذه الفترة الحاسمة بالذات يحاول الاستعمار مرة أخرى ان يلقي الغموض في قضيتنا والارتباك في صفنا الشعبي الموحد بلجوئه الى بعض عملائه من الحكام والمسؤولين لاخفاء وحدة الشعب المتحققة وراء وحدة الحكام التي لا يمكن ان تتحقق، ما دام الاستعمار موجوداً في بعض اجزاء وطننا، وما دام ينصب الحكام من صنائعه ويفرضهم على هذه الاجزاء بقوته ونفوذه. فوحدة الصف العربي التي يدعو اليها الحكام العملاء في مثل هذه الحال لا يمكن ان تكون مهمتها توحيد الجهود بل فرض الجمود على الحكومات المتحررة التي تقود الشعب الى النضال والتي يقودها نضال الشعب الى التحرر.
عندما تأسست الجامعة العربية قبل اثنتي عشرة سنة، كانت البلاد العربية ما تزال ترزح تحت كثير من القيود الخارجية والداخلية، وكان وعي الشعب العربي ما يزال في حالة من الضعف سمحت للطبقة الاقطاعية الحاكمة ان تدعي تمثيله. وكانت تقف وحدها أمام الدول الاستعمارية موقف المساومة المزدوجة فتهدد الاستعمار بالشعب ليحد من استئثاره وتهدد الشعب بالاستعمار ليتنازل عن بعض حقوقه ومطالبه. وكان اجماع ممثلي هذه الطبقة في الجامعة العربية على ضعف مستواهم القومي يزعج الاستعمار فيحاول بث الفرقة والانقسام بين صفوف الحكام. حتى اذا انطلق الشعب العربي من إسار الرجعية المتحكمة وقطع مراحل في طريق النضال التحرري ووصل في بعض اقطاره الى حكم متجاوب الى حد كبير أو قليل مع ارادته وأمانيه القومية، وصلت الجامعة العربية الى نهايتها، واستنفدت مهمتها التي خلقتها الظروف لها وتجاوزها الزمن، لأن الطبقة العربية الحاكمة فقدت تجانسها بدخول عنصر الشعب والثورة فيها، وغدا انقسامها جداً لا هزلاً كما كان يصطنعه الاجنبي بواسطة صنائعه، وتراءت من خلال هذا الانقسام الجدي بين الحكام وحدة الشعب العربي ووحدة نضاله، ولم يعد الشعب بحاجة الى اجماع حكوماته حتى يفرض هيبته على الاستعمار وينتزع منه بعض حقوقه، بل اصبح انفراد حكومة تتجاوب مع الشعب وتمثل ارادته في الحرية والوحدة والتقدم، يخيف الاستعمار اضعاف ما كانت تخيفه قرارات حكومات الجامعة وتهديداتها. ووصلنا الى هذا الوضع المتناقض الذي يمثل فيه الاستعمار وعملاؤه في الداخل الدعوة الى وحدة الصف العربي، بينما يطالب الشعب العربي باجماع قوي رائع من الاطلسي الى الخليج العربي، ان يتمسك جمال عبد الناصر بسياسته القومية الثورية ويمضي فيها الى النهاية دون ان يعبأ بتخلف المتخلفين ومعارضة المتآمرين لأن الشعب نفسه قد اخذ على عاتقه ان يحمي هذه السياسة ويغذيها بنضاله، وان يدفع المتخلفين ويحطم المتآمرين.
اننا اليوم نعرف ان وعي الشعب ونضاله هما الاساس. وقد اظهرت المعركة الحاضرة ان صمود مدينة صغيرة قد أنقذ مصر والعروبة وانقذ معهما مبادئ ومصائر غالية على الانسانية. ولقد مضى وقت الضعف الذي كنا نحتاج فيه ان نحتمي بمظهر الاجماع والوفاق الكاذبين، ودخلت الامة العربية طور القوة والنماء السليم الذي يحتاج الى الوضوح ونور الشمس. فكل تستر على مؤامرات الطبقة الناشزة عن اجماع الشعب العربي والمستعبدة لمصالحها الخاصة سيعوق ايقاظ القوى العربية الشعبية واستلامها لمسؤوليتها التاريخية في حماية الانبعاث العربي الجديد ودفعه الى الامام ضد عدوان الاستعمار وصنائعه، دون ان يكسبها هذا التستر شيئاً جدياً في نظر العالم. فالشعوب الحرة لم تبدأ بالتعرف الى قضيتنا وبتأييدها الا عندما لمست ان هذه القضية لا تقتصر على رغبات الملوك ومصالح الطبقة المترفة وان وراءها شعباً واحداً مناضلاً اخذ اليوم يخيف الاستعمار العالمي ويزعزع اركانه لأنه لم يعد يخاف من مواجهة مشاكله بصراحة، ومجابهة اعدائه الداخليين بالجرأة والتصميم اللذين يجابه بهما الاستعمار نفسه.
16 تشرين الثاني 1956
إنها معركتنا أولاً
حدثني أخ كريم من أبناء مصر عن بعض مشاهداته في تلك الأيام التاريخية التي مرت على مصر، وكان حديثه وكل مشاعره تتركز على شيء واحد، وهو ان الشعب نفسه فوجئ بما كان يصدر عنه، وانه ليس من كلمة تفي بتصوير هذا الذي حدث غير كلمة الابداع، اذ ان كل شي كان جديداً، وكل ساعة كانت تأتي بجديد لم يكن في الحسبان. دقة في التنظيم مع ابتكار مستمر لمواجهة ما يستجد من ظروف، وانسجام عفوي عميق بل تداخل وتفاعل وانصهار بين القوى النظامية والقوى الشعبية وتفتح رائع في جميع جوانب النفس. فالبطولة في القتال والصمود في المقاومة كان يرافقهما ويوازيهما تجديد وابتكار في الشعر والموسيقى، وبكلمة واحدة اصبحت الحرية في تلك الايام حياة متحققة.
ولم نفاجأ بما حدثنا به هذا الصديق، اذ ان كل عربي يؤمن في قرارة نفسه ان هذا الذي حدث في مصر ليس الا بداية المصير الرائع الذي ينتظر الامة العربية عندما تخوض بكاملها هذه المعركة التي ارادها الاستعمار في الظاهر ارادة سلبية اجرامية، وارادتها هي لنفسها في الحقيقة بمجرد ان ارادت التحرر والبناء وتحقيق المثل الانسانية.
والمهم بالنسبة للعرب ان يدخلوا جو الحياة الجدية سواء أجرت المعركة بالحرب ام بالسلم، وسواء أكان النضال مسلحا أو غير مسلح، وان ابرز ميزة تتميز بها قيادة جمال عبد الناصر انه رفع مصر وسائر الاقطار العربية الى المستوى الجدي الذي تتحول فيه المبادئ الى حقائق حية وعمل، والذي يدعو الشعب الى التضحية الكبيرة دون مداراة او اشفاق، لأن كل ابعاد للشعب عن مجال التضحية هو في حقيقته تآمر على رجولته ونموه وتعويق لانطلاقه واكتشافه لنفسه ولغنى امكانياته الخبيئة، وهو بالتالي خدمة لقوى الاستعمار والفساد لكي تستمر في استعباده واستغلاله.
لقد عرف العالم واعلن مراراً وتكراراً ان هذه المعركة يفرضها الاستعمار الباغي واسرائيل الغاصبة على العرب ظلماً وعدوانا، وان العرب في موقف دفاع مشروع عن النفس لرد العدوان. ولقد عرف العالم واعلن ان هذه المعركة المفروضة على العرب لم تعد معركة العرب وحدهم بل تشاركهم فيها جميع الشعوب الحريصة على حريتها والمؤمنة بالعدالة والسلم والكارهة للاستعمار والعدوان والظلم. ولكننا نحن العرب نعرف ان هذه المعركة هي معركتنا اولا قبل ان تكون معركة اعدائنا او اصدقائنا. فلولا نضالنا المتواصل وثوراتنا المتلاحقة ونهجنا المبدئي الحاسم لما ذعر الاستعمار وتكتل وتورط متعرياً من كل قناع، متخبطاً في الكذب والمغالطات، ولولا صمودنا العنيد ومقاومتنا الباسلة ووحدتنا المتزايدة لما انتبهت شعوب العالم الى جدية قضيتنا وارتباط مصيرنا بمصير هذه الشعوب.
انها معركتنا لان فيها كل الخير والخصب لحياتنا وحياة الانسانية، فكل يوم يطيل اجلها ويوسع رقعتها يوقظ قوى الخير والرجولة في امتنا، ويزيد في عدد المناضلين المؤمنين بالحرية والحياة الكريمة ويحد من عدد الفاسدين والعابثين ويحصر الخونة المتآمرين ويسلط عليهم الضوء لكشفهم واستئصالهم. ان كل توسيع للمعركة في الزمان والمكان يتيح الفرصة لظهور امكانيات شعبنا ولزيادة ثقته بنفسه ووعيه لمصيره ومعرفته لقوته وقوة الشعوب التي تصادقه وتؤيده، بينما يفضح ضعف الاستعمار وفقره وينقص من عدده ومن ثقته بنفسه، ويحرمه حتى مناصرة شعوبه.
انها معركتنا ولن نتخلى عنها لانها فرصتنا للحياة الجدية، فلأول مرة منذ قرون نستنشق هواء نظيفا منعشا حتى من خلال التآمر والفساد. ونشعر بالحرية اقوى شعور حتى في جو الارهاب والتعذيب، لأن المعركة جعلت التآمر والفساد شيئاً غريباً مستنكراً منفصلاً عن حياة الشعب بعد ان كان متداخلاً فيها ومألوفاً لديها، ولأن المعركة أوصلت الارهاب والطغيان في بعض اجزاء وطننا الى اقصى درجاتهما نتيجة لتنبه الشعب ووضوح قضيته مما يؤذن بزوالهما السريع. وفي هذا الوقت الذي يبلغ فيه نضال الشعب العربي في مصر والجزائر وغيرهما حداً يثير اعجاب العالم، تبلغ الخيانة بحكام بعض الاقطار العربية حداً ندر أن عرف مثله التاريخ، وليس في هذا الا ما يقوي ايمان العرب وبزيد في استبشارهم في الخلاص القريب لأنه مقياس لتلك القفزة التي حققوها في مجال الوعي والصلابة والجدية. ان نوري السعيد وزملاءه وامثاله لم يكونوا في السابق من المخلصين لوطنهم، ولكنهم لم يحرجوا ويتدهوروا الى هذا الدرك من الخيانة والتآمر المفضوح على الامة العربية الا بعد ظهور جمال عبد الناصر وسيره في سياسته النضالية الحاسمة التي اكتسبت اليها مجموع الشعب العربي، فاضطر الحكام المتعاونون مع الاستعمار ان يعوضوا عن خسارتهم الكاملة للشعب بمزيد من الارهاب والخيانة. وكان تحرر الشعب العربي من امراض سياسة المهادنة والمساومة وانصاف الحلول ينتج بصورة حتمية تجمع هذه الامراض وتكثفها واستفحالها في ذلك العدد القليل المنبوذ من الذين باعوا انفسهم للاجنبي وامسوا بعزلتهم وقلتهم وافتضاح امرهم برهانا على سير الامة نحو الصحة والشفاء.
ان الشعب العربي بكامله يعرف ان المعركة ما زالت في بدايتها وان الذين يتجاهلون ذلك او ينكرونه ليسوا الا دعاة للهزيمة وعملاء في خدمة الاجنبي يحاولون ان يخدروا يقظة الشعب ويعرقلوا تهيئته واعداده، لأنهم راهنوا على انتصار الاجنبي المعتدي الغاصب وعلى انكسار امتهم وانهيارها. والشعب العربي يعرف ان اولى ثمرات هذه المعركة انه سيقضي على هذا النوع الانهزامي المتآمر ليسلم كيانه القومي من كل مرض ولتتمكن الامة العربية من اظهار جميع قواها وكفاءاتها في هذا النزاع الفاصل الذي يتقرر فيه مستقبلها ومستقبل القوى التقدمية في العالم.
23 تشرين الثاني 1956
المصير العظيم والأعمال اليومية
ان العام الذي خلا (1) والأشهر الأخيرة منه بصورة خاصة، كانت أشهرا مليئة بالاحداث وبالعمل، وقد عاش العرب في هذه الآونة الاخيرة أياما تاريخية احسوا فيها بوجودهم احساسا عميقا، كما احسوا بالاخطار الجدية التي تهدد هذا الوجود. لقد برزت الامة العربية في الآونة الاخيرة على المسرح العالمي كقوة فتية جديدة مبدعة، اضطر العالم ان يحسب لها حسابا، وقسم من العالم استبشر بميلاد هذه القوة الجديدة المبدعة، وقسم آخر تشاءم وذعر وأخذ يعد العدة للتآمر والكيد. فنحن اذن امام أصدقاء وامام اعداء، وبالدرجة الاولى نحن أمام انفسنا، قبل ان ننظر الى الاصدقاء او الى الاعداء. فاذا كان ثمة دواع كثيرة لان نتفاءل بما حققناه في السنوات الاخيرة من تقدم ملموس في الوعي وفي النضال، فانه يوجد ايضا ما يدعو الى القلق والخوف والحذر من شتى النواقص التي ما تزال تنتاب كياننا القومي، من عديد من الامراض الاجتماعية التي ما تزال تنخر في جسمنا القومي، من الثغرات العديدة التي هي وحدها المنفذ للخطر والاستعمار الخارجي. وكما ان الاستعمار وأعداء العرب تنبهوا ليقظة العرب وتقدمهم، فاخذوا يعدون لها مستوى أعلى من التآمر، ووسائلهم -كما تعرفون– كثيرة وخبيثة، فواجب العرب ان يرتفعوا بمستوى وعيهم ونضالهم وواجب الشباب بصورة خاصة ان يستمدوا من طموح الشباب دافعا للتجدد المستمر لكي لا يقنعوا بما ألفوه واعتادوه، ولكي يطلبوا دوما المزيد والوصول الى الكمال.
اليوم نفتح أعيننا على حقيقة رائعة، وهي اننا بدأنا نشعر بوجودنا فعلا، وبدأنا ننظر مستقبلنا واضحا بينا مشرقا، وبدأنا نتلمس رسالتنا في الحياة، وهذا يخلق فينا قوى جديدة واندفاعا اكبر، ولكن هذا الشيء هو نفسه يشكل خطرا علينا ما دام في العالم قوى فاسدة تخشى الخير وتخشى التقدم، وتعتبر حياتها رهنا بتأخر الشعوب الأخرى، وبعبودية الشعوب الأخرى. فاذن في نفس الوقت الذي اهتدينا فيه الى الطريق وشعرنا فيه بالقوة، تتعاظم الاخطار حولنا، من كل جانب، وتزدحم المصاعب والأشواك في طريق مستقبلنا.. وهذا يرتب عليكم بصورة خاصة ان تعيدوا النظر لا في تفكيركم فحسب، وانما في احساسكم ايضا، في شعوركم بالحياة، في نفسيتكم، وان تتجاوبوا حق التجاوب مع هذه الانتفاضة الجديدة، وان لا تكتفوا بترديد الافكار والألفاظ، بل يجب ان تمتحنوها دوما لتروا اذا كانت مليئة بالحياة ام فارغة وسطحية.
الشعب البسيط الذي وجهتم اليه انتم وأمثالكم من شباب العرب في كل قطر هذه الشعارات والافكار، دخلت الى نفوسه وأخصبت وأينعت حتى أثمرت البطولات التي شاهدتموها. وجدير بالشباب اذن، بالشباب الواعي المؤمن ألا يتخلف عن الشعب البسيط. وهذا الشباب هو الذي ندب نفسه لتربية الشعب، ولكي يكون طليعته وقائده الى المصير العظيم. والمصير العظيم -ايها الاخوان- يتكون من الأعمال البسيطة والصغيرة، يتكون من سلوكنا اليومي. المصير العظيم للفرد وللامة، لا يهبط فجأة من السماء، وانما هو نتيجة لأعمال صغيرة يومية تتراكم وتختمر وتوصل الى نتيجتها، وعندها يظهر المصير.
فاذا لم تعملوا يوميا وتكونوا مستلمين مراكزكم وقواعدكم في النضال، في النضال المنظم، فان الفرصة تأتي -وما أكثر الفرص للبطولات- وتفوتونها لأنكم أهملتم الإعداد واستخففتم بالأعمال اليومية، وهذا ما يحسن بكم ان تذكروه في بدء هذا العام. فالعمل الحزبي مهمته ان يهيئ بصمت وصبر واستمرار لتلك الايام النادرة التي تتاح للأمة لكي تؤدي فيها امتحانا، ولكي تظهر فيها ما اختزنته في ايامها العادية بفضل صبرها ونشاطها وتجردها.
هذا ما أحببت ان اقوله لكم: كلمة هي مقدمة لاجتماعاتنا المقبلة في هذا العام، وكم من مرة قلت لكم بانني احب ان اجتمع بكم وأن أتحدث اليكم، ولكن في نفس الوقت اشعر بالقلق من الكلام ومن الحديث خوفا من شل رجولتكم وحيويتكم، خوفا من ان تكتفوا بأن تكونوا مستمعين في الحياة بدلا من ان تكونوا فاعلين وان تقوموا بدوركم البطولي، فالكلام سهل، والسماع -سماع الكلام- أسهل، واذا لم يكن الكلام وسماع الكلام تمهيدا للعمل.. لعمل جدي، فانه ضياع للوقت وخداع، والسلام عليكم.
(1) حديث القي في بدء السنة الدراسية بتاريخ 11 كانون الأول 1956
تحرر العرب ووحدتهم ضمان حيادهم
الامة العربية في مرحلة ثورة وانقلاب، هذا ما نكرره منذ تأسيس حزبنا، ولم يكن يتجاوب مع هذا القول الا قلة واعية من ابناء امتنا، وها نحن اليوم نرى ملايين الشعب العربي تتجاوب مع هذه الحقيقة، ونرى شعوباً ودولاً في العالم انتهت اخيراً الى فهم حقيقة العرب وطبيعة المرحلة التي يجتازونها، لكن دول الغرب تصر وحدها على التجاهل. ولئن بدا لنا طبيعياً أن تكون دولتا الاستعمار بريطانيا وفرنسا عاجزتين عن ان تتحررا من اوضاعهما وعقليتهما المتخلفة المتحجرة وان تفهما بالتالي شرعية مطالب العرب واهدافهم القومية، فاننا لا نستطيع الا ان نستغرب بعض الشيء موقف الولايات المتحدة منا، ذلك الموقف المتردد المتناقض الذي ان اقدم خطوة في طريق تأييد الحرية والعدالة فكأنه يندم عليها فيتبعها بخطوة اخرى تسترد ما اعطى وتهدم ما بنى. هذا هو شعور العرب تجاه سياسة الولايات المتحدة في الازمة الاخيرة عندما استغلت قرار هيئة الامم المتحدة بوجوب انسحاب القوات المعتدية من مصر لمحاولة تسوية نهائية لقضية فلسطين، ثم عندما أعلنت دعمها وتأييدها لحلف بغداد، في هذا الوقت بالذات الذي انكشفت فيه للعرب قاطبة أغراض هذا الحلف الاستعمارية التي تهدد استقلالهم ووحدتهم في الصميم.
ولعل ما ترمي اليه السياسة الاميركية من وراء فرض الصلح بين العرب واسرائيل ودعم حلف بغداد الذي يوشك على الانهيار هو ابعاد النفوذ السوفياتي عن البلاد العربية ومنطقة الشرق الاوسط. لكن هذا منطق قديم بال كنا نظن ان احداث السنوات الاخيرة كانت كافية لاقناع الولايات المتحدة بالتخلي عنه أُسوة بكثير من شعوب العالم ودوله التي غيرت نظرتها الى القضية العربية تغييراً اساسياً. فلم يعد معقولا في هذا الوقت ان تستمر الدول الاجنبية في اعتبار البلاد العربية مجرد ارض فيها ثروات ومواقع استراتيجية، وانه يمكن ان يقرر مصيرها من بعيد وعلى ضوء الصراع والتنافس بين الدول الكبرى، دون ان يُحسب للشعب العربي وأمانيه المشروعة ونضاله المتصل في سبيل التحرر والوحدة والقومية والتقدم الاجتماعي، أي حساب. لقد أيدتنا الولايات المتحدة في استنكار المؤامرة الاستعمارية المبيتة والعدوان البريطاني الفرنسي الاسرائيلي على مصر، وساهمت مع أعضاء هيئة الامم المتحدة في دفع هذا العدوان، ولكنها في استمرارها في مناصرة اسرائيل ودعم حلف بغداد كأنها تقول يجب ان يبقى العرب مجزئين متباعدين متنافرين، وان تظل بلادهم مجالاً اقتصادياً لغزو اسرائيل وسوقاً استهلاكية لبضائع الغرب، ومواقع استراتيجية لبريطانيا وفرنسا، وان تبقى بالتالي بلادهم مرتعاً للفساد والخيانة، وأن يمد في أجل الطبقة الفاسدة المفسِدة التي تلتقي مصالحها مع بقاء اسرائيل وبقاء حلف بغداد. ومعنى ذلك كله ان الشعب العربي سيظل يشعر بالكبت والاكراه والظلم وبالتدخل الاجنبي الذي يحول بينه وبين نزوعه المشروع الى حياة حرة راقية نظيفة. وفي هذا ما يشجعه على مديد الصداقة والتعاون الى الشعوب التي تظهر تفهماً لقضاياه، ومناصرة فعالة له، مهما تكن الفروق المذهبية والعقائدية بينه وبين هذه الشعوب كبيرة. ان الذي يبعد النفوذ السوفياتي عن البلاد العربية هو ابتعاد الاستعمار وجلاؤه التام عنها، وهو بالتالي مواصلة الامة العربية تحقيق اهدافها القومية وتمتعها بحريتها ووحدتها الكاملتين وبناؤها لنهضتها على اسس مستقلة حتى تكون قادرة على رفض التبعية لاية جهة كانت.
على هذا الاساس آمن العرب بسياسة الحياد الايجابي، وهم اليوم حريصون عليها اكثر من اي وقت مضى. وبالرغم من ان الامة العربية بحكم طبيعة المرحلة الثورية التي تجتازها تشعر بتجاوب اكبر وصلة أوثق مع الشعوب الثائرة التي تبني حياتها وتنظم مجتمعها الجديد، فانها ترفض سياسة المعسكرات وتأبى أن ترى الخير كله في الانظمة الجديدة والشر كله في الطرف الاخر، وترى في الابتعاد عن الانحياز الى أحد الطرفين ضمانة لحريتها ومساعداً لها على بلوغ طريقها المستقل، وهي في هذا تمشي جنباً الى جنب مع اكثر الشعوب الآسيوية التي عانت تجربة مماثلة لتجربتها. ولو خير العرب بين أن يحققوا أهدافهم في الحرية والوحدة والنهضة بأسرع وقت ممكن بفضل انحيازهم الى المعسكر الشرقي، وبين أن يتابعوا ثورتهم باسلوبهم المستقل المستلهم من ظروفهم وحاجاتهم ونظرتهم الى الحياة والانسان، ولو كلفهم ذلك تأخير تحقيق هذه الاهداف بضع سنين او اكثر، لفضلوا الطريق الطويلة مقابل حرصهم على على بعض القيم الاساسية، وهل ان تكون ثورتهم ثورة في العمق تتوافر لها أسباب النضج وتمتزج في اخلاق الفرد وتربيته، فثمة حدود لاندفاعنا الثوري نحو التحرر والتقدم يقف عندها هذا الاندفاع، وهي تقديس إنسانية الانسان والحرص على ان لا يتشوه الانسان الذي هو غاية كل تحرر وتقدم، ولكن هذا لا يعني اننا نستطيع السكوت والصبر على الاستعمار الذي لا يكتفي بتشويه انسانيتنا بل يهددها بالقتل والاماتة، ولا يقتصر افساده على الافراد بل يهدد بقاءنا كأمة. فثورتنا رغم التحفظ الذي اوردناه تبقى ثورة اي تعجيلاً واختصاراً للزمن، فنحن رغم كل شيء مستعجلون لتحررنا ووحدتنا وتقدمنا، واذا احرجتنا الظروف والاحداث، فقد نتساهل في اسلوب الثورة، ولكننا لن نتساهل في ضرورة الثورة، ولن نستعيض عنها بما يسميه الاستعمار ودول الغرب التطور والذي ليس هو في الحقيقة الا تاخراً وموتاً.
لقد سجلت سياسة الولايات المتحدة تجاه القضية العربية في الازمة الاخيرة تحسناً رحّب به العرب، ولكنه ترحيب ممزوج بالمخاوف والاسف لأننا ما زلنا نلمس تقصير هذه السياسة عن مستوى التفهم الواقعي لقضيتنا. قد لا يكون في مقدور العرب اليوم تصفية اسرائيل، ولكنهم لن يرضوا ان يتحول الاغتصاب، بالصلح الذي تريده اميركا، الى وضع شرعي. والعرب لا ينوون ان يحولوا بلادهم الى قاعدة موجهة ضد اميركا أو أية دولة اخرى، ولكنهم لن يسكتوا عن احلاف الغرب الاستعمارية في بلادهم، وهم لا يفهمون من دعم حكومة رجعية خائنة كحكومة نوري السعيد إلا خطة مبيتة لطعن حريتهم وعرقلة تقدمهم وايجاد توازن في داخل وطنهم الواحد بين قوى التقدم والرجعية والوطنية والخيانة للمد في أجَل الاستعمار، ولابقاء شعبنا وبلادنا اداة للتسخير والاستغلال.
7 كانون الاول 1956
القومية العربية والنظرية القومية
ان اصطلاح “القومية العربية” في استعماله الشائع اليوم، هو خليط من افكار واتجاهات سياسية وعواطف، ومن رواسب وانحرافات سلبية وايجابية جعلته بعيدا عن المعنى الصادق الخلاق الذي يوحي به، بحيث نرى القومية تارة مرادفة للتعصب والتوسع، وتارة اخرى مقيدة في اغلال من العنصر او الدين او التاريخ، او مساوية للوحدة ورفض التجزئة او لوحدة النضال الشعبي مع ان هذه المعاني كلها، السلبية والايجابية، عارضة متبدلة جزئية، والقومية هي وحدها الخالدة الثابتة الشاملة.
ان القومية العربية لدى البعث، هي واقع بديهي يفرض نفسه، دون حاجة الى نقاش او نضال، اما مجال الاختلاف وضرورة النضال فهما في محتوى هذه القومية، هذا المحتوى المتطور الذي يحتاج في كل مرحلة من مراحله الى نظرية قومية تلائمه. ولهذا لا موجب لأن نناقش في اننا عرب ام لا، ولكن يجب ان نختار وان نحدد مضمون العروبة في المرحلة الحاضرة: أتكون رجعية ام تقدمية؟ أتستقيم مع الاستعمار والاستبداد ام شرطها الحرية؟ وهل تبقى مع التجزئة ام ان الوحدة شرط اساسي لها؟
ولذلك فرق الحزب منذ تأسيسه بين “الفكرة العربية” وعنينا بها القومية العربية، وبين “النظرية القومية”، فقال ان الفكرة العربية هي بديهية خالدة، وهي قدر محبب، وانها حب قبل كل شيء، اما النظرية القومية فهي التعبير المتطور عن هذه الفكرة الخالدة حسب الزمان والظروف، وان هذه النظرية تتمثل اليوم -حسب اعتقادنا- في الحرية والاشتراكية والوحدة. وبهذا التفريق تتسع القومية العربية لكل هذا الواقع الغني الممتد عبر عصور التاريخ في جميع اقطارنا، فهي تحتضن هذا التاريخ وتتغذى به، وتؤلف من عناصره المختلفة تجربة واحدة موحدة. فهي بذلك الصفة المشتركة التي تجمع عناصر وحقبا تاريخية متعددة تشملها جميعا، ولا تصطدم بأي منها.
ولذلك نقول ان القومية العربية هي قومية وعربية، قومية بمعنى ان فيها الشروط الابتدائية لكل قومية، عربية بمعنى ان فيها التطور الخاص بالامة العربية عبر مختلف العناصر والحضارات والازمنة. وان الصفة العربية المشتركة التي وحدت بين هذه العناصر جميعا هي التي استمرت دون انقطاع، وكانت اللغة العربية ابرز عنوان لهذا الاستمرار بما تتضمنه اللغة عادة من وحدة في التفكير وفي المبادئ والمثل.
وبهذا المعنى فقط، يأخذ التاريخ قيمة في قوميتنا، تاريخنا بالدرجة الاولى، والتاريخ العام بالدرجة الثانية، فنحن لا ندخل التاريخ في قوميتنا ليكون صورة وقدوة بل لانه التربة الحية التي نما فيها وعينا وتصحح وتكامل، حتى بلغ هذه المرحلة الحاضرة التي نعبر فيها عن قوميتنا الايجابية بكليتها، والتي لا مكان فيها للتمييز او التفوق او السيطرة او العزلة.
وليس المهم ان تكون شتى المعاني السلبية والايجابية، كالعنصر والدين والتراث التاريخي، قد أسهمت، في الماضي، في صنع هذه القومية وتداخلت فيها. ولكن المهم هو المعنى الذي نستخرجه من ذلك في مرحلتنا الحاضرة، مرحلة انبعاث وخلق المستقبل العربي، المهم ان نعرف ان هذه القومية -التي وصفناها بالخلود وبأنها تفترق عن المضامين المختلفة التي تعبر بها عن نفسها خلال الزمن وبالتفاعل مع الحوادث والظروف- لا يعني الخلود فيها جمودا، وانما يعني ثباتا واستمرارا للحد الادنى من المقومات تبنى عليها وتنسج حولها تعبيرات متنوعة متجددة، فهي خلق دائم، ولكنها ليست خلقا مجردا ولا خلقا من العدم، بل نابتا من التجارب الحية، لان هذا هو الذي يعطيه قوته ويضمن استمرار حيوته وتكامله. ولذلك فنحن نعتبر ان التجربة الحاضرة للامة العربية هي القيمة الأولى والكبرى لهذه القومية، لأنها أغنى وأثمن من جميع المراحل التي عاشتها أمتنا في الماضي وبالتالي فان مجال التجدد والخلق مفتوح أمامها الآن بكل اتساعه، لتعطي لقوميتها المعاني الحرة الاصيلة التي توحي بها تجربتها الحاضرة بكل عمقها وعنفها، وتخلع بالتالي على تجاربها الماضية معنى جديدا. فهي بهذا المعنى تخلق المستقبل وتخلق الماضي نفسه، وهي بالتالي -أي هذه التجربة- تترك في الصف الثاني اكثر المعاني السلبية او الايجابية التي تدخل عادة في بناء القومية، وترفعنا فوق النظرة التاريخية، كما تجنبنا النظرة الاممية المجردة.
فالعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم عنصرية، وارادتهم هذه نابعة من تجربتهم، فقد جربوا ما معنى العنصرية، وجربوا ما معنى الظلم.
والعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم دينية، لان الدين له مجال آخر وليس هو الرابط للأمة، بل هو على العكس قد يفرق بين القوم الواحد، وقد يورث -حتى ولو لم يكن هناك فروق اساسية بين الاديان- نظرة متعصبة وغير واقعية.
والعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم تاريخية. ان القومية العربية لا تنفي التراث التاريخي غير العربي، أي هي لا تتعارض معه، فالامة العربية اليوم وارثة لتراث حضاري غني وواسع، يشمل شتى الحضارات التي دخلتها وتفاعلت معها، من مصرية وآشورية وبابلية وفينيقية وغير ذلك. فالقول بالقومية العربية لا يعني مطلقا ان نتنكر لتراث الفراعنة مثلا أو نتبرأ منه، فهذا فهم سطحي ومضلل جدا، وكذلك فان القومية العربية لا تعني الانغلاق امام الحضارة الإنسانية، بل هي، على العكس، في تفاعل مستمر معها.
على أن قوميتنا، برغم هذه المرونة وهذا الشمول، تبقى قومية ذات شخصية، فهي لكي تستوعب التراث القديم العديد المتنوع، ولكي تتفاعل مع الحضارة الإنسانية، يجب ان تكون لها شخصية. فنحن نسمي عربا هذه المجموعة من البشر التي استلمت من الماضي تلك المقومات والشروط الابتدائية والضرورية للشعور المشترك، وللمصلحة المشتركة، لا لتقف عند هذا الحد، بل كنقطة انطلاق تبدأ منها حياة جديدة تملؤها بكل المثل الانسانية التي توحي بها او تدفع اليها تجربتها الحاضرة.
والقومية بمفهومها الحديث هي التي -بمنعها القفز الى عالمية مائعة ومجردة- تقي من الانتكاس والرجوع الى العصبيات الصغيرة، فهي اذن تحفظ شخصية الإنسان من التميع ومن التضاؤل. ان مفهوما للماركسية يدعو الى العالمية ويعتبر القومية انتكاسا، مع أنها في الواقع حركة تقدمية، لأنها حررت الإنسان من العصبيات الصغيرة وارتفعت به الى روابط اوسع، لها من نضجها ومن قيامها على اسس انسانية ما يجعلها خيرا من ان تهدم القومية لتدفع الانسان الى العالمية دفعا مصطنعا وسطحيا، فيصبح ضائعا في هذا العالم، ويحتاج الى قوة تجريد جبارة ليحفظ على نفسه ايمانها بصفة “المواطن العالمي” هذه، وهو وضع سيعود بالإنسان حتما الى نوع من العصبيات الصغيرة.
ان القومية في مفهومنا، هي محررة من خطر الانغماس والاستسلام لعوامل البيئة والظروف الاجتماعية المحلية، ومحررة ايضا من خطر الانقلاب من جو الحياة بكاملها، ومن الوقوع في التجريد، ذلك ان في القومية الحد المعقول من التجريد الذي يجعل المصري والسوري واليمني عربا، وهذا لا يمنع ان يشعر العربي بأنه إنسان، وبأن له رسالة مشتركة مع بقية البشر، ولكن ضمن كونه عربيا، فصلته بالآخرين وتعاونه معهم انما يتمان من خلال شخصيته العربية.
واخيرا، فان قوميتنا لا تزول باردتنا، ولكنها في الوقت نفسه لا تستمر ولا تتحقق تحققا كاملا بدون هذه الارادة، أي ان فيها امكانيات التفسخ والتناثر، كما أن فيها امكانيات الوحدة والانسجام والنضج. فالقومية العربية ليست مرحلة نضال مشترك، او شعارا لهذه المرحلة تنتهي بانتهاء النضال او بانتهاء دواعيه، ليعود كل قطر بعد ذلك الى شخصيته الخاصة. ان البعض ينظر الى نجاح النضال كنهاية للقومية العربية ولمبررات وجودها، اما نحن فنجد نهايتها في فشل هذا النضال، اذا كانت لها نهاية، والاصح ان نقول: ان في هذا الفشل انتكاسا وتقهقرا لها، وما دمنا نؤمن بأن الاقطار العربية هي في حالة ثورة وتقدم وتفتح، فنضالها متزايد، ووضوح شخصيتها العربية الموحدة متزايد ايضا بنسبة نجاح نضالها. ان النضال المشترك هو اليوم في الواقع الشعار للقومية العربية المتفتحة المنبعثة من جديد، فهي التي خلقت هذا النضال، وهي التي تغذيه.
القاهرة، عام 1957
الشعب العربي الواحد
الشعب العربي الواحد
كان الأستاذ ميشيل عفلق قد اجتمع في القاهرة سنة 1957 بعدد كبير من الطلبة والمثقفين العرب، بينهم القوميون والماركسيون وغيرهم وقد عكس هذا الاجتماع التيارات الفكرية والسياسية التي كانت تشغل أذهان المثقفين العرب في تلك الفترة المضطربة والمحفوفة بالاخطار، والتي كانت في الوقت نفسه، تمثل اعلى درجات الوعي العربي الجماهيري والمد الشعبي التحرري الواسع ضد الاستعمار كما عكس ذلك الاجتماع. بصورة خاصة، تطلع المثقفين من ابناء القطر المصري لتفهم القومية العربية وشعاراتها التي كانوا يواجهونها لاول مرة بشكل عقيدة لها منطق ولها فلسفة سيما وهم يعيشون مرحلة ثورية ونضالية ضخمة اثناء معركة تاميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر لمسوا من خلالها اهمية هذه الافكار، حتى قبل ان يستوعبوها بشكل علمي.
لذلك اراد الاستاذ ميشيل ان ياخذ الحديث في ذلك الاجتماع طابع الحوار، فيستمع الى تساؤلاتهم ومن ثم يوضح لهم رأي الحزب فيها فكان هذا الحديث الشامل
سؤال: ما رأيكم فيما يقوله البعض من ان القومية ليست الا شعار النضال العربي المشترك؟
الواقع الذي لا ينكر ان القومية العربية قد استفادت كثيرا من النضال العربي المشترك ضد الاستعمار، ولكن ليس معنى هذا ان القومية هي شعار هذا النضال المشترك، بل الاصح ان يقال ان النضال ضد الاستعمار هو احد شعارات القومية العربية في المرحلة الحاضرة. وذلك لان هذه القومية كانت ابدا موجودة، وان اختلفت وضوحا وضعفا، وكانت ابدا تتمتع بالحد الادنى من المقومات الضرورية التي كونتها اللغة والدين والتراث، وهي الآن ترتفع فوق هذه المقومات جميعا لتزداد حياة وانسانية.
سؤال: ما رأيكم في قول البعض بان العالم صائر يوما الى وحدة واحدة، تندمج فيها القوميات وتنصهر في بوتقة واحدة؟
ان هذه الوحدة قد تتم، وفي ظروف قد لا تكون بعيدة، اذا قصد بها ان تكون تنظيما دوليا او مجرد شكل للحكم. ولكن هذا التنظيم لا يكون حيا ولا يمكن ان يستمر اذا قصد به ان يؤلف شخصية واحدة تمحو الشخصيات القومية، بدلا من ان تكون تنسيقا لها يزيدها تفاعلا وغنى. ولذلك نقول ان القومية باقية خالدة، تظل ذات شخصية حية ومقومات، ولو ان هذه المقومات كما حدث في الماضي، يمكن دائما ان تتطور كما يمكن ان تتبدل وتتشتت ولكنها على اية حال تظل باقية لا تزول.
والواقع ان من الخطأ وضع القومية والانسانية كمراحل ترتيب زمني. ان الانسانية موجودة وجود القومية، وهي الآن تزداد غنى بتيسر وسائل الاتصال بين البشر، ولكنها لا تذيب القوميات في وحدة تأتي بعدها، بل تغنيها بتفاعلها المستمر، فبدلا من ان نقول ان عهد القوميات سائر الى الزوال ليفسح المجال امام عهد الانسانية، يصح ان نقول اننا قد بدأنا فعلا في عهد “القوميات الانسانية”، الذي تصبح فيه القومية انسانية بتخلصها من تعصبها وانكماشها وعواملها السلبية الأخرى.
سؤال: لماذا يصر حزب البعث على القول “بشعب عربى واحد” ويتجنب دوما استعمال عبارة “الشعوب العربية”؟
من الخطأ الظن بان هذه المجموعات من الناس التي تعيش ما بين المحيط الاطلسي والخليج العربي والتي يجمعها الشعور بوحدة المصير، هي شعوب لكل منها المقومات التي تميزه بقومية خاصة، الا اذا اخذت كلمة “الشعب” في اصلها اللغوي الذي يعطيها معنى الفرع في جسم الامة، بمعنى ان له بعض المميزات المحلية التي يفرضها تنوع الأقاليم والبيئات والظروف في اطار الوحدة العامة. واذ ذاك نقول الشعب المصري والشعب السوري بما يقارب المعنى الذي نقول به شعب الاسكندرية وشعب اسيوط، اما اذا قصدنا بالشعب معناه القومي الكامل فكل هذه المجموعات اجزاء في شعب واحد هو الشعب العربي.
وان اكثر الاقطار التي تؤلف الوطن العربي اليوم كانت حتى قبل الفتح العربي، وبرغم الطابع المحلي لكل منها، تؤلف شخصية حضارية واحدة تتغذى بالتيارات الحضارية التي تمر بها، فتغتني بها دون ان تفقد مقومات هذه الشخصية. وقد كانت مهمة الفتح العربي ان زاد شخصيتها هذه قوة ووحدة فظلت حية مستمرة حتى الان، ويكمن فيها تراث كل الحضارات التي سبقتها. ونحن لا نحارب تراث الحضارات المختلفة في قوميتنا ولا نحاول ان نحاربه، بل بالعكس يهمنا ان تغتني به عروبتنا، تماما كما يهمنا ان نتفاعل الان مع حضارات الشعوب الاخرى في العالم.
ولو صح ان كل مرحلة حضارية مرت في بلادنا يجب ان تبعث وان يعترف لها بقومية خاصة لتعددت هذه “القوميات” في كل قطر من اقطارنا، لا في مجموعة هذه الاقطار فحسب. مع ان الواقع ان كلا من هذه الحضارات الفرعونية او الآشورية او الفينيقية قد أدت مهمتها التاريخية في حينها، وما ظل من تراثها له القدرة على الاستمرار فقد ساهم في اغناء القومية العربية واصبح جزءا من مقوماتها.
سؤال: ما هو موقفكم من الفئات التي اخذت اخيرا ترفع شعارات القومية العربية؟
ان تبنّي مختلف الفئات للشعارات العربية التي ينادي بها البعث لدليل على قوة العقيدة القومية، اذ بعد ان كانت تهاجم ويشكك فيها، اثبتت الاحداث عمق تجاوبها مع الشعب العربي، وفرضت نفسها حتى على اولئك الذين لا يؤمنون بها كشيء ثابت ونهائي، وان كانوا يقرونها الان. وهذا بالطبع كسب يجب ان يلقي منا التشجيع وان يزيدنا ثقة بسلامة عقيدتنا.
على ان نجاح الفكرة القومية وانتشارها هذين لا يعفيان معتنقيها الاصليين من متابعة العمل والنضال لزيادتها توضيحا وتعميقا وترسيخا، لانهم بصورة طبيعية اقدر على ذلك من الجماعات الاخرى. فهذا الفارق بين حمل الفكرة يوم كان حملها ثورة على الواقع وتحديا له، وبين تبني الفكرة نفسها بعد ان راجت وتم نجاحها، لا بد ان تكون له آثار عملية في المرحلة الحاضرة بالذات وفي المستقبل، حتى عندما نسلم بصدق مقاصد الذين اخذوا يتبنونها، لما يعتور هذا التبني من سطحية وأخطاء.
فنحن اذن نرحب بان ترفع الفئات الاخرى شعاراتنا ولكن على حذر وتحفظ، يضمنان ان تحتفظ الفكرة القومية باصالتها وبكل طاقتها الثورية. اذ لو اكتفى الناس بتبني نتائج الثورة دون ان يصعدوا الى اسبابها ومقدماتها واسسها، لكانت معرضة دوما للانتكاس او للتخلي عنها في حال تبدل الظروف. فما نقصده بالحذر والتحفظ انما هو الاصرار والالحاح، في المجال الفكري العقائدي، على ربط النتائج بالمقدمات لنرتفع بالشعارات القومية العربية من مستوى الاستهلاك السياسي الى مستوى القناعة.
سؤال: ما هي علاقة الوحدة العربية بالقومية العربية ؟
ان الوحدة العربية ليست هي القومية العربية كما يشعر بذلك التعبير المتداول الان، بل هي جزء من محتوى هذه القومية في مرحلة من المراحل، فالنظرية القومية للفكرة العربية في هذه المرحلة تقوم على تحقيق الاهداف الثورية الثلاثة: الحرية والوحدة والاشتراكية. النظرية القومية تنشأ في مرحلة لتحقق اشياء مفقودة في حياة الأمة العربية في هذه المرحلة، اما القومية العربية نفسها فهي ابدا موجودة قائمة.. ووجودها هو الذي يسمح بتحقيق الحرية والاشتراكية والوحدة.
ولقد كانت الوحدة مطلبا للامة العربية منذ ان طرأت عليها التجزئة، فالبعث لم يخلق مطلب او هدف الوحدة ولكنه اعطاه مفهوما جديدا جعله قابلا للتحقيق. فالوحدة في نظر البعث فكرة ثورية وعمل ثوري، خلافا للمفهوم الذي كان سائدا والذي لم تزل آثاره ممتدة الى اليوم والذي يعني مجرد الجمع والربط بين اجزاء الوطن العربي، اما المفهوم الثوري فيعني خلق التفكير والنضال المناقضين لحالة التجزئة ولما اورثته واصطنعته التجزئة من عقلية وعواطف ومصالح واوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية داخل كل قطر من اقطار الأمة.
وهكذا تتصل الوحدة، بمفهومها الثوري، بالهدفين الثوريين الآخرين: الحرية والاشتراكية، وتتفاعل معهما وتغذيهما وتتغذى منهما. وهكذا تدخل الوحدة لاول مرة منذ اجيال في صميم حياة الشعب العربي وفي صميم نضاله من اجل حريته واستقلاله ومن اجل حقوقه السياسية وقوته اليومي والشروط الاقتصادية والاجتماعية المحققة لكرامته الانسانية ولمهمته القومية.
فالوحدة العربية هي وحدة الشعب العربي، والنضال في سبيلها نضال شعبي، وصورتها المقبلة تولد وتتحد بما يحمل نضال الجماهير العربية من تجارب ومعان تحررية انسانية.
سؤال: ما اثر الوحدة في الخصائص الاقليمية لكل قطر عربي؟
الوحدة ثورة تأتي لتزيل التشويه وتغير الواقع وتكشف عن الاعماق وتطلق القوى الحبيسة والنظرة السليمة. والخصائص الاقليمية منها السليم ومنها الزائف السلبي الذي ليس هو الا نتيجة انعدام الوحدة. فليس كل شيء في واقعنا جديرا بالبقاء لمجرد انه موجود. اما السليم الايجابي فهو الذي يغني الوحدة ويأتلف معها بل هو شرط لوجودها. والغريب ان تعطى الوحدة العالمية من الحقوق ما ينكر على الوحدة القومية. فالوحدة العالمية هي ايضا تفترض التخلص من الخصائص السلبية الزائفة بعملية تقريب وتوحيد وتوجيه، كما انها تتسع للخصائص السليمة وتغنى بها. والاغرب من كل شيء ان نسمع استنكارا للعمومية ممن اوصلوا العمومية الى نهايتها المجردة وان نراهم يخافون على الخصائص الصغيرة وهم اتباع النظرية التي تضرب صفحا حتى عن الخصائص الضخمة الجسيمة. الا يكون هذا لكي يبقى الكيان القومي ضعيفا حتى يسهل غزوه بفكرة الاممية الطبقية، وهل يكون اذن هذا الحرص على الخصائص الصغيرة بريئا ومقصودا لذاته؟
اذن، فلا يجور ان نتصور الوحدة كعملية جمع منفعل، لانها ليست وحدة لاجزاء سليمة، ولا نتيجة لتجزئة حديثة طارئة. انها فاعلة خلاقة فيما بين الاجزاء وفي داخل كل جزء، وهي منبعثة من داخل كل جزء كضرورة حيوية لهذا الجزء نفسه، قبل ان تكون مطروحة بشكل علاقة بين الاجزاء للتعاون والتضامن. الوحدة لا تفقد الجزء شخصيته، بل تؤكدها وتعمقها وتعطيها حقيقتها واصالتها وابداعها عندما تضع الجزء في مكانة الحي كجزء من كل.
سؤال: ما موقف “البعث” من اسرائيل؟
اننا نعتبر اسرائيل قاعدة للاستعمار دون شك، فهو الذي خلقها ويدافع عنها ويغذيها لهذه الغاية، ولكن هذا لا يستنفد كل المشكلة، فالمشكلة هي هذا واكثر.
فاسرائيل هي ايضا تعبير عن قوة الصهيونية العالمية، التي تستطيع ان تسخّر الاستعمار. الاستعمار يسخّر اسرائيل، ولكن الصهيونية العالمية تستطيع ان تسخّر الاستعمار نفسه، فتوصّل العرب الى القضاء على الاستعمار يحل اضخم جزء من المشكلة ولكن لا يحلها كلها. وبالاصح، هذا التوصل الى القضاء على الاستعمار يشترط حتى يتحقق ان نحسب حسابا لقوة الصهيونية العالمية، وبالتالي فان نضالا آخر يجب ان يرافق نضالنا ضد الاستعمار، هو نضالنا ضد الصهيونية. والصهيونية العالمية بما لها من نفوذ قوي استطاعت ان تسخّر بالاضافة الى القوة الاستعمارية، الطبقات الشعبية نفسها في كثير من البلاد، مستغلة الوضع التاريخي الخاص لوجود يهود في اوروبا تعرضوا في فترات كثيرة للاضطهاد الديني والعنصري، ومستغلة المستوى الحديث الراقي لدولة اسرائيل من حيث الكفاءة الفنية، وبالتالي تخلف المجتمع العربي وطابعه الرجعي، لتجعل من اسرائيل رائدة التقدم في هذه المنطقة من العالم وتجربة جديدة لحضارة الغرب في هذا الجزء من الشرق، تجربة تستحق الرعاية والتشجيع.
ووجود اسرائيل واقع في مرحلتنا القومية الحاضرة، يجب ان ندخله في حسابنا وان نجد له الحل الكامل دون ان نتهرب من بعض المصاعب، ودون ان نتهيب رؤية العلاقة العميقة التي تصل وجود اسرائيل بمشكلاتنا القومية من جميع نواحيها، اي فيما يتعلق بأسس نظامنا الاقتصادي واتجاهنا الاجتماعي وتربيتنا السياسية ووحدتنا القومية، وان نرى بوضوح وجرأة ان كل تلكؤ في مواجهة مشاكلنا السياسية ووحدتنا القومية، بتفكير واسلوب ثوريين انقلابيين، قد لا يؤخر حل مشكلة اسرائيل فحسب، بل يسمح بتدعيم كيانها الى حد يصعب او يتعذر معه في المستقبل التخلص من هذا الخطر. فاذا عالجنا مشكلة اسرائيل على ضوء نظرتنا العربية الانقلابية، التي ترتبط فيها صورة المجتمع العربي المقبل بصورة العالم او المجتمع الدولي والانساني المقبل الذي يسهم العرب في تحقيقه، نصل الى النتيجة الآتية:
ان ما يشكل خطرا على الأمة العربية هو كيان اسرائيل كدولة، لا وجود اقلية يهودية في الوطن العربي، وان التعجيل في النضال التحرري والوحدوي وتحقيق خطوات سريعة وجدية في هذين المجالين يقطع الطريق على اطماع الاستعمار في استخدام اسرائيل، واطماع الصهيونية العالمية في استخدام الاستعمار للمحافظة على اسرائيل وتوسيعها، والتعجيل في النضال الاشتراكي العربي يضعف مخاوف الاقلية اليهودية من تعذر تعايشها السلمي العادل مع العرب، كما يزيل او يضعف سلاح الدعاية الصهيونية العالمية في استدرار عطف الشعوب الحرة والطبقات الشعبية على اسرائيل كدولة يراد لها ان تكون ملجأ لشعب مضطهد ولشعب راق متقدم قد يحمل بذور التقدم الى الاقطار المجاورة. واخيرا، فان اصرار العرب على اتجاههم الانساني في المجال الدولي، وتعاونهم مع الشعوب الاخرى في سبيل توطيد السلم والتقدم الاشتراكي لجميع الشعوب وسياسة الحياد الايجابي، كل هذا يساهم في ازالة اسباب التعصب العنصري والديني ويساهم الى حد ما في حل هذه المشكلة.
سؤال: ما هي العلاقة بين اسرائيل والاستعمار؟
لم يكن وجود الصهيونية كافيا لكي ينجح الصهيونيون في استملاك فلسطين واقامة دولة فيها. و الحركة الصهيونية في البدء لم يكن هدفها فلسطين. كانت تفتش عن اي ارض في العالم تقيم عليها وطنا قوميا يهوديا. ولكن الحركة الصهيونية من جهة ومصلحة الاستعمار من جهة… وتلاقي المصلحتين هو الذي ساعد على خلق هذه الدولة. والمفهوم بداهة بان مساعدة الدول الاستعمارية للحركة الصهيونية على تحقيق اغراضها في فلسطين يقصد منه الحيلولة دون الوحدة العربية، والحيلولة دون قوة الأمة العربية. ان استكمال هذه القوة يشكل خطرا على وجود الاستعمار. فعندما يتمكن اليهود من اقامة دولة في قلب البلاد العربية تساعدها الدول الاستعمارية باستمرار، ينشغل العرب بهذا العدو ويبذلون قسما كبيرا من جهودهم في دفع خطر هذا العدو وفي الاستعداد لمواجهة خطره، كما ان نفسيتهم وتفكيرهم يمكن ان يشغل عن الاستعمار بهذا العدو الظاهر المقيم. وتعرفون كيف ان بريطانيا نفسها كانت، واحسب انها مازالت الى اليوم والى الغد، تحاول ان تظهر بوجهين وان تلعب على الحبلين، فهي التي اوجدت اسرائيل وتدعو الى مقاومة اسرائيل وتتكلم كانها عربية قحطانية تغار على العروبة، وتتحالف مع بعض الدول العربية بحجة الدفاع ضد الخطر الاسرائيلي او بحجة التخلص من اسرائيل. فلم نكن مخطئين اذن عندما وضعنا دوما العدو الاول هو الاستعمار، واعتبرنا اسرائيل نتيجة للاستعمار وحليفة له وربيبة له، وان مصيرها مرتبط بمصيره. ولكن لا حاجة الى تنبيهكم بان هذا لا يجوز ان يؤخذ بالشكل الحرفي وان تظنوا ان اسرائيل تأتمر بالاستعمار بكل شيء، هي حليفة للاستعمار ولكنها ليست اداة بالمعنى العادي… لها كيانها، ولها خططها ولها مصالحها ولها قوتها وذكاؤها وسياستها. اذن هي احيانا تورط الدول الاستعمارية، واحيانا اخرى الدول الاستعمارية تدفعها.
اشرت الى هذا لكي ابين لكم انها تضليل الدعايات الاستعمارية، ودعايات عملاء الاستعمار والفئات الرجعية التي تتبنى منطق الاستعمار، لانها اصبحت تعي صلتها بالاستعمار وان مصلحتها رهن ببقاء الاستعمار. ففي هذه الاشهر الاخيرة فقط، اذا اكتفينا بها، كنا نرى صحفا كثيرة في هذا البلد وفي بلدان عربية اخرى مسيرة مباشرة او بصورة غير مباشرة من الاستعمار، ومن الانكليز بصورة خاصة، كلما قامت حركة شعبية، كلما قام نضال في بلاد العرب في وجه الاستعمار الغربي، قامت هذه الدعايات وهذه الفئات والاوساط تصرح بانكم نسيتم العدو الاول للعرب، اسرائيل، وان كل الانتباه يجب ان يركز عليها وان كل الجهود يجب ان تصرف لمقاومتها. وتعرفون ايضا بانهم حاولوا كثيرا ان يظهروا حلف بغداد بان مبرره الاول والاكبر انه وجد ليساعد على محو اسرائيل وعلى التخلص منها، وان بواسطته سيحصل العراق على الاسلحة، وتقوى الجيوش العربية. وكان هذا تناقضا مفضوحا، واستمروا الى الايام الاخيرة في هذه الدعاية حتى ان الاوساط الانهزامية في لبنان، وهي معروفة بجفائها لكل ما هو عربي وبعقليتها الطائفية المتعصبة، وبصلاتها المشبوهة مع دول الغرب، قد شاركت فيها. عندما نشأت ازمة قناة السويس سمعنا اصوات هذه الفئات تذوب غيرة علي فلسطين وتتوعد اسرائيل وتكثر من الكلام والكتابة عن اسرائيل وخطرها على العرب والعروبة، لكي تلهي الناس عن الخطر الحقيقي وعن موضوع الساعة.
سؤال: ما هو موقفكم من الاحلاف ومبدأ ايزنهاور؟
قبل ظهور السياسة التحررية، كان منطق السياسيين العرب في موضوع الاحلاف لا يعترض الا على عدم تسليم الغرب بمطالب العرب القومية، اي انه كان يقبل بمبدأ الاحلاف قبولا مشروطا بتحقيق الاهداف القومية. وكان هذا منطقا متناقضا متهافتا، اذ لو كانت دول الغرب مستعدة للتسليم بهذه الاهداف ولتحقيقها اي مستعدة للتنازل عن الاستعمار، لتغير الوضع العالمي تغيرا اساسيا أثر بصورة عميقة على موقف المعسكر الشرقي، ولما عاد ثمة مبرر للاحلاف.
اما نحن فنرى في هذه الاحلاف عدوانا جديدا على العرب، عدوانا مزدوجا، لانها اولا استمرار لاستعمار العرب، يثبت قبضته عليهم ويعاود احتلال ما تحرر من اقطارهم وينهب خيراتها، ويعرقل وحدتها ونهضتها. ولانها ثانيا تتحكم برأي العرب في السياسة الدولية وفي النظرة الى مستقبل العالم، اذ تدعوهم للتحالف مع الغرب ضد عدو مشترك، مع انه ليس من شيء يبرر اقتداء العرب بالغرب في النظر الى المعسكر الشرقي وان كانوا لا يقبلون الشيوعية. وهكذا ينبع رفضنا للاحلاف من نظرة اعمق واسلم واكثر ايجابية، فهو يشير دون مواربة الى ان عدونا الحقيقي هو الاستعمار، ويقضي بتركيز كل الجهود لمحاربة الاحلاف. فالاستعمار سبب الاحلاف وليس عقبة بيننا وبينها، وبصورة اخرى نقول ان الاحلاف هي الاستعمار ذاته لانها في حقيقتها لا تتوخى تحقيق شيء بعد مرحلة الاستعمار او شيء يتجاوز علاقتنا مع الاستعمار الى هدف عالمي انساني.
اما النظرة العالمية الانسانية فهي في موقف العرب من الاحلاف: انهم في حرصهم على حريتهم واستقلالهم ووحدتهم، ونضالهم في سبيل هذه الاهداف، انما ينظرون الى مستقبل العالم من خلال نظرتهم الى مستقبلهم هم كما يريدونه. ففي عالم يكون فيه العرب امة حرة مستقلة موحدة، ومثلهم سواهم من الشعوب المستضعفة، لن يبقى استعمار ولن تبقى معسكرات وبالتالي لن تكون ثمة حاجة الى الاحلاف.
اما مبدأ ايزنهاور فهو يمثل ذروة المنطق الاستعماري. انه الخطوة الاخيرة التي كان على الاستعمار ان يخطوها ليصل الى الصيغة المعبرة اقوى تعبير عن تناقضه وتعصبه وقرب انهياره. فالاستعمار الذي هو نقيض المبادئ يصل اليوم لتسمية نفسه باسم “مبدأ”. والغرب الذي كانت اقوى حججه على الشيوعية انه لم يجارها في المذهبية المتعصبة يضطر اليوم لتفادي انهياره، ان يلبس نفس اللباس المذهبي المتعصب فيسمي نفسه العالم الحر ويفرض على الدول والشعوب الضعيفة الاستغلال والتبعية باسم الدفاع عن الحرية، فهو يفضح ماهية هذه الحرية كما يفهمها: حرية السادة الذين يجب ان يكون لهم عبيد، حرية الغرب الذي لا يستطيع ان يبقى حرا الا اذا ظل جزء كبير من العالم مستعبدا له.
فالحرية التي يأتي مشروع ايزنهاور ليغري العرب بها ليست الا استمرارا وتضخيما للاستعمار الذي عرفوه عشرات السنين: فهو محاربة لكل نزعة تقدمية، وتشجيع للرجعية وللمجتمع الطبقي الفاسد، وتعميق للانقسام بين الاقطار العربية وفي داخلها، بالفتن والمؤامرات، وتقوية لاسرائيل على حساب العرب.
سؤال ما معنى القول بان اشتراكيتنا عربية؟
يمكن القول بان هذا الوصف للاشتراكية بانها عربية يتضمن شيئين:
الاول: بانها اشتراكية ملائمة لظروف وحاجات المجتمع العربي. وقد كنا بحاجة الى الالحاح على هذه الناحية، رغم انها تبدو اليوم بديهية. متى عرفتم ان الإشتراكية الماركسية، لم تكن تقبل فكرة التنوع مطلقا بل تعتبر ان الاشتراكية واحدة، وكانت وما زالت تسمي نفسها اشتراكية علمية وتقصد بذلك ان القوانين العلمية لا تتغير بتغير الزمان والمكان وانها واحدة يصح تطبيقها في كل الحالات. ولكن الماركسية هي التي تراجعت عن هذا الادعاء وغدت اكثر مرونة.
والثاني: (وهو المعنى الذي لا يتبادر الى الذهن مباشرة وقد لا يفطن اليه كثيرا) هو ان اشتراكيتنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بقوميتنا العربية. فهي في تفاعل مع هذه القومية وهي جزء اصيل منها، وبالتالي ليست شيئا خارجا عنها وليست شيئا اعلى منها يفرض نفسه على القومية العربية، وتضطر هذه القومية الى ان تتكيف بما يناسب الإشتراكية. واحسبكم تفطنون الى الرأي المعاكس الذي يقول ان الاشتراكية هي الاصل وكل الاشياء الاخرى تتفرع عنها وتنفعل بها. فنحن قد لا نصل الى حد القول بان القومية هي الاصل والاشتراكية هي الفرع، ولوان هذا جائز نوعا ما اذا لم يكن بد من ايجاد تسلسل في الاهمية والقيمة، ولكن الواقع ان تفكير الحزب كان حريصا على الا يقيم مثل هذا التفريق المصطنع، فنظرة الحزب تحرص دائما على ان تكون نظرة حية.
سؤال ما هي علاقة الاشتراكية بالقومية العربية؟
قلنا دائما ان الإشتراكية ليست طارئة على القومية العربية، فالقومية العربية عندما تعي ذاتها وعيا عميقا وصحيحا، عندما تتهيأ الشروط لكي تنضج النضج الصحيح وتعبر عن نفسها، تجد ان الاشتراكية شيء اصيل فيها.
واعتقد ان هذا المعنى يختلف عن الفهم الذائع الذي يريد ان يقصر الصفة العربية لاشتراكيتا او الصفة القومية لاية اشتراكية على كونها فقط اشتراكية متأقلمة، اي خاضعة لظروف الزمان والمكان. هذا يعني ان لب الاشتراكية واحد ولا يتغير، ولكن هناك تعديلات ثانوية تطرأ عليها عندما تتغير مجالات تطبيقها. هذا المفهوم هو الذي بدأت الماركسية تتسع له وتنادي به، ولكن هذا داخل في تفكير البعث منذ البدء وهو ليس كل شيء فيه.
واعتقد ان الناحية المادية هي المميزة لتفكير البعث: ان هناك بين قوميتا واشتراكيتا ترادفا وتمازجا وتفاعلا وانه ليس هناك قومية واشتراكية، نجمع بينهما لنصل الى صيغة جديدة للقومية، وانما هناك قومية هي اشتراكية بمجرد وجودها، وانها اذا لم تكن اشتراكية فانها تفقد وجودها ذاته. كذلك فحن بتخصيصنا ان اشتراكيتا هي عربية، من صميم ومن صلب قوميتا، نتيح للامة العربية ان تتمكن من الاهتداء بحرية وقناعة وبدون ضغط وارهاب من الخارج، الى نظرتها الخاصة الى الانسان والاخلاق والى التاريخ والسياسة ولى شتى مجالات الفكر والعمل.
ثم انه ترتب على نظرتنا القومية واعتبار العرب أمة واحدة لا تتجزأ، والبلاد العربية وطنا واحدا، ان كانت دعوتنا دوما الى اشتراكيتنا بانها الاشتراكية التي تحتاج الى نضال الشعب العربي بكاملة لتتحقق، وتحتاج الى الوطن العربي بكامله كمجال للتطبيق. فلم نؤمن في يوم من الايام بامكان تحقيق اشتراكية صحيحة في قطر واحد، وان كنا نعمل دوما للتمهيد لهذه الاشتراكية بتحقيق اصلاحات في كل قطر. وذلك ان بعض الاقطار العربية على الاقل ليس فيه الشروط الاقتصادية الكافية لقيام اشتراكية سليمة. في حين ان الحركة الشيوعية، لانها لم تنظر الى الأمة العربية كوحدة فانها وقعت، نظريا على الاقل، في تناقض عندما تعد الناس باقامة نظام اشتراكي في قطر صغير ليس فيه صناعة ولا مقومات اقتصادية كافية. كذلك فان الشيوعية تقع في التناقض، نتيجة عدم ايمانها بالقومية وبوحدة الأمة، حينما تربط احيانا بين النضال في قطر عربي والنضال العالمي، قافزة من فوق نضال الاقطار العربية الاخرى.
واشتراكيتنا التي هي على اساس عربي موحد، حافظت دوما على اتجاهها الانقلابي لانها كانت دائما تستند الى واقع الأمة العربية بمجموعها، وهو واقع ثوري انقلابي من الطراز الاول، ولكن اذا اهمل اعتبار وحدة الأمة فقد لا تكون الاشتراكية ثورية دائما بالنسبة الى جميع الاقطار العربية، اذ ان من بينها اقطارا في حالة او شروط اجتماعية واقتصادية قد يظن بانها لا تستدعي الانقلاب وانما يكفيها الاصلاح، فمثل هذه الاقطار قد يستفيد احيانا من وضع التجزئة الذي يدعمه الاستعمار والطبقة الرجعية فيحصل على مكاسب اقتصادية مصطنعة تضعف من حاجته الى الثورة الاشتراكية، اما حركتنا فهي الوحيدة التي تكشف هذا الزيف والاصطناع لانها تنظر الى هذه الاقطار كاجزاء في جسم واحد، وبالتالي تطالب لها كلها باشتراكية واحدة ثورية.
سؤال هل تأخذ حركة البعث بسياسة المراحل؟
ان حركتنا تأخذ بسياسة المراحل ولكنها تفهمها على انها الحاح على ناحية اكثر من غيرها، وليست الاقتصار على ناحية واحدة واهمال النواحي الاخرى، فلا نقتصر على مقاومة الاستعمار فحسب، بل نعمل ايضا للاشتراكية والوحدة. قد تكون الظروف مهيأة لمحاربة الاستعمار اكثر من اي عمل آخر. ولكن اقتصارنا على محاربة الاستعمار فحسب يطعن النضال نفسه.
فنحن اذن لا نفصل فصلا تاما بين مرحلة نضال وطني واجتماعي ووحدوي وانما نمشي في هذه المجالات كلها في آن واحد، ولكن نلح فقط ونركز على ناحية او اكثر حسب الظروف، ولا نؤمن بامكان تحقيق اي نجاح في احد هذه المجالات اذا لم يكن مدعوما بنجاح وتقدم في المجالات الاخرى. فنحن لم نسكت في هذا الظروف كما لم نسكت في الماضي عن المطالب الاشتراكية او المقربة من الاشتراكية، لعلمنا بان التحرر من الاستعمار دون تحقيق اصلاحات اجتماعية تقوي نضال الجبهة الشعبية وتهيئ لها شروطا انسب لمتابعة النضال، يبقى شيئا ضعيفا ومهددا دوما بالانهيار او الانتكاس، وكذلك الشان في نضالنا من اجل الوحدة. وبكلمة مختصرة فان حركتنا لا تحتاج الى ان تضحي باي هدف رئيسي من اهدافنا الانقلابية في مرحلة من المراحل، في سبيل الاهداف الاخرى، فهي دوما قادرة على ان تناضل من اجل جميع أهدافها.
كذلك فان المراحل في نظرنا هي في التطبيق لا في الوعي، فالوعي لا يجزأ، لذلك كان على الشعب العربي ان يدرك منذ ظهور الحركة ما هي حقيقة اوضاعه، وما هي العلاجات الحاسمة لها، وما يريد ان يصل اليه في آخر النضال. فاذن في الوعي لا نتبع سياسة التكتم في الاهداف التي لم يحن الوقت لتحقيقها.
عام 1957
مصر تقود التيار العربي وتحميه
ما هي اخبار المباحثات من أجل الوحدة بين مصر وسورية؟
– انها تمضي فى طريقها ولسوف تسفر عن نتائج باهرة.
الاقطاع في سورية
هذا الحديث ينقلنا الى سورية.. ان في سورية ظاهرة غريبة. فبينما نرى ان الحكومة تتبع سياسة محورية تقدمية، فاننا نجد بعض الاوضاع المغرقة في الرجعية ما تزال قائمة داخل المجتمع السوري مثل بقايا النظام الاقطاعي.. فما تفسير هذا التناقض؟
– فى حزيران سنة 1956 تالفت وزارة شاملة لكل الاحزاب السورية، بعد ان عقدت هذه الاحزاب فيما بينها ميثاقا وطنيا اتفقت عليه، واشترك في هذه الوزارة حزب البعث والحزب الوطني وحزب الشعب والمستقلون..
وقد تم وضع الميثاق على الاسس التي أمكن الاتفاق عليها بين الاحزاب، فيما يتعلق بالنواحي الخارجية والعربية والداخلية. ولم تكن هذه الاسس تعبر تماما عن حزب البعث، ولكننا قبلنا بها مرونة منا مع الموقف، وحرصا على وحدة صفوفنا الداخلية. وكنا قد راعينا ان يكون في هذه الخطوط انسجام بين السياسة الخارجية والعربية والداخلية، لان كل ناحية منها تؤثر على النواحي الاخرى، فالسياسة العربية لسورية تؤثر على السياسة الخارجية لها والسياسة الداخلية تؤثر بدورها وبصفة خاصة على السياسة الخارجة ايضا. وما ان بدأت الوزارة فى انتهاج سياستها الخارجية التحررية طبقا للميثاق، حتى بدأت كتلة الاحزاب الرجعية تعمل على عرقلة هذه السياسة.
فالسياسة الخارجة تعتمد اساسا على الحياد الايجابي هذا المبدأ الذي يتفرع عنه مثلا مبدأ حرية التعامل في السوق الخارجية مع أية دوله فى العالم. وطبقا لهذا المبدأ وما يتفرع منه طرحت الوزارة مشكلة (مصفاة البترول) مثلا… ووجدت ان احسن العروض لديها هو عرض ( تشيكوسلوفاكيا).. ولكن الرجعية راحت تعرقل المشروع، وتدعي بأوهى المبررات ان العروض الغربية هي الافضل.
وتناست الكتلة الرجعية عن عمد انه على فرض قبول أي عرض غربي، فأنه لن يوفى به، فالمصفاة قد وعدتنا بها انكلترا من قبل عام 1949 ولم تنفذ وعدها قط. ولم يكن موقف الكتلة الرجعية من مسالة المصفاة موقفا ضد سياسة سوريا الخارجية المتحررة التي اختطها الميثاق فقط، فقد كان ايضا ضد سياسة سوريا الداخلية التي تعتمد اساسا على التصنيع، واستخدام الآلة وتوفير الخبرة الفنية. ولكي تعرقل الكتلة الرجعية سياسة سوريا الخارجية المتحررة راحت تقيم العقبات فى سياستنا الداخلية فسوريا بحاجة الى التصنيع والآلة والخبرة الفنية، ولكي تتوافر هذه الوسائل لدينا ينبغي ان نعتمد على سياستنا الخارجية المتحررة، سياسة ان نأخذ ممن يعطي دون اي شرط يمس سيادتنا في المدى القريب او البعيد، ولكن التصنيع والآلة والخبرة الفنية لا يعطيها الغرب بدون شروط، ولا سبيل اليها تمشيا مع نصوص الميثاق، الا من الكتلة الشرقية، والدول المحايدة. ثم ان التصنيع والآلة والخبرة هي أمور تهدد كيان الرجعية ومصالحها الخاصة فى داخل سوريا، واذن فلتقف الرجعية ضد هذا التصنيع والآلة والخبرة، فبهذا الموقف تحافظ الرجعية على بقاء الاقطاع وتحكمه مع رأس المال فى سياسة الوزارة وبالتالي فى الشعب نفسه. وبهذا الموقف تعرقل الرجعية سياستنا الخارجية المتحررة وخاصة في الناحية الاقتصادية التي يهم الإستعمار –كحليف للرجعية- عدم توفرها لدينا.
اما فى مشكلة السلاح فلم يستطع الرجعيون اثارة العقبات فيها امام الرأي العربي فى سوريا، لأننا كنا في حاجة ماسة الى السلاح، وكان الغرب ممتنعا عن بيع السلاح لنا وكانت اسرائيل توالي اعتداءاتها علينا. ومن ناحية التشريعات الاصلاحية لرفع مستوى الفلاحين والعمال، فان الكتلة الرجعية كانت تعارض الوزارة في تنفيذها بشتى الاسباب وبدون اسباب. وهكذا وجدت الوزارة نفسها عاجزة عن الاستمرار في العمل طبقا للميثاق، وكان الوعي الشعبي يغلي بالسخط ضد مواقف الكتلة الرجعية المكشوفة وخاصة ان الكتلة الرجعية كانت تعرقل السياسة العربية نفسها في سوريا، بمحاولة وضع العقبات المصطنعة في طريق الاتحاد بين سوريا ومصر. وجاءت الايام فكشفت الستار عن ان هؤلاء الرجعيين يشتركون في المؤامرات ضد الإتجاه التحرري لمحاولة جر سوريا الى الارتباط بالغرب بسياسة الاحلاف والقواعد والمشروعات الإستعمارية، وكان بعض نواب الرجعية قد اشتركوا في هذه المؤامرات، ولما حاولت الحكومة رفع الحصانة عنهم لقيت معارضة شديدة من الفئات الرجعية وسقطت الوزارة نتيجة لكل هذه المشاكل والتناقضات القائمة بين سياسة الوزارة التي رسمها الميثاق، وبين الرجعيين الذين وقعوا على الميثاق، ونتيجة للتناقض الحاد بين سياسة الوطنيين التحررية، وسياسة الرجعية التي تعتمد على الاقطاع والاستغلال والإستعمار.
ولكن الوعي الشعبي في سوريا، استطاع ان يركز السلطة في ايدي الوطنيين دون الرجعيين بمعنى ان التيار الوطني قد رجحت كفته بعض الرجحان بفضل الوعي الشعبي فتم التعاقد على المصفاة وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية ولكن التناقض لم يحل كله حلا كاملا. وينبغي ان يكون واضحا:
اولا: ان الرجعيين الذين يبدون تأييدهم للاتجاه التحرري للسياسة في سوريا انما يفعلون ذلك لقلة حيلتهم امام الضغط الشعبي، ولا يفعلونه عن اقتناع ولا عن ايمان..
ثانيا: ان الرجعية في سوريا قد تتسامح الآن في تأييدها للسياسة الخارجية الحرة، ولكنها تقف عقبة دائمة في سبيل الإصلاح الداخلي.
ولكن ينبغي ان نطمئن لان الوعي الشعبي يزداد في سوريا، والسلطة السياسية للرجعيين تنهار يوما بعد يوم، وبالتدريج سوف يستطيع الشعب العربي في سورية ان يقضي على الاوضاع الرجعية مثل الاقطاع.. ويومها تصبح سوريا مثل مصر جزءا عربيا متحررا من الرجعية وخاصة بعد ان يتم تحقيق الاتحاد العربي بين مصر وسوريا.
لجان تخطيط مشتركة
متى يتم تنفيذ مشروع انتقال الفلاحين المصريين الى الاراضي الزراعية في سوريا؟
– الواقع ان الامر لا يعدو ان يكون اكثر من فكرة.. انه لم يصبح مشروعا بعد.. فالمسالة تحتاج الى دراسة تفصيلية دقيقة.. ولقد قال لنا الرئيس جمال عبد الناصر اثناء زيارتنا له كأعضاء في وفد سورية في مؤتمر التضامن.. قال الرئيس:(( ان الفلاح المصري لم يألف الهجرة من موطنه لقد تعود على الاستقرار في ارضه مهما كلفه ذلك من مشقات)… وهذا معناه ان هناك كثيرا من الجهود يجب ان تبذل لتهيئة الفلاح المصري تهيئة نفسية حتى يهاجر الى سورية او غيرها من اجزاء الوطن العربي، وتتوفر هذه التهيئة النفسية بالطبع اذا ما توفرت الضمانات المؤكدة لنجاح مشروع الهجرة من تامين للعمل والمسكن ومستقبل الابناء حتى يستطيع الفلاح المصري ان يهاجر باطمئنان وراحة، وعلى كل حال فهناك لجان مشتركة للتخطيط ضمن اللجان التي تدرس مشروع الوحدة بين مصر ووسورية، وسوف تقوم اللجان بدراسة كافة المشروعات الخاصة بالوحدة المصرية السورية من كافة الجوانب.
في تونس اتجاه سياسي خاص يتزعمه (الحبيب بورقيبة)… فما رأيك في هذا الإتجاه، وما هو مستقبله؟
– في السياسة الرسمية لتونس اتجاه خطر يميل الى الارتباط بالغرب وبأحلافه وبمساعداته ويجب ان نحذر هذا الإتجاه كل الحذر فان خطره لا يقتصر على تونس بل يشمل الوطن العربي كله، ولكن لابد مع ذلك من التفريق بين وضع الحكم في تونس ومراكش، وبين الحكومات الرجعية في الشرق العربي كحكومة العراق وغيرها فحكومة نوري السعيد وامثالها في اقطار اخرى لا عذر لها في معاكسة الإتجاه التحرري والشذوذ عن الموقف العربي الإستقلالي، ولا يوصف تصرفها الا بأنه خيانة، ولا يفسر الا بتهالك الحكام الرجعيين على مصالحهم الخاصة وبيعهم انفسهم وبلادهم للاستعمار، اما الوضع في تونس وفي المغرب عامة فيختلف عن هذا. لقد بقي المغرب العربي خلال زمن طويل خاضعا لنوع ثقيل من الإستعمار هو الاحتلال، وكاد هذا الإستعمار ان يشوه مقومات شخصيته العربية، كما كان هنالك ما يشبه القطيعة بين المغرب والمشرق فاضطرت الحركة الإستقلالية التحررية ان تعتمد على نفسها دون أمل كبير في معونة الاقطار العربية الاخرى. وكان من سوء فهمها لحقيقة الامكانيات العربية في الشرق العربي، انها اعتبرت الجامعة العربية في الشرق العربي هي الممثلة لهذه الامكانيات فلما لم تسعفها الجامعة العربية كادت تيأس من الشرق العربي كله، ثم سارت في طريق متأرجحة في مقاومة الإستعمار ومشت على سياسة الأخذ والمطالبة واتبعت أسلوب انتهاز الفرص.. فمن واجب الاقطار العربية المتحررة ان تزيد اهتمامها باقطار المغرب العربي، وان تزيد غيرتها عليها حتى تخلق فيها الثقة بقدرة الأمة العربية على التحرر الكامل دون مساومة وذلك بالاعتماد على قواها الذاتية وحدها.
وهناك ضمانة كبرى لتصحيح كل خطأ وانحراف في سياسة الحكومات بتونس ومراكش، هي ثورة الجزائر. فبمقدار ما نسهم في تغذية هذه الثورة وفي امدادها بجميع وسائل المعونة نضمن لشمال افريقيا تحررا كاملا من الإستعمار وارتباطا قويا ببقية اجزاء الوطن العربي، ذلك لان ثورة الجزائر ثورة شعبية تقدمية اشتراكية ومتى توافرت عناصر النضال التحرري في اتجاه شعبي اشتراكي كان من المقدر المحتوم ان يرتبط هذا النضال بالقومية العربية..
وان في مساعدة الفئة الحاكمة بتونس لثورة الجزائر، ولو جزئيا، ما يجعلها غير ميؤوس منها تماما وان بعض البوادر التقدمية قد ظهرت في ذلك الحكم كاعلان النظام الجمهوري وكتحقيق بعض الاصلاحات الاجتماعية.
دعوة غير واقعية
هناك دعوة ينادي بها البعض وهي ايجاد نوع من التعايش بين الإتجاه الذي تمثله مصر وسوريا والإتجاه الذي يمثله العراق مثلا.. فهل هذا الوضع ممكن؟
كلا…انه مستحيل، ذلك لان القوى الرجعية تعمل عملا تخريبيا عن طريق ارتباطاتها العسكرية ضد القوى التحررية، وليس في الامكان ابدأ تجميد الوضع بين التيارين فلا بد ان يستمر الصراع. حتى تصل المعركة ال نتائجها المقدورة…فدعوة التعايش بين التحرر والارتباط بالإستعمار دعوة غير واقعية ولا يمكن تحقيقها..
الإستعمار يساوم
في البحرين مشكلة جديدة.. حيث تطالب ايران بضمها اليها فما هي هذه الحقيقة؟
يعمل الإستعمار دائما في اية بقعة ينزل بها على خلق ظروف مساعدة له على الاستمرار او على المساومة.. وهذا ما فعله في البحرين اذ اخذ الانكليز يشجعون هجرة الايرانيين الى البحرين حتى اصبح في البحرين نسبة عالية من الايرانيين.. وبدأت بريطانيا تساوم حكومة العراق وحكومة ايران حول ضم البحرين الى احداهما.. ولكن البحرين جزء من الوطن العربي الكبير، وهذا هو ما سيحدد مستقبلها رضي الانكليز ام لم يرضوا..
عام 1957
(1) حديث لمجلة “البوليس” المصرية أجراه في القاهرة مع الأستاذ ميشيل عفلق رجاء النقاش في عام 1957، وأعيد نشره في جريدة “البعث”.
الأحكام الثورية ليست حساباً على الماضي بل هي تعهد بخلق المستقبل
يمكن ان تؤخذ المؤامرة التي اكتشفت في سورية من زاويتين: الاولى وهي الزاوية المحدودة التي تقصر التآمر على هذا العدد الذي اشترك فعلاً وانكشف امره، وهي الزاوية السطحية. والثانية ان تفهم المؤامرة على انها من عمل طبقة اجتماعية قائمة في سورية وفي كل قطر عربي اخر، أوصلها استمساكها بمصالحها الخاصة وتناقض هذه المصالح مع المصلحة القومية الى حد التآمر والخيانة، وهي ما كانت لتجرؤ على الدخول في هذه المؤامرة الرهيبة في سورية في ظرف كانت فيه مقدرات الامة العربية عرضة لأفدح الاخطار، لو لم تكن معتمدة على تضامن ضمني عند ممثلي هذه الطبقة في الاقطار العربية الاخرى. وان هذه المؤامرة سواء بشكلها المصغر المحدود الذي اكتشف في سورية أم بشكلها الواسع العربي، ليست الا صراعاً على القومية العربية وضمن النطاق القومي، لا دخل فيها للشيوعية من قريب او بعيد، سواء في نظر الاستعمار او في نظر الطبقة الحاكمة المستغلة التي أمست حليفة صريحة للاستعمار. فالذي يخيف هذه الطبقة كما يخيف الاستعمار نفسه هو يقظة الشعب العربي وتنبهه لحقوقه وحرصه على قوميته من الضياع امام غزو الدول الاستعمارية واسرائيل، واكتشافه للصلة الوثيقة بين وجود الاستعمار واسرائيل وبين ان تحكم هذه الطبقة التي تحارب الوحدة العربية وتحول دون ارتفاع مستوى الشعب وتنمية امكانيات الوطن بالشكل الذي يتكافأ فيه مع الأخطار الخارجية ويضمن بالتالي للوطن العربي ان يستكمل تحرره ويحافظ على استقلاله. لقد بقيت هذه الطبقة في حدود القيم الوطنية لم تتجاوزها الى التآمر المفضوح طالما كان الشعب العربي في بدء يقظته قانعاً بذلك المفهوم الابتدائي للوطنية الذي لم يكن يعني اكثر من التحرر الشكلي من الحكم الأجنبي. ولما اخذ مفهوم الوطنية يعمق ويتسع حتى شمل في نظر الشعب التحرر الداخلي والعدالة الاجتماعية وتوحيد اجزاء الوطن الممزق، أي عندما اتخذت القومية العربية مفهومها السوي وسبيلها الجدي العملي وتركزت على الاهداف العربية الاساسية الثلاثة: الحرية والاشتراكية والوحدة، اختلف التفكير وتبدلت المواقف واصبح عدو الامس حليف اليوم، وبدا الاستعمار الاجنبي منقذا للطبقة المستأثرة بالمصالح والامتيازات، بينما غدا الشعب عدوها الحقيقي الوحيد. ولكنها لا تستطيع ان تحكم الشعب وتجاهره بالعداء، فلا بد ان تختلق عدواً وهمياً تفترض وجوده وراء يقظة الشعب ونضاله. كما ان الاستعمار اضطر امام تطورات هذا العصر وانتصارات الحرية في العالم ان يكيف اساليبه ويبدل ذرائعه، ولم يعد يجد مناصاً من الاعتراف بحق الشعوب -ومنها الشعب العربي- بالحرية والاستقلال، فكان لا بد له ايضاً من اختلاق ذريعة جديدة للتدخل، فكانت الشيوعية هذه الذريعة له وللطبقة المستغلة في بلاد العرب.
فنحن اذن امام طبقة متآمرة في الوطن العربي كله ضبط في سورية بالجرم المشهود بعض افرادها وأُجَرائها الذين هم أُجراء الاستعمار في الوقت نفسه. وقد تضحي الطبقة المستغلة بهؤلاء الافراد اضطراراً ولكنها لن تضحي بمصالحها المجرمة ولن تكف عن متابعة تآمرها. ولن يكف الاستعمار عن استخدامها في مقاومة التحرر العربي وخنق القومية العربية ما لم يطرح الشعب العربي قضيته بشكلها العميق البسيط العاري. وما لم يضع هذه الطبقة المتآمرة امام حقيقتها وجهاً لوجه ويضطرها ان تختار بين قوميتها العربية وبين الاستعمار. وعندما يفقد الاستعمار حلفاءه في داخل بلادنا لا يبقى له أي أثر في هذه البلاد. وعندما تختار هذه الطبقة ان تكون في صف الامة وان تلتزم في سياستها وتصرفاتها حدود القيم القومية، تفقد صفتها كطبقة لتعود جزءاً من الشعب العربي. فهناك وراء كل تسلط او تدخل استعماري، ووراء كل خروج على مبادئ القومية العربية أو معاكسة لاهدافها السليمة مصالح انانية لا قومية تفسر هذا الخروج ويرتكز عليها ذلك التدخل. وحلف بغداد هو قبل كل شيء رغبة الطبقة المستغلة في الاستئثار بثروات العراق. وتآمر الوضع الرسمي في لبنان يستند قبل كل شيء الى ما تجنيه الفئات المستغلة فيه من مرابح التجزئة. والتأييد الصريح او الخفي لسياسة الحكومتين العراقية واللبنانية من قبل بعض الفئات الحاكمة في البلاد العربية يعود بالدرجة الاولى الى حرص العروش والامارات والحكام الانتهازيين على الفوائد التي هيأتها لهم تجزئة الوطن العربي. ولو أدى ذلك الى الاستعانة بالاستعمار لحماية هذه التجزئة.
وامام هذه التناقضات الفاضحة يقف الشعب العربي في نضاله القاسي ضد الاستعمار واسرائيل وهو يشاهد الغبن الذي يلحقه بقضية حريته واستقلاله ونهضته. استئثار هذه الفئات بثروات عميمة من ارض الوطن، لو خصص بعضها لقضية الوطن لما كان للاستعمار واسرائيل وجود في ارض العرب.
والقضية اذن تبقى كما اسلفنا بين القومية العربية وبين الذين يفضلون عليها وعلى تحررها وانبعاثها مصالحهم الخاصة واستمرار استغلالهم للشعب العربي. لا قضية يسار ويمين وشرق وغرب. انها قضية وطنية وخيانة. وان النضال الشعبي القومي الذي بلغ في سورية حداً من الانتشار والنضج مكنه من فضح جزء من هذه المؤامرة الواسعة فضحاً يعتبر فتحاً في تاريخ القضية العربية الحديث. لتترتب عليه مسؤوليات جسيمة لا بالنسبة الى سورية فحسب، بل بالنسبة الى القضية العربية كلها. وان الروح التي نستلهمها في حكمنا على هذه المؤامرة اما ان تكون ملتفتة الى الوراء، سجينة لمقاييس الواقع المريض، فتنظر الى المؤامرة على انها من صنع افراد بالذات انزلقوا في الخيانة لضعف في الوطنية ومرض في النفس. واما ان نستلهم مستقبل شعبنا وقوميتنا والمسؤولية التاريخية التي تقرر مصيرنا الى اجيال، فنحكم، من خلال احكامنا على اشخاص المتآمرين، على طبقة بكاملها آن لها ان تنتهي او تنصهر في تيار القومية، وعلى عقلية وضيعة جبانة كانت مصدر النكبات والخيانات منذ عشرات السنين الى اليوم. فالحكم الذي نصدره ليس هو تسجيلاً لرأي ولا حساباً على عمل قام به الآخرون فحسب، وانما هو تعهد بعمل نفرضه على انفسنا للمستقبل. لقد حكم رجال الثورة في مصر احكاماً بدت يومئذ قاسية أقصت عن المسرح السسياسي زعماء كباراً كان لهم شأن في تاريخ النضال القومي.. ومع ذلك فقد برهن رجال الثورة بالاعمال التي قاموا بها فيما بعد وبالمستوى الذي رفعوا اليه القضية القومية على انهم لم يتجاوزوا الانصاف في احكامهم، لانهم عرفوا ما تفرضه تلك القسوة عليهم من مسؤوليات وتعهدات وفّوها كل حقها.
ان الحكم على المتآمرين يجب ان يكون في جديته بداية لمقاييس وطنية اكثر سلامة ورجولة ولمستوى من النضال لا يكتفي بمعاقبة الخيانة بل يقضي على اسبابها من الجذور، بالقضاء على الطبقة التي تتعارض مصالحها مع كل اصلاح وبناء.
18 كانون الثاني 1957
نضال في مستوى الأهداف والأخطار
البلاد العربية منذ سنين عديدة والى سنين عديدة اخرى تجتاز مرحلة انقلاب. والانقلاب يعني من جملة معانيه ان الامة التي طرأ عليها التشويه من الداخل والعدوان من الخارج لا بد، لكي تسترد السيطرة على مقدراتها، من تجميع قواها السليمة وتركيز جهودها على الجوهري من الامور، حتى تتمكن من تحويل سيرها المتدهور الى اتجاه صاعد، وحتى تتفوق فيها عناصر الخلق والبناء على عناصر الموت والتخريب. وبكلمة مختصرة: مرحلة الانقلاب تشبه حالة حرب دائمة بكل ما تعنيه الحرب من يقظة وحذر ومضاعفة للجهد والانتاج وتضحية بالكماليات واستثمار لجميع الامكانيات وتجديد وابتكار في طرق استثمارها. وفوق هذا كله وضع الخطة الشاملة وتعيين الاهداف الواضحة وتوحيد العمل والنضال والافادة من كل نصر جزئي نحرزه في نضالنا الطويل لتغذية هذا النضال نفسه وتوسيع افقه ورفع مستواه.
والمعروف ان الطبقة المتزعمة في الوطن العربي كانت وما تزال ابعد ما تكون، سواء في تفكيرها او في سلوكها واوضاعها، عن الاستجابة لشروط الانقلاب، وعن تحقيقها وحتى عندما توجد البلاد في حالة حرب فعلاً كما في حادث العدوان الاستعماري الاسرائيلي الاخير، فان هذه الطبقة تتصرف لا تصرف العاجز عن تحقيق متطلبات الحرب فحسب، بل تصرف المخرب المتآمر ايضاً. ولقد كان العدوان الاخير بمثابة تذكير وانذار بأن الاستعمار وحلفاءه من اعداء العرب سوف يعيدون تنظيم خططهم ويضاعفون اعدادهم لمواجهة النضال العربي الذي فاجأهم بسرعة نموه، ولكن طبقة الحكام والمستغلين في اكثر اقطارنا لم ترد ان ترى في العدوان الا حالة طارئة عارضة انتهت بانتهاء القتال في مصر. وسرعان ما عادت الى سابق عهدها في الميوعة واللامبالاة. وترجمة هذا السلوك الى لغة الواقع الصادق الصريح هي ان هؤلاء لا يعترفون بشيء اسمه ثورة الجزائر وبأن هذه الثورة ركن اساسي في النضال العربي. ان هؤلاء الحكام لا يعترفون فعلاً، وان رددوا قولاً، بأن ثمة في قلب الوطن العربي دولة غاصبة غازية هي عبارة عن معسكر يهيئ الحرب ويبيت الغدر. وان اتقاء خطرها واستئصال شرها لن يأتيا عفواً بل باعداد مماثل لاعدادها او يزيد. وفي العراق وضد شعب العراق مؤامرة استعمارية كبرى تهدد الامة العربية كلها انكشف امرها منذ ان ولد حلف بغداد. وفي لبنان والسودان وتونس ومراكش مؤامرات تجمعها بحلف بغداد اواصر القربى الاستعمارية والكيد للعروبة. وفي السعودية واليمن وامارات الخليج استعباد وجهل واحتلال وتنكيل. وكل هذا يستدعي لا توحيد النضال فحسب، بل توفير وسائل النضال ايضا وذلك بتضحية العديد من النواحي غير الاساسية في حياتنا لتركيز معظم الجهود على الامور القومية الحيوية التي تقرر مصيرنا وبقاءنا.
كثير من الدلائل تشير الى ان الاستعمار قد خرج من محنته الاخيرة متعظاً يحاول تسوية خلافاته الداخلية وتوحيد جبهته ضد الوطن العربي، وان يبرز هذه المرة بخطط اكثر احكاماً، ووجه اقل تنفيراً، أي بخطط السياسة الاميركية ووجهها. والجواب اللائق بهذا الهجوم الجديد ان ننتقل الى مرحلة أعلى وأنضج في توحيد النضال العربي نجسد بها ايماننا بوحدة أمتنا تجسيدا عملياً واعياً فنضع قضايا النضال العربي فوق القضايا والحاجات المحلية بشكل يخدم القضية القومية الكبرى. وهذا يفترض وضع خطة شاملة بعيدة النظر والمدى تعالج الحاضر على هدي المستقبل القويم الذي نسعى اليه، وتعيين المراحل والامور المستعجلة المعالجة والامور التي يمكن تأجيلها. ولن تجدي هذه الخطة ما لم نقتنع ونسلم بدئياً بهاتين المسلّمتين: اولاً، ان هذا المستوى الجديد من النضال لا يقوم بغير تضحيات جدية تتحملها الفئات والاقطار ذات الحظ الوافر من الثروة والامكانات. ثانياً، ان هذا المستوى الجديد لا يمكن ان يتحقق بعدالة توزيع المسؤوليات والواجبات فحسب، بل ايضاً بزيادة امكانات الاقطار العربية وتفجير طاقة الشعب فيها باعادة النظر في الاسس والانظمة الاجتماعية الراهنة التي لا يمكن ان تعطي اكثر مما اعطت حتى الآن.
ولقد جاءت اتفاقية التضامن العربي بداية صالحة تنبئ عن شعور عام بالحاجة الماسة الى الارتفاع بالقضية العربية، الى مستوى وحدة المصير والتكافل في الاخطار والاعباء ولكنها رغم ذلك بداية صغيرة ومحدودة كانت تلبية للضغط القريب المباشر على الاقطار التي اشتركت فيها. ولا يمكن ان نطمئن الى صدق هذه التلبية الا عندما يصبح اهتمام المسؤولين في هذه الاقطار بواجب التضامن القومي مع ثورة الجزائر مثل اهتمامهم بحرية الاردن.
ان وصول بعض العناصر النضالية نتيجة لنمو الوعي العربي الشعبي الى مراكز الحكم في مصر وسورية والاردن، لئن كان له اثر وفضل في تحقيق بعض الخطوات في مجال التحرر والتمهيد للوحدة، فان له ايضاً محذوراً يجب التنبيه اليه. فوجود هذه العناصر النضالية في الحكم قد يخلق في نفس الشعب بعض الاطمئنان والتخدير، وقد يدخل في قناعة الشعب ان ما لم تستطع هذه العناصر تغييره هو بطبيعته غير قابل للتغيير، فتتشوّه نظرة الشعب الانقلابية، ويتزعزع ايمانه بأمته وقدرتها. ليس النضال مجرد شعارات عن التحرر ولا هو يكتفي بمعارك السياسة الخارجية. ان للنضال كثافة تمتد الى حياة أبسط مواطن في أصغر قرية والى شروط هذه الحياة ووسائلها، لأن منها ومن مثيلاتها تتكون قوى الامة وطاقتها، فاذا لم تتمكن العناصر النضالية ان تؤثر في الحكم بالشكل الذي يوجد للشعارات التحررية الانقلابية جسماً تتغذى منه، واذا لم تبدل في الاوضاع وتخلق من القوى ما يسمح بالتكافؤ مع مهمة تحرير الوطن العربي وتوحيده والتغلب على العراقيل التي يضعها الاستعمار وحلفاؤه وعملاؤه في طريقها، فان ابتعادها عن الحكم يكون أدعى الى تنبيه الشعب واحتفاظه بسلامة اتجاهه وحيوية نضاله.
25 كانون الثاني 1957
طموح البعث
المعرفة لا تكون صحيحة الا اذا امتحنت بالعمل، فالعمل يغنيها ويصححها. ان نضال الأمة العربية نضال طويل لم يبتدئ مع حركة البعث ولن ينتهي معها. وكل ما في الامر ان هذه الحركة خرجت من حاجات امتنا في مرحلة معينة لتستفيد من التجارب السابقة، ولترفع مستوى النضال إلى الحد الذي يتكافأ مع عظم قضيتنا وعظم أهدافها ومع عظم الاخطار المحدقة بها، ومع روح هذا العصر، فكانت محاولة صادقة نرى اليوم أنها أثمرت بعض الثمار.
ان طموحنا كبير، طموحنا هو طموح الانسان وطموح كل شعب اصيل شاعر بشخصيته مقدر لمعنى وجوده الانساني، طموحنا لا يقتصر على دفع الاخطار والتخلص من الاعداء ومن ظلمهم الذي لحق بنا زمنا طويلا. طموحنا لا يقف عند حدود السلبية والرفض والتخلص وانما هو في أعماقه طموح ايجابي بناء في أن نعمل وان نسترجع من جديد تجاوبنا الصادق مع الحياة، وان تساهم في بناء الحضارة ونساهم في اخصاب القيم الانسانية وفي الدفاع عنها وفي تجسيدها تجسيدا صادقا في حياتنا وسلوكنا.
عندما طلع علينا الاستعمار مؤخرا بنظرية الفراغ، قائلا ان بلادنا فيها فراغ يستدعي ان يملأ بالاستعمار والاحتلال، خطر لي -بالمقارنة- ان الفراغ قائم فعلا ولكن ليس في شعبنا وبلادنا، وانما في هذا القسم من العالم الذي مسخ القيم وزيفها ووصل في النفاق الى حد التناقض مع ما يدعيه من مبادئ. ويخطر لي دوما ان ثمة في العالم فراغا مخيفا، ولا يستبعد أن تكون أمتنا من بين الأمم التي ستطالب بأن تملأ هذا الفراغ في وقت أقصر مما نظن. ان حضارة المستعمرين تنذر بالانهيار والفشل طالما انها تتجنى على الشعوب الضعيفة مثل هذا التجني، وتغالط وتكاد لا تعرف أنها تغالط، أي ان الزيف امتزج في نفوسها واذهانها إلى حد انه اصبح طبيعيا فيها ومن صميم مفاهيمها. من يعيد الى هذه القيم التي أفرغت من معناها ومحتواها في الغرب.. من يعيد اليها الحياة والدم الا الشعوب التي عانت الظلم، وعانت تجربة الألم الى الأعماق؟ فكأن القدر يهيؤها لان تحتل مكانها قريبا وان تكافأ على آلامها بأن تظهر هذه المبادئ والقيم الخالدة التي لا غنى للانسان عنها، والتي لا تستقيم بدونها الحياة. لعل القدر يهيئ شعوب افريقيا وآسيا وكل الذين عانوا الظلم الخارجي والداخلي، ان يخرجوا من هذه التجربة بثمرة يانعة لا تقتصر فائدتها عليهم فحسب، وانما تشع على الانسانية كلها. لذلك قلت ان طموحنا لا يقف عند حد اخراج المستعمرين من أرضنا، وايقاف المستغلين في الداخل عند حدودهم، ولا يتوقف عند حد تأمين الحرية والرخاء للشعب، وانما هي كلها وسائل لكي تنطلق عبقرية هذه الامة نحو الابداع، نحو المساهمة الجدية في حمل الاعباء الانسانية.
وهذا في الواقع ما كان ينفرنا من الحركات الوطنية السابقة. وهذا ما أشعرنا بأن ثمة واجبا علينا وان ثمة مهمة جديدة لنا، فأنتم تعرفون في أي مستوى كانت تحيا وتعمل الحركات في مختلف اقطارنا العربية، في أي مستوى مقلد سطحي سلبي.
يأخذون على الاستعمار أشياء كانوا هم أنفسهم يرتكبونها يوميا، ينادون بالحرية لا ايمانا منهم بالحرية ولكن دفعا لتهمة الغرب الموجهة الينا باننا لا نقدر معنى الحرية، ينادون بالمساواة والرقي وغير ذلك لا عن قناعة، ولا عن معاناة وتجربة عميقة لهذه الأشياء، وانما في المظهر والاعلان لدفع التهمة. اذن لم تكن تلك الحركات اصيلة، لم تكن تنبع من الشعب، ولم تكن تعبر عن حقيقته وامكانياته لأنها لم تكن تعتمد عليه ولا تثق به.
ولعلكم سمعتم أكثر من مرة أولئك الزعماء والسياسيين في أحاديثهم الخاصة: “الشعب لا يفهم، لا يعي، لا يقدر”، وفي خطبهم يشيدون به ويمتدحون فضائله ويستغلون غروره.
الثقة الحقيقية بالشعب هي أعمق من تلك، تبدأ بالصدق، أي ان يكون المناضلون صادقين في عملهم وواثقين من أنفسهم، وبعد ذلك لا بد أن يكسبوا ثقة الشعب لان امكانيات شعبنا غزيرة وعميقة، ولكن اكثرها دفين ومغمور.
كنا اذن نشعر بأن مرحلة جديدة يجب ان تبدأ، وان تظهر فيها الامة العربية على مستوى جديد غير المستوى السلبي الذي كانت عليه في الماضي، غير مستوى التشكي والتظلم والمواربة والتستر بعناوين المبادئ لكي ترفع عنها التهم الموجهة اليها من الاعداء. مرحلة جديدة تقف فيها أمتنا لتواجه مصيرها وجها لوجه.. تواجه حقيقتها بصراحة وجرأة، ولا تعبأ باستعمار ولا أجنبي. الأصل انها موجودة، ولكن تريد ان يكون وجودها صادقا وعميقا، و لا تتلكأ عن رؤية أخطائها ونواقصها لأن هذا أول دليل على نضجها وبلوغها سن الرشد. والواقع ان المرحلة الجديدة التي بدأناها لم تغفل قيمة الشعب في خوض المعركة ضد الاستعمار، فقد وجهنا انظار الشعب إلى نفسه وإلى أمراضه. و هذا تشجيع للشعب وثقة فيه لم تكن الحركات السابقة تجرؤ عليها، بل كانت تداريه وتداجيه. لذلك لم يكن يثق بها ولم يكن يمشي وراءها الى آخر الطريق.
أما مرحلتنا فكانت تنظر الى الاستعمار بأنه نتيجة اكثر منه سببا، نتيجة لما يشوب مجتمعنا من نقص ومن تشويه. وأعتقد بأن هذا ما يجب ان نلح عليه وأن نزداد جرأة في المضي فيه، وأن نعتبر اننا دخلنا النطاق العالمي، ونقوم بدورنا الذي تجاوز حدود وطننا وحدود قوميتنا، وانه يجب ان نواجه هذا المستقبل الايجابي بثقة وتفاؤل واقدام. قد يبدو لكم كل ذلك الآن شيئا طبيعيا وسهلا يسيرا، ولكن عندما بدأنا حركتنا قبل خمسة عشر عاما كانت هذه اللغة صعبة الفهم وصعبة التقبل، لان الجو الذي خلقته الحركات السابقة التي قامت على الهواة والمحترفين، وعلى المترفين الذين كانوا يتسلون بالسياسة لا على المناضلين الصادقين، كان جوا مزيفا حجب عن الشعب حقيقة قضيته، فلم يكونوا يريدون أن يسمعوا ان قضيتنا مرتبطة بقضية الانسانية كلها. ولم يكونوا يتقبلون ان تكون مرحلة نضالنا ضد الاستعمار مرتبطة بالنضال الاشتراكي في الداخل، ولم يكونوا يفهمون ويستسيغون أن قضيتنا في كل الاقطار العربية هي قضية واحدة، ويجب توحيد النضال، وأن تنسجم خطوطه، وأن التجزئة التي فرضت على بلادنا هي مصطنعة وعارضة، وأن في أعماق الشعب ما هو كفيل بأن يجلو الصدأ ويزيل الزيف ويظهر حقيقة أمتنا وأنها أمة واحدة. وها نحن بدأنا نشاهد الصدأ يجلى والحقيقة يبرز وجهها ناصعا، عندما اتخذت مصر طريقها السوي إلى العروبة بعد أن كانت مضللة مدة طويلة، وكادت تفقد بذلك حركة النضال العربي اكبر وزن واكبر ثقل. هذا الذي يراه الكثيرون وكان يراه الساسة القدماء كمعجزة ليس لها تفسير، كنا نؤمن بأنه آت لا ريب فيه، وان حقيقة مصر العربية ستظهر في يوم من الأيام.
تسمعون أيضا اصواتا ناشزة تقول: ان ما حصل الآن من ائتلاف وتقارب بين أجزاء الأمة العربية هو شيء حسن ولكنه ليس شيئا اصيلا وليس شيئا محتما وأن ظروفا معينة اقتضته، هي ظروف الكفاح ضد الاستعمار، وانه لا يغير شيئا في حقيقة الاقطار، الاقطار التي تؤلف وطننا الواسع، فلكل قطر تاريخه وماضيه وشخصيته وظروفه، وان القومية العربية شعار لمرحلة!
هذه آراء مستوردة لا تنبع من صميم القضية وفيها تناقض، اذ ان هذه السرعة التي تم فيها الانسجام وانجلاء الوعي العربي بين أقطارنا تدل على أن ثمة حقيقة كانت كامنة ولم تتطلب جهدا كبيرا حتى تظهر وتكشف عن نفسها، في حين أنه لو لم تكن هذه الحقيقة قائمة موجودة، لو لم تكن مقومات الامة موجودة في شعبنا العربي كله، لاستحال ان يظهر هذا الانسجام بين أقطار كانت متباعدة في أكثر الاشياء، وانه كان يكفي ان تزال طبقة من السياسيين المحترفين حتى تعلن هذه الحقيقة عن نفسها وتفرض نفسها فرضا. وهذا التجاوب ما كان يتم لو لم يكن مستندا الى واقع حي.
آذار 1957
في الحياد الإيجابي
ان حركة البعث ترى انه ليس من مصلحة الامة العربية، في المرحلة الحاضرة من التاريخ، ان ينهار أي من المعسكرين الرأسمالي او الاشتراكي. وهي لهذا قد دعت منذ البداية الى الحياد، وبفعل الزمن والاحداث المحلية والدولية إتخذ هذا الحياد شكله الايجابي القائم الآن لدى عدد كبير من الشعوب الآسيوية والأفريقية. وهذا الحياد الايجابي لا يجد مبرراته في الدواعي السياسية والاقتصادية وحدها، بل يبرره أيضا موقفنا الحضاري وموقفنا من مشكلة الحرية، في الصراع الدولي السياسي والعقائدي المحيط بنا، كما تتجلى آثاره في علاقات اقطارنا بعضها ببعض، وفي علاقات مختلف الفئات داخل كل من هذه الاقطار على حدة، بحيث يمكن القول ان هدف الحياد هو سلم عالمي وسلم داخلي عربي أيضا.
ونقول انه ليس من مصلحة الامة العربية الآن ان ينهار أي من المعسكرين العالميين، لأن انهيار المعسكر الاشتراكي معناه ظفر المعسكر الرأسمالي الاستعماري وزيادة سطوته الاستغلالية على مواردنا وثرواتنا وانتقاصه من سيادتنا. كما ان انهزام المعسكر الرأسمالي يعني بالمقابل اكتساح الفكرة الشيوعية للعالم بما تتضمنه من انكار للقومية والحرية. فمصلحتنا هي في ان يتطور كل من المعسكرين، يتطور المعسكر الرأسمالي نحو الاشتراكية والتنازل عن الاستعمار، ويتطور المعسكر الاشتراكي نحو الحرية في داخل الاتحاد السوفياتي، ونحو الاعتراف بحقوق القوميات الاخرى في اختيار طريق تحقيقها للاشتراكية في خارجه، ولن ينفسح المجال لتحقيق هذا التطور بشقيه الا اذا امتنعت الحرب .
وقيام جبهة كبيرة من شعوب العالم بسياسة الحياد، أي برفض انهيار احد المعسكرين سريعا هو رفض للحرب واعتراف بضرورة السلم. وان النجاح الذي حققته سياسة الحياد حتى الآن هو دليل واضح على وجود نقص أساسي وخطر كبير في سياسة المعسكرات والانقسام المذهبي الضيق، إذ لو كان احد المعسكرين العالميين محقا في دعوته وسياسته لما وقف قسم كبير من العالم خارج هذا الصراع لا يرى فيه مشروعية ولا مصلحة. فسياسة الحياد تعني الحكم على كلا الطرفين بالخطأ، وان كان ذلك لا يشترط تساوي الخطأ ولا تساوي الضرر. وكون هذا الحياد (إيجابيا) يعني ان هذا القسم غير الصغير من العالم الذي اخذ بالحياد لا يكتفي بسلبية الرفض والتنصل من الخطأ وإنما يأتي بحل جديد. وبهذا المعنى تصبح فكرة الحياد الايجابي اشمل من عدد الشعوب الآسيوية والافريقية، وأعمق من المستوى السياسي البحت الذي يعبر به عادة عنها. فالحياد الايجابي -بمعنى التطلع الى موقف جديد شامل- يرتفع فوق ذلك التضاد بين الاشتراكية والرأسمالية، ويتعمق في المشكلات الإنسانية والعلاقات الدولية اكثر من ذي قبل، مستفيدا من جميع التطورات والتبدلات التي تمت منذ وضعت نظرية التضاد هذه، وخاصة منذ تبلور الانقسام والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي. وبالتالي، فإن هذا الموقف الجديد يشترط التحرر التام من كل نظرة مذهبية بغية اعادة النظر في جميع النظريات والمذاهب وفي الخطط والاساليب المستمدة منها، كما يتطلب توفير الجو والشروط التي تسمح بالتخلص النهائي من منطق الصراع بين هذه النظريات بشكل واقعي سلمي.
والفهم الدقيق لسياسة الحياد يقتضيها ان تتوافق مع المراحل الطبيعية الضرورية لنضج النضال القومي في كل نواحيه. واذا كان اول واجباتنا أن نعبئ كل القوى الممكنة لانهاء الاستعمار وتحقيق الاشتراكية في أسرع وقت، فأن هذه السرعة ليست غاية في ذاتها ، ولا يجوز ان ندفع ثمنا لها الارتماء في المعسكر الشرقي، مستعينين بقوة مصطنعة خارجة عنا، وهي بالتالي تحمل بذور أخطار جديدة علينا، ومتجاهلين ضرورة نضج الشعب في نضاله، هذا النضج الذي يضمن له وحده النضج في حماية مكاسبه. ان انضمامنا للمعسكر الشرقي قد يكون هو أقصر الطرق الى التخلص من الاستعمار، لكننا نضحي بالطريق الأقصر لكي نصل في النهاية الى الحل الافضل: التخلص من الاستعمار، والحرية في الداخل، وممارسة كل حقوقنا القومية. وهذا المنطق يؤدي بنا الى ان الموقف الوحيد السليم الذي يجب علينا التزامه في هذه المرحلة هو موقف الحياد الايجابى .
وموقف الحياد الايجابي هو ايضا موقف حضاري جديد وخلاق بين الحضارتين المتصارعتين لا يتبنى تبنيا كليا لا القيم الشرقية ولا الغربية. ولا يقبل التعصب الاعمى لمذهب معين، ولا العداء الأعمى لنظام او فلسفة معينة. وموقفنا من الحرية هو ايضا موقف الحياد الايجابي بين المعسكرين لقد أفرغ الغرب الحرية من محتواها حتى امست عنوانا اجوف لا مضمون له، وجاء موقف الشرق في الواقع كرد فعل لتزييف الحرية في الغرب، فنفى الحرية نفيا كليا. أما نحن فنرى أن الجواب على تزييف الحرية لا يكون بالاستغناء عنها، وانما بتطبيقها تطبيقا صادقا. ان ما يزعم انه معركة الحرية بين الغرب والشرق هو في الواقع ضد الحرية، لأن الحرية واستئصال الخصم لا يجتمعان. ولقد رأينا الحرية تستيقظ في المعسكر الشرقي حين خف ضغط الغرب عليه، فلما عاود الغرب ضغطه وتهديده، عادت قوى الحرية فانكمشت من جديد، كما حدث في المجر مثلاً، فالعدوان الاستعماري الغربي هو الذي أوقف حركة التحرر في أوروبا الشرقية وكان ممكنا ان تنمو وتصبح حركة سليمة ايجابية.
وبالتالي، من هذه الزاوية أيضا، يبرز اثر ايجابية الحياد على الصعيد الانساني. فهي في الواقع لا تهدف الى مجرد تأمين مصلحة الشعوب القائمة بهذه السياسة، بل تتجاوزها الى تأمين مصلحة شعوب المعسكرين المتناحرين ايضا. فهي، من جهة، تتيح لحكومات المعسكر الشرقي مجال تصحيح موقفها من شعوبها بالاتجاه نحو الحرية، ومن جهة اخرى تعمل، بانسجامها مع مصلحة الشعوب الغربية نفسها، على ان تزداد الهوة القائمة بين هذه الشعوب وبين حكوماتها الرأسمالية الاستعمارية، لتدفعها تدريجيا الى الاشتراكية، والى طرح الاستعمار والاعتراف بحقوق الشعوب وسيادتها. وسياسة الحياد لا تعني رفض التعامل مع الغرب، بل رفض احتكار الغرب لهذا التعامل، وتقبل بالتعامل مع الغرب والشرق على السواء، تحقيقا لمصلحة شعوبهما ومصلحتنا في وقت واحد .
من هذا كله، يتبين ان مهمة الحياد الايجابي هي منع انفجار الصراع بين الديمقراطية بمعناها العميق الشامل وبين العدالة الاجتماعية في صورتها الاشتراكية الكاملة. ان كلا المعسكرين يراهن على المستقبل، المعسكر الغربي يقول ان الديمقراطية اذا روعيت بشكلها الكامل تضمن في النهاية تحقيق العدالة الاجتماعية، والمعسكر الشرقي يؤمن بأن تحقيق العدالة الاجتماعية هو الذي سيؤدي في نهاية الامر الى الديمقراطية الصحيحة. وكلا المعسكرين بالتالي، يعترف بافتقاره الى تصحيح أوضاعه، ولكنه لا يسلك السبيل الى ذلك، بل يحاول تسويف هذا التصحيح إلى ما بعد القضاء على المعسكر الآخر، أي انه ينفي الضمانة الكبرى لهذا التصحيح. أما الحياد الايجابي فيدعو الى ان يتم هذا التصحيح الآن لا في المستقبل، أي أن يصحح المعسكر الشرقي نفسه مع وجود الغرب، متطورا نحو الحرية، وان يصحح الغرب نفسه مع وجود الشيوعية، متطورا نحو الاشتراكية وتصفية الاستعمار. وهكذا يرد الحياد الايجابي سياسة الإحراج –أي إحراج الدول غير المنضمة الى احد المعسكرين بدعوى انه يجب القضاء على العدو قبل أن يصحح كلاهما خطأه- هذه السياسة التي يتضمنها منطق التناحر بين المعسكرين، ويتيح فرصة لكل منهما للتصحيح، ويحول دون دخولهما في معركة، ويضمن السلم للعالم .
وكذلك في داخل بلادنا تضمن سياسة الحياد السلم. ذلك ان الحياد هو السياسة التي تسمح للفئات التي لا تقاوم الاستعمار مقاومة عنيفة أن تنضم الى النضال الشعبي، اذ من الصعب على هذه الفئات أن تظهر رفضها لسياسة تحارب التبعية والاستعمار، وان كانت لا تخلص حقا لهذه السياسة بسبب الارتباط الوثيق بين السياسة التحررية وبين تصفية المصالح الاقتصادية لهذه الفئات، ولأن التحرر من الاستعمار يؤدي بطبيعته الى التحرر الاجتماعي في الداخل والى القضاء على امتيازات هذه الفئات. أما لو تخلينا عن سياسة الحياد هذه وقلنا بالانحياز الى الشرق لتعجيل التحرر، فان تلك الفئات الرجعية ستنحاز صراحة الى صف الاستعمار وتحارب في صفه، ومن ثم تكون الحرب الأهلية في الداخل. وواقع الامر أننا الآن في مرحلة تقتضي تركيز الجهود للتحرر من الاستعمار، وان رافق ذلك جهد معتدل نسبيا للتحرر الداخلي والتوحيد القومي، فيجب اذن ان نستفيد من كل قوانا الممكنة في المعركة، حتى ولو كانت بعض هذه القوى غير مخلصة كل الاخلاص في مساهمتها، دون ان يمنعنا ذلك -خلال الطريق- من ان ننتزع من هذه الفئات بعض الامتيازات ومن ان نحقق بعض الكسب في مجال الوحدة القومية لضمان تقوية نضال الشعب وتحرره.
ومن هنا، يظهر خطأ موقف الشيوعيين العرب من الحياد، اذ يرون فيه كسبا دون ان يروا فيه الكفاية، متخذين في ذلك موقفا هو في الواقع رد فعل يكشف عن ضعف ثقتهم بأمتهم. فكما كانوا في الماضي يعادون القومية والوحدة لانهم لم يكونوا يؤمنون بإمكان قيام فكرة قومية او دعوة للوحدة غير رجعية، كذلك تراهم الآن لا يكتفون بالحياد للصمود في وجه الاستعمار، بل يبدون من طرف خفي انحيازهم للمعسكر الشرقي، وموقفهم في الحالين موقف رد فعل لموقف الرجعيين وعملاء الاستعمار، ولا يحاولون السمو عنه الى موقف استقلالي أصيل. ان هذا الموقف الأصيل هو الحياد، الذي يحقق السلم الداخلي حين لا يستبق المراحل في النضال ولا يفتح الباب لحرب اهلية في كل قطر من اقطارنا، كما انه ييسر تعاون هذه الاقطار بعضها مع بعض. فالوطن العربي يضم اقطاراً متحررة واخرى غير متحررة، أقطارا بلغ فيها الوعي الشعبي حدا أوصل معه الى الحكم او فرض على رجال الحكم عناصر تقاوم الاستعمار، واقطارا اخرى ما تزال حكوماتها لا تقبل هذه السياسة التحررية لان الشعب فيها لم يبلغ بعد المستوى اللازم من النضج النضالي ولان شروط النضال والتنظيم فيها عسيرة، وسياسة الحياد تتيح لهذه الاقطار المتخلفة ان ينضج فيها هذا النضال حتى تتساوى مع الاقطار الاسبق، ونحن نرى اليوم فائدة هذه السياسة. اذاً بالرغم من ان بعض حكوماتنا تنحاز صراحة الى الغرب، وبعضها ينحاز اليه انحيازا خجولا يحاول ان يجد له المبررات، فان سياسة الحياد هي التي تجعل هذا الانحياز بهذا التردد وهذا الخجل، وتضغط على الحكومات كي تستجيب للشعب في الانفكاك عن الاستعمار والعمل للتحرر.
القاهرة، آذار 1957
نضال الوحدة هو نضال الجماهير
ان النظرة العربية الحديثة [1] نظرة انقلابية تؤمن بضرورة تحقيق تبديل أساسي في حياة الأمة العربية، في مختلف النواحي: في الاوضاع السياسية وفي الاوضاع الاجتماعية، وفي الحالة الفكرية والخلقية، وان أي تصور للسياسة يفصلها عن النواحي الاخرى هو تصور سطحي لا يمكن ان يعطي اية نتيجة جدية في نضالنا من أجل التحرر من الاستعمار، والتحرر من الاوضاع الداخلية الجائرة. فالسياسة في هذا العصر تعبير كامل عن حياة المجتمع كله، ولذلك لم نفهم الوحدة على انها يمكن ان تتم أو يمكن ان تبدأ وان تسجل أي تقدم مهما يكن بسيطاً اذا حصرناها في النطاق السياسي وحده، بل ان واجبنا هو ان نجعلها تعبيراً عن نضال العرب الكامل للتحرر من سائر الاوضاع الرجعية والظالمة والفاسدة التي يرزحون تحتها، أي ان الوحدة تعبير عن النضال ضد الاستعمار وضد الطغيان الداخلي وعن النضال ضد الاستغلال الطبقي وضد التأخر والجمود الفكري، ولذلك انتقلت الوحدة أو بالأصح انتُزٍعت قضية الوحدة من أيدي السياسيين والحكام الذين كانوا ينادون بها دون إيمان، ويتاجرون بها احياناً ويخدرون بها عواطف الشعب ويوهمونه بأنها ممكنة التحقيق في الاجتماعات والمؤتمرات بين السياسيين والحكومات دون أن يحملها الشعب بنضاله اليومي التحرري والاجتماعي، ودون ان يمزجها بنضاله من اجل خبزه اليومي ومن اجل التخلص من الاستعمار الاجنبي، وبظمإه وحاجته القصوى الى بناء حياة تقدمية. فأصبح شعار الوحدة وقضية الوحدة بيد الجماهير المناضلة، واصبحت قضيتها وجهاً من وجوه النضال العربي الشامل واصبح يسري فيها نفس الدم الدافئ الفتي الذي يغذي نضال شعبنا لانتزاع حريته من الحكم الاجنبي، ولاسترداد حريته الداخلية من الطغاة ولاسترداد حياته اللائقة الانسانية من الطبقة المستغلة. وهكذا دخلت الوحدة في هذا الجو الحي الحار ولم تعد تنفصل عن سائر أهداف واماني وحاجات الشعب العربي في كل قطر.
وبهذا الربط الوثيق الحي بين الوحدة وبين الحاجات الحيوية الاخرى لشعبنا، بهذا الربط وهذا التفاعل أخذت تظهر وتتضح ملامح هذه الوحدة بعد ان كانت غامضة ملتبسة مشبوهة، وظهرت الملامح الايجابية لوحدتنا العربية في هذه السنوات الاخيرة بعد ان كان يظن ان الوحدة العربية هي وحدة على شكل امبراطورية يحققها الملوك أو تحققها الجيوش الغازية أو يحققها الاقطاعيون والامراء والاغنياء ليقيموا وحدة قسرية بالإكراه، وليوحدوا في الواقع طبقة من الحكام ضد اكثرية الشعب حتى تتمكن هذه الطبقة من احكام سيطرتها ومن اخفات كل صوت يطالب بالحرية والعدالة، ولكي يسود التعصب والتناحر بين فئات الامة الواحدة واقطار الوطن الواحد وبين اكثرية واقليات عنصرية وغير ذلك. واذن، فالوحدة في السنوات الاخيرة تظهر بوجهها الصحيح الصريح، وجه حر تقدمي انساني، لان جماهير الشعب هي التي تحمل نضال الوحدة وهي التي تغذي هذا النضال بتضحياتها وآلامها وقد تخرج صورة الوحدة من الآلام والتجارب التي ابعدتها نهائياً عن كل تعصب وكل تفرقة، ما دام نضالها قائماً ضد التعصب والاستعمار وضد ادعاء بعض الشعوب بأنها متميزة ومتفوقة وبأن لها الحق في استعباد شعوب اخرى، فلم يعد ثمة خوف على الوحدة العربية ان تتجه اتجاهاً رجعياً أو عنصرياً او انكماشياً عن المجموعة البشرية، ما دامت هذه الوحدة تنبثق من النضال الشعبي وتعبر عن حاجات هذه الجماهير الشعبية المناضلة في سبيل التخلص من الاستعمار والتمييز العنصري وفي سبيل التخلص من الاستغلال الطبقي، والتخلص من كل عوامل التفرقة والضعف التي كانت الثغرة التي دخل منها الاستعمار ودخلت منها التجزئة فضاعت سيادة الامة العربية وضاعت وحدتها مدة طويلة من الزمن.
ولا حاجة لتقديم الامثلة على ذلك، فهي ماثلة أمام الجميع، بل اننا كلنا نحياها يوماً بعد يوم في نضال شعبنا في كل قطر من اقطاره، اذ ان كل خطوة يسجلها شعبنا العربي في طريق التحرر من الإستعمار الاجنبي تقّوي اندفاعه نحو الوحدة وتزيل من طريقه كثيراً من العقبات وكثيراً من الأوهام والالتباسات كانت قائمة من قبل فاذا هي تنهار وتتلاشى. فان ما حدث في الأردن مثلاً هو مثال حي قوي على ان التحرر من السلطة الاجنبية دك الحواجز المصطنعة التي أقاموها حول ذلك القطر الصغير وزعزع المصالح والعقلية والعواطف الاقليمية التي حاولوا زمناً طويلاً ان يخلقوها له، فانهارت مع انحسار سلطان الاجنبي، لان جماهير الشعب هي التي قامت بهذا النضال ولانها تدرك ما أهمية الوحدة وما هو الاتجاه الصحيح لهذه الوحدة.
كذلك وبنفس الدرجة من القوة والحياة نرى نضال شعبنا في الجزائر الذي حمل معه بطبيعة الأمر ودون تعمد، فكرة الوحدة. وكلما سجل خطوة الى الامام قويت فكرة الوحدة العربية بمجرد انفصال الشعب العربي هناك عن الاستعمار وان نضال الجزائر هو المثل والقدوة للنضال العربي في كل مكان، لانه قام على أساس شعبي بكل ما في هذه الكلمة من معنى، لان الاستعمار في قرن وربع القرن ورغم محاولته افناء الشعب العربي في الجزائر لم ينجح إلا في ابعاد العوائق من طريق هذا الشعب. فلقد حقق الاستعمار دون قصد منه مساواة في البؤس وفي الظلم بين جميع أفراد الشعب العربي، فخرجت ثورة الجزائر ثورة شعبية اصيلة، قفز وعيها الى أعلى المستويات، رغم ما كان يجثم على هذا القطر من اثقال الجهل والتجهيل بفعل الإستعمار نفسه، إلا أن النضال هو خير مرّب للوعي لانه ممارسة مباشرة وصحية لمعنى الحرية ولمعنى الحق والعدل ولمعنى التقدم، فانطلقت من ثورة الجزائر المعاني القومية الحديثة التي لم تتوصل إليها أقطار الشعب العربي دفعة واحدة وانما خلال عشرات السنين وبالتجارب المتعددة وبالدراسة والبحث. اما النضال العربي في الجزائر فقد بلغ هذا المستوى السليم لأنه كان نضالاً جماعياً ويقوم على طبقة الشعب دون عائق من المستغلين والمساومين فبرزت صورة المجتمع العربي الجديد من خلال لهب هذه الثورة العميقة الصادقة.
اذن أنتم ترون أن طريقنا يتجه أكثر فأكثر نحو الاستقامة وسلامة الاتجاه، بمقدار ما يدخل الشعب وتدخل جماهيره ساحة النضال وتتحمل أعباءه وتدفع ثمنه وتحيا تجربته بعمق، فان نظرة سريعة الى ما كان عليه التفكير القومي في البلاد العربية قبل عشر سنوات لا أكثر يرينا أيّ فرق كبير وأية قفزة هائلة حققها الشعب العربي عندما انفتحت أمامه سبل النضال واسعة. فلقد كنا قبل عشر سنوات أو اقل، ندعو ونناضل من أجل الوحدة وفي الوقت نفسه نضطر الى التحذير والتنبيه والمقاومة والدفاع لاتقاء مشاريع في الوحدة والاتحاد كان الاستعمار يَنْفُذ من خلالها ليغشها ويزيفها بمساعدة الطبقة الحاكمة والاقطاعية، ليجعل من هذه الوحدة مرتكزاً لسلطانه واستعماره، وسبيلاً لعقد المحالفات والاحلاف وتوسيع استغلاله، وكنا مضطرين إلى أن نحارب ايجابياً في جبهتين لنقوي تيار الوحدة القومية، ونحذر من هذه المشاريع المنحرفة، ولكننا اليوم لم نعد بحاجة الى مثل هذا، ففكرة الوحدة ونضالها في الطريق السليم لان هذا النضال قد اقترن بصورة نهائية وكلية بالنضال في سبيل التحرر من الإستعمار. وفي سبيل بناء مجتمع ديمقراطي اشتراكي عادل.
آذار 1957
[1] من حدث ألقي في نادي المغرب بالقاهرة في آذار 1957.
معنى المؤآمرة
إن المؤامرة التي اكتشفت في سوريا (1)، سواء بشكلها المصغر المحدود أم بشكلها الواسع الذي يثمل جميع الفئات التي أوصلها استمساكها بمصالحها الخاصة وتناقض هذه المصالح مع المصلحة القومية إلى حد التآمر. إن هذه المؤامرة ليست إلا صراعا على القومية العربية لا دخل فيه للشيوعية من قريب أو بعيد.
فالذي يخيف هذه الفئات كما يخيف الإستعمار نفسه هو يقظة الشعب العربي وتنبهه لحقوقه، وحرصه على قوميته من الضياع أمام غزو الدول الإستعمارية وإسرائيل وهذه الفئات التي تحول دون ارتفاع مستوى الشعب واستغلال إمكانيات الوطن بشكل يضمن للوطن العربي أن يستكمل تحرره ويحافظ على استقلاله.
لذلك فان هذه الفئات لن تكف عن متابعة تآمرها، ولن يكف الإستعمار عن استخدامها في مقاومة التحرر العربي وخنق القومية العربية، ما لم يضع الشعب العربي هذه الفئات المتآمرة أمام حقيقتها وجها لوجه، ويضطرها أن تختار بين قوميتها العربية وبين الإستعمار. وعندما يفقد الإستعمار حلفاءه في داخل بلادنا، لا يبقى له أي اثر في هذه البلاد.
فالقضية إذا تبقى بين القومية العربية وبين الذين يفضلون عليها وعلى تحررها وانبعاثها مصالحهم الخاصة واستمرار استغلالهم للشعب العربي، لا قضية يسار ويمين، وشرق وغرب. والروح التي نستلهمها في حكمنا على هذه المؤامرة أما أن تكون ملتفتة إلى الوراء سجينة بمقاييس الواقع المريض، فننظر إلى المؤامرة على أنها من صنع أفراد بالذات، وإما أن نستلهم مستقبل شعبنا وقوميتنا والمسؤولية التاريخية التي تقرر مصيرنا إلى أجيال، فنحكم من خلال حكمنا على المتآمرين على طبقة بكاملها آن لها أن تنتهي، وعلى عقلية وضيعة جبانة كانت مصدر، النكبات والخيانات منذ عشرات السنين إلى اليوم.
إن الحكم على المتآمرين يجب أن يكون في جديته وقسوته بداية لمقاييس وطنية أكثر سلامة ورجولة، ولمستوى من النضال لا يكتفي بمعاقبة الخيانة بل يقضي على أسبابها.
حزب البعث العربي الاشتراكي
فرع حلب
ميشيل عفلق
آذار 1957
( 1 ) النشرة الدورية الصادرة في آذار 1957
البعث هو الانبعاث من الداخل
ان نشوء حزب البعث هو نتيجة حاجة الى معالجة مشاكل الوطن العربي معالجة جذرية وكلية، وعلى أساس ان هذا الوطن يشكل وحدة وان شعبه يشكل امة. وان نقطة انطلاق المعالجة هي الأمة نفسها، لا بمعنى تجاهل وإهمال صلتها بالعالم، ولا بمعنى اعتبارها هي الغاية وكل ما سواها وسيلة لها، بل بقصد الاهتداء إلى المعالجة الصحيحة والعميقة لمشاكل هذه الأمة، معالجة تنبع من حاجاتها الخاصة ومن تفاعلها مع العالم، دون التقيد بأية نظرة مصطنعة تفرض من الخارج، سواء أكانت أممية طبقية أو أممية دينية أو أي شيء من هذا القبيل. لاعتقادنا بأن الحاجات الصادقة العميقة لأية أمة، وخاصة لامتنا في وضعها الراهن ومرحلتها التاريخية الحاضرة، تتضمن بالضرورة الحاجة إلى قيام تعاون متين الأسس وواضح الاتجاه بينها وبين الأمم الأخرى، أو بالأصح، قيام تعاون عالمي تكون هي جزءاً فعالا فيه.
واعتبرنا ان الانطلاق من الداخل إلى الخارج هو الطريق الصحيح لا العكس، لأن تسخير الأمم والشعوب لنظام من فوقها ومن خارجها يبقى، إلى حد بعيد، في العمل والتطبيق وفي الأوضاع الراهنة للعالم، ومهما تكن القيود والضوابط، تسخيراً لهذه الأمم والشعوب لمصلحة اتجاه وظروف أمة معينة يتجسد فيها هذا النظام.
وكان القصد من هذه النظرة ان نتجاوز وضع المسألة على شكل غاية ووسيلة إلى ما يوحد بأكثر قدر ممكن بين الغاية والوسيلة، فلا يعود أي شعب وأي بلد وسيلة لغيره أو غاية تكون الشعوب والبلدان الأخرى وسائل له.
هذه النظرة مبررة بوضع الأمة العربية في هذه المرحلة، إذ ان العدوان على حريتها وسيادتها ووحدتها يأتي من الخارج، ومن الخارج أيضا يقدم لها الحل “الثوري” الذي يدعي انه يكفل لها استرداد سيادتها واستقلالها والتخلص مما ترزح تحته من استعمار أجنبي وتخلف واستغلال. أي انه لا يحسب لإرادتها حساب ولا لما تشترطه الثورة من تحريك عميق للقوى الذاتية.
وليس الأمر مقتصراً على هذا الحد، إذ ان هناك فرقاً أساسيا بين صورة الثورة وأسلوبها وأهدافها، والمعاني الكثيرة التي تحملها عندما تكون نابعة من الداخل ونتيجة معاناة وتجربة كاملة، وبين صورتها عندما تفرض من الخارج وتستقي من تجربة أخرى مختلفة.
إن فكرة البعث تحاول ان ترتفع فوق كل من المنطق القومي المتعصب والمنطق الاممي المتعسف، فأولهما يجعل مصلحة الأمة هي الغاية ويكون اهتمامه بالمشاكل العالمية بمقدار ما تمس هذه المشاكل مصلحة الأمة فحسب. والآخر يتخذ من تحقيق الثورة العالمية غاية ومن المصالح الخاصة بكل امة وسائل لهذه الغاية. أما منطق البعث فهو يربط بين القومية والإنسانية حتى لتكاد تصبح أحداهما مرادفة للأخرى، فالإنسانية لديه ليست شيئاً اعلى من القومية، وبالتالي فهو لا يعتبر القومية مرحلة مؤقتة.
إن مفهوما معينا للثورة العالمية يوحي بإهمال الحاجات الأساسية العميقة لكل امة بمفردها من أجل تلبية حاجات الثورة العالمية. وإذا سمح بمعالجة مثل هذه الاحتياجات الضرورية والخاصة بكل أمة في حدود قوميتها وظروفها الاجتماعية والفكرية، فان هذه المعالجة تتم على مستوى سطحي ومفتعل. وينتج عن هذا، ليس فقط ان تظل هناك احتياجات أصيلة في داخل كل امة لم تلبّ، وإنما أيضاً ان يتناقض هذا المنطق مع نفسه بمعنى انه لا يحقق ما يدعي انه يرمي إلى تحقيقه من حيث انه منطق ثوري. فالعلاج الصحيح للمجتمع العالمي إنما يكون بتلبية الحاجات الخاصة بكل امة وبمعالجة مشاكلها المعالجة المناسبة لها الناتجة عن ظروفها هي نفسها بكل تعقيداتها، وبهذا تغني كل امة بقية الأمم نتيجة ممارستها لتجربتها الخاصة.
فالذي نريد أن نؤكده دوماً هو ان حركة البعث حركة قومية بمعنى أنها من داخل الأمة، ولهذا فهي تتمتع بحرية كبيرة لأنها تستوحي أفكارها وخططها من حاجات الشعب العربي. فهذا الموقف يعطيها قوة خاصة لأنها واثقة من تجاوبها مع حاجات الأمة ومع ظروف البلاد، ولثقتها هذه تتكلم وتعمل بجرأة وصراحة أكثر من أية حركة أخرى، ولا تحتاج إلى التناقض أو التحولات المفاجئة بين حين وآخر. فهي إذن لعدم تقييد حريتها منذ البداية بحركة أو نظرة خارجة عن ظروف وحاجات الأمة العربية، اقرب بكثير إلى الانسجام مع نفسها دوماً وأكثر جرأة في الإعلان عن أهدافها الثورية وفي إتباع الأسلوب الثوري المنسجم مع هذه الأهداف، وبالتالي في تحريك القوى الثورية للمجتمع لأنها ليست مشبوهة في نظر الشعب أو غريبة عنه.
وهذه القوة تمكنها من زيادة ثوريتها، وزيادة صراحتها في العمل الثوري وبالأسلوب الثوري. أما الحركة التي لا تستطيع أن تكسب ثقة الجماهير ويبقى جمهورها محدوداً، فهي مضطرة إذن إلى أن تداور وتوارب وتبتعد عن النهج الثوري، أي إلى الظهور على غير ما تدعي أنه حقيقتها.
فحركة البعث تقوم فعلاً على الوعي الشعبي، الذي هو اكبر قوة تستند إليها، لأنها منطقية مع نفسها ومع الشعب، في حين ان حركات أخرى لا تستطيع أن تعتمد كثيراً على الوعي إلا في نطاق القلة الحزبية المنظمة والقادرة على أن تفسر أسباب البعد عن الصراحة والتكتم في الأهداف.. أما بالنسبة للجماهير الواسعة فيتعذر على هذه الحركات أن تشكل لها وعياً، نتيجة هذا البعد بين أهدافها البعيدة وأهدافها القريبة، بين ممارستها وبين نظريتها.
القاهرة، آذار 1957
القومية حقيقة حية ذات مضمون ايجابي أنساني
لقد انطلقت فكرتنا من خطوط أساسية كبرى (1)، تعتبر أولا ان القومية حقيقة حية لا يمكن تجاهلها ولا يمكن افناؤها وليس من الخير ان تتجاهل أو تفنى، إذا ما فهمت فهماً سليماًَ، وإذا ما بنيت على أسس إنسانية متينة ايجابية، لا دخل للتعصب والانكماش ولعوامل التفرقة فيها. لم يُظهر لنا التاريخ الإنساني بعد ان القومية شيء طارئ عابر سطحي يمكن ان يتلاشى تبعاً لتبدل الظروف السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية بل إن ما يرينا إياه التاريخ هو ان القومية تتغلب على شتى التبدلات السياسية والاجتماعية وغيرها، وتظل حية حتى في حالة ضعفها وتراخي روابطها وغموض وعيها لذاتها.
والنظرة المتعمقة ترينا ان القومية، وإن كانت تتأثر وتتغذى بكثير من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها تظل أعمق من هذه العوامل وأرسخ قدماً وأبعد غوراً في التاريخ، فهي من صنع أجيال وقرون وهي نتيجة تراكم طويل وتفاعل عميق أوصل إلى خلق صفات مشتركة وروابط روحية ومادية بين مجموعة من البشر أصبحت هي الشخصية المعبرة عن هذه المجموعة وهي المجال الطبيعي والحياتي الذي تنطلق فيه هذه المجموعة في تحقيق إنسانيتها.
والقومية ليست كما يمكن ان يوهم التفكير المنطقي السطحي درجة في سلم التطور والارتقاء، وان بينها وبين الإنسانية فاصلاً أساسيا وتفاوتاً في الدرجة والقيمة، بل أنها هي تربة الإنسانية وهي المجال الحي لإخصابها، وان الإنسانية ليست وضعاً اجتماعياً أو سياسياً يمكن ان يتحقق تحققاً مادياً في التاريخ، بل هي روح واتجاه ومثل تنبثّ في تكوين الشعوب والأمم وتلون حضارتها وتوجه سلوكها وأخلاقها، فالإنسانية مرافقة للقومية وليست لاحقة لها.
وإذا فهمنا القومية فهماً ايجابياً سليماً، فإننا لن نراها ولن نقيمها على صورة تعزل الأمم بعضها عن بعض، وتوجد بينها الحواجز والأحقاد، بل نراها في سبيل التفاهم والتعاون الواقعي المجدي بين الأمم، وسبيل التكامل والتنافس الايجابي لكي يكتمل المعنى الإنساني بهذا التنوع، ولكي تكتمل الحضارة الإنسانية بهذا التخصص. فبقاء القوميات لا يعني تعذر قيام روابط إنسانية أعلى وأوسع من الرابطة القومية، فقد توجد روابط روحية أو مادية دائمة أو عارضة بين مجموعة من الأمم، تربط فيما بينها سواء رابطة الدين المشترك بين عدد من الأمم، أو الوضع الجغرافي في قارة من القارات، أو النظام الاجتماعي المتماثل أو المتقارب، أو الضرورة الاقتصادية للتعامل والتبادل، كما يمكن ان توجد روابط تدفع عدداً من الأمم إلى التفاهم والتعاون لدفع خطر معين، ولتغذية اتجاه جديد فيه خير لمجموعها ولمجموع الإنسانية، كما يحدث الآن في التكتل الآسيوي الإفريقي بين أمم عانت تجربة واحدة أو متقاربة في معاناة الاستعمار مدة من الزمن وفي مكافحته والتحرر منه والسعي للدفاع عن نفسها ضد احتمال عودته، والعمل على إشاعة روح السلم والتعاون بين جميع الشعوب لكي يتقلص الاستعمار وينحسر ويخف أذاه وينعدم بالنسبة لهذه الأمم الآسيوية والإفريقية، وبالنسبة لشعوب العالم كله.
إذن فالشيء الذي نقوله ونؤمن به هو ان وجود شخصية للأمة، واضحة متميزة، نامية وناضجة، هو الشيء الايجابي المثمر الخيّر الذي يساعد على التعاون بدلاً من ان يعوقه، ويفتح الأمم بعضها على بعض، ويوجد بينها التجاوب، وان فقدان هذه الشخصية أو انطماسها وغموضها هو المعرقل للتعاون وهو المغلق لنفوس الشعوب اذ ان الذي لا يعرف نفسه لا يستطيع ان يعرف غيره، والشعب الذي لا يحس بشخصيته وبالروابط التي تربط أفراده بعضاً إلى بعض، من العبث ان يشعر بروابط تتطلب جهداً أكبر وتعمقاً أكثر. هذا هو فهمنا الايجابي للقومية بأنها هي هذا المستوى الناضج الذي بلغته المجموعات البشرية نتيجة تفاعل قرون طويلة بين إفرادها وبين الظروف الطبيعية والتاريخية التي مرّت بها والتي نسجت فيما بينها روابط مادية وروحية مشتركة، أهمها واعلاها هي رابطة الثقافة.
هذه هي النقطة الأولى التي انطلقنا منها عندما بدأنا عملنا من أجل تحقيق أهداف الأمة العربية في هذه المرحلة، في التحرر والحرية وفي الوحدة القومية وفي تبديل النظام الاجتماعي الفاسد، وان نستبدل به نظاماً تقدمياً سليماً يضمن انطلاق مواهب المواطنين جميعاً، ويضمن الانسجام فيما بينهم، وزيادة الإنتاج في وطننا وتكافؤ امتنا مع غيرها من الأمم، وتكافؤها مع مسئوليتها التاريخية. فلم نفكر طويلا في البحث والتنقيب عن مقومات الأمة العربية، وهل لها من المقومات والروابط المشتركة بين جميع أقطارها وأبنائها ما يبرر وحدتها ووحدة نضالها ووحدة أهدافها. فذلك واضح يفرض نفسه فرضاً، ولا يجادل فيه إلا المكابرون وإلا ذوو الأغراض من المستعمرين الذين ادخلوا التشكك في أذهان بعض أبناء شعبنا، واستغلوا حالة الجهل وحالة التفرقة، وحالة انخفاض مستوى الحيوّية ومستوى الحضارة والوعي في امتنا، فأطلقوا هذه الشكوك ليتركونا نجادل في البديهيات.
ولم نر ان من واجبنا البدء في تقديم البراهين على قوميتنا ومبررات وجودها، لأننا لم نتصور هذه القومية تصوراً سلبياً، لم نتصور أنها وجدت لتخاصم غيرها، ولكي تثبت وجودها وحقها إزاء قوميات أخرى، أو لكي تدعي التفوق أو حق السيطرة على غيرها أو لتدفع التهمة عن نفسها. لم ننظر إلى امتنا هذه النظرة المنفعلة السلبية، بل اعتبرنا هذا الوجود القومي يعلن عن نفسه بنفسه، وبمجرد استمراره وتغلبه على نواحي الضعف التي طرأت على الأمة العربية طوال عدة قرون، والتغلب على المحن التي خلفها الاستعمار الخبيث الذي عمل جاهداً لتفكيك قوميتنا، فمجرد استمرار هذا الشعب واستمرار شعوره برابطته وبتراحمه هو دليل ان هذه القومية قائمة وباقية.. وإنما التفتنا إلى ما هو أجدى، التفتنا إلى الناحية الايجابية، لا لنخاصم أمماً أخرى، ولا لندفع عن أنفسنا التهم، بل لنصلح من شؤوننا، ونزيل عوامل الضعف، التفتنا إلى محتوى القومية لنبني وعيها على أسس سليمة فعالة، وقلنا ان الشيء الذي يهم العرب في هذا الوقت هو ان يتحرروا من الاستعمار الأجنبي، وان يتحرروا من النظام الاجتماعي الفاسد الذي يخنق قواهم ويعطل طاقتهم، ويهدر إمكانياتهم، ويتحرروا من التجزئة المصطنعة التي قطعت أوصال الجسم الواحد ويتحرروا من كل العوائق الرجعية التي تقيد العقل وتمنعه من التجدد والإبداع، وتغل المجتمع بقيود العادات والتقاليد السقيمة التي لم تعد تتجاوب مع الحياة، هذا هو ما فهمناه من القومية. إن مشكلتها ليست في البرهان على وجودها وإنما في تحقيق مضمون ايجابي حي لها.
22آذار1957
(1) حديث ألقي في نادي المغرب بالقاهرة في 22 آذار 1957.
شعب الأردن لن يفرّط في انتصاراته
إن ما يحدث الآن في الأردن هو نتيجة للحركة الشعبية (1)، ومن ثمار نضجها لأنها سارت بخطي سريعة في الخط التحرري، حتى اضطرت العناصر غير المخلصة لهذه السياسة أن تسفر عن حقيقتها وعدم إخلاصها قبل الوقت الذي كانت هي تقدره لهذا التآمر.
ولكن نضج الحركة الشعبية اختصر الوقت: فان هي إلا بادرة ايجابية تدعو إلى التفاؤل…إذا عرفنا أن نأخذ منها دروسا كافية، وان نبذل الجهد لكي نملأ الفراغ الذي تتركه العناصر المشبوهة البعيدة عن مصلحة الشعب بقوى شعبية حقيقية.
فمنطق السياسة التحررية يقضي بألا نقتصر على التأييد السياسي فحسب، بل أن يستغل هذا التأييد السياسي باستمرار لتحقيق أهدافنا في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي لطبقات الشعب إلى جانب التقدم المستمر في مجال الوحدة العربية..
وقال أيضا: أن بوادر الأخطار هذه – إذا أحسنا فهمها والاستفادة منها – تستطيع أن تنقذ السياسة التحررية من بقايا الانتهازية، التي لا تزال متداخلة فيها، فمعركة الأمة العربية يجب أن تزداد وضوحا يوما بعد يوم، وان تظهر الفروق الحاسمة أكثر فأكثر بين جماهير الشعب من جهة، وبين الفئات المستغلة، التي تشكل في بنياننا القوى مواطن ضعف يعتمد عليها الإستعمار ويغريها بالتآمر في الظروف الحرجة.
وختم الأستاذ عفلق حديثه قائلا:
والشعب العربي في الأردن لن يتراجع عن خطواته التي حققها.. بل إن جرأته الخارقة، التي حققت له انتصارات عديدة في زمن قصير، هي عامل تحريك وحفز للحركة الشعبية في الأقطار العربية المجاورة لكي تصحح أخطاءها وتضاعف جهودها، وتبادر إلى حماية هذه الانتصارات، التي لم تكن لشعب الأردن وحده، بل للشعب العربي عامة.
20 نيسان 1957
( 1) حديث حول تطورات الأوضاع بالأردن لمندوب ” المساء ” القاهرية، أعيد نشره في 20 نيسان 1957
القومية العربية والسياسة التحررية
قال محمد المبارك: (ان الإتجاه الذي تسير فيه جبهة التجمع، وان كانت في سياستها الخارجية تسير على اساس الحياد الايجابي، ليس اتجاها سليما يحافظ فيه على خصائص القومية العربية التي يفترض انه يدافع عنها ويحميها، بل هو اتجاه تنهار فيه هذه الخصائص امام التيارات الشعوبية، ويكون خدعة وضحية للنزاعات الشعوبية والتيارات العالمية التي تصبح طاغية ومسيرة للاتجاه العربي، ورابطة له بعجلة احد المعسكرين من الوجهة الفكرية والعقائدية. وان الإتجاه التحرري السليم من الوجهة الفكرية العربية هو ذلك الذي يحارب المعسكر الإستعماري، ويعامل المعسكر الصديق معاملة الند للند، والصديق للصديق، لا معاملة التابع الذي يفتح باب بلاده على مصراعيه لغزو فكري وغير فكري).
وقد عرض (الرأي العام) هذا الحديث على الأستاذ ميشيل عفلق. بوصفة الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، فقال بالتعليق عليه (1):
* * * * *
كل رأي له معنيان في آن واحد: المعنى النظري المجرد، والمعنى العملي المرتبط بالظرف الذي يقال فيه هذا الرأي، وبالتأثير الذي يمكن ان يحدثه. ولننظر الآن الى الرأي الذي أدلى به الأستاذ محمد المبارك على ناحيتيه النظرية والعملية، فهو يقول: “ان اتجاه جبهة التجمع القومي، وات كانت في سياستها الخارجية تسير على أساس الحياد الايجابي، ليس اتجاها سليما يحافظ فيه على خصائص القومية العربية، بل هو اتجاه تنهار فيه هذه الخصائص أمام التيارات الشعوبية التي يكون لها الغلبة“.
ان هذا القول يعني ان سياسة التحرر والحياد الايجابي، أتاحت الفرصة للحزب الشيوعي لمضاعفة نشاطه الفكري والعقائدي، نتيجة لوقوفه في صف الدفاع عن حرية الأمة العربية واستقلالها ضد ا الهجوم الإستعماري الطاغي، وهذا واقع لا ننكره. ولكن قول الاستاذ المبارك يفترض أشياء ثلاثة لا نقره عليها:
اولا: أن خصائص القومية العربية كانت قبل السياسة العربية التحررية هي السائدة، وصاحبة الغلبة والسيطرة دون منازع.
ثانيا: أن هذه الخصائص العربية شيء جامد ساكن، يحافظ على سلامته ونقائه بالعزلة والحجب، ويتعرض للضياع والانهيار اذا خرج الى الهواء الطلق وواجه اتجاهات وعقائد مختلفة عنه.
ثالثا: ان خصائصنا وشخصيتنا القومية شيء منفصل عن مصيرنا السياسي والاجتماعي، وعن حريتنا واستقلالنا ووحدتنا وتقدمنا.
ونجيب: اولا – بان خصائص القومية، او الإتجاه العربي العقائدي،لم يكن قبل ظهور السياسة التحررية سائدا مسيطرا، بل كان دوما موضع حرب خبيثة وهجوم لئيم من قبل الدعاية الغربية الإستعمارية التي ما زالت منذ ان دخل الإستعمار ارض العرب في المغرب والمشرق تستخدم جميع الوسائل لهدم قوميتنا العربية والتشكيك فى مقوماتها، والطعن في تاريخها، والحؤول دون انبعاثها وتماسكها. وقد تجلى ذلك في اصطناع التفرقة العنصرية داخل الأمة الواحدة، وإثارة النعرات الطائفية والاقليمية، ومحاولة استغلال الدين لتفتيت القومية العربية، واستغلال التقدمية الزائفة لتفسيخ الدين والقيم الروحية. وكل ذلك بقصد إيقاف اليقظة العربية التي تقدمت واقتربت من النصر رغم هذه العوائق كلها. ولم يعرف الوطن العربي منذ مائة عام حربا دعائية واستعمارية كالتي يشنها علينا الإستعمار اليوم. سواء فى الخارج او فى الداخل بشرائه الاقلام والدعاية، ونظرة واحدة الى صحافة البلد ترينا ان تسعة اعشارها منساقة مع دعاية الغرب الإستعمارية.
ثانيا– ان قوميتنا العربية التي استطاعت ان تستيقظ وتأخذ ملامحها وتهتدي الى طريقها رغم كل هذا التخريب الإستعماري، قد قوي ساعدها واشتد، وبلغت من النضج حدا لم يعد يخشى عليها معه ان تنفتح على الإتجاهات العقائدية وان تتفاعل معها، بل على العكس فان هذا الانفتاح يغذيها ويقويها ويساعدها على توضيح معالم شخصيتها وخصائصها. واذا كان هناك من مبرر قبل عشر او عشرين سنة للتخوف على القومية العربية من غزو العقائد الاخرى لها، فان هذا التخوف لم يعد له من مبرر اليوم. ويجب ان نعرف ان البعض، عندما يظهرون تخوفهم من الدعاية العقائدية الشيوعية على قوميتنا العربية، فانهم يهدفون من وراء ذلك الى اصطناع مبرر لتغيير اتجاه السياسية العربية التحررية التي نسير عليها، وهم بهذا لن ينقذوا عقيدتنا القومية من الدعاية الشيوعية، بل يسلمونها وحيدة عزلاء، لحرب غير متكافئة بينها وبين الدعاية الغربية الإستعمارية بكل ما تملكه من وسائل ضخمة. ومن المهم ان نلاحظ ان الذين يتخوفون على قوميتنا وعقيدتنا من الغزو الشيوعي العقائدي لها، يتجاهلون الغزو الفكري والعقائدي والدعائي الإستعماري لقوميتنا وعقيدتنا.
ثالثا – ان الخطأ والخطر هما في اعتبار العقيدة القومية شيئا منفصلا عن مصير امتنا السياسي، ذلك ان العقيدة موجودة في حياة الأمة وفي الحرص على بقائها واستقلالها وتحررها وليس العكس صحيحا، ولهذا فان الخطر كل الخطر على عقيدتنا وقوميتنا كامن في تجاهل الاخطار والمؤامرات الإستعمارية التي تهدد وجود امتنا فيما لو قضي على اتجاهها التحرري بحجة مكافحة ما يسمونه خطر العقيدة الشيوعية، لان النتيجة الحتمية لذلك، ستكون تسليم امتنا واقطارنا فريسة سهلة لقوى الإستعمار الغاشم تنهب ثرواتها، وتفسد اخلاقها، وتثير التفرقة والانقسام بين اقطارها، وتعد لتوسع اسرائيلي على حساب كيانها.
وليس ادل على صحة ذلك من ان قوميتنا وعقيدتنا العربية لم تكن أيام عدم أخذنا بالسياسة العربية التحررية وايام حجزها عن التفاعل مع العقائد الفكرية الأخرى على مثل المتانة والوضوح التي صارت اليهما اليوم. واذا ما لاحظنا الضعف النسبي لقوميتنا وعقيدتنا العربية في الاقطار التي تسير على سياسة مغايرة للسياسة العربية التحررية، تحت ستار التخوف من الغزو الشيوعي، ادركنا ان الخطر الحقيقي الذي يهدد قوميتنا وعقيدتنا ليس التفاعل الفكري مع المذهب الشيوعي وانما هو إبعاد الإستعمار بوسائله المختلفة بعض الاقطار العربية عن السير في السياسة العربية التحررية تحت ستار التخوف من خطر الشيوعية الدولية. ان اتقاء الشيوعية العقائدية لا يكون بالسلبية وانما بالعمل الايجابي، وفي مقدمة الاعمال الايجابية دعم الإتجاه العربي التحرري، والدفاع عن القومية العربية ضد هجمة الإستعمار الجديد وخطر اسرائيل. وكلما اتسع الصف التحرري وعظم، تصبح الكلمة الاخيرة للعقيدة العربية والقومية العربية.
رابعا – ان المعنى العملي لهذه الدعوة التي يقول بها الاستاذ مبارك يظهر ويتضح ويعلن عن نفسه من الوقت والظرف والملابسات التي يقال فيها.
فصدور هذا الرأي في هذا الظرف بالذات عن رجل يعمل في الحقل السياسي، له نتيجة واحدة عملية سواء رمى اليها ام لا، وهي ان هذا الرأي ذو ارتباط وثيق بالأحداث الجارية في الأردن، وفي الانقلاب الإستعماري الرجعي الذي وقع في هذا القطر العربي، كما انه ذو صلة بما كان يراد بسوريا في المعركة الانتخابية الأخيرة من اتمام لهذا الانقلاب. وان من الخطأ اعتباره رأيا مدرسيا مجردا، وانما يجب ان يفهم على ان نتيجته العملية في حالة الأخذ به تكون جزءا مما يبيته الإستعمار للقومية العربية المتحررة من خطط ومؤامرات، من بينها تفكك الجبهة العربية المتحررة ليسهل وقوع كل قطر عربي على حدة في قبضة الإستعمار ويكون فريسة أسهل لاطماع اسرائيل.
ولا بد ان نذكر ان القومية العربية تواجه اليوم خطرا استعماريا جديدا يتجلى في السياسة الاميركية المسلحة بوسائل الرشوة والافساد واستخدام القوة، وان من بين ما تستعين به امريكا على ضرب القومية العربية المتحررة هي المبالغة بخطر الغزو الشيوعي الفكري لقوميتنا لتنسينا خطر الإستعمار واسرائيل.
اذا حقق الإستعمار مآربه في امتنا فلن تكون لنا قومية ولا عقيدة وانما ستهبط امتنا الى درك القطعان المستغلة المستعبدة، وسيكون مصيرنا الذل والاستكانة ومحو معالم قوميتنا وعقيدتنا. وفي مثل هذا الحال لا يمكن ان يستقيم التفكير لا بالمثل ولا بالعقيدة.
11-آيار- 1957
(1) أعيد نشره في جريدة (( البعث )) في ايار 1957.
ثورة الجزائر معجزة العرب في هذا العصر
يتساءل بعض النظريين المتحذلقين قاثلين: هل اتجاه الثورة في الجزائر اتجاه عربي واضح، وهل تقوم هذه الثورة على الايمان الصريح بالأمة العربية وبأن الجزائر جزء لا يتجزا منها؟ وكان الاجدر بهؤلاء وامثالهم ان يعكسوا السؤال ويقولوا: هل بلغت الاقطار العربية في وضوح الاتجاه القومي وعمق الايمان بالعروبة ذلك المستوى الرفيع النادر المثال الذي حققه شعبنا في الجزائر؟ إذ هل العروبة في اعمق واصدق معانيها الا النضال في سبيل الحرية؟ الحق ان الجزائر في ثورتها تمثل الامة العربية باحسن ما فيها، اي في مستقبلها المشرق المرتقب. لقد كانت هذه الثورة تحديا للعرب قبل ان تكون تحديا للاستعمار لقد تحدت طموح العرب وايمانهم بقوميتهم ووحدتهم في كل قطر من اقطارهم. حددت لهم المستوى اللائق بامكانياتهم العديدة التي لم يجرؤوا بعد على تفجيرها كلها واطلاقها من عقالها، واحرجتهم في الاختيار بين التنازل عن ادعاءاتهم وآمالهم العريضة وبين ان يؤيدوها ويضمنوا جديتها بالبذل والعمل والجهاد، ووضعتهم هذه الثورة أخيرا في موضع الخوف والخطر الجدي على البقاء، وما على العرب الا ان يقاوموا الخوف بالجرأة، والا ان يدفعوا الخطر بالتضامن، تضامن الخائف على بقاء أمته وهذا ما فعله عبد الناصر ايضا عندما أمم القناة فاثار رعب الوحش الاستعماري وشهوته للدم، وجعل بذلك العرب في شتى اقطارهم يعون تلك اللحظات الخصبة المبدعة، لحظات الحياة الخطرة التي تربي الشعوب وتصنع المعجزات.
واما الخطر الجدي الذي يتهدد الامة العربية نتيجة لثورة الجزائر، فهو ان الاستعمار، بعد ما شهده من بطولة شعبنا في الجزائر ومن امكانياته النضالية الخارقة، لم يعد ليقنع ويكتفي بحشد جيوشه وكل اسلحته الفتاكة للقضاء على هذه الثورة، بل لا بد له لكي يطمئن على المستقبل من ضرب العروبة وتمزيقها في كل مكان، لان الاستعمار يدرك اكثر من بعض العرب ان ثورة الجزائر هي ثورة الامة العربية.
انه يعلم ان ثورة الجزائر ثورة كلية، تعطي لحرية الانسان وكرامة الانسان كل معانيهما، وان انتصارهذه الثورة سيدك قواعد الاستعمار في كل العالم انه يعلم ان ثورة الجزائر ثورة عربية تضع للعرب قيما جديدة وترفع مستوى النضال العربي وطاقته في كل قطر من اقطاره.
ولهذا فقد اطلق الاستعمار الغربي يد المستعمرين الفرنسيين في الجزائر ودعمهم بكل وسائل التخريب والافناء. والاستعمار الفرنسي الذي يعرف حقيقة هذه الثورة ومراميها، لا يحاربها على ارض الجزائر وحدها، بل يحاربها في قناة السويس وفي قلب الوطن العربي، في فلسطين. ولهذا تقف اليوم فرنسا وقد ربطت مصيرها ومصير اسرائيل في سياسة واحدة تحرضها على العدوان وتدعمها في كل شيء.
فليس العرب مخيرين اذن في هذه المعركة وفي نصرتهم لاخوانهم في الجزائر، وليس الامر امر عطف وعون لهؤلاء الاخوة، بل دفاع عن المصير الواحد. لذلك يجب ان يرتفع وعينا لهذه القضية الى مستوى خطورتها الحقيقية، وان تصبح قضية الجزائر ونجاح ثورتها في رأس قضايانا القومية، وان نعبر عن ذلك تعبيرا عمليا بتخصيص قسم جدي من موازنات الحكومات العربية للدفاع عن هذه الثورة، كما تخصص هذه الحكومات المال لتسليح جيوشها وتأمين الخبز لافراد شعبها.
17 أيار 1957
لنوحد قيادة النضال العربي (1)
في أزمة تأميم القناة فوجئ الاستعمار بمستوى من الوعي والنضال والتنظيم في البلاد العربية لم يكن يتوقعه ولم يعد العدة له فارتبك وطاش سهمه خسر المعركة، وكانت الولايات المتحدة أقل الدول الاستعمارية تورطا وانغماسا مباشرا في تلك المعركة وبالتالي أقل من غيرها تحملا لمسؤولية الفشل، فوجدت في ذلك الفرصة المواتية لتلعب دورها وتضع كل وزنها في ضرب وتفتيت حركة التحرر العربي فتنقذ بذلك مبدأ الاستعمار من الانهيار كما تنقذ بقايا هيبة حلفائها الانكليز والافرنسيين، وتصل مقابل ذلك إلى أن ترثهم فيما كان لهم من مصالح في البلاد العربية وتبسط عليهم وعلى ضحاياهم، ظل نفوذها واستغلالها الثقيل. ويجب أن نعترف بأننا نحن العرب قد فوجئنا هنا بعض الشيء، فخسرنا نتيجة لهذه المفاجأة جولة صغيرة في بداية المعركة الجديدة الطويلة، ذلك لأننا لم نكن نصدق بسهولة أن المصالح الرأسمالية والعقلية الاستعمارية، قد سيطرت على حكومة الولايات المتحدة إلى هذا الحد الذي بزت معه الاستعمار القديم في أبشع صوره وأوقح أساليبه. والمعركة الاستعمارية الجديدة ليست مفاجأة لنا، فلقد كنا ننتظرها عقب العدوان على مصر، ولكن أسلوبنا في مواجهتها ما زال الأسلوب الذي يحتاج إلى تطوير. لقد رفع الاستعمار مستوى هجومه بتسليمه قياده إلى أميركا لما تملكه هذه الدولة من قوة عالمية ووسائل فائقة في الضغط والإفساد، تمكنها، علاوة على تهديدنا من الخارج بعدوانها وعدوان الدول الخاضعة لنفوذها، من التآمر من الداخل على استقلالنا وحريتنا وتماسك كياننا القومي بأسلحة الرشوة والإفساد وإثارة الفرقة والانقسام والحرب الأهلية. وكل هذا يقتضينا نظرة جديدة وإعدادا جديدا في مستوى الخطر الذي نواجهه.
إن ذلك التنسيق في السياسة والنضال الذي حققناه فيما بين بعض أقطارنا لم يعد كافيا، ولابد أن يصبح التنسيق توحيدا كاملا لسياسة الأقطار المتحررة، وأن تتوحد قيادة النضال الشعبي في جميع أجزاء الوطن العربي. أما وحدة الجبهة الداخلية في داخل كل قطر، فلقد ظلت حتى الآن وحدة سطحية مرتجلة تخفي كثير من التضارب في المصالح والتنافر في العقلية والأساليب، ولا تستطيع بالتالي أن تصمد طويلا أمام الهزات والمغريات. ويهمنا الآن أن نرسم خطوط هذه الجبهة الداخلية السليمة التي نحتاجها. ولنقل قبل كل شيء إن وحدة الجبهة الداخلية لا تفترض ولا تشترط منح أي انقسام، ولكنها تشترط أن يكون الانقسام صحيحا أي مقتصرا على الحد الضروري الذي لابد منه في كل حركة تحررية سليمة، أي مقتصرا على التفريق بين الغالبية العظمى من أبناء الوطن الذين تجمعهم على اختلاف ميولهم ومصالحهم واجتهاداتهم، الأخوة القومية ومصلحة عليا واحدة في المحافظة على بقاء الأمة وسلامة الوطن واستقلاله، وبين ذلك النفر القليل من العملاء والمأجورين لأعداء البلاد. هذا النوع من الانقسام لا نقبل به فحسب بل نتطلبه ونشترطه أيضا، ولكن المهم ألا نترك أحدا يمشي في صف الاستعمار وضد مصلحة الشعب والوطن، لمجرد نقص في الوعي عنده ونقص في وضوح الأهداف التحررية، ونشوء أوهام ومخاوف لا محل لها ولا مبرر، بين كثير من فئات المواطنين، تتيح للاستعمار أن يستغل ويفسد. إذن فما دامت حركة التحرر العربي حركة جدية صادقة، فلا بد لها من الانفصال عن ذلك العدد المحدود من العناصر المريضة التي حرمت من شعور الوطنية والكرامة الإنسانية واستعبدت للجشع والأنانية. وما دامت حركة التحرر العربي حركة ثورية أصيلة تطمح إلى بناء المستقبل على أسس ثابتة قويمة، فلا بد لها من أن تقبل الانقسام العقائدي على المبادئ الفكرية والاجتماعية، ولابد أيضا من أن تحدد الطبقة المؤهلة لقيادة هذا النضال.
ونظرة واحدة نلقيها على تركيب جبهتنا الداخلية في معظم أقطارنا وعلى توزيع القوى السياسية والأحزاب والتكتلات، تقنعنا باصطناع هذا التوزيع، وهذه الخلافات التي خلقتها الدعايات والمصالح والأهواء الشخصية الصغيرة أكثر مم صنعتها الفروق العقائدية واعتبارات المصلحة القومية.
ولاشك أن الطريق الذي سارت فيه الحياة الحزبية في سورية والأردن والخطوات التي قطعتها، إنما هي علامة ايجابية تدل على نمو الوعي القومي ونضج التنظيم الشعبي وتدعو في جملتها إلى التفاؤل. وقد يكون طبيعيا أن يرافق هذه الحياة الحزبية في أولى خطواتها شيء غير قليل من التشويش والالتباس يجعل توزع المواطنين بين الأحزاب توزعا غير دقيق وغير منسجم كل الانسجام مع الأوضاع الاجتماعية لفئات المواطنين ومع ما لهذه الفئات من مصالح وأهداف، فنجد هكذا قسما من الطبقة الكادحة والمتوسطة يعمل في صف الأحزاب التي تقاوم الإصلاح الاجتماعي وتعرقل حركة التحرر القومي. إلا انه لم يعد جائزا مع هذا الحد من الوعي الذي بلغناه، وفي هذه المرحلة القومية الحاسمة المثقلة بالأخطار والمسؤوليات، أن نقبل بهذا الوضع المشوش الملتبس. فالوقت جد مناسب لإعادة النظر وزيادة التوضيح في سبيل تصحيح حياتنا الحزبية قبل أن تتبلور، وتعميق تربيتن السياسية القومية قبل أن تصبح الأوهام والأهواء جزءا من دمها ولحمها.
وان أهم مقياس نهتدي به في هذا التصحيح هو: أولا، تعيين أهداف المرحلة التي نجتازها لكي لا نختلف اليوم على شيء لم يحن بعد وقت تحقيقه، ولم يحن بالتالي وقت الاختلاف عليه. ثانيا، أن نربط بين أهدافنا القومية في هذه المرحلة ربطا عميقا وان نوضح هذا الترابط توضيحا كاملا، لكي لا يبقى داع للتناقض والالتباس وللتناحر والانتكاس. فالمرحلة مرحلة تحرر قومي لجميع أجزاء الوطن العربي. ويدعم هذا التحرر، لكي لا يبقى شعارا أجوف ونضالا متعاكسا متضاربا، تحقيق بعض الخطوات الواقعية في مجالي الوحدة العربية والإصلاح الاجتماعي. ويجب أن يكون واضحا أن ما تقتضيه المرحلة التحررية من تضامن بين جميع العرب المؤمنين بحق أمتهم في الحياة، لا يجوز أن يعني بشكل من الإشكال أن الأوضاع الفاسدة يجب أن تستمر دون أي إصلاح وتقدم، وان الحكام يستطيعون أن يحكموا الشعب بالإرهاب والتنكيل، وان يقضوا على طلائعه الواعية وقواه النضالية ثم يدعون في الوقت نفسه أنهم يحاربون الاستعمار ويعملون للتحرر القومي، إذ أن محاربة الاستعمار تكون بإنعاش الشعب لا بقتله. كما أن هذا التضامن القومي لا يجوز أن يعني إطلاق يد كبار الرأسماليين والإقطاعيين في امتصاص دماء الشعب وفي إفقاره وفي خنق إمكانياته الإنتاجية والنضالية، لأنهم إذا استمروا في هذا الأسلوب الاستغلالي الجشع وفي تجاهل ما للشعب وللأمة من حق عليهم فإنهم سيجدون أنفسهم دوما في صف الاستعمار مضطرين غير مختارين يملي عليهم شروطه ويسخرهم لأغراضه، لأنهم بإضعافهم الشعب قد اضعفوا أنفسهم وبلادهم.
وهكذا إذا حاولنا أن نمضي في توضيح المرحلة التحررية وعلاقة أهدافه بعضها ببعض يمكن أن نصل إلى تضييق شقة الخلاف بين الأحزاب والفئات السياسية والاجتماعية، وان نتفق على بعض القواعد الأساسية كبداية للالتقاء والتعاون على تحقيق أهداف وإصلاحات عاجلة ضرورية للأمة العربية، كأمة مناضلة في سبيل حريتها وبقائها، وللشعب العربي كشعب يجاهد في شتى أقطاره في سبيل التقدم والبناء.
إن الهدف الرئيسي والنهائي في المرحلة الحاضرة الذي هو التحرر من الاستعمار، هدف لا يجادل فيه أحد. ولكن جدية هذا الهدف تتوقف علي الطريق الذي نختاره لبلوغه، وعلى الضمانات الأساسية التي تعين صحة الطريق وبالتالي صدق تبني الهدف. هذه الضمانات هي : أولا، الدفاع عن الحرية السياسية والأوضاع الدستورية. ثانيا، العمل للوحدة العربية في جميع المجالات الممكنة. ثالثا، تحقيق الإصلاحات الاجتماعية الضرورية لرفع مستوى الشعب. هذا ما تستطيع الأحزاب والهيئات أن تتفق وتتعاون عليه في جبهة عربية شعبية واحدة.
17 أيار 1957
(1): جريدة البعث، العدد 54، 17 أيار 1957.
أصالة الإتجاه العربي تفرض عنف المعركة
ليس مثل العرب في هذا العصر، شعب اقام نهضته وثورته على أسس انسانية أصيلة تأبى الزيف وترفض المساومة. وهم يقيسون بمقياس واحد سواء في موقفهم من انفسهم ومن امراض مجتمعهم وعناصر الضعف والخيانة فيه، أو في موقفهم من المستعمرين والغاصبين. ليس غير العرب شعب ألجأ دول الغرب الاستعمارية التي ظلت عشر سنوات تُسَخِر هيئة الأمم ومبادئ القانون الدولي لمصالحها، الى الخروج الصريح على مبادئ هذه المنظمة في الجزائر والعودة الى اساليب القرن الماضي في عدوانها المسلح على مصر، بعد ان أمم عبد الناصر شركة القناة. وليس غيرهم شعب اوصلت ثورته العميقة الحاسمة في الجزائر حزباً اشتراكياً اصلاحياً كبيراً كالحزب الاشتراكي الفرنسي الى ان يرتكب من اساليب القمع والتعذيب والغدر ما قصرت عنه اكثر الحكومات رجعية ويمينية، ففضح بذلك زيف “اشتراكيته” امام العالم كله. وليس غير شعبنا شعب استطاع بقوة ايمانه وحقه وصموده في نضاله ان يفضح في وقت واحد خرافة الصهيونية وكذب اهدافها الانسانية السلمية وفساد دول عظمى واحزاب وفئات تقدمية خطيرة الشأن استطاعت الصهيونية ان تشتريها بالمال او تستحوذ عليها بوسائل الاعلام لمناصرة عدوانها على حق العرب الواضح كالشمس. وليس أخيراً غير شعبنا شعب ألجأ دول الغرب المتمدن وعلى رأسها الولايات المتحدة الى تمزيق براقع مدنيتها المادية الموبوءة بجشع المصالح وشهوة الاستعمار عندما اعلنت تأييدها لكل ما هو عفن فاسد متخلف في مجتمعنا العربي، لتحارب به تباشير النهضة العربية التقدمية النظيفة متمثلة في ثورة مصر وحركة سورية الشعبية.
اما في داخل امتنا ووطننا، فان ثورتنا تسلك نفس الطريق الواضح الحاسم فتغنى في كل خطوة تخطوها، يوماً بعد يوم، بعديد القوى التي يوقظها وضوح الثورة وعمقها على أعمق ما فيها من استعداد للخير والرجولة، بينما تحرج الفاسدين والمزيفين وتضطرهم الى الانفضاح.
لقد ظل الحكام والزعماء زمناً طويلاً يستغلون الدعوة الى الوحدة العربية عندما كانوا يعلمون انها لفظة للتخدير وحلم بعيد المنال، وكانت الجامعة العربية اداتهم في التخدير والتعطيل والابقاء على مصالحهم المتمشية مع التجزئة. ولكن لم تكد تظهر بوادر الوحدة الحقيقية وتتهيأ شروطها لمصر وسورية والاردن حتى آثر مستغلو التجزئة الارتماء في احضان الاستعمار والوقوف ضعافاً امام اسرائيل، وهم اليوم يطالبون بعودة الجامعة العربية، ليجعلوها من جديد سداً في وجه موجة الوحدة والحركة الشعبية الجارفة التي تحملها.
وطوال سنين عديدة ظل ارباب المصالح يستغلون الجهل والتعصب لتفرقة الامة ومنع تحررها وتقدمها ووحدتها، متذرعين بذرائع مختلفة: فدعاة الطائفية في لبنان يبنون حجتهم في الانفصال عن جسم العروبة على تخلف المجتمع في الاقطار العربية الاخرى وما فيه من تعصب وجهل. والعناصر النفعية في هذه الاقطار كانت تقاوم الحركة التقدمية بحجة مقاومة الفساد والانحلال. ولكن جميع هؤلاء يلتقون اليوم على صعيد واحد في مقاومة شيء واحد هو العروبة السليمة المتحررة لان فيها قضاء على استغلالهم ونفعيتهم. فحكام لبنان الطائفيون، والمتاجرون بالدين في سورية والاردن، والملوك المجوعون لشعبهم والمحتكرون لثروات الوطن يلتقون ويوحدون جبهتهم مع الاستعمار ومن ورائه اسرائيل، ليقضوا على اتجاه القومية العربية المتحررة التي لا مجال فيها لتفرقة دينية او عنصرية ولا لاستغلال او اإنحلال او فساد.
وما كان الاستعمار في الخارج، ومستغلو الشعب في الداخل ليتناقضوا مثل هذا التناقض، ولينفضحوا الى هذا الحد لو لم تكن ثورة الشعب العربي واضحة الاتجاه لا تسمح بالمواربة وانصاف الحلول، ولو لم تكن قد بلغت حداً حاسماً من القوة والنضج يفرض على اعدائها ومعيقي سيرها ان يستبقوا الزمن ويستعجلوا نهايتهم.
لقد دخلت الامة العربية مرحلة الفاعلية والخلق. وليس بمقدور احد من ابنائها او من شعوب العالم ان يتجاهل وجودها او يقف منه موقف الحياد والانفعال. وكما انها تفرض الخوف والعداء على الطامعين بها والمعرقلين لثورتها فانها كذلك تفرض الحماسة والتأييد والولاء على جميع الذين في الداخل او في الخارج –يرون في هذه الثورة- ضمانة لسعادتهم وانسانيتهم.
23 أيار 1957
المعركة الداخلية والمعركة الخارجية وجهان لمعركة واحدة
الى ما قبل سنوات، كان الامر في وطننا العربي بيد الملوك المنحلين والرؤساء المتغطرسين الغرباء عن الشعب، وكانت بالتالي القضية العربية مهملة منسية من العالم لا تتعدى نطاق وزارات المستعمرات في الدول الكبرى، وكان حق العرب ضائعاً بين المذكرات والاحتجاجات والخطب المملولة في المحافل الدولية.
ومنذ سنوات شق ابناء الشعب في بعض اقطار وطننا طريقهم الى القيادة ودخل الشعب ساحة النضال الجدي من ابوابه الواسعة في الجزائر ومصر وسورية والاردن، وتكلم التاريخ الحي على لسان بن بللا وعبد الناصر وغيرهما من ابناء الشعب المناضل، واذا بقضية العرب تنتقل من الدفاع الى الهجوم، ومن الوسط الاقليمي المعزول الى الوسط القومي فالوسط العالمي، واذا بانتباه العالم يتركز علينا لانه ادرك ارتباط مصيره بمصيرنا.
فالامة العربية لم تقترب اليوم من المستوى الانساني الا عندما اقتربت من الصدق والاقدام في مواجهة مشاكلها الخاصة الاساسية، وهي لم تحرك ضمير العالم وشعوبه الا عندما تحرك الشعب العربي ودخل ساحة النضال، ولا هم للاستعمار اليوم في خطته الجديدة الخبيثة الا ان يحولها عن هذا الطريق السليم فيضع العوائق المختلفة ليمنعها من استكمال معالجتها لمشاكلها، كما انه يستخدم كل وسائل القمع والتآمر والافساد ليرجع الشعب العربي الى عزلته وسجنه، والى قبضة الملوك والحكام العملاء.
ولكن التاريخ لن يعود الى الوراء. وهذه المكاسب السطحية التي حسب الاستعمار انه حققها في السعودية والاردن بدفعه ملكي هذين القطرين الى الانقضاض على قومية الشعب العربي وحريته، وعلى السياسة العربية التحررية، لم تكن في الواقع الا غذاء جديداً قوياً لهذه السياسة التحررية، زاد في انسجامها وتماسكها، كما زاد في وضوح وعي الشعب وصلابة نضاله.
وهكذا حققت المعركة القومية كسباً جديداً اساسياً بالنسبة الى هذه المرحلة، وهو عزل الملوك نهائياً عن قضية الشعب ومصلحته. وكلما اشتد ضغط الاستعمار ودَفَعَهُ الذعر على مصالحه الجشعة الى ابتكار الوان من التآمر والفساد، كلما حولت معركة النضال العربي هذا التخريب الاستعماري الى مناسبة بنّاءة لترتفع فوق نفسها وتضع يدها على مرض لم يكن واضحاً ومحدداً. فثمة شيء جديد قد تم نتيجة للمؤامرات على الاردن والانتخابات الفرعية في سورية المرتبطة مباشرة بتلك المؤامرة. فكما ان وعي الشعب العربي قد صنف الملوك نهائياً في صف اعدائه، كذلك فان هذا الوعي قد حكم نهائياً على ذلك المرض القديم المزمن الذي هو المتاجرة بالدين، واستغلال دعوته الخيرة ومبادئه السامية في خدمة الاجنبي ومصالح بعض الرأسماليين وطغمة الملوك وحاشيتهم من الفاسدين المنحلين. واكثر من هذا واعمق اثراً، ذلك التبدل العميق الذي بدأت تظهر بوادره في لبنان نتيجة لتورط الاستعمار وعملائه في هذا القطر في الامعان باستغلال وضعه الطائفي المريض بشكل مفضوح لم يسبق له مثيل. وكانت النتيجة ان استيقظ الشعب في لبنان لاول مرة على كرامته ومصلحته، وانكشفت بالبرهان الحي اضاليل الاستعمار والعملاء والمغامرين المتاجرين بالقيم الروحية والحضارية، وبدأ شعبنا هناك يلمس ويتبين على وهج المعركة تناقض الادعاءات الروحية والحضارية مع سياسة افساد الضمائر وامتهان حرية الانسان وكرامته، وكل اساليب الضغط والقمع والكذب المتبعة، واتصال هذه السياسة بمحاولات انعاش الرجعية السياسية والاجتماعية والطائفية في الاقطار العربية التي يسير لبنان الرسمي في خط حكوماتها.
لقد مضى الزمن الذي كانت فيه القضية العربية سلبية منفعلة خلواً من المبادئ الأصيلة، تلتزم موقف الدفاع ودفع التهم. في ذلك الحين كانت حجج الاجنبي والطائفيين والعملاء في لبنان تنتصر بأيسر السبل. اما اليوم، بعد ان اتضحت معالم الانبعاث العربي في طريقه الجديدة واقترنت قضية العرب بقضية حرية الانسان وتقدمه، فقد غدا واجباً على الاستعماريين الاجانب وعلى الطائفيين والنفعيين ان يدافعوا هم عن انفسهم ويبرئوا أغراضهم. على فرنسا وزبائنها ان يبرروا الوحشية والغدر الدنيء الذي يتبعه الاستعمار الفرنسي في الجزائر وان يبرئوا انفسهم امام شعبنا المجاهد هناك والذي يقدم مئات الالوف من الشهداء ذوداً عن كرامته وكرامة الإنسانية. على بريطانيا وزبائنها أن يبرروا عدوانهم التاريخي على مصر. على الولايات المتحدة زعيمة الديمقراطية الغربية وزبائنها أن يبرروا دعمهم لحرب فرنسا في الجزائر ولحكومات حلف بغداد واشتراكها المفضوح في المؤامرة على شعب الاردن المناضل في سبيل حريته وتحالفها مع المملكة السعودية ضد كل حركة تقدمية في البلاد العربية، وعليهم ان يبرئوا انفسهم امام الوف المعتقلين في سجون الاردن والعراق وأمام القتلى الذين سقطوا بالأمس في لبنان لأنهم إستنكروا أن تُشْتَرى الضمائر بالدولار.
ما دام الشعب العربي يدفع الثمن كل يوم من دمه وعرقه بالنضال والبناء فهو صاحب الحق في ان يحمل رسالة القيم الانسانية وان يقاضي مستعمريه والمعتدين عليه الذين يقيسون بمقياسين: لأنفسهم وللشعوب الصغيرة. ان صمود الامة العربية في هذه المعركة لن يضمن البقاء والارتقاء لها وحدها فحسب بل سوف يفضح زيفاً عميقاً في حياة دول الغرب ويصحح قيماً غالية على البشر.
ان معركة الامة العربية قد بلغت نضجها وتوازنها. فهي معركة واحدة واضحة خلاقة، لا فرق فيها بين نضالنا ضد الاستعمار ونضالنا ضد أمراضنا في الداخل. بين دفع الاخطار الخارجية ورفع بنيان النهضة الداخلية، بين عملنا لقوميتنا وحريتنا وبين مساهمتنا الفعالة في تحرير العالم وتجديد قيم الانسان الخالدة. وأمتنا اصيلة في نزوعها، غنية في امكانياتها. ومن يؤمن بهذه الاصالة ويثق بهذه الامكانيات يطلب المضي في هذه المعركة التاريخية الى نهايتها ويطلب باستمرار مزيداً من الوضوح والحسم فيها.
31 أيار 1957
الجزائر وفلسطين جناحا ثورة العرب وضمانة نصرها
ان ما حدث في لبنان منذ اسبوع ليس بالشيء الذي يمكن ان نمر به بدون اهتمام، ليس لبنان هو الوحيد بين اقطارنا العربية القطر الذي تُزَوّر فيه ارادة الشعب ويُفرض عليه الانحراف. ولكن الذي كان يحز في نفوس العرب هو ان التزوير والانحراف لا يمكن فرضهما في الاقطار الاخرى الا بالقوة الغاشمة وبأفظع انوع الارهاب والتعذيب رغم ما ينتاب الشعب في بعض هذه الاقطار من تأخر وجهل وضعف في الوسائل. في حين ان ذلك كان يتم دوماً في لبنان بيسر وسهولة وضمن مظاهر الحرية والديمقراطية دونما حاجة الى الاصطدام والقمع. وكان في ذلك دليل واضح على خطورة المرض وعمق التشويه الذي تفشى في لبنان العربي. كان هذا حتى الاسبوع الاخير، واذا لبنان القطر المتخلف في وعيه القومي رغم تقدمه الفكري والاجتماعي يهتز ويصحو ويرتفع الى مستوى الوعي والكرامة ويفرض شعبه على الحكام والعملاء ان يخرجوا عن هدوئهم الخادع ويلبسوا لبوس زملائهم العملاء والخونة في العراق والاردن، ويتحول الحكم الديمقراطي في لبنان الى حكم بوليسي ارهابي يقتل المواطنين في الشوارع ويملأ بهم السجون. فلئن كان ما حدث في الاردن منذ شهر من تنكيل بالشعب وقمع لحرياته يعتبر الى حد ما نكبة عارضة في تاريخ الوثبة العربية التحررية فان التنكيل بشعب لبنان وقمع حرياته يعتبر ظفراً كبيراً لهذه الوثبة وثمرة من أينع ثمراتها وتعويضاً عن النكسة التي حلت بالاردن.
وفي هذا تعبير قوي عن صحة الاتجاه الثوري وعن عمق تجاوبه مع اوضاع الشعب العربي في جميع اقطاره، وعن الامكانيات اللامتناهية التي تكمن في شعبنا والتي لا توقظها وتحركها الا السياسة المستمدة من طبيعة الشعب اي السياسة الثورية. ولقد يفرض منطق الحوادث على هذه السياسة بعض العثرات والخسائر، ولكن قدرها ان يكون ربحها اضعاف خسارتها وان تفاجأ بالعون والتأييد يأتيانها من حيث لم تكن تتوقع، وانها اذا خسرت حاكماً أو ملكاً فلكي تربح جمهوراً وشعباً.
واذا وعى العرب طبيعة مرحلتهم حق الوعي فانهم سيتخلصون من كثير من المخاوف والوساوس ودواعي التردد ويزدادون ثقة بصحة سيرهم واقداماً فيه. فطبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها العرب تتوضح ملامحها ويتحدد اتجاهها من ظاهرتين خطيرتين في حياة العرب الحديثة هما نكبة الجزائر ونكبة فلسطين. فالنضال العربي بمستواه الثوري الحاسم، والمستقبل العربي بمبادئه الانسانية الشاملة قد كتبت سطورهما الاولى ورُسمت صورتهما المقبلة في هذين الجرحين من قلب الامة العربية، الجزائر وفلسطين، حيث جرب العرب أعمق ألم انساني. والامة التي تقدّر عليها مثل هذه التجربة، لا يمكن الا ان تعطي اعمق ما عندها من الخير والابداع. وما دامت الامة واحدة وما دمنا حريصين على وحدتها وموضحين لوحدة قضيتها فلا بد للأجزاء الاخرى من ان تتفاعل وترتفع الى مستوى الاجزاء الأكثر ألماً وثورية.
لقد تجمع الظلم البشري في هذا العصر وصَوّبته يد الاستعمار على الشعب العربي والارض العربية في موضعين، فقال الاستعمار الافرنسي لشعبنا في الجزائر أنت افرنسي وارضك قطعة من فرنسا. وبعد قرن وربع القرن من التقتيل والتنكيل وحرب الابادة يقول شعب الجزائر لفرنسا والعالم اجمع انه ما زال شعباً عربياً وارضه أرضاً عربية، ولكن فرنسا هي التي فقدت شخصيتها وأنكرها شعبها وضيعت ارضها روابطها الحية بسكانها حتى امسوا بدافع النفع والجشع يضحون بكرامتها وقيمها في سبيل الاحتفاظ بأرض غريبة تدر عليهم الربح، فالارض بالنسبة الى المستعمرين الافرنسيين هي التي يثرون منها لا التي يموتون من اجلها كما يفعل شعب الجزائر كل يوم.
وفي فلسطين تعاون الاستعماريون مع الصهيونية على اجلاء شعبنا عن ارضه وقالوا وما زالوا يؤكدون ان اسرائيل وجدت لتبقى، ولكن الشعب العربي يجيب على قولهم في فلسطين ومصر وسورية وكل بلد عربي ولم تمض على النكبة عشر سنوات: ان اسرائيل وجدت لتزول وليزول معها الاستعمار ايضاً.
لقد قصد الاستعمار الافرنسي من وراء الحاق الجزائر بفرنسا ان يُقَطّعَ أوصال المغرب العربي ليسهل عليه ابتلاعه قطعة بعد اخرى، فاذا بهذا الالحاق يخلق الخميرة القومية الثورية لتحرير المغرب وتوحيده. وقصد الاستعمار الغربي، مجتمعا، من وراء خلق اسرائيل ان يفصل بين اقطار المشرق العربي ويقطع الطريق على وحدتها. فاذا بوحدة المشرق العربي والوحدة العربية كلها تولد ولادة حية فعالة من نكبة فلسطين.
ولقد ولدت ايضاً في حياة الامة العربية معان وافعال كثيرة عميقة من هذا الظلم الذي تجمع وانصبّ على الجزائر وفلسطين، فوقف العرب من اعدائهم وقفة المدافعين، ولكنهم في الوقت نفسه وقفوا من مجتمعهم البالي واوضاعهم الفاسدة وعقليتهم القديمة وقفة المهاجمين الجريئين يعيدون النظر في كل شيء ويتحرون الصدق ويطمحون الى الاسس المتينة والقيم الشاملة. وهكذا حملت ثورة الجزائر من المعاني الايجابية ما فرض احترامها على جميع احرار العالم وما فرض بالتالي على حكومة فرنسا الاشتراكية ان تخون مبادئها الاشتراكية الانسانية وتفضح زيفها وتناقضها. وهكذا حملت انطلاقة شعب الاردن في العام الاخير من الحيوية والصلابة ما زعزع الاستعمار العالمي في كيانه، وما اضطر زعيمته الولايات المتحدة ان تكشف عن هويتها الاستعمارية العدوانية بشكل فاضح رخيص عندما عبأت أموالها واسطولها لصد انطلاقة قطر صغير كالاردن.
وفي لبنان ايضاً بذور وامكانيات للألم والثورة ولو انها من نوع مختلف. ففيه وعند بعض فئاته تجمعت عوامل السلبية والتشكك في اصالة الامة العربية وفي قدرتها على الانبعاث. وفيه تجمعت رواسب الانهزامية في النفس العربية والمحاولة اليائسة لشعب يريد ان يتخلص من ضعفه فيحاول انكار شخصيته والتبرؤ من قوميته، ولكن لبنان تحرك اخيراً ولأول مرة تحركاً ايجابياً ليس فيه مرض ولا فرار من المسؤولية. والفضل في ذلك يعود الى الاتجاه الثوري الذي تجسد في السياسة العربية التحررية والذي يستمد معينه من ألم العروبة في الجزائر وفلسطين. فلقد شطر هذا الاتجاه الجديد المجتمع العربي الى شطرين كما شطر العالم ايضاً الى قديم وحديث، وانهارت قيم دول الغرب امام ثورة العرب وتحالفت هذه الدول مع كل ما في المجتمع العربي من قديم وفاسد لتمنع ولادة المجتمع العربي الجديد، فلم يعد جائزاً ولا معقولاً ان تظل فئات مخدوعة ومكابرة حتى في لبنان تنشد الخلاص عن طريق تقليد الغرب والتبعية له بدلاً من ان تتعرف الى طريقها القويم وتضم جهودها وآمالها الى جهود وآمال الملايين من ابناء الشعب العربي الذين يبنون الحياة الجديدة.
وما دمنا امناء للمستوى الذي يحدده لنضالنا وبناء مستقبلنا عمق آلام شعبنا في الجزائر وفلسطين فلن يخرج حتى لبنان من حظيرة العروبة.
7 حزيران 1957
للوحدة طريق واحد
في منتصف القرن الماضي كانت ألمانيا لا تزال مجزأة، وكان موضوع الوحدة يفرق بين شمالها وجنوبها، لأن الشمال كان يضم دولة بروسيا الكثيفة العدد ذات المجتمع الإقطاعي العسكري الرجعي، بينما كان الجنوب يضم دويلات تفشت فيها مبادئ الثورة الفرنسية وظهرت الأفكار الاشتراكية، لذلك كانت تخشى الوحدة لأن الوحدة تعني بالنسبة إليها خضوعا للرجعية البروسية، وضياع حرياته الديمقراطية وآمالها في التقدم الاجتماعي. ولكن الشعور القومي كان أقوى من هذه المخاوف، وتحققت الوحدة الألمانية على يد بسمارك رجل بروسيا وأقوى ممثل للرجعية الألمانية السياسية والاجتماعية. وتحدد من ذلك الحين مصير ألمانيا في اتجاه السيطرة ومعاداة الحرية في الداخل والخارج معا.
أما وضع الأقطار العربية فمختلف عن ذلك اختلافا جوهريا. وأهم سبب لذلك هو وجود الاستعمار وتسلطه على أكثر هذه الأقطار. فالرجعية العربية هي أيضا تتمنى لو تستطيع أن تجمع كل هذه الأقطار تحت سيطرتها واستغلالها، ولكن وجود الاستعمار وحرصه على إبقاء التجزئة العربية من جهة، وكون الشعب العربي هو المادة الأساسية لمقاومة الاستعمار من جهة أخرى، كل هذا يحول بين الرجعية العربية وبين أن تقوم بالدور الذي اضطلعت به الرجعية الألمانية، ويفرض عليها إم أن تتخلى عن جميع امتيازاتها كطبقة رجعية وإما أن تعادي الوحدة وتستميت في الدفاع عن التجزئة. ولقد كان ممكنا قبل عشر أو عشرين من السنين، حين كان نضال العرب ضد الاستعمار ضعيفا مجزءا، وحين كان الوعي الاجتماعي غامض مبتدئا، أن يسود موقف الرجعية من الوحدة بعض الالتباس والتضليل، فتتظاهر بتبني دعوتها وتضع لها المشروعات الخيالية. أما اليوم وقد بلغ النضال العربي التحرري هذا المستوى الذي ظهر في مصر والجزائر، يرافقه ويمتزج به وعي اجتماعي تقدمي لا ينفك في ازدياد وتصاعد، فان موضوع الوحدة العربية وخطوات تحقيقها، لم يعد قابلا للغموض والالتباس، فالوحدة أصبحت بالبداهة مرادفة للتحرر لان الاستعمار لا يخشى شيئا كخشيته لها، كما أن الوحدة أصبحت مرادفة للتقدمية في الداخل، لأن الرجعية التي تستسلم للاستعمار وتتحالف معه ضد مطالب الشعب الاجتماعية، لا تستطيع إلا إن تكون مع الاستعمار أيضا في مقاومته لتيار الوحدة.
ولئن كان ثمة من مثل يجسم هذه الحقيقة فانه يكون مثل لبنان. لقد ظل هذا القطر إلى أمد قريب يمثل شذوذا عن القاعدة لأنه أكثر الأقطار العربية استمساك بالتجزئة، وهو في نفس الوقت قطر حريص على استقلاله متعلق بالحريات الديمقراطية، متطلع إلى حياة اجتماعية تقدمية. وظل هذا الوهم قائما حتى بلغت الحركة العربية نضجها الحالي وطريقها الذي تسير فيه أهداف الحرية والاشتراكية والوحدة في نضال متآلف متكامل، فإذا بالوهم يتبدد، وإذا بحكام لبنان والطبقة المستغلة للتجزئة فيه لا تستطيع الدفاع عن هذه التجزئة إلا بالتخلي عن جميع المبررات وبمناقضة كل المدعيات التي كانت تتستر بها. لقد تخلت عن استقلال لبنان وعن حرياته وتقدميته، وحكمته بالحديد والنار ونفوذ المال والإقطاع، واستعانت على ذلك بأبشع ما في الأقطار العربية الأخرى من رجعية وتخلف، وهكذا عاد لبنان ليؤيد القاعدة ويثبت كغيره، سواء بسواء، أنه حيث توجد التجزئة لا بد إن يوجد الاستعمار والاستبداد والرجعية.
وتمشيا مع هذا المنطق نفسه نقول: حيث توجد الرجعية وحيث يكون وضعه قويا، لا بد أن يوجد الاستعمار، وان تستحكم التجزئة، فهذا العراق أول من حمل لواء الوحدة العربية، أوصلته طبقته الرجعية إلى آخر درجات العزلة والانغلاق. كم فرضت رجعية النظام الملكي على الأردن نكسته الأخيرة بعد أن كادت وحدته تتحقق مع سورية ومصر. أما الرجعية السعودية فمعروف أنها ليست مستعصية على الوحدة فحسب، بل كانت ولا تزال تستخدم نفوذها ومواردها لمحاربة الوحدة في أرجاء الوطن العربي.
ويمكن القول بالمقابل أن توجه مصر الثورة نحو الوحدة العربية كان لا بد أن يحدث حتى قبل أن يتضح لحكامها كل الوضوح منذ الوقت الذي أطاحوا فيه بالملكية وأقصوا الرجعية السياسية والاجتماعية، ووقفوا من الاستعمار الموقف الجريء الحازم.
إذن فموضوع الوحدة، وهو حياة العرب وبقاؤهم، يجب أن ينقذ من جميع ما يحيطه به ذوو الأغراض والمصالح الخاصة من أوهام ومغالطات وأضاليل لان في إنقاذه إنقاذا لوجود العرب، فالوحدة ليست مطلبا معزولا عن واقع الظروف والشروط السياسية والاجتماعية، بل هي تعبير عن هذه الظروف والشروط وجزء لا يتجزأ منها. وليس يصح بعد الآن أن يقال: المهم أن تتحقق الوحدة وان تبدأ، وسيان أتحققت على يد هذا أو ذاك أو بدأت من هنا أو من هناك، ففي الوضع الداخلي والخارجي الذي توجد فيه الأمة العربية لا يمكن للوحدة غير طريق واحد هو طريق التحرر والتقدم والنضال السياسي والاجتماعي، أي طريق جماهير الشعب العربي. وكل انحراف عن هذا الطريق ليس هو انحرافا بالوحدة عن الطريق السوي بل سد للطريق في وجه تحقيقها. والعرب اليوم ليسوا مخيرين بين وحدة شعبية تقدمية وبين وحدة تقوم على أيدي الملوك والإقطاعيين، بل هم مخيرون بين هذه الوحدة الشعبية التقدمية التي هي وحدها ممكنة التحقيق وبين بقاء التجزئة التي هي نفي لبقائهم.
21 حزيران 1957
صراع العرب مع الإستعمار والصهيونية
كانت جريدة “الجمهور” قد وجهت إلى الاستاذ ميشيل عفلق بضعةاسئلة، عن الوضع الذي انتهت اليه القضية العربية، في داخل الوطن العربي، وعلى الصعيد الدولي اثر الأحداث التي تتالت في السنتين الاخيرتين، وعن حقيقة الخطر الذي يهدد الأمة العربية وجميع الشعوب المناضلة في سبيل تحررها من جراء تساند الاستعمار والصهيونية العالمية واسرائيل، واعتماد هذه القوى على الرجعية المتآمرة في الداخل، وعن الاسس التي يجب أن يعتمدها العرب في درء هذا الخطر(1).
***
أولاً- ماهي بنظركم ملامح المرحلة التي وصل اليها صراع العرب مع الاستعمار والصهيونية؟
لابد لنا قبل تحديد ملامح المرحلة الراهنة من الصراع بين العرب من جهة والاستعمار والصهيونية من جهة أخرى، لابد لنا ان نذكِّر بما تم من احداث خلال السنة الاخيرة.
بالنسبة للوطن العربي نجد انه حقق أولاً: بروز الشعب العربي كتلة واحدة الى ميدان الصراع ضد أعدائه.
ثانياً: ازدياد في الوعي والنضال والتضامن المتزايد والتنظيم بين اجزاء الشعب العربي في مختلف الاقطار من فوق الحدود ومن فوق الحكومات. وهذا ما يعبر عنه بالسياسة العربية التحررية التي تؤمن بأن الاستعمار والصهيونية هما الخطر الأكبر على وجود الأمة العربية. وبالتالي ان تركيز كل الجهود على النضال ضد الاستعمار والصهيونية هو أول واجب قومي على العرب في هذه المرحلة يلتقون عليه ويضحون في سبيل القيام به بكل الخلافات والاعتبارات.
اما بالنسبة للوضع العالمي فقد ظهر بوضوح خلال العام الاخير أن هجوم الاستعمار والصهيونية على البلاد العربية ومحاولاتهما المتكررة، سواء بالعدوان أو بالتآمر، او بالتركيز على سياسة الاحلاف لتثبيت اقدامهما وتنفيذ مآربهما في البلاد العربية، ظهر بجلاء ان هذا كله مصدر للخطر على السلم العالمي، وبالمقابل فقد برز النضال العربي التحرري الممتد من الجزائر إلى الخليج العربي كقوة عالمية ايجابية اشعرت جميع الشعوب، المتحررة حديثاً من قبضة الاستعمار، والتي لا تزال تناضل في سبيل التحرر، وجميع الشعوب المتعلقة بالسلم كوسيلة ضرورية لانصرافها الى البناء والتقدم داخل مجتمعاتها، اشعرت كل هؤلاء بوحدة المصلحة والمصير مع الحركة العربية التحررية. وهكذا يمكن القول بأن هذه المرحلة التي بلغها العرب في نضالهم التحرري قد توفرت لها لأول مرة في تاريخ هذا النضال جملة شروط من الوعي والوضوح والقوة والانسجام مع الاتجاه الإنساني جعلتها تفرض نفسها على اعدائها واصدقائها على السواء في الداخل والخارج، فلم يعد من الممكن ان تشذ حكومة عربية أو فئة أو حزب عن طريق هذا النضال التحرري الواضح الاهداف، دون أن ترتمي اضطراراً وبصورة آلية في صف الاستعمار والصهيونية، وان تقف موقف العداء من الشعب العربي؛ كما لم يعد ممكناً لأية دولة أو حركة في العالم أن تقاوم وحتى أن تتجاهل شرعية النضال العربي دون أن تقع في صف الرجعية والاستعمار وتعرض السلم العالمي للخطر.
منذ سنتين ذهب العرب الى مؤتمر باندونغ ولم يكن من بين الدول العربية سوى مصر وسورية اللتين اشتركتا بشكل ايجابي الى حد ما في وضع مبادئ باندونغ. مع أن حزبنا كان دوماً ينادي بهذه المبادئ ومع ان ثورة مصر قد وجدت مبرر وجودها في هذه المبادئ. ولكن لم يكن لها ذلك الأثر الفعّال. أما عندما أخذت الاقطار العربية المتحررة سورية ومصر ثم الاردن تمارس بجرأة وجد سياسة التحرر والحياد الإيجابي، اتجهت دول باندونغ بأنظارها صوب النضال العربي الذي حمل لواء تحقيق مبادئ باندونغ في تحرير شعوب آسيا وافريقيا وتوطيد دعائم السلم العالمي. وقد كان العرب قبل سنتين كمية مهملة بالنسبة للدول الاشتراكية كالإتحاد السوفياتي والصين الشعبية ويوغوسلافيا، أما اليوم فقد أصبحوا موضع اهتمام جدي من قبل هذه الدول ليس كما تحاول الدعاية الاستعمارية في التظاهر بأن اهتمام هذه الدول بالبلاد العربية هو اهتمام مصالح توسعية، بل إنه الى حد كبير اهتمام مصلحة مشتركة في دفع خطر الحرب وفي زيادة امكانيات النضال العربي. كذلك قبل سنتين كان زيف الحركة الاشتراكية في اوروبا الغربية وخاصة في فرنسا غير معروف وغير واضح، ولكن النضال العربي في الجزائر هو الذي فضح هذا الزيف امام العالم وامام الفرنسيين انفسهم. وقبل سنة كان ارتباط الصهيونية واسرائيل بالاستعمار امراً مجهولا لدى قسم كبير من شعوب العالم وفئاته التقدمية. ولكن نضال الشعب العربي في مصر وسورية والاردن اضطر اسرائيل والصهيونية إلى فضح هذه العلاقة الوثيقة والى ان تظهرا على حقيقتهما: الصهيونية كحركة توسع وعدوان واسرائيل كقاعدة واداة للاستعمار والعدوان. إذن يوجد في المرحلة الحاضرة موقفان للحركة العربية التحررية، موقف في الداخل وآخر في الخارج وقد وجد هذان الموقفان بقصد مواصلة النضال ضد الاستعمار والصهيونية.
موقف في الداخل
يعتمد هذا الموقف التركيز على هذا النضال التحرري ضد خطر الاستعمار والصهيونية المتحالفين المتداخلين، هذا من جهة ومن جهة ثانية التوسيع من رقعة هذا النضال وجبهته في اجزاء الوطن العربي، حتى يضم أكبر عدد ممكن من افراد الشعب العربي بمختلف فئاته وطبقاته في عمل منظم موحد. فهذه المرحلة هي بالدرجة الأولى مرحلة تحرر قومي ومعنى ذلك ان الاكثرية الساحقة تستطيع ان تشارك في هذا النضال وتلتقي على اهدافه رغم اختلاف المصالح والاتجاهات، إذ لم يحن الوقت بعد لتحقيق الوحدة العربية الشاملة ولتطبيق النظام الاشتراكي الكامل. ولكن هذا الالتقاء على هدف التحرر لكي يكون مخلصاً ويكون النضال في سبيله جَدياً مُجدياً لا بد من ضمانتين تضمنان اخلاصه وجديته، وذلك بأن يرافقه تحقيق مرحلي واقعي لخطوات عملية في طريق الوحدة، وفي مجال الاصلاح الاجتماعي لرفع مستوى جماهير الشعب الاقتصادي، فمرحلة التحرر هي مرحلة ثورية ولكنها بداية ثورة وليست الثورة الكلية.
موقف في الخارج
ولكي تكون الحركة العربية التحررية مستقيمة السير ومضمونة النجاح في هذه المرحلة فيجب ان يكون لها موقف خارجي ودولي منسجم مع مصلحتها ومع الاتجاه الانساني السليم. فعدو الحركة العربية التحررية هو الاستعمار والصهيونية وليس الغرب كشعوب، وبالتالي فإن سياسة الحياد الإيجابي هي التي تقي الحركة العربية التحررية من الاندفاعات وردود الفعل السلبية التي تقودها الى الانحياز فتضعف بذلك امكانيات السلم العالمي، كما تضعف امكانيات سيرها في طريقها الخاص المستقل. ولقد انتهت الان الى الفشل حملة الدعاية الاستعمارية الصهيونية المضللة التي بدأت إثر العدوان الاستعماري الاسرائيلي على مصر، وحاولت إظهار العرب واقطارهم المتحررة بمظهر المنحاز الى المعسكر الشرقي واختلقت خرافة التسرب الشيوعي الى هذه الاقطار. وبفشل هذه الدعاية تنهار بالوقت نفسه حجج الرجعية العربية لتبرير انحيازها الى الاستعمار وبصورة غير مباشرة الى الصهيونية بحجة اتقاء الخطر الشيوعي. وتعود مرحلة التحرر العربي اكثر وضوحاً من السابق، تظهر بحقيقتها الناصعة معركة بين الاستعمار والصهيونية من جهة، والقومية العربية من جهة أخرى. كما أن فشل هذه الدعاية الاستعمارية سيعيد الينا صداقة بعض الشعوب والفئات في العالم ممن كادوا ينخدعون بخرافة تسرب الشيوعية الى بلادنا وانحيازنا الى معسكرها وهذا ما يدعم ثقتنا بسلامة سياسة الحياد الايجابي وجدواها.
ثانياً : الى أي مدى تعتقدون بأن الاستعمار والصهيونية يتساندان في القضاء على الحركات التحررية في العالم؟ وهل أن القضاء على النفوذ الاستعماري في الوطن العربي يؤدي بالضرورة الى القضاء على اسرائيل؟
فأجاب الاستاذ عفلق: الحقيقة ان هناك نظرتين الى الاستعمار والصهيونية وفي كل منهما نقص وانحراف؛ فمن المعروف ان الجبهة اليمينية تركز على اسرائيل لتصرف الانظار عن الاستعمار. ومن جهة ثانية توجد نظرة تحررية لا تتحرى الدقة عندما تجعل من اسرائيل والاستعمار اسمين لمسمى واحد. وهذا يحجب بعض الشيء خطر الصهيونية العالمية التي هي بلا شك حركة استعمارية. ولكنها حركة مستقلة قائمة بذاتها. اما نحن فنعتبر أن إسرائيل قاعدة للاستعمار دون شك فهو الذي خلقها ويدافع عنها ويغذيها لهذه الغاية، ولكن هذا لا يستنفد كل المشكلة، فالمشكلة هي اكبر.
فإسرائيل هي ايضا تعبير عن قوة الصهيونية العالمية التي تستطيع أن تسخّر الاستعمار. والاستعمار يُسَخِّر إسرائيل. ولكن الصهيونية العالمية تستطيع ان تُسَخِر الاستعمار نفسه. فتوَصُّل العرب الى القضاء على الاستعمار يحل اضخم جزء من المشكلة ولكنه لا يحلها كلها، وبالأصح فإنَّ التوصلُ الى القضاء على الاستعمار يشترط حتى يتحقق ان يحسب حساباً لقوى الصهيونية العالمية وبالتالي فإن نضالاً آخر يجب ان يرافق نضالنا ضد الاستعمار هو نضالنا ضد الصهيونية. والصهيونية العالمية بما لها من نفوذ قوي استطاعت ان تسخر، بالإضافة الى القوة الاستعمارية، الطبقات الشعبية نفسها في كثير من البلاد، مستغلة الوضع التاريخي الخاص لوجود يهود في أوروبا تعرضوا في فترات زمنية للاضطهاد الديني والعنصري، ومستغلة المستوى الحديث الراقي لدولة إسرائيل من حيث الكفاءة الفنية وبالتالي تخلّف المجتمع العربي وطابعه الرجعي لتجعل من إسرائيل رائدة التقدم في هذه المنطقة من العالم وتجربة جديدة لحضارة الغرب في هذا الجزء من الشرق.
ثالثاً: ما هي في نظركم الأساليب التي يجب ان يعتمدها العرب في نضالهم ضد الصهيونية؟
ان وجود إسرائيل يشكل أخطر مشكلة في مرحلتنا القومية الراهنة ويوجب علينا ان نجد لها الحل الكامل دون ان نتهرب من بعض المصاعب ودون ان نتهيب رؤية العلاقة العميقة التي تصل وجود إسرائيل بمشكلاتنا القومية من جميع وجوهها، اي فيما يتعلق بأسس نظامنا الاقتصادي والاجتماعي وتربيتنا السياسية ووحدتنا القومية، وان نرى بوضوح وجرأة ان كل تلكؤ في مواجهة مشاكلنا السياسية والاجتماعية ووحدتنا القومية بتفكير واسلوب ثوريين انقلابيين قد لا يؤخر حل مشكلة وجود إسرائيل فحسب بل يسمح بتدعيم كيانها الى حد يصعب أو يتعذر معه في المستقبل التخلص من هذا الخطر. فإذا عالجنا مشكلة اسرائيل على ضوء نظرتنا العربية الانقلابية التي ترتبط فيها صورة المجتمع العربي بصورة العالم والمجتمع الدولي والإنساني المقبل الذي يسهم العرب في تحقيقه، نصل الى النتائج التالية:
ان ما يشكل خطراً على الامة العربية هو كيان إسرائيل كدولة لا وجود اقلية يهودية في الوطن العربي، وان التعجيل في النضال التحرري الوحدوي وتحقيق خطوات سريعة وجدية في هذين المجالين تقطع الطريق على اطماع الاستعمار في استخدام إسرائيل وعلى اطماع الصهيونية العالمية في استخدام الاستعمار للمحافظة على إسرائيل وتوسيعها. والتعجيل في النضال الاشتراكي العربي يضعف مخاوف الاقلية اليهودية من تعذر تعايشها السلمي العادل مع العرب، كما يزيل أو يضعف سلاح الدعاية الصهيونية العالمية في إستدرار عطف الشعوب الحرة والطبقات الشعبية على إسرائيل كدولة يراد لها أن تكون ملجأ لشعب مضطهد ولشعب راق متقدم. وأخيراً فإن إصرار العرب على إتجاههم الإنساني في المجال الدولي وتعاونهم مع الشعوب الأخرى في سبيل توطيد السلم والتقدم الإشتراكي لجميع الشعوب وسياسة الحياد الإيجابي، كل هذا يساهم في إزالة أسباب التعصب العنصري والديني في العالم ويساعد على إندماج الأقلية اليهودية في البلدان الأوروبية وبالتالي يضعف مبررات وجود إسرائيل.
27 تموز 1957
(1) جريدة البعث، العدد 63، 27 تموز 1957.
في سبيل وعي عربي انقلابي
لقد حققت الأمة العربية في السنوات الأخيرة تقدما واضحا في طريق الثورة والانبعاث، والمهم أن نعرف ما هي أسباب هذا التقدم وهل كان هذا كل ما تستطيع ان تحققه، وهل أن الطريق التي تسير فيها الحركة التحررية تضمن اطراد التقدم واستغلال جميع إمكانات الأمة وزيادة هذه الإمكانات وتعبئتها بشكل يجعل مستقبل أمتنا في مأمن من كل خطر استعماري؟.
في اعتقادنا ان السبب الأول والأهم في هذا التقدم الذي تحقق هو ظهور نظرة جديدة في العمل القومي العربي لم تبلغ بعد مستوى النظرية في الوضوح والترابط والشمول، ولكن فيها الحد الأدنى الذي يسمح لها ببلوغ هذا المستوى. ويمكن إجمال هذه النظرة الجديدة في شيئين أساسيين هما: أولا الاعتماد على الشعب واعتباره القوة الثورية الوحيدة الفعالة، ليتمكن من القيام بمهمته التاريخية، ثانيا: اعتبار القضية العربية كلا متماسكا لا يتجزأ. ولقد أعطت هذه النظرة حيثما طبقت وبالمقدار الذي طبقت فيه نتائج ايجابية بارزة، ولكن الواقع أنها لم تعط كل النتائج المرجوة، لأنها انحصرت في بعض الأقطار دون بعضها الآخر، ولأنها بقيت في حدود النظرة والأسلوب ولم تصل إلى حدود النظرية التي ترسم صورة عقلانية للمستقبل كما ترسم الطريق لتحقيقها. وان بلوغ الحركة العربية الحديثة مستوى النظرية هو أمر ضروري وحيوي عليه تتوقف ضمانة مستقبلنا وسلامته.
إن ما حققه شعبنا العربي في بعض أجزاء الوطن كثورة مصر وثورة الجزائر والحركة الشعبية في سورية ليدعو إلى التفاؤل الكبير ويعبر عن غنى الإمكانيات الكامنة في هذا الشعب، ولكن ذلك كله لا يعفينا من ضرورة الارتفاع فوق هذا المستوى من النضال الذي ما زالت تعوزه الخطة الشاملة والنظرة البعيدة المدى، خشية أن نتجمد على ما وصلنا إليه أو يتعرض سيرنا للانحراف أو الانتكاس وأن يظل قسم كبير من إمكانيات شعبنا معطلا أو غير مستغل على الشكل الأكمل وضمن الخطة الشاملة. وان من دواعي التفاؤل والدلائل على أصالة الانبعاث العربي، هذا الوعي الذي يتجلى في القيادات الجديدة في مصر والجزائر وسورية الذي يعمل بروح مرهفة متجاوبة مع حاجات الشعب ومنفتحة على اتجاه العصر، ويؤدي إلى حد كبير من التناسق بين مختلف هذه الوثبات العربية دون أن يكون ثمة تنسيق مسبق أو نظرية واحدة يرجعون إليها جميعا. فالطريق إذن ممهد للشروع في هذه المحاولة دون أن يفهم من ذلك أن الارتفاع بالنضال العربي إلى مستوى النظرية يعني بالضرورة الجمود وفقدان المرونة والتقيد الحرفي بالأفكار والخطط المسبقة، فالنظرية إذا كانت لا تستطيع أن تخلق المستقبل، فهي تتيح المساهمة في خلقه بما تدخله على النضال من عنصر الإرادة والتخطيط وإعداد الشروط الملائمة، وهي لا تمنع التكيف مع الظروف الجديدة وغير المتوقعة، إلا أنها تضمن استمرار الاتجاه الأساسي من خلال المرونة والتكيف.
ليس يكفي أن يكون حدس القادة الثوريين الجدد حدسا عميقا صادقا وأن تكون معالجتهم للظروف الحاضرة منفتحة على المستقبل وممهدة له، فقد يزول القادة أو يتبدلون، ولا بد من أسس وقواعد موضوعية تصبح في متناول فهم العدد الأكبر من أفراد الشعب تغتني بتجارب الشعب النضالية المتعاقبة ويحتكم إليها كمقاييس لمدى تقدم نضالنا وسلامة سيره وكأداة يراقب بواسطتها الشعب نفسه وقادته.
2 آب 1957
حول مبدأ ايزنهاور
طرح مندوب “المساء” على الأستاذ ميشيل عفلق أثناء زيارته لمصر السؤال: بعض البلاد العربية التي قبلته حكوماتها -مشروع أيزنهاور-، وبعد كشف الحوادث والمؤامرات الاميركية في منطقة الشرق العربي… هل ترون انه يمكن انسحاب تلك الدول العربية من المشروع، وانه قضي على المشروع بالفشل فعلا وعملا؟ (1)
وقد أجاب عنه الأستاذ عفلق بما يلي:
اذا كان مشروع الدفاع المشترك وحلف بغداد قد انتهيا الى ذلك الفشل الذريع المعروف والشعب العربي لم يكن قد انطلق انطلاقته الثورية الجبارة بكل مداها واتساعها ووضوح شعاراتها ودقة منطقها القومي الانساني، وشعوب اسيا وافريقيا لم تكن بعد قد اكتشفت مدى القوة التي تكمن فى اتصالها وتعاونها، فمن الطبيعي ان يكون نصيب مشروع ايزنهاور هذا الفشل نفسه بعد التطور الخطير الذي حققته القومية العربية وفكرة باندونغ ولم يعد ثمة شك في ان ميزان القوى قد تحول، سواء داخل الاقطار العربية او في آسيا وافريقيا تحولا محسوسا في صالح اتجاه التحرر والوحدة والسلم. واذا قصرنا كلامنا على البلاد العربية فيمكن القول بأن هذا الإتجاه الذي تمثله مصر وسوريا كان قبل عام بمثابة الأقلية المهددة بالتطويق من قبل الحكومات الرجعية في الاقطار العربية الاخرى، فى حين نرى اليوم ان الآية قد انعكست الى حد كبير… وان هذه الحكومات الرجعية هي الي تخشى ان تطوق وبالتالي تحاول التراجع والوصول الى حل وسط يقيها الانهيار امام الضغط الشعبي العربي المندفع بكليته وراء الإتجاه التحرري. ولكن الإستعمار الذي لا يزال وراء هذه الحكومات يحاول ان يستغل التقارب الذى حصل بين الحكومات العربية بمناسبة حملة الضغط على سوريا ليحصل على بعض التراجع من قبل مصر وسوريا عن اتجاههما التحرري كثمن للتراجع الظاهري الذي بدأ من الحكومات السائرة مع مشروع ايزنهاور..
واذا عرفنا ان سياسة مصر وسوريا هي سياسة وطيدة الأسس واضحة الاهداف وانها ليست ملكا لمصر وسوريا وحدهما بل هي تعبير عن حاجات وأهداف ونضال الأمة العربية فى كل قطر أدركنا حقيقتين:-
الاولى: ان السياسة التحررية ستمضي قدما وتزداد قوة بدلا من ان تتراجع.
الثانية: ان الحكومات الرجعية هي التي ستضطر في وقت قريب، ان تنسحب من مشروع ايزنهاور، ليس لان الضغط الشعبي عليها يزداد يوما بعد يوم فحسب، وليس لان قوى التقدم والسلم في العالم تزداد عددا وقوة وتضامنا، بل على الأخص لان الوحدة العربية بلغت طور النضج والتحقيق العملي وانها مقرونة بالنضال التحرري الذي يكون جزءا اساسيا منه. لذلك فهي التي ستفرض على الاقطار التابعة لمشروع ايزنهاور ان تنسجم مع الاقطار المتحررة، وستفرض على حكومات هذه الاقطار ان تتراجع او تنهار.
ما هي نتائج الاجتماع التحضيري لمؤتمر الشعوب الاسوية الافريقية؟
لا يستغرب هذا النجاح الذي حققه الاجتماع التحضيري… والمنتظر ان يسفر المؤتمر القريب القادم عن نجاح اكبر وتحقيق عملي لهذا التضامن بين الشعوب ذات التجربة الواحدة، في مجالين:-
مجال مقاومة الإستعمار ودفع اخطار العدوان، وفى المجال الايجابي من حيث تفاعل تجارب هذه الشعوب وتعاونها لرفع مستوى الجماهير فيها ولإرساء قواعد الحضارة الجديدة.
اما اهميته الخاصة بالنسبة للأمة العربية فهي فى هذا الالتقاء بين حركه القومية العربية الحديثة المتجهة بكل قوتها نحو الانشاء والبناء ونحو الفكرة الإنسانية الشاملة القائمة على وحدة المصير الانساني، ووحدة قضية السلم والحرية والتقدم لجميع شعوب الارض.. وقد اصبح واضحا في العامين الاخيرين ان القومية العربية غدت قوة انسانية بناءة تساهم في بناء السلم العالمي بمقدار ما تبني حريتها وتناضل ضد المستعمرين المعتدين على هذه الحرية.
ومن المؤكد ان الأمة العربية تجتاز مرحلة ثورة. وقد تكون اغنى أمم الارض في هذه المرحلة بالامكانيات الثورية. وينتج عن هذا ان طريقها هو في خطوطه العريضة طريق الشعوب والمجتمعات الحديثة الثورية، وان مصلحتها ليست في التضامن السياسي مع هذه الشعوب فحسب، بل ايضا في التفاعل الاجتماعي والثقافي والحضاري، ولقد ظل العرب زمنا طويلا لا يرون العالم الا من زاوية واحدة هي زاوية الغرب.
لذلك فان ارتباط الأمة العربية بهذا النصف الحديث الخطير الشأن من العالم يوفر لها فوائد لا تحصى، هذا فضلا عن تماثل او تقارب التجربة والمرحلة بينهما، وما يحمل ذلك من امكانيات خصبة لتبادل العون في كل النواحي. فان هذا الانفتاح يرفع عن كاهل الأمة العربية وطأة الضغط الغربي ويشكل معدلا ومصححا ضروريا لانحصار نظرتها زمنا طويلا في نطاق الحضارة الغربية…مع العلم بان هذا التفاعل مع الشعوب الثائرة ومجتمعاتها الحديثة لا يعني بشكل من الاشكال الانغلاق على الغرب، لان الغرب هو ايضا شعوب، ولان الشعوب لا تفقد امكانيات الثورة، وهذه الامكانيات الثورية في الغرب لئن كانت اليوم ضعيفة فان مهمة الشعوب الاسيوية الافريقية ان تمدها بالروح والقوة، بالتفاهم والتعاون، وبتقوية النضال ضد قوى الرجعية والإستعمار التي هي عدوة هذه الشعوب، وعدوة شعوب الغرب ايضا على السواء.
1 تشرين الثاني 1957
(1) أعيد نشره في جريدة “البعث“ في 1 تشرين الثاني 1957.
تجربة العرب عنصر أساسي في تكوين العالم الجديد
اغتنم هذه الفرصة [1] لأشكر باسم الوفد السوري لجنة مكافحة الاستعمار في اليونان على جهودها الطيبة التي بذلتها لهذا الاجتماع فلها ملء تقديرنا. واني لأعتقد بأن هذه الغاية السلبية التي نجتمع لتحقيقها، أي مكافحة الاستعمار، لن تثمر ثمارها الحقيقية ولن تكون مستمرة وقوية اذا لم تحمل منذ الآن بذور وملامح الغاية الايجابية التي يجب ان تكون وراء مكافحة الاستعمار، وهي ما تطمح اليه الشعوب من تقدم وسلام ومن قدرة على القيام برسالتها الانسانية.
ان نضال الشعوب ضد الاستعمار وخاصة نضال الامة العربية التي تشكل اليوم اكبر قوة في الشرق الاوسط، ما كان ليظهر بمثل هذه القوة وبمثل هذا الاندفاع، وان يحظى بتأييد الجماهير العربية وعطف شعوب العالم، لو انه قام فقط على كره الاجنبي وعلى مجرد رغبة التخلص من الحكم الاجنبي. بل ان قوته هي في الاهداف الايجابية التي تختلج في نفس كل عربي، والتي تستعجل الزمن لكي يستطيع تحقيقها لخيره وخير العالم.
ان الامة العربية عانت وما تزال تعاني تجربة انسانية عميقة بفعل وقوع ظلم الاستعمار عليها زمناً طويلاً، وثمار هذه التجربة هي شيء ضروري وعنصر اساسي في تكوين العالم الحاضر، لانها تنبعث من آلام عميقة قلما عرفها شعب في هذا العصر، ويكفي ان اشير الى آلام امتنا في الجزائر وفي فلسطين لكي نعلم بأن امة عانت مثل هذا الظلم لا يمكن ان يبقى فيها أثر للرجعية وحب السيطرة والغزو والتعصب العنصري والديني، لانها كانت أُولى ضحايا هذا التعصب وهذه الآفات.
ان هذا المؤتمر هو ثمين في نظر العرب لانه يجمعهم كممثلين للشعب العربي مع ممثلي الشعوب الاوروبية الصغيرة والكبيرة، وخاصة مع الشعوب الكبيرة التي مارست دولها الاستعمار ضدنا باسمها. لذلك عملنا على ان يكون هذا المؤتمر مناسبة للتفاهم المتبادل بين الرجال الاحرار في الشعوب ولكي يدرك الاوروبيون ان تجربة الشعب العربي والشعوب الشرقية هي شيء اساسي، وان نضال هذه الشعوب الشرقية مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتقدم شعوب اوروبا نفسها، وان استمرار الاستعمار في بلادنا يحكم على شعوب اوروبا أن تنعزل عن تيار الثورة وان تتجمد في الرجعية وبالتالي تفقد مساهمتها الحضارية.
لقد وقعت بلادنا خاصة في المدة الاخيرة تحت وطأة ضغط استعماري قلما شاهدنا له مثيلاً، حملة من الدعاية والافتراء شاركت فيها كل الاوساط الرجعية في اوروبا واميركا. وقد وجهت العام الماضي ضد مصر وفي هذا العام ضد سورية، وقلبت الحقائق رأسا على عقب وصورت نضال امة تريد ان تستقل وتنال حريتها، وان توحد اجزاءها وان تنهض بمجتمعها وتوفر الرخاء لابنائها، صوروها وصوروا نضالها بانه للتعدي والتسلط والتوسع، وعندما نسمع مثل هذه الدعاية نكاد نشك في اسس الحضارة التي تسمح بمثل هذه الأكاذيب.
ورافق هذه الدعاية اعمال وتخريب في بلادنا من قبل الاستعمار فقد شجعوا كل انحلال وكل فساد ودعموا اشد الاوضاع رجعية في بلادنا بينما ركزوا هجومهم واسلحتهم على الفئات التقدمية التي تطالب بالحرية وحق الجماهير في الكرامة القومية، والذي يهمنا هو ان لا تبقى الفئات التقدمية في اوروبا واميركا والعالم كله منخدعة بمثل هذه الدعاية، لان نهضتنا الجديدة وقوميتنا العربية الحديثة منفتحة للانسانية. وتحرص ليس فقط على عون الشعوب الحرة لها وانما يهمها ان يعرف الشعب العربي عندما يناضل ان هناك دوماً في الشعوب الاخرى فئات تنشد الحقيقة وتدافع عن الحق.
وعلى كل حال فان الامة العربية لم تفقد ايجابيتها رغم كل هذا الافتراء وهذه العزلة التي فرضوها حولها، ولم تفقد نظرتها الموضوعية ايضاً. فهي في نفس الوقت الذي تكافح فيه الاستعمار تنظر نظرة مجردة في اوضاعها الداخلية، وتكافح نواقص مجتمعها وعوامل التخلف فيه، وهي اذا كانت تطالب شعوب العالم بأن تؤيد نضالها، فانها تطالب ايضاً نفسها بمهمة اصيلة تعلم ان الوقت قد حان لتأديتها الى الانسانية..
تشرين الثاني 1957
[1] القي هذا الخطاب في مؤتمر مكافحة الاستعمار في اثينا من 1 الى 5 تشرين الثاني 1957
إتحاد مصر وسوريا دعم للاتجاه الثوري وضمان لاستمراره
لو قيل، قبل بضع سنوات لأشد الأحزاب والفئات والأفراد ثورية في العالم، ان الشعب العربي سوف يخطو هذه الخطوات التي حققها في السنوات الأخيرة، لما استطاع أحد من هؤلاء أن يصدق ولو امكان حدوث بعض الذي حدث. ذلك أن الثورة العربية الحديثة ثورة عميقة أصيلة، وهي لذلك غنية بالمفاجأة والإبداع، تخفي أضعاف ما تعلن، وتفاجئ أبناءها بمقدار ما تفاجئ البعيدين من خصوم وأصدقاء. فالأمة العربية اليوم أخصب تربة للثورة في العالم، لان ثورتها هي على مقياس آلامها وتناقضاتها الداخلية والخارجية. فلا غرابة إن عجزت الحركات الثورية في العالم عن توقعها وتقديرها حق قدرها، لان هذه الحركات، بعد أن قطعت أشواطا في تحقيق أهدافها، لم تعد تمثل آلاما وتناقضات بمثل هذا العمق والوضوح. ولا غرابة في أن تفاجأ هذه الحركات ويفاجأ العالم معها بظهور شخصية الأمة العربية الواحدة، وكانوا يحسبونها أمما متباينة، وبظهور حركة الوحدة العربية تحمل في ثنايا تيارها الجارف، نضال التحرر الوطني والثورة الاجتماعية والسلم العالمي، بعد أن كانوا يحسبونها وهما وخيالا أو تدبيرا مصطنعا خطرا يفتعله الاستعمار وتلوذ به الرجعية، ويتسم بالتعصب والانعزال.
وكانت نظرتنا دوما إلى الوحدة العربية أنها هدف ثوري وإنها أكثر أهدافنا ثورية، لذلك لا يمكن أن تلتقي بشكل من الأشكال مع الاستعمار والرجعية، خاصة بعد أن أعطيناها مفهومها الشعبي المستمد من طبيعة المرحلة التاريخية التي تجتازها امتنا، وهي مرحلة تحرر مزدوج من الاستعمار والرجعية. فان أي توحيد لبعض أجزاء شعبنا لابد أن يتفاعل مع هذا النضال القومي الاجتماعي وان يصبح بالتالي الدعامة والقاعدة لهذا النضال. ولذلك رأينا المشروعات الاتحادية المشبوهة، والتي كانت تطرح للتخدير أكثر منها للتحقيق، تزداد انفضاحا وانهيارا بمقدار ما كان هذا المفهوم الشعبي للوحدة يزداد وضوحا وانتشارا. وإذا كانت البساطة في طرح المشكلات ووضع الحلول من مميزات الثورات التاريخية، فإن الثورة العربية قد حققت هذا الشرط عندما اتخذت اتجاها يضع بوضوح بديهي، الشعب العربي في صف، وأعداء حريته ووحدته وتقدمه مجتمعين متحالفين في صف آخر.
وقد قطع شعبنا في معظم أقطاره أشواطا جدية في طريق الوعي الثوري، حتى كدنا ننسى اليوم، تلك الصورة القائمة التي كانت تقترن بالوحدة العربية وتتراءى فيها الخيالات المريضة والأفكار الممجدة للقوة والسطوة، خيالات وأفكار الملوك وزعماء الإقطاع الذين كانوا يحلمون بالوحدة كجمع التخلف إلى التخلف، والاستغلال إلى الاستغلال، وهذا هو بالذات ما كان يفقد نضال الوحدة الدم والعصب، ويلقي على طريقه الظلمات. أما اليوم فقد أصبح واضحا للشعب بفضل الوعي الثوري الذي صقله النضال، أن الوحدة عملية تحرر وخلق وبناء، وإنها لا تكون ممكنة إلا بمقدار ما يتضح الانقسام بين الحرية والاستعمار، والتقدم والرجعية، وبمقدار ما يتوحد نضال الشعب ضد الاستعمار والرجعية ليس في نطاق الوطن العربي فحسب، بل على النطاق العالمي أيضا. فان شعبنا الذي فرضت عليه التجزئة زمنا طويلا لابد له عندما تدعوه مصلحته للتكتل ضد أعدائه الخارجيين والداخليين، من أن يتغلب على جميع الحواجز والمصالح والاعتبارات المصطنعة التي اقترنت بوضع التجزئة، وان يرتفع إلى مستوى من العاطفة والوعي ومن انفتاح النفس وسعة الأفق، يسهل عليه في وقت واحد، أن يلتقي بنفسه وبالإنسانية، وأن يدرك الروابط ويتحسس بالمشاعر التي تتجاوز حدود قومه وأرضه، كما تتجاوز حدود أقطاره وأقاليمه، خاصة وان طريق الوحدة قد انفتح أمامه في نفس الوقت الذي بدأت فيه شعوب العالم تنفتح لتفهم قضيته، بعد أن أصبحت الأمة العربية وقضيتها في طليعة القوى والقضايا الثورية في العالم.
وليس أدل على صدق ثورية الوحدة العربية وسلامة اتجاهها، من البداية التي شقت بها لنفسها طريق التحقق، والتي لم تكن صدفة، بل فرضها منطق هذه الوحدة الثورية فرضا، ونعني بها: اتحاد مصر وسورية. ونستطيع القول أن العصر الحديث لم يعرف أمة توحدت بمثل هذا الحد من سلامة الاتجاه وعمق الوعي القومي والإنساني. فمصر وسورية اليوم لا تمثلان سياسة التحرر والتقدم فحسب، بل بالإضافة إلى كونهما القلعتين الجبارتين اللتين تحطمت أمامهما جميع أحلاف الاستعمار ومشاريعه وضغطه وعدوانه، تمثلان في مجال السياسة الدولية، اسلم سياسة مهيأة لأن تبدل العلاقات الدولية تبديلا ايجابيا عميقا يسير بها نحو السلم والتعاون، ويضمن للشعوب الحرية والتقدم، تلك هي سياسة الحياد الايجابي. ولقد كان من الصعب على الوفود التي اجتمعت في باندونغ وأقوت هذه السياسة أن تتوقع الدور الكبير والنتائج الخطيرة التي أدتها هذه السياسة بعد أن تبنتها مصر وسورية، وأصبحت من خلالها، تعبيرا عن أهداف الأمة العربية وإمكانياتها الثورية. وما ذلك إلا لأن الحركة الثورية العربية قد تجاوزت طور السلبية والضيق، وامتزج سيرها ومصيرها بالسير والمصير الإنسانيين، وغدا تعبيرها عن حاجات شعبها، تعبيرا عن حاجات وتطلعات جميع الشعوب المؤمنة بالحرية والمناضلة في سبيل التقدم والتعاون والسلم.
لم يعد الاتحاد مشروعا من المشروعات وشعارا من بين الشعارات، بل أصبح حقيقة واقعة وقدرا محتوما، لان وراءه أمة كبيرة تعاني ظلما وألما عميقين، وتناضل في مختلف أقطارها وعلى عدة جبهات في الخارج والداخل لتظفر بحريتها وتنطلق في أداء رسالتها. ووراء هذا الاتحاد أيضا منطق التاريخ واتجاه العصر وإرادة الحرية والتقدم والسلم عند شعوب العالم، لأن هذه الشعوب أخذت تدرك احتياج العالم إلى الدور الايجابي المهيأ للأمة العربية الحرة الموحدة الناهضة.
ولكن المرتكز الأساسي لإرادة الأمة ولمنطق التاريخ واتجاه العصر يبقى هو الشعب بوعيه ونضاله. وما دام الوعي الشعبي غير مكتمل والنضال الشعبي لم يبلغ كل مداه، فحتى الضرورات التاريخية لا تجد سبيلا إلى التحقق. وعندما طرحت فكرة الاتحاد بين مصر وسورية بصورة رسمية قبل عام ونصف، لم تكن ثمة ضمانات جدية لكيلا يؤجل تحقيق هذه الفكرة إلى مستقبل بعيد. ولكيلا تعصف بها في داخل سورية أية مؤامرة أو مغامرة، تلتقي أهدافها مع أهداف الاستعمار والصهيونية. ثم تعاقبت على مصر وسورية والبلاد العربية أزمات وأحداث، كان يمكن أن تشغلنا عن الاتحاد، وتبعدنا حتى عن التفكير فيه. فإذا بها تهيئ وسائله وتسد النقص الذي كان لا يزال قائما في وعي الشعب في سورية وأكثر منه في مصر.
ولأول مرة نلمس لمس اليد أن هدفا قوميا من أهم أهدافنا قد أصبح في مأمن من كل خطر، وان تحقيقه العاجل، وعلى الشكل القوي السليم، أصبح قدرا لا تقوى على رده أو تبديله جميع القوى الخارجية المعادية، منذ أن أصبح ملكا فعليا للقوى الشعبية في مصر وسورية.
6 كانون الأول 1957
المؤآمرة على الأمة
اني مسرور جدا من المقابلة الاولى مع ممثلي الاتحاد الاشتراكي اليوغوسلافي (1)، ونحن نؤيد سياسة التعاون في مختلف الميادين، وتشكل زيارتا ليوغوسلافيا جزءا من هذه السياسة.
اما بالنسبة لسؤالك حول الازمة القائمة في الشرق الاوسط فان رأينا ان الصراع بين القوى الإستعمارية وبين سورية لن يكون ذا اهمية كبيرة اذا ما اقتصر الأمر على سورية فحسب. ان وضع سورية هذا قد ألقى الضوء على جميع مشاكل الأمة العربية كما حدث منذ عام اثناء العدوان على مصر.
وكانت هذه القوى بعدوانها على مصر وسياستها في الضغط على سورية ترغب في الحقيقة في الحؤول دون توحيد الشعب العربي وبعثه، وكانت الخطوة الاولى في هذا السبيل خلق دولة اسرائيل. غير ان ذلك عجل في حركة تحرير البلاد العربية وإعادة توحيدها وانبعاثها. وقد عزمت بريطانيا وفرنسا على مهاجمة مصر بعد ان أدت سياستهما الى نقيض ما هدفت اليه تجاه الشرق الاوسط. وليس الضغط الاميركي على لبنان والاردن والعربية السعودية وانضمام العراق الى حلف بغداد الا مظاهر تفسر هذا الخط السياسي.
وعوضا عن وصول القوى الاستعمارية الى هدفها في تطويق سورية وعزل مصر فقد أدت خطتها الى تعزيز وحدة العالم العربي وتدعيم الجبهة القومية في سورية.
وليس دور الاشتراكيين في هذه المعركة المتوجة بالنصر من اجل الوحدة القومية غير ذي أهمية. لقد نشأت الحركة الاشتراكية في سورية، ولكنها امتدت بسرعة الى البلاد العربية الاخرى، وإحدى مميزاتها الاساسية هي الترابط الفريد والتفاعل الحي بين الثورة الاجتماعية والتحرر والوحدة القومية. وعلى الرغم من ان الحركة الاشتراكية اليوم لم تبلغ بعد حدا تتمكن من التأثير في تبديل البناء الاجتماعي، فقد نجحت مع ذلك بتكوين الرأي العام وبفرض مفهومها عن السياسة الخارجية على الاحزاب السياسية الرجعية. وباعتبارنا ننظر الى العالم العربي كوطن واحد فنحن نناضل بقوة حتى لا ينضم اي قطر عربي الى الكتل القائمة، وهدفنا العمل على تخفيف التوتر بين الكتل.
29-تشرين الثاني 1957
(1) تصريح للأستاذ ميشيل عفلق لصحيفة بوليتيكا اليوغسلافية باللغة الفرنسية أثناء زيارته لبلغراد، نشرت ترجمته في جريدة البعث في 29 تشرين الثاني 1957.
هذه الوحدة ثورة عربية وثورة عالمية وضمانتها في استمرار ثوريتها (1)
هذه الخطوة التاريخية التي رأى فيها العرب حلما يتحقق، كانت بالنسبة إلى الطليعة المؤمنة حقيقة واقعة منذ سنين طويلة ألهمت تفكير المناضلين، وحددت سلوكهم وأسلوب عملهم ومكنتهم من رؤية حقيقة الأمة من خلال الواقع المريض الكثيف، ومن أن يتغلبوا على ما اصطنعته التجزئة من عقلية منحرفة ونفسية مشوهة ومصالح شاذة متناقضة. ولقد وجدوا الوحدة في آخر الطريق، لأنهم وضعوها في أوله.
ولئن جاءت هذه الخطوة في طريق الوحدة الكبرى، فريدة في نوعها من حيث سلامة الشروط وثورية الاتجاه وديمقراطية التحقيق، فلأن مفهوم الوحدة الذي قدر له أن ينجح كان نقيضا للمفهوم القديم الجامد المتناقض، فلم يعتبرها شيئا يتحقق من نفسه وشيئا منفصلا عن حرية الوطن وسعادة الشعب وتقدم المجتمع، بل اعتبرها ثورة تحتاج إلى خلق وتنظيم ونضال، وان فيها تتجمع وتتفاعل أهداف الأمة العربية في مرحلة بعثها الجديد.
إن هذا الظفر الأول للوحدة العربية يجيء دليلا لا على ثورية الوحدة فحسب، بل على ثورية القومية العربية في اتجاهها الجديد. وثورة القومية العربية ليست ثورة قومية بل إنسانية تتعدى في فكرتها وفي آثارها العملية نطاق الوطن العربي. هي ثورة إنسانية لأنها ثورة القومية بمعناها الايجابي العميق الخلاق، معنى التحرر في الداخل والخارج، والتقدم لشعبنا ولجميع الشعوب، والسلم والتعاون المبنيين على نضج الحرية داخل كل شعب، لا على الفرض والاستغلال والتبعية. لذلك فإن ميلاد جمهوريتنا الجديدة يحمل معه تصميمنا على مساهمة أقوى وأنجع في حمل مسؤولياتنا الدولية ووضح ثقل الأمة العربية في خدمة قضية التحرر والسلم والحياد الايجابي.
وكما أن هذه الوحدة التي أحيت ثقتنا بأنفسنا تبدأ مصالحتنا مع العالم، فتذيب بقايا السلبية التي كانت تعكر صفاء نظرتنا وعفوية نزوعنا إلى حمل أعباء رسالتنا الإنسانية، كذلك فهي كفيلة بان تزيل بقايا السلبية في نظرتنا إلى أنفسنا، فنزداد ثقة بأصالة شعبنا وغنى إمكانياته ونزداد بالتالي انسجاما مع مبادئنا الثورية، وجرأة في تطبيقها.
إن جمهوريتنا العربية المتحدة هي وليدة ثورة الشعب العربي ونضاله في جميع أقطاره. ولكي تصبح في مستقبل قريب شاملة لجميع أقطار العرب، يجب أن تكون ينبوع الثورة وغذاءها في جميع أجزاء الوطن العربي، لأن المبدأ الذي كان في الأصل والأساس في خلقها والتهيئة لها منذ سنين طويلة، ألا وهو مبدأ وحدة الأمة العربية ووحدة قضيتها ونضالها، هو وحده الذي يضمن بقاءها ونموها حتى تحقق رسالتها في الوحدة المتحررة الشاملة.
8 شباط 1958
(1): جريدة البعث، العدد 90، 8 شباط 1958.
وحدة مصر وسوريا
اذا كان العرب قد حققوا بنضالهم وحدتهم في الجمهورية العربية المتحدة، فان هذه الوحدة التي حققوها لا يرون فيها الا خطوة، وان الآمال لتبدو اقرب منالا، وأقرب الى الواقع واكثر حقيقة من قبل، ولو ان الذين يعيشون في قلب المعركة في أي قطر من الاقطار لا يؤثر فيهم الزمن، فالنضال يشق حجب الزمن ويكشف عن المستقبل للمناضلين المؤمنين وينقل المستقبل الى الحاضر، ويريهم حقيقة امتهم، ولو ان كثيرا من الحجب الكثيفة والامراض تشوه وجهها، ولكن النضال يعطي الثقة للنفس ويصفي النفس ويظهر الحقيقة ويتيح للمناضلين بأن ينقلوا هكذا ايمانهم الى العدد الاكبر. ولم نكن نشك لحظة واحدة منذ سنين طويلة بأن امتنا امة واحدة من الأطلسي حتى الخليج العربي، وان روحها روح واحدة وان النضال وحده هو الذي ينقل هذه الوحدة من حيز الامكان الى حيز الفعل والتحقيق لأنه يغسل النفس من الادران، وحرارته تذيب ما علق بالامة من تشويه ومن جمود ومن امراض دخيلة، وكنا دوما نعتبر النضال وسيلة وغاية وليس وسيلة فقط من اجل التحرر والتغلب على العدو ولكنه وسيلة لنقترب من انفسنا، من حقيقتنا، لان الوحدة هي حياة وليست جمودا ولا موتا، وعندما تكون الاقطار العربية في حالة التقاعس واليأس والاستكانة فانها لا تفقد شعور الوحدة بينها فحسب وانما الفرد العربي يفقد شعور الوحدة مع أخيه الذي يعيش بجانبه، اما في حالة النضال فان هذه الوحدة تتجسد حقيقة حية وتنهار الأوهام والسدود والمصالح الآنية الحقيرة، ويرتفع ابناء الامة الى الجو التاريخي، الى جو معنى وجود الامة، جو رسالة الامة في الحياة وفي التاريخ وفي الانسانية. اذا ذكر النضال فيجب ان تذكر الجزائر كأكبر وأروع دليل على النضال في كل التاريخ البشري.
ثورة الجزائر ايها الاخوان كان لها آثار ضخمة قوية قد لا نكون وعينا الا جزءا يسيرا منها، وسنعي بقية هذه الآثار مع الايام والسنين المقبلة، هذا القطر العربي الذي تحمل ما لم يتحمله بلد في العالم من قسوة الاستعمار، وأي استعمار واي وحشية وأي حرب!.. تصميم على الابادة في هذا القطر الذي تجمعت عليه قوى الشر ونذالة المستعمرين بأقوى الصور وابشع الصور تخرج منه اروع الثورات وأعمق الثورات معنى وشعبية.. تخرج الثورة من الفلاحين، من ابناء الريف البسطاء، من ابناء الجبال، من هذه الطبيعة الصافية الروح التي طهرها الالم وتصمد في وجه الجيوش الحديثة والاسلحة الفتاكة فأي اثر اكبر من هذا، ليس على شعب الجزائر، بل على الامة العربية بكاملها. انه المثال الحي على ان العروبة خالدة وان في الامة العربية من الامكانيات والاصالة ما يستحيل على الزمن وعلى القوى الاستعمارية الغاشمة مهما اشتدت ان تطفئ هذه الشعلة…
ان نضال سورية ونضال مصر ونضال العراق والاردن وعمان ما كان يمكن ان يكون بمثل هذه القوة وما كان يمكن لمصر وسورية ان تصمدا امام مؤامرات الاستعمار وجيوشه المعتدية وضغوطه المتلاحقة لو لم يستمدا من ثورة الجزائر ثقة عميقة بالنفس وبأصالة العروبة، ثقة بما تصبو له العروبة التي بعثت من جديد على ارض الجزائر.
فالوطن العربي وطن واحد، والشعب العربي شعب واحد، هو رغم التباعد ورغم الحواجز يتفاعل بعضه مع بعض ويستمد بعضه من بعض القوة والقدوة والمثل. فكما ان ثورة الجزائر تستمد من نضال العرب في الشرق جرأة ويقينا بالنصر القريب وشعورا بأن الجزائر ليست وحيدة وانما لها اخوة، كذلك نحن استوحينا من ثورة الجزائر ثقة عظيمة، في هذا الوقت الذي يحقق العرب فيه هذه الخطوة التاريخية، وحدة سوريا ومصر، التي سيكون لها أعظم التأثير في تاريخهم وتاريخ البشرية، لننظر ولنتجه بأنظارنا وقلوبنا الى اخواننا في الجزائر لان لهم النصيب الاول في تحقيق هذه الخطوة.
لقد اعطت الثورة الجزائر دليلا قويا على ان الامة العربية بلغت بعد طول التحمل والمحن والتخلف الطويل بلغت مستوى من النضج يؤهلها بأن تنطلق من جديد ليس من اجل طرد المستعمرين فحسب بل من أجل بناء مجتمع عربي جديد ومن اجل الكفاح وحمل رسالة الى العالم كما حملتها من قبل، اذ لو لم تكن امتنا قد بلغت هذا المستوى لما رأينا حركات ثلاثا اصيلة عميقة تخرج من اقطار عربية مختلفة ليس بينها صلة وثيقة وليس بينها تعارف، وتخرج وكل حركة منها اتخذت شكلا يختلف عن شكل الاخرى ما لبثت هذه الحركات بعد قليل حتى ظهر انها تتكلم نفس اللغة، وتعلن نفس الاهداف والمبادئ، وتناضل من أجل نفس الغايات والاهداف، هذه الحركات الثلاث حركة البعث، وثورة الجزائر، وثورة مصر.
لقد كنا نقول دوما بأننا لسنا الا تعبيرا عن نضج امتنا. اننا لا نخلق الامة بل هي تخلقنا، اننا نستمد منها القوة، اننا نترجم فقط حاجاتها وامانيها ونعلن ارادتها، وان قوتنا ما كانت لتكون شيئا مذكورا لولا استنادها الى قوة الامة والى هذا الوعي المستمر في كل جزء من اجزائها الذي صقلته التجارب والآلام الطويلة، وهكذا كان لا بد لهذه التجارب المتماثلة ان تعطي نفس النتائج في مختلف اقطار الوطن العربي.
فلو كانت الامة العربية غير مؤهلة للبعث وللرسالة العظيمة التي تنتظرها، لما ظهرت هذه الحركات في وقت واحد دون أي تعارف، ومع ذالك فقد اتفقت في المبادئ والاهداف والنضال.
وهذا خير دليل على ان هذه الامة تستطيع ان تمضي بعمق واصالة وان ترتفع الى مستوى التخطيط الموحد الشامل للنضال العربي بعد ان اعطتنا هذه الاحداث والتجارب البراهين الحسية على ان امتنا ناضجة مهيأة كل التهيئة ولا تحتاج الا الى الطليعة الواعية التي تتقدم الصف –الى السباقين الذين ينيرون الطريق الامام. واعتقد ان كل مناضل حقيقي دخل النضال لمس هذه الحقيقة لمس اليد بأن الشعب العربي يعطي اكثر مما كان ينتظر منه.
فلنتعاهد على ان نجعل من هذا النصر الجزئي الذي حققه جميع العرب في جزء من اجزاء وطنهم، لنتعاهد على ان تكون ثمار هذا النصر ايضا لجميع العرب وعلى ان يكون فاتحة جديدة لعمل قومي موحد منظم، وان تكون هذه الوحدة الصغيرة التي يفرح لها العرب في كل مكان ان تكون النواة للوحدة الشاملة وأن تنصب اكثر جهودها في مساندة ودعم حركات التحرر وفي العمل لتوحيد الاقطار المجزأة لان خطر التجزئة خطر بالغ الخطورة، خطر قتال. واذا (لا سمح الله وهذا لن يكون مطلقا) انصرفت جهود هذه الجمهورية الى الداخل وقصرت في واجباتها نحو اخوتها في الاقطار الاخرى فان هذا الانصراف يهددها في وجودها، وما دمنا مؤمنين بان القضية العربية واحدة ومصير العرب واحد فجمهوريتنا الجديدة عندما تدعم الجزائر وتعمل من اجل تحرر أي قطر عربي مكافح فهي تدافع عن نفسها وتبني كيانها. ووحدة سوريا ومصر الآن وبعد هذه التجارب العديدة والنضال الطويل هي مدينة الى هذه الحقيقة بأن قضيتنا واحدة ويجب ان يكون مستقبلها ايضا ملتزما بهذه الحقيقة وان ترى حياتها في حياة الاقطار العربية الاخرى.
20 شباط 1958
——————————
الوحدة ثورة تاريخية
في هذا الظرف التاريخي الذي كان لحزبنا فيه اكبر الأثر لابد ان اذكركم بملحمة عن مميزات حركتنا ومبررات وجودها، ثم نصل إلى إلقاء نظرة على هذا الحدث العظيم الذي تحقق اخيرا وما يستتبعه من نتائج وواجبات بالنسبة لحزبنا وبالنسبة الى جميع المواطنين العرب .
لقد كان ظهور حركة البعث ثورة في تاريخ الامة العربية بمعنى ان حركة البعث لم تكن استمراراً لما قبلها بل كانت عبارة عن انقطاع او بتر ارادي واع وارتفاعاً الى مستوى جديد من التفكير والاخلاق، والجو الروحي، رغم ما انتابها من ضعف ونقص، وما دخلها من شوائب. منذ البداية، لم تكن خالية من الضعف والنقص، ولم تكن منـزهة من الخطأ ولم يخل سيرها من التعثر، ولكن أية حركة تاريخية لا تجيء كاملة سليمة، كل الكمال والسلامة. والمهم هو الحكم الاجمالي على الحركة، هل تجاوبت مع مرحلتنا وأحست بعمق ما يجب ان يعمل، وعملت؟ هذا هو المهم. هل ملأت فراغاً في حقبة من التاريخ وملأته ملأ ايجابياً، ملأ فيه ابداع وبناء ورغم كل النواقص والاخطاء كما قلت؟ هل يعني ظهورها بدءاً لتاريخ؟ اذا كان الامر كذلك فهي اذن حركة تاريخية. هذه الحركة التي بدأت بدءاً متواضعاً جدا فكان سر قوتها في هذه البداية المتواضعة، لانها انطلقت قوة أصيلة لا زيف فيها، لم تعتمد على شيء من القوى الراهنة التي هي كلها قوى زائفة، هذه الحركة في الواقع كانت ترجمة لاستعدادات وامكانيات قائمة غير انها مغطاة عن أعين الاكثرية. فهذه الحركة استطاعت أن تنظر نظرة صافية وبريئة لم تعكرها المصالح والمفاهيم الموروثة او الاهواء والانانيات، فعرفت القوة حيث كان اكثر الناس لا يرون الا الضعف والانحلال، واعتمدت على هذه القوة لانها كانت مؤمنة بان هذه القوة قوة حقيقية. راهنت على المستقبل، وكانت نظرتها منذ البداية بعيدة بكل معاني الكلمة، بعيدة في العمق، بعيدة في المكان وبعيدة في الزمن، فهي نظرت الى اعماق الامة العربية المغلفة بواقع مريض ومشوه. ونظرت وهي التي ولدت في قطر صغير من اقطار الوطن العربي الشاسع، نظرت الى جميع اجزاء الوطن، لم تغفل احداً منها، نظرت نظرة بعيدة في الزمن، اي انها توجهت الى الشباب، الى تلك السن التي تحتاج الى زمن غير قليل لكي تصبح قوة بالمعنى المتعارف عليه، بمعنى السياسة الراهنة والمصالح الراهنة، توجهت الى الشباب العربي في جميع اقطاره. ومن هذا تتبينون ميزة من ميزاتها. انها في روحها وفي نزعتها العميقة كانت دوماً تتطلب الصعب، تتطلب الشيء العميق، الشيء الاصيل الذي لا يبلغ بسهولة وتترفع وتعف عن كل ما هو قريب وسهل. فاليوم تبدو لنا المسألة بسيطة وسهلة للغاية، ان يظهر حزب او حركة، وتتوجه من جهة الى الشباب الحديث السن، ومن جهة اخرى الى هذا الشباب في اقطار غير القطر الذي توجد فيه الحركة. والشباب كما قلت في تلك السن لا يكونون وزنا سياسيا يمكن ان يفيد فائدة سياسية عاجلة وبالاحرى عندما يكون بعيدا عن القطر فليس له وزن قط.
هذه الاشياء التي تبدو اليوم بسيطة وطبيعية كان لا بد من روح ثورية وايمان غير عادي لكي نقدم عليها ولكي نخالف كل المألوف ونتحدى سخرية الناس ونتحدى مقاومة أصحاب المصالح والعقلية البالية وأصحاب النظرة السطحية. ولا يشترط في أصحاب النظرة البالية والسطحية ان يكونوا من الجيل القديم دوما ومن غير المتعلمين بل قد يكونون من اكثر الناس ثقافة ومن الشباب أيضا. فالنـزعة الاولى كما ترون نزعة روحية اخلاقية اقترنت بوعي ثوري، وقلما يجوز التفريق بين الوعي والخلق لان بينهما تفاعلا وتأثيرا متبادلا، فالروح الاخلاقية السليمة الصافية التي تترفع عن السهل وعن الشيء الشخصي، والشيء الزائل، هي التي تساهم الى حد كبير بإيجاد الوعي الثوري، وهي من اهم عناصر التفكير الثوري لان التفكير الثوري هي رؤية الحقيقة المغلفة المستترة، رؤية الحقيقة العميقة. فاذا كانت ثمة أهواء وأنانيات ومصالح خاصة، فانها تحجب عن التفكير هذه الحقيقة وتشوش التفكير، وتمنعه من
ان يصل الى الاعماق، وبالعكس عندما يتوفر التفكير الجذري الثوري يستطيع ايضاً إلى حد ما ان يؤثر في الجو النفسي، في الخلق وفي الروح، ان يحررها الى حد ما من كثير من الاشياء. اقول كل هذا ولا اعتقد بأنه خروج عن الموضوع أو حشو كان يمكن الاستغناء عنه لكثرة ما كررت هذه الاقوال خلال سنين عديدة في الحزب، ولكن بودي ان أثبت في اذهانكم بأن بعض الشروط الاساسية في حياة الانسان والشعوب اذا ما اغفلت او انتقص من قيمتها فان المقاييس تختل وان حياة شعب بكامله ستتعرض لأفدح الاخطار والانتكاسات اذا لم تحترم هذه الحقائق الاساسية.
والآن اعود فأقول ان حركة البعث اختلفت اختلافاً نوعياً لا كمياً عن كل ما سبقها من حركات في الوطن العربي، فطرحت قضية الامة العربية طرحاً ثورياً لأول مرة منذ مئات السنين، طرحاً انقلابياً كما اعتدنا ان نقول، واعتبرت الامة العربية في مرحلة ثورة اصيلة، ثورة تاريخية، وانها مهيأة كل التهيؤ لتحقيق هذه الثورة اذا انتشر وعيها بين الجماهير. هذا الطرح الانقلابي للقضية القومية يمكن ان يلخص ببضع نقاط:
1- وضع قضية ومصير الامة العربية ضمن قضايا العالم ومصير الانسانية بعد ان كانت الحركات الوطنية تنكمش على نفسها وتتجاهل ما يجري في العالم. حركة البعث حينما بدأت كانت قد كونت فكرة اجمالية تقوم على دراسة اجمالية لمشاكل وقضايا العالم الاجتماعية والفكرية، عن المذاهب الكبرى التي تحرك البشر في هذا العصر. بدأنا ونحن نعرف هذه المعرفة الاجمالية من الناحيتين الفكرية والعملية، نعرف هذه القضايا والمذاهب في خطواتها الاساسية وفي اسلوبها وخططها ونتائجها وآثارها العملية في العالم، ولم يكن من ذلك بد لان العالم، اذا نحن تجاهلناه فانه لا يتجاهلنا، فهو كان غازياً لنا ومحتلاً ديارنا، لذلك كان لا بد من ان نعرف ونربط بين مصيرنا ومصير العالم.
2- نقطة اخرى يمكن ان تستنتج من الاولى اولها علاقة بها هي الفكرة القومية او اذا جاز ان نقول النظرية القومية. كانت المذاهب والفلسفات التي احتلت المكان الفعال في هذا العصر تنكر القومية بشكل او بآخر، بعضهم كان ينكرها من شدة المغالاة بها، المغالاة السلبية المريضة، وبعضهم كان ينكرها ويعتبرها شيئا عارضا ومرحلة، فوضعت حركة البعث بذور النظرية القومية بصورة عامة لا للعرب وحدهم وانما ألحت على حقيقة الامة في حياة البشر، فما يصح على العرب لا بد ان يصح على غيرهم . وصوبت نظرها على النواحي الخبيئة الثمينة الايجابية في القومية لانه لم يكن يظهر من القومية إلا النواحي السلبية، وأوجدت صيغة، او محاولة لصيغة، تربط القومية بالانسانية ربطاً حياً لا اصطناعياً، فاعتبرت القومية خالدة والانسانية خالدة وليست احداهما بسباقة على الاخرى لا في الزمن ولا في القيمة، وانما هما مظهران لشيء واحد، وان الانسانية هي ثمرة لنضج القومية، هي المجال الطبيعي السليم الوحيد لتحقيق القيم الانسانية تحقيقا حيا لا اصطناع فيه ولا تضليل. ثم نظرت حركتنا الى امتنا فأعلنت وحدتها رغم جميع المظاهر التي كانت تتحدى هذه الوحدة في كل لحظة وفي كل عمل، وأعلنت في نفس الوقت ان رسالتها . . رسالة انسانية رغم ان جميع المظاهر كانت تتحدى هذا الاعلان وهذا الادعاء، رغم كون الامة العربية في حالة سلبية فاقدة لأي ابداع تعيش عالة على العالم، فأكدت حركة البعث رسالة الامة العربية. كل هذه الاشياء تنبع من نظرة واحدة كما تلاحظون، من نظرة ثورية، النظرة المتجددة البعيدة المدى الطويلة النفس التي تنظر للمستقبل نظرة ليست حالمة كنظرة الشعراء، ليست نظرة التمنيات، وانما نظرة في منتهى القسوة والواقعية والجدية. من خلال الواقع الفاسد المشوه كانت ملامح المستقبل تتراءى، او لأن الواقع كان بلغ هذا الحد من الفساد والمرض لم يكن صعباً على اصحاب النظر الصافي ان يروا الكنوز المخبأة في ضمير المستقبل المشرق الذي ينتظرنا.
وكانت هذه الحركة اول من وضع القضية القومية، قضية الامة العربية، في قلب الواقع، في قلب الجد، بوضعها المشكلة الاجتماعية في صميم الثورة القومية، بوضعها مشكلة عيش الملايين من افراد الشعب العربي، رزق الملايين وعشرات الملايين الذين كانوا وما يزالون مشلولين الى حد بعيد بنتيجة الاوضاع الجائرة المعكوسة. فالتعبير العملي عن الثورة القومية هو الثورة الاجتماعية. وطرحت مشكلة الحرية على كل اتساعها وأبعادها، التحرر من الاستعمار ومن الاجنبي ونفوذه واستغلاله بكل اشكاله، والتحرر في الداخل الذي يشمل النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية، مشكلة الحرية ووعي الشعب ووعي الافراد ومشكلة التحرر وأهمية هذه المشكلة وأسبقيتها، وكما تعلمون اوجدت بين هذه النواحي المختلفة اتصالاً وتفاعلاً حياً.
ولكن استطيع ان اقول بأن مشكلة الوحدة، قضية الوحدة، كان لها مكان بارز في فكرة البعث ونضال البعث لانها كانت معرضة لان تظلم حتى من الذين ليس لهم مصلحة في ان يظلموها لانها كانت خافية في حقيقتها على الكثيرين، فطرحت حركتنا قضية الوحدة طرحا ثوريا لقي الكثير من المقاومة والمغالطة وسوء الفهم، ولكنه تجاوب مع حالات الشعب، وحس الشعب، ووعي الشعب اخيراً، وكتب له ان يظفر.
قلت لكم في البدء بأن مسألة الوحدة كانت تتطلب اول ما تتطلب تجرداً في النفس لانها تشترط كثيراً من الاغفال للنتائج العاجلة، تشترط العمل للمستقبل البعيد نسبياً وتشترط في نفس الوقت تفكيراً ثورياً اصيلاً، وليس كل ما يسمى بالتفكير الثوري هو فعلا هكذا. الاستعمار عدو اجنبي غريب محتل مستغل وقح، ودعوة الشعب لمقاومته ليست صعبة ولا غامضة. الإقطاع والرأسمال والنفعية والاستغلال بأشكاله وألوانه أقل وضوحاً من الاستعمار، ولكن رغم ذلك فيه بعض الوضوح، ولكن التجزئة التي مرت عليها قرون احيانا وعشرات السنين في احسن الاحوال والاحتمالات ولم يقتصر الامر على ان المستعمر خلقها بل اصبحت هي تخلق نفسها بنفسها فيما بعد، تخلق قوى ومصالح وزعامات وعقلية معينة وعواطف معينة تنفخ الروح وتبث الدم والحياة في هذه التجزئة المخزية المصطنعة. وأصبح من السهل ومن غير المستنكر (وهذا الشيء لا يمكن بسهولة ان يكشف تناقضه) ان يقوم الزعماء وتقوم الاحزاب وتنادي بالوحدة العربية وتسجل الوحدة في رأس برامجها، وان تعمل وتوجه وتتصرف وتدبر يومياً كل ما هو نقيض الوحدة تارة بقصد وتصميم وتارة دون قصد أو وعي.
والخلاصة ايها الاخوان ان معركة الوحدة التي لا تنفصل حسب عقيدتنا ونظريتنا ونضالنا عن معركة الحرية والتحرر وعن معركة الاشتراكية، ولا يجوز فصلها بحال من الاحوال، ولكن يجوزكما اعتقد ان نصفها على حقيقتها فنقول انها هي بصورة خاصة المعيار لثورية الافراد والجماعات ولثورية امتنا في هذه المرحلة التاريخية .
عندما نتغلب على التجزئة نكون قد اطمأننا فعلاً على اننا سنؤدي رسالتنا التاريخية لان معركة الوحدة اصعب معركة يواجهها الشعب العربي منذ زمن طويل. وعندما اثمرت معركة الوحدة هذه الثمرة الاولى الطيبة الضخمة في نتائجها كما سنرى يوماً بعد يوم، فوجئ العالم مفاجأة تاريخية لا تحدث كل يوم ولا كل سنة وقد لا تحدث الا في مئات السنين، فوجئ حتى القسم المتحرر من العالم الذي تغلب على الاوضاع الرجعية الفاسدة، وتجاوب مع مصلحة الجماهير وتسلح بنظرية علمية، وبينه وبيننا وبين جميع الشعوب المناضلة من اجل حريتها وتقدمها تعاطف طبيعي. رغم ذلك لم يكن احد يصدق بأن هذه الوحدة ممكنة، وهذه كلها دلائل ثمينة جداً تنبئ عن العمق والنضج الذي وصلت اليه حركة القومية العربية وتنبئ عن غنى مستقبلها ايضاً.
ان ما تحقق للعرب في هذا الظرف هو نتيجة ثورة وبداية ثورة، هو لا شك ثمرة لهذا النضال الطويل الذي بدأ قبل حركتنا بزمن، ولكن حركتنا بدأت مستوى جديداً في الفكر والعمل، هذا النضال هو مستوى ثوري يختلف عما سبقه. هذه الوحدة التي هي ثمرة لنضال الماضي ستكون بذورها بذرة قوية ومحركاً قوياً لثورات متعاقبة، أو قد يختلف نوعها او مظهرها عن السابق حسب درجة النمو الذي بلغته الحركة العربية الثورية. فعلينا ان نقدر هذه الخطوة حق قدرها، وان نعرف السهل والصعب فيها، وأن نأخذ مكاناً في قلب المعركة لان المعركة لم تنته بعد. ان اهمية هذه الخطوة بالدرجة الاولى هي انها قضت على نوع من التفكير، نوع من العقلية، نوع من النفسية المتخاذلة او في احسن الاحتمالات النفسية التي لم تبلغ حد الامتلاء ، وبالتالي لم تصل الى حد الايمان بأن الوحدة ممكنة. فتحقيق هذه الخطوة سيبدل النفسية العربية في كل مكان وحتى في اشد الامكنة والاوساط انكاراً وجحوداً، وسيكون لها آثار ونتائج سياسية واجتماعية ضخمة عاجلة وآجلة. ولكن المهم ان نعرف بأن البداية هي دوما صعبة، ودوما محفوفة بالاخطار، وان علينا واجباً مقدساً بأن نحمي هذه الخطوة التاريخية وان نغذيها بكل طاقاتنا، وان لا نرى فيها مبرراً للراحة والانسحاب من العمل او المطالبة بثمن الاتعاب الماضية. فهذه الخطوة ما تزال معرضة لأخطار كثيرة، والاخطار المكشوفة هي اخف هذه الاخطار لانها مكشوفة، والاخطار المخفية هي التي لا تظهر كثيرا بوضوح تام، وأهمها ان يستمر شيء من عقلية التجزئة ومصالح التجزئة وان تنسج الوحدة بخيوط التجزئة فتتناقض وتفشل .
ايها الاخوان، تبين من حديثي ان حزبنا كان له مساهمة لم اتورع عن ان اسميها تاريخية في نضال امتنا في هذه الحقبة وخاصة في نضال الوحدة الذي اوصلنا الى هذا الانتصار. ولكن هذا لا يعني اننا وحدنا في الساحة وان غيرنا لم يعمل. ألححت على ذكر الحزب ومميزات فكرته في هذه المناسبة، ولكن تعرفون كما اعرف بأن الشعب العربي في كل مكان عمل وناضل من اجل هذه الوحدة بصورة غير مباشرة، وتعرفون على الأخص ان للثورة المصرية شاناً تاريخياً في هذه المرحلة وهو قد قلب وجه التاريخ العربي، او كان مناسبة لكي تتجلى قيمة النضال العربي في اقطار المشرق الذي انتشر فيه الحزب، ولا يمكن ان نفسر شيئا مما حدث من التحولات الضخمة العميقة في حياة العرب في هذه السنوات الاخيرة اذا لم تعط ثورة مصر حقها من الاهمية، حتى انها اثرت في حياة العصر والعالم كله، ويمكن القول بان تأميم قناة السويس هو بداية لعصر جديد في العالم في كثير من النواحي، وان مولد الجمهورية العربية المتحدة هو ايضاً بداية تاريخ جديد بالنسبة للعرب والعالم.
صحيح ايها الاخوان ان ثورة مصر لم تتبع نفس الطريق الذي اتبعناه، فهي ثورة عسكرية لم تبدأ من الشعب، ولم تبدأ بفكرة او نظرية، ولكن هذا لا يغير شيئا من حقيقتها وقيمتها، فهي ثورة اصيلة صادقة، لذلك اعطت مثل هذه النتائج، ولم يمض وقت طويل عليها حتى استقرت واتضحت معالمها وخط سيرها، وبدأ الاتصال والتفاعل بينها وبين حركتنا، تفاعلاً مباشراً وغير مباشر. المباشر بالاتصال بالحزب وقادة الحزب وفكرة الحزب وغير المباشر بتأثرها بنضال الشعب العربي في الاقطار التي يقود النضال فيها حزبنا وتجاوبها مع نضال هذه الاقطار ومع شعارات هذا النضال . .
23 شباط 1958
قد تكون الدول الاستعمارية(1) قد فوجئت بالحدث العظيم في العراق كما فوجيء عملاء الإستعمار والحكام الفاسدون المستهترون بقوة الشعب، ولكن الشعب نفسه، الشعب الأصيل الشعب المناضل في كل بقعة من بقاع وطننا العربي الكبير لم يفاجأ بالانتفاضة التاريخية التي حققها اخوته في العراق، لانه يؤمن ويعرف بالتجربة الحية التي يعيشها كل يوم، أن روحاً واحدة وتياراً تاريخياً واحداً يحرك الأمة العربية في كل قطر من اقطارها ويرفعها الى مستوى الآلام والمحن التي انزلها بها المستعمرون والطغمة الفاسدة الخائنة، ولقد جاءت انتفاضة شعب العراق على أرفع وأعمق مستوى لأنها وليدة التجارب القاسية والألم العميق، فنظر اليها العرب في كل مكان على أنها قفزة تاريخية جديدة حاسمة من قفزات تحررهم وبناء وحدتهم وتجديد مجتمعهم ونظام حياتهم من الاسس والجذور. إن البداية العظيمة الرائعة لحركة العراق ترتب على شعب العراق مسؤوليات جديدة ثقيلة، فالشعب الذي يستطيع مثل هذه البداية الثورية مطالب بأن يستمر في نفس المستوى وبنفس الروح والمنطق لا لكي يلتقي بأشقائه في الأقطار العربية المتحررة ويوحد حركته معها فحسب بل لكي يلقي بوزن تجربته الثمينة ونضاله القومي الطويل ليغني بها التجربة العربية الكبرى المندفعة نحو التحرر والوحدة والعدالة الإجتماعية وبعمق معانيها ويكمل نواقصها ويصحح الأخطاء والإنحرافات التي تتعرض لها كل حركة تاريخية في بداية سيرها.
إن أكبر دليل على أصالة الإنبعاث العربي الحديث هو هذا المنطق القاهر الذي إذا ظهرت الثورة في جزء أو بضعة أجزاء من وطننا العربي ومالت الى الإستقرار والتبلور والإنغلاق، فاجأها في جزء آخر من هذا الوطن ما يحول دون تحجرها وتجمدها وفتح لها باب التجديد على مصراعيه وطرح عليها من جديد قضية الأمة العربية بكل تعقيدها وعمقها واتساعها حتى لا تقنع أمتنا بحل لقضيتها دون الحل اللائق بأمة ذات رسالة إنسانية، هذا هو مغزى ثورة العراق.. ضمانة لما حققه العرب حتى الآن من إنتصارات وانقاذاً لها من التجمد والإنحراف وتعجيل في ولادة وإنضاج الإنتصارات المقبلة التي يزخر بها شعبنا العربي من الخليج الى المحيط.
تموز 1958
(1) تصريح للإذاعة في بغداد عقب ثورة 14 تموز.
الأمة العربية في مرحلة ثورية(1)، وقد قدر للطليعة بأن ترى هذه الحقيقة منذ سنين طويلة ثم تتالت الأحداث لتبرهن على هذه الحقيقة حتى وصلنا اليوم الى حد أن الأعداء أنفسهم يكادون يعترفون بها، أي أن الغرب الإستعماري وعلى الأقل بعض فئاته الشعبية أخذت تدرك ذلك فضلا عن الشعوب الأخرى في البلاد ذات النظم الإشتراكية والشعوب الآسيوية والافريقية المتحررة حديثاً من الاستعمار والمناضلة في سبيل التحرر.
فهناك إذن شروط اساسية تهيأت للأمة العربية قديماً وحديثاً لتخمير ثورة جديدة وعميقة وشاملة أصبح العالم اليوم، مثل العرب، استعجالاً لها واحتياجاُ اليها: يشعر بالحاجة اليها ويستعجلها لأنه يدرك بأنها لن تقتصر على حل مشاكل العرب بل ستسهم في حل مشاكل العالم. هذه الشروط يكفي ان نشير الى عناوينها. نحن نستند الى تراث قومي أصيل، تجلى في نهضتنا الأولى في القديم وبالرغم من كل ما طرأ عليه من جمود وتشويه ونسيان، فقد بقيت فيه عناصر حية تسري في حياتنا سريان الماء تحت الارض وتحيا في تقاليدنا الشعبية وقممنا الاخلاقية. ثم طرأت على الأمة العربية ظروف قاسية جزأتها وأشاعت فيها الفوضى والفرقة والخلل في التوازن الإجتماعي وسمحت بدخول الأجانب الى أجزاء من أرضنا وحدثت مآسي كثيرة لا حد لها ولا حصي أطفأت أو كادت تطفىء شعلة العبقرية العربية فتخلينا مئات من السنين عن مهمة الإبداع والمساهمة في الحضارة وتحمل المسؤوليات الانساية اللائقة بأمة كريمة حرة، ثم كان آخر المطاف، الإستعمار الغربي الذي جاءنا بألوان من العدوان والإفساد والإرهاب لم يعرفها العالم من قبل. وأخذت البلاد العربية تقع فريسة هذا الاستعمار، الواحدة تلو الاخرى من الجزائر الى تونس فالعراق فالجنوب العربي.. الخ
ويجب ان نعرف بان الإنحطاط الذي بدأ منذ مئات السنين والذي أدى اخيراً الى دخول الاستعمار الغربي ببلادنا لا يجوز ان يفسره عاملان فقط:
1- عامل خارجي.
2- عامل داخلي.
بل تفسيره الحق هو بوجود العاملين معاً. أولاً منا نحن فنحن مسؤولون عنه. وثانياً بقوة خارجية معتدية استطاعت ان تدخل وتستغل الضعف الداخلي وان تضخمه وتستغله الى ابعد الحدود وهذا شأن الاستعمار الغربي فانه استخدم كل علمه الحديث ووسائله الحديثة لا ليقتصر على الاحتلال العسكري وفرض سلطته بالقوة والارهاب فحسب بل ليدخل كالسم في جسمنا القومي ويستفيد من الامراض الداخلية يضاعفها اضعافا وهكذا حاول ان يفرق اشد الفرقة بين ابناء الوطن الواحد ليس بين قطر وآخر فحسب بل بين الطوائف ومختلف الفئات وخلق نعرات وعصبيات ومفاسد لانحلال الأخلاق وتدهور القيم. فأمة يمر عليها كل هذا إما ان يقضى عليها نهائيا تحت الكابوس و تحت ثقل الوطأة الاستعمارية فتتلاشى. وإما ان يكون فيها من مقومات الحياة ومن مقومات البعث ما يسمح لها بأن تنتفض وتتغلب على كل هذا وتخرج بثورة جديدة تستفيد من كل هذه المصائب والآلام لتقدم الى الانسانية تجربة جديدة عميقة. والشيء الثاني هو الذي حدث. إذ أن أمتنا العربية لم تمت بل انتفضت وكانت هذه المآسي والمحن بمثابة الحافز لها والعامل المخصب.. أخصبت روحها وحركتها ودفعتها الى مزيد من التعمق والصدق فبدأت تحاسب نفسها في الوقت الذي بدأت فيه تحاسب اعداءها. كان واضحا قبل عشر او عشرين سنة بأن هذه الثورة لها ملامح الأصالة.. كان واضحا منذ ذلك الحين أن اهم الاشياء وأقدس الأمور بدأت تطرح على النفس العربية وتوضع موضع التساؤل فهذا إن عنى شيئاً فيعني الثورة الأصيلة. ثم فعل الوعي الجديد فعله في الشعب وبدأنا بالصعود بعد التدهور والإنحدار ودخل العرب مرحله جديدة واصبح لهم شأن في العالم وما زالوا في بداية الطريق .
ايها الاخوان
تسمعون كثيراً ولعلكم انتم تقولون احياناً دون تمحيص للفكر والقول ولعلنا كلنا نتفوه بمثل هذه الاشياء المرتجلة غير الدقيقة فنقول بأننا بذلنا جهوداً ضخمة ولم نصل الى نتائج. كثير من العرب في العراق والبلاد العربية كانوا يستطيعون هذه الثورة وكانوا يتكلمون عن الجهود الكبيرة التي تبذل بدون نتائج. وكنا ندرك ان هذا كلام عاطفي لا يستند الى الواقع فالواقع هو اننا لم نبذل بعد ما يقتضي من جهود وان انتصاراتنا في السنوات الاخيرة هي اكثر مما نستحق بالنسبة الى ما بذلنا من جهد، لا بل بالنسبة الى ما نستحق في الحقيقة ,عندما تظهر هذه الحقيقة كل الظهور. الواقع ان عوامل كثيرة خارجة عنا وعن جهدنا وارادتنا تساعدنا في هذه الانتصارات، العصر كله متجه نحو الحرية والتحرر وتصفية الاستعمار ونحن نمشي في تيار العصر وطليعة هذا التيار، وهنا يكمن الخطر بالنسبة لنهضتنا اذا نحن ظننا بأن هذه الانتصارات كلها من فعلنا وهذا يغرينا بالتكاسل والتواكل وبان نداري نفوسنا ونجاملها ونداري اوضاعنا ونجبن عن اعادة النظر فيها حتى الجذور. ان الواقع العربي يشير الى ان في شعبنا العربي امكانيات هائلة لم يستثمر منها بعد إلا الجزء اليسير وان نهضتنا لازالت مخضرمة بين القديم والحديث، بين التطور والثورة، وانها لم تتسم بعد بالثورية الكاملة ونحن لو استسلمنا لهذا الانخداع والوهم المريح باننا عملنا ما يجب واكثر مما يجب فسيأتي يوم يصفى فيه الاستعمار -وليس هذا ببعيد- ليس بفعلنا فحسب وانما بفعل شعوب الارض كلها وعندما يزول الاستعمار نخشى ان نفتح عيوننا على فراغ او ما يشبهه الفراغ، على لا شيء حققناه. ان التاريخ معنا والعصر والحق. فيجب ان نكون نحن مع الحق والتاريخ، أي ان نبذل اعمق الجهد والارادة وصدق النظر لنستحق ان يكون الحق في جانبنا.
فالثورة الاصيلة هي التي تتميز اولا بالايجابية، بثقة بالنفس ولا تكتفي برد الفعل بان نصوب انظارنا دوماً نحو الاعداء ونعدد مساوئهم وحقارتهم واثمهم. الثورة الاصيلة هي التي تنظر في آن واحد وأولاً الى نفسها باعتبار ان هذا هو الاساس والحقيقة الكبرى وان الاستعمار والاشياء الخارجية هي نتيجة لضعف الداخل.
هذه الثورة في اصالتها تشترط علينا ان نطبق على انفسنا نفس القيم والمقاييس التي ندين بها الظلم الخارجي، والاستعمار الخارجي، نفس القيم التي ندعو بها شعوب العالم لتساعدنا. يجب ان نستلهمها لكي تهدم ما يجب ان يهدم من واقعنا وفي رفع بناء جديد.
فالشبه بيننا وبين الغرب في الواقع ضعيف جداً او غير موجود. فالغرب لم يمر بما مررنا به من مآسي وآلام ومن خضوع للاستعمار والتجزئة.. الخ.. فالحركات القومية الغربية نشأت في ظروف مختلفة مصحوبة بالطموح واكتشاف ثروات جديدة واكتشاف العلم الحديث بقوانينه فاصيبت منذ ولادتها بأمراض التوسع والسيطرة. ولكن حركتنا القومية نشأت كأعمق جواب إنساني على ظلم الإنسان للإنسان.. على المصير الانساني بكامله. نشأت ثمرة ناضجة لكل هذه الآلام التي عانيناها بأنفسنا وكأننا عانيناها نيابة عن شعوب الارض كلها فالإحتمال ضعيف بأن ننتهي الى حيث انتهى الغرب.
وهكذا ترون أن لا شيء في حياة الأمم والبشر يمر دون ان تكون له نتائج… كل الظروف تترك آثاراً قريبة وبعيدة فيجب ان نحاسب أنفسنا عن كل شيء ونعتبر أنفسنا مسؤولين ليس عن حاضرنا بل عن مستقبل أجيالنا ومستقبل العالم.
هناك حقيقة إن اغفلناها فإننا لن ندرك معنى الثورة والثورية وهذه الحقيقة هي أن الحياة شيء متصل، فالمستقبل يولد من الحاضر ومستقبلنا القريب والبعيد ماثل تحت بصرنا وبين أيدينا نصنعه ونعجنه بأفعالنا وتصرفاتنا وتفكيرنا وانه كائن كالبلور وسينضج ويكتمل مع الزمن. فلننظر ملامح مستقبلنا في حاضرنا.. ننظر الى أي مدى نخلص لمبادئنا الثورية ليس بالكلام والتصريحات والكتابة وانما في التطبيق والد ارسة. كيف نعامل الشعب وباعترافنا هو المبدأ والغاية والأساس والركيزة الوحيدة، له نعمل وبه نعمل لأنه هو الذي يناضل وهو الذي يبني. كيف نربي هذا الشعب ونحترمه ونحترم إرادته وحريته؟.. هل نعامله معاملة القاصر.. هل نجامله بالكلام ونحتقره في أعماق نفوسنا؟.. هل نتودد له بالظاهر ونخاف منه بالحقيقة ؟ كيف نربيه لكي يصبح مسؤولاً ولكي يحمي هذه الثورة لأنها ثورته.. والقيادات تتغير وتزول ولكن الشعب يبقى فإن لم تُستغل هذه القيم والمثل لخدمة واقع الشعب الثوري ولم تصبح جزءاً من دمه ولحمه وإذا لم تصبح شيئاً اصيلاً فيه فلن يحمي ثورتنا شيء وسوف تفشل ويعود علينا الإستعمار الى أمد ما، لأننا لم نحرص على ثورتنا ولم نخلص لمبادئنا وأهملنا شعبنا الذي هو وسيلة الثورة وغايتها.
تموز 1958
(1) من أحاديث القائد المؤسس في زيارته الأولى لبغداد بعد ثورة 14 تموز 1958.
المفهوم التحرري الحضاري للامة العربية
اخواني (1)
انها لفرصة جد سعيدة ان نلتقي على ارض العراق الحبيب بعد هذه الحركة المباركة التي انعشت الآمال والتي جاءت دليلا جديدا رائعا على ان قدر امتنا هو الحرية بكل معانيها، وان قدر امتنا هي القيم الانسانية باعمق واشمل معانيها، وان وجودنا ذاته رهن باخلاصنا للحرية وللقيم الانسانية.
ايها الاخوة
انكم لا تجهلون تاريخ امتنا ولا تجهلون الروح السمحة التي سادت اجواءها وكيف تعاونت الاجناس والمذاهب وانصهرت في تيار واحد خير مبدع انساني تمثل في قمم حضارتنا وفي خيرة ابطالنا، وعندما نذكر الابطال فكيف لا يأتي ذكرذلك البطل العظيم، الرجل الذي اصبح اسطورة في الغرب نفسه اعني به صلاح الدين.
ولم يكن صلاح الدين الا ثمرة طيبة لهذه الروح التي غذاها تاريخنا وغذتها حضارتنا. فنحن اليوم على عتبة نهضة جديدة ستكون باذن الله اقوى واعمق وارفع مستوى من نهضاتنا السابقة لانها ستتضمن ثمرة كل التجارب والآلام والمحن التي حلت بنا في عهود الاستعمار المظلمة الغاشمة. فلا شك ان هذه الامة ستستفيد وتعتبر بهذه الالام والتجارب لتنقي سبيلها وتنقي جوها من كل تهاون ومن كل شر ولتبني مستقبلها على امتن الاسس وفي اسلم الاتجاهات، وهي تطمح لا لتعيش عيشة مختلفة بين جميع ابنائها وعناصرها فحسب وانما طموحها لان تكون عاملة بسخاء وسلام في العالم كله. وخذوا مني هذه الكلمة الصادرة من القلب والتي هي في تقديري تعبير عن ضمير وعقيدة كل شاب عربي من هذه الاجيال الصاعدة التي تبني المستقبل العربي. خذوها مني كلمة خالصة صافية بأننا حريصون على الحرية لجميع البشر ومستعدون للتضحية في سبيل الدفاع عن الحرية في العالم فكيف لا ندافع عن حرية اخواننا الذين يعيشون معنا منذ مئات السنين لم يفرق بيننا وبينهم فرق وقد جمعتنا اواصر شتى وهذه الارض وهذه السماء. لم نعرف ما عرفته بلدان اخرى من التفرقة الذميمة ومن التعصب الذميم، ومستقبلنا سيكون اكثر نصوعا من ماضينا ومن حاضرنا فنحن نكن لكم المحبة والاخاء وليس ذلك حرصا عليكم وعلى مصلحتكم فحسب وانما هوحرص على وطننا وعلى سلامته وعلى ان يعيش باستقرار وهناء وتعاون بين الجميع، وهو حرص على امتنا وحضارتنا وقيمتها بين الامم بان تمثل الاخلاص للمثل العليا والوفاء للروح الانسانية ولكم منا كل مؤازرة وكل محبة، واني مؤمن وواثق بان عواطفكم يا اخوتي الاكراد لاتقل عن عاطفتنا نحوكم فانتم من هذه الارض الطيبة ولا قوة تستطيع ان توجد ثغرة بيننا وبينكم وكلما خطا هذا الوطن خطوة في طريق التحرر وفي طريق رفع مستوى الشعب ورفع الظلم عنه بتحقيق العدالة للجميع، سترون بان الكثير من الاوهام سوف تزول وتتلاشى وسوف تنتفي وتكون حقوقكم وامانيكم وما يحقق شخصيتكم وسيساعدكم على الابداع والعمل المنتج سيكون كل ذلك مضمونا والله يوفقنا.
آب 1958
(1) حديث مع مجموعة من الأكراد العراقيين ببغداد في آب 1958
القائد المؤسس يتحدث للشاعر السياب
هناك من يسميه الرجل الصامت – لأنه يفكر ويجسد أفكاره حقائق تنبض بالحياة وبدفء القلب الإنساني، اكثر مما يقول. وهو لا يتكلم الا حين يشعر ان كلامه هذا هو عمل يخدم به القضية الكبرى التي كرس لها حياته، وكل طاقاته الفنية وإذا نطق ادركت ان هناك رصيداً ضخماً من الفكر والثقافة وراء كل كلمة يقولها. هو ثروة ضخمة من ثروات هذه الأمة الخيرة الطيبة التي انجبت الأنبياء والصديقين والشهداء والمفكرين والابطال والشعراء.
يكفي ان جزءا من فلسفته، ليس أعمق أجزائها ولا أغناها بالقيم الخالدة، قد أصبح الفلسفة السياسية الرسمية للجمهورية العربية المتحدة. وان أفكاره هي المسؤولة الى حد كبير عن تفجير الطاقات الهائلة لهذا الشعب العربي الذي يحرز في كل يوم إنتصارات رائعة في كل جزء من أجزاء وطنه الكبير من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي.
لم تكن مقابلتي له في بغداد حيث يحل ضيفا كريما على الجمهورية العراقية، أول لقاء بيننا، فقد سبق لي أن زرته في مدينة العروبة الخالدة، دمشق بعد ان عرجت عليها عائداً من بلودان ومؤتمر الأدباء العرب الثاني الذي انعقد فيها قبل حوالي العامين وجلست اليه يومها مذهولاً أحس في صمته كيان أمة برمتها يتنفس عبر الاجيال وينبعث من رماده وناره، كما تنبعث العنقاء الخالدة من نارها ورمادها في أروع انبعاث وأعظم ميلاد. وأحس في كلماته روح أمة ورسالة أمة وثورة أمة ودار الحديث يومئذ في جملة ما دار حول الشعر الحر. وكان الأستاذ ميشيل عفلق مع الشعر الحر كحركة وكإمكانية قابلة للعطاء، وكان قد اطلع على بعض ما كتبه عدد من الشعراء العرب المعاصرين كعلي الحلي ونزار القباني وكاتب هذه السطور من الشعر الحر، فاعجب به وقلت له اننا نخشى أمراً واحداً هو ان يكون شعرنا الحر هذا مقطوع الصلة بتراثنا الشعري، والا يحمل ملامح من شعر طرفة بن العبد والمتنبي وأبي تمام وعباقرة الشعر العربي الآخرين، لأنه لن يكون له اية قيمة كشعرعربي – آنذاك، غير ان المفكر الكبير قال انه يحس بتلك الملامح في القصائد الجيدة من شعرنا الحر.
سرعان ما تحول بنا مجرى الحديث الى الفلسفة التي تغلغل ميشيل عفلق بفكره وقلبه الى ضمير الأمة العربية فاستخرجها منه وسألته: متى تكونت لديك الخيوط الاولى لهذه الفلسفة فاجاب: لدي تحفظات في هذا الامر، الاول منها: انني لا اسمي الافكار التي ناديت بها طوال هذه السنوات الخمسة عشر فلسفة، وثانيها: انني لا اعتبر نفسي فيلسوفا ولا اعتبر افكاري فلسفة، ذلك ان الفلسفة هي الافكار المترابطة التي تؤلف بمجموعها نظرة معينة الى الحياة.
وأطرق فيلسوف معركة البقاء والخلود والعطاء التي تخوضها الامة العربية ثم واصل الحديث قائلا:
كان الفكر وما يزال يحتل مركزاً كبيراً عندي، ولكن عملي القومي خلال السنوات الخمسة عشر وقبلها، لم يكن عملاً فكرياً وإنما خلق حركة، للفكر فيها مكان أساسي، ولكن الحركة هي الأمل والهدف وهذا ما يفسر وجود ثغرات في تلك الأفكار التي تسميها انت فلسفة، كان العمل أهم من تكوين فلسفة وكان يلح علينا فنلبيه، على حساب تنظيم الفكرة وتنسيقها وتوسيعها.
واصررت من جديد على ان هناك على الاقل نواة لفلسفة واضحة فقال الاستاذ عفلق: يمكن القول بان هناك فكرة اساسية مجملة كانت كافية لانطلاق الحركة اما ماظهر بعد ذلك من توسيع وتطوير وتصحيح لهذه الفكرة فقد جاء نتيجة للعمل وللتجربة.
وعدت أسأله من جديد عن الخيوط الاولى لهذه الفلسفة: متى ولدت؟ فأجاب: ان فكرتنا، فلسفتنا القومية، بلغت درجة الوضوح والتماسك قبيل الحرب العالمية الثانية، بعد تجارب فكرية وعملية وبعد الاطلاع على المذاهب الفكرية السياسية المعاصرة كالماركسية وسواها من المذاهب الفلسفية والسياسية المختلفة وبعد تكون خميرة أدبية من المطالعات وقراءة الشعر والقصص والروايات.
وذكرت الاستاذ ميشيل عفاق بانه كان شاعراً ممتازاً ذات يوم قبل اكثرمن عشرين عاماً وانني قد اطلعت منذ سنوات على إحدى قصائده القديمة فأعجبت بها غاية الاعجاب وانه اديب بالاضافة الى كونه فيلسوفا فقال:
لقد بدأت حياتي بالادب ومع ذلك فلا اريد القول بانني اديب وكنت اعطي القيمة الاولى للادب والادباء في الفترة بين سن الخامسة عشرة والعشرين، ولكن نوع الادب الذي كنت أقرأه حتى في صغري كان على الاكثر ادباً فلسفياً، فقد قرأت المعري مثلا لزومياته وسقط زنده وأنا في السادسة عشرة من العمر وانتقيت لنفسي مختارات من اللزوميات، وكذلك المتنبي قرأته وانا في تلك السن نفسها ولما ذهبت الى باريس للدراسة بعد حصولي على البكالوريا كان الادباء الذين اغرتني كتبهم: أدباء مفكرين، لذلك كان من الطبيعي الانزلاق من الادب الى الفلسفة وأول فيلسوف تعرفت عليه عن طريق الادب هو “نيتشه” وقد شغل مكاناً خاصاً في مطالعاتي، كما اعجبت غاية الاعجاب بالقصصي الروسي دوستويفسكي.
وتحدث المفكر العربي بعد ذلك عن اهمية التراث الادبي والفني في الاتجاه السياسي فقال: ان هذا التراث هو الذي يخلق في النفس عمقاً ولا يشترط فيه ان يكون واضحاً او مفهوماً فقد كنت مثلا، امتص الآثار الادبية والفنية التي اصادفها ولا اقرأها كناقد، ان تراكم المطالعة يخلق خميرة من العمق والغنى الروحي اعتقد ان لها اثرا غير قليل في تجنيب التفكير السياسي والاجتماعي خطر السطحية وخطر الابتعاد عن طبيعة النفس الانسانية وحقيقة متطلباتها، كما انه يمكننا من معرفة ابعاد النفس الانسانية وغناها.
وسرح المفكر الشاعر وكأنه وهو يتابع حلقات الدخان بعينيه – يتابع اسرابا، من الذكريات بذهنه وارتسمت على شفتيه ابتسامة فيها من العطف والاسى والاشفاق ما لا يتسع له غير قلب كبير ثم قال: لي تجربة في الموضوع مع الآخرين، فقد مررت – ضمن الحركة وخارجها – باشخاص فاقدين لهذا التراث الروحي، فكانوا عرضة للشطط والخطأ الفظيع في الاتجاهات، لان تفكيرهم يكون مجردا، رياضيا، وتنطلي عليهم سفسطات المنطق الصوري الجامد.
وعاد بنا الحديث من جديد الى الفلسفة القومية التي كان هذا المفكر العربي رائدها. وسألته عن راأيه فيما قال بعض قادة الفكر، في يوغوسلافيا من ان الفلسفة التي جاء هو بها، والحركة التي انبعثت منها منذ عام 1943 وراحت تواكبها فتغنيها وتغني منها.. انما يقدمان للانسانية حلا جديدا لمشاكلها التي عجزت فلسفات كثيرة عن حلها.. لقا سألت فيلسوفنا العربي عما اذا كان معتقد ان الفلسفة تقدم مثل هذا الحل لا على الصعيد القومي العربي وحسب، وانما على الصعيد الانساني؟
كنت اثناء مطالعاتي كلها افتش عن الاصول.. اصول هذه الفلسفة وخلقت هذه» المطالعات في نفسي تلك الخميرة الادبية والفلسفية التي تحدثت عنها، فجاءت الفكرة.. حين جاءت – على مستوى انساني لا على مستوى قومي خاص. ان في هذه الفلسفة محاولة اكتشاف للحقيقة القومية وبالتالي للحقيقة القومية العربية.. وإعطاء هذه الحقيقة مكانتها المشروعة بين الحقائق الانسانية الخالدة واظهار ايجابيتها، وهي – لهذا – لا يمكن ان تصطدم او تتعارض مع الاتجاه الانساني، ذلك لانها حقيقة قومية ايجابية.
وسألت المفكر العربي الكبير: بعد النجاح الهائل الذي حققته هذه الفلسفة بحيث تجسدت سياسة رسمية تسير عليها الجمهورية العربية المتحدة.. ماهي المرحلة التالية ؟
كنت اعتقد ان المهمة التي تنتظرنا هي اشبه ما تكون بالمهمة التي كانت تنتظر اجدادنا العرب – ابان الفتح العربي الاسلامي.- من اعادة جماهير الشعب العربي – وخاصة في العراق الذي كان الفرس يحكمونه وسورية التي كان الروم يحكمونها. الى حظيرة الامة العربية .
ذلك ان جماهير الشعب العربي حسب هذا الوهم لا تعي من عروبتها سوى هذه الكلمة الدارجة التي تتكلمها وسوى قولها – نحن عرب –
ثم بدد الاستاذ عفلق وهماً.. قال المفكر العربي الكبير:
ان الشعب ما زال اغنى واعمق من قادته وما زال يفاجيء القادة باستمرار، فهو نزاع الى القيم الاصيلة المطلقة وهذا هو ما يربطه بتاريخه.
وتمهل الاستاذ ميشيل عفلق قبل ان يستطرد قائلا: ان ما حققناه حتى الآن كان نتيجة تطبيق جزئي – وفي بعض الاحيان سطحي – لهذه الفلسفة والشيء الرسمي او الحكومي الذي اشرت اليه مازال بعيدا عن الفهم العميق الكامل المتماسك لفلسفة القومية العربية.
ان انتصارات القومية العربية الاخيرة كان من الممكن ان تكون اقوى واكمل لو انها استندت الى فهم اكمل واعمق لهذه الفلسفة. فهناك اذن مجال واسع للتصحيح والتعميق.
لعل انعزالنا نحن المثقفين في العراق عن جماهيرالشعب العربي (لاسباب كان ارهاب العهد البائد احدها) في حين ان القادة – بنسب مختلفة طبعا – لم يبلغوا بعد، الثقة المطلقة التامة بالقيم والمباديء التي ينادون بها. وهم – لذلك – لم يبلغوا الثقة التامة بالشعب وامكانياته.
نحن اليوم في وسط الطريق، لقد سجلنا ارتقاء محسوسا بالنسبة الى المرحلة السلبية التي كان يقودها زعماء من طبقة غريبة عن الشعب بعيدة عنه، وكانت مهمة هذه الطبقة وعملها، خنق امكانيات الشعب بدلا من تفجيرها.
وحين ودعت أستاذنا الكبير، وفيلسوفنا العربي المناضل.. كنت أشعر وكأنني استوعبت – خلال هذه الساعة التي قضيتها معه، منصتا اليه – القرون الطويلة من تاريخ هذه الامة العربية التي كانت وما زالت تنجب الانبياء والشهداء والفلاسفة والابطال والشعراء.
بغداد في آب 1958
(1) مأخوذ عن كتيب من منشورات مدرسة الاعداد الحزبي، وقد سبق لجريدة الجمهورية البغدادية في سنتها االاولى وفي العدد الثاني بتاريخ 9 آب 1958 ان نشرت لقاء مع القائد المؤسس الرفيق ميشيل عفلق أجراه الشاعر المرحوم بدر شاكرالسياب. ولأهمية تلك المقابلة واهمية اعتباراتها الادبية والثقافية، فقد اعادت صحيفة “الثورة” نشرها في عددها 1649 الصادر بتاريخ 27 كانون الاول 1973.
معركة الوحدة في العراق
ليس عندي(1) مناسبة أغلى من مناسبة الاجتماع بالشباب العربي لأنني اعرف منذ زمن طويل بأن هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها امتنا العربية، هذه المرحلة الانقلابية العميقة الشاقة لا يقوى على حملها والاضطلاع بأعبائها الا الشباب المهيأ بطبيعة تكوينه للايمان بالمثل والمبادئ والقيم الخالدة. وها نحن الآن وما زلنا في الخطوات الاولى لثورتنا نواجه امتحاناً صعباً وليس غير الشباب من هو جدير بأن يمتحن هذا الامتحان، لذلك اقدر وافهم قلقكم وحماستكم واهتمامكم البالغ بما يجري في عراقنا الحبيب لأنكم تدركون بما توفر لديكم من وعي وبما يجيش في اعماقكم من ايمان، تدركون بأن ما يجري في العراق الآن يتناول مصير الامة العربية كلها، فلذلك تشعرون بواجبكم التاريخي وتتطلعون الى اداء هذا الواجب بشكل قوي يحقق النصر لمبادئكم. ان من طبيعة هذه النهضة العربية الحديثة ان يكون طريقها شاقاً وان تمتحن بين الحين والآخر بالمشاكل الصعبة المعقدة، لأنها نهضة هيأت لها قرون طويلة كانت فيها عبقرية الشعب العربي وحيويته مختزنة، وكان لابد ان تأتي نهضته نهضة اصيلة انسانية لأنها أتت بعد صبر وانتظار طويل، ولأنها تأتي من أمة ألفت حمل الرسالة واعتادت أن تنظر الى الحياة بأنها رسالة. فيجدر بنا اذن ان نتذكر هذه الخاصة لبعثنا الجديد، خاصة الصعوبة والمشقة لكي يكون بعثاً اصيلاً، وعندما نتذكر ذلك نقبل على الصعوبات بلهفة للقائها لاننا نرى فيها السبيل الذي نريد ان نحققه. الفرق هو بين ان ننظر الى العقبات بأنها عقبات وبين ان ننظر اليها بأنها هي الطريق. كل ذلك لكي يعطي العرب ما يؤهلهم تاريخهم ان يعطوه وما تنتظره البشرية منهم. ولا يمكن أن نعطي شيئاً اصيلاً يصلح لاعادة تنظيم مجتمعنا ووضع اسس حديثة له، لا يمكن ان نعطي ذلك الا اذا خبرنا المصاعب واصطدمنا بغيرنا وبمختلف المشاكل والاغراض الانسانية حتى يكون الحل الذي يخرج من العرب حلا انسانياً. ولكن ذلك يرتب علينا مسؤوليات كبيرة لأن المهمة الاصيلة لا تأتي بالكلام ولأن هذا التفاؤل والاستبشار بالصعوبات لا يكون في التأمل وانما يستوجب العمل الجدي بكل معاني الجدية، فهذا الامتحان الجديد لنهضتنا مهما يكن بالغ الخطورة لا يليق بنا الا أن ننظر اليه كحافز على التصحيح للنواقص التي لا تزال في نهضتنا، للأخطاء والسطحية في التفكير، للضعف في التنظيم، لسطحية الايمان وسطحية الاخلاص للمبادىء التي آمنا بها، فهذه المحنة وهذه التجربة ليست في الواقع الا حافزاً ومنبهاً وليست الا تحدياً جديداً علينا أن نكون به جديرين وأن نعطيه المثل الايجابي.
لعلكم تذكرون بأني كنت أقول بأن معركة الوحدة هي أصعب معاركنا لأنها هي الثورة الخالصة التي يضع فيها العرب جميع امكانياتهم. الثورة العربية التي لا يعتمد فيها العرب الا على انفسهم هي معركة الوحدة، في حين أن ثورة التحرر والثورة الاجتماعية تساندهم فيها قوى أخرى: تيار العصر يصفي الاستعمار، وتقدم الانظمة الاشتراكية في كل مكان. أما الوحدة فهي أصعب لأنها تتطلب من العرب الجهد الذاتي، تتطلب محاربة النفس، تتطلب تضحية وبعداً في النظر، تضحية للسهل القريب في سبيل الآجل الصعب الباقي المتين، وللفوائد التافهة الرخيصة سواء أكانت شخصية أم قطرية في سبيل منفعة الجميع، وهي حساب دقيق وتنظيم وايمان وتجرد. لذلك أقيمت اسرائيل لتعيق سبيل الوحدة، وعندما انطلقت الوحدة، وهذا شيء لم يكن الاستعمار يصدق أنه سيحدث، عندما حدث ذلك كان بالرغم من وجود اسرائيل والاستعمار.
لقد التقوا وتناسوا ما بينهم من فروق قبل عشر سنوات في سبيل اقامة هذا الحاجز وسط الارض العربية، لذلك جمعوا جمعهم لكي يحولوا دون ما نؤمن نحن أنه قدر لابد ان يتحقق. فالمسألة هي هذا الصراع بين الوحدة وأعداء الوحدة. لكن أعداء الوحدة ليسوا كلهم من الأجانب، ليسوا كلهم في الخارج، انما لا تزال توجد في وطننا شروط وأوضاع وعوامل تمنع مجيء الجميع الى الوحدة، تؤخر شمول عقيدة الوحدة. لا يزال يوجد عدد غير قليل في شتى الأقطار يقاوم الوحدة حرصاً على المصالح الخاصة وعلى الزعامات المحلية ويقاوم الوحدة عن جهل بخيرات الوحدة. لذلك اذا اردنا ان ندخل هذه المعركة ونحن واثقون من انتصارنا فيها فليس أوجب علينا من رؤية الأمور على حقيقتها، ليس أوجب علينا من رؤية الأمور صريحة لا مواربة فيها. فكما أن ثمة في العالم مصالح ضخمة تعادي الوحدة لأن الوحدة تهدد هذه المصالح الآثمة، فان في داخل الوطن العربي مصالح آثمة، مصالح خاصة تقاوم وتعارض الوحدة. وهناك ايضاً أعداء للوحدة دون أن يكون لهم مصلحة في مقاومتها. اذن هناك تقصير من قبل دعاة الوحدة وأنصار الوحدة والعاملين في سبيلها، هناك خطأ ونقص، اذ لكي تستطيع الوحدة ان تصمد في وجه أعدائنا ذوي المصالح الذين يقاومونها خوفاً على مصالحهم، يجب ان نكسب وبأسرع وقت ممكن جميع الذين ليس من مصلحتهم معاداة الوحدة لكي يكونوا معها وفي صفها وتيارها وجنوداً في معركتها.
بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته الفكرة القومية العربية في السنوات الاخيرة في مجالي الفكر والعمل، وبالرغم من الوضوح الذي أصاب نواحي عدة من هذه الفكرة، وبالرغم من بعض الانسجام الذي أصاب مختلف نواحي الفكرة القومية فلا يزال فيها جوانب غامضة ولا يزال فيها اضطراب. وهذا يعني أن ألوفاً ومئات الآلاف من أبناء الشعب العربي لا زالوا يقفون خارج المعركة، فنخسر مساهمتهم وان لم يدخلوا الصف الآخر ضدنا.
قلت لكم، أيها الاخوة والاخوات، بأن المعركة في تقديري معركة وحدة وانفصالية، وإن تكن تحولت في وقت قصير جداً الى معركة بين القومية والشيوعية. ولو اننا اعطينا الوحدة مفهومها السليم الكامل الواضح من جميع النواحي لما أمكن ان تتحول المعركة بهذه السهولة وبهذه السرعة الى مضاعفات جديدة، الى معركة قومية وشيوعية. اذ اني لا اقول بوجود غموض تام بل بوجود بقايا غموض في الناحية الاجتماعية لفكرتنا وبقايا غموض في النواحي الأخرى الانسانية والفكرية عامة منعت الوحدة من ان تكون منذ اليوم الاول في العراق شعاراً لجماهير الشعب، شعاراً يرون فيه تلبية جميع مطالبهم وحاجاتهم القومية والاجتماعية والانسانية. لقد كانت الى حد ما هذا الشيء، ولكن بعض الغموض الذي بقي فيها أتاح للشيوعيين ان يظهروا على المسرح كتقدميين مع ان تقدميتهم زائفة وهزيلة اذا قيست بتقدمية القومية العربية عندما تفهم الوحدة على حقيقتها. وهذا ما سمح لبعض العناصر الرجعية ان تلوذ بالوحدة تتستر بها وتلقي عليها ظلالها الثقيلة وشبهاتها. وهذه سيرة مألوفة، اذ أن نوري السعيد كان في الماضي يتغنى بالوحدة وكان يدعي أنه يعمل لها. واجبنا أن نجعل تقدمية الوحدة العربية حاسمة فاصلة كالسيف لا تدع مجالاً للالتباس كي نكسب الشعب العربي كله. ويجب ان نعرف بأن كسب الشعب العربي له ثمن هو ان نخسر الرجعيين والاقطاعيين والمستثمرين من كل صنف. وهنا لا يمكن التردد في اقتحام الطريق الثوري وفي اتباع الاسلوب الثوري القاطع الحاسم، الاسلوب القوي الذي يدعو جماهير الشعب للالتفاف حول القضية بمنع الفئات المستغلة للشعب من أن تدخل وتتسرب الى صف الشعب لتوجيهه. فهذا القدر من الغموض والارتجال والعاطفية الذي ما زال في فكرة الوحدة وفكرة القومية عامة يحمل، لا أقول كل المسؤولية، ولكن بعضها في المعركة الجديدة التي فرضت علينا.
وهذا ما مكن الشيوعيين بمساعدة الاستعمار وبمساعدة الشيوعية الدولية ومساعدة الانفصالية والشعوبية في الداخل من ان يخدعوا ويضللوا ويكسبوا وقتاً وقواعد، ويمتلكوا الى حد ما زمام المعركة مؤقتاً. لم يكن في مخطط الحركة التقدمية ان تدخل في معركة مع الشيوعية. لم تكن الخطة القومية في ان تفتح معركة مع الشيوعية، ولكن الشيوعيين هم الذين فرضوها، فما علينا الا أن نجني فوائدها. فالشيوعية في الواقع استبقت المعركة كالمذعور الخائف الذي يعرف ان مصيره آت، ومعرفته هذه تدفعه الى استباق الحادث والى التعجيل في مصيره. لقد ادركت الشيوعية المحلية في البلاد العربية منذ سنتين او ثلاث سنوات على الأقل بأن ما كان يقال وما كان يجري على ألسنة الشعب هو حق وحقيقة، وليس لهواً أو مزاحاً، وان الامة العربية دخلت في طور البعث وفي طور النهضة الحديثة، وان لا مجال للشيوعية مع هذه النهضة، فأصبح همهم ان يعرقلوا ويؤجلوا تحقيقها في هذه البلاد. وأقول يقينا بأن هذا ليس مقتصراً على الشيوعية المحلية، بل أؤمن بأن الشيوعية الدولية ترى في نجاح الثورة العربية نهاية لها او ما يشبه النهاية، أو على الأقل منافساً خطيراً لها لأن الثورة العربية ليست وليدة الثورة الشيوعية ولأنها عقيدة تستطيع اكثر من غيرها ان تثبت ملامح الثورة الاصيلة والعقيدة الاصيلة. والشيوعية تعرف خطر ذلك عليها. فكان اذن للشيوعية مصلحتان في عرقلة الوحدة: مصلحة في داخل الوطن العربي ومصلحة عالمية، لأن نجاح الثورة العربية ظهر منذ الآن، ونحن ما زلنا في الخطوات الاولى، انه يعطي مثلا وقدوة لجميع شعوب العالم وخاصة شعوب آسيا وافريقيا، خاصة وان الشيوعية كانت تحسب هذه الشعوب رصيداً لها تستطيع أن تؤثر فيها وتسيرها. وهكذا تطورت المعركة واتخذت شكلاً جدياً، عقائدياً، حاداً، فما علينا الا ان نستبشر بما فرض علينا فرضاً وأن نحول المصاعب الى مناسبات لتعميق فكرتنا ولتقوية وتوحيد نضالنا ولرفع مستوى معركتنا الى المكان التاريخي الذي يليق بأمتنا. فلقد كنا ننحصر كثيراً بالحوادث القريبة، ننحصر كثيراً في حدودنا السياسية ونهمل ان نلقي نظرة على حركتنا في العالم وفي التاريخ. فجاءت هذه المعركة تذكرنا بالقوى الكامنة في حركتنا وتجربتنا القومية التي انتبه اليها الاعداء والمنافسون ونحن لم ننتبه لها.
الثورة الشيوعية في اوروبا تعرف انها تدخل مرحلة الشيخوخة، ليس لأن عشرات السنين مضت عليها، اذ ليس ضرورياً ان يكون الزمن عامل شيخوخة. بل لأنها سلكت سبيل المساومة والابتعاد عن المبادئ، ولأنها نسيت الدافع الاول الثوري واخذت تتنازل امام الواقع ونسيت الثورة كثورة عالمية وأخذت تهتم بمصلحة الدولة. هذا الضعف الذي طرأ على الشيوعية منذ سنين، اقول انه بلغ ذروته عندما تورطت الشيوعية في معاداة ومهاجمة القومية العربية وفي معاداة الامة العربية التي هي أمة ثائرة ما زالت تكافح الاستعمار وما زالت تكافح الرجعية وما زالت تناضل من اجل وحدة أجزائها والحق في جانبها والتاريخ في صفها، وان اي دولة تقف في صف آخر فانها تقف ضد سير التاريخ وضد الحق. ولا أعرف ورطة اصعب من هذه الورطة التي انزلقت اليها الشيوعية العالمية. الشيوعية المحلية قصيرة النظر، مزيفة منذ بدايتها لأنها لم تقم على طبقة عاملة وانما على الاقليات غير المندمجة في التيار الوطني. وقد زادتها تزييفاً تبعيتها العمياء للشيوعية الدولية، وخاصة عندما وضعت هذه الاخيرة نفسها في صف ضد القومية العربية، وعندما يقوم الشيوعيون المحليون بتقليد الشيوعية العالمية في تشويه الحقيقة العربية وفي تفسير الشيوعية العالمية تفسيراً خاطئاً.
اذن نحن نستبشر لأن حركتنا اصيلة الى حد ان الحركة التي كانت تحتكر العقائدية في العالم وتحتكر رعاية مصلحة الشعوب، شعرت بالغيرة وشعرت بالمنافسة فتورطت في معاداتنا ولم نعادها نحن. فيا ايها الاخوة، اقول لكم ذلك لتعرفوا دائماً المستوى التاريخي الذي يجب ان نعمل فيه. لكي تتذكروا دائماً ان للامة العربية رسالة، وان ثمن الرسالة لا يكون سهلاً ولا ثمناً رخيصاً. اقول لكم بأن ثورتنا هي لنا وهي للعالم، ومن حقنا ان نطمح هذا الطموح، لأننا عانينا وما زلنا نعاني تجارب قاسية تؤهلنا معاناتها لأن نعطي حلولاً عميقة للانسانية. ولكن يجب علينا الا نؤخذ بالجانب السهل من هذا الكلام. اذ لا يليق بنا مطلقاً ان نهمل ما يرافق ثورتنا من ثغرات، بل الاجدر بنا ان نعترف بها ونتلافاها، وان نشكك في انفسنا وفي ما نقدمه، وان نطلب دوماً المزيد من النقد الذاتي وان نكون مستعدين للتصحيح اذا ظهر اي خطأ في خططنا وعملنا. جدير بنا ان نعطي للخصم حقه. فالمعركة التي نخوضها قاسية وهي معركة تشرفنا لأنها مقياس لتضحيتنا ولأنها تنبئ عن الامكانيات الكامنة في ثورتنا. ولكن بين خصومنا من هم اشداء متسلحون بالعلم والتنظيم. هذه الثورة الشائخة التي تحدثت عنها الآن، لا يحسن بنا ان نستخف بها لأن عقيدتها رغم ما فيها من اصطناع، فان فيها جهداً انسانياً كبيراً، فيها جهد المئات والألوف، فيها خلاصة اتعاب مائة سنة من الذكاء البشري وتجارب البشرية في النضال. يجدر بنا ان نعرف مواطن القوة عند الآخرين كما نعرف مواطن الضعف فيهم. فالمعركة خطيرة وقاسية، ولكن نستطيع اذا رجعنا الى مبادئنا وتعمقنا فيها وفي تطبيقها، وجعلنا نضالنا وتنظيمنا في مستوى هذه المبادئ وفي مستوى الامة التي تصنع التاريخ، عندها نستطيع ان نحول جميع الصعوبات والعقبات والمحن التي تعترض سبيلنا الى فوائد وخيرات ومناسبات لتعميق فكرتنا. وأول ما تتطلب منا هذه المعركة، وهي اولاً وآخراً معركة الوحدة العربية، ان نطبق فعلياً وبكل اخلاص وجدية مبدأ الوحدة، وحدة النضال، وان نعتبر العراق اليوم ساحة نضال لجميع العرب .
نيسان 1959
———————————–
الضرورة التاريخية التي أتى البعث لتلبيتها
أريد أن أوضح للرفاق(1) نقطة أعتبرها هامة وأقولها بمناسبة انضمام الرفيق إلى الحزب، هذه النقطة هي الضرورة التاريخية التي جاء حزب البعث العربي الاشتراكي ليلبيها، فهي ضرورة تاريخية في هذه المرحلة المصيرية من حياة أمتنا.
متى نتثبت من صحة مبادئنا وصحة نظرتنا. ؟…
نتثبت من صحة طريقنا عندما تأتي الأحداث والتجارب والانتصارات القومية فتزيد من حاجة الامة الى هذه المبادئ وهذا الطريق، بدلاً من أن تبطل هذه الحاجة أو تضعفها أو تأتي بأشياء أخرى تغني عنها.. فنحن الآن ومنذ تحقيق بداية الوحدة العربية بقيام الجمهورية العربية قد دخلنا طوراً تاريخياً جديداً.. دور تحقيق عملي جدي لمبادئنا.. فنحن وبالرغم من مضي السنة والنصف على حل حزب البعث العربي الاشتراكي في الجمهورية نشعر ونلمس بعقولنا وضمائرنا وتجربتنا أن بقاء الحزب في الوطن العربي ما زال ضرورة قصوى وان زواله يعني كارثة ويعني تردياً وانهياراً للآمال وضياعاً للجهود.. ولكن لماذا؟
اقول هذا وأنا أعرف، ولربما أكثر من أي شخص آخر في الحزب، ما ينتاب حزبنا من نقص وتشويه طارئ.. فالمسألة ليست بسيطة الى هذا الحد.. المسألة مسألة اتجاه وعقيدة وتجربة.. فحتى لو افترضنا المستحيل وافترضنا أن حزب البعث قد تشوه تشوهاً كاملاً في كل شيء إلى النقيض.. رغم كل ذلك فإن الضرورة التاريخية في وجوده تبقى موجودة، في فكرته واتجاهه، لا يستغنى عنها.
واذا تشوهت أجهزته فيمكن إصلاح الأجهزة ولكن عندما تفقد الفكرة او الاتجاه فلا شيء يعوض ذلك.
فوجود حزب البعث وضرورة استمراره الى نهاية المرحلة التاريخية.. إلى أن يؤدي رسالته ويحقق أهدافه كاملة.. يعني أن الأمة العربية في هذا العصر لا يمكن أن تنهض من كبوتها وان تحقق إمكانيات شعبها الكبيرة، وان تسترد مكانتها التاريخية وتؤدي رسالتها الا عن طريق العمل الشعبي العقائدي الحر المنظم، هذا هو الطريق وكل ابتعاد عنه تعريض للأمة ولما حققته لعشرات السنين من النضال للضياع.. ولست بحاجة الى أن أكرر أشياء يفترض انها معروفة لدى كل البعثيين وأن أعود الى ذكر مميزات العقيدة البعثية.. فاكتفيت بالإشارة الى ناحية فقط وإلى واحدة من هذه المميزات وهي كون حركة البعث حركة شعبية تقوم على العقيدة وتنبعث بحرية من وجود الشعب العربي دون أي اصطناع وبالتالي تمثل إرادة الشعب العربي وتستطيع أن تدفعه وتفهم حاجاته وتوحي إليه بالثقة.
فجدير بالشباب العربي المؤمن المصمم على العمل وعلى النضال للاضطلاع بالعبء التاريخي، جدير به ان يدرك هذه الحقيقة وأن لا سبيل للعمل الجدي الا في هذا الطريق، وانه اذا طرأ على حركتنا بعض النقص وبعض التشويه فجدير بالشباب ان يخرجوا من أعماق نفوسهم وإرادتهم، الهمة اللازمة والجهد اللازم للارتفاع ثانية لمستوى حركة البعث كي تكون جديرة بحمل أعباء الأمة في هذه المرحلة. جدير بكل بعثي وكل شاب يدخل حديثاً للحزب أن يعتبر أن حزب البعث يبدأ منذ دخوله إليه، وبالتالي هو مسؤول عن هذه الحركة التاريخية وأن يعطيها من دمه وإخلاصه وشبابه ما يريد أن يعطي لأمته لأنها هي الطريق الوحيد والصلة الوحيدة العملية بينه وبين أمته.
15 حزيران 1959
(1) كلمة في حفل قسم أحد الرفاق من العراق بتاريخ 15 حزيران 1959.
الإستفادة من أخطاء الماضي والحاضر
قبل شهر (1) او اكثر بقليل كان يزور الاقليم الشمالي هنا أخوان نقابيان من المغرب، حضرا مؤتمر العمال العرب في القاهرة ثم جاءا لتمضية ايام لزيارة هذا الاقليم.
واجتمعت بهما وتحدثنا وسألني احدهما قائلا: هل تعتقد ان القومية العربية يمكن ان تنجح دون الاستفادة من أخطاء الماضي والحاضر؟ فاستحسنت سؤاله وأجبته بأنني لو سئلت عن تعريف للقومية العربية لما وجدت أحسن من هذا التعريف (انها هي استفادة العرب من أخطائهم في الماضي والحاضر).
عندما يستفيدون من اخطائهم يستطيعون ان يحققوا بعثا لأمتهم وان يحققوا مساهمة ايجابية ضخمة في رفع مستوى الانسانية او في اغناء الحضارة الانسانية.
ولكن الاستفادة من الاخطاء ليست بالشيء السهل وبالتالي معركة القومية العربية ليست بالسهلة فهي من أقسى المعارك في التاريخ.
الاستفادة من الاخطاء تتطلب فضائل كثيرة وفضائل من النوع العالي، فضائل تجمع المتناقضات او بتعبير آخر ان تجمع الى التواضع ثقة لا حد لها بالنفس.. لكي نستفيد من اخطائنا يجب ان تكون عندنا فضيلة التواضع أي ان نكون بعيدين عن الغرور وعن التكبر والرياء والكذب. ان نحب الصدق لا ان نكون صادقين فحسب.. النظرة الصادقة البسيطة الصافية هذه هي الفضيلة، فضيلة التواضع ومحاسبة النفس بكل صدق وبساطة. يجب ان نملك فضيلة أخرى ايضا لا تقل عن الأولى هي فضيلة الثقة بالنفس اذ لولا الفضيلة الثانية لربما أدى الاعتراف بالخطأ الى اليأس والى الاستسلام والتخاذل.. نخطئ ونخطئ وليس هناك من أمل في إصلاح الخطأ.. فالفضيلة الثانية ان نكون واثقين بأنفسنا ومتفائلين بالحياة مؤمنين بالخير وان كل انسان يستطيع ان يصلح نفسه وكل شعب كذلك يستطيع ان يصلح حاله.
اذكر أني ربطت بين ثقة العربي بنفسه وثقته بأمته في حديث قديم يرجع الى 1944 ومنشور في احد الكتيبات بعنوان “الجيل العربي الجديد“ ربط بين ثقة الجيل الجديد بنفسه وبأمته. ان من يثق بنفسه، يثق بأمته لأنه جزء منها، فما دام قد استطاع ان يتغلب على ضعفه وان يسيطر على هذا الضعف وينمي فضائله فهو جزء من هذه الأمة، ويمكننا اذن ان نسيطر على ضعفها وان نخرج منتصرين على كل ما فيها من امراض.
اذكر ايضا بأنني كررت دائما بان طريقنا صعب وأمامنا كثير من التجارب المؤلمة وان الشباب هم أجدر من غيرهم بان يؤمنوا بصعوبة الطريق لا بل ان يحبوا هذه الصعوبة لانها لخير امتهم وانه لشيء جدير بأن يحملوا عبئه. كل شيء جديد وعظيم القيمة لا بد ان يتطلب الجهد والتضحية.. فإذا كنا جادين في تضحيتنا لبعث الأمة العربية بعثا اصيلا شاملا لجميع نواحي الحياة وفي سبيل ايصال شعبنا العربي الى مستوى الإبداع في الحضارة كي يكون قدوة، اذا كنا جادين في هذا فلا يعقل ان نستعجل او ينفذ صبرنا بسرعة وان نريد النصر رخيصا سريعا.. لأننا في نفس الوقت نعلم ان هذه الأمة التي تولد من جديد في هذا العصر.. تحتاج الى وقت وتحتاج الى جهد وأتعاب وإزالة عقبات من الطريق تمرن بها خصائصها وفضائلها حتى تصل الى المستوى اللائق، والا نقع في الخطأ الذي وقع فيه السياسيون من قبل بأن يقولوا للشعب شيئا وأن يضمروا شيئا آخر.. ان يتظاهروا بالمثل العليا ويعملوا للكسب الشخصي، ان يتباهوا بالالفاظ الضخمة وان يكونوا في اعماق انفسهم ليس لديهم همة ومتعبين.. ولكننا بدأنا منتبهين الى هذا الضلال وحذرين منه عندما قلنا مرارا في بدء حركتنا ان عملنا هو رسالة لا سياسة.
اذن، ايها الاخوان، انتم هذا الجيل العربي الجديد أجدر الناس بأن تروا الأمور رؤية صادقة عميقة تختلف عن النظرة المشوشة السطحية التي ينظرها عامة الناس، حيث يذعر الآخرون ويتشاءمون.
انتم يجب ان تتفاءلوا وتُقدِموا.. عندما تعرض في طريقنا عقبة ونصطدم بصدمة وتحل بنا نكبة.. فلنترك الذين لا يعيشون في صميم النضال نترك لهم التشاؤم والذعر… ونحن نعتبر ان القدر هو الذي يرسل مثل هذه العقبات ليزيدنا تنبها الى اخطاء فينا لم نكن منتبهين اليها لكي نصححها، ولكي تأتي نهضتنا سليمة وعميقة كل العمق ولكي نقود انفسنا الى الجهد والصبر واسترخاص التضحيات في سبيل اهدافنا.. لاننا اذا لم نتعلم ونربي انفسنا وشعبنا ضمن الصدمات والاخطاء فلن نستطيع ان نربي انفسنا وشعبنا عندما نصل الى شاطىء السلام.. التربية الحقيقية تكون في وقت الشدة. لذلك لا يجوز للشباب العربي الثوري ان يحزن وييأس عندما تحل بالأمة صدمة او حتى نكبة لأنه ما دام مالكا للفضيلة الاساسية وهي الثقة بالنفس مع الفضيلة الأساسية الأخرى وهي الصدق في محاسبة النفس، فانه يرى في الصدمة او النكبة تحديا جديدا من القدر له ولأمته لتعلو فوق نفسها وترتفع الى مرتبة اعلى في الخلق وفي التفكير والمعنى الانساني.
ولعلكم تذكرون ايضا باننا في نظرتنا الى الأمور منذ بداية حركتنا تجنبنا كثيرا النظرة الرائجة والمنطق الدارج الذي يريد دوما ان يتنصل من المسؤولية ويلقي التبعة على عوامل خارجة بعيدة عن الأمة.. وبالرغم من اننا اعرف الناس بمساوئ الاستعمار ومصالحه وبكل ما جره علينا من ظلم وتأخر لم نكن نقبل لأنفسنا كجيل مناضل ولم نكن نقبل لأمتنا كأمة متحفزة للبعث ان تتواكل وتستريح على هذه النظرة.. على ظهر الاجانب ومفاسدهم وما اساءوا الينا. اي ان نظرة البعث شقت طريقا جديدا في التفكير والشعور، طريق الرجولة والاعتماد على النفس. وسدت منافذ الهرب لكي لا يهرب العربي من المسؤولية ويتذرع ويتحجج بالعوامل الخارجية وهذا كما تعلمون لم يضعف نضالنا ضد الاستعمار بل قواه.. هذه النظرة الجديدة لم يكن من نتيجتها تراخ تجاه الاستعمار وانما كانت حافزا للنضال. انما هذه النظرة تساعد على شيئين:
1- على رؤية الاخطاء ومعرفة اخطائنا.
2- على رؤية فضائلنا وقوانا.
وعندما نرضى بأن نكون مسؤولين عن مصيرنا فهذا يعني باننا رأينا قصورنا.. رأينا مواطن الضعف ولكننا صممنا على مقاومتها.. اي وجدنا فينا مواطن القوة للقضاء على المرض والألم.
بهذه النفسية يجب ان ننظر الى المعركة الجديدة التي فتحت في العراق عندما انحرف المسؤولون هناك عن طريق القومية والوحدة وعندما وجد الاستعمار الغربي من جهة، والشيوعية من جهة اخرى، الفرصة كي يستغلوا الانانيات الشخصية والمصالح المحلية الحقيرة والإنتهازية السياسية التي تتقن الإنفصالية، عندما وجد كلا المعسكرين مصلحته في تشجيع هذه الإنتهازية الإنفصالية ليؤخروا ويعرقلوا نهضة العرب التاريخية.. عندها دفع هذا الانحراف وهذه النكسة وما تلاها من فواجع أصبح جديرا بنا كلنا ان نعتبر ذلك تنبيها جديدا من التاريخ.. تنبيها لكي نعيد النظر في طريقنا واسلوبنا ونفتش عن الخطأ لنصلحه واثقين بقدرتنا على رؤية اخطائنا وواثقين بقدرتنا على اصلاحها بعزم وتفاؤل.. اذ لا يمكن ان يمنعنا احد من متابعة نهضتنا.. قوى العالم اجمع لا تستطيع ان تمنعنا من متابعة السير اذا لم يكن الخطأ منا نحن. فالقوى الخارجية تستغل اخطاءنا.. وعندما نصحح نحن الخطأ نكون قد قطعنا عليها الطريق واستطعنا ان نستأنف السير.
هذا ما يجدر بالشباب ان يعرفوه او ان يهيئوا انفسهم لدراسته والتحليل والدرس الجدي لأنه لا يعرف جديا اين الخطأ وكيفية تفاديه. هذا ما يجار بكم ان تعرفوه وتتهيئوا نفسيا لمتابعة هذه المعركة في سبيل ان ننتهي منها لنصر جديد اكبر من الانتصارات السابقة لاننا نكون قد صححنا في نفوسنا أخطاء ونكون قد أيقظنا في نفوسنا قوى وفضائل لم نكن نعلم بها من قبل.
(1) كلمة ألقيت في إجتماع لأنصار الحزب من العراق حزيران 1959
لبنان و العروبة
حسبما تكون نظرتنا الى مستقبل الاتجاه العربي الثوري نظرة متفائلة او متشائمة، ننظر ايضا الى موضع لبنان من العروبة، والى موقف العروبة من لبنان.
والواقع ان اكثرية الذين يسمون انفسهم ثوريين عربا بهم يأس من لبنان ومن امكانية انفتاحه على العروبة وانسجامه معها.
وسبب هذه النظرة سطحية وانحراف في ثورية هؤلاء “الثورين“. فالعروبة الحديثة، أي العروبة الثورية، لا يجوز ان تيأس من جزء من اجزاء وطنها وشعبها، لان الثورة العربية ليست الا الانكباب على مواطن الالم واسباب التأخر والفرقة في مجتمعنا، ومعالجتها من الأعماق والجذور، بروح مشبعة بالايمان والتفاؤل، ايمان بمبادئ الثورة، وتفاؤل بقدرة شعبنا على التجاوب مع هذه المبادئ.
وأكثر من ذلك، فالروح الثورية انما هي التي تتخذ من المشاكل المعقدة مناسبات ودوافع لتعميق المبادئ وامتحانها، وتصحيح الأسلوب، واعطاء الرسالة كل معناها ومداها.
وفي وطننا العربي الكبير من المشاكل والأوضاع الشاذة المتراكمة ما يتحدى ثورية القومية العربية واصالتها كل يوم، ويدفعها باستمرار كيما تجعل من واقعها وعاءا شفافا للمبادئ التي نادت بها.
فالمغرب العربي تكوينه التاريخي الخاص الذي يجمع بين العرب والبربر، ثم هجرة اعداد ضخمة اليه من الاوروبيين في ظل الاستعمار الفرنسي… والعراق وأقلياته العنصرية، وخاصة تلك الاقلية الكبيرة من الاكراد… ولبنان وتكوينه الخاص الذي اعطى لفروق المذهب والدين معنى الاختلاف الحضاري، كل هذه الحالات تتطلب حلولا ثورية سليمة، تحفظ للعروبة كل اجزاء ارضها وشعبها، وتتحقق الوحدة الروحية والتفاهم والانسجام بين الجميع، بدلا من الحلول النابعة من اليأس التي تتراوح بين بتر الاجزاء المسببة للمشاكل، او الاحتفاظ بها بالقوة والقسر.
واذا قصرنا الآن كلامنا على لبنان نجد ان مشكلته لم تطرح حتى الساعة بشكل صحيح ونزيه، وأول ما يتوجب تصحيحه هو الاعتقاد بأن لبنان يكون مشكلة فريدة في الوطن العربي، مع انه احدى المشاكل الرئيسية وقد لا يكون اكثرها صعوبة.
ولكن الاهم من ذلك هو التخلي نهائيا عن الحكم على عروبة لبنان بمقاييس هذه الدولة العربية او تلك، والرجوع بدلاُ من ذلك الى مقاييس العقيدة القومية الثورية التي لم تتجسد بعد بصورة كاملة في اية دولة عربية، وان كان بعض الدول يقترب منها اكثر من بعضها الآخر.
في ضوء هذه الحقيقة يبدو لبنان اقل ابتعادا عن العروبة من عدد من الأقطار الاخرى. وعندما نتخلص من هذا الالتباس نكون في الوقت نفسه قد وضعنا حدا في لبنان للاعتقاد الخاطئ الذي يعتبر كل نقص او خطأ في تصرفات بعض الدول العربية نقصا في القومية العربية ذاتها. كما اننا، بالمنطق نفسه، نرفض تقسيم الشعب في داخل لبنان الى قسمين، قسم مع العروبة وقسم ضدها، ذلك ان الجميع في نظر المقاييس القومية الثورية، بعيدون عنها، ولو باشكال ونسب مختلفة. اذ انه لو صح التقسيم الاصطلاحي وكان نصف سكان لبنان “عروبيين” اي عربا ثوريين، لما بقي فيه مخاصما للعروبة غير القلة من الرجعيين، بل لما كان فيه تقدمي الا هو نصير لها مؤمن بها، لان مشكلة لبنان مع العروبة ليست الا مشكلة تقدمية العروبة.
وبهذا المعنى يصبح للبنان دور اساسي في تصحيح وتعميق وتكامل الحركة العربية الثورية، حتى لو كان الذين يخاصمون العروبة فيه لا يقصدون التصحيح من موقفهم السلبي العدائي، اذ المفروض في العروبة الحديثة ان تكون قادرة على قبول هذا التحدي والاجابة عليه بمزيد من توضيح تقدميتها وتعميق ايمانها بالحرية والانسانية.
عام 1960
الدور التاريخي لحركة البعث
عندما(1) نريد أن نلقي نظرة على تاريخ حزبنا ونفحص فيه مواطن القوة والضعف بكل موضوعية وتجرد نستطيع ان نقول ان حركة البعث تمثل شيئا جديدا في حياة العرب الحديثة في ناحيتي الفكر والعمل، رغم ما انتابها وما يمكن أن ينتابها من نواقص. انها اول محاولة جدية لتحريك القوى الثورية في الوطن العربي ضمن أهداف عربية وطريق عربي مستقل. ولا يمكن لحركتنا أن تدعي انها خلقت القوى الثورية، فالامة العربية تعيش مرحلة ثورية من قبل ظهور حركتنا. ولكن هذه الحركة حاولت أن تعطي الثورة العربية صيغتها الموحدة المنطقية الشاملة، وان تضعها في وقت واحد، في جو العصر الذي تعيش فيه، عصر المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وفي جو الروح العربية الاصيلة. لقد أعطت حركة البعث للعروبة مفهومها الحديث، ومضمونها الايجابي الثوري بعد ان كانت العروبة لفظة فارغة غامضة، واطارا فاقد الروح والمحتوى. وأصبحت القومية العربية مرادفة لحياة الشعب العربي ومشاكله السياسية والاقتصادية والفكرية، وأصبحت تعني في وقت واحد الثورة على التخلف والظلم الاجتماعي، والثورة على التجزئة وفي سبيل توحيد الوطن العربي، والثورة على أمراض المجتمع وعصبياته وامتهان كرامة الفرد والمجموع وفي سبيل الديمقراطية والقيم الإنسانية.
لقد قدر لحزب البعث الاشتراكي أن ينقذ الاجيال الصاعدة من الضياع بين العصبية الاقليمية والثورة الاممية ووضعها في صميم العمل التاريخي، عندما وضح لها الحقائق التالية:
- ثورية المرحلة، وعقم الاعتماد على التطور والاصلاح الجزئي.
- واقعية الثورة وطابعها الاقتصادي واعتمادها على جماهير الشعب.
- وحدة الاهداف الثورية وتفاعلها، والتأثير المتبادل للنضال التحرري والنضال الاشتراكي والنضال الوحدوي.
- شمول القضية، وترابط مصلحة الشعب العربي في جميع اقطاره وضرورة توحيد نضاله.
- الحرية كأعمق أساس وأقوى دافع، واعتبار القومية صورة حية عن الانسانية، واعتبار الامة مسرحا لتحقيق القيم الانسانية.
وبمقدار ما يكون التوضيح العلمي الواقعي للاهداف وللمنطق الذي يربط فيما بينها وللطريق الذي ينبع من هذه الاهداف ويساعد على تحقيقها، بمقدار ما يكون هذا عملية خلق، ويكون حزب البعث قد اسهم في خلق هذا المستوى من التفكير والنضال الثوريين الذي بلغته بعض الاقطار العربية في هذا الوقت.
الا ان المساهمة الكبرى لحزبنا في خلق هذا المستوى الثوري الحديث هي نظرته الجديدة الى الوحدة العربية، هذه النظرة التي تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما سبقها والتي أخرجت الوحدة من سجن الافكار العامة والألفاظ الغامضة ونفخت فيها الروح والحياة، وفتحت لها طريق التحقيق عندما ربطتها ربطا عضويا بنضال الشعب العربي من أجل التحرر والديمقراطية والاشتراكية. فلأول مرة يظهر مفهوم ثوري للوحدة العربية يحرج الرجعيين والاقليميين والشيوعيين على السواء، يفضح الفئات الحاكمة الرجعية التي جعلت من الوحدة شعارا خادعا لتبرر به خضوعها للاستعمار ومقاومتها للنضال الاشتراكي، كما يفضح الاحزاب التي تقر الوحدة نظريا وتعمل على أساس استمرار التجزئة، كما يفضح اخيرا شعوبية الأحزاب المناهضة للوحدة التي استمرت في عدائها حتى بعد ان أصبحت الوحدة نضالا جماهيريا ثوريا واضح المعالم.
ولئن كان حزبنا اول من دعا إلى وحدة النضال العربي وعمل على تحقيقها فأنه أيضا اول من دعا الى نضال الوحدة وحققه فعليا. لقد كان حزب البعث منذ تأسيسه اول من تجاوب مع نضال المغرب العربي وحرك جماهير الشعب لدعم هذا النضال وتقدير أهميته وأثره في المصير العربي كله، كما سعى الحزب دوما لايصال صوته، رغم شتى العقبات، إلى الشباب الثوري في أقطار المغرب، من أجل توسيع أفق نظرتهم القومية واطلاعهم على المفهوم الحديث للقومية العربية.
وكان لحزب البعث العربي الاشتراكي دور تاريخي في تحقيق أول خطوة عملية نحو الوحدة العربية أي في تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر، هذا الدور تشهد به الوقائع ويشهد به الشعب، ولا تجدي في انكاره والتقليل من شأنه المكابرة ولا المغالطة.
بقي ان القول ان المجال الذي قصر فيه الحزب هو البحث الاشتراكي المنظم ووضع نظرية مفصلة للاشتراكية العربية. فلقد كان يكفي الحزب في السنوات الاولى لتأسيسه ان يعلن عن مبدأ استقلال الطريق العربي الاشتراكي، وان الامة العربية تبني لنفسها اشتراكية مستمدة من روحها وحاجاتها وظروفها. الا انه كان من الواجب ان نتجاوز هذه المرحلة الابتدائية ونطور فكرتنا ونعمقها ونغنيها بتجارب البلدان الاخرى. وهذه احدى مسؤوليات البعثيين الرئيسية في المستقبل القريب.
أما في السياسة الدولية فقد كان حزب البعث اول من دعا إلى سياسة الحياد بين المعسكرين العالميين، منذ عشر سنوات أو أكثر. وكانت سياسة الحياد التي نادى بها الحزب أكثر من سياسة، اذ انها تتصل بمبادئ البعث وفكرته الاساسية. ففكرتنا منذ البداية تدعو الى حل ثوري جديد لمشاكل العالم، ينطلق من نظرة ايجابية الى الانسان ويخلو من سلبية النظرية المادية وتعصبها وكفرها بالحرية.
وحركة البعث تؤمن بالانسانية وبأن للأمة العربية رسالة إنسانية. وهي لا تفصل بين القومية والانسانية، كما انها لا تفصل بين الحاضر والمستقبل، بل تسهر على ان تظهر صورة المستقبل العربي المنشود من خلال الحاضر الذي نبنيه. والمستقبل العربي اما ان يخلص لمبادئ النضال الشعبي فيكون مستقبلا جديدا مبدعا جديرا بحمل الرسالة، واما ان يستخف بهذه المبادئ والمثل ويعتبر انها كانت ضرورية لمرحلة معينة ثم استنفدت أغراضها، فيحمل في طياته بذور نواقص أساسية وانتكاسات جديدة. وفي هذا المجال يظهر الدور التاريخي لحركتنا أكثر من أي وقت مضى. ان فكرة البعث لم توجد لتضع نفسها مقابل الاستعمار وأعوانه وهي ليست جوابا على الاستعمار وأعوانه، بل هي جواب على سؤال تطرحه الامة العربية على نفسها عندما تريد ان تتخذ موقفا تاريخيا من المبادئ والمثل التي تؤمن بها، وعندما تواجه مسؤولية الرسالة التي تنتظرها. ان هذا الجواب الذي أعلنته حركة البعث منذ ظهورها والذي يأخذ في المرحلة الحاضرة أهمية خاصة، هو: اننا نريد ان تكون النهضة العربية عميقة متينة الأسس، غنية الروح، تقدس الحرية وتطبقها وتؤمن بالإنسان وتحترم حريته واستقلاله. نريد أن نجنب النهضة العربية كل أثر ومظهر سلبي يتسرب اليها كعدوى وتقليد للاعداء والامراض التي كنا نحاربها، نريد ان يكون طريق النهضة واضحا مشرقا، ووسائل الثورة نبيلة مثل أهدافها. ونحن لا نستطيع أن نصحح السلبية بسلبية مثلها، بل بمزيد من الاخلاص لمبادئ البعث وباعطاء البراهين الجديدة على ايماننا بالحرية وبجدارة الانسان عامة، والانسان العربي خاصة، بممارسة هذه الحرية.
ان امام حركتنا مستقبلا واسعا ومسؤوليات كبرى، فثمة أقطار عربية ما زالت تنتظر ان تدخلها فكرة البعث لتتفاعل مع نضالها وتغنيه، أمامنا أقطار المغرب العربي والسودان وبلدان الخليج العربي والجنوب. وأمامنا اقطار في المشرق العربي يناضل فيها حزبنا نضالا بطوليا ضد الحكام الرجعيين والانتهازيين، وأمامنا الجمهورية العربية المتحدة التي ساهمنا في بنائها كطليعة تقدمية للوحدة العربية، ومازلنا مسؤولين عن تثبيت دعائمها وتعميق ثورتها وتصحيح بعض مفاهيمها.
7نيسان 1960
(1) نص الحديث الذي ألقي في بيروت في احتفال القيادة القومية بالذكرى الثالثة عشرة لتأسيس الحزب.
معالم القومية التقدمية
ايها الاخوة الاحباء(1)
يصعب علي ان اصف لكم فرحتي بزيارة هذا البلد العظيم الذي رأيت فيه من علائم النهضة والتحفز ما يبعث الامل، ويبشر بمستقبل عظيم لهذا القطر وللوطن العربي الكبير.
اسمحوا لي ايها الاخوة، ان احدثكم قليلا عن تجربة اخوتكم في المشرق العربي، عن تجربة جيل بدأ نشاطه وتحمل المسؤوليات القومية منذ الحرب العالمية الاخيرة وأوجد تيارا فكريا شعبيا عظيما، جيل ساهم في النضال في اقطار المشرق، وساهم إلى حد غير قليل في صنع الاحداث في هذه السنين. وقد جاءت الاحداث مصداقة لنظرته في جملتها وإن كان الواقع احيانا يظهر بعض الاخطاء في التفصيل، هذه الحركة التي اريد ان احدثكم عنها والتي قد تكونون سمعتم بها هي حركة قومية عربية تنادي بأمة عربية واحدة وتؤمن بأن العرب لا بد ان يتوحدوا في وطن واحد، وتؤمن بأن للامة العربية رسالة في هذه الحياة تؤديها للانسانية كما سبق لها في ماضيها العريق ان فعلت. هذه الحركة تنظر الى القومية العربية نظرة جديدة مستوحاة من روح العصر وحاجات الامة وماضيها الاصيل.
فأثناء الحرب العالمية الاخيرة وجد العرب انفسهم حائرين وسط دول كبرى تستعمر اجزاء وطنهم وتنتقص من سيادتهم وتقول بمذاهب اجتماعية واقتصادية، بينما كان النضال العربي دون مستوى التفكير بالمذاهب، ودون مستوى الشمول. فقد كان محصورا لا في النطاق العربي فحسب، بل في نطاق القطر الواحد، في النطاق الاقليمي. ولقد كان النضال مقتصراً على مكافحة الاجنبي دون ان تكون له مادة ايجابية يستند اليها لبناء المستقبل بعد التحرر. وكانت جماهير الشعب لا تتحمس الحماس الكافي، ولا تضع جميع امكانات النضال في المعركة، لان قيادة هذا النضال لم تكن شعبية ولم تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الشعب ومطالبه الاجتماعية، فكان يسود العلاقة بين الجماهير والزعماء فتور وشك.. شك في المقاصد وشك في الكفاءة والجدارة.
في تلك الظروف كان الجيل العربي الشاب الواعي مطالبا بان يخرج قضية أمته من ذلك التبعثر والفراغ وان ينقلها إلى صميم الواقع الحار ليلهب حماس الجماهير ويربط بين مصلحتها ومصلحة الوطن، وليرتفع بنضاله الى ما يتناسب مع روح العصر وليرتفع بالروح القومية الى الجو العالي الذي يتكافأ مع ماضي أمة عظيمة كالامة العربية.
في ذلك الحين كان الشيوعيون العرب ينشرون بين الشباب افكارا تنادي بالاممية وتنكر قيمة القومية، او تدعي بأن القومية مرحلة مؤقتة كمرحلة دنيا لا بد ان ترتقي فوقها المجتمعات لتصل الى الاممية، وان القومية مرحلة رجعية وانها مشوبة بالتعصب وان وراءها المصالمح البورجوازية والرأسمالية، وانها تدفع إلى التوسع وإلى الحروب فكانت هذه الاوصاف التي تصح على القومية في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين، تناقض حالة قومية كقوميتنا مظلومة خاضعة لعدوان اجنبي ليس فيها إلا الحرص على مقومات الامة والا الحب للشعب ولجميع الشعوب. فكان يصعب علينا ان نصدق بأن القومية هي ضد الانسانية طالما اننا نشعر ان كفاحنا القومي في سبيل الاستقلال كان بدافع انساني. لقد كنا نشعر ان كفاحنا القومي كان بدوافع انسانية خيرة لذلك بدأت الفكرة الجديدة تتبلور واخذنا نفرق ما بين النظرية القومية الرائجة في الغرب، والتي ثارت عليها التقدمية الاشتراكية، وبين قومية الشعوب المغلوبة في آسيا وافريقيا ومنها القومية العربية التي تحمل في طياتها بذور الخير والانبعاث للقيم الانسانية.
وكان ثمة مفهوم آخر رائج، مفهوم مجرد مستعار هو أيضا من الخارج يحصر القومية في اتفاق المصلحة وفي الذكريات الماضية والآلام والآمال.. فكان هذا جواباً جافاً لا يروي ظمأ الشعب العربي إلى ما يحرك فيه طاقات دفينة، فكانت الخطوط التي رسمناها لقوميتنا العربية لا تكتفي بالروابط الحقوقية بين الافراد، وانما تجعل في وجود الامة رسالة تاريخية وأمانة في عنقها تحيا حياتها وتجربتها بصدق وتخلص للقيم والعقل وتقدم للانسانية خير ما عندها. وهذا ما جعلنا نرجع إلى تراثنا الحضاري التاريخي وننظر اليه نظرة جديدة.. ففي حياة العرب تجربة ضخمة ورسالة سامية.
وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي او يوهم بوجود التضاد بين القومية وبين هذا التراث الروحي بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا ان لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية. فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة ارجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً، وصالحتهم مع ماضي امتهم دون ان تجمدهم في هذا الماضي.
ايها الاخوة،
الفكر في حد ذاته قوة تاريخية، قوة ثورية لا تقدر. فمجرد وضع القضية العربية القومية في صيغة فكرية شاملة كان اول مساهمة في تركيز الحركة الثورية العربية على اسس صلبة، اذ ان هذه الصيغة الفكرية هي التي جاءت تلبية لحاجة الشباب العربي في كل قطر لكي يرى ما تعني قضية امته واين هو موضعها بين قضايا العالم، فكانت هذه المحاولة التي لا شك انها تحتاج إلى مزيد من الجهود الا انها استطاعت ان تسد فراغاً في حياة الشعب العربي في عدد من اقطاره. والقومية التي كان الاقطاعيون قبل عشرين او ثلاثين سنة يتلفظون بها دون المام شامل، ودون معنى الا الرد على الاجنبي ليعينوا الاسم والهوية بأننا عرب لا اكثر، هذا التعريف الفارغ كان لا بد ان يأخذ معنى حياً مستمداً من الواقع فقلنا بأن القومية العربية تساوي وتعادل حياة الجماهير ومصلحة الجماهير وقضية الجماهير.
انها ليست عنوانا فحسب وليست ترفاً يدعيه ويزدان به الوجهاء والزعماء. انها من صميم الآلام، الآلام المادية والمعنوية، آلام الشعب المستغل وآلام الشعب المقهور في سيادته، وهكذا اتخذت القومية العربية مضمونا واقعيا ثوريا عندما حددت بأنها الوحدة والحرية والاشتراكية العربية: الحرية في الخارج امام الاجنبي المستعمر والحرية في الداخل امام الحكم الاستبدادي.. والاشتراكية للشعب كله، اشتراكية مستقلة لا تتبع مذهبا معينا ولا تكون أداة للتعصب المذهبي والتنازع وانما تستفيد من جميع النظريات والتجارب التي تمر بها الشعوب وتحرص على ان تتلاءم مع روح الامة ومع ظروفها وحاجاتها. هذه هي الاشتراكية العربية… والوحدة العربية هي أيضاً مفهوم ثوري لانها كانت دوماً موضع العدوان والتآمر من الدول الاستعمارية ومن الطبقة الرجعية ومن الصهيونية العالمية فكانت هي الضحية في كل حين، لانها سر انبعاث العرب وقوة العرب. لذلك كانت تتكالب عليها المؤامرات فكان لا بد ان نفضح كل هذا وان نظهر بالدليل الواضح كيف ان الوحدة التي طالما تشدق الزعماء بها وادعتها الحكومات لا يخلص لها ولا تقصد لذاتها وانما هناك تآمر عليها، وحرص على الاقليمية والتواطؤ مع الاستعمار في بعض الاحيان: حتى أن الجامعة العربية بدت لنا عند نشوئها وكأن القصد منها تخدير الحاجة الى الوحدة لا تلبية هذه الحاجة. فبينا حيوية الحاجة الى الوحدة وبينا ان الوحدة هي شرط لازم للنضال الشعبي التحرري ضد الاستعمار وضد الاستغلال، وأنه بدون وحدة يبقى الاستعمار يتلاعب بمصيرنا ويغري قطرا باستغلال محن قطر آخر وتبقى قضية الوحدة موضع شك. فثورة الوحدة ان لم يتبنها الشباب العربي الثوري ويخلقوا فكرتها خلقاً وينمّوا وعيها ويخلصوا لنضالها فانها ستبقى مادة للتضليل، وبالتالي لن ينجح لا النضال التحرري ولا الاشتراكي ما دام الشعب الواحد مجزأ، يقوم التنافر والتعاكس أحياناً بين نضال اقطاره بدلاً من التنسيق والتوحيد. فالذي يخلق الوحدة هو الشعب المستغل، الشعب الذي يحتاج إلى وحدة النضال لكي يضمن الخلاص من الاستغلال وفي الوقت نفسه يكون قد وحد اجزاء وطنه الممزق.
ونظرتنا هذه إلى الوحدة تختلف أيضا عن المفهوم القديم التقليدي الذي يقول: ان الوحدة هي رجوع إلى الحالة الطبيعية، رجوع إلى ما كانت عليه الامة قبل التجزئة، لان هذا كلام ليس فيه جد ولا اخلاص، فالوحدة لا يمكن أن تكون رجوعاً إلى الوراء. انها الوحدة الثورية في هذا العصر، وحدة تنهض على اكتاف الجماهير وتمتزج بالنضال الاشتراكي، بل يمتزج نضالها بتجربة الامة كلها في هذه المرحلة، وهذه التجربة الانسانية العميقة لا يمكن ان تكون عملية آلية وانما عملية خلق جديد للامة، وهذا يجب ان يكون واضحاً. فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء والامة الحية تجدد نفسها باستمرار لذلك لا تبتعد الوحدة عن المثل التي تدين بها قوميتنا. ليست الوحدة مجرد جمع ووصل وعملية مادية، الوحدة هي صهر جديد من خلال التجربة الجديدة للعرب. يجب ان تكون الوحدة شفافة ترتسم عليها مثلنا ومبادئنا في الحياة والمجتمع، هذه وحدتنا التي تستطيع أن تحمس جماهير الشعب، وان تدفعها الى التضحية. وفي هذه النظرة الجديدة نظرة الى الانسان أي نظرة إلى اخلاقية العمل وربط الوسيلة بالغاية.
لقد كانت السياسة قبل ذلك أسلوباً واقعياً رخيصاً فقلنا بأن الأمة في مرحلة الانبعاث لا تستطيع ان تحرك فيها القوى الكامنة والتحفز للثورة والنضال وان تخلق وان تبدع اذا لم تكن منسجمة مع نفسها، مع مثلها وتاريخها، اذا لم تكن تطبقها في عملها.. وان الوسيلة لا يمكن ان تنفصل عن الغاية. ان الثورات والنهضات انما تعمل لخلق انسان جديد مستقل الشخصية حر في التفكير قادر على الانتاج والابداع وتحمل المسؤولية، فلا يمكن ان تطبق الميكيافيلية التي تعتمد على الكذب ولا تقيم وزنا للاخلاق.
لذلك كان لا بد ان ننظر الى ما حولنا في العالم وان نعين موضعنا من العالم، لقد كان الصراع بادئاً بين المعسكرين فقلنا بالحياد عقب الحرب العالمية، وكانت حركتنا اول من نادى بالحياد وربطته بفلسفتها، فلسفة القومية، التي ترفض النظام الرأسمالي والديمقراطية الغربية التي أنجبت الرأسمالية وترفض الشيوعية كنظام، وتترك المجال حرا لظهور الثورة الحقيقية التي لا تعسف فيها ولا اصطناع، والتي تنسجم فيها الوسيلة مع الغاية، اذ ان الشيوعية لم تستطع ان تحافظ على حرية الانسان وهي التي باستخفافها بالحرية قد حولت الغاية إلى وسيلة وفقدت الشيء الكثير مما كانت ترمي اليه من انقاذ للانسان من الظلم، فكانت صيغة القومية الجديدة انها لا تفرط بحرية الانسان وانها تغذي انسانية الانسان وانها ثورية تنشد الثورة لنفسها وللعالم، ولكن لا تضحي بالمثل من اجل ثورة مادية فحسب.
لقد أقاموا تناقضاً بين القومية والانسانية كما تعرفون، وهذا كان في نظرنا شيئاً مصطنعاً فلم نصدق ان القومية مرحلة، لاننا حتى الآن لم نر ان القومية كانت مرحلة لشيء فوقها، وانما الصحيح ان بين القومية والانسانية انسجاماً اذا فهمنا القومية فهما صحيحاً، والصحيح ان نقول ان ثمة، قومية انسانية.
القومية التي تخرج من تجربة الشعوب التي عانت الظلم وعانت الاستعمار وتحررت دون ان يستنفد الحقد ألمها وتجربتها، اي التي عانت تجربة الظلم والتأخر وتطالب بتجربة ايجابية متفائلة، هذه القومية هي التي تطبق القيم الانسانية في حدودها. فالقومية هي المسرح الواقعي لتحقق الانسانية، والانسانية التي تقفز من فوق القومية وتكون خيالية لا تجد ارضاً تستقر عليها فهي تكون في الذهن اكثر منها في الواقع، وكثيراً ما توصل الى العصبيات الضيقة والى الاقليمية. فالقومية الانسانية اذن هي تطبيق لنظرية في القومية عامة. اننا نؤمن بأن القومية للبشر عامة هي حالة سوية وحالة ثابتة غير مؤقتة اذا أحسن فهمها واذا خلصت من التعصب وشوائب الطمع والتوسع.
يحق لنا ان نتساءل ماذا استطاعت القومية العربية بمفهومها الحديث ان تحقق حتى الان، وما هو المأمول منها؟ انها قطعت أشواطاً في سبيل التحرر القومي وتوطيد الاستقلال، كما أنها قطعت أشواطاً في سبيل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وقطعت خطوة أولى بقيام الجمهورية العربية المتحدة. ومهما وصفنا أثر هذه الخطوة الاولى نكون مقصرين عن وصف الواقع والحقيقة.. لان المؤامرات العديدة على الوحدة التي كانت تأتي من الاجنبي والرجعية جعلت في اعتقاد العرب جميعاً ان الوطن العربي الموحد خيال غير قابل للتحقيق وانه عندما تتهيأ كل الظروف وتتوافر الرغبة الصادقة كان العرب يجدون ان عملية الوحدة تبتعد حتى كاد الشك يتطرق الى النفوس.. ولا شك ان الاستعمار والصهيونية كان لهما يد كبيرة في اشاعة هذا الشك، لذلك كان مطلوباً من الجيل العربي الثوري أن يضع حداً لهذه الشكوك وان يضحي وان يعطي برهاناً على قابلية الوحدة للتحقق. هذا ما يفسر الجهود والتضحيات الكبيرة التي بذلت حتى تحققت هذه الخطوة المباركة التي يفديها العرب في كل مكان.
ولئن وقعت أخطاء، فالوحدة هي اعمق من كل شيء وهي قادرة على أن تصحح الاخطاء، وما هذا الاصرار والاستعجال في تحقيق خطوة عملية نحو الوحدة الا دليل على حاجة الامة الى أن تشق طريق الوحدة لانه طريق القوة. والوحدة مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها، يناضل من أجلها، يتابع رسالتها على الاسس الصحيحة، على المبادئ الديمقراطية والاشتراكية لكي يجد فيها الشعب مايطمح اليه. ولكي تكون وحدة متينة الاسس غير معرضة لأية انتكاسة.. مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها مناضل، يخلق وعيها وينمي نضالها ويكافح عقلية التجزئة ورواسبها والمصالح الآنية للتجزئة. ولا يقال بأن في الوحدة اعباء كثيرة لان فيها مقابل الاعباء فوائد وقوة اذا حرصنا على أن تكون هي الوحدة الثورية، وحدة جماهير الشعب لا وحدة طبقة اقطاعية، وعندما يسعى هذا الجيل ويتابع نضاله من أجلها وينشره في كل قطر فلا شك انها ستصبح بدون أخطاء وتبعد عنها الاخطار وتزال عنها الشبهات، فالوحدة ليست ترفاً للعرب، فلا يمكن ان يصل القطر الواحد إلى استقرار وإلى تقدم ملموس واستقلال متين ما دامت أقطارنا متفرقة، وما دام الاستعمار يستطيع ان يلعب بنا ويستغل فرقتنا. فالوحدة ضرورة حيوية قاهرة، ولولاها ولولا اهميتها لما تكاتف الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية وخلقوا عقبة كبيرة في طريقها هي اسرائيل.
ان السبيل إلى جعل الوحدة وحدة شعبية اشتراكية ديمقراطية هو الايمان بها وتبنيها والعمل لها، لا الخوف منها وتركها للصدف والظروف، لان الظروف قد لا تكون ملائمة طالما ان لها في العالم اعداء وهذه هي الامانة الموضوعة في اعناق الجيل العربي الجديد خاصة في المغرب العربي بعد أن قطع المشرق العربي شوطاً في هذا السبيل، فالمطلوب من جيل الشباب المناضل في المغرب ان يتابع الرسالة لكي يلتقي شطرا الوطن العربي ولكي نتفادى تبلور التجزئة في اقليميات مصطنعة.
ولا يتم لنا بعث عربي حقيقي اذا لم تتوحد جميع أقطارنا، ويأتي كل قطر بمساهمته وتجربته ليكمل تجربة الاقطار الاخرى، حتى تأتي التجربة العربية متحدة الجوانب، مكتملة المعاني.
وقد قلت أكثر من مرة بأن المغرب العربي قد عانى في هذا العصر تجربة من اعمق التجارب، تجربة لم يبلغها عرب المشرق، هذه التجربة القاسية الثمينة التي صمد لها شعبنا في المغرب وخرج منها ظافراً مدللاً على حيويته وخرج منها مطهراً من كثير من الاخطاء في المفاهيم والتقاليد، ينظر إلى الحياة نظرة جديدة بعد أن عايش الحضارة الحديثة جنباً إلى جنب. فتجربة المغرب العربي هي شيء اساسي في البعث العربي الحديث.
وهذا ما يجعل للوحدة العربية قيمة خاصة ومسؤولية خاصة عند شباب المغرب لكي تأتي نهضتنا مكتملة الجوانب ولكي نعود مرة أخرى نقدم نصيبنا من الخير الى الانسانية جمعاء.
عام 1960
(1) حديث ألقي في الرباط أثناء زبارة ميشيل عفلق للمغرب لحضور احتفالات العمال بذكرى الأول من أيار.
الطبقة العاملة طليعة الكفاح العربي
أيها الإخوة(1)
أحمد الله ان حقق لي حلما كان يراودني منذ الصبا، وهو ان أرى هذه الارض العربية الكريمة، ان ارى هذا الشطر الغالي من وطننا الأكبر.
هذا الحلم نشأ عندي ايام الدراسة ايام جمعتنا الدراسة من كل قطر عربي وخاصة من اقطار المغرب العربي فتعرفت منذ سنين طويلة الى النفسية النضالية القوية التي يتصف بها شباب المغرب العربي عامة. وكنت منذ ذلك الحين لا يخالجني شك في ان المغرب العربي يعاني تجربة انسانية فريدة من نوعها غنية بالمعاني، وانه سيقدم الى العروبة والى الانسانية ثمار هذه التجربة، فيغني بها النهضة العربية الحديثة ويغني بها الثرات الانساني العام.
كنا طلابا نتداول في شؤون وطننا وفي مستقبلنا، كان يساورنا قلق وطموح بأن نسهم في الارتفاع بمستوى القضية العربية، وفي اخراجها من ذلك الطور الابتدائي الغامض المعالم الفارغ المحتوى، الذي طبعها به رجال طبقة وجيهة تصدت لزعامة النضال ضد الاجنبي قبل عشرات من السنين، ولم تكن هي المهيأة فعلا لان تمثل روح امتنا وان تمثل طموح بيئتنا وان ترسم الخطوط لمستقبلنا العظيم.
فكان قلق الشباب اذ ذاك الا يكتفوا بذلك المستوى المنخفض الذي يترك معظم امكانات الشعب العربي مهملة ومهدرة لانه لم يكن ثمة تجاوب مخلص بين طبقة الزعماء وبين جماهير الشعب.
فظهر لنا اول خيط من خيوط النور، من خيوط الخلاص، ظهر لنا ان الخلاص لن يكون الا على يد الشعب، على يد الكثرة الساحقة من ابناء شعبنا، على يد الكثرة الكادحة والمظلومة المستغلة، ليس لأنها اكثرية فحسب بل لأنها تعاني الظلم والاستغلال وفقدان الحرية وجرح الكرامة في جميع النواحي: الانسانية والقومية. اذن فظروفها واوضاعها وقوتها قد هيأتها لان تكون هي محرك التاريخ في هذه المرحلة، لان تكون هي المنقذة للأمة، لان تكون طليعة الامة المناضلة وصورتها الصادقة.
فلم يأت تفكيرنا الاشتراكي من الكتب، من الأفكار المجردة، من النزعة الانسانية العامة، النابعة من مجرد شعور بالشفقة، وانما أتى من صميم الحاجة -اتى بدافع الحاجة الحيوية- لننقذ امتنا من الفناء، لان معركة الامة العربية مع مستعمريها واعدائها كانت معركة بقاء او فناء. فكان التفكير الاشتراكي وكان اكتشاف دور الطبقة العاملة العربية في هذه المرحلة التاريخية من حياتنا بدافع الدفاع عن البقاء.
لطالما تأملنا وشعرنا بالخجل، وشعرنا بالامتعاض عندما كانت القيادة التقليدية القديمة تسبغ على قوميتنا صفاتها هي، وروحها هي:
صفات الطبقة المترفة وروح الطبقة الشائخة الهرمة، فكانت القومية العربية والكفاح القومي في ذلك الحين على ايدي اولئك الزعماء الذين كانو يمثلون عصرا قد مضى ويفقدون قوة التأثير وقوة الجاذبية لجماهير الشعب ولجمهور الشباب، وكانت القضية القومية التي هي قضية حياة او موت، في مستوى متخلف لا قيمة للفكر فيه ولا صلة له بالعصر الذي نعيش فيه عدا عن مظهره المنفر، مظهر القومية المتغطرسة، القومية السلبية، التي لا تشعر بنفسها الا اذا خاصمت غيرها.
وكنا نشعر بأن هذا ليس حقيقة قضيتنا وليس حقيقة امتنا. وكان لا بد ان ننتقل الى مستوى يتناسب مع العصر الذي نعيش فيه، مع امكانيات شعبنا العظيم وشبابنا المنفتح للنور.
فكانت محاولة اسهم فيها جيل بكامله لا ينحصر في قطر من الاقطار العربية وانما هو موجود في كل قطر. هذه المحاولة أسهم فيها الشباب المثقف واسهمت فيها طبقة العمال الكادحة المناضلة، واذا بقضيتنا تخرج من سجن الغموض والفراغ وتمتلىء بالحياة، بالواقع الحي، ويدخلها الوضوح وبالتالي تستطيع ان تتحقق وان تنتصر.
ايها الاخوة،
ان القضية القومية كل لا يتجزاء فهي حياة الشعب المادية وهي حياته الروحية، هي مطالبه الاقتصادية العادلة ومطالبه الاجتماعية العادلة، وهي حقوقه ومطالبه القومية المشروعة، هي خبزه ورفاهه وهي استقلال وطنه وسيادته، وهي وحدة وطنه وتوحيده من بعد التمزيق والتجزئة.
فعندما ننظر الى قضية شعبنا بهذا المنظار الشامل الحي الذي لا تعسف فيه ولا اصطناع، لأن المطالب القومية هي حقيقية وواقعية مثل طلب الخبز والعيش، عندما ننظر الى هذا الترابط بين هدف التحرر وهدف العدالة الاجتماعية وهدف الوحدة القومية الشاملة، عندما ننظر الى ذلك كله كأنه اوجه متعددة من شيء واحد، عندما نستطيع ان نوجه نضال الشعب في الطريق السليم المثمر الذي لا يبقي امكانية من امكانيات شعبنا الا ايقظها واستفاد منها. فملء فكرة القومية العربية بالمحتوى الوحدوي الى جانب المحتوى التحرري والاجتماعي هو الذي يفسر الى حد كبير تلك الخطوات التي قطعناها حتى الان في طريقنا الطويل نحو حرية امتنا ونحو بناء مجتمعنا الجديد ونحو بلوغنا المستوى الذي يؤهلنا لتحقيق رسالتنا بين مجموع الأمم.
انكم تعلمون، ولا شك، كيف كان النضال التحرري متقطعا، فاقدا بعض وضوحه، وكيف كانت الوحدة العربية على الاخص فكرة نظرية خيالية تقال دونما ثقة بقدرتها على التحقق، تقال اما بدافع التقليد، او بدافع العاطفة فحسب.
ولكن عندما سُلّمت قضية التحرر القومي، وعندما سلمت قضية الوحدة القومية الى جماهير الشعب العربي وربطت هذه الجماهير بين مطلب التحرر والوحدة وبين كفاحها اليومي من أجل الرزق وبلوغ مستوى كريم من العيش -عندها دخلنا في طور التحقيق، عندها أمكن أن نحقق الانتصارات على الاستعمار، عندها لم تعد الوحدة العربية فكرة خيالية. حدث ذلك كله لاننا سلمنا هذه الأهداف الغالية إلى اصحابها إلى الطبقة الكادحة.
ان مطلب الوحدة العربية ظل زمنا طويلا ضحية الجهل، ضحية الغموض، ضحية الالتباس… وكان يتبناه ويستغله أبعد الناس عن الاخلاص له او الايمان به، فكان حجة وذريعة او كان ستارا لمآرب غير مشروعة. كان الاستعمار أحيانا يختبئ وراء مشاريع للوحدة وكانت الطبقة الاقطاعية تغتصب زورا وبهتانا هذا الشعار لا لتحققه بل لترد به على مطالب الشعب الاجتماعية، لتحارب به الثورة الاجتماعية. فكانت الوحدة في ذلك الحين مشبوهة ومظلمة الى ان دخلت في حياة الجماهير. ولكن يجدر بنا ان ننظر إلى هذه الحقيقة، يجدر بنا بعد ان مررنا بتجارب كثيرة وفضحنا بالتجربة كذب الطبقة الرجعية في تبني الوحدة وان لا وحدة مع الرجعية، يجدر بنا ان ننظر الى حقيقه اخرى، وهي ان لا تقدمية مع التجزئة. فاذا كنا في وقت مضى قد كفرنا بوحدة الرجعيين والاستعماريين، فلم يعد جائزا بعد ان استرد الشعب قضيته واستلمها بكلتا يديه، لم يعد جائزا ان نتخوف من الوحدة او نظن بها الظنون، لاننا بمقدار ما نتفهمها ونقدم عليها لنتبناها ونعجل في سيرها نبعد عنها الاستغلال.
فالوحدة يطلبها كفاح العمال قبل كل شيء -وكفاح العمال يطلب وحدة على نطاق عالمي، فكيف لا يطلبها على نطاق قومي- هذه الوحدة ان دخلها العمال، ان دخلتها الطبقة الشعبية الكادحة يخرج منها كل رجعي وكل مشبوه.
فالقضية قضيتنا فلا يجوز ان نقف منها موقف المتفرج من بعيد لاننا اذا لم نصنعها نحن الشعب، بأيدينا فمن ذا الذي سيصنعها؟
ولقد كانت وحدتنا القومية موضع الهجوم والتآمر الاستعماري والاجنبي عامة منذ زمن طويل. لان الاستعمار يدرك قبل غيره ما هو مفعول الوحدة اذا ما تحققت، وان تحققها نهاية للاستعمار في ارضنا -لا بل نهاية للرجعية وللتخلف ولكل ما هو ميت غير جدير بالحياة- فكانت الهجمات والمؤامرات توضع دوما في طريق الوحدة، ومن أدرى منكم بذلك، انتم ابناء المغرب العربي عامة وابناء المغرب الاقصى خاصة، من ادرى منكم بذلك الانقطاع، بتلك الحواجز الكثيفة التي وضعها الاستعمار بينكم وبين اخوانكم بالمشرق وحتى بينكم وبين اخوانكم في المغرب العربي نفسه.
فالوحدة اذن ليست ترفا نطلبه بعد ان نحصل على المطالب الجوهرية الضرورية، ليست شيئا يأتي في المستقبل، او من نفسه بصورة آلية بعد ان نكون حصلنا على استقلالنا وحريتنا وبعد ان نكون قد حققنا الديمقراطية والعدالة.
الوحدة ايها الاخوة داخلة في كل هذا، وهي شرط اساسي لكي نحقق كل هذا، وهي كالاستقلال وكالعدالة الاجتماعية ومطالب الطبقة الشعبية المشروعة، هي ايضا تحتاج الى معركة قاسية، وتحتاج إلى نضال، إلى انتزاع.
انها لا تأتي من نفسها بل علينا ان نكافح من اجلها في نفس الوقت الذي نكافح فيه من اجل حياة لائقة لشعبنا. لانها هي الواسطة لكي يتحقق الظفر لنضالنا التحرري والاجتماعي، وهي الضمانة ايضا لكي نحافظ على الحرية لوطننا وعلى المكتسبات الشعبية لجماهير شعبنا.
ان المستوى الجديد الذي حاول جيل الشباب العربي في كل قطر ان يرفع اليه القضية العربية في المشرق والمغرب، ويضع هذه القضية في العصر الذي نعيش فيه -أي في عصر المذاهب الاجتماعية، في عصر العقائد، اذ لم يعد جائزا ان تبقى قضية الامة العربية مرتجلة او تبقى اجزاء مفككة لا رابط بينها ولا منطق يجمعها- هو هذه الصيغة الجديدة التي لا نعتبرها صيغة نهائية ولا نعتبرها صيغة كاملة، اذ ان حياتنا يجب ان تتجدد دوما وان تنمو وتتعمق دوما، ولكن على كل حال هي صيغة نقلت النضال العربي من مستوى ضعيف فاتر مفكك الى آخر جديد يتصف بالمنطق والترابط والوضوح ويسمح بالتنظيم. هذا المستوى هو المستوى العقائدي الذي يتيح لقضية امتنا ان تظهر بشكل فكري متناسق.
وهذه الصيغة الجديدة غالبا ما يعبر عنها بالقومية العربية وان كان التعبير لا يزال غامضا وما يزال يتسع لتعاريف شتى، الا ان التيار الشعبي الذي يحرك الجماهير العربية في كل قطر عربي، يفهم ويدرك تماما ما هو المقصود بالقومية العربية، ويدرك انها هي الاشتراكية، يدرك انها هي الديمقراطية، ويدرك انها قومية انسانية تتلافى اخطاء الماضي وتصلح كل ما كان في الماضي سببا للتفرقة داخل امتنا ومجتمعنا.
هذه القومية ليست وقفا على العرب فحسب وانما هي صورة لإنسانية جديدة، أي اننا نؤمن بأن لكل امة في العالم الحق بأن يكون لها شخصيتها الحرة المستقلة. وان يكون هناك انفتاح بين القوميات وان يكون هناك تضامن في الكفاح التقدمي، وان يكون هناك انسانية جديدة تقوم على قوميات تقدمية حرة متضامنة لا استعمار فيها ولا عنصرية ولا تمييز.
ففكرة القومية العربية اذن لا تنحصر بالعرب وانما لها نزوع انساني. وفكرة الرسالة في هذه القومية تربطها بالانسانية عامة وتقيها من التردي في المفاهيم السلبية للقومية -كالمفهوم العنصري والمذهبي وكل تعصب وضيق او شهوة للسيطرة- وتذكرها دوما بأن امامها رسالة انسانية لا يمكن ان تؤدى اذا لم يكن الشعب العربي في الداخل ممارسا لحريته، اذ لا شيء ذا قيمة يمكن ان يصدر عن القسر والضغط والاكراه، فالحرية هي منبع الفضائل وهي التي تميز الشعب الحي، ولذلك فان الديمقراطية التي يكافح العمال في سبيلها ليست مطلبا عماليا فحسب وانما هي مطلب قومي لكل جماهير الشعب العربي، لكي نحفظ لقوميتنا العربية ونهضتنا الحديثة المعنى الانساني الايجابي البعيد عن كل تعصب وكل سلبية والذي يوجد السلام في داخل مجتمعنا ويسهم في ايجاد السلام في العالم: هذا المفهوم الانساني، هذه الملامح الايجابية لقوميتنا يجب ان نحرص عليها كل الحرص، واعود فأقول بأن المغرب العربي عليه مسؤولية تجاه الامة العربية، وهو مطالب بأداء قسم كبير في معركة القومية العربية، خاصة في تجربته الديمقراطية وفي فهمه للديمقراطية وفي كفاحه المرير الطويل من أجل الحرية والديمقراطية، من اجل المساواة الانسانية، من اجل الكرامة الانسانية.
لقد عرف المغرب العربي ما لم يعرفه المشرق العربي، عرف ألما عميقا، اذ ان الاستعمار دخل اليه ليس بالجيوش فحسب وانما بالهجوم والغزو البشري لكي يفنى شعبنا في المغرب ويحل محله شعب آخر، وصمد الشعب العربي لمعركة الافناء هذه، واستطاع من خلال هذه المعركة الشاقة ان يرجع الى نفسه وان يعيد النظر في كثير من التقاليد التي استلمها والانظمة التي كان يرتضيها والقيم والمفاهيم القديمة لكي يدافع عن بقائه امام شعب غاز متحضر. ففي المغرب العربي وقفت الامة العربية ممثلة في الشعب المغربي وجها لوجه امام الحضارة الاوروبية فكافحت وصمدت واعطت البرهان على حيوية امتنا وقدرتها على التجدد واعادة النظر في كثير من شؤونها لكي تصحح الاخطاء الماضية وتجدد الحاضر الذي هي فيه.
ان هذه التجربة الواسعة العميقة التي يخوضها الشعب العربي في المغرب وتونس والجزائر خاصة، والتي تبدو ثمارها وعلائمها ومميزاتها منذ الآن بأنها نظرة جديدة إلى الحياة وتقدير اساسي للحرية وللديمقراطية وايمان لا يتزعزع بالمساواة الانسانية..كل هذا يمكن ان يؤديه المغرب العربي الى النهضة العربية عامة لان تجربة المشرق العربي لم تكن بمثل هذا العمق، فلقد اراد الله ان يجعل اقطارنا متكاملة يكمل بعضها بعضا لكي تأتي النهضة العربية الحديثة كاملة الجوانب ولكي تكون جديرة بماضي العرب، وتكون نهضة أصيلة تفيد شعبها وتفيد الانسانية.
عام 1960
(1) حديث ألقي في الدار البيضاء بدعوة من جريدة “الطليعة” الناطقة بلسان الاتحاد المغربي للشغل بمناسبة احتفالات أول أيار.
نكسة الإنفصال
فيما يلي ننشر مقتطفات من البيان الذي صدر عن الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي الأستاذ ميشيل عفلق في شباط 1962 حول تجربة الوحدة.
أيها الشعب العربي
ان الانتكاس الموقت الذي أصاب فكرة الوحدة نفسها واضعف الثقة بها يدفع حزبنا الى دراسة تجربة الوحدة وفشلها من اجل تحديد المسؤولية وتوضيح الأخطاء وإظهار الدروس التي نفيدها منه.
والجدير بالطليعة العربية الثورية ان تتناول هذه التجربة وأسباب فشلها بالدراسة العلمية مبعدة كل اثر للانفعال والعاطفة والأفكار المقلدة.
فعلى مثل هذه النظرة الموضوعية الهادئة يتوقف مستقبل هذا الهدف القومي الأساسي في حياة الأمة العربية الذي هو الوحدة ويتوقف استئناف العمل والنضال في سبيل الوحدة على أسس سليمة تصمد لكل امتحان.
عندما قامت أول تجربة للوحدة منذ اربع سنوات ظهر من الحماسة العميقة الشاملة التي اثارتها هذه البداية في الشعب العربي من مشرق الوطن الى مغربه انها عمل تاريخي يتجاوز القطرين اللذين تمت فيهما والأفراد والأحزاب التي أسهمت في تحقيقها. وعندما منيت هذه التجربة بالانتكاس ظهر من الألم العميق الذي شمل الامة العربية كلها ان فشل تجربة الوحدة يتجاوز أيضا إقليمي الجمهورية العربية المتحدة ويتجاوز الافراد والهيئات التي تتحمل بنسب مختلفة المسؤولية المباشرة في هذا الفشل، وان الشعب العربي من مشرق الوطن الى مغربه يتطلع الى جواب يفسر اسباب هذه النكسة ويكون في مستوى الحدث التاريخي الذي حقق الوحدة من حيث الارتفاع فوق المصالح والنظرات الإقليمية والفردية ومن حيث حصر الاهتمام بمصير الأمة وبقائها.
ان الوحدة التي قامت بين سورية ومصر في شباط من عام 1958 لم تكن بنت ساعتها ولا ارتجلت ارتجالا او جاءت هبة من الظروف والصدف. فان لها ماضيا وتاريخا ووراءها فكر وتخطيط وجهد ونضال. لقد خطط لها حزب البعث العربي الاشتراكي قبل قيامها بسنتين وادخل ممثلين عنه في الوزارة الائتلافية بسورية منذ حزيران عام 1956على أساس تبني الحكومة لمشروع الاتحاد بين سورية ومصر والعمل على تحقيقه. وكان حزب البعث يفكر ويصرح بان قصده من وراء تحقيق أول خطوة للوحدة العربية هو ان يرجع الى العرب جميعا ثقتهم بفكرة الوحدة وقابليتها للتحقيق، وان يجعل من دولة الوحدة الاولى سندا وقاعدة للنضال العربي في كل جزء من اجزاء الوطن الكبير، ولنضال الجزائر وفلسطين بخاصة، وكان يرى في اوضاع سورية ومصر اكثر الشروط سلامة من اجل بداية عملية للوحدة. وفي الوقت الذي ذهب فيه الأمين العام للحزب ليبحث مع الرئيس عبد الناصر موضوع الإتحاد تمهيدا لذهاب وفد حكومي لبحث الموضوع ذاته، أعلن عبد الناصر تأميم شركة القناة وفتح المعركة المعروفة، فتحول عمل الحزب في جميع فروعه العربية منذ ذلك اليوم الى الدفاع عن مصر في معركتها الجديدة ضد الاستعمار، لا لأن هذا الموقف هو ما تفرضه وحدة النضال العربي فحسب، بل تمهيدا وتعبيدا لطريق الوحدة وإشعارا لمصر بحقيقة الوحدة وواقعيتها. وقد خاض الحزب في جميع اقطار المشرق معركة القناة كتمهيد ونموذج لمعركة الوحدة. وكان الحزب في ذلك كله يعمل بوحي فكرته العربية الثورية وبوحي عقيدته القائلة بثورية الوحدة وبأنها لا تأتي عفوا دون نضال يومي في سبيلها. وكان من خطة الحزب تشجيع التوجه الذي ظهر بمصر في عهدها الجديد نحو الفكرة العربية تشجيعا قويا، إيمانا منه ان مصر عنصر اساسي خطير في كل محاولة لتحقيق الوحدة العربية، وانها كانت حتى ذلك التاريخ عاملا سلبيا ومعوقا. من هذه الاعتبارات والعوامل انطلق الحزب منذ اوئل عام 1956 يعمل ويمهد للوحدة مع مصر. وكان يرى لهذه الوحدة صيغة توفق بين متانة الارتباط وواقعيته، اذ كان يسعى الى إقامة دولة واحدة اتحادية لا الى اتحاد بين دولتين. وكانت الصيغة التي اختارها الحزب توفر للاقطار العربية الداخلة في الوحدة ضمانات ضد التسلط وردات الفعل الأنانية والإقليمية وشروطا تتسع للفروق الراهنة بين الاقطار العربية وتسمح بتطويرها نحو الانسجام تطويرا سليما. ولقد فوجئ الحزب في سورية اثناء مباحثات الوحدة حين اشترط عبد الناصر حل الأحزاب في سورية وحين أرجأ دراسة صيغة الوحدة الى ما بعد اعلانها. ولكنه لم يضع هذه العوائق بمستوى الوحدة نفسها ومضى في تنفيذ خطته وقبل بشروط عبد الناصر، لأنه كان يريدها وحدة يتقوى بها العرب جميعا ويتدعم بها نضالهم في كل مكان، يريدها ضمانة لانتصار ثورة الجزائر وبداية لتحرير فلسطين. ولذلك، ومن اجل بلوغ هذه الاهداف القومية الكبرى، اقدم على الوحدة اعتمادا منه على ان التفاعل الشعبي الثوري بين اقليمي الجمهورية الجديدة والتفاعل الشعبي بين دولة الوحدة وحركات النضال العربي سوف يكونان الضمانة الحية ضد كل انحراف، وايمانا منه بأنه لن يكون من السهل على أي حاكم -ولا سيما إذا كانت الجماهير الثائرة هي التي أمدته بالتأييد والقوة- ان يستهين بإرادة هذه الجماهير.
والمهم الآن ان يعرف الشعب العربي في جميع اجزاء الوطن الاسباب التي أوصلت الى هذه النكسة ليتفادى الاخطاء ويصحح السير ويتأكد ان الذي فشل ليس هو فكرة الوحدة بل تطبيقها المشوه، وان هذه التجربة، رغم ما حملته معها وأدت اليه من آلام وخسائر واخطار، هي ايضا غنية بالدروس.
ونحن عندما نشير الى تلك الأخطاء التي وقع فيها نظام الحكم في عهد الوحدة انما نقصد ان تدخل معرفتها في تجربتنا القومية لتصححها وتغنيها، ونعتبر الكشف عن هذه الاخطاء بروح موضوعية بعيدة عن الانفعال والطعن واجبا من أقدس واجبات الموجهين تجاه امتهم، لان هذه الاخطاء ليست من النوع العادي الذي يجوز إغفاله في ظروف الخطر، وإلا سمح لها بان تتكرر وتتضخم، في حين ان الكشف عنها يعني بداية تصحيحها وتلافيها. الا ان اخطاء نظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة مهما بلغت من الخطورة فانها لا تبرر الانفصال، اذ يبقى ان فشل تجربة الوحدة هو نتيجة أخطاء، وقيام الانفصال نتيجة تدبير وتصميم وتآمر.
ان خطر الاخطاء التي سببت فشل تجربة الوحدة على القضية القومية ينتهي بمجرد ان يطلع الشعب على هذه الاخطاء ويعرف كيف يصحهها ويتلافاها. اما خطر الوضع الانفصالي فلا ينتهي بمجرد الاطلاع على حقيقته التي هي حقيقة مفضوحة، وانما يترتب على الشعب ان يستجمع كل طاقته النضالية ليقاوم المصالح الرجعية والاستعمارية التي يتكون منها الوضع الجديد.
ايها الشعب العربي
لقد استطاعت نظرة الحزب الثورية ان تكشف خلال نضاله الطويل قبل الوحدة عن مدى التناقض الذي كان قائما بين واقع القطار العربية المجزأة وتفكير الفئة المسيطرة فيها ومصالح هذه الفئة من جهة، وبين ايمان الجماهير العربية بالوحدة وحاجتها الحيوية اليها من جهة اخرى. وكان هذا التناقض الذي وعته نظرة الحزب الثورية لا يقل خطورة عن التناقض القائم في الاوضاع الاجتماعية بين طبقات المجتمع العربي. وكان ظهور الحزب الذي انطلق من هذا الوعي الثوري بداية لمفهوم جديد للوحدة العربية. اذ نظر اليها على انها عملية ثورية لا تتم عفوا كمحصلة آلية لتحرر الاقطار العربية ولتحقيق المجتمع الاشتراكي فيها بل اعتبر الحزب ان الوحدة هي حالة مناقضة للاوضاع الراهنة وللعقلية السائدة التي اسماها عقلية التجزئة وهي عملية تناقض المصالح الراهنة. بينما كان المفهوم السائد عنها قبل الحزب يعطيها صورة عاطفية تصلح لان توضع في برامج الاحزاب والخطب فتخدر عند الشعب حس الحاجة للوحدة والمطالبة بها بدلا من ان توقظه وتنميه، وجعلها الحزب في مستوى الثورة الاشتراكية وفي مستوى الحرية، اي ان الوحدة تحتاج الى تغيير جذري للواقع الراهن، وبالتالي يكون كل ادعاء للوحدة دون تبني هذا المفهوم الثوري لها وما يترتب عليه من نضال يومي فكري وعملي لتغيير العقلية وتغيير الاوضاع ادعاء كاذبا للتضليل والتخدير.
ولكي لا تبقى الوحدة عرضة لتلاعب السياسيين ومتاجرتهم الكلامية، ولكي لا يدعي العمل لها من تجعلهم مصالحهم الطبقية والاقليمية ابعد ما يكونون عنها، فقد اعطاها الحزب مضمونها الجماهيري الاشتراكي، وبذلك اعطاها الدم والحياة فاستقطب القوى الشعبية المخلصة لها والقادرة على تحقيقها.
من هذه النظرة انطلق الحزب يوم اخذ يعمل ويوجه ويناضل من اجل نقل شعار الوحدة الى مجال التطبيق. ولم يدفعه الى التخطيط للوحدة بين سورية ومصر اي دافع سلبي وأي خوف من خطر خارجي وداخلي مزعوم، ولم يفعل ما فعل ليتحد مع عبد الناصر بعد انتصاره على العدوان الثلاثي، بل كان دافعه في ذلك ايجابيا خالصا، يكفي للتدليل على ايجابيته انه طرح شعار الوحدة بين سورية ومصر منذ عيد الجلاء في نيسان من عام 1956.
لقد انطلق الحزب اولا وقبل كل شيء من عقيدته وايمانه بضرورة النضال من اجل تحقيق شعار الوحدة ووجد في الظروف التي اجتمعت آنذاك ما يدفعه الى القيام بخطوة عملية حاسمة في هذا السبيل.
ففي تلك الفترة كان المد الشعبي آخذا في الازدياد في اكثر الاقطار العربية بينما كان الاستعمار يتراجع ويندحر، وكانت الرجعية تضطر محرجة اما الى تمزيق براقعها والتعاون السافر مع الأجنبي ضد وطنها واما الى مجاراة التيار الشعبي الصاعد. وكان يرافق هذا التقدم في الحركة الشعبية العربية انتصار حركة التحرر في اكثر بلدان العالم وفي آسيا وافريقية خاصة. فكانت الشعارات العربية تأخذ هكذا معنى تاريخيا انسانيا. وبدت هذه الفترة وكأنها انسب وقت لتحقيق اول خطوة في طريق الوحدة العربية تطبع بدايتها الثورية الانسانية الطريق كله بطابعها. وكانت شروط وظروف متماثلة كثيرة قد أتيحت لقطرين عربيين هما سورية ومصر، في مجال السياسة الخارجية ومكافحة الاستعمار والدعوة الى الحياد الايجابي والقومية العربية والنظام الاجتماعي التقدمي. فأراد الحزب الا يضيع هذه الفرصة وان يقدم البرهان على ان الوحدة وليدة التقارب في الاتجاه والمبادئ.
اما الاختلاف الاساسي الذي كان قائما بين السياسة المطبقة في القطرين، ونعني الخلاف حول الحرية والديمقراطية فقد أمل الحزب، بتفاؤل سطحي، في قدرة الوحدة على إزالته، وتوقع ان يؤدي التفاعل الشعبي بين اقليمي الدولة الاتحادية والتفاعل الشعبي بين هذه الدولة وبين حركات النضال في باقي أجزاء الوطن العربي الى تطوير النظام الفردي الذي كان قائما في مصر تطويرا سريعا نحو الديمقراطية.
وكان الحزب، منطلقا من مفهومه للوحدة ومستقبلها، يرى في هذه الوحدة التي تمت بين مصر وسورية بداية للوحدة الشاملة، وانها لا بد ان تكون واعية لكونها بداية، فتضطلع بالتالي بمسؤوليتها كقدوة وكنواة جذابة. وكان يأمل ان يقود هذا الايمان الجمهورية الجديدة بوصفها بداية للوحدة الكبرى، الى سياسة داخلية وخارجية وعربية واجتماعية تقوم على اساس تنمية هذه البداية وجذب الاقطار العربية الاخرى اليها، ويرى ان سياسة الدولة الجديدة في سائر المجالات لا بد ان تتغير جذريا حين لا تعتبر نفسها خاتمة المطاف بل بداية يجب ان تنمو وتتطور. فتلك السياسة، حين تنطلق من هذه النظرة، ستكون مدعوة الى ان تقيم توازنا بين جهدها الداخلي في التطور والتنمية الاقتصادية وبين تحملها أعباء مساندة الثورة والنضال في الاقطار العربية الاخرى، وتوازنا بين سياستها الخارجية وبين مهمة تنمية الوحدة وتغذية النضال العربي وجذب أقطار جديدة الى الوحدة.
ايها الشعب العربي
أمام هذه المسؤوليات التاريخية لاول تجربة للوحدة بعد مرور مئات السنين على تجزئة الاقطار العربية، كان من الواجب، كيما تأتي هذه التجربة سليمة ومشجعة وحاملة بذور الحياة والنماء ان تجتمع لقيادتها والاضطلاع بمسؤوليتها الجسيمة خبرة نخبة من العناصر النضالية في الامة العربية من مشرقها الى مغربها، ان يكون التفاعل عميقا ومستمرا بين هذه التجربة وبين التجربة الثورية العربية لكل قطر، وكان من الواجب ان تكون التجربة منتبهة منذ البدء لأمراض التجزئة ورواسبها ولمشكلات المجتمع العربي المتخلف وللعقبات التي تضعها المصالح الرجعية والاقليمية والاستعمارية فى طريق الوحدة.
ايها الشعب العربي
الى جانب هذا المستوى الذي كان عليه الحزب عند قيام الوحدة، كان مستوى الوعي لدى معظم الحركات الشعبية في مختلف البلدان العربية يعوزه الكثير من النضج والتنسيق. وقد أثار تحقق الوحدة من الحماسة والتفاؤل في نفوس الفئة الواعية من ابناء الشعب العربي اكثر مما اثار عندها من التقدير الواعي لأهمية هذه الخطوة ولضرورة السهر عليها وتجنيبها الاخطاء والعثرات. ولقد أدخلتها أكثر الحركات العربية الثورية والتقدمية في حسابها ورصيدها تستغلها وتتقوى بها من اجل قضاياها الاقليمية، دون ان تكون مستعدة لتحمل قسطها من المسؤولية في مراقبة الوحدة وسلامة اتجاهها. بل ان تأييدها الاعمى المنطلق من النظرة الاقليمية الضيقة ومن المصالح العابرة، قد شجع الانحراف وسهله واسهم في الفشل الذي شملت نتائجه هذه الحركات كلها بل الشعب العربي كله.
ان نكسة الوحدة غنية بالدروس والعظات للقائمين على النضال العربي في سائر الاقطار العربية، ومن اهم هذه الدروس ان وحدة النضال العربي هي في هذه المرحلة التعبير العملي عن وحدة الامة العربية، وان كل تجاهل لهذه الحقيقة من قبل الحركات الشعبية في الوطن العربي وكل تلكؤ منها في توحيد نضالها وتنسيق خطتها وتفاعل تجاربها يبقي قضية امتنا عرضة للنكسات والاخطار، وان كل خطوة في طريق الوحدة معرضة للتعثر والفشل بمقدار ما في وحدة النضال من فتور وثغرات.
ولقد تجلى هذا الضعف في مستوى الوعي العربي اثناء الوحدة في الاقليم المصري بخاصة. وكان حزبنا يعلق املا كبيرا على التفاعل الشعبي بين اقليمي الجمهورية، من اجل ان نتلافى مصر شيئا كثيرا من هذا التخلف في الوعي العربي، ولكي تتعمق الافكار والشعارات التي بدأت تنطلق فيها نتيجة التوجيه الرسمي وحده دون ما مشاركة شعبية فعالة.
اننا نعتبر مصر ذات وزن خطير وامكانية ضخمة في كل نضال عربي، وبصورة خاصة في النضال من اجل الوحدة، واننا بالرغم من رفضنا القاطع الحاسم لكل دعاية تريد ان تظهر مصر وشعبها بمظهر الغرباء عن العروبة نعتبر ان الفئات الواعية مطالبة بعملية نقد صريح عميق لجميع العوامل والرواسب التي توجد هذا الضعف الشامل في الوعي العربي في مصر. كما ان هذه الفئات مطالبة بدفع الشعب العربي في مصر الى الإفادة من طاقات مصر من اجل الإسهام في بناء الامة العربية بناء سليما بدلا من استغلال ذلك لأغراض إقليمية.
ايها الشعب العربي
ان كل ما مر بك في تجربة الوحدة بين سورية ومصر يوم تحقيقها وأثناء انتكاستها وبعد انفصالها يكشف لك عن العامل الفعال دوما في الحفاظ على الوحدة وسلامتها الا وهو بناؤها على أساس الإرادة الشعبية والنضال الجماهيري الموحد في الوطن العربي المستند الى تفاعل الحركات الشعبية في سائر البلدان العربية وتآزر تجاربها وجهودها. وسبيل العودة الى النضال الحقيقي في سبيل الوحدة وفي سبيل تعميق الثقة بها في نفوس أبناء الامة العربية لن يكون الا بتوحيد نضال الحركات الثورية في الوطن العربي توحيدا جديا من اجل رفع مستوى الوعي العربي والتنظيم الشعبي وبتكتلها جميعا ضد الرجعية التي تجمع قواها وضد سائر الاوضاع الراهنة التي تعمل على ابقاء التجزئة وإذكاء الفروق الإقليمية والمصالح المحلية. ولا بد لهذا لنضال العربي الموحد كيما يجنب مفهوم الوحدة ما أصابه من شكوك وتعثر ان يكون عمله في سبيل الوحدة مستندا الى تصور واضح لنظام في الوحدة قادر في آن واحد على حفظ معناها القومي وعلى الحيلولة دون انحرافها نحو التسلط الاقليمي. والنظام الذي دعا اليه الحزب منذ مباحثات الوحدة والذي يراه محققا لهذا الغرض هو نظام الدولة الواحدة الاتحادية.
ان هذا النظام يأخذ بعين الاعتبار في نفس الوقت حقيقة وحدة الشعب العربي من جهة وواقع الاقطار العربية من جهة ثانية.
ان هذا النظام الاتحادي هو الذي يحقق المعنى الحقيقي للوحدة وهو تحقيق قوة الامة العربية ومنعتها وبناء نهضتها وحضارتها وضمان استقلالها وحمايتها من أعدائها كما انه هو الذي يزيل المخاوف والشكوك وما يمكن أن تخلفه النزعات الاقليمية ورواسب التجزئة ويراعي الفروق المحلية والأوضاع الخاصة لكل إقليم ويحقق التفاعل الخصيب بين الاقاليم المشتركة حين يضمن مشاركتها الفعلية في رسم سياسة الدولة الواحدة وفي تنفيذ تلك السياسة.
ان حماية الوحدة من مخاطر الطغيان الإقليمي ومزالق النزعات المحلية الضيقة لا تعني ان تفقد الوحدة معناها وان تتخذ التجزئة أصلا بل تعني ان تضع لها الضمانات الواقعية التي تحول دون انحرافها محتفظة بجوهر الوحدة وروحها وقدرتها على الإنماء والصهر، وهذا ما يحققه شكل الدولة الواحدة الاتحادية، ومضمونها الاشتراكي الديمقراطي.
يا جماهير شعبنا المناضل
ان مسؤولية تحقيق الوحدة الاتحادية ذات المحتوى التحرري الاشتراكي الديمقراطي تقع على عاتق الطبقات الشعبية والحركات الثورية التحررية. وان حزب البعث العربي الاشتراكي يعاهد الشعب على متابعة النضال لتحقيق أهداف العرب الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية.
عاش نضال الشعب العربي في سبيل إقامة وحدته الاتحادية، عاشت وحدة النضال الشعبي لتحقيق الوحدة وتحطيم أعداء حرية الشعب ووحدته وتقدمه من رجعية وانفصالية واستعمار.
شباط 1962
الإستعمار والرجعية ينفذان أكبر مؤامرة على أمتنا
في عهد الوحدة(1) كانت الطليعة العربية الثورية تعيش اعمق واعنف أزمة في تاريخ نضالها. لقد أسهمت في صنع حدث تاريخي عند قيام الوحدة بين مصر وسورية. واذا هي تصاب بعد زمن قليل بخيبة أمل كبرى نتيجة التشويه والتزييف اللذين داخلا تطبيق هذه الوحدة. ولقد زاد ازمة الطليعة العربية حدة وتعقيدا إدراكه بعد فوات الوقت انها لم تكن في مستوى الخطوة التي أسهمت في تحقيقها، وانها لم تكن مهيأة لتصحيحها وحمايتها. ولكن ذلك لا ينقص شيئا من مسؤولية نظام الحكم الذي كان سبب التشويه والانحراف. ومن أسباب صعوبة تلك الازمة وتعقدها ان ذلك الحكم كان قد استطاع قبل تحقيق الوحدة وبهذا التحقيق بالذات ان يكون لنفسه رصيدا من الثقة الشعبية على نطاق الوطن العربي كله لم يسبق ان توافر لحاكم من قبل. وهكذا مرت سنوات عهد الوحدة في جو من الالتباس الخطير. فالجماهير عاجزة عن أن تنظم نفسها وتلم شتات وعيها امام الضغط الهائل للاجهزة البوليسية وأجهزة الدعاية التي كانت تفتت التنظيم والوعي على حد سواء. وكان في نفس الطليعة العربية، المقهورة امام وسائل الدولة الضخمة، خوف عميق، تتمنى إيصاله الى كل فرد عربي وإشاعته بين الجماهير خوفا على المستقبل العربي كله من ان يتخذ ذلك السبيل الزائف ويبنى على تلك الاسس الواهية كما كان في نفس الطليعة العربية حرص عميق على بقاء الوحدة وعلى امكان معالجة الأخطاء والانحرافات التي شابت تطبيقها، لإيمانها بان الوحدة العربية يجب ان تبقى حركة تاريخية جدية ولا يجوز ان تكون كغيرها من المشكلات السياسية المحلية عرضة لتقلبات السياسة واخطاء الحكم.
ولكن التمادي في الاخطاء، من جهة، وتآمر قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية، من جهة اخرى، قد عرضا تلك الخطوة التاريخية لانتكاسة قاسية ووقع الانفصال قبل ان تتاح للطليعة ان تتصل بالجماهير وان توصل اليها خلاصة تجربته مع ذلك الحكم، بغية ان يدفعها وعي هذه التجربة الى الضغط وتصحيح الاخطاء دون التفريط بالوحدة. وهكذا نشأ وضع جديد يحمل في طياته تناقضات العهد السابق وتناقضات جديدة. فالقوى الاستعمارية والرجعية والشعوبية التي عملت منذ اليوم الاول للوحدة على تهديم الوحدة، وجدت في الانفصال الذي غذته، فرصة العمر لها، تغتنم ما فيه من يأس وتشتت وفقدان للتنظيم الشعبي، وتتخذه مناسبة نادرة لتسديد ضربتها وسط بحران الشعب وضياع اهداف المعركة، ولتهيئة شروط في سورية والبلاد العربية تنتفي معها لأمد طويل امكانية قيام وحدة جديدة. وبذلك تحاول ان تجعل من الانفصال حقيقة ايجابية تحل محل الوحدة وتقتلعها من جذور ضمير الشعب العربي كفكرة وعقيدة.
وخطورة الانفصال هي في كونه وضعا جديدا يستمد مقوماته وطبيعته من فشل تجربة الوحدة وليس هو –كما قد يظن– مجرد عودة الى اوضاع التجزئة التي كانت قائمة قبل الوحدة. فالتجزئة في ذلك الحين لم تكن سوى ذلك الواقع المريض الذي كان يتراجع يوما بعد يوم أمام يقظة الوعي الشعبي. ولقد كانت التجزئة واقعا لا يتضمن فكرة ولا يجرؤ ان يكون له اسم او منطق، كانت واقعا منفصلا مشتتا يقف موقف الدفاع امام فكرة الوحدة وتيار الوحدة الذي كان هو التيار الفعال النشيط المهاجم المتماسك.
واليوم بعد ان تحققت أول وأثمن تجربة للوحدة، وبعد ان فشلت هذه التجربة يمثل الانفصال تجزئة من نوع جديد ترتكز الى أسس ومنطق ومبررات، وتوحد قواه التي هي قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية والشعوبية لا لتواجه اي احتمال لقيام وحدة جديدة فحسب، بل لتلاحق فكرة الوحدة والقوى الوحدوية وتدمرها في كل مكان. فالانفصال هو تحقيق التجزئة اي جعلها حقيقة وحقا. انه محاولة تريد ان تجعل من فشل تجربة الوحدة شيئا يدحض الوحدة من اساسها ويعطي البرهان العملي على ان واقع التجزئة أصيل ابدي وان وجود الكيانات العربية المستقلة هو الوجود النهائي الخالد.
امام هذا الواقع وجدت الطليعة العربية نفسها مطالبة بواجبين وبأن تخوض معركتين في آن واحد: المعركة الاولى هي الدفاع عن الوحدة ضد الانفصال والقوى المعادية للامة العربية التي تريد ان تكرسه وتخلده. الدفاع عن الوحدة وفكرته وواقعيتها وقابليتها للتحقيق، والدفاع عن تقدميتها وارتباطها بمصلحة الجماهير وعن جديتها وضرورة وضعها فوق الظروف العابرة وفوق الانفعالات والأحقاد.
واما المعركة الثانية فهي التي لم تتمكن الطليعة العربية من خوضها في حينها، اي معركة تصحيح أخطاء التجربة الأولى للوحدة، تلك الأخطاء التي لا بد من الكشف عنها ونقدها لكي يبقى وعي الشعب سليما ويكون المستقبل العربي في مأمن من الضلال والخطأ.
فلقد كنا زمن الوحدة امام نظام للحكم يمثل من حيث ضخامة وسائله وتأثيره على الجماهير العربية ونزوعه الى الامتداد والسيطرة والشمول شيئا جديدا في حياة العرب. لقد كنا نواجه نظاما جديدا كل الجدة يختلف اختلافا كاملا عما عرف قبله من انظمة: فهو يتمتع برصيد شعبي ضخم وهو قادر بفضل أجهزته الضخمة ان يزيد من هذا الرصيد ويصل الى قناعة عشرات الملايين من أبناء الشعب العربي، ليعطيهم بفضل هذا كله صورة عن القومية والنظام الاجتماعي والوحدة، فيها تشويه اساسي وانحراف خطير رغم ما يخالطها من بعض الصفات التقدمية ما يكمن وراءه من كفاءة وقدرة على الانجاز. وجوهر هذا الانحراف ما يتصف به الحكم من فردية وتأليه للحاكم وإلغاء لدور الشعب واستعاضة عن الشعب الحقيقي الواعي المنظم بالغوغاء والفئات المرتزقة والمتملقة، وما اعطاه للقومية العربية من مفهوم منحرف يقيم في صلبها بذور التمييز الاقليمي والتسلط فالوحدة التي هي أمل الشعب العربي كله لم تفهم ولم تطبق من قبل نظام حكم الوحدة إلا على انها وسيلة لتوطيد هذا النظام في الاقليم المصري ولمد نفوذ هذا الإقليم على سائر أجزاء الوطن العربي. ولقد كانت ضربة الانفصال جديرة بان تهز اعماق كل مخلص للوحدة ولقضية الشعب العربي، ولكنها لم تغير في عقلية النظام واسلوبه شيئا، وظلت دعوته للوحدة في البلاد العربية وفي سوريا خاصة، مسخرة لهدف أساسي هو حماية نفسه في مصر، وفي هذا استمرار في الإساءة الى قضية الوحدة وإعطاء أسلحة جديدة لاعدائها لكي يطعنوها ويطعنوا من خلالها حرية الشعب ومكاسبه الاجتماعية التي حققها بالنضال الطويل.
ان اخطاء وانحرافات حكم الوحدة تتخذ اليوم ذريعة وستارا لتنفيذ اكبر مؤامرة على الامة العربية في تاريخها الحديث يحيكها الاستعمار والصهيونية بالتعاون مع الرجعية والشعوبية على نطاق الوطن العربي كله. وأدهى ما فيها انها هذه المرة تعمد الى تفتيت جسم الامة من الداخل بالانقسام والتناحر والتشكيك في العقيدة القومية بكل الأساليب والوسائل. ولما كانت الطليعة العربية الثورية هي القوة المهيأة والمسؤولة تاريخيا عن رد كيد هذه المؤامرة الرهيبة لتواصل امتنا العربية سيرها الصاعد المنتصر نحو اهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية، لذلك وجب ان يزال كل التباس يمكن ان يجزئ تفكير هذه الطليعة ونضالها في سبيل هذه الاهداف، ووجب بالتالي ان ينقد نظام حكم الوحدة نقدا موضوعيا صريحا لكي ينتزع هذ السلاح من أيدي الرجعية وتفوت عليها فرصة ضرب الاهداف القومية والمكاسب الشعبية وتخليد الانفصال وتنفيذ مؤامرات الاستعمار بحجة مكافحة الدكتاتورية والحكم الفردي. وعندما يزول الالتباس من صفوف الطليعة المخلصة، ويتوضح امامها الطريق، طريق الوحدة بمحتواها الشعبي الديمقراطي وبارتباطها الوثيق بالحرية والاشتراكية. وعندما تتضح امامها مهمتها في هذا الظرف العصيب، وهي التغلب على نكسة الانفصال وما تلاها من ردة رجعية شرسة، يصبح أمر انحراف أفراد قلائل عن الركب الثوري بدافع الكسب السياسي الشخصي او الانجراف مع الاحقاد الشخصية، امر غير ذي بال. المهم ان تعي الطليعة العربية دورها التاريخي وان تقوم به. ولقد برهنت الطليعة على هذا الوعي عندما اقامت تنظيمها ونضالها، قبل عشرين عاما، على نطاق الوطن العربي كله، وتحدت بذلك العقلية الإقليمية والانتهازية، والمكاسب الآنية. ولا يعقل ان ينتكس ايمان الطليعة بالوحدة العربية وايمانها بوحدة تنظيمها ونضالها، اذ انها هي المطالبة بمداواة النكسة والابقاء على شعاع الفكرة في وجه العواصف. فما دامت النكسة عميقة والاخطار جسيمة ومداهمة، وكل موقف اما ان تتناوله القوى الرجعية لتستغله في تكريس الانفصال وضرب قضية الشعب، واما ان تتناوله اجهزة الحكم الفردي لتخلق الالتباس حول الوحدة ومفهومها في أذهان الشعب. فليس امام الطليعة العربية الا ان تجدد معنى الرسالة التي ندبت نفسها لها قبل عشرين عاما، عندما ارادت ان تمثل، من فوق الحدود الاقليمية، والمصالح المحلية المؤقتة، ضمير الأمة الواحد، ومصلحتها العليا الدائمة. ولئن كان واجب الطليعة ان تدخل في هذا الظرف معركتين في آن واحد، فمن واجبها ايضا ان تظهر من الوعي والتجرد ما يرفعها فوق المعترك.
21 تموز 1962
(1) جريدة البعث، العدد 1، 21 تموز 1962.
حيث تكون مصلحة الطبقة الشعبية يكون الموقف الثوري
الوحدة اليوم تعني مقاومة المصالح الرجعية
الوحدة اليوم (1) تعتبر بالدرجة الأولى مقاومة الوضع الانفصالي والمصالح الرجعية التي تكون أساس هذا الوضع.
إن الوحدة ليست ممكنة التحقيق في مستقبل قريب –كما يريد الانفصاليون ومستغلو الانفصال أن يوهموا الناس ليبرروا تسلطهم وإرهابهم– فالوحدة تحتاج إلى جهد كبير ونضال صلب ضد القوى الرجعية والاستعمارية والأنظمة الفردية لكي تتهيأ شروط جديدة سليمة لقيامها. والوحدة وإن كان مفروضا عليها أن تبدأ جزئية، فهي تمس مصلحة الشعب العربي كله والأقطار العربية كلها، ومن حق الشعب في كل قطر أن يبدي رأيه فيها وان يسهم في توفير كل الضمانات التي تيسر لها التحقيق والتطبيق السليم الناجح.
ولقد رأينا في الماضي، أثناء التجربة الأولى للوحدة، ما حل بها من انحراف وتشويه عندما استأثر الحاكم بتوجيهها واعتبرها ملكا له وكسبا شخصيا لزعامته، فسير مقدراتها في معزل عن الشعب داخل الجمهورية وخارجها وفي معزل عن القيادات العربية الثورية التقدمية. وها نحن نشاهد اليوم ما يحل بالوحدة أيضا من انحراف وتشويه عندما تعتبر بعض الفئات في سوريا ان فشل الوحدة أمر يهم سورية وحدها ولا يؤثر على قضية الشعب العربي في الأجزاء الأخرى من الوطن، وعلى القضية القومية كلها ومستقبل الأمة العربية.
وهكذا تواجه هذه الفئات فشل تجربة الوحدة مواجهة سلبية ضيقة حاقدة، بعيدة كل البعد عن روح الشعب العربي ومصلحته وعن روح ومصلحة هذا الشعب في سورية نفسها، فكل ماضي نضال هذا الشعب –وفي سورية بالذات– يؤهله لان يعالج فشل التجربة بما يبعد عن الوحدة في المستقبل كل احتمال لخطأ أو انحراف أو تآمر، دون أن تطعن فكرتها وتضيع بين المصالح والأحقاد. كما أن مصلحة هذا الشعب –وفي سورية بالذات– هي في مقاومة الرجعية وحماية نفسه من استغلالها الشره وردتها الانتقامية.
فالرجعية تهيئ، باسم مكافحة الوحدة المزيفة، لاستبعاد الوحدة أطول وقت ممكن أو القضاء عليها نهائيا من اجل إرجاع عجلة الزمن إلى الوراء، وإرجاع أوضاع اقتصادية رأسمالية استغلالية تقوم على حرية الاقتصاد وتحكم الشركات والاحتكارات، وتعيش في أمان لمدى طويل، مطمئنة أن الشعب سيبقى ضعيفا حيالها ما دامت قد استطاعت أن تكرس الانفصال وتطيل عهد التجزئة.
وبينما تنطلي الخدعة على بعض القوميين التقدميين المجروحين مما أصاب الوحدة من انتكاس وتشويه وانحراف خطير ومن مساوئ الديكتاتورية والنظام البوليسي، تستغل الرجعية هذه الفرصة لتبني في ظل هذه المعركة وفي ظل هذا الغبار كله وهذا الضجيج كله، مخططا بعيد المدى يهدف إلى التمكين لأوضاعها وعودة تحكمها واستغلالها وضرب أهداف الشعب التقدمية.
إن ثمة مقياسا لا يخطئ، لأنه من صلب الاتجاه القومي التقدمي، هو مصلحة الطبقة الشعبية ومصلحة نضالها في سبيل الاشتراكية فحيث تكون هذه المصلحة يكون الموقف القومي الثوري. هذه الطبقة لم تكن إلى جانب نظام الحكم الذي ساد أيام الوحدة لأنها لم تكن تلمس صدق تلك المكاسب الاشتراكية الممنوحة كهبة من الحاكم دون أن يضمنها نضال شعبي وحريات أساسية تجعل هذا النضال ممكنا. وهي اليوم، وبعد الردة الرجعية التي أعقبت الانفصال، تدرك بعفويتها وتجربتها الحية ان عدوها الأول أصبح الرجعية التي انقضت على مكاسب العمال والفلاحين والتي عادت إلى جشعها ومطامعها. وتعلق الطبقة الشعبية بالوحدة في هذا الظرف هو بالدرجة الأولى دفاع عن النفس والبقاء ضد جشع المصالح الرجعية، إلى جانب كونه تعبيرا عن شعورها الحيوي بالارتباط بين هدف الوحدة وهدف التقدم الاجتماعي. أنها تدرك أن الإبقاء على الانفصال يستهدف العودة إلى الأوضاع التقليدية الرجعية بكاملها وكبت الحركة الثورية التقدمية في الوطن العربي.
وفي مقابل ذلك نستطيع أن نقول انه حيث تكون المصالح الرجعية يكمن الانحراف والتآمر والخطأ. ووقوف الرجعية وراء أي عهد وتوجيهها له اكبر كاشف عن انحرافه وزيفه. والرجعية اليوم هي التي تقود المعركة وتوجهها وهي التي تجر معها بعض الفئات التقدمية المخدوعة أو الطامعة. أن شعاراتها –كما هو واضح– هي الرائجة: فكل شيء يدور حول شعارات الكيان الإقليمي والحرية الاقتصادية والالتقاء مع الرجعية العربية ومهادنتها. إن هذا المقياس –مقياس المصلحة الشعبية– ينبغي أن يكون حاضرا أمامنا دوما، وهو الذي يمكننا من وضع الأمور في نصابها: فحكم عبد الناصر، بنزعته الفردية الخطرة، تعمد ضرب الحركة الشعبية عن طريق ضرب قياداتها، وصب قسوة الحكم البوليسي على هذه القيادات الشعبية. واليوم –ونحن في سبيل معالجة هذه الأضرار والآفات الجسيمة التي خلقها- نجد أنفسنا أمام احد موقفين: فإما أن تعتبر هذه القيادات نفسها طبقة وتنظر بالتالي إلى معالجة أمراض تجربة الوحدة من خلال أنانيتها وعواطفها ومصالحها الشخصية كطبقة مستقلة، وعند ذلك تعزل نفسها عن الشعب الذي ناضلت في الأصل من اجله وتحملت أذى الحكم السابق بسببه وفي سبيل أهدافه.. وإما أن تعتبر هذه القيادات نفسها ممثلة للحركة الشعبية والاتجاه القومي التقدمي ولمصالح العمال والفلاحين والمثقفين المرتبطين ارتباطا مخلصا بقضية الشعب، وعند ذلك تخرج بالموقف السليم الصحيح الذي يريها الخطر في الرجعية وتآمرها البعيد المدى على أهداف الشعب وحقوق عماله وفلاحيه، ووقوفها في وجه سائر الذين يسيرون في صف التقدم ويعملون من اجل بناء الكيان العربي المتطور.
قد يقال أن الطبقة الشعبية متأثرة، لسبب أو لآخر، بالدعاية الناصرية، ونحن نعتبر من واجبنا أن نزيل كل التباس بين مفهوم الوحدة في أذهان الشعب وبين نظام الحكم المسؤول عن أخطاء التطبيق. ولن نتوانى عن كشف هذا الالتباس وعن كشف أخطاء الحكم في عهد الوحدة وعن مصارحة الشعب بعدم صلاحيته لحمل رسالة الوحدة العربية وأهداف الثورة الشعبية. إذ لا وحدة بدون حرية حقيقية للشعب ومنظماته الثورية. كما انه لا ثورة شعبية مع الحكم الفردي البيروقراطي، ونحن نعتبر أن مصدر هذه الالتباسات لا يرجع إلى الحكم الفردي الذي كان قائما فحسب، وإنما يعود أيضا إلى تهاون الطليعة الثورية في أهمية التنظيم الشعبي الثوري وإهمالها لضرورة استمرار دوره الفعال بعد قيام الوحدة، وتقبلها لحكم الفرد وعدم مصارحة الشعب بأخطاء ذلك الحكم. وبقاء مثل هذه الالتباسات اليوم في صفوف الشعب ناتج عن الآثار التي تركها الحكم الفردي وانعدام التوجيه الحزبي والثوري وعن تأخر قيام التنظيم الشعبي الثوري.
والخطوات البسيطة التي حققها هذا التنظيم الشعبي حتى الآن أنتجت تصحيحا وتبديدا لبعض هذه الأخطاء والالتباسات. ومن هنا كان اكتمال قيام هذا التنظيم كفيلا بتبديد البقية الباقية منها فنحن نؤمن أن شعبنا قادر على الوصول سريعا إلى المفهوم الأصيل للوحدة وللاشتراكية وللثورة الشعبية. ولاسيما عندما يرى أن القادة والموجهين الذين يحملون هذه الأهداف يقفون في صفه ضد أعدائه ومستغليه. وهو ليس بحاجة إلى أن تصحح مفاهيمه بواسطة الحملات الصحفية المأجورة من الشركات الرأسمالية ومن الرجعية العربية، لان مثل هذه الحملات تزيد في الانفعال والتطرف، بدلا من أن تقرب من الفهم السليم.
إن الموقف العملي للقادة والموجهين –ذلك الموقف الذي ينبغي أن يكون مناصرة للطبقة الشعبية ضد أعدائها– هو افعل في نفوس الشعب من حملات التضليل والإرهاب الفكري.
22 تموز 1962.
(1) نشر في جريدة البعث في 22 تموز 1962.
لا بد للوحدة من موقف ثوري ونضال يومي
لقد كان(1) الاتجاه الجديد الذي أتت به الحركة القومية التقدمية منذ حوالي عشرين عاما هو ذلك الدمج بين الثورة القومية والثورة الاجتماعية، بين الفكرة القومية والفكرة الإنسانية، وعلى أساس هذا الفهم الجديد للحركة القومية قام النضال الشعبي الذي قادته الطليعة العربية، منذ عقدين من الزمن.
ولقد ادركت الطليعة بسبب ذلك ان العمل للوحدة صعب لا بد له من موقف ثوري ونضال يومي. ولقد كانت هذه الطليعة بالفعل ثورية في نظرتها وعملها عندم تخطت الحدود والفوارق الاقليمية وتخطت كل الصعوبات التي تعترض العمل العربي الموحد، فأقامت تنظيمها على النطاق العربي الشامل. وما تزال هذه الصعوبات تواجهها: فهذه الردة الانفصالية الناشئة عن فشل اول تجربة للوحدة م هي الا صورة للمصاعب الضخمة التي تعترض التفكير والعمل الوحدويين، لا سيم في الصف القومي التقدمي نفسه. اذ ان هذه الردة في احدى صورها تعبير عن التعب الذي ينال احيانا من بعض المناضلين المنادين بالاتجاه القومي التقدمي. عندما تبدو لهم المهمة وكأنها مستحيلة، بينما تجتذبهم سهولة النجاح اذا هم سلموا بالواقع القطري.
على ان هذه الردة، وهذا اليأس الذي انتاب الكثيرين، لا يجوز ان ينسين الخطوات التي حققها الاتجاه القومي التقدمي منذ عشرين سنة حتى الان، في طريق تذليل المصاعب وتقريب فكرة الوحدة من أذهان الجماهير الشعبية وحياتها، وإدخال هذه الفكرة في صميم نضالها اليومي من اجل نيل حقوقها الاجتماعية.
لقد اعترف الحزب الشيوعي لاول مرة عام 1956، في بيان نشره، بالوحدة العربية كتيار تقدمي شعبي. على انه قال في ذلك البيان مستدركا ان هذه الوحدة من صنع التطور التاريخي ولا فضل فيها لحزب او هيئة او أفراد. ذلك لان الحزب الشيوعي كان دوما في سورية، وفي باقي الاقطار العربية، متجاهلا كل التجاهل فكرة الوحدة والنضال من اجلها وكونها مطلبا شعبيا. وكان يشتبه بكل دعوة للوحدة ويصنفها ضمن الدعوات والمشاريع الاستعمارية. حتى اذا جابهه الواقع القومي القوي لم يجد بدا من الاعتراف به. وهنا نستطيع ان نسأل الحزب الشيوعي: ما عسى ان يكون عليه مصير الوحدة العربية فيما لو وقفت سائر الاحزاب والهيئات والافراد من الوحدة منذ عشرات السنين موقفه هو منها؟ هل كان التطور التاريخي قادرا ان يقود حتما الى تكوين هذا التيار القوي دون اسهام الاحزاب ورجال الفكر وتوجيههم وقيادتهم للنضال الوحدوي؟
وهناك في قلب الصف القومي التقدمي منطق يستخف بالوحدة العربية وكأنه ينتظر لها التحقق بصورة آلية على يد التطور التاريخي دون مساهمة جدية ودون تضحيات ونضال من اجلها. لقد كان عمل بعض الآخذين بهذا المنطق مقتصر على رفض الاشكال والمشاريع غير السليمة للوحدة ، اكثر منه عملا في سبيل نشر فكرة الوحدة وتغذية نضالها والتماس السبل العملية لتحقيقها.
ان التطور التاريخي لا يأتي بالوحدة عفوا ومجانا، بل لا بد لها من خلق وتغذية يومية وتوضيح وتثقيف وتنظيم. وهي اكثر الاهداف القومية احتياجا الى ذلك كله، نظرا لانها عمل على مستوى آخر غير المستوى المباشر الذي يواجهه الشعب العربي في اقطار وطنه المجزأ، عمل من فوق الحدود ومن فوق المشكلات المحلية المباشرة. وما دامت كذلك فالمهم اذن هو التحقيق وإخراجها من حيز النظر والفكر والأماني، وتقريبها يوما بعد يوم من إمكانية التحقيق وليست المشكلة الاساسية هي اتقاء شر المشاريع المزيفة والمشبوهة: فالاستعمار والرجعية وجميع اعداء الوحدة قد شغلوا العرب عشرات السنين، وفي امكانهم ان يشغلوهم ايضا سنين طويلة بالمشاريع المشبوهة والزائفة، ليكون العمل العربي كله مقتصرا على الرفض والسلبية، اي على ابقاء التجزئة والضعف والاستغلال.
المسألة إذن مسألة صحة الاتجاه القومي التقدمي، مسألة بقائه كحركة وحدوية ثورية في وجه الاتجاه التقدمي اللاقومي ذلك ان الرجعية اعجز من ان تكون للأمة العربية اتجاها فكريا في مرحلة الانبعاث، ولا يهمها اكثر من المحافظة على مصالحها واستغلالها تحت اي ستار فكري، قوميا كان او غير قومي. المسألة هي التالية: هل يمكن ان تبقى في البلاد العربية حركة عربية تقدمية اشتراكية تتسع لأعمق حاجات الشعب العربي الى الثورة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية دون ان تكون حركة قومية اي وحدوية؟
ان الردة الانفصالية اليوم عبارة عن مصالح رجعية ومنطق شعوبي واقليمي. وان واجب الحركة التقدمية ان تعود الى جوهر الاتجاه الذي اختطته منذ البداية في مجال القومية العربية، نعني التفاعل بين الثورة القومية والثورة الاجتماعية والعمل لهم عملا مترابطا.
ان الطليعة العربية التي قامت بعمل ثوري كبير عندما تلاقت وتوحدت منذ عشرين عاما الى الآن من فوق الحدود الاقليمية ومن فوق عقلية التجزئة ومصالحها، مطالبة اليوم بان تترفع عن الانسياق مع منطق الانفصالية، لكيلا يتشوش وعي الشعب وتتزعزع ثقته عندما يرى الالتباس بين الرجعية والتقدمية، ولكيلا تزيف المعركة وتجزأ القوى النضالية. فالدفاع عن سلامة اتجاه الوحدة وعن مضمونها الديمقراطي في وجه تزييف الحكم الفردي البوليسي لها انما هو واجب مقدس. ولكن له طريقه المختلف عن طريق الرجعية والانفصالية، وله ايضا منطقه الموضوعي ولهجته الرصينة ونظره البعيد.
آب 1962
(1) جريدة البعث، العدد 4، آب 1962.
الشعب العربي يطلب تصحيح التجربة لا إلغاء الوحدة
منذ أن تأسست (1) الجامعة العربية عام 1945 كانت مهمتها مزدوجة: محافظة على التجزئة الراهنة، ومحافظة على الأوضاع الداخلية الرجعية، تحوطا وإحباطا للتطور التاريخي، الذي كان ينذر بظهور تيار شعبي جارف نحو الوحدة العربية ونحو المجتمع الاشتراكي. منذ ذلك الحين كانت الانفصالية والرجعية توأمين متحالفين، وكان شعار التمويه: العمل للوحدة الشاملة. وقد أريد للجامعة أن تقوم منذ تأسيسها على تناقض أساسي يشلها ويمنعها من تحقيق أي عمل ايجابي لصالح الأمة العربية، بينما يسمح لها هذا التناقض –ما دام مستترا غير مكشوف– أن تضع العراقيل الجمة في طريق نضال الشعب العربي وتقدمه، وان تقوم في مناسبات خطيرة حاسمة بدور التآمر والتستر على الخيانة كالدور الذي قامت به في نكبة فلسطين. هذا التناقض يكمن في ادعاء العمل للوحدة العربية من جهة، وفي الانطلاق لهذا العمل من احترام و تكريس الكيانات القطرية، واحترام وتكريس الأنظمة الداخلية الرجعية من جهة أخرى.
لقد كانت الجامعة تقوم على أساس احترام استقلال كل دولة عربية، ليس تجاه الدول الأجنبية والاستعمار، بل استقلالها عن الدول العربية الأخرى، وتكريس الكيانات الإقليمية باسم مبدأ (الاستقلال) بتحريف معناه، من معنى التحرر القومي، الى معنى الانفصال القطري.
كذلك كانت تقوم على أساس عدم تدخل أية دولة عربية في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى. أي منع الدول التي استطاع النضال الشعبي أن يطورها نسبيا، سواء من حيث التحرر من القيود الاستعمارية، أو من حيث التحرر الداخلي السياسي والاجتماعي، من أن تنبه الشعب العربي إلى أخطار ارتباطات بعض حكوماته بالاستعمار، وأخطار تخلفها السياسي والاجتماعي على قضية هذا الشعب في كل مكان، وبتعبير آخر كانت الجامعة ترفع شعار الوحدة العربية لتتمكن من ضرب وحدة النضال العربي، فلم تكن بذلك سوى خدعة اخترعتها الحكومات العربية الممثلة لطبقة اجتماعية رجعية ذات مصالح تجعلها معادية للشعب متواطئة مع الاستعمار.
وقد بلغ هذا التناقض ذروته في الدور الذي لعبته الجامعة في حرب فلسطين، فتحقق إجماع الحكومات العربية على شيئين سلبيين: الأول، منع شعب فلسطين من النضال والمشاركة في القتال، والثاني، تغطية الهزيمة والخيانة، وتضييع المسؤولية برفعها عن الحكومات العربية، تفاديا لثورة الشعب عليها، وتحمل الجامعة لتلك المسؤولية لأن الشعب لا يستطيع محاسبتها. فقد أدخلت الحكومات جيوشها إلى فلسطين لخداع الشعب العربي، ولتبرير منع شعب فلسطين من القتال، وتبرير الهزيمة فيما بعد، لأنها كانت تعرف أن هذه الجيوش لا يمكن أن تنتصر طالما لم يكن ممكنا توحيدها الحقيقي بقيادة مخلصة سليمة وبقي كل منها يعمل على انفراد وبعضها حسب توجيهات الدول الاستعمارية.
فمن النكبة والهزيمة في فلسطين لقيت الجامعة نهايتها كفكرة، واستمرت كواقع لم يعد له أي أثر في الأحداث، بينما ولدت من هذه النكبة ذاتها فكرة عملية للوحدة بمضمون اشتراكي ديمقراطي، وتفكير جديد يتمرد على منطق الكيانات القطرية ويجرمه كما يجرم الوضع الاجتماعي الرجعي كأكبر معطل لإمكانيات الشعب. وتركز في أذهان الجماهير العربية انه لا بد للوحدة، كيما تتحقق، من أن تقفز من فوق الجامعة لتتجاوز منطق التناقض والإحتيال الذي أدى إلى ضياع فلسطين. وبدأ السعي للتوحيد بين دول متقاربة في النضال والأهداف.
ومنذ عام 1955 بدأ التقارب بين مصر وسوريا على أساس التماثل في السياسة الخارجية (تحرر ومقاومة للأحلاف العسكرية، حياد ايجابي) والسياسة العربية، والسياسة الاجتماعية مثل الإصلاح الزراعي وغيره، وفي عام 1956 كان إجماع الشعب العربي في جميع أقطاره على تأييد مصر في معركة تأميم القناة أروع مثال على التفكير الجديد المناقض والمصحح للتفكير الذي قامت عليه الجامعة. كان انفراد حكومة عربية في اتخاذ موقف قومي جريء أقوى من دول الجامعة كلها ومن إجماعها. وكانت سوريا تعرف إذ ذاك مدا شعبيا تحرريا فوقفت حكوماتها إلى جانب مصر وتحققت وحدة القطرين عام 1958 نتيجة هذا التقارب.
فالانفراد الثوري نال إجماع الشعب العربي، اما الإجماع الرجعي فكان متهما ومجرما في نظر الشعب. ووحدة سوريا ومصر لم تتم في الجامعة، ولا بمعرفتها ومنطقها بل كانت هي أيضا انفراداً وتمرداً على المنطق القديم. وظلت كذلك في نظر الشعب العربي إلى أن انحرفت التجربة وظهر أن المنطق الإقليمي كان هو السائد في حكم الوحدة بدلا من المنطق الوحدوي، ومنطق الحكم الفردي بدلا من منطق الحكم الشعبي فانتكست الوحدة بذلك وانهارت.
وإذا كانت الوحدة قد أفادت من فشل الجامعة، فهل أفادت الجامعة من فشل تلك التجربة للوحدة؟ هل استطاعت الجامعة أو تستطيع أن تعزز وجودها ونفوذها نتيجة فشل تلك المحاولة الوحدوية المتمردة على الكيانات الإقليمية وعلى الأنظمة الرجعية وإجماع الدول العربية؟ لقد كادت الجامعة أن تنهار نتيجة انهيار تلك التجربة للوحدة، وهذا يعني أن الرجوع إلى الوراء لم يعد ممكنا، ففشل تجربة الوحدة لا يداوى بالمرض نفسه الذي كان سبب الفشل، أي بالعقلية الإقليمية التي تجاوزها الزمن، بل بخطوة جديدة إلى الأمام في طريق الوحدة السليمة. لم يعد لمنطق الجامعة إمكانية البقاء والحياة في المرحلة التي وصل إليها الوعي عند الجماهير العربية، فإذا بقيت الجامعة فأما أن تتطور وتغير مبادئها، وأما أن تقبل بدور رمزي بسيط كمجرد رابطة ومكان للالتقاء.
بعد تجربة الوحدة لم يعد المنطق القطري قادرا أن يعرض نفسه على الرأي العام (في الجامعة) بل ترتَّبَ عليه أن ينحصر في حدود القطر، وعند الطبقة الرجعية المتآمرة والشعوبية الحاقدة، فالخداع لم يعد ممكنا لان الوعي الشعبي قد نضج وخاصة بتجربة الوحدة وانتكاسها. التآمر بشكل علني وعلى مسرح الجامعة العربية أصبح متعذرا في حين أن التآمر على نطاق القطر بالإرهاب والتنكيل يمكن أن يحدث، فإذا ظن البعض أن بإمكان الجامعة أن تلعب هذا الدور فظنهم خاطئ. فالتآمر على الوحدة هو بالدرجة الأولى تآمر على الاشتراكية، والعودة إلى المنطق القطري هو بالدرجة الأولى عودة إلى المنطق الرجعي الرأسمالي، وقد تأسست الجامعة بقصد التآمر على الوحدة والاشتراكية معا. ويراد لها اليوم أن تكون البديل للوحدة، وان تجسد فشلها وفشل مضمونها الاشتراكي وان تلعب نفس الدور الذي قامت لتلعبه: خداع العمل الوحدوي القائم على احترام التجزئة واحترام الأنظمة الرجعية. ولكن ذلك ضرب من المحال، فان تنتكس الوحدة في قطر، وان ينتكس مضمونها الاشتراكي، هو شيء مختلف جدا عن تكريس هذه الردة في الجامعة، إذ أن الجامعة تحاول أن تعطي لما يقرر فيها من مواقف وتوجيهات صفة قومية، ولا يجرؤ احد اليوم على تحدي الرأي العام العربي بمثل هذا الشكل العلني الإجماعي وإلا كان أعضاء الجامعة يسعون إلى إنهائها ليعود كل منهم إلى تنفيذ المؤامرة بشكل مستور في نطاق القطر.
لقد جاءت تجربة الوحدة لتبرهن رغم كل ما فيها من نواقص وثغرات على حقيقتين خطيرتين بالنسبة لقضية الشعب العربي. أولها أن الوحدة ممكنة وقابلة للتحقيق، ولذلك لن يهدأ للشعب العربي بال بعد اليوم قبل أن يحقق خطوة وحدوية شعبية. والثانية أن الوحدة ارتبطت بحياة الجماهير ونضالها اليومي من اجل معيشتها ولن تستطيع قوة أن تفصل بين نضال الفلاحين والعمال من اجل الوحدة، وبين نضالهم من اجل الاشتراكية والحرية.
ولقد أتت انتكاسة تجربة الوحدة لتؤكد أن منطق الوحدة هو المنطق الصحيح وبالتالي إذا كانت هناك أمانٍ وأوهام لدى الرجعية في أن تستعمل انتكاسة تلك التجربة للوحدة بالرجوع لمنطق الكيانات والمحافظة على الأوضاع الرجعية فهذا وهم وتضليل لأن الوعي الشعبي أقوى من أن تصمد أمامه مثل هذه المحاولات.. الشعب العربي يطلب تصحيح التجربة لا إلغاء الوحدة.
15 أيلول 1962.
(1) نشر في جريدة (البعث) في 15 أيلول 1962.
1963
برقية تهنئة بقيام ثورة 14 رمضان
باسم حزب البعث العربي الاشتراكي، أشاطركم روعة اللحظات التاريخية الكبرى التي تحياها ثورتكم العربية، وإشراقة المعاني السخية التي يفجرها قيام عراق عربي أصيل، يستعيد دوره القومي الطليعي الذي عطلته رجعية نوري السعيد وشعوبية قاسم.
إن ثورتكم في العراق هي الثورة المعبرة أعمق تعبير، عن طبيعة المرحلة التي تجتازها الأمة العربية.. انها إبنة ثورة الرابع عشر من تموز، وتصحيح الانحراف الذي عطلها، والثأر لانتكاسة الوحدة بين مصر وسوريا. لقد قامت نتيجة عمل شعبي واع شامل، أسهمت فيه جماهير الشعب العربي في العراق من مدنيين وعسكريين متحملة بجد ومسؤولية مهمة الانطلاق نحو الأهداف التي تمليها هذه المرحلة، تلك الأهداف التي تلتقي فيها مصالح الجماهير المتجلية في الاشتراكية والديمقراطية الشعبية مع المعاني القومية الملازمة لها، متمثلة في توحيد الأقطار، هدف الجماهير في جميع الأقطار العربية، من اجل تصحيح الانحراف القومي، والقضاء على الردة الرجعية، والنهوض من نكسة الانفصال، وتحقيق سائر الأهداف القومية.
وستظل المشاركة الشعبية الواعية التي انطلقت منها ثورتكم، وسيظل العمل في سبيل توسيعها وتعميقها على صعيد النضال والبناء معا، الأداة الثورية الفعالة التي تحفظ لحركتكم سلامة سيرها وحيوية اندفاعها.
واصدق تعبير عن هذه المشاركة الشعبية انفتاح الثورة في العراق على سائر الحركات العربية الثورية في الوطن العربي، والتفاعل بين القوى العربية المتحررة ضمن جبهة عربية تقدمية واحدة، تحطم المحاولات التي يقوم بها الاستعمار والصهيونية وإسرائيل والرجعية العربية العميلة والحاقدون على العروبة من اجل صدع الركب العربي الزاحف، وتسير في طريق تحقيق يوم النصر الكبير.
لقد وعت ثورتكم السمة الأساسية للمرحلة التي تجتازها الأمة العربية وأدركت بأصالتها وثوريتها أن الذي يحدد هذه المرحلة ويمنحها معناها التاريخي، هو تبني رسالة الوحدة العربية تبنيا فعالا جادا، والانطلاق من منطق الوحدة والعمل لها عملا إراديا مخططا. وأدركت أن السير في طريق النضال من اجل الوحدة هو الأمل، وان معاكسة هذا الطريق أو مجرد تجنبه يطعن ثورية أية حركة.
إن ثورتكم تأتي بعد التجربة الثورية العميقة في الجزائر وبعد المد العربي الثوري في اليمن، لتعبر عن تدافع الأعضاء للحاق بجسم الأمة الواحدة بعد الهزة التي أصابت الكيان العربي نتيجة انفصال الوحدة.
فإلى ثورتكم الشعبية الاشتراكية العربية تحية إكبار، وعهد تعاون ونضال مشترك من حزب البعث العربي الاشتراكي ومن الجماهير الشعبية، التي يسير معها في طريق تحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية.
بيروت في 11 شباط 1963
الحزب وتجربة الحكم (وميثاق الوحدة الثلاثية)
أيها الإخوان (1)
إن الظروف العصيبة التي يمر بها وطننا العربي استدعت الاتصال بين ممثلي القيادة القومية ومنظمات الحزب في أوروبا لكي نوضح لرفاقنا ما لم يستطيعوا معرفته نظرا لابتعادهم عن وطنهم ولقلة المعلومات المتوفرة لديهم.. ولسبب آخر حصل هذا الاتصال هو أن نطلب من الرفاق الذين انهوا دراستهم أو قطعوا شوطا بعيدا فيها يمكّنهم من المساهمة في خدمة الحزب، سواء في العراق أو في سوريا، سواء في العمل الشعبي أو العمل الحكومي، لان الظرف يستدعي تعبئة جميع الإمكانيات ولان الحزب مضطر أن يعبئ جميع إمكانياته وأن يضع كل طاقات أعضائه في هذه المعركة التاريخية التي هي مصيرية بالنسبة للحزب وبالنسبة للأمة كلها. فالحزب الآن مسؤول مسؤولية مباشرة عن الحكم في قطرين عربيين هما في طليعة الأقطار العربية. والحزب مطالب بان يبرهن على جدارته في الحكم كما برهن على جدارته في النضال، مطالب بان يعطي لشعاراته معناها العملي وكل أبعادها النظرية والعملية، والحزب مسوؤل مسؤولية تاريخية أن يشق طريقا جديدة جريئة للثورة العربية، لثورة الوحدة والحرية والاشتراكية، ولو كلفه ذلك أقسى المشاق والتضحيات. إن الحركة التاريخية لا يمكن أن تكون سهلة الطريق ولا يمكن أن تؤدى مهمتها بالجهود اليسيرة بل لا بد من التضحيات الجسيمة.
هذه هي سنة التاريخ وقانون الثورات وأنا مؤمن بان شباب الحزب في كل مكان واعون هذه الحقيقة، مقدرون مسئولتهم حق قدرها، وأنهم يشعرون ويدركون أن أفكار البعث وطريق البعث ليست أشياء للتغني أو أنها ترف يضاف، بل أنها هي حياة الملايين من أبناء الشعب العربي، هي مصير أمة بكاملها. وإن هذه الأفكار وهذه الطريق إذا وجد من يدافع عنها ومن يستبسل في سبيل تحقيقها بأمانة، فان مستقبلا كريما وناصعا وسليما يتوفر لهذه الملايين من أبناء شعبنا. وإذا لم يوجد من يدافع عنها ومن يستبسل من اجل إخراجها إلى العمل فان آلاما كبيرة وطويلة يمكن أن تنتظر امتنا وان ذلاً كبيرا يمكن أن يلحق بهذا الشعب الكريم وبهذه الأمة العظيمة. فإذا نحن استهزأنا بمهمتنا التاريخية وإذا لم نكن في مستوى المسؤولية.. فهذه الأفكار وهذه الطريق، طريق البعث، عليهما يتوقف مستقبل عظيم، ولم يعد جائزا لأحد من أفراد الشعب العربي فضلا عن أعضاء حزب البعث.. لم يعد جائزا لعربي واع أن يتجاهل النتائج التي تنتج عن التهاون في مثل هذه الأفكار الكبيرة والقضايا الكبيرة المتعلقة بوحدة الأمة العربية وبالطريق السليمة لتحقيق هذه الوحدة، وبحرية الشعب العربي والمواطن العربي، وبطريق الاشتراكية وبالأسلوب الذي يضمن ثوريتها وسلامة تحقيقها وضمانة بقاء الانجازات الاشتراكية وصمودها لكل حادث. فالمسألة إذن هي بهذه الخطورة..
أيها الإخوان
لا شك أن ما يجول في خواطركم من أسئلة تدور كلها أو يدور أكثرها حول الأزمة الحالية، الأزمة التي ظهرت بعد ثوره العراق وسوريا والمساعي التي بذلت من اجل تحقيق بداية جديدة سليمة للوحدة العربية بين الأقطار العربية الثلاثة: مصر وسوريا والعراق.
إن حزبكم أيها الإخوان حمل هذه الأفكار منذ أكثر من عشرين عاما وناضل في سبيلها نضالا صادقا وانتشر وتوسع حتى انه اليوم يكاد لا يخلو قطر عربي من تنظيم بعثي مهما كان صغيرا، وأعطى الحزب للوحدة العربية المكان الأول في تفكيره الثوري وفي نضاله، ولقد ضحى كثيرا حتى أخرج هذه الفكرة، من عالم الأماني إلى عالم الانجازات في أول تجربة للوحدة عام 1958. وكان مبرر تساهله في عام 1958 –مبرر الخطأ الذي وقع فيه الحزب عندما قبل بحل تنظيمه بسوريا– هو هذا الحرص على الوحدة العربية وعلى أن تصبح في ذهن كل عربي وفي ضمير كل عربي.. أن تصبح حقيقة واقعة وان تصبح شيئا قابلا للتحقيق.. أن تصبح حركة تاريخية بعد أن ظلت عشرات السنين في هذا العصر لفظة فارغة المعنى وألعبوة بأيدي محترفي السياسة ورجال الحكم، حتى كاد اليأس يدب في نفوس العرب من هذا الهدف القومي الكبير وحتى كادت دعاية أعداء القومية العربية تجد آذانا صاغية، تلك الدعايات التي كانت تسمي الوحدة العربية حلما وخيالا.
أراد الحزب في عام 1958 أن يقضي دفعة واحدة على هذه الحالة النفسية وان يثبت للشعب العربي في كل مكان أن الوحدة حقيقة حية قابلة للتحقيق. وكان الحزب عندما انتكست الوحدة بعد أشهر من تحقيقها وبعد أن ظهرت الأخطاء والانحرافات الضخمة بالحكم، وحتى بعد أن أدى كل ذلك إلى الانفصال –وكان الانفصال كارثة قومية عامة– وحتى اثناء الانفصال وما جرى فيه من تجن على القومية العربية وتآمر على فكرتها ومن أراجيف وأباطيل…. حتى في تلك الظروف القاسية السوداء كان الحزب يشعر ويعرف انه حقق عملا عظيما تاريخيا عام 1958. وان كل الأخطاء والانحرافات والمآسي التي نتجت عنها لا تعادل جزءا صغيرا من الكسب الكبير الذي نتج عن تحقيق الوحدة.
ولكن بعد أن قطعنا هذا الطور من نضالنا وبعد أن دخلت الوحدة في عالم الحقائق،بعد أن كانت في عالم الأحلام والاماني، أصبح أمامنا واجب آخر، واجب جديد هو أن نبني الوحدة على أسس سليمة، أن نضع الوحدة في الطريق السليم الذي لا ضلال فيه ولا انحراف ولا انتكاس. في عام 1963 لم تعد الغاية الأولى لنضال الحزب أن يحقق الوحدة بأي شكل وأي ثمن، بل أصبحت الغاية أن يحسن تحقيق الوحدة بأحسن شكل وان يستفيد من تجربة الوحدة بكل ظروفها وملابساتها لنبرهن على أن نضالنا جدي عميق متكامل وانه ينمو في الخبرة والتجربة والوعي وأننا حقا استفدنا من التجارب.
هكذا كان موقف الحزب بعد ثورتي سوريا والعراق يتجلى بحرص قوي على الوحدة وخاصة انه كان القوة الشعبية الأولى زمن الانفصال التي دافعت عن الوحدة والتي صمدت للانفصال والتي أعطت للنضال الوحدوي قيمته ونفوذه وهيبته. لان الانفصال كان قد جمع كل القوى المضادة لوحدة الأمة العربية والتي تعمل ضد فكرة القومية العربية: جمع الاستعمار بكل أطرافه، مع إسرائيل، مع الرجعية العربية، مع الشعوبية والانتهازية وكل ما هو فاسد ومتعفن فجمعها لينقض على فكرة القومية العربية التي هي فكرة ثورية ولكي يعمل فيها الهدم ولكي يشفي منها أحقاده. في تلك الأيام السوداء، أيام الانفصال، لم يكن غير حزب البعث العربي الاشتراكي بقادر أن يعطي لفكرة الوحدة ولشعار الوحدة حرمة أو هيبة لان وراء هذا الحزب نضال عشرين سنة في سبيل الوحدة. لم تكن الفئات الانتهازية والعميلة التي كانت ترفع شعار الوحدة بدافع نفعي هي التي استطاعت أن تقضي على عهد الانفصال ولكن الحزب هو الذي استطاع، بينما كانت تلك الفئات وهؤلاء الأشخاص الذين برزوا بعد الانفصال متوارين مختبئين. وهكذا فان الحزب قدم للوحدة كثيرا وسيظل الرسول الأمين لهذا الهدف القومي.
بعد ثورة العراق اخذ الحزب المبادرة وذهب وفد إلى القاهرة ليزيل كل ما كان بين الحزب وبين الجمهورية العربية المتحدة من خلافات، ولكي تعود القوى الثورية من جديد إلى التعاون في سبيل تحقيق الوحدة. و بعد شهر من ثورة العراق قامت الثورة في سوريا وذهب ممثلو الحكم الثوري في سوريا مع ممثلي الحكم الثوري في العراق إلى القاهرة بنفس الدافع ولنفس الغرض. وتتابعت الاجتماعات والرحلات التي أوصلت إلى ميثاق القاهرة. هذا الميثاق الذي لم يجيء على أسلم وجه وأحسن شكل والذي يتخلله شيء من الغموض وشيء من الضعف، ولكن على كل حال سجل حدا أدنى من الضمانات لسلامة تحقيق الوحدة الجديدة: الوحدة الثلاثية. لقد اعتبر الحزب أن تحقيق الوحدة بين ثلاثة أقطار متحررة خطوة تاريخية كبيرة وان هذا الشيء، أي تحقيق الوحدة بين أكثر من قطرين ووجود العراق بالذات في هذه الوحدة يعطيها قيمة وضمانة، وان الوحدة الثلاثية تسمح أكثر من الوحدة الثنائية بالتكافؤ بين الأقطار وتسمح بالتفاعل بين الأقطار وتسمح بإرساء الوحدة على أساس سليم متين من التنظيم الشعبي طالما أن الحزب قائم ومتحمل للمسؤولية في قطرين من هذه الأقطار الثلاثة. ولكن كل الآمال التي علقها الشعب العربي على هذه الوحدة الجديدة عصفت بها الأنواء بعد قليل من عقد ميثاق القاهرة دون أن يكون للحزب أي دخل بهذه الحملة المخربة التي صُوّبت على الوحدة وعلى الحزب ودون أن يتزعزع إيمان الحزب بالوحدة وبميثاق القاهرة أو يتراجع شعرة واحدة عنه، ولكن يجب أن نتساءل ونوضح ما هو السر في هذه الأزمة المفتعلة وفي هذه الحملة الجائرة وفي هذه المعركة الطائشة التي تخالف كل منطق قومي. فالمنطق القومي يقضي بان تتقارب القوى الثورية العربية وان تتعاون وان تتحد لا أن تتصارع ويفني بعضها بعضا. الشيء الذي يجب أن يكون واضحا لكم أيها الإخوان هو أن الحزب قبل عن رضى وقناعة ووعي باستئناف السعي للوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة ورئيسها جمال عبد الناصر.. فالحزب يعرف أن مصر عنصر اساسي في بناء الوحدة العربية ويعرف أيضا أن النظام القائم في مصر (نظام عبد الناصر) هو نظام لا يمكن تغييره في يوم وليلة، وهو نظام له نواح ايجابية تقدمية ونواح سلبية، ولا بد من الصبر عليه وانتظار التطور البطيء السليم حتى يتعدل هذا النظام، وان كل تعديل سريع له لا يكون في مصلحة العروبة ولا في مصلحة الثورة. لذلك كان الحزب قابلا عن وعي ومسؤولية هذا التعايش والتعاون الصادق بينه وبين عبد الناصر من اجل الوحدة العربية من اجل إنجاح الوحدة. كل هذا بشرط أن يقبل هذا النظام من جهته التعاون مع الحزب، إذ أن الحزب هو الضمانة الرئيسية الجدية لتحقيق الوحدة بشروط وأسس سليمة. إذن كان الحزب مصمما على الوحدة ومصمما بنفس الوقت على عدم تكرار الأخطاء السابقة. ولكن ظهر بان هذا النظام القائم في مصر لا يقبل بالحزب ولا يقبل بالتعايش معه وبالتالي لا يقبل أن تقوم الوحدة على أسس سليمة وان تتوفر فيها ضمانات لحمايتها من الخطأ والانحراف. وكان النجاح الذي أحرزه الحزب في العراق بعد تضحيات بطولية قدمها خلال سنين وتوجها بتضحيات كبيرة في يوم الثورة.. كان هذا النجاح الذي كان نجاح الثورة العربية كلها والقوى الثورية العربية كلها، كأنه كان نذيرا لنظام الحكم في الجمهورية العربية المتحدة بأنه يجب أن يزاح هذا الحزب من الطريق وان يلغى من الوجود، لأنهم لم يروا فيه الأخ والصديق، بل رأوا فيه المنافس والمزاحم، وهذه نظرة بعيدة كل البعد عن الثورة. فالثورة العربية بقناعتنا وبمنطقنا هي مجموعة التجارب الثورية في جميع أجزاء الوطن العربي. حتى حزبنا ما ادعى في الماضي ولن يدعي انه التجربة الثورية الوحيدة وانه التجربة القدوة المثالية التي تغني عن كل تجربة ثورية أخرى. فمنطلق تفكيرنا منطلق حر واقعي أصيل لأنه شعبي، لأنه منطلق النضال والثورة لا منطلق الحكم ومصالح الحكم ودوافع السيطرة والاستئثار. فنحن لن ننكر حتى على هذا النظام القائم في مصر الذي كان المسؤول الأول عن انتكاسة الوحدة في عام 1958 والذي أوصل إلى كارثة الانفصال وما فيها من مآس، هذا النظام لم يحكم عليه الحزب حكما سلبيا نهائيا بل اعتبره قبل كل شيء حكما عربيا تقدميا فيه نواحي سلبية تبررها ظروف محلية لقطر عربي هو مصر، وانه بالتالي لا بد من التعاون معه وانتظار التفاعل البطيء الذي يكفل تحرير هذا النظام من نواحيه السلبية.
مقابل نظرتنا الواسعة الحرة ظهرت تلك النظرة الضيقة المتعصبة التي ترفض التعايش مع حزبنا، وفي الواقع ترفض أن يبقى حزب البعث في الوطن العربي لأنها تشن على حزب البعث حرب إفناء. ولكن ماذا يمكن أن ينتج فيما لو قدر لهذه النظرة المتعصبة أن تنتصر… هل ينتج عن ذلك تحقيق الوحدة؟ كلا! لان الشعب العربي لا يمكن أن يقبل بتجربة للوحدة تكون تكرارا للتجربة السابقة. ولا يوجد ما يمنع من أن تكرر التجربة السابقة إذا زال حزب البعث من الوجود أو إذا ضعف حزب البعث بشكل لا يستطيع معه الصمود والدفاع عن مبادئه وأفكاره ولا يستطيع بالتالي أن يضمن سلامة تحقيق الوحدة. الوحدة السابقة انتكست وفشلت لسببين رئيسين لم يعودا سرا من الإسرار: الحكم في التجربة السابقة للوحدة كان حكما فرديا، والحكم في التجربة السابقة كان حكما تسلطيا إقليميا، وإذن كان لابد في الوحدة الثلاثية الجديدة من أن توضح الضمانات ضد الفردية بالقيادة الجماعية وضد التسلط الإقليمي بالتكافؤ بين الأقطار وان يضمن كل تنظيم شعبي حقيقي لا صوري مزيف.
أيها الإخوان
لم تكن في عام 1958 وحدة لقطرين فحسب، وإنما كانت نواة للوحدة العربية الكبرى، وليست الوحدة الثلاثية التي وضعنا أسسها قبل أشهر من وحدة لثلاثة أقطار فحسب وإنما هي بداية لكي تضم جميع أجزاء الوطن العربي. لذلك يشعر المسئولون الشعبيون في هذه الأقطار بأنهم مطالبون بان بينوا وحدة تتسع للأمة العربية كلها، تتسع للأقطار العربية كلها وتتجاوب مع ضمير كل عربي.. تتجاوب مع إرادة العرب جميعا، إي تتسع للمستقبل وان تحسب حسابا له.. أن تبنى على أسس سليمة متحررة تصمد للتطور. أي ان تكون خالية من التحكم والتفرد والارتجال والتعصب، أن تتسع لكل التجارب الثورية في أجزاء وطننا الكبير. هذه المسؤولية التي تفرض علينا أن نراعي ظروف ونفسية الأقطار العربية كلها، هي التي تدعمنا وتدفعنا إلى الصمود في هذه المعركة التي لم نردها والتي فرضت علينا فرضا. في هذه المعركة غير المتكافئة، في هذه المعركة التي لا أجد لوصفها إلا أنها معركة القوة الغاشمة.. معركة وسائل الدولة الضخمة التي تجيز لنفسها، بالاستناد إلى قوتها، أن تحول الحق إلى باطل وان تفتري على الحقيقة بكل الأشكال والألوان غير عابئة بمصلحة الأمة وغير عابئة بمستقل الشعب ومستقبل القضية وبأنه لا تبنى امة ولا يبنى لها مستقبل على الكذب والافتراء وعلى اعتماد القوة فحسب. والحزب رغم ذلك كله لم يفقد صفاء تفكيره ولم يفقد هدوء أعصابه ولم يفقد شعوره بالمسؤولية وبالمصلحة القومية، فهو يتجنب الانزلاق في هذه المعركة وان كانت سهامها تصوّب عليه في كل يوم وفي كل ساعة، ولكنه مطالب أيضا أن يكون واقعيا وألا يكون كالنعامة.. مطالب بان يصمد وان يقوّي نفسه حرصا على المبادئ والقيم التي يمثلها ويدافع عنه، مطالب بان يعبئ جميع إمكانياته وان يستغلها على أحسن شكل وان يبرهن على انه فعلا الحزب الشعبي، أي الحزب الذي يمده الشعب كل يوم وكل ساعة بدم جديد، بروح جديدة، وبكفاءة جديدة وبطولة متجددة. انه يعرف انه يمثل نضال المستقبل العربي نضال الأمة العربية كلها مع إصراره على تجنب الانزلاق في المهاترات وفي الخصومة حتى يكسب الرأي العام العربي إلى جانبه، وحتى يدفع هذا الرأي العام الثوري إلى تحمل مسؤوليته لكي يتدخل ويحول دون هذا التدمير الإجرامي وان يحول دون هذه المعركة التي لا تستند إلى حق بل إلى قوة الوسائل فحسب. الحزب أيها الإخوة فيه نواقص عدة، ثغرات كثيرة، لم يتمكن في الماضي من معالجتها وتلافيها، أما الآن فالظرف قد يسمح بذلك. علينا أن نكون في مستوى الظرف وان نوفر للحزب كل الوسائل التي تمكنه من التخطيط العلمي الواقعي البعيد المدى، الشامل الأفق، ومن تنفيذ ما يخططه بنجوع وإحكام. ترون أن الوسائل حتى الآن لا زالت يسيرة للغاية، وللحزب صحيفة في دمشق وصحيفة في بغداد، وهذه الوسائل المتواضعة إلى ابعد الحدود استطاعت أن تعلن عن حقائق كبرى، استطاعت جريدة البعث، على ضعف مستواها، أن تعلن عن حقائق كبرى يمثلها الحزب وتتجسد في صمود الحزب في هذه المعركة، وعلينا أن ننمي هذه الوسائل إلى مسافات ابعد والى اعداد اكبر والى طبقات من الشعب أوسع. علينا أن نوسع اتصالاتنا بالرأي العام العالمي التقدمي، ولا نغتر من أن الجميع يعرفون حقيقة نوايانا وماضينا ويعرفون النقاط الأساسية التي نتمسك بها حرصا على الوحدة والثورة. فيجب أن نوسع هذه الاتصالات، ولقد حصلنا في كل مرة اتصلنا فيها بالرأي العام الغربي الثوري التقدمي على نتائج طيبة لان قضية الحزب قضية عادلة وواضحة لا تحتاج إلا لان تُعرف وإلا لأن يُسمع صوتها.
أيها الإخوان
اعتقد بان من الإغراض الأساسية لهذه الحملة الظالمة التي تشهر على الحزب، أن يُشل الحزب ويُشغل الحزب حتى لا يستطيع أن يعمل عملا جديا، فيفقد ثقة الشعب به كحزب ثوري. ولذلك فان الجواب الجدي والجواب السليم على هذه الحملة لا يكون بمقابلة السب والافتراء بالافتراء وإنما يكون بان نمكن حزبنا من تحقيق الثورة، والانجازات الثورية. لقد قام حزبنا بثورتين عظيمتين في العراق وسوريا فعلى الحزب في هذين القطرين أن يحقق الثورة فعلا، أن يحقق الانجازات الاجتماعية والاشتراكية حسب مخطط مدروس ومنهاج مرحلي، وان يحقق الديمقراطية الشعبية بان ينظم الشعب للدفاع عن قضيته وان يحمي ثورة الشعب من الاستعماريين والرجعيين والشعوبيين. فعلينا أن نمضي دوما إلى الإمام. الوحدة لا تتحقق إلا في ظروف ثورية، وعندما نقوم بالانجازات الثورية يتهيأ الجو وتتهيأ الشروط للوحدة، وهذا كله يتطلب مساهمة الجميع فالظرف ظرف مصير. مصير الحزب ومصير الأمة ومصير الثورة العربية.. وكل الاعتبارات يجب أن تخضع لهذا الهدف: هدف المحافظة على مصير هذه الحركة الثورية التاريخية.
واني اترك لكم الآن مجال الأسئلة..
ما هو موقف الحزب المقبل تجاه الوحدة وبالذات تجاه الاستفتاء؟
الحزب ماض في طريقه ينفذ ما تعهد به في ميثاق القاهرة. الحزب او الحكم في العراق وسوريا يشكل اللجان التي نص عليها الميثاق وسوف يطلب من حكومة الجمهورية العربية المتحدة أن تجتمع لجانها مع هذه اللجان لوضع الدستور الاتحادي وتنسيق الاعمال الأخرى في النواحي العسكرية والقضائية…، وسيجري الاستفتاء في الموعد المحدد. الحزب هو الذي طرح شعار الوحدة الثلاثية وطالب باتحاد الأقطار الثلاثة بعد ثورتي سوريا والعراق. الحزب من عقيدته ومن منطقه ومن مصلحته أن تقوم هذه الوحدة لأنه لا يخاف على نفسه من النظام القائم في مصر، بل يؤمن بان التعايش والتعاون بين مختلف التجارب الثورية العربية هو الذي يوصل إلى وحدة الثورة العربية والى قوتها والى ظفرها، وهذا ما سيحققه الحزب.
والحزب رغم انه لم يبلغ بعد مستوى الجمهورية العربية المتحدة في ضخامة الوسائل، فهو صاحب قضية وهو يعرف ذلك، وبالتالي لا يخاف على نفسه ولا على مستقبله. قد يؤذى منه أشخاص وأفراد شرط أن يبقى أمينا على مبادئه يتجاوب مع الشعب. فلو أخذنا بالوساوس الزائدة عن عبد الناصر لوصلنا إلى مواقف بعض أعضاء الحزب السابقين في سوريا ولبنان. نحن نعتبر أننا اقوى من عبد الناصر ونظامه، والمستقبل لحزبنا، ونحن مسئولون عن القطر المصري في تصحيح سيره وتأكيد عروبته.. وليست تساهلات الحزب بضائرة له بل أنها تنم عن حرصه القومي. ثم إن قبولنا التعايش مع عبد الناصر، هو دليل لقوتنا ورفض عبد الناصر لهذا التعايش دليل الضعف والخوف من المستقبل ولثقته بأنه لا يستطيع التنافس مع حركة شعبية أصيلة. إن القوى التي ظهرت خلال الشهور الأخيرة هي في جانب الحزب وحملة الافتراءات الأخيرة خدمت الحزب، وان قوى الحزب تتقدم يوما بعد يوم، ومن الواضح انه لا يمكن أن تقام وحدة بدون حزب البعث العربي الاشتراكي.
1 تموز 1963
(1) حديث في اجتماع المنظمة الحزبية في برلين بتاريخ 1 تموز 1963.
——————————————————-
البعث تعبير عن فكار الجيل العربي الجديد
في الواقع لم يبق لي ما أقوله بعد كلام الرفاق الا القليل(1) لأني وجدت أفكاري وخواطري متمثلة في ما ورد في هذه الجلسة من كلمات، وهذا في نظري وبالنسبة اليَ شيء مطمئن ومريح يؤكد شعورا ليس بالجديد عندي وهو انني استطيع ان اطمئن الى مستقبل الحزب، والى دوره الطليعي المستمر.
المهم ايها الرفاق هو ان نكون في مستوى الظرف التاريخي الذي يعيشه حزبنا وتعيشه امتنا الآن.. ان ننظر بصفاء وموضوعية الى الحاضر والمستقبل. المهم ان نعترف بمشروعية الحاجة العميقة الملحة في حزبنا، وعند شعبنا الى التجديد، والى تجديد هذا الحزب بالذات، في فكره وتنظيمه ونضاله، لانه ملك للأمة العربية وللمستقبل العربي، وليس ملكا لفرد او افراد ولا حتى ملكا لأعضائه المنتمين اليه. هو تعبير عن مصلحة شعب، وعن مستقبل امة وحضارتها وعن مصلحة الانسانية اذا جاز القول. لاننا جزء اصيل واساسي من الانسانية، شرط ان نحرص علي المستقبل –فالمستقبل هو الاساس– وان الماضي جزء من هذا المستقبل وصلته به وثيقة، وان نحن في ظرف تاريخي خطير يجابه حزبنا بتحدّ ليس كالتحديات، يخوض معركة ضد اعداء كثيرين ليس اقلهم شأنا ووزنا وخطرا، ذلك الاتجاه المشوه الثورية، والذي غدا مزيّفا للثورة والثورية. وعلى حزب البعث العربي الاشتراكي ان يصمد في هذه المعركة، ولا يصمد الا بالعمل الايجابي، الا بالبناء، الا بتحقيق الثورة، وبالسير دوما الى الامام. فمن هذه الزاوية وعلى هذا المستوى، وفي هذا الجو، كل تجديد يحظى، او يجب ان يحظى بالتأييد. فالثورة لا تستطيع ان تنتظر ولا ان تتجمد، والخطأ جائز ويمكن ان يُصلح، ولكن الجمود هو الخطر الكبير الذي يجب ان نتحاشاه.
ايها الرفاق
في هذا البحث الفكري العقائدي، ومن خلال اقوالكم، ظهرت ملاحظات وانطباعات وتقديرات، هي صحيحة وعميقة وواقعية، اذا جمعت بعضها الى بعض وتكاملت. فالحزب بحاجة الى تجديد، ولكن للحزب اسماً وماضياً وتاريخاً، ولا يمكن ولا يجوز ان يُبتر وان يُنسى. كما ان لهذا الشعب الذي وُجد الحزب من اجله، اسماً وماضياً وتاريخاً. واذا ظهرت في أقوال بعضكم بعض المخاوف فهي ايضا مشروعة، ويجب ان ننظر اليها في تروٌ وبجدية ودون استخفاف. فبعض المنطلقات الفكرية قد تؤثر على شخصية الأمة نفسها، على وجود الأمة، وعلى وجود الشعب نفسه وعلى قوميته اذا لم ندقق ونتروَ في صحة ودقة هذه المنطلقات.
كذلك في بعض المنطلقات الفكرية، او بالأصح كل منطلق فكري له نتائج عملية، اخلاقية، بالاضافة الى النتائج الاجتماعية والسياسية، وانه ينعكس على أسلوب العمل وعلى اخلاقية العمل. فالشيوعية لها اخلاقها الخاصة بها والذين تثقفوا بالماركسية لهم نظرتهم وسلوكهم المتأثر بهذه النظرية وهذه الفلسفة.. ولشتى الانظمة أساليب في العمل والاخلاق خاصة بكل منها. وامامنا نظام عبد الناصر الذي لم يعط في اعماله وممارساته، وفي علاقاته بالقوى التقدمية الثورية، ومن خلال اجهزة اعلامه، صورة صادقة ونموذجا محببا للأمة العربية وللمستقبل العربي.
كذلك ايها الرفاق لا تنسوا ان حزبنا عندما تأسس قبل ثلاث وعشرين سنة لم يظهر في الصحراء ولم يظهر من العدم وانما وُجد في ظروف تاريخية، ووُجد في بلاد معينة وفي زمن معين، تنمو فيه حركات واحزاب عالمية، تصطرع فيها المذاهب الاجتماعية. وكان الذين بدأوا هذه الحركة، هذا الحزب، يتفاعلون مع معطيات تلك المرحلة، وهنا لا بد ان اقول ما كنت دوما أكرره طوال تاريخ الحزب بان هذه الحركة –حركة البعث– ليست من عمل فرد او افراد، هي صنع جيل عربي، حتى في الفكر نفسه كان التفاعل مستمرا بين اعضاء هذا الحزب منذ بدايته. والفكر الذي سجل في الاحاديث الحزبية وبعض الكتابات الحزبية لم يكن في الواقع اجتهادا شخصيا، بقدر ما كان ترجمة لافكار هذا الجيل. ولعلكم تلاحظون في الكتابات –في كتاباتي انا شخصيا– بأني ما استعملت قط ضمير المتكلم المفرد، وكل الكتابات تتكلم باسم الجيل العربي الثائر، وهذه حقيقة ظاهرة.
كنت اقول بأن هذا الحزب ظهر في زمن معين، في مكان معين، وظهرفي وقت كانت فيه الشيوعية ترشح نفسها كحركة ثورية وحيدة في العالم، وفي البلاد العربية ايضا. ومن البديهي ان أمة تعيش في مرحلة ثورية لا يمكن ان تنحاز او تتبع الحركات الوطنية التقليدية التي كانت قائمة اذ ذاك، او الحركات الدينية او الحركات الاقليمية المصطنعة.. وكل ذلك التفكير السقيم المتخلف الذي كان سائدا في ذلك الوقت والذي كان ينكر المشكلة الاجتماعية ويتجاهلها عمدا وتآمرا منه على مستقبل الأمة.. فكان من الطبيعي اذن ان تلقى الشيوعية التأييد، وان تعتبر المنقذ، ما لم تظهر من اعماق الأمة العربية ومن صميم روحها ومصلحة شعبها والطبقات المحرومة منها، ما لم تظهر الفكرة، العقيدة، الحركة التي تعبر عن الحاجات الثورية الجديدة وتواجه الحركة الشيوعية بما يحفظ للأمة العربية شخصيتها وتوازنها ومستقبلها الحضاري، اذ لا حضارة مع التقليد والتبعية.
هذا ما حققته حركة البعث العربي او ما استهدفت تحقيقه بظهورها، مدفوعة ومحمولة على سواعد الشباب العربي المناضل، كان ظهور الحزب اذن، بحد ذاته تحديد موقف من الشيوعية، موقف رفض، دون ان يكون هذا الموقف رفضا اعمى او رفضا كليا او رفضا سلبيا، لان الذين وضعوا الاسس الاولى لهذا الحزب كانوا ممن درسوا الفكر الماركسي وأعجبوا ببعض نواحيه وبكثير من نواحيه، وكانوا في الوقت نفسه ابناء زمنهم وابناء بلدهم وأمتهم، فلم يتجمدوا عند الصيغة الاولى للماركسية بل اطلَعوا وشاهدوا أكثر الاعتراضات التي وجهت الى الماركسية سواء من ضمنها او من الاخرين وشاهدوا واطلعوا على الردود والتكذيبات العملية التي أتت بها الاحداث كدليل على خطأ او نقص في التفكير الماركسي.
وكل ذلك ما كان يبدو كافيا، لو لم يكن لهؤلاء الاشخاص صلة صادقة بأرضهم وبشعبهم ساعدتهم كثيرا على ان يتحرروا من التفكير النظري ويستلهموا الواقع الحي، فاهتدوا ببساطة وبعمق الى تلك الصيغة، وهي صيغة تاريخية، كما اعتقد وأؤمن، الصيغة التي مثلت عقيدة البعث العربي، اي ذلك الترابط بين الثورة القومية والثورة الاشتراكية. ذلك الاكتشاف الجديد لحقيقة القومية. فالقومية التي كانت رائجة وسائدة في ذلك الجو، لم تكن ايجابية في شيء، ولا جذابة في شيء، وفي هذا يكمن الخطر.. لان الشباب العربي كان مهددا ان يكفر بها، وان ينصرف الى الشيوعية تخلصا من ذلك الجمود ومن تلك المفاهيم البالية.
وكان من اهم أسباب ودوافع رفضنا للشيوعية، بالاضافة الى تجاهلها للعامل القومي، كان رفضنا لها بدافع النفور العميق، النفور العضوي، لأساليبها التطبيقية.
ايها الرفاق
قلت قبلاً بان كثيراً مما كنت أريد قوله، سمعته منكم في هذه الجلسة. سمعت رفيقا يسأل اين كان الشيوعيون في البلاد العربية وحتى في البلاد المتخلفة والمناضلة ضد الاستعمار والتخلف في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية؟؟ اين كان الشيوعيون والماركسيون انفسهم عندما دعت الحاجة التاريخية الى التحرر من هذه الامراض وهذه العقبات، عقبات الاستعمار والرأسمالية.. الخ؟؟ لم يقم الشيوعيون بدور تاريخي في هذه البلدان. وفي الوطن العربي بصورة خاصة برهن الشيوعيون وبرهن الماركسيون على فشل في فهم الواقع، وهذه ليست حقيقة بسيطة نمر بها. صحيح اننا لا نستطيع ان نتجمد عندها ونكتفي باجترارها والاعتداد بها الى الأبد. ولكن من الصحيح ايضا انه لا يجوز ان نغفلها لانها بداية تدل على شيء كثير، تدل على حقيقة ساطعة. ولا يعقل ان تفشل الشيوعية والماركسية في فهم الواقع من سنة 1940الى 1960 او 1963، ثم فجأة تصبح قادرة على فهم هذا الواقع.. وعندها نوليها ثقتنا التامة. كما وان تفكير البعث يكون صالحا لفهم هذا الواقع مدة عشرين سنة، ثم تفسد هذه الحاسة وهذه القدرة وتبطل. هذا شيء فيه تناقض.
وكما قال عديد من الرفاق، كان حزبنا منذ اليوم الاول لتأسيسه ولبدء عمله، الكثيرون من افراده –لا فرد ولا اثنان ولا ثلاثة وربما الكثيرون– الذين انضموا اليه، كانوا مطلعين على الافكار الماركسية وكانوا ينظرون اليها بحرية تامة وبدون اية عقدة وبدون اي تحرج، ولكنهم كانوا يعرفون مواقفها ايضا ويتجنبون ما فيها من خطأ.
من اهم مميزات هذا الحزب، ان فكره كان دوما فكرا حرا، فكرا منفتحا وواقعيا، ومن الظلم وعدم الفهم اتهام الحزب بالمثالية الفكرية وبالخيالية وبالغيبيات وغير ذلك. في اللجنة العقائدية شعرت بهذا التجني على فكر الحزب وعلى تاريخ الحزب، فاعترضت دون ان أغمط واضعي التقرير حقهم فيه وجهدهم المشكور. ولكني استوضحت منهم اين وجدوا الافكار المثالية والغيبية والقدرية وغير ذلك؟؟.. اين وجدوا ان الحزب كان يتجنب الصراع الطبقي؟ اين وجدوا ان افكار الحزب فيها ما يوصل الى جعله وسيطا بين الطبقات كما جاء في الصيغة الأولى للتقرير؟.. اين وجدوا في افكار الحزب ما ينفي التطور العلمي لمفهوم الأمة واشياء من هذا القبيل؟.. لقد أشرت الى ان صيغة التقرير وضعت بتسرع وبخفة، وربما بدوافع هذا الاستسهال، للطعن بماضي الحزب وبنضاله والذي، كما يبدو، قد أصبح مركبا سهلا يتجرأ عليه وينال منه اي كان.
قلت للاخوان في اللجنة العقائدية، ان هذه الافكار التي جاءت في التقرير، فيها الكثير من الصحة وفيها الكثير من النفع للحزب، وفيها ايضا تجاهل لتراث الحزب وبتر لبعض جوانبه الايجابية، وفيها بعض الغربة عن جو الحزب وجو نشأته الاولى. ان يكون واضع او واضعي التقرير العقائدي بعيدين نسبيا عن الحزب، هذا نقص، الا انهم في الوقت نفسه يمكن أن يبدوا ملاحظات قيمة قد لا يراها الذين يعيشون باستمرار في جو الحزب ويصعب عليهم ان يروا فيه أي نقص واي خلل. فالنظرة من بعيد لها حسنات وهذا ما قدرته في التقرير. ولكن النقص ايضا يجب ان نشير اليه. لا اعلم اذا كان الحزب عاجزا عن ان يضع هذه الدراسة من خلال تجربته الكاملة، وان يضعها وان يشترك فيها الذين عاشوا هذه التجربة..؟
وعلى اية حال، انه لخطأ القفز الفجائي الى افكار ومبادئ وقيم دون التمهيد لها، ودون التوقف والتوسع بالمنطلق الاول للحزب، وفي المميزات التي تميز بها حزبنا والتي كانت عاملا اساسيا من عوامل بقائه واستمراره طوال هذه السنين، ونجاحه في جميع المعارك النضالية التي خاضها، لأنني لا أعرف ان حزبنا قد فشل في معركة من المعارك. واذا ما ذكرت وحدة 1958 وذكر حل الحزب كشيء سلبي في تاريخ حزبنا وخطأ كبير، فأنا قد اوافق على انه خطأ، ولكني في الوقت نفسه اقول ان هذا الخطأ كان اعظم وأمجد من كل الاعمال الصائبة التي قام بها الحزب، وانه لم يكن خطأ بسيطا ولم يكن مجرد خطأ. اذ أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب للوطن العربي كله، وكان منتشرا في أقطار عديدة… والموافقة على حله اضطراراً في سورية او في الجمهورية العربية المتحدة آنذاك، لم يكن يعني بشكل من الاشكال ان حزب البعث قد حُل وانتهى وجوده، بل كان ذلك اعتمادا على وجوده في الاقطار الأخرى. وانه بالتالي لا يمكن ان يحل حزب البعث طالما انه موجود في العراق وفي الأردن وفي لبنان وفي شتى اقطار الوطن العربي، وهذا كفيل بإرجاعه الى الجمهورية العربية المتحدة نفسها. لقد كان حل الحزب في ج.ع. م. مجرد تسهيل لتحقيق عمل تاريخي، هو اقامة الوحدة بين قطري مصر وسورية آنذاك، واذا كان الحزب جديرا بالحياة، وجديرا بفكرته ورسالته فلن يعجز عن اعادة تنظيمه.
ان بقاء حزبنا حتى هذا اليوم واجتماعنا في هذا المؤتمر ونجاح الثورة في العراق وفي سورية لدليل على ان ذلك الخطأ في عام 1958 كان يتضمن ايضا، الى جانب الخطأ، رؤية واسعة ثاقبة عميقة، رؤية تاريخية. وان المستوى الذي ساهم حزبنا، عندما حقق وحدة 1958، في نقل النضال العربي اليه، قد عاد بالنفع على الحزب نفسه. وقد برهنت الاحداث على صحة ذلك. فالحزب الذي يقدّر الضرورة التاريخية لتحقيق بداية للوحدة العربية، لا يمكن ان يستكين للانفصال.. لقد وقف المواقف المشرفة وناضل النضال الاصيل، حتى قضى على الانفصال وحتى حقق الثورات واستلم الان مسؤوليات تاريخية تجاه الشعب العربي كله.
ايها الرفاق
عندما نذكّر بماضي الحزب وبنشأة الحزب لا نعني ان حزبنا في فكره وفي تنظيمه وحتى في نضاله، نضاله الصادق العنيد الدؤوب، لا نعني انه بلغ الكمال، بل بالعكس، انا أكثر الناس شعورا بالفارق الكبير بين ما تمنيناه وبين ما تحقق. كنا وما نزال نتمنى مصيرا اعلى واعظم لحزبنا. ومن ناحية الفكر اقول: بان الفكر البعثي أصيل، ولكنه بحاجة الى توسيع والى تفصيل والى صياغة علمية تنقله من هذا الشكل العفوي الذي ظهر فيه –واسباب ظهوره بهذا الشكل معروفة– فنشأة الحزب الطبيعية الصادقة جعلته مختلفا عن الاحزاب التي تنشأ بعد مؤتمرات ونتيجة مقررات وتبادل آراء. او تنشأ بعد كتابات تكتب في الغرف ووراء المكاتب. ان كل شيء كتب او قيل في هذا الحزب كتب وقيل اثناء النضال، ولم نعرف في حزبنا كاتبا لم يكن مساهما في النضال، لم نعرف مفكرا الا كان في الوقت نفسه واحدا من المناضلين الذين دفعوا من راحتهم وراحة ذويهم ثمن كل كلمة قالوها او كتبوها.
يجب ان نتذكر دوما ما هي الميزات الروحية والخلقية التي ساهمت في دعم نضال الحزب وصموده واستمراره. منذ بداية عملنا قبل عشرين سنة، ومن الأحاديث التي قيلت في بداية تأسيس الحزب والتي كانت في منتهى البساطة، لا صناعة فيها ولا براعة، حديث عن التفكير المجرد.. لعلكم تذكرونه.. كان هذا مستمدا من واقعنا ولم يكن ترفا فكريا وإنما كان يعبر عن واقع، ويعبر عن حاجة، ويعبر عن خطر، وعن مرض كان متفشيا. تعرضنا فيه للثقافة المجردة، وقصدنا الثقافة الماركسية، بصورة خاصة، والثقافة الغربية بصورة عامة. منذ ذلك الحين كنا نصطدم بنوع من الثقافة غير المتفاعلة مع واقع بلادنا وشعبنا.. تبدو انها مضبوطة، صحيحة، موضوعية، علمية، دقيقة.. الخ. ولكنها في المحك وفي التجربة تبدو انها مغلوطة وفيها نقص خطير. في ذلك الحديث تحذير من الثقافة المجردة، والمثقفين المجردين الذين كانوا يجهلون كل شيء عن بلادهم وعن شعبهم وعن تاريخهم وتاريخ أمتهم، عن تقاليد شعبهم، عن جو الشعب.. ثم يؤسرون اسراً لنظريات غريبة يمكن ان يكون فيها فائدة عظمى لقضيتنا وقضية شعبنا اذا تناولها اناس مرتبطون بهذه الارض وبمصلحة هذا الشعب. وتصبح هذه النظريات خطرا كبيرا اذا تسلمها اشخاص فاقدون لهذه الصلة الحية بالارض والشعب.
وهذا ايضا جدير بان نتذكره اليوم خاصة واننا نشعر فعلا بحاجتنا الى مزيد من الاستفادة، من الماركسية وغير الماركسية. والى جانب ذلك يجب ان نتذكر الشروط الاساسية التي تقينا الوقوع في خطر التفكير المجرد، وخاصة ان بيدنا مسؤوليات ضخمة، فالخطأ البسيط في مثل هذه الظروف قد تكون له نتائج سلبية مؤذية.
ليس من الامور الكمالية، ليس من الامور الثانوية ان نطلب من الذين يتسلمون مقدرات شعب وبلد ان يكونوا متصلين ومنغمسين بروح شعبهم وبتاريخه ولغته وآدابه، لان في هذا ثروة نفسية روحية اخلاقية تعصم من كثير من المزالق وتدفع الى كثير من المواقف المشرفة والبطولية والاعمال المجيدة. اما التفكير الذي لا دم فيه ولا لحم ولا روح فهو تفكير خطر، تفكير لا انساني. وميزة هذا الحزب انه لم يأخذ القشرة السطحية من قضية الشعب، من قضية الأمة العربية، لم يأخذ فقط الناحية السياسية والناحية السياسية والناحية الاقتصادية والوحدة العربية وغير ذلك، وانما تناول الانسان العربي، لان الانسان العربي هو الاساس وهو البنّاء والمحقق لكل هذه الأهداف… الانسان العربي له روح وعاطفة وأخلاق وذاكرة وأواصر، وبالتالي كان الحزب على تواضع إنتاجه الفكري –وهذا مؤسف– لا يقتصر على تناول النواحي السياسية والاجتماعية، وانما كان يتعرض، ولو بغير اسهاب، لمشاكل الفرد العربي، الانسان العربي: تعرض للدين وتعرض للاخلاق وتعرض للثقافة وللفن، وهذا مطلوب الآن أكثر من اي وقت مضى.
وهنا اريد ان أصحّح قولا سمعته ولم اقتنع به، قول أحد الرفاق، بان الغموض الفكري في حزبنا كان سببا للانشقاقات التي حصلت فيه! فما قول الرفيق في الانشقاقات التي لا نهاية لها التي حصلت وتحصل في الاحزاب الشيوعية والماركسية؟ فهل هذا نتيجة غموض فكري في الماركسية، ام ان هناك اسبابا وعوامل أخرى؟؟
ايها الرفاق
في اللجنة العقائدية حاول احد الرفاق ان ينسب لي شيئا من الادعاء عندما ذكر عن لساني اني قلت: انا الذي وضعت افكار الحزب أو عقيدة الحزب. والذي حصل، ايها الرفاق، اننا في اللجنة العقائدية، بعد ان قرأنا التقرير ورأينا بعض الافكار التي اشرت اليها الآن، اي اننا رأينا تزويرا وتحريفا وابتعادا عن الانصاف، قلت: اين توجد هذه الافكار في الحزب؟.. اين هي الكتابات التي تستوجب مثل هذه الاحكام؟ لنأت بشواهد.. لنأت بأدلة. انا اعرف ما كتبت واعرف ايضا بان الرفاق الحزبيين في استفاداتهم العقائدية انما يستندون الى كتاباتي، من كتابات الاربعينات وما قبلها، الى الكتابات الاخيرة، وذكرت لكم امثلة وشواهد: عناوين مقالات وبالتحديد عبارات في هذه المقالات ليس فيها ما يدل على تفكير مثالي وابتعاد عن النظرة العلمية وانكار للتطور. بل على العكس، من المقالات الاولى هذه في سنة 1941 مقال معروف: القومية العربية ليست لفظا مجرداً بل هي حقيقة حية، وفيه تحطيم لكل تفكير مثالي او إنكار وتنصل من كل تفكير مثالي. فبهذا المعرض ذكرت القول، وعندها سمعت احد الرفاق يقول بان المقصود هو الدستور، الذي عبر عن فكر الحزب والذي وردت فيه بعض الاحكام الغيبية. وعندها اجبت ان الدستور هو العمل الوحيد الجماعي في الحزب، من الناحية الفكرية طبعا، وان عدة أطراف ونزعات قد أثّرت وسجلت افكارها في هذا الدستور.
وختاما، ايها الاخوة، اقول بان الخط العقائدي أمر خطير لا يجوز الاستخفاف به. هناك حاجة ماسّة في الحزب الى بعض المنطلقات الفكرية وبعض التسهيلات التي تساعد الحزب على العمل، ولا يجوز ان نتجاهل هذه الحاجة، ولا يجوز ان نتأخر في تلبيتها، ولكن لا يجوز ان نتسرع في بعض الافكار الاساسية التي قد تهدد قوميتنا بوجودها او تهدد اخلاقية الحزب.
12 تشرين الاول 1963
(1) كلمة في الجلسة الثانية في جلسات المؤتمر القومي السادس (مناقشة مقدمة التقرير العقائدي)
—————————-
لقد نفذ حزبنا الى ضمير الشعب
ايها الرفاق(1)
إنني اشعر بواجب ملحّ نحو الحزب. ان الذي يدعوني الى الكلام في هذا الموضوع قد يختلف بعض الشيء عن الاعتبارات والنظرات التي يراعيها بقية الرفاق. ذلك اني رافقت هذا الحزب منذ بدايته، رافقته عمرا، وكانت لي مساهمة في وضع افكاره، وهذا لا أقوله على سبيل الفخر ولكن من قبيل تقرير واقع. وقد يعتبر بعضكم ان هذه الافكار لم تعد تلائم المرحلة الجديدة، ولكل رأيه. على اية حال هنالك واقع حي وهو انني رافقت هذا الحزب منذ بدايته وكانت لي من الناحية الفكرية بصورة خاصة مساهمة اساسية. فمن الطبيعي اذن، ومن المشروع، عندما أرى ان الحزب قد انتقل من مرحلة الى مرحلة جديدة في بعض الاقطار، وهي مرحلة الحكم، ومرحلة البناء الاجتماعي، والبناء القومي وانه تبعا لذلك يريد ان يتجدد وان يلبي حاجة التطوير والتجديد في افكاره وفي انظمته، وانه عندما تلتقي إرادة تلبية هذه الحاجة مع وصول الحزب الى الحكم في هذين القطرين، اعتقد انه من المشروع لواحد مثلي، في الظروف التي ذكرتها، ان.يتنبَه ويحذَر، وان يشعر بالواجب الملحّ لتحذير رفاقه وإخوانه، فانتم ستتابعون نضال هذا الحزب، وقد لا ترونني بعد اليوم بينكم. هذه اذن مناسبة لكي توجهوا انتم اليّ الاسئلة وتستوضحوا عن الاشياء التي تخفى عليكم وتترك التباسا في اذهانكم، لا ان يضيق بعضكم ذرعا بكلامي.
ايها الاخوة
اكررّ وأقول انني عندما تكلَمت في هذه الجلسة لاول مرة، تكلمت وانا اقصد مقدمة هذا التقرير. لم اقصد الباب الذي يتحدث عن الاشتراكية والذي اقول بصراحة إنني لم اطلع عليه الاطلاع الكافي. حضرت في اللجنة العقائدية قسما من المناقشة في هذا الباب ولم اعترض على شيء او ربما كانت لي اعتراضات بسيطة، لا أذكر. واليوم أقول لكم، انه ليس لي اعتراض على هذا الباب، باب الاشتراكية. قد يكون في كليته وفي تفاصيله مطابقا لأفكاري. ولكني معترض اعتراضا جديا على المنطلق الذي انطلق منه هذا التقرير، والذي سُجل في المقدمة. فأنا اعترضت اعتراضا عاماً في اللجنة العقائدية على المقدمة، وعلى روح التقرير بصورة عامة وجئت الى المؤتمر وأعدت اعتراضي بنفس الشكل.
واني بصورة عامة، مع تقديري للجهد المبذول في التقرير ولكثير من الافكار الواردة فيه الا أن المنطلق الذي انبثق منه اعتبره مختلفا عن المنطلق البعثي. لذلك عدت مرة أخرى الى إثارة هذا الموضوع خوفا من ان يمر دون الاهتمام اللازم. لأني لاحظت في الجلسات السابقة أن التعب حيناَ واعتبارات أخرى احيانا، تدفع المؤتمر الى التسرّع باقرار اشياء دون التدقيق المطلوب.
ولقد صارحتكم، وقلت لكم، ان المسألة هي مسألة قومية شعب، مسألة تاريخ امة، حضارة امة، حياة شعب عظيم مجيد مناضل. يجب ان توسعوا أفقكم وان تنظروا الى شعبنا والى الاقطار والاجزاء التي ما زال الاستعمار مسيطرا عليها وما زالت الرجعية فيها تضطهد الشعب وتعذبه، وما زال النضال فيها عسيرا جدا. ماذا يربط هذا الشعب المتناثر في اراضي واسعة وأجزاء عديدة.. ماذا يدفعه ويحفزه ويجدد إيمانه بالنضال غير هذه القومية؟؟ لقد عاش حزبنا تجربة عشرين سنة وهو يحرك الجماهير العربية باسم القومية، وباسم العامل القومي بالدرجة الاولى، وبالاشتراكية -أسمح لنفسي ان اقول– بالدرجة الثانية. ونأتي في هذا المؤتمر لنقر مبادئ وافكارا تنفي عن القومية صفة العلمية! فماذا بقي من القومية اذن؟ هل هي عاطفة فقط؟ او هي خرافة؟ ام انها رواسب ستزول؟ اذا كانت الاشتراكية فقط هي العلمية!
هل يكفي، ايها الاخوة، ان نقفز مثل هذه القفزات متوهمين ان التضحية بشخصية الأمة، بقوميتها، او مجرد تعريض هذه الشخصية، هذه القومية للاهتزاز، وللشك.. هل تكفي ضرورات الحكم، الضرورات التي يواجهها المسؤولون الآن في القطرين اللذين يحكم فيهما الحزب لكي نقدم بخفة واستخفاف على القفز من فوق هذه المبادئ الاساسية التي هي بالنسبة الى شعبنا بمثابة الروح للجسد؟
او هل هذا هو شرط حقيقي لكي ينطلق الحزب ويبني الثورة الاشتراكية؟ هل الحزب لا يستطيع ان يبني الاشتراكية الا اذا ضحى بالقومية؟ لا هذا وهم، هذا تقليد سطحي، هذا عجز مع الأسف، عجز عن بذل أي جهد ثقافي وفكري، وتهويل وانقياد لآراء الآخرين، وتأثر باتهام الشيوعيين لنا باننا متخلفون وان افكارنا غير علمية، او التأثر بدعاية اجهزة عبد الناصر. انه بسهولة وبدون تقدير دقيق لخطورة هذه الأمور نظن اننا لا نستطيع ان نكون اشتراكيين الا اذا جرحنا قوميتنا، لا نستطيع ان نلبي حاجات الجماهير الا اذا غيرنا منطلقاتنا. لماذا؟ ألم ينجح هذا الحزب في كسب ثقة الجماهير طوال هذه السنين؟ ألم ينفذ الى قلب الشعب الى ضمير الشعب، وأفكاره هي هي؟
أقول بصراحة، ايها الاخوة، اننا حتى في نضالنا السابق لم نصل الى أعماق الشعب العربي كما كان يجب ان نفعل ذلك. بقينا مقصرين عن ولوج أعمق أعماق شعبنا. كان واجبنا ان نقرن ثوريتنا الأصيلة العميقة الحاسمة، التي لا تدانيها ثورية، والتي تظهر ثورية الشيوعيين امامها مصطنعة، كان يجب ان نقرن ثوريتنا بمعاناة حية لجميع اشكال وأنواع الحياة التي يعيشها شعبنا العربي. لقد حاولنا نصف المحاولة، وقصّرنا عن النصف الآخر.
لا اعتقد أني أبالغ اذا قلت ان في ضمير كل واحد منا ومن اعضاء حزبنا غصة كبيرة، لأننا لم نندمج اندماجا تاما بالشعب خلال نضالنا. بقي الشعب ينظر الينا، مع ثقته بنا، باننا طبقة أرقى منه او مختلفة عنه. ان هذا الشعب ذو التاريخ العريق، والذي يريد ان يبني له مستقبلا اعرق وأمجد، له، ككل شعب، تقاليده ومعتقداته، له حياته الروحية ولغته وآدابه. وقد قلت في كلمتي الاولى في هذا المؤتمر باننا لم نحسن الاندماج في كل ذلك وقصرنا عن الدخول في الجو الشعبي الاصيل!!
ايها الاخوة
روى لي مناضل ونقابي عاد مؤخرا من الصين الشعبية حديثا عن تجربة الصين قال: تستغربون ان ماوتسي تونغ وزعماء الصين يحافظون على الطب الشعبي الى جانب الطب العلمي. والطب الشعبي أكثره مداواة بعيدة عن العلم، فلقد بلغ بهم حبهم للشعب وتغلغلهم في نفسيته وأعماقه وروحه هذا الحد، حتى لا يصدموه، ولا يجرحوه في أعمال ومواقف تبدو وكأنها جرح لكبريائه. لا بل أرى في هذه المحافظة على الطب الشعبي عندهم، اكثر من الحب للشعب، ارى فيها تقديرا للشعب ولقدرته الابداعية، وقد يكون في هذا الطب الشعبي من القواعد العلمية ومن الاشياء التي اذا دُرست، لتكشفت لنا جوانب من العلم.
انا افهم النضال الثوري بهذه الروح. ليس بالروح السطحية، ولا بالاطلاع على السياسة، وعلى بضعة ألفاظ وبضعة أساليب، وليس بالتناحر وبأسلوب السب والشتم للأعداء وللخصوم، ثم لا يلبث الأمر حتى ينتقل هذا الداء الينا ويتفشى في اوساطنا، ويبدأ سوء الظن والشك الى غير ذلك من الأمور.
ثورة البعث ارادت منذ البدء ان تأتي بعنصر روحي. الى أي حد توفقت؟ هذا شيء آخر. واقول أن هناك تقصيرا، وكلنا مسؤولون، ولكن هل هذا يكفي لكي نيأس من ذلك الطموح الذي غذى نضالنا منذ البدء؟ هل يجوز لنا ان نتخلى عن ذلك المطمح الاول؟
ايها الاخوة
اذا اردنا اذن ان ننظر للمسألة بجوها الصادق الصحيح، الحزبي، اللائق بحزبنا، فلننظر اليها بعيدا عن الاعتبارات الأخرى، عن الانفعالات او الانقسامات او اي شيء آخر، لانها مسألة حيوية.. مسألة شخصية هذه الأمة، مسألة روح النضال لأجزاء من شعبنا هي اليوم جديرة باهتمامنا اكثر من الماضي. اذا كان حزبنا قد وصل الى الحكم واصبحت لديه وسائل، فهذا يلقي على عاتقه مسؤوليات كبيرة هي ان يضاعف اهتمامه بالاجزاء غير المتحررة، بالاجزاء التي لا زالت تناضل وتقاسي وتقاتل الاستعمار.
وباعتقادي اننا نستطيع ان نتفق على افكار وتعديلات ضرورية ومفيدة، ندخلها على عقيدة الحزب وأفكاره، وتكون مساعدة لنا في عملنا المقبل دون ان نتعرض، ونمس، هذه القضية الاساسية. ولست مبالغا اذا قلت ان بعض هذه المنطلقات يهدد قومية الحزب، وقد ظهر ذلك في المقدمة، وظهر ايضا في كلمات بعض الاخوان.
لقد اشرت قبلا الى الكلام الذي ينفي العلمية عن القومية، وهناك قول آخر ورد في المقدمة ومفاده ان تعديل الشروط الاقتصادية هو نقطة انطلاق لتغيير الجوانب الأخرى من الحياة الانسانية. وانا لا اقول ان نضال عشرين سنة يدحض هذه الفكرة، وانما اقول أنه يجعلها ناقصة. لو كان العامل الاقتصادي هو المحرك الاساسي الوحيد، لما كان هناك حزب البعث، لان حزب البعث منذ اليوم الاول لتأسيسه، وكتاباته تشهد كما يشهد نضاله، نظر الى العوامل الأخرى لتطور المجتمعات، مع انه يعتقد ان العامل الاقتصادي هام جدا وأساسي، ولكنه ليس العامل الوحيد. وقد ذكر أحد الرفاق في تحليله لثورة الجزائر انها هي ايضا ثورة اقتصادية. وفسرها هذا التفسير المادي، واعترض بعضكم على هذا القول، فاذا نحن استعجلنا، ولم نتأن، فقد تتغلب بالتالي أفكار تؤدي الى نفي القومية بعد أشهر او بعد سنة!!
اقول اخيرا للاخوان الذين انتقدوني، أني اشكرهم على نقدهم وأتقبله منهم، اعذرهم اذا بالغوا أو اخطأوا التعبير. فانا في اللجنة العقائدية لهذا المؤتمر، وبالضبط في التعديلات الأخيرة للتقرير، لم اشترك فيها ولم أرَ الصيغة النهائية. وفضلت ان أوضح افكاري وملاحظاتي في المؤتمر، لانها تستوجب أن يهتم بها وينتبه اليها ويشترك في مناقشتها الجميع، وليس لجنة مؤلفة من خمسة أو ستة أعضاء فقط.. هذا الى جانب ان الافكار لا تحضرني دفعة واحدة، بل أنتبه الى بعض الاشياء واقولها، ثم انتبه الى غيرها في حين آخر فأقوله. وما آمله من هذا المؤتمر ان يعتبرني كما قلت وطلبت شاهداً على نمو هذا الحزب، وسوف لا اكون مرتاحا اذا أبقيت شيئا لم أقله، وربما انتم ايضا ستأسفون في المستقبل، اذا لم تسمعوا مني نتيجة تجربتي في هذا الحزب.
16 تشرين الاول 1963
(1) كلمة في الجلسة السادسة من جلسات المؤتمر القومي السادس (تشرين الاول عام 1963) مناقشة عامة للتقرير العقائدي.. وجدير بالذكر ان المؤتمر قرر ترك الصياغة الجديدة لمقدمة التقرير العقائدي للرفيق الأمين العام الأستاذ ميشيل عفلق.
——————————–
الإشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية
ايها الرفاق (1)
عندما اعترضت على القول بان التعديل (2)، كان يقصد منه تعديل النظام الداخلي والدستور ايضاً، فإني في الحقيقة اعترضت على اسلوب المناقشة في هذا المؤتمر، الذي هو أسلوب غير رصين في إعطاء المعلومات الحزبية، ولم اقصد مطلقا الشق الثاني من الموضوع وهو حاجة الحزب الى تطوير وتجديد افكاره النظرية، فهذا موضوع آخر. لقد قلت عندما علقت على التقرير العقائدي بان هذه حاجة صادقة وعميقة ولا يجوز ان نتجاهلها.
إلا انه في الوقت نفسه، من واجب المؤتمر القومي وواجب كل حزبي أن يقدِّر خطورة اي تعديل يطرأ على عقيدة الحزب. التطوير والتعديل والتجديد، أشياء مشروعة ومطلوبة. ونظراً لخطورتها ولأنها تتناول أهم شيء في الحزب، وهو عقيدته، فقد نص دستور الحزب على قيود استثنائية صارمة لكيفية تعديله. فالتطرق لهذا الموضوع اذن ليس الاّ للفت انتباه المؤتمر الى خطورة القضية والى انه، مع شعورنا التام بضرورة تجديد العقيدة، يجب ان نتأنّى في هذه القضية وان ندقق والاّ نسمح بأن تمرّ أفكار غريبة عن الحزب، بحجّة التجديد.
لقد قال احد الرفاق بعد أن رجع الى الدستور: ان المبادئ الاساسية والعامة لا ُتعدّل. ومن هذه المبادئ العامة: ان حزب البعث العربي الاشتراكي –وكان اسمه “البعث العربي“- حزب اشتراكي وأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية (3). هذا الشيء الذي وجده الرفيق في الدستور ويريد أن يتذرّع به، للمضي في الموافقة على الافكار الجديدة، هو نفسه يدعونا الى مزيد من التأني والتروّي. فالدستور يقول بأن الاشتراكية هي من صميم القومية العربية، والتقرير العقائدي لا يقول ذلك. مقدمة هذا التقرير لا تقول بأن الاشتراكية هي من صميم القومية العربية، بل يكاد الامر ان يكون معكوسا. وفي هذه المقدمة قول آخر هو ان حركتنا علمية لأنها اشتراكية، اي انه نفى صفة العلمية عن القومية، وهذا شيء خطير. فالاشتراكية -حسبما ورد في المقدمة- هي وحدها العلمية، ونحن نعلم ان حزبنا هو حزب عربي اشتراكي. لو ان الرفيق طرح لنا المادة التي تسبق هذه المادة، وهي عن القومية العربية (4)، لرأينا الفرق واضح بين بعض الافكار المطروحة الآن وأفكار الحزب التي سجلها وثبتها في الدستور. فالمادة عن القومية العربية تقول ان القومية العربية حقيقة حية خالدة. وطبيعي أن ثمة فرقا ً شاسعا بين إعتبار القومية مرحلة، وبين اعتبارها حقيقة خالدة.
واعتقد اننا نستطيع جميعا ان نواجه الضرورة المشروعة، الملحة، لتطوير عقيدتنا، دون ان نمس الأسس، التي اذا مسسناها واضعفناها، لا نضمن بقاء هذا الحزب بعد مدة قصيرة من الزمان.
وأخيراً أريد أن أنبه الرفيق الى هذا الاسلوب في تفسير النوايا، وفي التعريض واتهام الآخرين بعرقلة تطوير عقيدة الحزب. فهذا باب لا يجوز أن يُفتح في المؤتمر. ومن واجب رئاسة المؤتمر ان تمنع كل عضو من الكلام عندما تخرج منه مثل هذه الألفاظ، لأنه لو ُفتح مثل هذا الباب لكان من السهل جدا ان نكشف النوايا الانتهازية والوصولية والنزّاعة الى السلطة، والمتسترة بأمر العقيدة وتجديد العقيدة.
16 تشرين الاول 1963
(1) كلمة فى الجلسة السا دسة من جلسات المؤتمر القومي السادس (مناقشة باب الاشتراكية من التقرير العقائدي).
(2) الاشارة هنا تتعلق بقرار المؤتمر القومي الخامس حول الاكثرية المطلوبة للتعديل.
(3) المادة الرابعه من المبادئ العامة.
(4) المادة الثالثة من المبادئ العامة.
———————–
الإشتراكية والحرية
ان التساؤل (1) الذي وجِّه في هذه الجلسة من المؤتمر حول: أي من الشيئين هو تابع للآخر.. القومية ام الاشتراكية؟.. وأيهما يأتي قبل الآخر؟ يشبه مناقشة اللاهوتيين…
يكفي اننا اكتشفنا حقيقة أساسية واعلناها، والتجربة برهنت على ان القومية حقيقة حية، وأنها عندما ُتدعم بالاشتراكية تعطي نتائج ثورية هائلة، لم تعطها الاشتراكية عندما كانت منفصلة عن القومية.
وفيما يتعلق بالتسمية: اشتراكية عربية. لم تكن هناك نظرية خاصة عن الاشتراكية.. هي النظرية العربية، وإنما اردنا من هذه التسمية التأكيد على حقيقة القومية. وهذا شيء اساسي وخطير، وشيء سبقْنا فيه الجميع. يجب ان يعرف الحزب هذه الميّزة فيه… ولقد كان المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي في سنة 1956، اول من اعترف بهذا الخلاف فيه، ويوغوسلافيا عمليا ً كانت أول من واجهت هذه العقبة في سنة 1948 منذ نشوب خلاف بينها وبين الاتحاد السوفياتي في عهد ستالين. ولكن الحزب، حزب البعث أعلن هذه الحقيقة منذ سنة 1941، لم يأتِ بها من كتب الفلسفة ولا من الفلسفات النظرية ولكنه استمدها من الواقع الحي، لان الحزب الشيوعي كان يحاول ان يجعل من القضية العربية تابعا ً لمصلحته، ان يجعل تحرر مئة مليون عربي من الاستعمار، وتحررهم من التخلّف ومن الرجعية أمراً تابعا ً لقضية الشيوعية العالمية. ولقد استطعنا ان نحل مشكلة حية، ومشكلة خطيرة في حياة امتنا العربية، وهي أننا استطعنا ان نكون اشتراكيين، واشتراكيين ثوريين وصادقين وان لا نكون تابعين للحزب الشيوعي. إلاّ انه بقي فراغ لم يملأ – ُترك فراغ لكي تعطي التجربة العربية مفهوما ً جديداً وُمعمّقاً للاشتراكية. والملاحظة التي اشار اليها الرفيق شبلي ملاحظة جوهرية، وقد أُشير اليها في بعض كتابات الحزب، وهي علاقة الحرية بالاشتراكية. كانت تجارب الدول الاشتراكية وخاصة في الاتحاد السوفياتي أمامنا منذ تأسيس الحزب، ثم أعقبتها تجارب الاشتراكية في دول اوروبا الشرقية، وكانت هناك مأساة انسانية كبيرة في هذه التجربة، ولقد كان شعورنا ان من واجبنا كجزء من الانسانية، ان نبحث ونفتِّش ونجرِّب لنوفق بين الاشتراكية والحرية، حتى لا تكون الاشتراكية على حساب الحرية، وحتى لا تكون سعادة المجموع على حساب حرية وكرامة الفرد، ففي ذلك تناقض غير مقبول. فلا يعقل ان تصل الانسانية الى السعادة، السعادة الانسانية، اذا كانت حرية الانسان وكرامة الانسان ممتهنة.
بقي اذن فراغ، كما قلت، فراغ لملء التجربة، وتملؤه العبقرية العربية النضالية باعطاء التفصيلات والشروح التي تربط الحرية بالاشتراكية. وإن مجرد ترك هذا الفراغ، مجرد الإشارة الى ضرورة الموضوع من الناحية الانسانية ُيميز الحزب، حتى لو لم يصل الحزب في كتاباته الى افكار جديدة في هذا الموضوع. ولكن الإلحاح على هذه الناحية يميزه فعلا.
حتى إنني في مباحثات القاهرة مع عبد الناصر قلت: أننا نحن ُنقيم للحرية وزن اكبر وأهم ممّا يوليه النظام الناصري. ويظهر من بعض المقاطع في الميثاق الوطني، وفي كتابات بعض الناصريين، بأن الحرية او الديمقراطية تأتي نتيجة لتطبيق الاشتراكية، في حين ان الحزب يضع الحرية مع الاشتراكية، وكشيء مستقل. وهذا يفرّق في الواقع نظرتنا عن النظرة الماركسية والشيوعية. وهذا لا ينفي التفاعل بين الحرية والاشتراكية. بالعكس، أكد الحزب دوما على هذا التفاعل.. أي انه عندما نمضي في التطبيق الاشتراكي تتطور الحرية. فالحرية الملازمة للاشتراكية، شيء معترف به، ولكن تبقى الحرية شيئا مستقلا، شيئا قائماً بذاته.
وفي سؤال لأحد الرفاق: هل نقدر ان ننْسب الاشتراكية الي القومية؟ هل نقول الاشتراكية العربية ام الطريق العربي للاشتراكية؟
جواب: انا افهم من الاشتراكية العربية هو الطريق العربي الى الاشتراكية.
16 تشرين اول 1963
(1) كلمة ثانية في الجلسة السادسة من جلسات المؤتمر القومي السادس عند بحث باب الاشتراكية في التقرير العقائدي.
——————————
القطرية وشهوة السلطة خطران على الحزب
كنت دوما اقول ان الذي يهدد الحزب خطران او نزعتان هما (1): القطرية، وشهوة السلطة او الوصول الى الحكم. ولقد ظهر هذان الخطران او المرضان منذ سنين. وأستطيع أن أقول أن النزعة القطرية في الحزب، اي تمرد القيادة القطرية على الإشراف القومي، أي إشراف القيادة القومية، هذه النزعة تتصل بالمرض الثاني أي النزوع الي السلطة. فعندما تبدأ القيادة في قطر ما، تضيق ذرعا بإشراف القيادة القومية، لا بل تضيق ذرعاً بالمنطق القومي للحزب، فهذا يدل بشكل صريح او ضمني على ان في القيادة القطرية وفي العمل القطري استعجالاً في الوصول الي الحكم قبل الأوان، لأن إشراف القيادة القومية وتطبيق المنطق القومي يحتم اجتياز مراحل معينة من النمو في القطر، ومن الالتزام بخط الحزب القومي حتى يصبح الوصول الى الحكم بشكل صحي، و بشكل طبيعي..
وأذكر بان نشرة قومية كتبتها في أوائل عام 1953 عن الوحدة العربية، وقدمت لها بمقدمة تصور هذه الأعراض في الحزب، وكنا نقصد بالواقع الريماوي في الاردن، ومحاولاته الاستئثار بالعمل القطري بغية الاستعجال للوصول الى الحكم. وكانت تلك النشرة أول نشرة للقيادة القومية، اذ قبل ذلك كانت قيادة قطر سورية هي القيادة القطرية والقومية في آن واحد..
إلاّ أن الذي كان يتجلى دوما، او أحيانا، ان الاعضاء الذين كانوا يشتركون في الحكم كانوا يريدون ان يعوضوا عن ضعفهم في امور أخرى. وهذه ظاهرة مرضية وتفكير متناقض، لأن الحزب الضعيف لا يمكن ان يوصل إلاّ الى حكم ضعيف. من هذه التجربة استطيع ان استنتج ان من الواجب الآن أكثر من أي وقت مضى، أن نلح على السلطة القومية، على سلطة القيادة القومية، وان نتخذ جميع الاحتياطات التي تقي الحزب هذين الخطرين: القطرية، وطغيان الحكم على الحزب او إلحاق الحكم للحزب.
وأستطيع القول ايضا، انه حتى الذين يرفعون شعار محاربة إلحاق الحكم للحزب، معرضون مثل غيرهم ان يفعلوا الشيء نفسه، وفي اقرب وقت ممكن، إذا استلموا زمام الحكم.. فالمطلوب أن يكون على رأس الحزب قيادة قومية قوية، تدرأ هذين الخطرين عن الحزب. فلكونها قومية، تدرأ القطرية أولا، ولأنها بعيدة عن الحكم، تدرأ إلحاق الحكم للحزب ثانيا. ولكي تكون القيادة القومية قوية، يجب ان لا تضم إلاّ الأعضاء الأقوياء حزبيا، أي الذين لا يتأثرون بالقطرية وبالحكم، حتى لو لم يكونوا مشتركين هم شخصيا فيه. اذ يستطيع الحكم ان يكوّن لنفسه اعضاء تابعين له في القيادات القطرية.
فالكفاءات التي لا تقترن بالشروط الحزبية الاساسية –والكفاءات شيء ثمين في الحزب- موقعها في المكاتب الحزبية، وليس في القيادات وخاصة في القيادة القومية. وقولي بأن القيادة القومية يجب ان تكون قوية، لا يعني مطلقا ان القيادة القطرية يجب ان تكون ضعيفة، هذا شيء متناقض. المطلوب من القيادة القطرية في كل قطر من اقطار الوطن وفي القطر الذي يحكم فيه الحزب خاصة، ان تكون قيادة جماهيرية موثوقة من الشعب متصلة به اتصالا وثيقا، وان تكون خاضعة لإشراف القيادة القومية، أي ان تكون القيادة القومية أقوى منها.
هذه بعض الملاحظات التي أردت ان أقولها حول الموضوع.
19 تشرين الأول 1963
(1) كلمة في الجلسة الحادية عشر من جلسات المؤتمر القومي السادس (مناقشة تقرير اللجنة التنظيمية).
———————–
عقلية التكتل
ايها الرفاق (1)
إننا مطالبون بأن ننظر الى الحزب نظرة جدية لنخدم المستقبل، لنساعد الحزب على التخلص من كل ما فيه من ثغرات، من نقص، من شوائب، لكي يكون في مستوى المسؤولية التاريخية، ومستوى تحقيق أهدافه في الوطن العربي كله.
الكلام خطير، واي خلل فيه او ابتعاد عن الحقيقة، او مبالغة او نقصان، يرتب مسؤولية كبيرة.
عندي ملاحظات، وسأقولها بدافع الحرص على الحزب بصورة خاصة.. أقولها مستهدفا ً البناء والإصلاح.
ولكي أساهم في خلق الجو الجدير بمؤتمر قومي لحزب البعث ينعقد في ظرف تاريخي هام، أحببت أن أسوق هذه المقدمة البسيطة.
في الحزب بوادر عقلية ونفسية ليست من طبيعته. وخوفا من ان تتضخم هذه الاشياء في المستقبل، كان من الواجب ان أشير اليها وأن أنبّه لكي نعالجها قبل فوات الأوان، لأنها سوف تشوه الحزب.
وليس من السهل التعبير عنها بكلمة واحدة.. أسميها عقلية التكتل، اسميها أحيانا عقلية او نفسية لا تعتمد على الإيمان بالإنسان العربي، بالشعب العربي، اسميها استهتارا..
وأحاول أن أجد لها تفسيرا: هل هي قسوة الظروف في عهد عبد الكريم قاسم؟ هل هي ظروف عهد الوحدة وحُكم المباحث وخداع الجماهير والتلاعب بعواطفها؟ هل هذه الظروف التي لم يعتدها الحزب هكذا من قبل أوجدت فيه ضعفا وتراخيا ونوعا من السلبية وفقدان الروح التي ظلّلت دوما هذا الحزب؟
هذا ايها الرفاق كان موجوداً قبل ثورة رمضان. ووصول الحزب الى السلطة ضخّم هذه الانحرافات. وإذا كنا الآن نتخوف ونقلق، فلأن السلطة سلاح ذو حدّين، قد يحسن الحزب استخدامه لمصلحة عقيدته وأهدافه، وقد يسيء استعماله فينقلب وبالا ً عليه.
لذلك أتخوف من إساءة استعمال السلطة. أتخوف اذا نحن لم ننتبه، بكل تفتُح، بعيوننا وعقولنا، وبتقديرنا لدورنا التاريخي، ان تورطنا السلطة في أعمال واتجاهات متعسفة متسرعة، تلعب فيها الأنانية الشخصية وربما المصلحة الشخصية الدور الاول. تلعب فيها الانفعالات والأحقاد والمنافسات دورا كبيراً.. دون ان يكون لنا ضوابط ومقاييس واضحة نسترشد بها لتصحيح خطنا التاريخي.
ايها الرفاق
قبل شهر.. عقد المؤتمر القطري لحزبنا في العراق، ودعيت مع اعضاء القيادة القومية لحضوره وللمساهمة في حل مشاكل أنذرت بالخطر، كنا مطلعين عليها قبل ذلك بأشهر، وكنا نحاول ان نجد لها حلا، او نساهم بوضع حل لها، ونظن أننا توصلنا الى شيء من هذا القبيل. ونعود بعد شهر او شهرين لنرى بأنها لا زالت دون حل.
ومنذ بداية المؤتمر ظهرت لنا جوانب، لم نكن نعرفها من قبل، او كنا نعرفها بشكل مبسّط. ظهر لنا ان عناصر من خارج الحزب، تحاول ان تستغل الخلافات الداخلية على حساب الحزب.. فكان الموقف الطبيعي ان نبادر الى تدعيم الحزب ومنع أية محاولة، مهما تكن صغيرة، يمكن ان تمس قوة الحزب.. لذلك لزمنا السكوت عن الاخطاء.. فالمحافظة على الحزب تأتي اولا.. لأنه اذا حافظنا على الحزب نستطيع ان نصحح، واذا سمحنا بتفكك الحزب وإضعاف الحزب يصبح أي شيء آخر مستحيلاً.. الرفاق الذين نأخَذ عليهم هذه الاخطاء وهذه العقلية، هم من طليعة الحزب المناضلة.. كما ان الحزب في العراق هو حزب مناضل وأساسي..
قلت ايها الرفاق ان هذا الاسلوب، او هذه العقلية، كانت موجودة قبل الثورة، وقد لمستها في أكثر من مناسبة، سميتها عقلية التكتل، عقلية الوصاية. ليس تكتلا ً لدوافع شخصية او نفعية، على الأقل في ذلك الحين قبل الثورة. وكما لمست فانهم ينطلقون بدوافع عقلية الوصاية، من تفاهم شخصي على شيء، ثم يتحول النظام الحزبي إلى أداة للتبرير..
وهنا اسمح لنفسي بالمبالغة لكي أتمكن من التوضيح، هذا لم يحصل مئة بالمئة، ولكنه حصل شيء منه: تفاهم شخصي رّبما بدوافع طيبة، أعمال فردية.. وجرّ هذا الى نوع من العلاقات من نفس الطبيعة، مع أعضاء آخرين دوافعهم مختلفة..
المهم ان هذا الاسلوب من حيث المبدأ والنتائج خطر جدا.. يبدأ أحيانا ً بدوافع طيبة ومن عناصر جدّية نشطة، ولكن طبيعة التكتل تفرض حتما، ان تدخل فيه عناصر من نوع اخر.. طالما ان التكتل يكتفي من الآخرين بان يوافقوه، ومصير التكتل بعد زمن، الانحدار المتزايد في النوعية..
إني آسف لأن أشير الى حادثة لاحظتها، ولا بد أنكم لاحظتموها ايضا في هذا المؤتمر.. عندما انبرى احد الرفاق ليؤكد ان المؤتمر القومي الخامس، قد عدّل المادة التي تنص على الأكثرية المطلوبة لتعديل الدستور، وكان ذلك في إحدى الجلسات الاولى.. واندفع اعضاء آخرون، بدون تفكير ولا تروي، يؤكدون صحة قوله، مع ان المؤتمر القومي الخامس لم يعدل تلك المادة.. هذا مثال على عقلية التكتل..
ايها الرفاق
إن الشيء الذي نرجوه هو: ما الذي يستطيع ان يقدمه هذا الحزب للامة العربية في المستقبل القريب؟
22 تشرين الاول 1963
(1 ) كلمة في الجلسة الرابعة عشر من جلسات المؤتمر القومي السادس ( مناقشة الوضع في سوريا والعراق)
————————————-
مهمة المؤتمر القومي
ان المؤتمر يحتاج لأقصى ما يمكن من التريث والموضوعية (1)، البعيدة عن الانفعال حتى يستطيع ان يقوم بدوره، في هذا الظرف التاريخي، وإلا فانه يعجز عن القيام بهذا الدور.
المؤتمر القومي يمثل الحزب، فكرة الحزب ونضال الحزب وأسلوب الحزب في العمل، يمثل جميع الاقطار التي يوجد فيها الحزب، يمثل الاكثرية والاقلية، يمثل الحزب في الحكم، والحزب في النضال، وتحت وطأة الاضطهاد.. فلكل هذه الاعتبارات نحتاج الى ما طلبت.
اني أطالب نفسي وأطالب الرفاق، بان يزنوا كل كلمة ويقدّروا مسؤوليتها، نظراً لخطورة الموقف. لذلك اعتقد بأني طرحت مشكلة لم يتعرض لها احد الرفاق.. فكيف يمكن اذن للمؤتمر ان يحكم ويستنتج ويصل الى تقرير خطة، تقرير خطوط في سياسة الحزب، اذا لم نعالج كلنا نفس المشكلة. فالمشكلة التي طرحها الرفيق.. انا اول من يؤيده فيها، والمؤتمر كله وفي مثل هذا المؤتمر، أريد ان اعتقد انه لا يوجد من يدافع عن الرجعية والإقطاعية، او سياسة المهادنة، او أي شيء من هذا القبيل.. هذا المؤتمر يمثل ذروة الثورية في الحزب. فالمشكلة التي طرحتها والتي أعاني تخوفاً وقلقاً من أجلها منذ زمن، وأتحدث عنها، هي في العيوب والاخطاء التي يمكن ان ترافق هذا الاندفاع الثوري في الحزب، والتي يمكن ان تهدد عملنا الثوري بالفشل او بالضعف.
فعندما نطرحها بشكل آخر بأن الرجعيين يريدون منا كذا، او غير الثوريين في الحزب يريدون منا مثلا ان نراعي اعتبارات غير ثورية.. نقول مرة أخرى، بعد المؤتمر القطري تجنبنا المشكلة المطروحة، لنهتم بمشكلة أخرى هي ايضا مطروحة، ولكنها مطروحة بيننا وبين خصومنا، بيننا وبين اعداء الحزب، واننا هنا نطرح مشكلة في داخل الحزب. وقد قلت عندما ظهر هناك من يستغل خارج الحزب مثل هذه الامور، اننا امتنعنا عن طرح اي شيء في المؤتمر القطري.
المؤتمر القومي عليه ان يعالج سلامة تركيب وانتظام وسير هذه الآلة الثورية، التي هي قيادات الحزب والتي هي بالدرجة الاولى مسؤولة عن نجاح الثورة، عن تحقيق الاهداف. فهل اذا كان في البلاد رجعيون ومتآمرون وشعوبيون وانتهازيون وغير ذلك، يمنع ان يكون للثوريين اخطاء؟ او يمنع من ان يقع الثوريون في اخطاء؟ اظن لا. ماذا يريد الرفيق من كلامه؟.. قلت بان هذه الفئة هي فئة مناضلة. هذا لا يمنع ان تكون سرتْ اليها عدوى، او تورطت في عقلية فيها تكتل، فيها فردية، فيها –ربّما– إرهاب للأقلية، إرهاب يحرم الحزب من شروط الحرية التي تساوي وجوده. اذا ُفقدت الحرية من هذا الحزب، فقد الحزب معها شيئا ثميناً جداً. وقلت: هذه علائم نخشى ان تتضخم في المستقبل، ومن واجبنا ان نشير اليها منذ الآن.
فاول واهم ملاحظة أحب ان الفت انتباه المؤتمر اليها، هي ان المشكلة لم تطرح طرحاً صحيحاً. هناك مشاكل، وما طُرح يعتبَر مشكلة كبيرة، وكل ما قام به المؤتمر حتى الان هو دليل على ان المؤتمر اوجد الحلول للمشكلة التي طُرحت، سواء المنطلقات العقائدية التي أقرّها المؤتمر، سواء التقرير السياسي، سواء التقرير التنظيمي وعلاقة الحزب بالحكم، كلها تضمن لحزبنا ان يبقى في الخط الثوري الحاسم الذي لا لبس فيه، والذي لا يمكن ان يميل او يحيد عن الثورية. وهذا لا يمنع ان هذه الامور التي طرحت في المؤتمر والتي هي وقائع وقطع حية من التجربة النضالية وتجربة الحكم، تجربة الحزب في الحكم في هذه الاشهر التي مضت على الثورة، هذه الوقائع كما قلت هي قطعة من الواقع الحي، يجدر بنا ان نلمّ بها. ولكني أعود فأقول: المؤتمر غير حائر، ولا متردد، في اتخاذ موقف من هذه المشكلة. للمؤتمر موقف اتخذه اثناء مناقشاته العديدة لجميع التقارير. لقد حدد المؤتمر، مؤتمر حزب البعث العربي الاشتراكي، خطا ثوريا كان دوما خط الحزب، والآن يحتاجه الحزب اكثر من اي وقت مضى. هذا يضفي كل دواعي الاطمئنان على المستقبل. لكن هناك مشكلة أخرى، وفي اعتقادي اهم، إذ ما نفع الخط الثوري الذي لا يجد من يحسن تطبيقه؟ اهم من الثورة.. هي الأداة التي يوكل اليها التنفيذ والتحقيق. فالمشكلة هي هذه: علينا ان ندقق في إيجاد هذه الأداة. وإذا لم يكن هذا أهم شاغل للمؤتمر القومي، فما عسى تكون مشاغله في ظرف كهذا؟ علينا ان ندقق في هذه الأداة وفي النظام الذي يجمعها، في الاسلوب الذي نتبعه في العمل.. هذه الاشياء التي نضعها في نظام الحزب كمواد، وعلينا ان نسأل دوما لنتحقق فيما اذا كانت تطبق في العمل، وخاصة عندما تتغير الظروف، تصبح المسؤوليات خطيرة جدا. وقد نبّهت في عدة مناسبات خلال جلسات المؤتمر الى بعض النقاط، نقاط فيها خطر الحكم على الحزب، خطر السلطة على الحزب عندما يستلم الحزب السلطة في قطر او اكثر.
ايها الرفاق
من الصعب دوما ًعلي ان أتعرض لشخصي، إلاّ عندما لا يكون مناص من ذلك. وأجدني مرة أخرى في هذا المؤتمر مضطرا ان اكرر وان أؤكد شيئا، هو أن الذي يتكلم فيّ هو هذا الشخص الذي رافق الحزب منذ يومه الاول، هذا الشخص الذي بلغ من العمر حداً هو اقرب الى السن المتعبة، وهذا الشخص قد مرّ بتجارب عديدة، ولم يعد له فعلا في هذه الحياة من مطمح، غير ان يرى هذه الحركة التي ساهم فيها -واقول هذا بكل تواضع– إن هذا الشخص لم يعد له الا مطمح واحد ان يرى هذه الحركة ناجحة النجاح الصحيح، النجاح الصادق، اي النجاح المتفق مع القصد الاول من نشوئها، مع المبادئ التي أعلنتها والآمال والمطامح التي وضعها الشعب العربي فيها، وأن كل تهديد لهذا النجاح الصادق يشكل قلقا وقلقا عميقا بالنسبة لي. وإنني خاصة بعد ثورتي رمضان وآذار، عندما انظر الى الامور، استطيع بما عندي من تجربة ان أقول اننا نقترب او نبتعد عن الخط الذي رسمناه لحركتنا. بعد هاتين الثورتين أراقب الاحداث وانعكاساتها العالمية والعربية والداخلية، أراقب تصرفات الحكم والحزب الذي يساهم مساهمة جزئية او كلية في هذا الحكم. في سورية اصبح الحزب رسميا وإسميا هو كل الحكم. في العراق كان في البداية له رجحان كبير ثم ظهرت عوامل وتقلص دوره نوعا ما.. على أية حال هذا الحكم القائم في العراق وفي سورية يتحمل الحزب مسؤوليته شاء أم أبى. ولأقل ايضا ان أشخاص القادة يتحمّلون هذه المسؤولية اكثر من غيرهم، شاءوا أم أبوا، يتحمّلون مسؤولية موضوعية، تاريخية، فانا مثلا قد أكون لا علم لي مطلقا بما يجري في الحكم في العراق او حتى في بعض نواحي الحكم في سوريا، ولكني أُحمَّل مسؤولية هذه الاشياء في نظر القريب والغريب، وهذا ممكن أن يقال بالنسبة للقياديين ثم بالنسبة الى الحزب، لذلك يشعر كل منا بهذا الواجب ان يبقى الحزب اقرب ما يكون الى الصورة التي رسمها لنفسه. المسألة ليست مسألة خسارة شخصية، عندما اقول كل منا يتحّمل مسؤولية، ليست مسألة سمعة مثلا: ان سمعة الشخص قد تلوثت او أسيء اليها، وليست بالأحرى مسألة مصلحة، انما هي مسألة قناعة داخلية وجواب على تساؤل: هل فعلا ان الحزب يبتعد عن خطه؟ هل هو مسيطر على نفسه وعلى ارادته؟ هل يعمل خلاف ما يعتقد مضطراً نتيجة الارتباك، نتيجة الفوضى، نتيجة الفردية، نتيجة الارتجال، نتيجة عجز؟ كيف يكون هذا الحزب إنسانيا في اعماقه ودوافعه ونُتهم بالفاشية وبكل المعزوفة المعروفة؟. هل هذا تجنّ خالص أم أن له بعض الأساس من الحقيقة؟ وهذا لا يعني اننا اذا وجدنا ان بعضنا اخطأ فسنيأس من أنفسنا، وسنيأس من شعبنا او من الحزب، ولكن يجب ان نعرف بأننا أخطأنا ويجب ان نعرف بان هذا الخطأ تقييمه بهذا الحجم، وذاك بذاك الحجم. يجب ان لا نقول ان التجربة مليئة بالاخطاء ويجب ان تعالج، بل ان نميز بين اخطاء خطيرة واخطاء صغيرة. وعندما نقول اخطاء كبيرة، فأعود واكرر ليس من اجل ان نيأس، او ليس من اجل ان نحطم بعضنا، او ان نتخذ ذلك ذريعة لأنْ نحطّم اندفاعات الشباب، ولكن من اجل أن تهتز ضمائرنا وان تصحوا عقولنا، فنعرف ان ذلك خطأ مسيء وبالتالي نفكر في طريقة تلافيه.
بعد قيام ثورة رمضان ذهبت القيادة القومية الى بغداد، وحاولنا هناك ان نذكّر بسياسة معروفة، بخط معروف في الحزب: ان حزبنا لا يمكن ان يكون حزبا معاديا للشيوعية، كما يفهم من هذا التعبير في العالم، اننا نحارب الشيوعيين عندما يحاربوننا، ولكننا لا نحارب الشيوعية بشكل منتظم ونهائي. وبالتالي يجب ان نحترس من ان تطول مدة القمع، خاصة ان الصدى السلبي، بدأ يظهر منذ ذلك الحين ونحن في بغداد، أي في الايام العشرة الاولى لثورة رمضان. بدأ الصدى السلبي العالمي يظهر بعد اسبوعين من قيام الثورة في الدعاية السوفياتية ودعاية الاحزاب الشيوعية، وحتى في الدعاية الاستعمارية، تريد ان تلوث سمعة الحزب بأي شكل، حتى عندما يكون ذلك لمصلحة الشيوعيين. بعد شهر وشهرين، بدأنا نلمس بان الشقة آخذة بالاتساع بدلا من ان تُعالج وتُتلافى، الى درجة ان الانعكاس في الرأي العام الدولي العالمي، بدا وكأن حزب البعث انحاز الى الغرب ضد الاتحاد السوفياتي، وضد الاحزاب التقدمية، اي ان شيئا اساسيا من سمعة الحزب في الحياد الايجابي أخذ يُهدَّد، كل هذا نتيجة الاستهتار بالمستوى القومي والتخطيط القومي حتى بمجرد الاستشارة، مجرد ان نعترف بان جزءا من الحزب لا يغني عن الاجزاء الأخرى، واننا دوما وفي كل ظرف محتاجون الى كل الحزب والى كل أفكار الحزب والى كل تجربة الحزب، لنقرر عملاً ويكون هذا القرار صائبا وصحيحا.
واذكر أنني أكدت لأحد الرفاق وكان في دمشق ويزمع السفر الى بغداد، بان يراجع الاخوان هناك وينبههم الى خطورة هذا المحذور، المحذور بالنسبة لسمعة الحزب: اي مفهوم الحياد الايجابي الذي أتى به حزب البعث، ولماذا الاستمرار في هذه العمليات؟.. كنا نسمع من الاخوان تبريراً لهذه السياسة، سياسة تعذيب وتقتيل الشيوعيين، ثم في المدة الأخيرة، منذ شهرين، أمسينا نسمع بأن الذين كانوا يلحّون على القيادة بالاستمرار في هذه السياسة، هم من غير الحزبيين او من الحزبيين الذين لم يعيشوا تقاليد الحزب، وبالتالي كانت تشوب افكارهم نزعة الفكر القومي اليميني الذي يعتبر ان القومية هي التي تحارب الشيوعية.
هذا مثال. وهناك امثلة أخرى على ضرورة مساعدة الحزب في الاقطار العربية المناضلة، او ضرورة مساعدة النضال العربي في اقطار لا يوجد فيها الحزب، او ما زال في بدايته. منذ البداية طالبنا بان يكون للعراق دور في مساعدة اليمن، منذ البداية طالبنا بان يكون له اثر في مساعدة الجزائر، من البداية قلنا بان بغداد يجب ان تصبح هي مركز التوجيه والانجاز للنضال العربي في الخليج وفي الجزيرة. هذا شيء طبيعي، يجب ان تلعب هذا الدور. منذ البداية طالبنا بان تكون بغداد في توجهها القومي، البعثي، نموذجا ثوريا صحيحا مصححاً لنموذج القاهرة، في الاذاعة وفي التوجيه وفي الاتصال بالحركات الشعبية والنضال الشعبي ليظهر الفرق بشكل ايجابي.
أورد هذه الاشياء لا لأقول ان رفاقنا كانوا ضد ذلك او شيء من هذا القبيل، وانما رغم اقتناعهم لم يحلّوا هذا المحل الاول وبالتالي لم ينفذوا اشياء تذكر في هذا الخصوص، اللهم الا مساعدات جزئية للحركة الشعبية في المغرب.
ان قصدنا من هذا الكلام ان لا نرضى عن انفسنا بسهولة، ان نحذر مراعاة انفسنا ومجاملة انفسنا، ان نعترف بتقصيرنا الذاتي. ليست الظروف السياسية، والعقبات الخارجية هي دوما السبب في منعنا من تحقيق ما نريد، وانما في بعض الاحيان الاستخفاف، والغرور، والفردية، هي التي كانت السبب، وعدم تقدير اهمية اي شيء خارج العراق، والانغماس في المشاكل المحلية. وقد سمعت انا وغيري بعض الرفاق يقولون: ماذا يهم الرأي العام العربي، ماذا يهم الرأي العام الدولي؟ وأقوال أخرى مشابهة. فعندما نقف اذن وُننبه، فلكي نتفادى هذه الاشياء.
وانا قلت في هذا المؤتمر كلمة، ولا أملّ من تكرارها، وقلتها كثيرا في الماضي لأنها تنبع من جرح من اعماق نفسي نتيجة تجربتي الحزبية. قلت بان حزبنا شكا دوما من مرضين وتعرض دوما لخطرين: خطر الاقليمية او مرضها، ومرض الحكم او الانغماس في جوه، وبتعبير أدق أقول: بان القصد من الاقليمية ليس نزعة –فكرية او عملية– لتقديم إقليم على آخر، او إقليم على بقية أجزاء الوطن، وإنما الأصح ان اقول المحلية، الاهتمام بما هو محلي، وبالدرجة الثانية والثالثة او الخامسة بالأمور القومية. وهنا فاني أتبنى كلام الرفيق مائة بالمائة عندما يقول باننا مطالبون بان نعطي ليس فقط من دخلنا، بل من ثروتنا للاقطار الأخرى، وهذه ليست فقط عاطفة خيرة وسخية ودليل محبة لبقية الاقطار وبقية الاجزاء من شعبنا، وانما هي تعبير عن منطق ميّز هذا الحزب، هي في نفس الوقت فكر وأخلاق. فكر لأن حزبنا انطلق من هذا التفكير منذ اليوم الاول، بان ما يفيد القضية القومية يفيد كل قطر، وان المصلحة القومية العليا هي اولا وتأتي بعدها المصلحة القطرية. وفي كل مرة طبقنا هذا المنطق نجحنا، وفي كل مرة خالفناه فشلنا. وهي مسألة أخلاق الى جانب كونها فكرا ومنطقا حزبيا، لأن الإخلاص لهذا المنطق يتطلب تضحية، تضحية من الحزب في القطر، من كل قائد فيه. وكل شخص عادة يُدفع بشكل غريزي الى ان يفضل الاشياء القريبة منه، لأنها تؤمن له نجاحاً شخصياً قريباً، كما ان الحزب في القطر مدفوع ايضا -ما دام هو مجموعة اشخاص– لأن يراعي المصلحة القريبة. وهنا تظهر ميزة البعثي فكريا واخلاقيا في آن واحد، عندما يمد بصره الى بعيد، وعندما يرتفع فوق المصلحة القريبة. ولولا هاتان الميزتان لتراجع حزب البعث، ولولا ان وُجد دوما في هذا الحزب اعضاء كبارا او صغارا، والصغار اكثر من الكبار، اقولها واعترف بها، كانوا مندفعين وراء هذا المنطق بكل براءة، لكان هذا الحزب تشوه وانتهى منذ زمن طويل. لو لم يوجد دوماً اشخاص –كبار وصغار– يفكرون في الجزائر، يفكرون في المغرب، يفكرون في اليمن، يفكرون في ابعد قطر واصغر قطر، قبل ان يفكروا في القطر الذي ينتمون اليه، دون ان ينتقص هذا من نضاليتهم في قطرهم ودون ان يتخذوا ذلك ذريعة لكي يتهربوا من النضال فيه. ولقد مرت علينا تجارب وفيها الشيء الكثير مؤلم، يوم كان للحزب نواب كثيرون في سورية، ولم تكن تثار قضايا الوطن العربي كما يجدر بحزب البعث ان يثيرها –قضية الجزائر بصورة خاصة– ولكن كانت قاعدة الحزب، وكان العمل الشعبي في الحزب مخلصا لهذا الخط.
احب ان اكرر الفكرة الاساسية، والتي تتلخص بان الفئة القيادية المناضلة في الحزب، ترتكب اخطاء منها الجسيم ومنها المتوسط ومنها الصغير، وتحدثت عن عقلية التكتل وما يتبعها.. وقلت بان الظرف الذي نحن فيه، خصوصا بالنسبة للوصول الى السلطة يجعلنا نقلق كثيرا فيما اذا تركنا هذه الاخطاء تتضخم دون ان نكشفها ونضع لها حداً، اما المشكلة الأخرى فهي ايضا مشكلة حقيقية وحادة، مشكلة الحزب وخصوم الحزب واعداء الحزب، الحزب مقابل الرجعية، مقابل الشعوبية، مقابل البرجوازية، مقابل بقية الاعداء. ولقد واجه المؤتمر هذه المشكلة، ومن خلال إقراره التقارير، حسم الموضوع، ولم يكن هناك اي خلاف على ذلك. كان في التقرير العقائدي خلاف، هل تكون الصفة القومية واضحة وأكيدة، او تكون كالبخار والوهم؟ ولقد حسم المؤتمر الموضوع واختار ان تكون هويته القومية حقيقية واضحة وأكيدة.
قلت في المؤتمر بأن المشكلة، هي في كيفية تكوين الأداة الممثلة للثورة، والتي تشرف على تحقيق الثورة وبرنامج الحزب. وليست المشكلة هي الحزب وخصوم الحزب. فهل ننجح اذا وضعنا الخط السليم، ولم يوجد من يطبق هذا الخط السليم؟
إن المخاوف المشروعة بان يطغى الارتجال، تطغى الفردية، والروح العاطفية اللا موضوعية، ان تطغى عقلية التكتل، جو الارهاب للاقلية، ان تُفقد الحرية، عن حسن نيّة او سوء نّية سيّان، المهم يجب ان نحافظ على الحزب. ولا يجوز ان نتذرع باخطار اعداء الحزب، من اجل ان نرهب الاقلية و نتخلص من الحرية ومن جو الحرية في الحزب. ان هذا خطر كبير وخطأ فادح.
22 تشرين الاول 1963
(1) كلمة ثانية في الجلسة الرابعة عشر من جلسات المؤتمر القومي السادس.
————————————–
الثورة الصحيحة واليمين واليسار
قلت في الكلمة الاولى (1) في هذا المؤتمر أن الحزب بحاجة ماسة لان يجدد نفسه، وهذا يعني أن حالة الحزب غير مرضية، وان فيه عللا وأمراضا وشوائب، وكنت في هذا واضحا: طالما الحزب هو المستقبل فكل جهودنا يجب أن تتجه لبناء هذا المستقبل.. و طالما الحزب يرشح نفسه لهذه المهمة، فمن حق الحزب كله أن ينظر ويدقق في أهلية هذه الفئة للمهمة التي ترشح نفسها لها. ومن حق الحزب أن يكون رقيبا وأن ينبه إلى الأخطاء، وفي هذا اعتراف بجدارة هذا الجيل، هذه الفئة، إن لم تكن بكل أعضائها فعلى الأقل في بعضهم. على كل، لا يداوى المرض بالمرض، لا نريد أن نتحرر من أساليب وعادات وأمراض في هذا الحزب لنقع في مثلها. فموضوع التكتل هو في الواقع الموضوع الخطير الذي يجب أن يسترعي اهتمام المؤتمر: يصف الإرشادات ويعين الحدود التي يجب أن يتم ضمنها تجديد الحزب، دون أن نتورط في مخاطر..
هذا شيء، وهناك شيء آخر: لقد أثار احد الرفاق عبارة ثوري أكثر من اللزوم، الخ.. وفي اعتقادي ان الإنسان لا يمكن أن يكون ثوريا أكثر من اللزوم، إلا إذا كان القصد من ذلك: أن هناك ثورية مبالغات وتطرف، هي في الواقع ليست ثورية صحيحة. المهم أن تتوضح في المؤتمر بعض الأمور: هل هناك فعلا في الحزب يمين ويسار هل هناك يمينية ويسارية؟ هذا ليس مستحيلا، بل هو مكن. في الأحزاب الثورية يمكن أن يوجد ميل نحو اليمين او تطرف نحو اليسار، ولكننا نريد أن نعرف إلى أي حد توجد هذه النزعات في حزبنا، إلى أي حد توجد مبالغات في هذه الأوصاف، ما هي الأغراض من وراء هذه المبالغات فيما إذا ثبت أنها موجودة؟
في الحياة الاجتماعية يمكن أن يوجد يمين ويسار، أما يمين ويسار في حزب ثوري اشتراكي كحزبنا لا يعقل أن يكون، بمعنى أن في الحزب إقطاعيين ورأسماليين، إلا انه يمكن أن يكون هناك اشتراكيون ثوريون واشتراكيون معتدلون، لنحدد ذلك: إلى أي حدود توجد هذه النزعة اليمينية وعلى من تنطبق؟ وما هي البراهين؟ وهل هناك مصلحة في تضخيم هذه الأشياء بقصد كسب، وصول إلى القيادات، والى الحكم. هل كل ما يقال عين الحقيقة وهو كلام نزيه موضوعي أم إن فيه الكثير من الاختلاقات والمبالغات؟ من هم الذين يتهمون الآخرين باليمينية؟ من هم الذين يتهمون البعض بالتطرف والثورية أكثر من اللازم؟ يمكن أن يلقي ضوءا.
أما منطقي أنا فهو أن يتشدد الحزب مع المناضلين، مع الذين يعلق عليهم الآمال، الذين فيهم كفاءات نضالية يجب إلا يسمح لهم الحزب بان يغتروا، وان يسترسلوا بالفردية وان يشتطوا في الأحكام وان يسلطوا الإرهاب على من يخالفهم في الرأي، لان هذا عاقبته وخيمة.
أكثر من ذلك وبصراحة أكثر، الحزب كان لمدة طويلة حزبا بعيدا عن هذه الأشياء والأساليب، إنه حزب نضالي يعيش في حالة توتر دائم ضد أعداء الأمة، أعداء الثورة، ويعيش في أجواء الكفاح المتزمتة النضالية الثورية، ثم تسلم السلطة وجسمه ليس فيه المناعة اللازمة للتحصن ضد أمراض السلطة، وإلا لما كانت كل هذه الاجتهادات الشخصية والتحليلات والمغالاة من قبل بعض الأعضاء بالنسبة للأوضاع السياسية. هذه الأشياء قد تتحملها أحزاب أخرى، ولكن حزب البعث لا يتحملها. لقد قلت بأن هناك مبالغات كثيرة، وأكثر من مبالغات: تشويه للحقائق. لقد سمعت كلمة في جلسة من الجلسات، فتذكرت أشياء، سمعت اقتراحا بمعرض بحث قضية فلسطين، انه يجب على المؤتمر أن يقرر تهديم الزعماء التقليديين الفلسطينيين لمصلحة القادة البعثيين الجدد. الدوافع قد تكون لمصلحة الحزب والمصلحة القومية، وقد لا تكون، ولكن الأسلوب غير صحيح. إذا اعتبرنا أن هذه القيادة الجديدة هي القيادة التي تتوافر فيها الحيوية وكل الشروط الثورية، يجب أن تصل، وترتقي، وتجتاز المراحل التي لا بد من اجتيازها.. إذا كان لها هذه الكفاءات يجب أن تفرض نفسها تباعا، ومن خلال النضال وخلال المواقف، لا أن نقرر انه يجب أن نحطم فلانا ونهدم فلانا، حتى لا يبقى إلا الحزب!
23 تشرين الأول 1963
(1) كلمة في الجلسة الخامسة عشر من جلسات المؤتمر القومي السادس.
————————————-
كلمة في مهرجان نصرة احرار اليمن المحتل
ايها الاخوة العرب
عرفت عدن، هذا الجزء النائي العزيز من الوطن العربي، وهي القطر العربي المحتل من قبل الاستعمار البريطاني، عرفت حركة شعبية منظمة تمثل تجربة من أغنى التجارب الثورية العربية، فلقد نشأت فيها حركة عمالية مناضلة، لم تلبث أن توسعت وشملت الحركة الوطنية كلها واندمجت في هذه الحركة الأهداف الوطنية للشعب مع الأهداف الاجتماعية. ثم لم تلبث هذه الحركة أن تجاوبت مع الشعارات العربية الثورية في الأقطار العربية الأخرى. ومنذ سنة 1956 كانت الحركة الشعبية في عدن ترفع شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية.
عرف هذا الجزء المناضل النائي من وطننا الكبير نفس المشاكل التي مرت بها الأقطار العربية الأخرى فوجد من شوه الحركة القومية في عدن والجنوب وأراد أن يجعل من حركة التحرر والاستقلال سبيلا إلى الانفصال وترسيخ التجزئة بدلا من أن تكون معركة الحرية جزءا لا يتجزأ من معركة الوحدة والحرية، ولكن ارتباط الحركة الشعبية بالشعارات الثورية في الأجزاء الأخرى من الوطن العربي قد حمى هذه الحركة ضد الانحراف ومنع هذا النضال الجبار من أن يتورط فيما أراد له الاستعمار من استمرار للتجزئة تحت ستار الاستقلال المحلي، فتهافتت دعوة القائلين بكيان الجنوب العربي، وتغلب الشعار الثوري الصحيح الذي يربط معركة الحرية في مناطق الجنوب بمعركة الاشتراكية ومعركة الوحدة، أي إعادة انضمام جنوب اليمن إلى شماله.
وقد عانت عدن في الآونة الأخيرة من القمع الاستعماري الوحشي ما لم تعرفه في كل تاريخها مع الاستعمار البريطاني وهذا مظهر من مظاهر النكسة التي شجعت الاستعمار والرجعية والشعوبية بأن ترفع رؤوسها من جديد في الأقطار العربية، لا بل في المنطقة كلها. و لا بد من اجل وعي الظروف العربية الجديدة، ومن اجل تهيئة الشروط للتغلب على ما فيها من ضعف ونكسات، لا بد من نظرة سريعة نحلل بها بوادر وأسباب هذه النكسة. فقد بدأت النذر الأولى من النكسة في الأردن لما تجرأ الملك حسين وقام بحملة اعتقالات ضد حزب البعث العربي الاشتراكي يشجعه في ذلك مهادنة العناصر القومية الأخرى له. فقد رافق اعتقاله للبعثيين إفراجه عن الذين كانوا يشكلون مع البعث العربي الاشتراكي صفا واحدا في الماضي من قوميين عرب ومن جماعة الحزب الوطني الاشتراكي، فاعتمد الملك في هذه الضربة على تفرّق الصف العربي الثوري. وتبع هذه الظاهرة حوادث القمع والإرهاب في المغرب فبطش الملك الحسن بمناضلي الاتحاد الوطني للقوى الشعبية والذين يمثلون وحدهم في المغرب، في وسط النزعات والاتجاهات الرجعية والإقليمية والشعوبية، فكرة العروبة الثورية ويربطون بين نضال الشعب العربي في المغرب ونضاله في الشرق، ويربطون بين الأهداف القومية الكبرى في الوحدة والحرية والاشتراكية، كذلك فقد استغلت الرجعية المدعومة من الاستعمار الثغرات التي ظهرت في الصف العربي فافتعلت حرب الحدود مع الجزائر في بقعة تمركزت فيها مصالح الشركات الاحتكارية الاستعمارية، وبعد ذلك بقليل تمكنت العناصر اليمينية ومن يحتمي ورائها من مصالح رأسمالية وطنية وأجنبية وبمساعدة وبتشجيع من أجهزة القاهرة، من أن تضرب الحكم الوحدوي الاشتراكي الذي كان يمثله حزب البعث في العراق، مستغلة أخطاء وانحرافات قياديي الحزب الذين أصابهم الغرور بعد الانتصار التاريخي الذي حققه حزب البعث في ثورة الرابع عشر من رمضان، فاستسلموا للأهواء الشخصية والتصرفات الفردية، فقاموا بأعمال طائشة أو شاذة وسكتوا عن مثل هذه الأعمال التي قام بها غيرهم، أو تركوا العناصر الدكتاتورية واليمينية تورطهم فيها دون أن يقدّروا خطر ذلك. وهكذا شملت النكسة العراق بعد أن كان على أبواب وحدة عربية سليمة الأسس تحمي عروبته من خطر الشعوبية وتآمر الرجعية ومآسي العهود الفردية الدكتاتورية.
لقد شبه الكثيرون أحداث الثامن عشر من تشرين الثاني 1963 بحدث الانفصال في الثامن والعشرين من أيلول عام 1961، ولئن حاول المسئولون عن انتكاسة الوحدة في ذلك الحين أن يتنصلوا من المسئولية، ويلقوها كلها على الذين قاموا بمؤامرة الانفصال، فإن حزب البعث العربي الاشتراكي وشعورا منه بأنه ملكا للشعب العربي بأسره وللأجيال العربية الصاعدة وبأنه لا يمثل مصلحة إقليم معين أو زعامة لأفراد، وبأنه بعيد عن الاعتبارات التي تقيد غيره وتمنعهم من مصارحة الشعب ومن ذكر الحقائق، فالحزب بكل شجاعة يصارح الشعب العربي بالأخطاء ونواحي الضعف التي وقعت فيها قيادة الحزب في العراق وتعذرت معالجتها ووضع حد لها قبل أن تؤدي إلى النكسة، أعني الغرور والفردية وإخفاء الحقائق عن قاعدة الحزب وعن مؤتمراته العليا، فالحزب يدينها ويدين تصرفاته الغريبة عن عقيدته ونضاله، ويعتبر ذلك شرطا أساسيا للمحافظة على سلامة تكوينه ليبقى دوما جديرا بحمل رسالته التاريخية.
إن هذه المظاهر المتعددة للنكسة العامة التي أصابت النضال العربي والتي كانت حوادث القمع الاستعماري الغاشم في عدن آخر مظاهرها حتى الآن، إنما تعود بالدرجة الأولى إلى ذلك الانقسام الهدام المفتعل الذي فرضه نظام الحكم في القاهرة على الثورات العربية بدافع الاستئثار والتعصب والنظرة الفردية والإقليمية التي لا ترى للثورة العربية إلا صورة واحدة ضيقة جامدة لا يمكن أن تتسع لما تتفجر به الأقطار العربية من تجارب ثورية غنية، ولكن لها مظاهر متعددة تنبع من التجارب الصادقة الأصيلة التي يولدها نضال الشعب العربي وانطلاقته التاريخية ضد الاستعمار والاستغلال وضد التجزئة، وضد كل مظاهر التخلف والتعصب والعبودية في الداخل والخارج، وليست هي شيئا يفرض من فوق بواسطة السلطة والحكم. فلقد أدت هذه النظرة الفردية الإقليمية الضيقة إلى تبديد القوى والطاقات الثورية والى تضييع ثمرات نضال طويل وتضحيات جسيمة قدمها الشعب العربي وطلائعه المنظمة في مختلف الأقطار.. وكان الحس الشعبي الصادق والمنطق القومي السليم يتوقعان ويتطلبان أن تلتقي القوى المناضلة وتتجمع وان تلتقي التجارب الثورية وتتفاعل، وألا يقوم أي عائق في وجه هذا التلاقي وهذا التجمع والتضامن والتوحيد مهما تكن العقبات والصعوبات، ومهما يقدم من ذرائع وأعذار.. ولكن الذي حدث أن السياسة التي اتبعتها البيروقراطية الإقليمية اللاعقائدية والتي تحكم القاهرة كانت مع الأسف سياسة إقليمية توسعية قصيرة النظر تخطط وتعمل لإضعاف الأقطار العربية الأخرى لتبقى هي المتفوقة والمسيطرة، فلا تقوم ثورة إلا وعملت هذه الأجهزة على ضربها وانتكاسها متجاهلة أن ضعف الأقطار العربية الأخرى ينعكس عليها ويضعفها، ومتناسية أن الأعداء الذين يتربصون بالأمة العربية ويتآمرون لإجهاض نهضتها وقتل مستقبلها ما زالوا أقوياء، لم ييأسوا ولم يلقوا السلاح.. فلا الحس الشعبي الصادق يتقبل، ولا المنطق الثوري يجيز أن تتحالف ثورة عربية مع النظم الملكية العميلة ضد ثورة عربية أخرى ولا أن تتحالف مع الشعوبيين والعصاة والانفصاليين ضد ثورة تؤمن بالوحدة والحرية والاشتراكية، ولا احد يصدق أن القطر الصغير المتواضع الإمكانيات هو الذي أراد أن يسيطر ويتحكم وهو الذي فرض الانقسام والفرقة وهو الذي أرسل الدعايات المسمومة والافتراءات والأضاليل تملا الجو العربي من الخليج إلى المحيط حقدا وكراهية وانقساما، في الوقت الذي يعرف العرب وقادتهم وحكامهم أن العام الجديد يخبئ لهم أخطر مؤامرة على وجودهم القومي منذ نكبة فلسطين قبل 15 عام، ألا وهي مؤامرة تحويل مجرى الأردن.
26 كانون الاول 1963
———————————-
البعث اشتراكية علمية زائدا روح
ايها الرفاق(1)
مع الأسف وصلنا الى حالة من التشويه اصبحت معها الاعمال الشرعية النظامية التي تتطلبها مصلحة الحزب، بل مصلحة البلاد والأمة، تستصرخ الضمائر لكي يظهر من ينقذ البلاد وينقذ الحزب من الكوارث والهاوية، اصبحنا نسمي الدعوات المشروعة تصرفات فردية، بعد الكارثة التي حلت بحزبنا وامتنا في العراق.. أليس من البديهي ان يتنادى اعضاء هذا الحزب الى الاجتماع ليروا لماذا حلت الكارثة؟.. ليدرسوا وليضعوا خطة ينهضون بها ويجنبون الحزب والبلاد كوارث جديدة اذا استمرت الاخطاء بدون محاسبة، وقد جاءت نكسة العراق بعد زمن قصير جدا من مؤتمر قومي عقد في هذه المدينة، ودامت اجتماعاته خمسة عشر يوما واكثر، وقيلت فيه كل الاشياء التي تحذر الحزب من عواقب سياسة واسلوب لا بد ان يوصلا الى ما اوصلا اليه، ولكن لم تنجح التحذيرات لأسباب من هذا القبيل وللتذرع بالشكليات. يضحّى بمقدرات الشعب بحجة شكليات النظام الداخلي، فليأت اذن اعضاء هذا الحزب بعد وقوع النكسة ولينظروا نظرة جديدة الى شكليات النظام، والى واقعهم، ولينظروا اذا كانوا يرضون لحزبهم ولشعبهم ان يستمرا في هذا الطريق. من يجادل في ضرورة اجتماع مؤتمر قومي بعد احداث كتلك الاحداث؟.. هذه بديهية، وقد حاولنا ان نخرج بقرار من القيادة القومية –وهنا اعضاء في القيادة القومية يشهدون على العراقيل التي وضعت لمدة خمس ساعات من المماحكة لتعطيل اتخاذ قرار-. وقيل ان المؤتمر القومي لا يجتمع بهذه السرعة، ولا بد من التحضير، ودراسة التجربة بكل تفصيل ودقة، وان تؤلف المؤلفات، ونحن نشعر انه اذا لم ندع المؤتمر القومي فليس من سلطة، لم يعد سلطة بالحزب. وقيل ايضا لماذا؟.. هذه القيادة القومية منسجمة، ولم لا تستمر في القيادة، ولم يعرف الحزب كفاءة مثل كفاءة هذه القيادة، هذا كلام قيل في الجلسة التاريخية (2) التي حاولوا بها تعطيل اتخاذ قرار ودعوة المؤتمر القومي، لأن فيها من كانوا يستلمون مسؤوليات، فعليهم ان يمثلوا أمام أعلى مؤتمر في الحزب.. وكيف، وبأي عرف، وبأي عقل، تبقى قيادة بلاد ومقدرات بلاد، مقدرات حزب، يوجد في عديد من الاقطار، وهو على رأس حكم في سوريا.. بأي عرف، وبأي شرع تستمر قيادة لم تستطع ان تجنب الحزب والبلاد النكسة التي وقعت؟ فيجب ان يعود الأمر الى الحزب، وفي قناعتي ان على أي عضو في هذا الحزب ان يبادر الى دعوة المؤتمر.. فكيف بالأمين العام، وهو لم يحدد أشخاصا معينين في دعوته، بل وضع قواعد موضوعية لمؤتمر يضم اكثر ما يكون من الحزبيين، فالمؤتمرات القطرية في الاقطار تجتمع، وقيادات الفروع والشعب التي هي على مستوى المؤتمر القطري تجتمع، وكلها منتخبة، وفي ظرف خطير مثل هذه الخطورة.. يجب ان يمثل الحزب أوسع تمثيل، لان الحق لا يضيع حينما يجتمع اكبر عدد. يمكن ان يلعب التكتل لعبه في نطاق ضيق، ولكن لا مجال لتأثير التكتل حينما يرسل الحزب من انتخبوا انتخابا شرعيا. قال الرفيق حمدي ان الدعوة غير شرعية، وانه سبق وان اقترح تشكيل لجنة تحقيق، وانه يحتج الآن على تشكيل قيادة قطرية في العراق..
ايها الرفاق
لا اريد ان استبق المؤتمر القومي، ولكن لابد من ان أوضح ما قاله الرفيق حمدي. كانت هناك أزمة قوية في العراق، ظهرت بوادرها من الاشهر الاولى.. والرفيق حمدي بالذات، وهو أقل المسؤولين مسؤولية عن هذه الأزمة، لأنه كان في سوريا بينما كانت اخطاء تتراكم في العراق، ولم يرجع الا بعد ان قطعت الأزمة شوطا بعيدا، هو أعرف برأيي وقناعتي وتحذيراتي، ومنذ البداية. قد كلفته مرة وضغطت عليه كي يسافر الى بغداد، وكنا في شهر أيار او قبل، ورجوته ان يذهب ويصحّي الاخوة هناك من عواقب الارتجال، فقد كان في ذلك الحين –اي بعد ثلاثة اشهر من الثورة– كان المعسكر الشرقي برمته يقف ضدنا، وأضاع الحزب إحدى مقومات سياسته التي ارتكز عليها دوما: الحياد الايجابي، فقلت له: اذهب وقل للرفاق ماذا بقي من سياسة الحياد الايجابي بعد السياسة التي تنتهجونها؟. وكذلك يعرف الرفيق حمدي بأنني كنت احذر دوما من سياسة التقتيل والتعذيب ضدا أي كان، لأن الخلاف بيننا وبين الشيوعية لا يمكن ان يجيز هذه الأساليب.. الثورة لها حق مشروع في الدفاع عن نفسها ضد من يحمل السلاح ضدها في الاشهر الأولى، ولكن بعد استمرارها –وفي الصحف لا يمضي شهرا وأسابيع حتى نقرأ ونسمع بتنفيذ اعدامات– فقلت له بان هذا يسيء جدا. وذهب الرفيق حمدي، وعاد دون ان يؤثر.. وقد يقال ان هذه السياسة كانت العناصر غير الحزبية في الحكم تشجع عليها، وهذا صحيح، ولكن كيف يتحمل حزب البعث مسؤولية الثورة والحكم في بلد عربي اذا كان من الخفة لدرجة ان تورطه العناصر اليمينية؟.. فكيف يكون في مستوى المسؤولية والحكم والثورة؟.. هل هذا جائز ان نترك العناصر غير الحزبية او الضعيفة الوعي، سواء التي كانت لها أغراض سياسية من تقتيل الشيوعيين لاسترضاء اليمينيين، او الذين كانت عقولهم وتربيتهم توحي اليهم بهذه السياسة ولا يعرفون مضارها وعواقبها على البلاد؟ الحزب في النهاية هو المسؤول وهو الذي يحاسَب أمام الرأي العام في الداخل والخارج.. ثم اطلعت من القيادة القومية السابقة للمؤتمر القومي على وجود ازمة بشكل واضح منذ اوائل شهر حزيران.. اذكر ان رئيس مجلس الوزراء العراقي الرفيق احمد حسن البكر طلب ان يجتمع بي في ذلك الوقت، ولاول مرة اسمع منه حديثا طويلا يعدد فيه الاخطاء في الحكم، وكيف انه يسير نحو العزلة، وكيف ان المشاكل تزداد في داخله، وفي داخل مجلس الثورة. كانت له آراء وملاحظات صائبة في طريقة التعامل مع الناس، في طريقة الادارة والتوظيف، في التغاضي عن اخطاء الحزبيين في الوظائف والحرس القومي، في الإهمال والارتجال، وفقدان الخطة، في التناحر الشخصي.. كل هذه الاشياء كانت واضحة وبارزة منذ اوائل حزيران لدرجة ان هذا الرفيق الذي يجمع الكل على احترامه، وان الرفيق البكر رجل مشهود له بالإخلاص، وبالأخلاق القويمة وبالتجربة والحكمة، وكان قد انتسب الى الحزب في عهد قاسم، ونسمع أخباره بأنه الرجل الأول بين الحزبيين العسكريين وبأنه مهيأ للقيادة نظرا لما يتمع به من اخلاص، هذا الرجل قال لي منذ حزيران: “إنني كنت المح علائم الحب في عيون الناس، اما الآن فإنني الجأ الى الطرق البعيدة عن البشر عندما اقصد مكتبي لكي اتحاشى انظار الناس لأني لم اعد أرى إلا الكره في عيونهم“. وكانت تطرح هذه المشاكل في القيادة القومية، وأزيدكم علما بان القيادة القطرية العراقية التي حكمت العراق بعد 14 رمضان الى وقت النكسة لم تجتمع اكثرمن 3 – 4 اجتماعات في 10 اشهر، وبشكل أوضح لم تكن تجتمع الا عندما كانت القيادة القومية تذهب الى بغداد وتجمعها بالضغط، وبعد سفرها تنتهي القيادة القطرية كقيادة، ولا يعود هناك الا افراد بعضهم متجانس ويعمل بتفاهم، والآخر مشتت. ودرسنا مع القيادة القطرية في ذلك الوقت كيفية إصلاح الحال، فوجدنا ان السبب الرئيسي هو عدم وجود خطة للحزب وللحكم، وكان بعض الرفاق قد أعدوا مشروع خطة، وقُرئت في اجتماع قيادة قومية مع القيادة القطرية، ونوقشت وأقرت، وبقي على القيادة القطرية ان تطبقها، ولكن بعد رجوع القيادة القومية بيوم او يومين انتهت الاجتماعات، وانتهت الخطة، وقيل من قبل احد اعضاء القيادة القطرية لمنظمة حزبية، وكان هذا العضو مكلفا بان يشرح للمنظمة الخطة لكي تتبناها وتعمل على تطبيقها والدعاية لها بين الشعب، قال للمنظمة هذه خطة ولكنه غير قانع بها، وعندها انتهت ودفنت في اليوم الثاني لعرضها. وعاد كل واحد منهم الى ديدنه في التفرد والارتجال، وسمعت مرة من الرفيق حمدي يسمي دعوة المؤتمر القومي الى انقاذ الحزب والبلاد عملا فرديا، ولكني لم اسمعه يشجب تلك الأعمال، لم اسمعه يسمي تلك الأعمال فردية، وعلى الأصح سمعت ذلك بيني وبينه، ولكنه لم يواجه بها المؤتمرات.. هذه هي الشجاعة، لا ان نطمس الحقائق على افراد حزبنا وشعبنا ونحن نتصرف بمقدراته.. نعم غبنا شهرين، وعدنا وإذا الحال أسوأ من السابق، وفي المرة الثانية –اي بعد شهرين، في تموز وآب– سمعنا نغمة جديدة: نغمة يسار ويمين، بينما سمعنا في الاول انه لا خطة هناك. وبعد شهرين، فاذا بكتلتين في القيادة وعددها (9)، أضيفَ اليهم عضو خلافا للنظام، والمهم ان (2) من (9) كان لهم رأي وموقف عدا الآخرين، وكان هذا كافيا ليؤخذ مبررا لعدم الاجتماع، اجتماع قيادة طوال عشرة أشهر.. اثنان يخالفان سبعة، لماذا لا تجتمع القيادة، وتبت، وتأخذ قرارات بالأكثرية، وتفرض قراراتها؟. سيقال لكم ان المسألة ليست بهذه البساطة: هناك الحكم، والحزب لم يكن مسيطرا كل السيطرة، وبالتالي القرار الذي يتخذ بالأكثرية في القيادة لا ينفذ في الحكم، ويمكن بعد هذا الحل السليم لحل المشاكل كي نلف ونحتال ونتهرب فنتخذ قرارا ونقول للحكومة وللمجلس هذه سياسة الحزب.. طالما هناك اثنان يخالفان رأي الآخرين، فلا موجب لاجتماع القيادة. هذا مريح جدا كي لا تكون هناك قيادة وقرارات، بل كتلة افراد يجتمعون حسب أهوائهم. ومنظمة العراق، وهي أعلى مستوى تنظيمي، بقيت عدة اشهر بلا توجيه، بلا نشرة، بلا انتخابات، ففرضت القيادة نفسها بدون شرعية.. فأين الشرعية التي يتذرعون بها؟.. ولكن عندما اصبح الحزب حاكما لا تجري انتخابات، والقيادة لا تجتمع، بل الافراد كل واحد يعمل على هواه، فإنني ايها الرفاق، اقول لكم بأننا، وأنا شخصيا، كنت اشعر بالخوف والقلق والذعر على مصير الحزب في العراق. كنت اعتز بحزبنا في العراق قبل 14 رمضان اشد الاعتزاز، وهذا معروف لدى الجميع، وكنت اعتبره الحصن الحصين للحزب في جميع الاقطار. ولكن بعد 14 رمضان بدأت اشعر بالقلق للتصرفات الفردية الطائشة.. رأيت ان المستوى ليس مستوى قيادة بلد وشعب، بل كان متناسبا مع ظروف النضال السلبي، وكم مرة صارحت الرفيق حمدي خاصة بذلك، ولأنني اعرف رصانته، بمخاوفي هذه، ولذلك طلبت من القيادة القومية السابقة ان تسارع الى عقد مؤتمر قومي في 17 أيار. اتفقنا على ذلك –أي بعد 14 رمضان بثلاثة أشهر ونصف ولكنهم جاؤونا في 15 ايار ليقولوا انهم لم يستطيعوا إجراء انتخابات– كانت هناك مشاكل أخذت بوادرها تظهر، وأخذت تشير الى ان هذا المستوى من القياديين لا يكفي لكي يحسن تسيير الثورة الى الشاطئ الأمين. ولأن هؤلاء الرفاق لم يعودوا يسمعون رأيا او نصيحة من احد، ولا من القيادة القومية، أعلى قيادة في الحزب. فكانوا بكل صراحة يقولون انهم في غنى عن أي رأي آخر، وكل رأي يقابل بالاستخفاف. قلت لهم: ان الرأي العام العالمي لا يُستخف به، وان الرأي العام العربي يجب ان نهتم به. كنا نسمع: وماذا يهم ذلك علينا في العراق؟.. ولكن كيف كان يساس العراق؟.. بالارتجال، بالاعمال الفردية، وبدون جد.. وأنا افهم من الثوار ومن الثورة ان يقضوا الخمس سنوات الاولى في سهر دائم، ان لا يأخذوا نفسا في السنوات الاولى، ان يناموا ويقوموا في مراكز عملهم، حتى لو لم تكن لهم الكفاءة والخبرة المطلوبتين، انما الغيرة الثورية اذا كانت جدية فتقتضي بهذا.. لم نشاهد شيئا من هذا بالعراق، بين اخواننا، فاغتروا بالنصر. ويجب ان نصارح بها انفسنا.. وطالما ان القيادة القومية لا يُسمع رأيها، والزمالة ليس لها حساب ايضا، فلم يبق الا العودة الى المؤتمر القومي. ضغطنا على إخواننا مرة ثانية وثالثة بان يجروا انتخابات حتى نعقد المؤتمر القومي، ووافقوا على ذلك، وأجريت الانتخابات وخرج منها مؤتمر قطري، ولأول مرة في تاريخ الحزب تبتدع بدعة بأن تجرى الانتخابات على دفعتين، فانتخب مؤتمر عام من (54) عضوا، وهذا بدوره انتخب سبعة وعشرين عضوا. أهذا أصولي ونظامي جدا؟ أما دعوة المؤتمر القومي في ظروف رهيبة فهو عمل فردي من قبل الأمين العام.. وأخيرا اجتمع المؤتمر القطري..
ايها الرفاق
هناك اعضاء القيادة القومية السابقة، بعضهم تواجدوا هنا في هذا الاجتماع، ويشهدون على القلق الشديد الذي كان يساورنا من استمرار هذه السياسة وهذا الاسلوب، وليسوا هم وحدهم، لا بل وجدت من واجبي ألاّ اترك القيادة في سوريا.. فالحزب واحد والمصير واحد، وما يصيب العراق يصيب سوريا بالدرجة الاولى، فدعوت بعض اعضاء المجلس الوطني الى اجتماعات، وهم حاضرون بينكم، وكنت احذرهم، واقول لهم باننا يجب ان نبادر الى تفادي النكسة قبل وقوعها، يجب ان ننصح اخواننا وان نردعهم، وان نعاونهم ونكمل ما في تجربتهم من نقص، لان استمرار هذه الاخطاء سيزيد في عزلة الحزب والحكم.
في المؤتمر القطري العراقي تكلمت، وحذرت، وكلمتي كتبها بعض الرفاق هناك.. حذرت من هذه الاخطاء، ولكن ربما قصرت ولم استعمل الكلمات القاسية الجارحة، ولم اصرخ بكل صوتي في البعثيين ان يتداركوا حزبهم وثورتهم وقضيتهم، كي لا تضيع.. قصرت، لم أتكلم بهذه الصراحة، وإنما أشرت الى الأخطاء، وقلت ان الحزبي الأصيل يستطيع ان يتغلب على هذه الاشياء ويتداركها، ولاحظنا في المؤتمر أسلوبا غير سليم، لا يدعو الى الاطمئنان. لم يكن مؤتمر حزب بعث، اذ لم اعرف مؤتمرات كهذا، بل كان برلمانا للمرافعة، لتسقط الهفوات اللفظية، للمحاسبة على شكلياتها، كما في المحاكم او البرلمانات، حيث التكتل والاحزاب المختلفة. ولم نر كلاما صريحا الا من القلائل جدا، ومن جهة واحدة.. لاحظنا بعض اعضاء القيادة القطرية او اثنين، حدثتكما عنهما بانهما كانا يخالفان السبعة الآخرين، وينتقدان هذه الأساليب والأعمال من أشهر. لاحظنا روحا تنذر بالخطر: إنهما يحرضان العسكريين على الحزب، ولذلك لم نسترسل في انتقاد الأخطاء وفي شرحها الشرح الكافي، لكي لا تستغل ضد الحزب، وقد حذرت هذين العضوين اثناء المؤتمر، ونبهت بعض الرفاق العسكريين، وخاصة الرفيق البكر، ذهبت الى مكتبه اثناء المؤتمر واجتمعت به بحضور رفيقين من القيادة القومية وكان كلامي في ساعة او اكثر ينصب على الفكرة التالية: الحزب اولا.. هذا الحزب لم يرتجل في يوم، ولم يصنع في يوم او سنة،.. هذه حركة تطلبت سنين وسنين حتى تأسست وفرضت نفسها من خلال الصبر والثبات والتضحيات وسقوط العديد من الشهداء، فليس كل يوم تصنع الأمة العربية حزبا بهذا المستوى، ولذلك يجب ان تنتبهوا، فلا يجوز الاستعانة بقوة من خارج الحزب على الحزب، بل يجب معالجتها ضمن الحزب.
أيها الإخوة
ورفاقنا يشهدون وسيقولون لكم ذلك،كنت اقول لهم اخطاء الرفاق هي افدح بكثير من تآمر الآخرين، لانها هي التي ستدفع الى التآمر، وتبرره. فالحزب اما ان يكون فعلا قد وصل الى الثورة وحققها عن جدارة، فعليه ان يحمي نفسه ضد كل المتآمرين، عليه ان لا يترك لهم ذريعة ليطعنوا به، والا فيكون وصوله غير طبيعي، وفي غير أوانه، لأنه لم يحقق المستوى القيادي اللازم لقيادة ثورة وشعب، وهي تختلف عن قيادة فِرَق وشُعَب.. كنت أقول لهم، هؤلاء الرفاق، كنت احدثهم عن نضالهم، وطالما سمعوا إعجابي بهؤلاء الرفاق، وبنضالهم السابق، ولكن ما العمل؟.. انهم لا يبرهنون عن جدارة في الحكم، وفي تحمل المسؤوليات في مرحلة البناء والثورة.. ليس عندهم الشروط لذلك، وانا اتمزق بين وفائي لهم ولماضيهم، وبين خوفي وقلقي من حاضر أعمالهم.. فعليكم انتم ان تساعدوني في الضغط عليهم، لكي يلتزموا ويتوقفوا عن هذا الاسلوب.. وفي المؤتمر القومي بقيت لنا فرصة أخيرة، وكنت اقرب الى التشاؤم في هذا المؤتمر، وقبل ان يبدأ، لأني لمست شيئا في اسلوب هؤلاء الرفاق تكرر و تكرر، فعرفت ان اسلوبهم هو التأزيم المتزايد.. التأزيم، اذا حققوا نصرا فيزدادون امعانا في الاخطاء نفسها، امعانا وغلوّا، بدلا من ان يستفيدوا من الدروس، وان يجعلوا هذا النصر للحزب. ولكنهم بدلا من ان يعتبروا ويبدأوا صفحة جديدة، ويحاولوا ان يروا نصيب الحقيقة في آراء خصومهم –لان كل معارض عنده نصيب من الحقيقة– بدلا من ان يضعوا الحزب فوق اشخاصهم، بدلا من ان يفتحوا صدورهم ليتغلبوا على عاداتهم، وليرعوا ذمة الحزب ومصير الحزب، وليغيروا من الأعمال المتطرفة التي اساءت وعزلت الحزب.. كل هذا لم يحدث، ولم يغير الرفاق شيئا من أسلوبهم بعد المؤتمر القطري، لان التصويت دل على عدم رضى كامل عن مثل هذه السياسة، ومثل هذه القيادة.. وكانت القيادة القومية بالقياس الى ما قبل الثورة تخص الحزب في العراق بنسبة كبيرة من التمثيل في المؤتمر القومي، بنسبة نضاله، وكان له رجحان وعدد كبير من الممثلين، واستمرت القيادة القومية على هذا المنوال، واعطت الحزب في العراق 25 ممثلا، بينما أخذت سوريا اقل من ذلك بسبعة مقاعد.. وتعرفون –ايها الرفاق– مرضا آخر من امراض العقلية الضيقة: هو ان هؤلاء الرفاق جعلوا العضوية في العراق بالحزب أشبه بالعضوية في الجمعيات السرية، فكان حزب البعث يضم الآلاف من شباب العرب في العراق من المناضلين الذين تعرضوا الى التجارب، ولكن هذه الآلاف حرمت من حق العضوية، وتحصر في مئات فقط.. وهؤلاء يحكمون الملايين في العراق، في حين انه لا يمكن ان تخرج إرادة صحيحة من هذه الفئة السرية. لا.. ليس هذا من روح نظام حزبنا.. ولكن هذا كان الواقع في المؤتمر القومي.. جاء رفاقنا بنسبتهم الكبيرة في التمثيل، ونعرف ايضا بان لهم في سوريا من هم متأثرون بهذا الاسلوب الى حد ما.. كان منتظرا اذن ان لا يؤدي المؤتمر القومي الى حل صحيح وجدي لأزمة الحزب، ومع ذلك بذلنا الجهود. وقد نبهت بعض الرفاق في الايام الاولى للمؤتمر الى ذلك، وطلبت منهم ان يتكلموا ويقولوا ما يعرفونه عن هذه الاخطاء كي يستطيع أعلى مؤتمر في الحزب ان يجد حلا. وتكلمت كثيرا في هذا المؤتمر، وحذرت كثيرا، وقد عدت لأقرأ الكلمات التي قلتها في المؤتمر القومي، الا انها كانت ضائعة، والتسجيلات التي سجلت في المؤتمر القومي لا اعرف ماذا حل بها.. قلت للمؤتمر القومي ان هؤلاء الرفاق ناضلوا وتعبوا، ولكني اشرت بوضوح الى اسلوب دخيل عن الحزب، او هذه هي قناعتي، سأقولها دائما، هذا أسلوب تكتل واحتراف لصنعة استغلال النظام الداخلي.. خذوها مني هذه الكلمة: صنعة وحرفة، بشكليات وفقهيات وبيزنطيات، لا يعقل ان يتحول البعثيون الى اشخاص من هذا النوع، وهم يستلمون مقدرات الملايين من أبناء امتنا، والأمة تنتظر تجربة البعث لكي ترى هل هي جديرة بالحياة؟.. ثم بعد اصابتنا بالنكسة تستمر هذه الشكليات بالمماحكة، كي ينفردوا بالسلطة، بالقيادة، لكي يطمس الرأي المعارض والمخالف، لكي تطمس الحقيقة.. ماذا حل بنا حتى نصل الى هذا المصير؟. أسلوب هجين غريب، فقد بدأ حزبنا بالصدق والبساطة ولا يستطيع ان يستغني عنهما هذا الحزب، هذه العقيدة البسيطة التي سمعت في الأشهر الأخيرة من التهكم عليها، ومن التعريض بها، ما يدمي القلب من كبار القياديين.. هذه العقيدة بفضلها وصلتم الى القيادة والحكم، لان الشعب العربي حينما أعطاكم الثقة، أعطاكم إياها بالنسبة للكلمات البسيطة التي عبرت عن عقيدة الحزب لا للتكتل والسرية. حذرت في المؤتمر القومي بكل محبة، وفي اعتقادي وضميري ان المحبة فوق كل قيمة. البعث هو اشتراكية علمية زائد روح.. لذلك راجعوا كلماتي في المؤتمر القومي. خاطبت هؤلاء الرفاق بكل محبة، ولم يُجدِ ذلك. كنت اقول لاعضاء المؤتمر القومي، بالحرف الواحد: إني وضعت عمري في هذا الحزب، ومن الطبيعي الا اطمح الا الى ان أرى الحزب ينمو وينجح، نجاحا صادقا، لذلك فاني اقلق وأحذر. اقول لهم عليكم ان تسألوني. وفي اليوم التالي قلت خلاصة تجربتي، وخلاصة تحذيراتي. ولما حان موعد انتخاب القيادة القومية الجديدة، ورُشحت، قمت واعتذرت.. وكان الكثيرون في المؤتمر القومي يعرفون من أيام انعقاد المؤتمر بأنني لن ارشح نفسي.. لأنني سأُستغَل كستار لا أكثر، لأنني لم ألمس أي تراجع عن الاسلوب، بل لمست الاسترسال والتمادي.. وانا اعرف بانهم سيرشحونني، وسينتخبونني بالإجماع لحاجتهم لي. ولماذا أساعد على إخفاء الحقائق عن الحزب؟.. واعتذرت، وحدث الضغط علي من كل جانب، ومنهم –من هؤلاء الرفاق انفسهم– من يعلم بان المؤتمر يفشل، وان الحزب ينقسم، وان.. لا اعلم ماذا يحدث؟ فأصغيت وسكت، وذهبت وبقيت يومين في حالة من التمزق، وأنا أرى الاخطار، فكيف أنبه الحزب؟.. استقالتي كانت واجبة، او اعتذاري عن الترشيح كان واجبا. ففكرت في الاستقالة واعتذرت يومين عن حضور الاجتماع، وتأخر الاجتماع، ثم ذهبت وبقيت ساعة او ساعتين، واعضاء القيادة ينتخبون وانا صامت ذاهل: أبقى او لا أبقى.. ومن ثم صارحتهم. قلت لهم ان هذه القيادة خرجت نتيجة تكتل، واذا كان هو الذي سيقود الحزب فسينهار، لان التكتل يغلب عليه العصبية وروح التكتل، اما اذا استطاعت هذه القيادة، رغم خروجها عن التكتل، ان ترتفع الى مستوى المسؤوليات، وان تنسى انها متكتلة، فأنا مستعد، والا فدعوني وشأني.. ويعرف بعض الرفاق أني فكرت في السفر بعيدا، كي يتساءل البعثيون في كل مكان عن سبب انسحابي وسفري.. قلت لهم: ليس من السهل ان يترك واحد مثلي حزبه. لذلك عندما أكدوا لي بان القيادة لن تعمل بروح تكتل بل بروح المسؤولية تابعت العمل… وفي جلسة تاريخية، قبل احداث العراق بأيام معدودة حضرها كل اعضاء القيادة عدا الرفيق البكر، اجتمعنا يومين، ساعات وساعات، ليلا ونهارا، وعالجنا مشكلة العراق.. وطرحت أسئلة على الرفاق، وقلت لهم، ان جوابكم عليها سيكون تاريخيا: هل هناك احتمال انقلاب ضد الحزب؟.. فكان الجواب: لا.. لا يوجد واحد على ألف من هذا الاحتمال.. لم يكن هناك اي شيء يخفى من تآمر عارف.. كل هذا كان معروفا او مفترضا، وهذا واجب القيادة ان تفترض ان المؤامرات لن تنتهي. فالجواب كان من البعض بالتردد، ومن الآخرين بالنفي، وهؤلاء الرفاق كلهم حاضرون..
ايها الرفاق
لن أذكر امام هذا العدد من البعثيين.. امام هذا العدد من المواطنين العرب –بصرف النظر عن كونهم بعثيين– فانهم مواطنون عرب، بشر، لن اذكر امامهم كل ما قيل بحقي من افتراءات واتهامات بعد نكسة العراق من رفاقي في الحزب، وفي القيادة القومية، وفي قيادة العراق، كانوا في المؤتمر القومي الأخير، وكانوا في السنين الماضية يقولون عني أشياء، وحتى في المؤتمر القومي الأخير قاموا وذكروا اشياء نسبوا الي الفضل فيها بدون ان أستحقها.. ولكن هذا الأسلوب، ليس المهم ان اجرح شخصيا، المهم هذه العقلية، والشريعة العجيبة التي تجيز مثل هذه الاحكام والتبدلات السريعة والمفاجئة، بالأحكام على الأشخاص.. التي تجيز في حزب يضم عربا ويضم أناسا أسوياء.. هذا الأسلوب الذي يجيز أن يتهم شخص بلغ الرابعة والخمسين من العمر، وقضى في هذا الحزب أربعا وعشرين سنة منذ اللحظة الأولى لتأسيسه، واستعد سنين قبلها للقيام بهذا العمل، ان يقال بحقه من الافتراءات ما لا يقال، وذلك فقط، لأني كنت دائما ومنذ أشهر عديدة أنبه بمحبة، وبدون ان أجرح أحدا، واقسى كلمة قلتها: ” الطيش، الارتجال”، كنت اقولها لتألمي على هذا الحزب.. لا أعلم ماذا سيقول الشعب البسيط عندما يجد ان حصيلة أربع وعشرين سنة في هذا الحزب المنظم هي هذه الطعون والتهم والمكافآت الرائعة التي تقدم لشخص يعرف –قبل اي انسان آخر– انه بسيط متواضع.. بل عربي وبسيط أراد ان يتحدى كثيرا من الاشياء في هذا الوطن. كل ما قلته اقتنعت به، وصلت ثقافتي الى هذا الحد، ووقفت عند هذا الحد.. وأقولها صادقا: إني اعرف نفسي وحدود إمكاناتي، ولكن أعرف نفسي أني صادق.. وقلت للشبيبة التي وجدت في الصدق ان لدي ايضا نواقص كثيرة ومواطن ضعف، ولولا إيماني بالله.. إني أؤمن به، وذكرت ذلك في كتاباتي.. الايمان بالله.. بالأمة العربية.. بالشباب العربي.. الذي أعطاني الثقة وأكثر مما استحق.. تغلبت ولم أيأس، بل تابعت الطريق الى هذه السن.. هذا، بكل بساطة، ما اريد ان يُعرف عني اذا عاش هذا الحزب، وسوف يعيش لانه صادق، وفيه بذرة صدق تكفي لإنقاذ امة.. اعرف كل شيء.. اعرف الظروف القاسية وما طرأ على الحزب من تشويه.. اعرف، ولا أحب ان استرسل أكثر من ذلك، ولكني أقول ان الذي يعيش بين عشرات ومئات وألوف من شباب العرب ربع قرن او اكثر –وكنت قبل تأسيس الحزب ومنذ صغري مؤمن بهذه المبادئ– وأبي قبلي كان وطنيا وتعلمت منه الوطنية، وهذه ولأول مرة أذكرها في حياتي.. أقول لكم، أيها الرفاق، من قضى العمر في خدمة العقيدة لا يخاف احدا ولا يهاب احدا.
2 شباط 1964
(1 ) كلمة أولى في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في 2 شباط 1964.
(2) عقد اجتماع القيادة القومية المقصود هنا مساء 10 كانون الثاني 1964، وحضره 9 أعضاء من أصل 13.
————————-
حول أسلوب التكتل
أيها الر فاق(1)
إن الأعضاء كباراً وصغاراً يجب أن يخضعوا للنظام الداخلي للحزب، هذه مبادئ عامة وهي وحدها المقبولة.. وسأحاول أن اشرح نظرتي والدوافع التي دعتني إلى اتخاذ مثل ذلك الموقف وهو.. (السفر إذا نشر قرار فصل الاستاذ صلاح في الصحف). اذا كان بعض الرفاق لا يعرفون المشكلة إلا بنتيجتها في ذلك اليوم فإنها قديمة وقديمة جداً، وهنا في هذا المؤتمر من يعرف موقفي منها منذ القديم، ويعرف أني دوما كنت أعترض على الانسياق في مثل هذا الطريق الضال خوفا على الحزب، وكانت الأحداث تأتي لتزيدني اقتناعاً بأن ذلك الطريق لم يكن طريق الخير والنجاح بل العكس تماماً. المبادئ العامة قام الحزب اساساً عليها، ما كان ليستطيع المضي في طريقه وأن يناضل ويلفّ حوله جماهير الشعب، وينتشر في شتى الاقطار العربية، ويدوم عشرين سنة وأكثر لو لم يكن صحيحاً. وهذا لا يمنع بالطبع من القول بأن هناك أمراضاً.
رفاق كثيرون في مسؤولية القيادة والسلطة يعرفون موقفي منذ أن ظهرت هذه الأزمة في الحزب، يعرفون بأني اكتشفت ما فيها من اصطناع وتزييف وافتعال، وأنه بالإمكان دوماً أن تتخذ بعض الأخطاء والتصرفات حججاً وذرائع من اجل تنفيذ خطة مقصودة وغرض مبيّت، وعندما أنتبه لذلك وأعترض وأحذر وأخاف، لا أخاف على صلاح البيطار.. لا أعرف كيف أصف الدرجة التي أحب فيها الحزب.. صلاح صديق العمر لي، هذا صحيح وتلازمنا وبقينا سنين طويلة ونحن في موقف واحد ننظر إلى القضايا العامة، ونحلل الأوضاع القومية لنقوم بخدمة ما، لنعمل شيئا لجيلنا ولوطننا، ولم يكن العمل سهلاً. وآخر الأمر صممنا وبدأنا وتعثرنا كثيراً، كل هذا الماضي الطويل يجعل من رفقتي وصداقتي لهذا الزميل شيئاً ثميناً وقوياً ولكني لا يمكن أن أضع فوق الحزب الذي من خلاله أرى مصلحة الأمة، أي شخص أو ولد أو بشر. ولكن هو خوفي على الحزب، وأعرف متى تكون المبادئ مطبقة لنفسها ومتى تكون مطبقة لدوافع ومصالح شخصية لا يقصد بها مصلحة الحزب، بل تنفيذاً لخطة حفنة من الأشخاص تحركهم الأغراض والنزوات، وأعتقد بأن ما وصلنا إليه هو دليل ساطع كالشمس بأن هذه الطريقة والخطة ليس فيها ضمير، وان اشياء كثيرة قد دخلت على هذا الحزب مفتعلة، تبين أن خطة وضعت لإقصاء أشخاص معينين، إذا ما أُقصوا فيمكن عندها للجماعة أو للشلة أن تنفرد بقيادة الحزب والسلطة، وتبرر في سبيل ذلك كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة.
جاء هذا المؤتمر بتصميم لأن يكون إنقاذا للحزب والبلاد، وان تسوده روح المحبة رغم كل شيء، وأنا لا أقول المحبة تعني التسامح مع الإقطاعي، بل في داخل الحزب يجب أن نحتكم إلى المحبة، فنحن أيها الرفاق في معركة تاريخية إما أن يصمد فيها هذا الحزب ويتحقق أمل كبير للأمة ويفسح المجال أمام تجربة ثورية بأن تبني نفسها شيئاً فشيئاً، أو أن تتبخر وتتلاشى في هذه المعركة. كان من المفروض، كان العقل والوجدان والروح الحزبية والقومية، كل هذا كان يقتضي بأن نكون أشد تماسكا وتراصاً وتضامناً من أي وقت مضى، لا أن نفتح معركة داخلية في الحزب من الصراع على المراكز والمناصب والقيادات ونلهي الحزب بهذه الأشياء وننسى اننا محاطون بالأعداء. أن من يستلم حكما يجب أن يعطي كل يوم وكل شهر شيئاً جديداً للشعب حتى يحصن الحكم نفسه أمام مؤامرات الأعداء. في هذا الظرف بالذات كنا واثقين ببعضنا فإذا بالمعركة تفتح، ونفاجأ بمعركة مفتعلة مصنوعة ولو أنها ارتكزت أيضاً إلى أشياء حقيقية من نواقص في الحزب والأشخاص. ولكن هناك فرقاً كبيراً بين تذرعنا بالنواقص هذه، للتهديم، وبين أتمامها وإكمالها. كيف أجاز البعض لنفسه في مثل هذه الظروف القاسية أن يبدأ مثل هذه المعركة؟! انا عرف أن الخطة قديمة ولكنها لم تتخذ هذا الإسراع في التنفيذ إلا في وقت معين وعندما ظهر بأن السلطة قد خلصت للحزب، أي في اللحظة الثمينة النادرة التي أتيحت للحزب كي يعطي ويقدم ويستقطب الجماهير في سوريا وأن يكسب ثقتها ويسترعي اهتمامها في الأقطار العربية الأخرى، في هذه اللحظة التي كان يطلب منا فيها الوحدة التامة في الحزب كي نتمكن من التحقيق والانجاز، فتحت معركة الانقسام. لم يكن صلاح البيطار إلا وسيلة ومناسبة وأداة، لم يقصد بشخصه، لذلك نبهت إلى الخطر.. لم أكن أقصد شخصا مهما كانت قيمته وكفاءته -ومهما كانت معزته عندي – وإنما كنت أقصد الحزب. ثم تتالت الفصول للخطة، وعندما لا نبت في خطر كهذا الخطر ولا نوقفه عند حده فأن الأمور كلها تضطرب وتختّل، وعندها يمكن أن يُدفع الشخص المخلص دفعاً ودون انتباه وتقدير للعواقب إلى المخالفات، إلى أعمال يائسة.. الأشياء التي جمعت وضخمت واختلقت على صلاح البيطار قبل المؤتمر القطري لم تتناوله في إخلاصه للحزب وفي عقيدته ومبادئه وإنما تناولته في بعض تصرفاته بالحكم، ولكن فيما بعد تطورت الأمور وبشكل أراني مضطراً أن أصرح ببعض الأشياء..
بعد نكسة العراق وقد أطلعتم في جلسة أمس على أشياء كثيرة من هذه الصفحة، بعدها شعرنا كمسؤولين عن هذا الحزب وعن ماضيه ومستقبله اننا مطالبون بعمل سريع وبنقد ذاتي، نرفع فيه عن الحزب مسؤولية أخطاء وتصرفات أستغلها أعداء الحزب في العراق وخارج العراق وضخموها عشرات المرات وأضافوا إليها واختلقوا، لكن لا شك أنه كان هناك لها أساس من الحقيقة سمح لهؤلاء الأعداء والخصوم لأن يتمادوا في الافتراء، فشعرنا بخوف مشروع علي الحزب من أن ينال منه الأعداء ويشككوا فيه وفي عقائديته وتكوينه كله، اذا كان الحزب يسمح لمثل هذه الأخطاء أو يتغاضى عنها أو يعجز عن تصحيحها في حينها. هذا ينال الحزب مباشرة وفي الصميم، وبالتالي يضع سداً منيعاً بينه وبين الشعب وإلى سنين. وعند ذلك على الحزب أن يبذل جهوداً كبيرة لإزالة هذا السد.. وعندما جاء رفاقنا العراقيون الذين أبعدوا إلى اوروبا ثم عادوا إلى دمشق واجتمعوا في جلسة بالقيادة القومية، صارحناهم بعض المصارحة لا كلها، لأنهم كانوا في حالة من الانفعال والتأثر، وشملتنا هذه الحالة ومنعتنا من المصارحة الكاملة، انهم رفاق وحالتهم لا بد أن تؤثر فينا، ولكن قلنا لهم: أن ما نعهده فيكم من روح حزبية عالية تجعلنا نأمل ونتوقع منكم أن تقدروا ظروف الحزب وظروف البلاد، دون أن ينبهكم أحد إلى ذلك. ولكن الرفاق بقوا في حالة التأثر وقالوا بأنكم تطردوننا طردا او شيئاً من هذا، وكان هذا كلاماً قاسياً ولا أريد أن أطيل أكثر من هذا في الموضوع. المهم أن هذا أيضاً صعّب علينا المهمة وأخّر علينا عملية النقد الذاتي التي كانت واجبة، ليبقى الباب مفتوحاً وواسعاً بين الحزب وبين جماهير الشعب، ويبقي على وحدته الداخلية ويبعد عنه التمزق والتشتت في الاجتهادات، ولعكم عشتم وشاهدتم مظاهر تلك الأزمة في تلك الأيام القاسية، ولكننا نحن شاهدنا الشيء الكثير سواء من رفاق العراق أو من خارجه وبعضهم أخذ يستغيث أن يبرأ الحزب من الأشياء التي تنسب إليه، سواء استطاع المستلمون الحكم بعد النكسة ألا يصدروا فضائح الحزب ولو كانت بأكثريتها مزورة. وعليه أُجلت عملية النقد التي كانت لها فوائد كبيرة.. اعتقد أن صلاح البيطار مهما ظن فيه بعض الرفاق ومهما بلغت الانفعالات الشخصية لا يمكن أن ننكر عليه بأنه احد مؤسسي هذا الحزب منذ اللحظة الأولى لوجوده، وأنه وضع فيه كل كفاءاته وأتعابه، وبالتالي يشعر كما يشعر كلنا بالغيرة على الحزب وعلى سمعته، ويتألم أعمق الألم إذا لم يرتفع من الحزب صوت جريء موضوعي ليقول للعالم كله: كلا ليس البعث فاشياً، لا يجيز البعث التقتيل والتعذيب، لا يجيز هذه التصرفات اللا إنسانية. إن أشياء كثيرة زُوِّرت على الحزب ولكن وقعت بعض الأخطاء، وعلى الحزب أن ينقدها برجولة، وتعرفون أني قلت كلمة مختصرة جداً بمناسبة مهرجان نصرة عدن وضمنتها أسطراً معدودة من النقد الذاتي بصفتي الأمين العام للحزب. وصحيح أن صلاح البيطار تصرف تصرفاً فردياً عندما نشر تصريحاً في الصحف، ويعرف بعض الرفاق وهم حاضرون كيف كان رد الفعل عندي عندما قدموا لي الجريدة، ولكني أقول بكل صراحة أن التذرع بهذا لفصل صلاح من الحزب كفر.. وليس هذا انتصارا لشخص، كلا! وإذا كنا سننتصر لأشخاص بعد هذه المآسي فلسنا بشراً، ولكننا سننتصر لقيم حزب مناضل منذ عشرات السنين يقدم لهذه الأمة التي ظلت مئات السنين تشكو من ضياع القيم الإنسانية. اذا كان الحزب سيفكر بمثل هذه القيم ويتذرع بهفوة ليفصل مؤسسا للحزب، ماذا نقول للناس وللشعب، الذي يجب أن نقدم لهم قيما جديدة، إذا كنا نحن نتشفى من بعضنا..؟ اعرف أن المنطق يعطي أسلحة جديدة لكل من يبرر، وأعرف هذه المبررات والحيل ولكنها لا تنطلي علي بكل صراحة. ولما لم أجد التجاوب التام أو بالاحرى لم أجد عملا يوقف مثل هذه الأساليب التي تكاد تودي بالحزب، وإلى اين نحن سائرون، عندها نعم فكرت في السفر وذهبت إلى رفاقي في القيادة القومية، وقلت أن هذه الحالة لا تطاق، وغداً إذا نشر الخبر في الصحف سيعتبر كارثة للحزب، وأخبار المؤامرات من كل جانب تحاك ضدنا، فلماذا هذه الضجة الآن؟ ولماذا هذا الدليل الجديد على التصدع وعلى الانهيار؟ بوسع بعض الرفاق أن يظهروا الأمر على غير هذه الصورة، بأن هذا بداية للحياة الجديدة: انضباط، خضوع للنظام.. ولكن بصراحة أقول: لن تنطلي عليّ هذه الأقوال.
أنا تكلمت في المؤتمر القومي عن التكتل الذي نعرف أصوله منذ زمن الانفصال وتتبعناه وكان يقوم على إبعاد أشخاص معينين عن الحزب.. وبشكل وبكلام صريح واضح، كان يقوم على إبعاد صلاح وميشيل عن الحزب، على مراحل، وقد أُبعدنا فعلا عن التنظيم، ولم نصرح في ذلك وأنا هنا أريد أن أتكلم عن شخصي، لأني لم أتكتل مع أحد طوال حياتي الحزبية.. ويعرف الرفاق أنني اختلف في أمور كثيرة مع الأستاذ صلاح، ولكن نحن انتبهنا إلى هذا الأسلوب غير السليم وغير البناء.. هناك وقائع كثيرة أكتفي بواحدة منها: في شهر تشرين من عام 1962 سافرت إلى الجزائر بمناسبة أعياد الثورة وبقيت مدة خمسة وعشرين يوماً غائباً عن سوريا، وعندما عدت وجدت نشرة داخلية من خمس عشرة صفحة، وزعت في غيابي، في سوريا وخارجها، صادرة عن القيادة القطرية المؤقتة لسوريا بعنوان (أزمة الحزب) فيها مغالطات وتجريح بماضي الحزب كالذي هو في هذا التقرير(2)، أي من يقرأ هذه العبارات التي تصدر عن الحزب، والتي تقول أنه لم تكن فيه إلا التكتلات والصراع بين القادة الكبار وانه لم يتحقق الانسجام فيه يوماً من الأيام.. يتساءل المرء كيف يمكن لحزب كهذا أن يعيش هذه المدة وأن يحقق ما حققه من انتشار؟!.
في المؤتمر القومي، أيها الإخوان، تكلمت عن هذه الظاهرة، وقلت أنه قد يكون الذين بدأوا هذا الأسلوب، قد يكونون مدفوعين بدوافع خيرة، بدوافع الغيرة على الحزب وإرادة النفع له، لهم قناعتهم، وقد يكونون مصيبين في وضع تصور حل أزمة الحزب، بذهاب فلان وفلان، وأشياء أخرى أيضاً، ولكنهم يعتقدون أن ذهاب شخصين تحجرا ولم يعودا من جيل الشباب… يمكن أن يكون ذلك!! ولكن الأسلوب غير سليم، لأن الذين ندعوهم إلى هذا التكتل باسم مصلحة الحزب، لينقذوا الحزب من عادات وجمود.. هذه الدعوة بأسلوب التكتل ستشوههم، فلن يكونوا المنقذين للحزب طالما أنهم بدأوا الإنقاذ بعملية غير سليمة، ثم كي ينجحوا في التكتل لا يتحرون النوعية، يكونون في الأول مجموعة من (5-10) من نوعية جيدة ونشيطة، تهيئ الحزب لانطلاقة جديدة، ولذلك افترضت دوما النية الحسنة، ولكني كنت متخوفاً دوما من الأسلوب، وأن يتحول التكتل من بعد إلى نوع من العادة وإلى تضامن قد لا يكون دوماً على الخير. صحيح أن الحزب كان يشكو دوماً من ضعف الروح النظامية، هذا صحيح، وصحيح أنه يجب أن يقفز قفزة نوعية أيضاً، وهذا ما نحلم به. ولكن يجب أن يكون البدء أيضاً نظاميا وإلا تشوهت العملية كلها منذ البداية.
لا أظن انه يخطر على بالكم بأنني عندما أتخوف من الأسلوب أكون متخوفاً على شخصي وبقاء مركزي في الحزب، قلت لكم بالأمس وأكرر بأني من سنين طويلة، وقد يكون من السنوات الأولى لتأسيسه ولاعتبارات كثيرة كنت أتمنى بإخلاص وصدق أن أكون عضواً عادياً في الحزب وأن أقدم أحسن ما عندي للحزب دون أن أكون في قيادة ما او في منصب ما. أحياناً كثيرة كنت اشعر وأتصور بأنني ربما أكون عقبة في طريق هذا الحزب، وإذا جاز لي في هذه المناسبة أن أصارحكم ببعض ما اختلج في نفسي بحياتي الحزبية، أقول لكم بأنني أصبت ببعض العقد النفسية، كنت أشعر أن أعداء الحزب يحاولون طعن الحزب وإضعافه من خلال شخصي، من جهة، لاعتبارات معروفة، ومن جهة ثانية، ليس عندي طموح الزعامة، وهذا نقص كما أظن. كنت في تناقض.. فمن جهة أشعر بغيرة على الحزب لأنه يعادل حياتي كلها، ومن جهة ثانية أشعر أنني عقبة في طريقه، وتستطيعون أن تقدروا الآلام التي انتابتني خاصة هذه السنة في الأزمة مع عبد الناصر.. وقد كان واضحاً لي حيث هذه الأجهزة لا بد أن تستغل هذه النواحي، وكنت بيني وبين نفسي أفتش عن مهرب اذا شئتم فلا أجد. لا استطيع أن أترك الحزب ولا اقبل أن أضره. وتريدون تفاصيل أكثر من ذلك فهذه ليست أوهامي، بل حقائق حين حدثت ثورة 14 رمضان كنت والبيطار في تنزانيا، وعدنا وفي مطار القاهرة شاهدنا محرر أخبار اليوم، وكان المتكلم الأستاذ صلاح، وكنت قليل الكلام، وطرح علي أسئلة وأخذ يكتب، وفي صحف القاهرة نسب الكلام بأجمعه لي “زعيم حزب البعث ومعه عضو في الحزب”، وشعرت أن الخطة بدأت منذ ذلك اليوم لإبراز إسمي وطعن الحزب. هذا شيء من الأزمة التي نعانيها في داخل الحزب. لذلك نحن في مراكز لا نحسد عليها، وفي كل مؤتمر قومي أحاول أن أبتعد ثم أجد نفسي بشكل من الاشكال مضطراً للقبول، وفي هذه المرة في المؤتمر القومي السادس أخذت أخاطب نفسي وأقول لا يجوز أن اخطىء وأقبل.. وضغطوا علي وقبلت ولكن هذه الغيرة على الحزب وهذا الحب يعطيني الحق في أن أصرح، والمسألة ليست مسألة صديق عزيز علي بل المسألة أخلاقية: ليست بهذا الشكل تبنى الثورة العربية وتصحح الأخطاء وتقوم الأوضاع الفاسدة منذ مئات السنين، وليس بهذا الشكل يكافأ الأشخاص الذين وضعوا حياتهم في الحزب. ثم أن هناك أموراً تتعلق بالناحية السياسية، فعندما يفصل شخص من هذا الوزن فله معنى كبير في علاقة السلطات بعضها ببعض، لذلك انا أعتبر بأن الموضوع جدي، وأن من واجب هذا المؤتمر الذي دفعته الحساسية للحرص على النظام، جدير به أن يعيد النظر في مثل هذا القرار الذي فصل بموجبه الأستاذ صلاح.
3 شباط 1964
(1) كلمة ثانية في المؤتمر الفطري السوري الاستثنائي في 3 شباط 1964.
(2) تقرير القيادة القطرية في سوريا للمؤتمر القطري الاستثنائي.
————————————
لماذا الإصرار على تجاهل الأخطار
أيها الرفاق(1)
عندما صممنا على عقد هذا المؤتمر، صممنا أن نحافظ على الروح الإيجابية فيه، وأن نحول دون أي ترد للمناقشات يمكن أن يعطل مجهود المؤتمر، ويعطل الغرض الاساسي منه، وهو إنقاذ الحزب والبلاد في هذا الظرف. لذلك أحببت أن اذكر جميع الرفاق بهذا العهد الذي قطعناه على أنفسنا في القيادة القومية عندما طلبنا من القيادة القطرية أن تدعو المؤتمر القطري وقلنا لهؤلاء الرفاق أكثر من مرة: ليس القصد وضع المسؤولية على أشخاص معينين بل القصد الخروج من الأزمة. وأقول دوما بأن روح المحبة تستطيع أن تتغلب على جميع المصاعب، لذلك فيما يخص هذه التعريضات والتلميحات التي تريد أن تصل إلى حد الإتهام ولا تجرؤ، أو تريد أن تلقي ضبابا من الشك.. وإذا وصل الحزب إلى حد التشكيك بالشخص الذي بدأ هذا الحزب وبقي إلى هذا اليوم فإني أعتبره شرفاً لأني عند ذلك أكون السبيل إلى شفاء هذا الحزب من مرض خطير دخيل على الحزب، لأنني كنت الضحية، والحق لا بد سيظهر.
وجوابا على سؤال عن سبب دعوة المؤتمر القومي الموسع،(2) فأقول:
المطلوب أن نقدر الظرف الذي نحن فيه. لن نيأس مطلقاً من يقظة الضمير عند كل بعثي، لن نيأس حتى لو شاهدنا مراراً وتكراراً هذا التشبث بروح تكتلية، هذا الإصرار على تجاهل الأخطار المحيطة بنا، لن نيأس لإن مكانا يضم عشرات من أعضاء هذا الحزب، باعقادي، لا يمكن إلا أن يصلوا في النتيجة إلى التعبير عن مصلحة الحزب.
من يخطر له أيها الأخوان أننا اخترعنا شكلا جديداً أو بدعة جديدة للمؤتمر القومي من أجل غرض شخصي أو غرض خاص؟ لو كان في الأمر شيء من هذا القبيل لما كنا نضع قواعد موضوعية. فأنا أجهل من هم أعضاء قيادة فرع دمشق! لو سئلت أن أعد خمسة أو عشرة أعضاء قياديين في سورية لتعذر علي ذلك نظراً لانقطاعي عن التنظيم منذ سنين، ولكن الأمر بديهي. وقد كنا نتحدث في موضوع المؤتمر القومي وفي دعوته وكان هناك عدد من الرفاق وجاء اقتراح من احد هؤلاء الرفاق بأن ظرفاً كالظرف الذي نحن فيه، وبعد نكسة كالتي مرت على الحزب، وأمام هذه الأخطار التي تهدد مصير الحزب والبلاد يحسن أن يكون المؤتمر موسعاً كي نقترب من آراء الحزب الحقيقية، من آراء القاعدة والقياديين في كل مكان، لا أن نأتي إلى جمع ضيق برهن قبل ثلاثة أشهر أو أكثر بقليل، انه عجز عن تفادي النكسة الى كانت بوادرها ظاهر، وهذا سيكون أضيق من شكله الأول اذا دُعي نفس الأعضاء.
فهل تريدون أن يأتي مؤتمر من عشرين او ثلاثين عضوا ويبت في أمور تتعلق بمصير الحزب ومصير البلاد وان نضحك على أنفسنا ونكون نسير بأنفسنا نحو الكارثة؟ من يعترض على توسيع التمثيل؟ إن توسيع التمثيل أمر مرغوب فيه وطبيعي، خاصة في وقت الأزمات فنحن لا نجمع الناس من الطرقات، بل نأتي بالقيادات المنتخبة، وبعد أن اعتمدنا هذه الطريقة، لو نستطيع اختيار طريقة أفضل لاخترناها. هناك أزمة مرت على الحزب وهزت الضمير، حدثت نكسة خطيرة. فلماذا الارتباك والتناقضات؟ والشعب مستعد لقبول حزبنا! هذه أشياء يجب أن تُطرح على ضمير الحزب وهو يتجلى في عدد واسع، لم يدع الأمين العام أشخاصاً، بل دعا قيادات دون أن يعرف أحدا منها.
3 شباط 1964
(1) كلمة ثالثة في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في 3 شباط 1964.
(2) أي المؤتمر القومي السابع.
————————————————-
نجاحنا يكمن في صدقنا ومصارحتنا للشعب
ما زلنا بحاجة ماسة إلى الزهد والصبر والارتفاع فوق الأنانية
ايها الاخوة(1)
كنت أتمنى لو أن الرفاق الذين هيأوا هذا الاجتماع، قبلوا عذري وأعفوني من الكلام في مناسبة من أبهج المناسبات وأحلاها على قلبي، ولكنه التعب والسن يمنعاني من المشاركة، ولو اني أجد نفسي مضطراً أن أقول بعض الكلمات، وكان الأجدى أن تكون تلك الأبيات من الشعر الطيّب الخالد هي ختام هذا الاجتماع، فاعذروني إذا وجدتم الفرحة والتأثر يعقدان لساني.
الفرحة بهذا الايمان الذي يتجدّد على الأيام، والذي ينتقل من جيل الى جيل، ويبعث الثقة والاطمئنان بالمستقبل والنصر الأخير، فرفاقكم الذين بدأوا هذا الحزب منذ أكثر من عشرين عاماً لم يبغوا الاّ أن يروا هذه الحركة أمانة في اعناق الشباب العربي، وفي اعناق الجماهير العربية، لا ملكاً لفرد او نخبة من افراد.
كان هذا هو القصد العميق من تأسيس حركة البعث، وكثيراً ما قلنا وقال المؤسسون والمناضلون في هذه الحركة، بأنها وليدة آلام الشعب، وان آلامه هي التي خلقتها، وان الحاجة التاريخية هي التي استدعت ظهورها، وان المفكرين والمناضلين فيها لم يعملوا اكثر من تلبية هذا النداء المنبعث من اعماق امتنا، ولم يفعلوا اكثر من ترجمة هذه الحاجات وهذه الأهداف التي تجول في ضمائرنا وضمائر شعبنا في كل قطر من أقطاره.
أيها الاخوة
عندما أستعرض في ذاكرتي تاريخ هذه الحركة، أجد أننا كلنا أردنا لها أهدافاً وصفات عالية متكافئة مع صعوبة المهمة. وأجد في الوقت نفسه أننا قصّرنا في كثير من الأحيان عن تحقيق كل ما أردناه لحركتنا، وأمتنا، وأن أكبر ضمانة لاستمرار هذه الحركة ولنجاحها في تأدية رسالتها هو في صدقها، وفي مصارحتها لنفسها وللشعب، فيما ينقصها وفيما يعوزها من أشياء لم تستكمل الشروط اللازمة لتحقيقها. فما دمنا نشعر بهذا الحس العميق الحي الى الصدق والى الصراحة.. ما دمنا نثور على أنفسنا وعلى أخطائنا وعلى الغرور الذي قد ينتابنا في وقت من الأوقات، وعلى الشهوات التي قد تجد إلينا سبيلاً في ظرف من الظروف.. ما دامت هذه الحركة تحتفظ بالضمير الحي، بحسّ الصدق، بحب الحقيقة، بشعور الرسالة، وبأنها من أجل الشعب وُجدت، ومن أجل الأمة، ولم توجد من أجل أفرادها، وبالتالي عليها أن تعلو دوماً فوق نفسها..
ما دام هذا الحس موجوداً، ونابضاً، وحياً، فإننا نستطيع أن نطمئن إلى المستقبل، وأن نواجه المصاعب، وحتى النكسات، بروح عالية وبإرادة صلبة، تتغذى من الانتصارات والانتكاسات على السواء، لتكمل هذا البنيان، وتصحح ما فيه من خلل، ولترفعه عالياً بقدر ما هي أهداف الأمة العربية عالية وبعيدة.
أيها الاخوة
لقد وقع حزبنا عبر نضاله الطويل في بعض الأخطاء، ووقع بعض القياديين فيه في أخطاء غير بسيطة، ولكن هذا لا يبرر ولا يخفّف من جريمة المتآمرين على الحزب، من الرجعيين أو من ذوي المصالح والأغراض.. ويكفي هذا الحزب فخراً وثقة بسلامة اتجاهه وسيره، انه ما هوجم يوماً، ولا سُلّطت عليه الحملات والافتراءات، إلاّ وكان المستفيد منها أعداء الأمة العربية وإلاّ كان حصيلة ذلك إنعاشاً للاستعمار والرجعية في الوطن العربي، وهذا ما حصل في العراق بعد نكسة تشرين الثاني، حيث لم يخلف الحزب حكم أكثر تقدمية، وأصدق عروبة، وأقدر على تحقيق أهداف الشعب، من حكم الحزب، رغم أخطائه وثغراته.. بل العكس هو الصحيح.
ايها الاخوة
من المشاكل الفكرية والعملية التي واجهناها منذ تأسيس هذه الحركة الى الآن، مشكلة حية، هي هذا الميل الذي يظهر عند بعض الشباب إلى الانطواء والتعقيد.. إلى الاستعلاء.. فكنا دوماً نقول ونكرر أن حركة البعث ليست جمعية سرية ولا إرهابية.. ليست مدرسة فكرية معقّدة لنخبة من المثقّفين، ولكنها حركة شعبية للجمهور الواسع، ودعوة للشعب العربي كله، وهذا لا يمنع أن تكون حركة أصيلة وعميقة.
واذا وقع شيء من هذا، فالحزب أو الحركة مهدّدة في وجودها بالذات. وقد يكون في الماضي أخطاء، وقد يكون فيه ثغرات ونواقص، في الأشخاص، وفي الأشياء، وفي المنجزات، ولكنه هو الماضي.. هو الأصل والأساس.. ولا نستطيع أن ندّعي بأننا نحمل رسالة تاريخية ونحميها، وأن نجهل الفكرة الأساسية لحزبنا، وهي التي تلخص الدوافع العميقة التي دفعت أمة بكاملها.. شعباً بكامله.. إلى خلق هذه الحركة نتيجة الآلام والعثرات الكثيرة.
إن في تراث الحزب وفكرة الحزب تلخيصاً لهذه الدوافع، ولهذه الظروف النفسية والفكرية والاجتماعية والاخلاقية، التي كانت سبباً في ظهور حركة تاريخية.. فإذا كان لهذه المناسبة التي تحيونها اليوم من عبرة وعظة، فهي بالدرجة الاولى أن تحافظوا على وحدة حزبكم.. الوحدة في كل شيء وفي كل معانيها.. الوحدة في الحاضر، وفي المكان، وفي الفكر وفي الأسلوب.. الوحدة بين الماضي والحاضر، لكي نستطيع أن نبني المستقبل.
ايها الاخوة
في الوقت الذي يستلم فيه الحزب السلطة، تنفتح أمامه إمكانيات عظيمة للتحقيق، وتنفتح في الوقت نفسه مجالات كثيرة للانحراف والاستغلال(2)، فالسلطة امتحان كبير، وقاسٍ، ولا يعصم حزبنا من المزالق إلا هذا التذكّر الجدّي، الصارم، الواثق.. تذكّر للماضي.. للدوافع الحقيقية العميقة.. للضرورة التاريخية التي استدعت ظهور هذه الحركة.. فعند ذلك نأمن الزلل، وعند ذلك نعلم بأن هذا الحزب لم ينجح في الماضي، إلاّ لأنه كان في تفكيره علمياً وواقعياً ومخططاً، وبأنه لا يستطيع أن ينجح في الحاضر الاّ إذا كان أيضاً معتمداً على قواعد العلم والتخطيط والواقعية، وإلاّ اذا كان ايضاً كما كان في الماضي، عائشاً في جو ثوري حقيقي.. في الجو الأخلاقي.. في جو الرسالة التاريخية التي تتنـزّه عن الأغراض الشخصية، وعن الشهوات، وترفع النفوس، وتمد الأنظار والأبصار الى بعيد، الى الآفاق العالية، لأننا بحاجة مستمرّة الى هذا الجو لكي نحفظ لهذه الحركة اصالتها، ولكي يبقى جو المحبة هو المسيطر عليها، ولكي تنسجم النشاطات والكفاءات، وتصبّ كلها في نهر واحد.. في نهر الثورة العربية والمصلحة القومية، لأن مهمتنا ما زالت كبيرة وصعبة، وما زلنا في أول الطريق.
أيها الاخوة
رغم مرور عشرين سنة على نضالنا، ما زلنا بحاجة ماسة حيوية الى النظرة الاولى التي رافقت نشوء هذا الحزب.. الى نظرة الزهد، والصبر، والارتفاع فوق الأنانية، والى الايمان بكلّ معانيه، فالايمان لا يتعارض مع التفكير العلمي، والنظرة العلمية إنما يعطيها الايمان الروح والغذاء، وبعطيها الصبر والنفس الطويل، ويقيه من اليأس والتخاذل والنفعية والانتهازية.. الايمان بالمثل.. الايمان بالحقيقة.. الايمان برسالة الأمة العربية.. الايمان بالله.
7 نيسان 1964
(1) كلمة بمناسبة الذكرى السابعة عشر لتأسيس الحزب.
(2) حذفت جريدة “البعث” التي نشرت تلك الكلمة لفظتي الانحراف والاستغلال.
————————————-
مشكلة السلطة في الحزب
المشروع المقدم(1) من قبل الحزب (حول الكيان الفلسطيني) ما هو من قبيل التكتيك، بل هو تعبير عن قناعة الحزب في اصحّ أسلوب لتنظيم الفلسطينيين من أجل معركة التحرير.
موضوع الأرض في المشروع يبدو أحياناً، بأنه وُضع لإحراج الآخرين، البعض يستنتج بأنه تكتيك لإحراج حكومتي مصر والأردن. في الواقع ليس هذا قصد الحزب، وإن كانت القيادة تقدّر بأن شرط الأرض صعب التحقيق جداً، إذ توجد عوائق عملية واقعية شائكة تعترض تحقيق هذا الشرط ولكن للأمانة والفكرة نقول بأن الأرض شرط لجدية المشروع، وان لم يتيسّر توفيرها الآن فتكون للمستقبل. ويجوز أن نبدأ بالتنفيذ ولو لم يتوفر شرط الأرض.
ذكر هذا الشرط في المشروع هو من قبيل التعبير عن الصراحة الثورية لأن هذه هي قناعتنا – الكيان يجب أن تكون له أرض. والفرق واضح بين مشروع الحزب وما ضمنه من شروط وبين المشروع الذي باشر الشقيري بتحقيقه والذي هو عبارة عن تسوية بين الحكومات المختلفة. وبمقدار ما تنجح الثورة في سوريا بتثبيت أقدامها والانطلاق في تحقيق أهدافها -وبالتالي كسب ثقة الشعب العربي في داخل سوريا وخارجها- بمقدار ما تستطيع أن تُخرج هذا المشروع الى حيّز التطبيق، إذ بينه وبين سلامة الوضع الثوري في سوريا ومتانته واستمراره رابطة وثيقة.
هذا ينقلنا الى الموضوع الأساسي وهو وضع الثورة في سوريا، ولا شك بأن الوضع الاقتصادي شيء أساسي وخطير في وضع الثورة.
في الأشهر الستة الأخيرة ظهر ارتباك كبير وتخبط وعجز عن الانجاز والتحقيق ووضح هذا للجميع، حتى للعالم الخارجي. وإذا أردنا أن نوجز الأسباب الأساسية نرى انها في الدرجة الأولى نتيجة فشل الحزب في العراق وتضييع الثورة هناك فانعكست على سوريا وجرأت الأعداء في الداخل والخارج، مما سبب هذا الارتباك. ولكن هناك اسباباً اخرى على مكان من الخطورة والأهمية: نقص التجربة في الحزب، والنزاعات الداخلية في الحزب.. النزاعات الداخلية تذرّعت بخلافات مبدئية وعقائدية، وانعكس كل ذلك على الرأي العام وترك انطباعاً بالضعف والفوضى والعجز أحياناً. وإذا وضحنا هذه الأسباب بعض التوضيح نرى أن الحزب، بعد ثورتي رمضان وآذار، فاجأ الأعداء بخطر في مستوى لم يكونوا يتوقعونه فجمعوا كل ما عندهم من قوّة وحيلة لضرب الحزب ولعدم تمكينه من تحقيق اهدافه وانجاح تجربته لأن نجاح تجربة الحزب في قطرين هامين كسوريا والعراق له معناه الواقعي -والأعداء يفهمون ذلك قبل غيرهم- ان هذه التجربة ستشمل الوطن العربي كله بسرعة. فمن المعروف أن للحزب تنظيماً في مختلف الأقطار العربية ومعروف بأنه يستمدّ قوته من الشعب لا من زعامات إذا انتهى الأشخاص تنتهي معهم. إن خطر الحزب على الاستعمار وعلى الذين يرون فيه منافساً وعائقاً لتحقيق مصالحهم في الوطن العربي خطر كبير. كان من المفروض إذن أن نقدّر ضراوة المعركة قبل أن تبدأ الثورة أو منذ بدايتها وقبل أن تنكشف كل الخطط وكل الأسلحة والوسائل التي ألقى الأعداء وخصوم الحزب بها في المعركة. كان هذا يتطلّب وجود خطة واضحة ومفصّلة ولم تكن موجودة. ان وضع خطة بعد قيام الثورات هو أمر صعب جداً أيضاً لأن الانغماس في المشاكل اليومية والحاجة إلى مواجهة الأحداث يوماً بعد يوم تعوق وضع هذه الخطة، وان كان يمكن أن توضع خطوط عامة تغتني يوماً بعد يوم بالتجربة.
الخطوط العامة كانت موجودة، وموجودة حتى قبل قيام الثورة، لكن كان من الواجب وجود سلطة في الحزب تفرض الالتزام بهذه الخطوط العامة للخطة وعدم مخالفتها أو الابتعاد عنها، ولو لم تكن هناك خطه بالمعنى الكامل والمفصّل. إن مشكلة السلطة في الحزب هي من أهم وأعمق المشاكل الحزبية، ومن واجب كل بعثي أن يطّلع على هذه الحقيقة وأن يفكر فيها، وأن تبُحث في المؤتمرات وفي القيادات ومن قبل القاعدة، لكي نصل إلى حل، لهذه المشكلة الصعبة والمزمنة. البحث يقرّب من الوصول الى الحل. والاهتمام في المؤتمرات والقيادات والقاعدة يكون هو أيضاً عنصراً مساعداً على الحل لأنه يوجد هذا التنبّه وهذا الوعي عند أعضاء الحزب بأن هناك نقصاً مخيفاً، ولكنه يُستر ولا يُعترف به، بل يدّعى خلاف ذلك، وبالتالي يطرأ الخلل على سير الحزب بسبب هذا النقص، ولا يدري الحزب ولا أعضاؤه السبب حتى يتداركوا الأخطار قبل وقوعها.
حزبنا هو حزب ثوري عبّر عن ثوريته في عدة مجالات ولكن أهم مجال عبّر فيه عن هذه الثورية هو مجال وحده التنظيم -كون الحزب ذا تنظيم عربي لا ينحصر في قطر واحد- يشكلّ تحدّياً لواقع قوي وصعب جداً هو واقع التجزئة.
القيادة القومية هي التعبير العملي لنظام الحزب عن هذه الوحدة، وبالتالي عن ثورية الحزب، وهي تعني وجود عدد من القادة من أقطار مختلفة، حسب مؤهلاتهم وثقة المؤتمرات بهم، تنتخبهم المؤتمرات ويقودون الحزب. عندما يصل الحزب في قطر أو أكثر إلى مستوى الاشتراك في الحكم أو استلام الحكم كاملاً، تصل القيادات القطرية في هذه الأقطار إلى حدّ من القوة يغريها بالاّ تخضع لأية سلطة فوقها. فما هو المؤيد لسلطة القيادة القومية؟ انه نظري لا أكثر. لكي تكون القيادة القومية هي صاحبة السلطة العليا فعلياً يجب أن يكون وعي القاعدة الحزبية في أعلى مستوى وسهرها على سير الحزب والتزامه بمبادئه ونظامه أيضاً فائقاً. هذه أشياء لم يبلغها الحزب حتى الآن. فعندما كانت القيادات القطرية تصل إلى الحكم أو إلى جزء من الحكم كانت تبدو بوادر التصرفات الفردية والتمرّد الواضح أو المتستّر –هذه تجارب مرّ بها الحزب من سنين عديدة. في سنة 1956 اشترك الحزب في الأردن بالحكم خلافاً للنظام الداخلي. النظام الداخلي يترك للقيادة القومية أن تحدّد الأقطار التي هي في مستوى الاشتراك في الحكم -سوريا وحدها كان مقرراً لها الاشتراك. وتكرر نفس الشيء في العراق في سنة 1958، ولكن القيادة القومية كانت في حالة من التشتت، لأن القيادة القومية اشترك منها أعضاء في الحكم في الجمهورية العربية المتحدة بعد قيام الوحدة، فتشتّتت وصار جمعها صعباً.. كان ملاحظاً إذن منذ ذلك الحين بأن القيادات المحلية القطرية والقياديين الذين يكتسبون نفوذاً سياسياً كبيراً، يبدأون بالتملص من توجيهات القيادة القومية ومن التقيد بالنظام الداخلي لها. ثم حدث ردّ فعل لهذه التصرفات في سنة 1959 كان المؤتمر القومي الثالث جواباً ومحاولة لمعالجة هذا المرض، معالجة جزئية وغير عميقة، ولكن على أية حال فإن مؤتمر 1959 أكدّ وحدة الحزب القومية ضدّ الذين حاولوا أن يستندوا إلى قوّتهم القطرية للتمرّد على التوجيه القومي وعلى الخطة القومية -ولو انه لم تكن هناك خطة بالمعنى الصحيح موضوعة.
ومنذ نهاية 1959 إلى أول 1963 تمتّعت القيادة القومية بسلطة معنوية لحدّ لا بأس به كردّ فعل على محاولات الريماوي والركابي وكل الذين استخدمتهم أجهزة عبد الناصر -وهم أيضاً استخدموا أجهزة عبد الناصر أو استغلوها لتحقيق أغراض شخصية في أقطارهم. وكانت القيادة القومية في فترة الثلاث سنوات هذه رمزاً لوحدة الحزب. كانت وحدة الحزب مهدّدة فيها بالدرجة الأولى لأن عبد الناصر وأجهزته حاولوا أن يباعدوا بين فروع الحزب وأن يكسبوا أشخاصاً قياديين من خارج الجمهورية لهم. ففي الأقطار العربية الثانية خارج الجمهورية، وخاصة في المشرق العربي، كان الرأي العام إلى حدّ كبير متحمساً لعبد الناصر وللوحدة التي تحققت، وكان عبد الناصر رمزها. وكان الشعب في الأقطار العربية يجهل أخطاء حكم الوحدة ولا يرى فيه إلاّ ما يعرف عن طريق الدعاية والاذاعة وإلاّ ما يحمّل الوحدة من آمال للمستقبل. وبما أنها أول خطوة للوحدة وستتوسع، كان الشعب العربي حريصاً عليها. بل ان الجماهير في لبنان والأردن والعراق وغيرها كانت مع عبد الناصر إلى حد كبير، وكان الحزب يحتاج إلى جهد كبير وإلى صمود وتماسك حتى يحافظ على وحدته ولا يتأثر بهذا التباعد الموقت بينه وبين الجماهير. بعد الانفصال لم يتغير شيء في الواقع لأن الجماهير بقيت في اتجاهها ولكن تفهمها لمواقف الحزب ازداد -أي أن البعد الذي اصْطُنِع بينها وبين الحزب خفّ وتقلّص لأن الانفصال كشف نقصاً كبيراً في السياسة التي أدت إلى الانفصال، وكشف إلى حدٍ ما بُعد نظر الحزب وغيرته على الوحدة وعلى الأهداف القومية وخاصة موقفه من الانفصال طوال فترة سنة ونصف. موقف مبدئي عنيد، لم يتراجع أمام كل الضغوط والحملات التي شنها العهد الرجعي الانفصالي الشعوبي عليه في سوريا.. إلى أن قامت ثورتا العراق وسوريا، فكان الامتحان هنا -امتحان بأن القيادات القطرية تنجح في تفجير ثورة وتستلم السلطة، وعملياً تضع نفسها فوق كل سلطة أخرى أو قيادة في الحزب.
البراهين والبوادر والعلائم على تمرّد القيادات القطرية وتحللها من النظام الداخلي للحزب ومن الخضوع لسلطة القيادة العليا ظهرت من الأسابيع الأولى للثورة.. من الشهر الأول ظهرت في مباحثات الوحدة في القاهرة. كان الوفد العراقي، وهو كله حزبي -لأن الحزب في العراق استلم السلطة من الباب إلى المحراب- لم يجتمع ولا مرة مع الوفد الحزبي السوري.. الوفد السوري كان يضم غير حزبيين أيضاً، ولكن الحزبيين ضمن هذا الوفد كانوا يطالبون الاستاذ صلاح باجتماع مشترك مع الرفاق العراقيين لتنسيق الموقف، وكان الرفاق العراقيون يتهرّبون. ظهرت هناك نظرات وتجلّت في تصرفات عديدة: فروق بين النظرة للوحدة من قبل القيادة القطرية في العراق والنظرة للوحدة عند قسم من القياديين في سوريا. أما القيادة القطرية العراقية، وكانت بكاملها تقريباً، فلم تكن متحمسّة للوحدة. جرت أبحاث ضمن الحزب دلّت على ذلك، أثناء أو بين رحلة وأخرى إلى القاهرة كان يأتي وفد من العراق إلى سوري ويقول: وضع العراق لا يسمح بالدخول في وحدة من الآن إلى سنوات.. مشاكلنا الاقتصادية، والأكراد وغير ذلك، فنحن لا نستطيع أن نحلّ هذه المشاكل إلاّ إذا بقينا مسيطرين على السلطة، وانه إذا لم يكن ثمة بد من توحيد، فليكن وحدة جمهوريات اتحادية..
النقطة التي تبسّطت فيها وأعتبرها هامة جداً وأطالب كل بعثي أن يفكّر فيها هي هذه: كيف يكون حزب البعث قومياً في فكرته وتنظيمه ولا تكون هناك سلطة للقيادة القومية؟ يكون لها بعض السلطة عندما يكون الحزب في بعض الأقطار غير مستلم للحكم، وعندما يصل للحكم تنتهي سلطة القيادة القومية.
وفي سنة 1960 انعقد مؤتمر قومي رابع في آخر الصيف -أي بعد سنة من المؤتمر الثالث- وأكّد وحدة الحزب وكل المبادئ، إلاّ أني ما زلت أذكر أن بعض القياديين في لبنان أخذوا يبشرون بفكرة على أثر المؤتمر.. القيادة القومية ليس لها لزوم.. القيادات القطرية هي الواقع الحي.. الحزب موجود في أقطار، القيادات القطرية هي التي تعاني التجربة مباشرة، وهي التي تفهم حاجات الشعب من خلال معاناتها اليومية، إن القيادة القومية شيء نظري لا تقدر أن تفرض سلطة ولا تتفهم عن كثب حاجات الشعب، وبالتالي كانت خلاصة رأيهم أن هناك أحزاب بعث في حقيقة الأمر، ليس حزباً واحداً إنما أحزاب متقاربة يمكن أن تجتمع بين حين وآخر في مؤتمرات للتداول في أمورها ومنجزاتها المختلفة وتنسيق العمل.. هذا كلام كان يحكى همساً وليس في اجتماعات رسمية وليس في مؤتمرات. وهذا برأيي نتيجة اليأس عند هؤلاء، نتيجة صعوبة المعركة، لأن هؤلاء لما اختلف الحزب مع عبد الناصر في سوريا وطلب منهم بأن ينسجموا مع خطه، لأن الحزب طلب من ممثليه أن ينسحبوا من الحكم، (ولو أن التنظيم كان محلولاً إلاّ أن الروابط ما زالت بعد) هؤلاء كان بيدهم جريدة “الصحافة” في لبنان وكانوا يساومون ويدخلون في جدل ساعات وأيام لنشر عشرة أسطر في الجريدة عن استقالة الوزراء البعثيين، وكان فيها أن الوزراء البعثيين استقالوا لخلاف في الرأي مع عبد الناصر. وكانت هذه الأسطر يجري عليها التعديل والحذف لتبقى رمزية حتى لا تفسد العلاقات بينهم وبين القاهرة. الجمهور في لبنان ناصري عاطفي.. كانوا متأثرين من هذا ومرتبكين من انسحاب الوزراء البعثيين في سوريا من الحكم، هؤلاء كانوا من أول المصفقين للانفصال، وكانوا انفصاليين قبل وقوع الانفصال بسنة على الأقل. في البداية (1959-1960) تقريباً، استسلام أو إيجابية تامة مع أجهزة القاهرة. بعد ذلك لما فرض الحزب طريقه الذي يعبر فيه عن الخط الوحدوي السليم ويعترض على التطبيق المنحرف في الجمهورية العربية المتحدة وبالتالي يتحمل تبعات ذلك ويصمد، وجد هؤلاء ان الجماهير ظلّت لحدّ كبير مخدوعة ويئسوا من إمكانية نجاح الحزب، وبالتالي صاروا يتمنون الانفصال، ولما وقع الانفصال تبنّوا المنطق الانفصالي رأساً.
ثم لما أكّد الحزب في مؤتمره القومي الخامس في ايار 1962 عقيدته الوحدوية وثباته عليها وعزمه على تجديد الوحدة وأن يستفيد من التجربة الأولى ومن أخطائها أنقذ بذلك فكرة الوحدة التي كانت مهدّدة بالانهيار وسمعة الحزب التي كانت ايضاً مهدّدة، وبرهن على عقائديته الأصيلة.. هؤلاء تركوا الحزب. في المؤتمر كان موقفهم سلبياً جداً، وخرجوا من المؤتمر مصممين على مخالفة مقرراته، وكان بيدهم القيادة القطرية في لبنان.. وآخر الأمر انشقوا عن الحزب.
المشكلة كانت محلولة تماماً في العراق بعد الثورة. لأن القيادة هناك رفضت الخضوع لنظام الحزب ولتوجيهات القيادة القومية وللنظام عامة، وبقيت على رأس الحزب بدون إجراء انتخابات 7-8 أشهر. من البداية كان لهم موقف خاص من الشيوعيين، موقف مخالف لسياسة الحزب ولقرارات القيادة القومية. أثناء حكم عبد الكريم قاسم كانت القيادة القومية توجّه القيادة في العراق بنشرات وقرارات -موجودة معي الآن- بأن لا ننجرف في التيار اليميني المعادي للشيوعيين، برغم الفظائع التي ارتكبها الشيوعيون، والسيطرة على الوضع وعلى الرأي العام حتى لا يحدث ردّ فعل شعبي غوغائي يميني لا يستفيد منه إلاّ اليمين والاستعمار. واذ انفجرت الأحقاد الشعبية ضد الشيوعيين وأعمالهم الهمجية، وكان كل هذا قد نُسي، وقعت القيادة القطرية بكاملها بدون تفريق في هذا الخطأ منذ الشهر الأول. لم يعترض أحد في أن يُجاب على حمل الشيوعيين للسلاح في الأيام الأولى للثورة حملوا السلاح فيجب الردّ بالسلاح. ولكن الاستمرار في القمع دام أشهراً، وكان من الواضح أن هذه السياسة ستقوي اليمين والمحافظين في الداخل وتشجع الاستعمار وتُبعد عن المعسكر الاشتراكي. قامت حملة في العالم كله ضد ثورة العراق من الفئات التي تعتبر كل محاربة للشيوعية هي خدمة لليمين والاستعمار. واستمرت التصرفات الطائشة سواء في اعتقالات أو إذاعات ضد الاتحاد السوفييتي واستمرت الاعدامات كل شهر وأحياناً كل أسبوعين.
لا اعتقد بأن هناك مجالاً الآن لاسترجاع كل الخلافات القيادية في العراق، ولكن هنا موطن المرض والخطر خاصة عندما تكون قيادة كما هي عليه الحال في قيادة العراق ناقصة التجربة والثقافة والفكر، وقد أعطاهم النجاح في الثورة او معظمهم، أطماعاً كبيرة وغروراً فأساءوا استعمال السلطة. في سوريا الأمر يختلف بعض الشيء: هناك كانت فئات غير الحزب شاركت في الحكم وكان على الحزب ان يتماسك امامها حتى لا تنجح مؤامراتها لأنها كانت مدفوعة للتآمر والتخريب او بعضها. والقسم العسكري في الحزب هو الذي قام بالثورة، والقسم المدني شارك بعد الثورة في الحكم، فمرت فترة لغاية 18 تموز، كانت فترة صراع مع الفئات الثانية، وابتداء من 18 تموز اصبح الحزب -العسكري والمدني- هو وحده الحاكم في سوريا.
كانت فرصة نادرة أمام الحزب في سوريا، هي التهيؤ النفسي للشعب وتقبله للثورة لأنه استنكر مؤامرة 18 تموز كما أعجب بصمود الثورة وبحكمة القادة فيها الذين قدروا أن يمرّوا ضمن هذه الصعاب والمؤامرات مدة اربعة أشهر ويمروا بسلام. وكان منتظراً من الثورة أن تعطي ما عندها، ولكن -مع الأسف- من 18 تموز بدأت المنازعات الداخلية في الحزب في سوريا هي التي تطغى وتسيطر على كل شيء بعد أن تخلصوا من الفئات الأخرى التي كانت متآمرة وبعدما ظهر التآمر بشكله الواضح السافر في 18 تموز. الاطمئنان الذي حصل هنا، كان ممكناً أن يكون هو بداية الانطلاق لكسب الشعب وتنظيمه وتأجيج حماسته للثورة وإعطائه براهين على حيوية الثورة بإنجازات.. جّمد كل شيء والتفت إلى التصفيات الداخلية -أي شخص كان يريد لنفسه السلطة والمراكز، وأية فئة تحاول أن تزيح غيرها، مع الأسف.. وتجاهل أمراض الحزب لا يساعد على حل المشاكل ولا على شفاء هذه الأمراض. وكانت هناك الخطة بين العراق وسوريا معاً -كان الحزب في العراق قد دخل في توجيه الحزب في سوريا نحو النزاعات الداخلية والانقسامات والتقاتل على السلطة وصار التزييف والتزوير في الانتخابات وكسب الحزبيين بالتعيين في الوظائف وتضليلهم بنشر الشائعات والافتراءات على القادة. وتجلى هذا بشكل واضح في المؤتمر القطري السوري في شهر أيلول 1963، وظهرت نغمة اليمين واليسار، لا بل ليست نغمة، وإنما خطة مركزة وحملة وأدوار وشعارات وكل ما يلزم لتهديم اشخاص في الحزب من اجل ان يصل اشخاص آخرون الى السلطة، ومع الأسف هذا انتقل نوعاً ما إلى بعض ضباطنا في الجيش.
وفي المؤتمر القومي السادس ازداد المرض وظهر بشكل أوضح بكثير أيضاً بأن هناك تقاسماً للمناصب واتفاقات عندما تقوم الوحدة بين القطرين (سوريا والعراق) والتهاء عن الأعداء بالخصومات الداخلية وتجميد الثورة وعدم إعطاء أي شيء إيجابي للشعب غير الترقب والانتظار والتساؤل والملل. كان الشعب ما يزال إيجابياً إلا أنه طال انتظاره وفي هذه الأثناء تقع النكسة في العراق. طبعاً كان أثرها إلى حد كبير محطّم التفاؤل والاستعداد الايجابي الذي كان عند الشعب. كان بالامكان تلافي الشيء الكثير من الأضرار والآثار السلبية لنكسة العراق وأثرها على سوريا باتخاذ خطوات إيجابية سريعة حاسمة وتدابير ضدّ الرجعية حتى تُمنع من الأذى والاضرار والتخريب واستغلال النكسة، وتحقق إنجازات إيجابية لمصلحة الجماهير تربط الجماهير بالثورة ربطاً حقيقياً. وكان مثال الانفصال وتدابير عبد الناصر على أثر الانفصال ماثلاً للأذهان وكثيراً ما قيل هذا الشيء واستشهدنا بهذا المثال.. ولكن دون جدوى. عبد الناصر ضرب الرجعية في مصر بشكل حاسم وسريع قبل أن تستأسد وتستغلّ الانفصال ويأتيها المدد من الخارج.. عاجلها بالضرب وتابع الانجازات الاشتراكية وبرهن على بعد نظر وعلى جرأة وحكمة بهذه السياسة. الذي حصل في سوريا تقريباً العكس، لأنه مادامت الرجعية هي التي ضربت الثورة في العراق فنسايرها في سورية حتى لا تضربنا. وأخذت العناصر الرجعية والانتهازية تخلق جواً في الوسط المدني والعسكري بأن ضياع العراق كان نتيجة التعديلات والاستفزازات فيجب إذن أن لا نستفز أحداً. فإذا* كانت ترجمة هذا الكلام أن السياسة يجب أن تكون حكيمة وعاقلة، فلا خلاف على ذلك.. ولكن العقل يقول انه عندما تصاب الثورة بنكسة يجب أن تحدّد أعداءها ورأسا تقمعهم، تقلّم لهم أظافرهم، ورأسا نكسب الجماهير من عمال وفلاحين وكادحين. منذ تشرين الأول 1963 إلى نيسان – أيار 1964 سبعة أشهر من الجمود في الحكم، وعدم إعطاء شيء للشعب، لا بل إعطاء الرجعية بعض التنازلات والتطمينات. أفرج عن الانفصاليين، حدثت تصريحات ومسايرات وتقرّب من أوساط انفصالية ورجعية، واستمر النزاع والتنافس الداخلي على السلطة.
الذي حصل في العراق لم يكن شيئاً بسيطاً: ضياع ثورة في أقل من عشرة أشهر. هذا شيء قد يكون فريداً في تاريخ الثورات، وبالتالي يلزم أن يكون هناك أسباب جدية لأن الثورة لا تضيع بدون سبب جدّي. الأشياء التي ارتُكبت في العراق، حتى لما نطرح منها تضخيم الأعداء – الأعداء قد يكونون أضافوا إليها مثلاً 75 بالمئة ولكن الـ 25 بالمئة التي تبقى هي ثقيلة الوطأة جداً وكافية من أجل عزل الحزب والحكم عن الشعب وتنفير الناس من الحزب ومن أجل وصم حزبنا لسنين عديدة. طبعاً أي ضرب لحزب البعث لن يكون إلاّ في مصلحة أعداء الشعب، الرجعية والاستعمار والفئات الانتهازية، وكون الحكم الذي جاء بعد ضياع الثورة في العراق حكماً رجعياً وعدوّاً لمصلحة الجماهير وللاهداف القومية الحقيقية هذا يساعد الحزب على أن يصحح أخطاءه ويبني نفسه من جديد ويمحو ولو بمشقة وجهد آثار الأخطاء الجسيمة والأعمال اللاأخلاقية واللاإنسانية التي ارتكبها أفراد باسم الحزب في العراق. في سوريا لم يقع الحكم والحزب بمثل هذا التهور وبمثل هذه الأعمال الطائشة -طبعاً ظروف مختلفة ومستوى القيادات المدنية والعسكرية أنضج ولو بنسب مختلفة. ولكن مع الأسف أيضاً وجد في سوريا امتداد لهذا الأسلوب المريض ولهذا المرض الذي ظهر في الحزب في العراق…
21 حزيران 1964
(1) حديث في اجتماع الفرقة الحزبية في باريس، ورد على الاسئلة.
———————————
1965
حماية التطبيق الإشتراكي
س : نغتنم فرصة اعلان الخطوات الاشتراكية في سوريا لكي نتحدث لقرائنا عن هذه القرارات.
ج : إن ما تم كان خطوة لابد منها إذ أنها تتمشى ومبادىء الحزب الذي ناضل عشرات السنين لكي يطورالمجتمج ويحدث الانقلاب اللازم في نظام الانتاج ويغير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ويضع بين أيدي الشعب وسائل إنتاجه. إن الاشتراكية من صميم مبادئنا والتطبيقات الأخيرة كانت ثمرة لنضال حزبنا وانتصار مبادئه.
إن حزب البعث ناضل ويناضل من أجل تطبيق الاشتراكية على المستوى القومي، على مستوى الوطن العربي كله، ليجعل من أدوات الانتاج ملكا للمجتمع وملكا للعرب. لقد تعرض حزبنا لهجوم ظالم لأنه وضع الاشتراكية هدفا من أهدافه الأساسية، ولكن سرعان ما تحول منتقدوه الى مدعين للاشتراكية ثم الى مزاودين عليها لانهم أدركوا مدى انفصالهم عن الشعب وعجزهم عن محاربة الحزب. فحزبنا هو أول حركة عربية أكدت ولا زالت تؤكد وحدة القضية العربية نظريا وعمليا، ولذلك فإنه يعتقد أن ما حققه الحزب حتى الآن في أحد اقطاره هو خطوة في الطريق الطويل، طريق توحيد الوطن العربي وحريته السياسية والاجتماعية لكي يأخذ التطبيق الاشتراكي مداه، ان التطبيق الاشتراكي يجب أن يؤدي إلى توفير المناخ الملائم للوحدة العربية والى رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لجماهير العربية. أن يقيم صناعة عربية يتوفر لها رأس المال العربي المهرق على الشهوات والملذات في بعض الأقطار، كما يتوفر لها السوق الواسعة الممتدة من المحيط الى الخليج والامكانيات العلمية والفنية المعطلة. إن حزبنا يؤمن بأن الاشتراكية على المستوى القومي تؤتي الثمار المرجوة منها من رفع لمستوى المعيشة وتنمية للامكانيات الاقتصادية والثقافية واطلاق للمواهب والطاقات الموجودة بين الجماهير العربية المجزأة. إن قوة الوحدة العربية ليست هي نفسها في حالة تجميع الأقطار المجزأة، وانما هي قوة أخرى أكبر وأضخم. ولذلك يكون من الواجب الانتباه إلى هذا الاعتبار وتوفير المناخ الملائم للوحدة العربية. فالانجازات على المستوى القطري مهما كانت ضخمة وجريئة لا يمكن أن تكون الحل النهائي لمشكلات الجماهير العربية. بهذا المنظار نحن ننظر للخطوات الهامة التي تحققت في القطر السوري، انها خطوات ضرورية وهي أيضا بداية الطريق. إلا أن هذه الخطوات حتى تؤتي الثمار المرجوة منها لابد أن تتوفر لها شروط أخرى ضرورية، وأول هذه الشروط أن توضع هذه الاجراءآت ضمن إطار الاقتصاد الاشتراكي المترابط وقوانين حركته لتوفير الظروف الملائمة لتطويره ونمائه مثل تأميم التجارة الخارجية وتنظيمها بحيث يصبح القطاع الاشتراكي المهيمن على فروع الانتاج وبحيث تكون هذه الاجراءآت جزءا من خطة مدروسة وشاملة لجميع المرافق الحيوية في المجتمع التي تتوقف عليها مصالح الجماهير الأساسية. أما الشرط الثاني فهو إنشاء أجهزة حكومية وشعبية لمراقبة التجربة وتصحيح ما يقع فيها من أخطاء ولكي تحس الجماهير بأن هذا الانجاز إنما هو لمصلحتها وقد أصبح ملكا لها. كما أن نجاح التجربة مرهون بوضع أكفأ العناصر وأشدها إخلاصا لادارة هذه إلمؤسسات. إلا أن الشرط الأكثر أهمية لذلك هو انفتاح الحزب والحكم على الجماهير ذات المصلحة الحقيقية في هذه الاجراءات وتقوية الحزب بضبط تنطيماته واحترام أنظمته والانصياع الى قياداته بحيث يستطيع أن يحرك الجماهير الواسعة ويدفعها إلى الحماس كي تحتفظ دوما باندفاعها الثوري. إن أحد الشروط الأساسية للاشتراكية المتفق عليها اليوم بين الأوساط التقدمية في العالم هو توفر حزب ثوري عقائدي يحول دون بيروقراطية الدولة وجمود أجهزتها ويكون قادرا على تحريكها وتوجيهها، خال من ازدواجية القيادة والتوجيه وموحد الفكر والعقيدة لمنع منظماته وعناصره من أن تصبح ذيلا للأجهزة البيروقراطية، الشيء الذي يفقدها حرارة الثورة وشجاعة النضال ذلك المعين الذي لاينضب للطاقات الخلاقة القادرة على التطوير المستمر والتصحيح النزيه المتواضع ويكون صمام أمان من الانحرافات التي تسببها مغريات السلطة.
س : ما هي الصعوبات التي تعترض تجربتكم الاشتراكية ؟
ج : إن الصعوبة الأساسية التي تعترض أية تجربة اشتراكية لاتكمن فقط في الاتجاه الفكري والمصالح الطبقية المعادية للاشتراكية وانما تكمن في خلق أجهزة جديدة للدولة ووضع علاقات محددة بين اختصاصاتها بحيث لا يكون هناك تنازع على الاختصاص والسلطات. وكذلك تحديد علاقات محكمة بين الهيئات الشعبية كعلاقة الحزب بالسلطة وعلاقة النقابات بالدولة ودور الجيش في حماية الثورة وعلاقته بالحزب والسلطة. بالاضافة الى شيء خاص بثورتنا وهي علاقة الثورة في سوريا بالثورة القومية العربية وحفاظها على طابعها القومي ومقاومة الرواسب الاقليمية والقطرية في خارج الحزب وداخله. إن هذه الصعوبات بالرغم من أن المؤتمر القومي السادس لحزبنا قد عالجها وأعطاها بعض الحلول الصريحة إلا أن الظروف غير الملائمة التي مرت بعد نكسة الحزب في العراق، قد حالت دون وضعها موضع التنفيذ. ونأمل أن نتجاوزها بالتمسك بالنضالية الصلبة وبمصلحة الحزب والثورة وبالاعتماد على وعي مناضلي حزبنا، وضمن احترام نظامه ومقررات قياداته ومؤتمراته.
إن هذه الأمور التنظيمية والقومية هي التي يدورحولها النقاش داخل حزبنا وهي محل الاختلافات والاجتهادات التي يجب أن تكون أساسها مصلحة الحزب القومية ومصلحة الثورة والجماهير العربية في القطر السوري وغيره من الأقطار العربية. لان حزبنا ليس حزبا قطريا وانما هو قومي امتداده الوطن العربي كله ومصلحته العليا. إننا إذ نقف على منعطف تاريخي ونحقق انتصارات مهمة لاينسينا ذلك المصاعب المتبقية ولا يثير فينا الغرور والكبر، وانما يدفعنا إلى مواجهة الواقع بشجاعة وصراحة، لان الشجاعة والصراحة الثوريتين هما اللتان تمكناننا من حل المشكلات وتجاوز المصاعب التي تواجهنا. إن حزبنا حزب ثوري يؤمن بالنقد والنقد الذاتي ويرفض الهروب من المصاعب، ومصمم على مجابهتها بروح ديمقراطية ثورية.
كانون الثاني 1965
———————————
تضامن الحركات السياسية العربية
1. ما هي في رأيكم أهم النتائج التي يمكن أن تنكشف عنها القرارات الاشتراكية على الصعيدين القومي والعالمي؟
2. ما هو في رأيكم معنى التأييد الذي بدا من خلال موقف الجمهورية العربية المتحدة وموقف الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية لهذه القرارات ؟
3. هل يترتب في رأيكم على هذه الخطوات الجديدة مواقف عقائدية وسياسية معينة للحزب تجاه حلفائه في هذه المعركة المصيرية للاتجاه الاشتراكي للبعث ؟
***
إن الخطوات الاشتراكية الحاسمة التي عبّرت عن نفسها بوضوح في قرارات التأميم الأخيرة هي برهان جديد على أن حزب البعث العربي الاشتراكي سيبقى أميناً على أهداف الجماهير العربية وعلى خط سيره الاشتراكي العقائدي، وانه سيبقى منفتحاً على تجارب الحركة الاشتراكية ونضالها في العالم.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو أول حركة شعبية عربية اشتراكية وعت القضية القومية وعياً ثورياً سليماً، وهذه القرارات الأخيرة قد حددت بشكل عملي هوية حركة تاريخية ناضلت طوال ربع قرن لاحداث الانقلاب الشامل في المجتمع العربي. إن هذا الحزب إذ يؤكّد تصميمه على مواصلة نضاله في سبيل إقامة المجتمع العربي الاشتراكي الموحد، يؤكد في الوقت نفسه إيمانه بأن التراث الاشتراكي في العالم ملك للإنسانية بأسرها، وان الطريق العربي إلى الاشتراكية التي تتحدد ملامحها من خلال الواقع القومي، تفرض علينا الانفتاح على التجارب الاشتراكية القومية والعالمية التي تشكل تراثاً إنسانياً مشتركاً.
فالقرارات الاشتراكية في هذا القطر العربي تؤكدّ من جديد حقيقة سبق واكّد عليها حزب البعث منذ نشوئه، وهي تلازم الطابع القومي الاشتراكي لحركتنا بالطابع التقدمي الانساني.
لذا فإن هذه القرارات الحاسمة قد وضعت حلفاء الاشتراكية الطبيعيين وجهاً لوجه أمام خصومها، وكان من أول نتائجها انها كشفت للقوى الاشتراكية العربية والعالميّة ان قضيتها واحدة وان عدوها واحد. وهذا هو الذي يفسّر الاهتمام والتأييد الذي ابدته الأوساط التقدمية في الوطن العربي وخارجه بهذه القرارات.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي انطلاقاً من مبادئه وانسجاماً مع نضاله الثوري التاريخي ينشد اليوم في معركة التحويل الاشتراكي حلفاءه في الحركات الاشتراكية واليسارية والتقدمية، سواء ما كان منها في مرحلة نضال من أجل استلام الحكم تمهيداً لبدء التطبيق الاشتراكي، أو ما كان منها قد استلم السلطة وخطا خطوة أو خطوات في سبيل هذا التطبيق. وإذا بدا في بعض الأحيان والظروف أن الحزب كان في حالة صراع جانبي مع إحدى الحركات اليسارية فما ذلك إلاّ لأن مواقف هذه الحركات في أمكنة وأزمنة معيّنة قد أساءت فهم المسيرة التاريخية للاشتراكية العربية التي ربطت وما تزال بين تحرّر أقطار الوطن العربي من الاستعمار ووحدتها وتطبيق الاشتراكية فيها انطلاقاً من ظروفها التاريخية والموضوعية الخاصة.
كما أن تجربة التحويل الاشتراكي في بعض الأقطار العربية قد أدّت إلى انجلاء غبار المعارك الفرعية والجانبية. فلقد أصبح واضحاً أن الرجعية وجميع أعداء الاشتراكية في معسكر، وان الاشتراكيين الحقيقيين في معسكر آخر. لذلك لم يعد هناك مبرر لاستمرار ذيول المعارك الجانبية التي أملتها في السابق ردود فعل انفعالية شغلت الحركة الثورية العربية عن أعدائها الحقيقيين.
إن معركة التحويل الاشتراكي تفرض على الحركات اليسارية العربية أن تتعاضد وأن تتضامن مع الحركات الاشتراكية والقوى والأحزاب التقدمية في العالم.
فعلى القوى التقدمية في الوطن العربي أولاً أن تنهي أزمة الثقة بينها وأن تبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة المحافظة على المكاسب التي حققها الشعب العربي وتتكاتف لانهاء أنوع الاستغلال الطبقي والاستعماري.
إن قوى الرجعية في الوطن العربي يربط بينها أكثر من تحالف، فما على القوى التقدمية اذا ما أرادت أن تجهز نهائياً على القوى المعادية لها إلاّ أن توحد صفوفها وأن تضعف اختلافاتها وتعتبرها ثانوية امام تناقضاتها مع القوى الاستعمارية والرجعية.
لقد أوجدت القرارات الاشتراكية مناخاً طبيعياً لتعاون التجارب الاشتراكية الأصيلة في هذا القطر العربي السوري وفي الجمهورية العربية المتحدة وفي دول المعسكر الاشتراكي. إلاّ أننا يجب ان نطمح في تحالف أوثق وتلاق أمتن بين القوى اليسارية التقدمية في الوطن العربي وبيننا وبين القوى الاشتراكية في العالم أجمع. كما يجب أن نتطلع إلى مكتسبات قومية اشتراكية جديدة تحقق لأمتنا العربية وحدتها وحريتها واشتراكيتها.
12 كانون الثاني 1965
——————————
في ذكرى انتفاضة رمضان
أيها الإخوة(1)
تخوض أمتنا تجربة تأريخية كبرى متعددة النواحي فيها الانتصارات وفيها العثرات الى أن تبلغ الاهداف الكبرى التي وضعتها لنفسها كأمة عظيمة تشعر بدورها التأريخي وبرسالتها الانسانية. لا نستطيع أن نقدر عظمة ثورة رمضان إلا إذا تذكرنا العهود الحالكة التي سبقتها سواء في العراق أو في سوريا. ليس سهلا أن نوفي بطولة شباب البعث العربي الاشتراكي حقها من التقدير. تلك البطولة التي جسدوها في صباح الرابع عشر من رمضان مدنيين وعسكريين. لقد قضوا في ذلك اليوم على عهد من التآمر على عروبة العراق، بل على العروبة جمعاء، على عهد مثّل العزلة والانتهازية والشعوبية والدكتاتورية أبشع تمثيل.
وانتفاضة رمضان كانت في الوقت نفسه قضاء على عهد آخر لا يقل إجراما وتآمرا وسوادا عن عهد قاسم، ذلك هو عهد الإنفصال في سورية العربية. إنتفاضة رمضان أيها الإخوة كانت ممهدة ومقدمة لحركة آذار، كما نرجو أن تكون حركة آذار ثأرا كبيرا لثوار رمضان. الأمة الأصيلة أيها الاخوان هي التي تتعلم من جميع الظروف والأحداث من النصر ومن الفشل على السواء ولقد كان عهد الإنفصال درسا عميقا بليغا لجميع المناضلين، إذ برهن بأن تفرق القوى العربية التقدمية لا يكون إلا لمصلحة الإستعمار والرجعية. وإن الخلافات مهما تكن كبيرة بين قوى المعسكر الثوري العربي لا يجوز أن تتعدى حدا معينا وإلا أستغل ذلك الإستعمار واستغلته الرجعية والصهيونية وجميع أعداء الأمة العربية.
أيها الإخوان
لقد كان الدرس مؤلما بالنسبة إلى معسكر الثورة العربية عندما أصيب بنكسة الإنفصال في سوريا وكان مؤلما عندما أصيب بنكسة (18) تشرين في بغداد ولكن التقدميين العرب، القوى العربية التقدمية خرجت أخيرا مستفيدة من هذا الدرس بعد أن دفعت هي والشعب العربي في جميع أجزاء وطنه أبهظ الأثمان، وتوصلت أخيرا إلى أن تدرك هذه الحقيقة الأولية وهي أنها كلها يجب أن تبقى صفا واحدا في وجه أعداء الأمة العربية وأعداء نهضتها وتقدمها.
لقد ظهر هذا الوعي الجديد المبارك عندما سارعت القوى التقدمية في الوطن العربي وحتى خارج الوطن العربي إلى تأييد حركة آذار في قراراتها الإشتراكية الأخيرة متناسية كل الخلافات الثانوية مدركة بأن المعركة الأولى يجب أن تبقى مع الإستعمار والصهيونية والرجعية، وهكذا تلاقى الإخوة بعد زمن من الفرقة وسارعت الجمهورية العربية المتحدة قيادة وشعبا إلى تأييد قرارات التأميم، كما حذت حذوها ثورة الجزائر وكما فعل المعسكر الإشتراكي، ولم يتخلف إلا أعداء الثورة، إلا أعداء الشعب، إلا أعداء التقدمية، إلا أعداء القومية، الحاكمون في بغداد، الذين فضحوا أنفسهم مرة أخرى عندما تخلفوا عن الركب التقدمي فوقفوا إلى جانب المؤامرات الإستعمارية والرجعية على سوريا، وهاجموا الخطوات الإشتراكية المباركة وكان هذا كافيا لإدانتهم مرة جديدة بأنهم أعداء الشعب. هذا الحكم الرجعي المتآمر الذي يزج في السجون الآلاف من البعثيين وألوف الوطنيين التقدميين دون وازع من ضمير.
ونحن نرسل باسم شعب هذا القطر وباسم حركة آذار وباسم البعث العربي الإشتراكي في كل قطر عربي، نرسل تحية النضال والإعجاب والأخوة لمناضلينا المعتقلين في سجون العراق ولجميع رفاقهم من الوطنيين المخلصين. تحية عربية نضالية إلى المعتقلين من أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي معاهدين رفاقنا على اللقاء في يوم قريب في يوم النصر المبين.
وكلمة صادقة إلى جميع المنظمات القومية والوطنية التقدمية في العراق لكي تعتبر بالدروس السابقة ولكي تدرك أخطاء الماضي فتتلافاها وتوحد جهودها في سبيل المعركة المشتركة وفي سبيل التخلص من الأوضاع الرجعية الدكتاتورية الغاشمة.
أيها الإخوة
الحزب الذي يضطلع بمهمة تأريخية في سبيل سعادة شعب عظيم لا يخاف أن ينقد نفسه وأن يرى أخطاءه، لأنه يعرف إن هذا شرط أساسي من أجل أن يصحح سيره وأن يسرع في تحقيق أهدافه.
ولقد حدث بعد انتفاضة رمضان غلو وتطرف في معاملة فئات تقدمية كانت هي الأخرى قد انجرفت في الغلو والتطرف وتصدت لتلك الإنتفاضة المجيدة دون إدراك لحقيقتها التقدمية ودون إدراك لطبيعة إنتفاضة رمضان الشعبية التي إنما وجدت من أجل الطبقة الشعبية، من أجل العمال والفلاحين، من أجل الجماهير العربية الكادحة الواسعة في كل جزء من أجزاء الوطن الكبير. فكان هناك غلو من الطرفين وتباعد، وكانت هناك أعمال قاسية يجب أن ننتقد أنفسنا فيها لكي نتحاشى في المستقبل كل سبب من أسباب التنابذ والتناحر بين قوى التقدم والثورة ولكي يستفيد كل طرف من هذه التجارب والعبر.
فلقد ظلت حركة البعث العربي أيها الرفاق والإخوة مغموطة الحق، ظلت حركة البعث العربي سنين طويلة في نظر الحركات الثورية والتقدمية في العالم مغموطة القدر والحق، لا يعترف بثوريتها وبتقدميتها، وبأنها تمثل حركة الجماهير العربية في تطلعها نحو المجتمع الأفضل، وكانت تلقى عليها الشبهات والتهم جزافا وظلما وعدوانا. وأخيرا وضح الحق وتراجع المخطئون وخاصة بعد أن أسفرت حركة آذار عن وجهها الإشتراكي الحقيقي الأصيل. لم يعد من عذر أو مبرر لأية فئة تقدمية في الوطن العربي أو خارجه أن يلتبس عليها الأمر في فهم حقيقة البعث العربي الاشتراكي.
أيها الأخوة
ليس كل الذنب على الآخرين ليس كل التقصير من الآخرين يجب أن نعترف بقسطنا وأن نتحمل نصيبنا من الخطأ، لكي تكون حركتنا بالفعل حركة تأريخية متجردة، تسمو فوق الانانيات وفوق الإعتبارات الزائلة ولا يهمها شيء إلا مصلحة الشعب العربي. لم تنتكس إنتفاضة رمضان هذا الإنتكاس المؤقت لأن هناك رجعية واستعمارا يتآمران دوما على شعبنا وعلى ثورته، وإنما أيضا لأن الإنتفاضة تركت مجالا لاستغلال هذه القوى المعادية.
والحزب مفجر الثورات هو فوق الثورات وإذا أخطأت الثورات فالحزب موجود لكي يصحح. ايها الإخوة.. الثورة لا تخشى أعداءها لأنها إنما وجدت لكي تواجه هؤلاء الأعداء، ولكي توقع بهم الهزيمة، وتقضي على جرائمهم ومفاسدهم، وتعطيلهم لنهضة أمتنا. ولكن الثورة يجب أن تخشى أن يتأثر بالأعداء من هم بحكم مصالحهم وأوضاعهم وآمالهم في صف الثورة. الثورة تكون مقصرة إذا تركت الأعداء يؤثرون في قسم من أبناء شعبنا ما استطاعوا أن يتبينوا أين تكون مصلحتهم وأين هو موضعهم في الثورة.
وعلينا باستمرار أن ننقد أنفسنا وأن نحث الهمم باستمرار لكي نوصل صوت الثورة إلى جميع أبناء الشعب الذين يفترض فيهم أن يكونوا إلى جانب الثورة يقاتلون ويحاربون في صفها.
أيها الإخوة
إن الإنتصارات لا تسكر إلا الأفراد السطحيين المغرورين الدخلاء على الثورة والحزب، لأن المناضلين الحقيقيين يزدادون تواضعا عند كل نصر يحققونه ويعرفون إنهم لم يكونوا سوى الأداة لهذا النصر، وإن الشعب هو صانع النصر.
أيها الإخوة
ما زالت الطريق أمامكم، أمامنا جميعا، ما زالت الطريق طويلة وشاقة، ما تزال أمامنا مهمات كثيرة، ليست الانجازات، على أهميتها، هي كل شيء وإنما هناك الوعي والتوعية والتوضيح والوصول إلى قلب كل مواطن بحماسة النضال، بحرارة الإيمان، بحرارة المحبة، أن لا ندع فردا واحدا يغدو فريسة الرجعية، أو فريسة الإستعمار. يضلل وينتقل الى صف الأعداء بدلا من أن يحارب في صفنا. ما زالت هناك نقاط غامضة تحوم حول هذه التجربة في نظر قسم من أبناء الشعب.
يجب أن توضح هذه النقاط، يجب أن يعرف الشعب العربي في سوريا وفي كل أرض عربية بأن حزب البعث العربي الإشتراكي هو من صميمه، هو من قلبه وروحه، هو من دمه وعرقه وشقائه، هو من تراثه وتأريخه، هو من عروبته الأصيلة، هو من قيمه الروحية، وإنه ليس دخيلا عليه وليس غريبا عنه، ولا شاذا، ولا متحذلقا، ولا متعسفا، وإنما ترجمان أمين متواضع لحاجات هذا الشعب ولروح هذا الشعب، ويجب أن يكون هذا واضحا ليس في الكلام فحسب وإنما في سلوكنا، وفي عملنا اليومي. يجب أن تتجسد أخلاق البعث وفكرة البعث بكل ما تحمل من قيم روحية، ومن أصالة عربية، ومن تشبع بتراثنا القومي التأريخي المجيد، يجب أن تتجسد في أعمالنا اليومية، وهكذا لن يكون في وجهنا إلا الأعداء. وهذا ما قبلناه عندما بدأنا حركتنا لأننا إنما وجدنا لنزيل هؤلاء الأعداء من طريق الأمة.
أيها الإخوة..
لقد طرأت أشياء وأشياء على هذا الحزب وعلى ثوراته ويجب الا نتهاون في التمييز بين الأصيل والدخيل، بين المفاهيم الأصيلة والمفاهيم والشعارات المقلدة والمستعارة، يجب أن يعود أعضاء هذه الحركة إلى ماضي حركتهم، كما يجب أن نعود جميعا إلى ماضي أمتنا المجيدة فنستلهمه باستمرار. الحزب الذي لا يرتبط حاضره بماضيه، لا يكتب له التقدم والنجاح، والأمة التي لا يرتبط حاضرها بماضيها لا تقدر على التخلص من أوضاعها الفاسدة وعلى تحقيق النهضات والثورات.
هذه الحركة منذ بدايتها قامت على أفكار أساسية وقيم أساسية وما أحرانا بأن نتذكر باستمرار هذه القيم والأفكار بعد أن دخلت في طور التحقيق، فقد كانت فكرة القومية أيها الأخوان مظلومة في وطننا، لا بل في العالم كله.
كانت فكرة القومية في نظر الثوريين والتقدميين في العالم تعتبر فكرة رجعية ونزعة تعصبية أو إستعمارية. وكان البعث العربي أول من جلا حقيقتها وأظهر وجهها الإيجابي المبدع الثوري المحب. وكانت تلك كلمة السر في نجاح هذه الحركة لأنها حملت إلى جماهير الشعب العربي الثورة باسم القومية العربية. قرنت الإشتراكية بالوحدة وبالقومية فوجدت الطريق معبدا إلى قلوب الشعب والجماهير.
وبعد سنين وسنين من نشأة هذه الحركة رأينا الحركات التقدمية في آسيا وأفريقيا وغيرها من بلدان العالم تؤكد تلك الحقيقة التي كان حزب البعث العربي الإشتراكي أول من أبرزها، بأن القومية ليست كلها سلبية. وليست سلبيتها إلا تزييفا وتشويها وانحرافا عن حقيقتها وإنها في حقيقتها إيجابية محبة ثورية مبدعة.
كذلك كان البعث العربي منذ ربع قرن أول من أعطى لقيمة أخرى غالية، لقيمة روحية ثانية هي الدين، أعطاها حقها وأنصفها وجلا وجهها الإيجابي المبدع الصادق، بعد أن كانت الحركات التقدمية في العالم تنظر الى الدين كأنه وسيلة لتضليل الشعوب فحسب. وسيلة يستخدمها مستغلو الشعب ومستعبدوه، وإنه للتخدير والتضليل ولقتل روح الثورة والنضال. فجاء البعث العربي وبدأ نضاله وتأريخه بأن جلا الوجه الحقيقي للدين وخاصة للتراث العظيم للأمة العربية وللرسالة الخالدة التي نعتز بها جميعا، فما لنا أيها الإخوة… ما لنا نتعامى عن الكنوز التي كشف عنها حزبنا، ما لنا نتهاون في تقدير هذه القيم؟
أيها الإخوة
يجب أن تكون نظرتنا جريئة نظرة الثوريين فيها جرأة وفيها شجاعة وفيها الرجولة، يجب أن لا نحمّل الآخرين كل المسؤولية، بل أن نتحمل قسطا منها. سنجد دوما في طريقنا العقبات، سنواجه كثيرا من الشكوك والظنون والإتهامات من قبل أقرب الناس إلينا، من قبل أفراد شعبنا، سنواجه دوما كل ذلك إذا لم نعد الى تلك الينابيع الأولى، الينابيع الروحية التي بدأت بها حركتنا، وإذا لم نصمم بأن نرفع ثورتنا إلى صف الثورات التأريخية وأن نعطيها أبعادها الإنسانية، وأن تتسم بالعمق والمحبة والأخلاق.
وما ارتضينا لأنفسنا بالماضي، ولن نرتضي أن تكون ثورة البعث مجرد حكم وسلطة تصدر القوانين وتصدر الإجراءات، وإنما أرادها الشباب العربي في هذا الوطن العربي الواسع، أرادوها حركة تاريخية إنسانية تروي في النفس العربية كل تطلعاتها وظمأها الى القيم والمثل، تعيد الصلة بين حاضرنا وماضينا المجيد، تفتح أمام شعبنا إمكانيات مستقبل إنساني أصيل لا يبقى عالة على غيره من الأمم، ولا يبقى مقلدا ومستعبدا، وإنما يجدد عهد الحضارة العربية بكل ما فيها من قيم انسانية.
أيها الإخوة..
إذا أردنا في هذه المناسبة العظيمة أن نمجد إنتفاضة رمضان، وأن نجدد العهد على استرداد عراقنا الحبيب من أيدي الرجعيين والإستعماريين والشعوبيين، فليس مثل هذا العهد نقطعه على أنفسنا يهيئ لنا سبيل العودة إلى العراق، وإلى كل قطر عربي. هذا العهد بأن نتحاشى تلك الأخطاء التي وقعت في الماضي، والتي كان سببها السكر بخمرة الظفر والسلطة أو الطيش والغرور وانفصال القادة عن القاعدة وتلهيهم بالتنافس والتناحر على المناصب متناسين الرسالة السامية التي وجد هذا الحزب ووجدت ثوراته من أجل تحقيقها، الا وهي: مصلحة الشعب، مصلحة عشرات الملايين من أبناء الشعب العربي.
هذه هي الرسالة فكيف يجوز لأحد.. للقادة أن يفكروا لحظة واحدة في أنفسهم وفي مراكزهم ومصالحهم الشخصية وهم مؤتمنون على مثل هذه الرسالة. لا يصلح حالنا إلا إذا قرنا العلم بالأخلاق. وحزبنا قام على العلم ولولا ذلك لم يبق هذه السنين الطويلة ولم ينجح وإنما نجح ايضا لأنه لم ينظر إلى العلم نظرة سطحية، وإنما قرن العلم بالقيم الأخلاقية، بالتذكر المستمر للأمانة التي وضعت في أيدي مناضلي هذا الحزب وقادته، والتي تتعلق بمصلحة عشرات الملايين من العرب. هذه الأمانة التي تتطلب منا جهدا وتواضعا وتجردا حتى نأمن في المستقبل النكسات والعثرات وحتى نؤدي الأمانة كاملة صادقة والسلام عليكم.
9 شباط 1965
( 1 ) كلمة ألقيت في 8/2/1965 ونشرت في جريدة الأحرار بتأريخ 9/2/1965.
——————————-
أزمة الحزب
ايها الرفاق(1)
أحب أن أوضح منذ بداية حديثي بأن حضوري هذه الجلسة وفي هذه الظروف العصيبة الحاسمة بعد مقاطعتي الواعية الواضحة لاجتماعات هذه القيادة منذ 8 أشهر أي منذ انتخاب هذه القيادة من المؤتمر القومي الثامن حتى الآن، أحب أن أوضح وأسجل بأن حضوري الآن هو من أجل أن أقول وأعيد ما قلته دوما في السنوات الثلاث الأخيرة بعد حركة آذار، وخاصة في المؤتمر القومي الثامن ثم في اجتماعات غير رسمية كنت أدعو إليها بعض الرفاق من هذه القيادة لأذكرهم بالحقائق التي تُستخلص من تجربة الحزب الطويلة ومن تجربة الحزب بعد الحركة ولكي نصل جميعا إلى تحليل عميق واقعي لأزمة الحزب وتتوحد آراؤنا على هذا التحليل لتنطلق منه إلى سبيل المعالجة والانقاذ، ولكي يتحمل كل منا مسؤوليته التاريخية. وقد كانت – وما تزال- لي أسباب جدية وفي غاية الجدية لمقاطعة اجتماعات القيادة رغم اعتقادي بأن للقيادة القومية دورا خطيرا في حياة الحزب وفي حياة الأمة العربية، ورغم روابط الأخوة والصداقة والزمالة التي تربطني بكل عضو فيها. وأنا أعتبر دوماً وقلت ذلك في مناسبات عديدة وفي مؤتمرات قومية وفي اجتماعات قيادية كثيرة خلال سنين طويلة، اعتبرت بأن القيادة القومية لحزبنا تجسد الحزب كله، تجسد أهم ما في حزبنا من صفات ثورية، ولذلك فقد كانت دوماً موقع الهجوم والمحاربة. وكنت أقول في كثير من المناسبات بأن القيادة القومية للحزب هي القيادة الوحيدة، ليس بعدها من قيادة، لأن حزب البعث هو للوطن العربي كله، لقضية الثورة العربية كلها. والقيادة الوحيدة التي تمثل هذا الشيء هي القيادة القومية بنظرتها، بمنطقها، بتكوينها القومي، والقيادات الأخرى لا تكون قيادات إلا بمقدار ما تستجيب لتوجيهات القيادة القومية، وبمقدار ما تخضع لسلطة القيادة القومية والطريق الذي تسنه القيادة القومية. هذا من حيث المبدأ، وان كنت وإياكم نعلم جميعا بأن واقع القيادة القومية لم يبلغ لا في الماضي ولا في الحاضر هذا المستوى الذي يؤهلها تماما لحمل هذه المسؤوليات التاريخية، فان واجب الحزب أن يرتفع بمستوى قيادته العليا باستمرار لكي تقترب من الشروط المثالية. إلا أن كون واقع القيادة القومية ما زال منذ أن وجدت حتى الآن، دون المستوى المطلوب لمسؤولياتها التاريخية فذلك لا يعني مطلقا بأن دورها وسلطتها يجوز أن ينتقص منها. اذ لا بد لهذا الحزب من قيادة ومن سلطة وإلا ضاعت القيم والمقاييس وانحل الحزب إلى فوضى عندما تنعدم القيادة أو توضع سلطتها موضع التشكيك.
أيها الرفاق
لقد قاطعت جلسات القيادة القومية، وقبل مقاطعة هذه الجلسات وقبل انتخاب هذه القيادة، تعرفون بأني في المؤتمر القومي الثامن لا بل قبله بزمن، صممت على الانسحاب من المسؤولية الرسمية في قيادة الحزب وطرحت ذلك أمام المؤتمر القومي، ولكن بفعل جو عاطفي لم يتمكن المؤتمر أن يستوعب تماما الأسباب والمقاصد التي دعتني إلى ذلك الموقف فأصر المؤتمر على ترشيحي، ولكني اعتبرت نفسي منذ ذلك الحين منسحباً. وكان ثمة بعض الاحتمال بأن أعيد النظر في هذا الموقف وأن أحضر بعض الجلسات الهامة لولا أني لاحظت منذ البدء أن ثمة فروقا أساسية بين تفكيري في معالجة أزمة الحزب وبين تفكير مجمل القيادة. فقلت لن أكرر الخطأ الماضي ولن أفسر قناعتي ولن أسمح بأن تأخذ قواعد الحزب صورة خاطئة وانطباعاً خادعاً او مخدراً عندما يسمعون بأنني مازلت في القيادة واحضر اجتماعاتها، وأنا إنما أردت من انسحابي في المؤتمر الثامن، أن أنبه هذه القواعد إلى أخطار جسيمة تهدد وجود الحزب ومصير الثورة العربية، عندما يتهدد وجود حزب البعث. ولا أقول شيئا جديداً عليكم أو مجهولا لديكم عندما أقول بأن تصميمي على الانسحاب، هذا التصميم النهائي، كان على أثر الأزمة التي نشأت منذ عام عندما طرحت القيادة القومية أزمة الحزب لتجد لها الحلول الجذرية، فقوبلت بالتمرد من قبل القيادة القطرية الممثلة للسلطة، فطُعن بذلك شيء ثمين لا يقدر بثمن في حياة هذا الحزب، طعنت قيمة كبرى لأن القيادة القومية هي القيادة الوحيدة.
ولذلك كان لابد من موقف ينبه أعضاء الحزب القريبين والبعيدين إلى أهمية الشيء الذي حصل وإلى خطورة هذا الشيء والى الأضرار الفادحة التي تنجم عن طعن هيبة قيادة حزب البعث وسلطتها.
أيها الرفاق
أرجو أن تعذروني إذا أطلت والظرف لا يسمح بالإطالة، وأنا مقدر ذلك وسأحاول أن أضغط على نفسي وعلى هذه الذكريات والخواطر العديدة المتزاحمة في فكري لأبين لكم المأساة التي يعيشها حزبنا في السنوات الأخيرة متمثلة في المأساة الشخصية التي أعيشها أنا كأحد القادة الذين رافقوا هذا الحزب منذ نشوئه. ولذلك لن أعود إلى الماضي، وأعتمد على حسكم العميق وعلى تقديركم للمسؤولية لتدركوا وتشعروا بما كنت أشعر به وأعانيه منذ الأشهر الأولى التي مرت على الثورة ومنذ أن بدأت خيبة الأمل تظهر ويظهر الفارق الكبير بين حقيقة حزب البعث وبين التطبيق المشوه لأفكار ومبادئ وسياسة هذا الحزب في العراق أولاً ثم بعد حين في سورية. أعتقد بأن هذا العذاب هو أقسى ما يمكن أن يتعرض له الإنسان.
إنسان ملتزم بمبادئ، ناضل في سبيل هذه المبادئ ووضع عمره كله في معركة هذه المبادئ، أقسى عذاب يمكن أن يتعرض له هو عندما يرى التشويه الفظيع لأفكاره ومبادئه حتى يكاد ينكر أن هذا الحزب هو حزبه وان هذه الحركة هي حركته. وأصبنا بنكسة العراق رغم توقعنا لها قبل وقوعها بأشهر لأن التجربة والعقل السليم والمنطق الثوري، كانت هذه الأشياء كلها تؤكد بأن ثورة العراق كانت معرضة للانهيار.
وبعد ذلك انصب حرصنا كله على الثورة في سورية وصرنا نتعزى أن درساً في غاية القسوة، نادراً في التاريخ، تضيع ثورة كثورة رمضان في عشرة أشهر، أن درسا كهذا سيُنضج وعي البعثيين في كل مكان وخاصة في سورية حيث يتحملون مسؤولية الحكم. وان هذا الدرس سوف يجنبهم الكثير من الأخطاء وسوف يرتفع بنفوس القادة المسؤولين إلى مستوى المهمة التاريخية وسوف يطهرهم من الكثير الكثير من الأجواء والميول والمطامع الصغيرة التي لا تتناسب مع أهداف حركة كحركة البعث خاصة بعد أن منيت بذلك الفشل في العراق.
ولما لم يعط درس نكسة العراق الأثر المطلوب أخذ اليأس يتسرب ليستولي على نفوسنا وهناك وقائع مهما حاولت أن اصرف النظر عنها اختصاراً للوقت تلح علي فاعذروني اذا ذكرت بعض الأشياء.
لقد سافرت انا من هذا القطر، بتصميم على الابتعاد وقد فاتحت بعض رفاقي في هذا ومنهم من هم الآن في هذا الاجتماع ومع انني سعيت قبل سفري مع بقية الرفاق في القيادة وفي المجلس الوطني لتحسين الأوضاع نسبياً ووضعت كل ما عندي من طاقة ومن جهد وتأثير للخروج من وضع كان ميئوسا منه تقريباً عندما أمسى الحزب وحكم الحزب في عزلة رهيبة عند حوادث حماه وبعدها بقليل، فقد قلت لرفاقي قبل سفري أني يائس من هذا الوضع، وكلمة يائس لا تعني اني تخليت عن المسؤولية ولا تعني أن اليأس مطلق طبعاً. وأردت أن أنبه بذلك الابتعاد إلى خطورة الحالة، وقد قلت هذا لرفيقي منيف عندما زارني في ألمانيا موفدا من قبل القيادة القومية وهو يذكر كلماتي بلا شك، قلت له هذه التجربة أوصلتني إلى هذا الاقتناع وجعلتني، بعدما رأيته ولما لمسته خلال سنتين وأكثر من عقليات ومن مستوى في النفسية وفي المسؤولية، أخرج بنتيجة لا تحتمل المناقشة. لأن عليها ألف دليل ودليل، بأن هذا المستوى لا يمكن أن ينجح ثورة ولا نصف ثورة ومع ذلك عندما تحادثنا، قلت للرفيق منيف بأنه لا يمكن أن أتخلى عن الحزب، إنما قد أرجع لأموت مع رفاقي، وهذا واجب وهذا شرف. بعد أن بقيت مدة كافية لتشعر قواعد الحزب بأن هنالك خللاً كبيراً استوجب أن يبتعد هذا الشخص الذي لا يدعي فضلا على الحزب منذ اليوم الأول لنشوئه، ولم أصمم على العودة إلا بعد أن كتب لي الرفاق، ثم ذهب الرفيق شبلي ليؤكد لي بأن القيادة القومية اقتنعت بوجهة نظري وبأن الأزمة يجب أن تطرح وأن تعالج بصراحة، بروح جدية لا بأنصاف حلول ولا بالمسايرة وتجاهل الواقع، ذلك لأنني مضطر أن أسجل بهذه المناسبة بأني عندما سافرت لم تكن القيادة القومية متجاوبة معي ولم تكن متحسسة بالخطر بنفس الدرجة التي كنت أنا أشعر بها.
ثم كانت النتائج التي تعرفونها، واتخذ الحكم على أثر تلك الأزمة خطوة جيدة مباركة في طريق تطبيق الاشتراكية عندما أصدر قرارات التأميم. فتفاءلنا بالنتائج ولم نتفاءل بالمقاصد. وقلت هذا في اجتماع القيادة القومية -والكلمات مسجلة- قلت بأن الخطوة جيدة ومباركة وندعمها بكل قوتنا، وليس لنا خيار في ذلك طالما أن هذه القرارات أيقظت العداء لدى أعداء الحزب والاشتراكية، فإذن لا بد للحزب بكامل صفوفه أن يدخل المعركة ويحارب ويدافع، ولكن هناك خطراً من نوع آخر لا يجوز أن نغطيه، هنالك مرض مستتر، فهذه الخطوات لم تتخذ اقتناعاً بالاشتراكية وإيمانا بمبادئ الحزب وضرورة تطبيقها، بقدر ما كان فيها من المناورة لتغطية أزمة. ونرى بأن مفعول القرارات لم يدم أكثر من أشهر وان الأوضاع عادت إلى التردي وبشكل أخطر بكثير من السابق.
أيها الرفاق
حزب البعث عندما ظهر وعندما أخذت فكرته تنتشر وتتكامل بالتفاعل مع الأحداث ومع النضال كانت أهم فكرة منذ البداية هي فكرة الثورية وأهم شيء في الثورية كما عرفها حزب البعث منذ السنة الأولى ومنذ الكتابات الأولى بأنها الصدق والصراحة والأخلاقية، لأننا كنا قبل أن نصمم ونعقد العزم على تأسيس الحركة، كنا نعيش في بلادنا وكنا داخلين المعركة وكنا نعرف أن بين السياسيين والزعماء الذين كانوا يرسمون السياسة والنضال الوطني قبل تأسيس حركتنا بعشر سنوات وبعشرين سنة، كان بينهم اذكياء وافذاذ ولكنهم كانوا يفتقدون تلك الميزة. يفتقدون الاخلاقية والتجاوب مع الشعب ويفتقدون الثقة بالشعب لأنهم لم يكونوا من الشعب وبالتالي لم يكونوا يحترمونه ويصدقونه. لم يكونوا ينتظرون منه شيئاً كبيراً فكانوا يلجأون إلى المناورات وأساليب السياسة الملتوية وكان حزب البعث بظهوره رداً على تلك العهود البالية وعلى تلك العقليات وتلك النظريات الهرمة اليائسة. وبهذه الميزة استطاع حزب البعث أن يشق طريقه إلى قلوب ابناء هذا الشعب حتى انتشر في اكثر اقطار العروبة من بداية في غاية البساطة والتواضع إلى تاريخ طويل أصبح جزءاً من تاريخ امتنا. فكيف يتردى هذا الحزب وكيف ينقلب إلى الصورة التي نشاهدها والتي هي نقيض تلك السمات وتلك الصفات والمميزات التي اتصف بها حزبنا، صورة الأساليب المصطنعة، الأساليب القائمة على المناورة وعلى تشويه الحقائق والاختلاق والافتراء والتضليل واستعمال كل شيء إلا الصدق وإلا الصراحة وإلا احترام المبادئ وإلا احترام الشعب لا يمكن في يوم من الأيام أن يقبل هذه الأساليب وان خضع لها اضطراراً فترة قصيرة من الزمن.
أعود لأقول أيها الاخوان بأن الميزة الأولى التي ظهرت في حزب البعث من السنة الاولى ومنذ الكتابات الاولى، منذ التماس الاول مع الشعب ومع المسؤولية التاريخية التي ندب البعث نفسه لها، هذه الميزة الأخلاقية الميزة الثورية، هذه الميزة ليست للزينة وانها لم توضع لكي يقال بأن هذا الحزب أخلاقي وبأن أعضاء هذا الحزب طيبون وشرفاء بل كانت هذه الميزة شرط النجاح. وقد كان الحزب واقعياً عندما وصف فكرته ووصف نضاله منذ البداية بهذه الشروط وبهذه الأوصاف لأن أمة كالأمة العربية عانت ما عانته من عصور الانحطاط مئات السنين وهي صاحبة رسالة وتريد أن تنهض، فيجب أن تكون نهضتها أصيلة وعميقة وشاملة ولم تعد ترضى بالحلول الوسط وبالترقيع. فاذن لا بد أن تتمكن الحركة التي تندب نفسها لمهمة الثورة أن تصل إلى نفس كل عربي وإلى أعماق الشعب العربي لكي تحرك طاقات هذا الشعب لكي يضع هذا الشعب جميع إمكانياته في المعركة لأن معركته صعبة للغاية وتكاد تكون مستحيلة لكثرة ما يعترضها من مصاعب وعراقيل ومن أعداء كثيرين وأشداء. فالأخلاقية والصدق والصراحة في منطق حزبنا هي شيء واحد وهي شرط النجاح وهي شرط لكي يُقبِل الشعب على النضال ولكي يبني الثورة بسواعده.
وعندما كنا نعترض ونستنكر وننبه ونحذر خلال هذه السنوات الثلاث، نحذر من أساليب التزييف والتخطيط الجهنمي الصبياني في آن واحد، بأنه يلعب بحركة لها عشرون سنة من النضال، قبل حركة آذار لها تاريخ، لها جسم حي، استطاع أن يعيش عشرين سنة، يلعب بها وكأنها حيوان في مختبر التشريح: تشرح وتمزق وتقطع وتوصل. لم يكن احتجاجنا واعتراضنا وتحذيرنا لألم شخصي عند أولئك الذين نالهم التجريح والافتراء.
كلا أيها الاخوان. كان الاعتراض بأن هذه الأساليب سوف تدمر الثورة والحزب. فلان وفلان من قادة الحزب القدامى وصلوا إلى سن متقدمة نسبياً وقد يكونون قد أعطوا ما عندهم وقد يكونون أصبحوا من الماضي. هذا لا يهم. فالأمة العربية ليست عقيمة وتستطيع كل يوم أن تنجب من هم أحسن بكثير، ولكن المهم هو هذا الاستدلال الذي استدللناه من هذه الأساليب.
استدللنا بأن الذين يمارسونها والذين هم في السلطة والذين أصبحوا في قيادات الحزب لا يمكن أن يكونوا حاملين لهذه الرسالة قادرين على الاضطلاع بها وعلى إنجاحها، قادرين على اكتساب ثقة الشعب لان هذه الاساليب بعيدة كل البعد عن جو الحزب وعن منطق الشعب وروح الشعب. فكنا باستنكارنا نعرب عن قلقنا وخوفنا على الثورة وعلى الحزب لا عن خوفنا وقلقنا على أشخاصنا.
وبالحيل والمناورات والمخططات والطبخات التي تطبخ بين اربعة وخمسة اشخاص في الظلام، في غرفة، وصل الحزب إلى هذه النتائج. كنا في فترة من فترات ومراحل الثورة نريد أن نتفاءل ونقول هذه آخر الصعوبات والحكم سوف ينطلق وكل حكم مر بمصاعب ومر بعثرات ولكن أما آن لنا أن نفهم وأن ندرك بأن المرض اخطر من ذلك بكثير؟
ليس هذا هو مرض الثورات. وليس هذا ما مرت به الثورات الناجحة والخلاقة. هذا مرض الثورات التي تموت لأنها خانت ذاتها وخانت مبادئها وأنكرت روحها ولم تكن هذه الصعوبات التي مرت بها نكسات عارضة. وإنما تمشي في خط بياني صاعد باستفحال متزايد وكأنه المرض العضال الذي يفتك بالجسم.
وصلنا من هذه الشطارات والبراعات الخارقة انه في هذه السنة تأتي قيادة قطرية لحزب البعث الحاكم، قسم منها انتسب للحزب بعد حركة آذار بزمن ومعظم أفرادها من تكتل مدان من الحزب قبل ثلاث سنوات. قامت حركة آذار ضد مبادئ هذا التكتل وضد عقلية هذا التكتل، وضد منطق هذا التكتل. بصرف النظر عن هؤلاء الأفراد الذين أقدر لهم عملهم الماضي، ولكن هناك واقع كيف نتهرب منه، الواقع هو أن هذه الكتلة انحرفت بسبب من الأسباب، بعقدة من العقد، لعقلية متخلفة ليس الآن مجال تحليلها، ولكنها في وقت الانفصال وقفت مواقف ضد ما اختاره وأراده ووصل إليه حزب البعث في جميع الاقطار العربية، كما ظهر ذلك في مؤتمراته القومية. وإذا بهؤلاء الرفاق يصلون نتيجة هذه الشطارات في التخطيط وفي اللعب بالنظام وفي الاحتيال على النظام وعلى الحزب، يصلون في سنة 1965 إلى السيطرة شبه التامة على الحزب وعلى الحكم دون أن يعملوا نقدا ذاتيا او يتراجعوا عن خطأ او يعترفوا بخطأ او يتعهدوا بتصحيح انحراف بل على العكس جاءوا بافكارهم القديمة وأكاد اقول بأحقاد واهواء قديمة ايضا -وهذا مؤسف- ليدينوا الحزب بماضيه الطويل، ليخطئوا مؤتمراته القومية ويخطئوا الحزب في جميع الأقطار العربية، كما تمثلت إرادته في مؤتمرات قومية ولتتناقض حركة آذار هذا التناقض العجيب الذي يفضح إلى أي حد بلغ التزييف وبلغ قصر النظر وبلغ البعد عن الواقع بأن يظهر بأن الحزب يمكن أن يلعب به بهذا الشكل.
وأعود لاقول انه ليس بيني وبين هؤلاء الأفراد، على الأقل من جهتي، إلا كل مودة. ولكن الحزب أغلى من الجميع، وواجبي أن أشير إلى هذا التناقض الذي يكشف عن خطورة المرض.
وكنا نعلم أيها الرفاق بأن هناك سلاحا أصبح مفلولا لا بل سقيما هو سلاح الشرعية والنظام الداخلي. وقد ضاعت انتفاضة العراق لتوهم أولئك الشباب الذين لم يكونوا في مستوى المسؤولية، لتوهمهم بأنهم بهذا السلاح يمكن أن يفعلوا الأخطاء الجسيمة دون أن ينتبهوا إلى أن للحزب قواعد وجماهير وأن هناك شعبا يحاسب ويدقق وأنه لا يهمه النظام الداخلي او شيء من هذا القبيل وإنما تهمه الأعمال والتصرفات والنتائج. لقد وصلوا بأخطائهم وارتكاباتهم إلى حد أنهم عزلوا الحزب عن الشعب، وهو الحزب الشعبي في العراق، وكانوا يظنون أن المعركة فقط بين 20 – 25 – 50 يجتمعون في مؤتمر قطري. خمسة وعشرون هنا يتآمرون أو يناورون على الخمسة والعشرين الآخرين، أو عشرين على الخمسة والعشرين الآخرين، أو عشرين على ثلاثين، بما سميته أنا في المؤتمر القومي السادس حرفة استغلال النظام الداخلي، عندما كشفت عن هذه الأساليب وأخطارها قبل حدوث النكسة بشهر في المؤتمر القومي السادس. فكان همهم أن يربحوا على رفاقهم في غرفة تضم مؤتمراً من أربعين من خمسين وينسون الملايين من البشر وينسون 7 أو 8 ملايين من الشعب العربي في العراق وينسون الألوف من قواعد الحزب.
في حوادث أمس قيل بأن هذا تطبيق للنظام الداخلي، لقد أحزنني هذا الحادث للغاية لان أشياء كثيرة تحدث هي تكرار لمأساة الحزب في العراق. فمن يصدق بأن ما جرى من اعتقال لهذا الضابط هو تطبيق للنظام الداخلي وغيرة على الحزب والجيش.
في حوادث حمص أمس، قيل بأن هذا تطبيق للنظام الداخلي، لقد قيل هذا والبلاد حبلى بهذه الأزمة، وكل يوم يزيد حجمها والناس يرون ذلك ويشعرون به. ونأتي لنقول بأننا نريد تطبيق النظام الداخلي. كلا أيها الإخوة أمامنا مسؤوليات تاريخية، أمامنا التاريخ، أمامنا شعب، أمامنا بشر قد يتعرضون للذبح للقتل، وأمامنا قضية، وأمامنا هذا الحزب الذي له ماض وله تاريخ وله تضحيات كثيرة وأصبحت حياتنا وأسماؤنا مقرونة به. كيف يمكن أن نغالط في مثل هذه الظروف التاريخية؟ كيف يمكن أن نتجاهل؟ أن نبقى على سطح الأشياء ونرفض النطق بالحقائق العميقة لأننا أمام التاريخ، أمام الله، في مثل هذه الظروف، هو صراع على السلطة إذن. هذه الشرعية وهذا التذرع بالنظام الداخلي الذي نسمع به منذ مجيء القيادة القطرية الحالية حتى الآن، كيف يمكن أن نصغي إليه دقيقة واحدة ونحن نعلم بأن هذه القيادة هي التي مزقت شرعية هذا الحزب؟ وداست شرعية هذا الحزب. بدون أن أسيء إلى أحد، أبدا بدون أن أنتقص من أخلاص احد او أن أقلل من محبتي للجميع. كلا أيها الاخوان لا أقصد الا الظواهر.. الظواهر تدل بأن هذه القيادة التي تجمع في معظمها كما ذكرت كتلة كانت مدانة من الحزب قبل ثلاث سنوات، تتحكم اليوم بهذا الحزب وبهذا القطر ثم تنادي بالشرعية وهي التي مزقت شرعية عشرين سنة وتاريخ عشرين سنة. لا مجال للمماحكة في هذا المضمار، لنصل رأساً إلى الحقائق إلى الاعماق بدون تذرع بمثل هذه الحجج.
أيها الاخوان
لي وضع خاص بهذا الحزب ومن هذا الوضع الخاص أنطلق، وهو معروف وليس مجهول، كنت دوما وخاصة كلما تقدمت بي السن وتقدم النضال في هذا الحزب ازداد بعداً عن كل ما يتعلق بالمصالح او المراكز وأي شيء من هذا القبيل. وهذا ما جعلني أنظر إلى الجميع بالتساوي وبالمحبة وانظر بتجرد. لو كنت مقتنعا بعض القناعة بأن هذه الأساليب يمكن أن ينجح معها الحكم لما توقفت كثيراً لأني أنظر إلى أعضاء هذا الحزب نظرة واحدة. لو كنت مقتنعا بأن الاخوان الذين هم الآن في القيادة القطرية او في الحكم او في مناصب المسؤولية يمكن أن ينجح الحكم على أيديهم وان يقوم الحزب، (لان الحكم بدون حزب لا يبقى أشهرا معدودة)، لو كنت مقتنعا بهذا لما توقفت عند هذه الحلول ولما أسهبت ولما فصّلت، لكن قناعتي بأن الحزب يتهدم وأن الحكم يكاد يكون منتهياً وأنه بالتالي لا مجال للحلول الوسط. لا مجال للترقيع، لا ينقذ الوضع الا الحل الثوري الحاسم، لا حباً بالثورية وجريا على الزيّ الرائج هذه الايام، كلا بل لأن الحل الثوري وحده يمكن أن ينقذ (وقد لا ينقذ الوضع). أما التسويات والترقيعات فهي حتماً ستنهي الحكم والحزب في أقرب وقت، بعد أن فقد الشعب ثقته بالحزب وبحكم الحزب، بعد أن فقد الشعب العربي في الاقطار الأخرى وإلى درجة أكبر ثقته بالحزب وبحكم الحزب، ثم بعد أن فقد أعضاء الحزب الثقة بحزبهم وبأنفسهم. لا يجدي الا الحل الذي يعيد الثقة إلى النفوس، الا الحل الذي يكون بالفعل بداية جديدة للحزب والحكم والذي تطبق فيه المقاييس الثورية الصارمة والسليمة المنصفة، وألا تكون معالجة للتخدير لأسبوع، لأسابيع، لأشهر، ولا أكثر من بضعة اشهر. وقد تكون لأسابيع، وقد تكون أقل، وهذا ما يشعر به كل منا وبما يقوله ضمير كل منا.
لذلك جئت إلى هذه الجلسة لأقول رأيي بهذه الصراحة: أذكرّ كل رفيق منكم بمسؤوليته في هذا الظرف التاريخي، ولكي أشهد على موقف كل رفيق منكم، تاريخ ربع قرن من نضال حزب البعث، وتاريخ الأمة العربية، في هذه الظروف لا يجدي إلا التجرد، لا ينقذ الوضع إلا بضعة متجردين يسمون فوق كل الاعتبارات والأهواء والمصالح، وبجب أن يوجد أكثر من بضعة أفراد في هذا المستوى في حزب البعث.
يجب أن تتحمل القيادة القومية مسؤولياتها التاريخية، يجب أن لا تتكرر مأساة العراق يجب أن لا يضيع أمل الأمة العربية بهذه الحركة فتكون نكسة قد تدوم عشرات السنين.
القيادة القومية، حتى في واقعها النسبي، تستطيع أن ترتفع إلى مستوى المسؤولية التاريخية إذا أرادت وصممت وهي وجدها التي تستطيع ان تأتي بالحل وتنقذ الوضع وأن تعيد للحزب حرمته وأمل أعضائه وبالتالي أمل الشعب به، بأن تتقدم بالحل الثوري الكامل إذا أمكن وأن تدين الذين استخفوا واستهتروا وارتكبوا هذه الاخطاء القتالة. استخفوا بالحزب وتاريخ الحزب واستخفوا بالشعب وبتجربة الشعب وبروح الشعب واستخفوا بالعالم كله ومقاييس الثورات وبتجارب الامم واستخفوا بذلك كله وبنوا بناء مصطنعاً لا يصمد للهزات وليس فيه إلا السلبية. في قناعتي بأن القيادة القومية هي وحدها التي يجب أن تستلم المسؤولية في هذا الظرف الخطير وأن تحل القيادة القطرية، وان تزيح المسؤولين دون تهاون ودون تسوية ودون إبطاء، لان تمييع الموقف هو لصالح الفوضى ولصالح اعداء الحزب. وكلنا يعرف بأننا محاطون بشتى الإخطار وبالكثير من الأعداء حول سورية وما زال في داخل سورية للأعداء عملاء وما تزال لهم ركائز. وفي داخل الحزب قد يكون لهم، لأن التشويه الذي طرأ على الحزب من الصعب جدا بأن نقتنع بأن الايدي الاجنبية لم تسهم فيه.
أيها الرفاق
قد يخرج الخلاص من اليأس. في الحزب الآن حالة تَنَبّه هي شيء جديد إلى ماضي تلك السنوات الثلاث: تَنَبُه ووعي واستعداد للتصحيح والبدء من جديد لبناء الحزب والثورة مع شيء كثير من اليأس والخوف والقلق. يجب أن يكون موقف القيادة القومية والحل الذي تأتي به والخطوات التي ستباشرها موقظاً ومشجعاً لهذه الامكانيات الخيرة ولهذه الظاهرة الجديدة التي تبعث على الأمل.
ظاهرة التنبه والوعي، ظاهرة الغيرة على حزب له رسالة وله ماض ويجب أن يبقى له مستقبل. ولا يجوز أن يكون في موقف القيادة القومية من التردد او الفتور وأنصاف الحلول ما يغذي في نفوس قواعد الحزب الاستعدادات الانهزامية أو حالات اليأس والشك بل يجب أن تغذى وتقوى فيها هذه البادرة للعمل من جديد لتدارك الموقف قبل فوات الوقت لإنقاذ الحزب وإنقاذ رسالته. ويجب أن يتغلب الأمل والايمان على اليأس وهذا ما أتيت لأسجله واذكّر به رفاقي، لا لأني احسب أنهم لاهون عن ذلك او أنهم لا يتذكرون واجباتهم ومسؤولياتهم، كلا، فان لهم في نفسي كل الاحترام وكل المحبة، وإنما لأبرئ ضميري وأقول الكلمة الحقة الصريحة في هذا الموقف التاريخي. ولن أتخلى عن الحزب ولن أدخر جهداً في سبيل هذا الحزب حتى لو اقتضى الأمر أن أقدم دمي، وهذا شيء بسيط كما تعرفون، وانقطاعي عن الاجتماعات لا يعني انقطاعي عن العمل وعن الاستعداد الدائم من اجل خدمة الحزب والتضحية في سبيله.
19 كانون الاول 1965
(1) كلمة في اجتماع القيادة القومية بتاريخ 19 كانون الأول 1965
———————————-
النضال ضد تشويه الحزب
عندما يمض زمن طويل ولا يتيسر للقيادة أو لبعض القادة أن يجتمعوا بقواعد الحزب، ثم يتاح هذا الاجتماع وفي ظروف عصيبة.. في ظروف تراكم الأزمات التي تتالت على الحزب يشعر الذي يريد أن يتحدث إلى القاعدة بان عليه أن يقول كل شيء، وان يعوض عن الزمن الذي فات، عن الانقطاع الطويل الذي كان احد أسباب التردي الذي أصاب الحزب، والتشتت في أفكار الحزبيين، والبعد عن أفكار الحزب وأخلاقيته.. إنني أشعر الآن بأن مواضيع كثيرة تعد بالعشرات تلح علي أن أشرحها وأوضحها لكي أقوم ببعض واجبي نحو هذا الحزب، ولكي لا يبقى عذر للحزبيين الصادقين المستعدين للنضال والتضحية في سبيل هذا الحزب والذين ضللتهم الشائعات، وضللتهم أهواء وميول ومصالح بعض اللذين وجدوا في قيادات الحزب أو في مراكز المسؤولية في السلطة.
لقد تبدلت صورة هذا الحزب وتبدلت نفسية أعضائه وإذا كان التعميم غير جائز فان هذا يصح على الكثيرين.. تبدلت معالم هذا الحزب لا بل بُدلت وفق مخططات وتصميم وعمل دائب، حتى يتحول هذا الحزب في عقيدته وفي سياسته وفي تنظيمه وفي أخلاقيته، وزيادة في التضليل وفي الإجرام بحق الأمة العربية احتفظ باسم الحزب.. باسم الحزب الذي هو معروف لدى الشعب العربي منذ ربع قرن بوحدويته وثوريته ونظافته وبتميزه عن كل ما سبقه، حتى تطعن الأمة في أملها، في ثقتها بنفسها، في عقيدتها القومية الاشتراكية، ولكي يعم اليأس.
لقد أريد لهذا الحزب أن يبدل في تركيبه ومسلكه، وان يتحول إلى تناحر على السلطة، وعلى الملذات.. وعلى الرواتب.. يستغرب بعض الرفاق من عبارة وردت في كلمتي في القيادة القومية أن يداً أجنبية قد امتدت إلى هذا الحزب، فلنحكم ضمائرنا: إن من غير المعقول أن يزيف هذا الحزب.. والى هذا الحد بأيدٍ عربية…
إننا نسمع رفيقاً شاباً في العشرين من عمره، ربما قد يكون قد انتسب قبل عامٍ أو عامين إلى الحزب، يوجه أسئلة ويطرح آراء يشكك فيها بماضي هذا الحزب منذ تأسيسه، وبالرفاق الذين كان لهم شرف البداية، وهم ليسوا واحداً أو اثنين، إنما هم جيل من الشباب العربي، ولم يدَّع فرد أو أفراد أي فضل في تأسيس الحزب.. إننا ننكر مثل هذه الادعاءات وأنا أول من يرفضها. اسألوا القيادة القومية عن رفضي لتسمية (القائد المؤسس) فليس في حزبنا مثل هذه العقلية ومثل هذه العادات، هم الجيل الذي أنشأ هذا الحزب قبل ربع قرن وناضل وكان له فضل استشفاف المستقبل. وهو الذي فهم حاجات مرحلة تاريخية بكاملها وعبر عنها أقوى تعبير وما تزال شعاراته تقود النضال العربي كله. ولم يستطع أي زعيم أو أي حركة أن تغير في هذه الشعارات إنما كان الجميع يقتبسون منها. ومع ذلك نجد رفاقا شباناً لا يعرفون شيئا عن تاريخ هذا الحزب يقدحون بتراث الحزب وماضيه وبهذا القائد أو ذاك.
بعد ذلك كيف نصدق بان هذا هو حزب البعث وبأنه لم يشوه ولم توضع المخططات لتبديله لا كرهاً بالقادة وإنما بناء على خطة جهنمية لضرب قضية الشعب العربي.. فبتفكك هذا الحزب والإساءة إلى ماضيه وتراثه النضالي تضرب قضية الشعب العربي وهذا هدف الاستعمار.
عندما نكون في اجتماع حزبي نرى نسبة غير قليلة تقدح في الحزب وفي قياداته وتاريخه وسياسته. تماما كما يفعل الأعداء، فهل هناك دليل أقوى واسطع من هذا على القول بان الأعداء قد تسربوا إلى حزبنا ونفذوا إليه؟
العقيدة أقوى
ولكننا أقوى منهم بالكلمة الحقة الصريحة، وبالعمل الصادق، وبالتضحية والتجرد نفضح هذه الألاعيب وهذا التآمر. إن كتلا وقوى تتجمع بيدها سلطة وقوة.. وسلاح وإذاعات وأموال وأجهزة.. وتصب الاتهامات والافتراءات على أفراد لا يملكون شيئاً بل يزدادون فقراً وضعفاً في الوسائل. ومع ذلك تبقى القوة الحقيقية لأصحاب العقيدة لأصحاب القضية الثابتين على المبدأ ويتبدد المضللون. في كل فترة يأتي أمثال هؤلاء ثم يتبددون وتبقى فكرة الحزب وروح الحزب.
يكفي أن يبقى أفراد قلائل في هذا الحزب لهم الشجاعة بان يصمدوا ويرفضوا الموافقة على التسلط وعلى التزييف ويرفضوا السكوت عن الإجرام.. يكفي أن يبقى أفراد من هؤلاء فلا يموت الحزب. ولا تنطفئ، حقيقته لان رجلا صادقاً يستطيع أن يهزم المئات من المفترين الكاذبين.
أيها الرفاق:
لا أريد أن انسب كل شيء.. كل التشويه الذي طرأ على الحزب ودخل عليه إلى الفاسدين والمخربين، فإلى جانب حقيقة دور هؤلاء توجد حقيقة أخرى وهي أن هناك إهمالاً في الحزب ومواطن ضعف قديمة وجدية سمحت بان يضلل قسم غير قليل من قواعد الحزب وبأن يسيئوا الفهم، نظراً لانقطاع الصلة بين القيادات والقواعد ولانعدام التثقيف والتوجيه، ولنقص الغذاء الفكري اليومي.. فتكوَن الجو المناسب لتصديق الشائعات ولإساءة الفهم والظن ولردود الفعل السلبية..
إننا إذا نشدنا الحقيقة والدقة في كلامنا وأحكامنا نجد أن الفاسدين قلة وبأن الكثرة مضللة على طيبتها وبحسن نواياها واستعدادها للنضال. ولولا ذلك لكان علينا أن نيأس وان ننفض يدنا من هذا الحزب، ولا موجب لليأس لان عودة الحزب إلى أصالته ممكنة، إذا بدأنا صفحة جديدة من اجل التوضيح والتثقيف، من اجل التجديد وسد الثغرات في هذا الحزب من جميع النواحي الفكرية والتنظيمية والسياسية.
دعوة إلى التجديد
إننا لم نقل بان هذا الحزب لا يحتاج إلى التجدد. ارجعوا إلى ماضي الحزب تجدوا بأنه قام منذ الأساس على الفكر الناقد لنفسه والذي لا يكتفي بحد، بل ينشد الكمال و يعترف بالنقص ويدعو باستمرار إلى التصحيح والتطوير، وعندما أقول ارجعوا إلى كتابات الحزب و ماضي الحزب أشعر بأسف وألم، ولقد أصبحت متأكداً بان خمسة بالمائة من هذا الحزب قد يكونون على اطلاع على ماضي الحزب وأفكاره وأن خمساً وتسعين بالمائة لا يعرفون عن ذلك شيئا، وهذا ما يدعو إلى الخوف والقلق، فيجب أن نستيقظ قبل فوات الأوان لان الحركة العقائدية لا تستطيع أن تنمو إذا انقطعت عن الصلة بتراثها وماضيها. وذلك لا يعني أن نتجمد على الماضي، بل أن نكون متصلين به اتصالاً حياً واعياً يحقق وحدة الحزب وانطلاقه وسلامة اتجاهه. وإذا سلمنا بهذا الواقع المؤسف بان يتجاهل الحزب ماضيه ويحقد عليه ويعمل فيه تجريحا، فكيف ننتظر من هذا الحزب ألا يتجمد ويتشتت؟.. كيف إذا عمل على تهديم ماضيه بدلا من أن يستوعبه بمحبة لا بالعبودية له، بفهمه لا بالتوقف عنده؟.
إن ماضي الحزب يمثل الدوافع العميقة لنشوء الحزب فحزبنا حزب جديد من نوعه، فيه نواقص ولكنه قادر على تصحيحها والتغلب عليها والتغلب على الكثير من الأمراض، وهو قادر على أن ينطلق من أفراد قلائل لكي يستوعب الألوف من المناضلين في الأقطار العربية كافة. إن المناضلين البعثيين يولدون في كل قطر عربي وحزبهم يمثل الحركة العربية الصادقة. لو كان في الحزب كتلة محافظة مهيمنة تحارب التجديد وتقاوم كل فكرة جديدة، لو كان هذا المرض موجوداً في الحزب لما عاش الحزب ولما نما وتقدم وحقق من الانتصارات الحاسمة. قولوا لنا، متى كان هناك فئة من القادة أو غيرهم يرفعون سيف التحريم فوق رأس كل من يجدد أو يطالب بالتجديد أو يطرح فكرا جديدا؟ أليس العكس هو الصحيح؟ إن حزب البعث لم يعرف التعصب وسد الباب في وجه التجديد. ما ذنب القادة الأولين إذا هم قدموا كل ما يستطيعون؟. إن أولئك القادة لم يكونوا قابعين وراء المكاتب براحة واطمئنان بل كان عليهم واجبات وكان عليهم مواجهة المهمات النضالية في كل يوم. لقد أوجدوا الحزب بمثل هذا الدأب ولم يتفرغوا للكتابة والدرس. إن النضال هو الذي أوجد فكر الحزب.
كيف نشأ حزبنا؟
إن حزبنا لم ينشأ كالحزب الشيوعي مثلا. إن لحزبنا ظروفا متميزة، فالحزب الشيوعي سبقته نظريات اُلفتْ وجُمعت في عشرات من السنين وكتبت عنها الكتب والدراسات وبعدها تأسس الحزب. أما حزب البعث فلقد دخل النضال منذ اليوم أول لتأسيسه. وكان الجيل الذي أسس الحزب، داخلاً في معركة النضال، وهم لم يبدأوا النضال مع الحزب بل كان لكل منهم تاريخه النضالي. إن الحزب لا يتأسس على الورق بل بقوة مهيأة للنضال لها تجربتها، وبعد أن تتضح لها صورة عملها شيئاً فشيئًا ومن خلال النضال تأتي كي تضع نظريتها. هكذا نشأ حزب البعث.
أيها الرفاق
كانت هناك ظروف في الماضي باعدت بين قيادات الحزب وقواعده، ثم أتت ظروف جديدة بعد حركة الثامن من آذار زادت في هذا التباعد بل جعلته شيئا مقصودا لا عفويا كما كان من قبل. إن هذا التباعد لم يكن ناتجاً عن بعض الإهمال في التنظيم بل كان، بعد الحركة، حصيلة مخططات ترمي لإبعاد حاضر الحزب عن ماضيه ولإقامة سدود منيعة بين القواعد والقيادات، بين الحاضر والماضي. فكيف بنيت هذه السدود المصطنعة؟.. لقد كانت العراقيل توضع في وجه اتصال القيادة بالقاعدة وأؤكد لكم بان هناك عراقيل كانت توضع في وجه هذا الاتصال.
كنا في السنة الأولى لحركة آذار في شغل دائم في المجلس الوطني. وكان المجلس يجابه المؤامرة تلو المؤامرة من عناصر داخلية وخارجية وكان يجابه الظروف المتشابكة والمعقدة والخطيرة التي طرأت بعد الحركة، حتى مُنيَ الحزب بكارثة.. هي كارثة نكسة انتفاضة الحزب في العراق والتي انعكست على الحزب في سورية وأفقدته قسما كبيرا من رصيده وثقة الشعب به.
كانت تلك السنة بالنسبة لبعض القادة سنة عمل دائب لمواجهة هذه الأحداث والأخطار وكانت القيادة منشغلة في معالجة أصعب مراحل الحكم.. تلك المراحل التي عشتموها وتقدرون خطورتها ودقتها. في ذلك الوقت كانت هنالك الفئة الانتهازية المستعجلة للسلطة. تلك الفئة كانت مؤتمنة على الحزب فأساءت الأمانة ووضعت مخططات للقفز إلى السلطة دون رصيد نضالي، كانت مؤتمنة على التنظيم، وكانت القيادة مشغولة كما ذكرنا، فراحت تلعب بالحزب لعباً إجراميا، تُدخل فيه وتُخرج منه من تشاء في ظروف هي ظروف الحكم والامتيازات والمنافع، وكانت تلقّن من تدخلهم بان ماضي الحزب يميني. وما أن انتبهنا إلى ما يتم من تشويه وتخريب حتى بدأنا نحاول الاتصال بالقواعد وإذا بالعراقيل توضع.
في أوائل عام 1964مثلا أردت أن أزور بعض الفروع وطلبت من الرفيق فهمي العاشوري الأمين القطري المساعد وقتذاك أن يرافقني واتفقنا على السفر. ولم اعرف سبب ذلك إلا بعد أشهر عديدة عندما قام الرفيق فهمي في اجتماع رسمي وقال انه طرح الأمر على القيادة القطرية فارتأت القيادة القطرية عدم مناسبة زيارة الأمين العام للفروع.
بعد أشهر ذهبت إلى اللاذقية واتصلت بأحد أعضاء الفرع وهو المحافظ وطلبت إليه أن يعلم القيادة بأنني أريد أن أزور الفرع، وعندما وصلت إلى مقر الاجتماع لم أجد هناك أحداً، وبعد ساعة ونصف لم يأت سوى خمسة أعضاء ثم صار العدد ثلاثين وتحدثت إليهم وعرفت من أقوال الحاضرين وبينهم أعضاء في قيادة الفرع أن بعض أعضاء قيادة الفرع قد أحبطوا الاجتماع. وبعد فترة ذهبت إلى السويداء ودرعا ثم إلى حمص وحلب. وفي حلب لاحظت أمراً غير طبيعي، فبدل دعوة الأعضاء العاملين دعوا الأنصار، وخلال الاجتماع قاطعني احد أعضاء الفرع بقصد التشويش وبلغني بأنه حاول أن يعطل الاجتماع وبرر ذلك بإرادات عليا وذكر الحاضرين بما حدث في اللاذقية وطلب منهم أن يقاطعوا الاجتماع أيضا. هناك تآمر على الحزب أيها الرفاق ويجب أن نسمي الأشياء بأسمائها.
أيها الرفاق
إن الأزمة في الحزب قديمة وهي تعود إلى الأشهر الأولى من قيام حركة آذار. فبعد مضي عدة أشهر على الحركة بدأنا نشعر أن هناك أشياء غريبة وشاذة في المؤتمرات القطرية والقومية وتبين لنا بأن مخططا قد وضع قبل الحركة من قبل اللجنة العسكرية، من أفراد لا ننكر عليهم تحمل المشقة، ولكن السلطة ورطتهم في مزالق بعيدة عن أخلاقية الحزب.
بعض هؤلاء الأفراد من اللجنة العسكرية أخذوا يتصلون بالصف الثاني من ا القياديين الذين أوكلت إليهم مهمة التنظيم بعد الحركة وصاروا يحرضون فيهم شهوة السلطة والقفز إلى القيادات والمراكز ويشتركون معهم في مخطط لضرب القيادات القديمة لتشويه ماضي الحزب وتراثه وذلك ليتسنى لهؤلاء الأفراد من أعضاء اللجنة العسكرية أن يحلوا محل قيادة الحزب. لقد ورطوا أولئك الحزبيين من الصف الثاني الذين لم تكن لديهم مناعة أخلاقية كافية، لم تكن لهم تجربة طويلة تمنعهم من قبول المغريات فانبروا يزيفون التنظيم والانتخابات.
ولكن المسؤولية تقع على العسكريين لأن بيدهم السلطة والقوة. لقد ضربوا على مواطن الضعف في نفوس أولئك الشباب، ورطوهم وكانوا يعرفون أن أولئك القياديين من الشباب لن يكونوا عقبة في وجههم وان التخلص منهم سهل، وهذا ما حصل بالفعل، إذ لم تمض سنة على الحركة حتى أزيحت تلك الفئة التي ظنت أن باستطاعتها أن تقود الحزب.
وليس صحيحا أيها الرفاق ما ادخل في روعكم بأننا طلبنا من رفاقنا العسكريين أن يصوتوا ضد القيادة القطرية في المؤتمر الاستثنائي الذي انعقد في شباط 1964، لأننا لم يكن في يدنا سلطة لا على العسكريين و لا على المدنيين. إن العسكريين قد ساروا في مخططاتهم ولم يسألوا عن احد، وكانت هناك ظروف سهلت لهم الأمر وسهلت انخداعنا، وهذه الظروف هي: ضياع الحكم في العراق، والذي انعكس على الوضع في سورية انعكاساً خطيراً، ومما زاد التدهور أن الرفاق العراقيين الذين أضاعوا الحكم جاؤوا إلى سورية ليتعاونوا مع القيادة القطرية هنا والتي هي امتداد لتكتلهم، ويخربوا الحكم في سورية أيضا.
ولا أقول شيئاً جديداً إذا قلت بان أولئك الرفاق العراقيين جاؤوا ليخفوا جريمتهم ولينتقموا من الحزب وليشفوا أحقادهم، وهم الذين لم يكونوا في مستوى المسؤولية، وهم الذين كانوا كالأطفال الأشرار في تلك الظروف الحرجة والخطيرة، كان لا بد من وضع حد لتخريبهم. وعندما انعقد المؤتمر القطري الاستثنائي وفي هذا الجو طالب الرفاق العسكريون بنسبة موسعة في المؤتمر فلم نجادل كثيرا في هذا الأمر وانطلقنا من حسن الظن، وإذا بهم كتلة تقف مواقف مدروسة ككتلة داخل المؤتمر. إن الخوف على الحكم من أن يضيع جعل الكثيرين يتغاضون، فاستُغل هذا الظرف ليحصل الرفاق العسكريون على حصة الأسد في القيادة القطرية (سبعة من أصل 16) ويُنجحوا القائمة التي أرادوها. وأقول لكم أيها الرفاق بأننا بدأنا نتنبه إلى الخطأ دون إساءة الظن، وقلنا لعلهم معذورون ولعل خوفهم على الحكم من أن يضيع هو الذي يدفعهم إلى الإكثار من عدد العسكريين في القيادة.
تنبيه إلى الخطر
وكنا ندرك بان وجود ذلك العدد من العسكريين في القيادة هو منزلق، وقد نبهنا إلى هذا المنزلق لان احتمال التناقض بين العسكريين يمكن أن يشكل خطراً كبيراً على الحكم. فكان جواب رفاقنا العسكريين البكاء والتهديد بالانتحار واتهامنا بأننا وجهنا إهانة كبرى إلى العسكريين.
بعد هذا المؤتمر بدأ التسلط السافر ولم نقصر في التنبيه والتحذير، وكنا نناشد في أولئك الرفاق حزبيتهم ووطنيتهم أن يجنبوا الحزب والبلاد مهالك محتومة إذا لم يوقفوا التسلط العسكري ويرتفعوا إلى مستوى النظرة التاريخية المتجردة ويضغطوا على أنفسهم وعلى رفاقهم ويمنعوهم من هذا الانزلاق. ولكن يبدو أن الإنسان لا يعتبر إلا بعد أن يجرب بنفسه. ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع مع القيادة القومية.
بدأ بإهمال القيادة القومية وبالاستخفاف بأوامرها وتوجيهاتها. ماذا كنتم تفعلون لو كنتم مكان القيادة القومية حينذاك؟.. كان الحكم في العراق قد ضاع، وكانت الرجعية قد انتعشت في سورية وتذكرون حوادث حماه والاضطرابات. ما كان لنا غير وسيلة النصح والتحذير خوفا من أن يقع في سورية ما وقع في العراق.
أنتم تتساءلون: لماذا ترك الأمين العام القطر؟ إذا لم يكن باستطاعة القيادة القومية أن تنبه القواعد بشكل مباشر وعن طريق التنظيم. فما هي الوسيلة؟.. كانت القيادة تخشى أن يقع في سورية ما وقع في العراق وكانت معذورة إلى حد ما، ولكنني حسب تجربتي أدركت بأن الخطر ماثل وان الحكم يتدهور. كانت أجهزة دولة الحزب.. الدولة البعثية الاشتراكية تشتغل بتشويه سمعة الأمين العام أكثر مما كانت تشتغل لرد مؤامرات الاستعمار والرجعية، كانت تلك الأجهزة تنقل للقيادات المصنوعة التلفيقات والاتهامات على الذين أسسوا هذا الحزب ورافقوا مسيرته حتى الآن. كانت توضع العراقيل النفسية بين القيادة والقواعد بان يصوروا قادة الحزب وكأنهم من المنحرفين.
ذهبت إلى بون لا لكي أتآمر مع الاستعمار، سافرت لأنني كنت اشعر انه ما من حل آخر سوى أن يعقد مؤتمر قومي خارج سورية.. أي خارج إطار السلطة.
وكنت حينذاك أفكر في البقاء في الجزائر ولكن مؤامرة حالت دون وصولنا إلى الجزائر. وذهبت إلى بون لان أخي يقيم هناك ولكي لا أتشرد ويعز علي أن أقول لكم دون فخر ولا اعتداد بأنني لم أكلف الدولة والحزب قرشاً واحداً خلال الخمسة أشهر التي قضيتها هناك. فلقد رددت الأموال التي أرسولها لأنني ذهبت ومعي فكرة الحزب.. وقضية الحزب.. وألم الحزب..
لقد حان الوقت لكي تعرف بعض الأشياء: لقد أنزلت راتبي 300 ليرة بعد حركة آذار، والطالب الحائز على شهادة الحلقة الثانوية يأخذ أكثر من راتبي، ولقد فرضت على نفسي هذا الشيء، رغم أن مصروفي زاد بعد الحركة.. لقد كنت أقدّر ما يمكن أن تفعله المادة في النفوس فقررت تخفيض راتبي لكي يأتي المثال من القادة. ولم يكن هذا الموقف رغبة في إعطاء درس وقدوة فقط بل أصبح نتيجة اشمئزاز واستنكار بعد ما رأيت المفاسد تعم وتستشري بين الحزبيين الذين كانوا مثال النظافة في الماضي. أصبحت اشعر بأننا إذا أكلنا أكثر من لقمة العيش أصبحنا أسرى للتخريب والتزييف والتشويه لان المال يفسد الضمائر. وقد أصبحت له رائحة قذرة. لا نقبل إلا لقمة العيش حتى تستفيق الضمائر. حتى تعود الروح الأصيلة إلى هذا الحزب.. وحتى تتذكروا من اجل ماذا وجد هذا الحزب وناضل ومات الألوف في سبيله في اليمن وليبيا والعراق وغيرها؟ أمن اجل أن يغرق البعض في الشهوات؟ لا بد أن تعود إلى هذا الحزب روحه الأصيلة ولو اضطرنا ذلك إلى الاستشهاد.
لقد عدت من الخارج بعد أن حصلت القناعة لدى القيادة القومية بأن لا بد من طرح الأزمة. وبعد عودتي اجتمعت القيادة القومية طويلا وطرحت الأزمة. واتخذنا القرارات التي اطلع عليها بعضكم ولكننا جوبهنا بالتمرد من قبل السلطة.. ولا أقول القيادة القطرية لان القيادة القطرية أصبحت هي السلطة.
إن القيادة القومية هي القيادة الحقيقية للحزب، لأن البعث حزب وحدوي وقيادته واحدة في القيادة القومية تطرح المصلحة العليا للأمة العربية، أما في القيادات الأخرى فقد تطغى المصالح الإقليمية.. وبقدر ما تخضع القيادات القطرية للقيادة القومية بقدر ما يكون وجودها مشروعا. في القيادة القومية عيوب، ولكنها تبقى رغم ذلك أجدر قيادة وأبعدها نظرا، ولذلك يجب احترامها وإطاعتها. أما التشكيك فيها فهو تخريب للحزب وهو جريمة نكراء.
قبل عام وشهر عندما ووجهت القيادة القومية بالتمرد لم ترد أن تعرّض الحكم إلى الخطر، لأن الذين كانوا في القيادة القطرية آنذاك كانوا عسكريين أو من صنع العسكريين.. ولقد هدد هؤلاء بالانسحاب من الحزب ومن السلطة ومن الجيش. فقلنا لننتظر المؤتمر القومي.
المؤتمر القومي الثامن
فإذا كان حزب البعث سينتهي إلى هذا المصير فيجب أن تشترك جميع المنظمات الحزبية.. فالأزمة خطيرة جداً وليشهد عليها ممثلو البعث في الوطن العربي وليتحمل كل منهم مسؤوليته.
إذا كان حزب البعث يملأ الجو منذ عشرين سنة أفكارا ومبادئ وشعارات قومية خالصة.. وبعد ذلك يكون هنالك من بيدهم سلطة فيهددون بها ويسخرون أموالها للتشهير برفاقهم، فليأت الحزب القومي الذي لا يملك مالا ولا سلطة ولا وزراء، وإنما فيه الالتصاق بالمبادئ والنضال والأخلاق. وجاء المؤتمر القومي ومع الأسف تتكرر الأخطاء وتلعب الأغراض الشخصية أحياناً دورها وتفضل اللفلفة على الطرح الصريح للأزمة.. ويُظن بأن الحزب يمكن أن يُغش ويُخدع. وأيقنت أن الحكم سوف يهدد بمصير قريب ما دامت الفرصة تفوت وينفض المؤتمر القومي دون أن يبحث أزمة الحزب.. وأقول كلمتي للتاريخ وللأذهان الواعية، أقولها عندما قروا اللفلفة وحجبوا عن المؤتمر حقيقة الأزمة، قلت كلمتي في آخر يوم وسردت وقائع الأزمة ولم أتجن على احد بل أنصفت الجميع وأنصفت الحزب قبل الجميع. ويومها كنت قد قررت الانسحاب من القيادة وترك المجال لغيري طالما أنهم لا يقدرون خطورة هذه الأزمة، وطالما أنهم لم يستنكروا الاستنكار اللازم ما حدث عندما تمردت القيادة القطرية السورية على القيادة القومية وطالما أنهم يفضلون اللفلفات، وطالما أنهم لم يستنكروا هذه الألاعيب التي تدخل إلى حزب البعث.. الألاعيب اللا أخلاقية التي تجيز أن ينزل رجال السلطة والأجهزة كل الافتراءات عن قيادات عليا في الحزب لها ماض من عشرين وخمسة وعشرين عاما افتراءات تطعن بوطنيتهم وحزبيتهم ونزاهتهم. لقد حدثتكم عن وضعي كيف عشت عندما سافرت إلى الخارج.. ولكن من جملة ما قالوه إنهم دفعوا لي مبلغ – 75 – ألف ليرة.
فكان لا بد أن أقف موقف المنبه. فليس بيدي لا جيش ولا قوة مادية، بيدي هذا التنبيه هذا الأسلوب فقط. من يصدق أن شخصا عاش مع هذا الحزب من أول لحظة حتى الآن لا يريد أن يبقى في الحزب؟ فإذا ابتعدت لا بد أن يكون هناك تساؤل. إن كلام بعض الرفاق فيه بساطة بأنه كان من الواجب أن أبقى. كيف أبقى ما دمت أرى الأمور على ضلال ولا استطيع أن أصحح.
لقد امتنعت عن حضور اجتماعات القيادة والمجلس الوطني، وإنني اشعر براحة ضمير واعرف بأنني اعمل واجبي وهذا ما حصل في المؤتمر القومي الثامن. والقيادة القومية التي خرجت منه تجاهلت مع الأسف تجربة القيادة التي جاءت قبلها وبدأت بداية جديدة فأضاعت وقتا طويلا كان يجب أن يوفر على الحزب وان تعالج الأزمة منذ ذلك الحين، ولكن في آخر الأمر وبعد تكرار التجارب وصلَت إلى نفس النتائج التي وصلت إليها القيادة القومية السابقة وقالت في الأزمة ما يجب أن يقال.
الأسئلة التي سمعناها في هذا الاجتماع فيها الشيء الكثير المدبر والمحضر كما كان عليه الأمر في فروع أخرى. وهذه الأساليب لا تخفى على أحد، وقد أصبحت مفضوحة هذه الافتراءات، هذه التكتيكات، هذا الربط غير الجائز بل المخجل بين موقف القيادة القومية وبين الأسطول السادس.. وهذا الكلام عن أميركا وارتياح أميركا وسفير أميركا لتشكيل حكومة الأستاذ البيطار، لو كان الحزب يحترم نفسه، ولو كان هذا الحزب هو الحزب الذي نعرفه لما بقي أصحاب هذا الكلام دقيقة واحدة ولأخرجوا من القاعة ومن الحزب لأنهم مخربون. اسألوا وزير الخارجية السابق.. لقد اعترف بنفسه بالحقيقة في اجتماع الفرع العسكري في قطنا وقال أن موظفا في السفارة الأميركية أتى جريا على التقاليد ليودع الوزير المستقيل وليبدي احترامه للوزير الجديد، وان السكرتير الصيني أتى أيضا وعمل الشيء نفسه وأبدى أيضا ترحيبه بمجيء حكومة صلاح البيطار، فإذا كان هنالك شيء ما في الموضوع فما قولكم أن سكرتير السفارة الصينية يبدي ارتياحه لمجيء هذه الحكومة، هذه أقوال مجاملة في الدبلوماسية وأنا لا أعلق عليها بشيء. إن هذا النموذج يفضح هذه الأساليب.
مسالة اليمين واليسار
أثار بعضكم الآن وأثيرت من قبل موضوعات فيها جانب من الصحة والحق ولا يمكن أن نتجاهل الحق.. لنأخذ قضية اليمين واليسار.. هذه القضية فيها جانب من الحق وفيها جوانب من المغالطة والاختلاق والافتراء والتضليل والمزاودة والانتهازية يجب أن نفضحها.
عندما طرحت شعارات اليمين واليسار في أوائل عهد الثورة.. طرحت لأغراض انتهازية وعندما أثيرت هذه القضية أثيرت أيضا لأغراض انتهازية بحتة. لقد كان شعار المخطط الذي حاول أصحابه من العسكريين والمدنيين الطامحين إلى القيادة والسلطة.. وهم الذين أرادوا سرقة الحزب والالتفاف عليه لان الحزب صار في الحكم، وصار هناك امتيازات ومناصب.
إن الذين طرحوا هذه الشعار في العراق.. كان واحدهم يعيش كالأمراء في القصور ويتقاضى من الرواتب ما يبلغ عدة مئات من الدنانير في الشهر وكان يعيش في بيوت فخمة وسيارات وخدم.. هؤلاء كانوا أكثر الناس مناورة باليسار واليسارية.
والذين طرحوا هذا الشعار في سورية وما زالوا يطرحونه كيف يعيشون؟ هل هم ينادون به شفقة على الجماهير الكادحة ومحبة بهم أم أنهم يتذرعون به ويستعملون هذه الكلمات ليبقوا في السلطة وليجمعوا المال وليتلذذوا بنعم الدنيا.. ليغرقوا بالشهوات؟ أما القاعدة الحزبية المضللة والبريئة فان هذا الشعار والكلمات تقع عليها أحيانا وقعا مؤثرا فتنخدع.
حزبنا يساري
إن حزبنا حزب يساري.. ومنذ أن وجد كان حزبا يساريا. هذه أفكار الحزب فهل يستطيع احد أن يأتي بعبارة واحدة من أفكار الحزب فيها تفكير يميني؟ إن حزبنا هو حزب يساري أصيل. ولكن الاجتهادات قد تختلف في الحزب العقائدي الاشتراكي، فعندما يخوض الحزب معارك كثيرة وتجارب عديدة ويواجه أحداثا وظروفا غير متوقعة قد تختلف الاجتهادات.. وقد يكون لبعض الأشخاص ميل ولو كان بسيطا نحو الاعتدال، وقد يسمى اعتدالا، وقد يسمى هذا شيئا من اليمينية وقد يكون هذا الأمر مرتبطا بظرف من الظروف، وقد يستنتج اليوم من بعض الوزراء بان لهم أوساطا معينة، وعقلية هي ليست عقلية الطبقة الكادحة، ولكن أتعرفون لماذا لا يبحث هذا الموضوع في الحزب بصراحة وجرأة وموضوعية، السبب هو أن الذين يدعون اليسار قد شوهوا معنى اليسار بأغراضهم الانتهازية وبعقولهم الطائشة الصبيانية. فعندما يرى الحزب أن ادعاءات اليسار مقرونة بالانتهازية وحب السلطة والطيش والمخاطرة حتى بالوطن والحزب وباستقلال البلاد يضطر الحزب إلى السكوت عن بعض الوسطية أو بعض الابتعاد عن الخط اليساري. وقد يكون عند بعض الأشخاص في الحكم مبررات فكرية وقناعات. ولكن هذه الانتهازية هي التي تمنع مناقشة هذه المبررات والقناعات، ومناقشة بعض الميول اليمينية التي قد تظهر أحيانا عند بعض الأشخاص. إن اليسارية ليست في التطرف والتهويش والمبالغات الوقحة وليست بالافتراء على الآخرين؟ إن اليسارية هي تحليل واقعي ومواقف عملية، وعقل علمي موضوعي لا يتأثر بالشهوات وبالمطامح والتأثيرات الوقتية وإنما تسيطر عليه الروح العلمية والتجرد والنزاهة.. وعندما يشفى مدَعو اليسار من أمراضهم نستطيع أن نعالج هذا الموضوع إذا كان واقعا.
أيها الرفاق
احد الرفاق سأل عن وحدة اليسار وقال بأنني طرحت هذا الموضوع في تصريح رسمي قبل عام ودعوت فيه إلى وحدة اليسار. إن هذه قناعتي منذ عشرة أعوام وليس منذ عام فقط وقد كتبت قبل قيام الوحدة في هذه المواضيع ولكني بعد حل الحزب.. وبعد الانفصال والظروف التي واجهتنا لم تسنح الفرصة لطرح الموضوع مجدداً على المستوى العلني وان كنا في القيادة القومية نوجه الحزب هذا التوجيه.
اذكر لكم حادثة في عام 1961 عندما كان مقر القيادة القومية في بيروت زمن الوحدة أرسلت رسالة إلى القيادة القطرية في العراق تنبه إلى الأمور التالية:
كنا على يقين أن لابد أن يحدث رد فعل من جانب الجماهير ضد الشيوعيين وان تستغل القوى الرجعية واليمينية رد الفعل هذا لشن حرب تصفية ضد الشيوعيين ولتعزيز الأفكار والمواقع اليمينية.. حينذاك وجدت القيادة القومية أن من واجبها تنبيه الحزب في العراق أن لا يتأثر بإيحاء الأوساط المحافظة واليمينية في العراق وأن لا ينجر إلى معارك انتقامية مع الشيوعيين.
أرسلنا هذه الرسالة قبل انتفاضة رمضان بسنتين وعرفت أن القيادة القطرية في العراق أنزلت نشرة بهذا المعنى إلى قواعد الحزب تحذرهم من ردود الفعل السلبية تجاه الشيوعيين.
وقفنا ضد تصفية الشيوعيين
وبعد أسبوع من انتفاضة رمضان ذهبت القيادة القومية إلى بغداد، وجاء مراسلي الصحف ووكالات الأنباء إلى الفندق وطلبوا مني حديثا وتجمعوا حتى صار الأمر وكأنه مؤتمر صحفي فتحدثت إليهم. ولما سألوني عن موقف الحزب من الشيوعيين قلت للمراسلين وكان بينهم مراسلون من الدول الاشتراكية وغير الاشتراكية، إن حزب البعث لم يكن معاديا للشيوعية أو مكافحا لها. فهذه مهمة الأحزاب الرجعية وحزب البعث ليس من هذه الأحزاب.. غير أن من واجب الحزب أن يقف في وجه كل عمل جنوني اخرق، فلما نزل الشيوعيون إلى الشوارع مسلحين لمقاومة الانتفاضة كان من الواجب ردعهم.. ولكن لن تكون هناك أعمال انتقامية.. وأوضحت أن قيادة الحزب كانت قد احتاطت للأمر منذ سنتين (مسألة الرسالة التي بعثت بها إلى القيادة القطرية عام 1961 ).
ولكن القيادة القطرية في العراق مجمعة على التصفية التي قاموا بها طوال تسعة أشهر.. هذا العمل لا يرتكبه إلا الحمقى، لقد جلبوا عداوة ثلاثة أرباع الدنيا لانتفاضة كانتفاضة رمضان منذ أيامها الأولى.. وكان عبد الناصر ضدها أيضاً..
أما المعسكر الاشتراكي فليس بالضرورة ضد انتفاضة رمضان وضد البعث.. ولكن القيادة القطرية أعطت المعسكر الاشتراكي مبررا كي يعادينا ويعزل الحكم في العراق، ويعبئ الأوساط التقدمية في العالم حتى صارت تنعتنا بالفاشست وعملاء الاستعمار.
ولقد طرحت هذا الموضوع في المؤتمر القطري العراقي في بغداد، وفي المؤتمر القومي السادس. وبعد ضياع الحكم في العراق قفز أولئك الأطفال الذين كانوا يذبحون الشيوعيين نحو الشيوعية وتظاهروا بأنهم صاروا يساريين ليغطوا جرائمهم. هذه هي الانتهازية. وهؤلاء أيضا كانوا متشنجين ضد عبد الناصر إلى ابعد الحدود يأخذون علينا صنع الوحدة معه كأنها جريمة. وبعد أن خسروا الحكم والحقد في نفوسهم على الحزب راحوا يتزلفون لعبد الناصر ويتقربون منه.
موقفنا من الماركسية
وهناك مسألة موقفنا من الماركسية ومن الشيوعية المحلية والعالمية. ولتبسيط الموضوع نقول أن هنالك في موقفنا طورين الأول منذ نشأة الحزب حتى عام 1956 والثاني منذ عام 1956 وحتى الآن:
عندما نشأ الحزب كان بيننا وبين الشيوعيين خلافات كبيرة وجدية وفي غاية الخطورة. إن الأحزاب الشيوعية العربية لم تقدم جوابا على مشاكلنا القومية.. وكان الشيوعيون المحليون ينكرون القومية ويعادونها كما كانوا ينكرون الوحدة ويعملون على أساس إقليمي ولم يقدم مدعو الماركسية جوابا على مشاكل البلدان المتخلفة ولم يفهموا أن النضال القومي التحرري فيها يكون مقرونا بالنضال الاشتراكي. إن حزبنا قد يكون من أول الأحزاب في هذا العصر، التي أعلنت هذه الحقيقة في آسيا وأفريقيا: حقيقة اقتران النضال القومي بالنضال الاشتراكي. قد نكون معذورين عندما نقدنا مدعي الماركسية في ذلك الوقت وحذرنا الشباب منهم. ففي ذلك الطور لو أخذ العرب بالماركسية كما كانت مطروحة وساروا في ركاب الشيوعيين لكانوا ذيلا لغيرهم ولما وصلوا إلى هذه الانتصارات الاجتماعية. كانت الأحزاب الشيوعية تطلب إلى العرب آنذاك أن يسكتوا عن الاستعمار الفرنسي والانكليزي لان الفرنسيين والانكليز كانوا حلفاء للسوفيت وكان هذا الموقف خيانة لأهداف الأمة ولهذا كان لا بد للبعث أن يكشف حقيقة أن الأحزاب الشيوعية العربية حركات خاطئة وغير ملائمة لبلادنا لأنها لا تتفهم مشاكلنا ولا تقدم الحلول الصحيحة لها. في ذلك الحين كان جوابنا عنيفا على الشيوعيين لأننا كنا نخاف على شعبنا من أن يضلل وكان بيننا وبين الشيوعيين صراع على المصير، على الحياة، كنا نطرح السؤال التالي:
هل نأخذ هذه الفرصة التاريخية ونقود الأمة العربية إلى النصر.. إلى الاستقلال والثورة القومية الاشتراكية أم نتركها فتقود الأحزاب الشيوعية بوضعها ذلك الأمة العربية إلى الفشل والى التخبط؟
وبعد مضي خمسة عشر عاما ظهر أن الأحزاب الشيوعية فشلت في العالم الثالث وليس في بلادنا فحسب. فهي لم تستطع أن تقود الثورة في الكثير من بلدان آسيا وأفريقيا بسبب النقص الأساسي فيها.. النقص في فهم طبيعة حركات التحرر الوطني في هاتين القارتين.
وبعد أن تسلم حزبنا زمام القيادة لم تعد الأحزاب الشيوعية العربية تشكل خطرا وكان علينا أن نحاول تصفية الخلافات بعد زوال الظروف الموضوعية لنشوئها وان نزيل هذا العداء المستحكم. طبعا، أنا ما دعوت إلى تناسي الماضي في يوم واحد ولا الارتماء في أحضان الشيوعيين دون محاسبة ونقد ذاتي. وفي ذلك الحين بدأ الشيوعيون يصححون مواقفهم من الوحدة بعد أن كانوا يعادونها بصراحة أصبحوا لا يجرؤون على معاداتها فيما عدا موقفهم الخاطئ والمنحرف منها في العراق بعد انقلاب تموز 1958 وكانت هذه التطورات تقتض من جانبنا أن نتطور. فأمام الظروف الجديدة لا يجوز التعلق بالأفكار والمواقف القديمة التي كان لها ما يبررها في الماضي. وإنما يجب إعادة النظر فيها وتعديلها بالمقدار الذي تتطلبه الظروف الجديدة.
إن الماركسية نظرية اشتراكية. وهي أولى النظريات العلمية وأهمها.. وليس جائزا أن ننظر إلى الماركسية نظرة تعصب. يجب أن ننفتح عليها انفتاحا موضوعيا.. وعند خلافنا معها يجب أن نقارع الحجة بالحجة وان لا نتزمت. يجب علينا أن نرى الحق والصواب أينما كان.. إن موقفنا اليوم من الماركسية والشيوعية لم يعد موقفا سلبيا وفي الماضي لم نكن مقلدين ولا زلنا غير مقلدين ولكن يجب علينا أن نأخذ كل ما يفيدنا في نضالنا الاشتراكي.
سأل احد الرفاق: عن قولي بان القيادة القطرية المنحلة داست شرعية الحزب ومزقتها وان بها كتلا أدانها الحزب.
إن عهد الانفصال أيها الرفاق ليس ببعيد. في ذلك العهد وقف قسم من الذين يسمون أنفسهم بعثيين إلى جانب نظام الانفصال وعملوا ضمن إطاره واختلفوا مع الحزب وانشقوا عنه، كان خلافنا معهم حول الموقف من الوحدة ومن الانفصال. في المؤتمر القومي الخامس اجتمع ممثلو الحزب في الأقطار وناقشوا موقف الحزب من الوحدة وقرروا أن نستأنف النضال من اجل وحدة سليمة ديمقراطية تعتمد على التنظيم الشعبي، ويجب أن نشدد النضال ضد عهد الانفصال لأنه عهد رجعي صنعه الاستعمار، ولأنه لا يخدم سوى مصالح الإقطاعيين والرأسماليين والانفصاليين.. كما قرر المؤتمر أيضا إعادة التنظيم الحزبي في سورية وارتباط هذا التنظيم بالحزب القومي وبالقيادة القومية وقرر أيضا تجاوز المشكلات التنظيمية والتكتلات والشلل في سورية، والتي كانت تقف عائقا أمام عودة التنظيم وأمام وحدة الحزب. وأدان المؤتمر القومي بصورة حاسمة وواضحة كل المواقف التي وقفها بعض الذين كانوا يدعون الانتماء للبعث إلى جانب الانفصال وضد قضية الوحدة واعتبرها انحرافا وبرأ الحزب منها.
هذا هو موقف الحزب.. موقف المناضلين في الأقطار العربية الذين كانوا يواجهون الجماهير كل يوم ويتحسسون مشاعرها وآراءها وأهدافها. ولكن فئة قليلة تمردت على قرارات المؤتمر القومي الخامس وشكلت حزبا جديدا باسم حزبنا.. وكان هذا الحزب الجديد منظمة قطرية إقليمية لا صلة لها بالحزب القومي الذي ناضل سنين طويلة وامتد في كثير من الأقطار العربية وحقق للجماهير انتصارات عظيمة. وبدأت هذه الفئة تشن حرب إشاعات ضد الحزب وضد القيادة القومية تماما كما يحدث اليوم، كما راحت تدعي الثورية واليسارية.
إننا يجب إن نكشف حقيقة هذه الفئة وحقيقة مواقفها منذ الساعة التي تمردت فيها على الحزب ممثلا بالمؤتمر القومي الخامس وبالقيادة القومية التي انبثقت عنه. إن هؤلاء الذين سموا أنفسهم بعثيين وقفوا إلى جانب الانفصال بل راحوا يبررون الانفصال ويبررون مواقفه وسياسته. مواقف وسياسة خالد العظم وناظم القدسي ومأمون الكزبري وذلك التجمع الشعوبي الرجعي الاستعماري الذي كان يضم الإقطاعيين والرأسماليين وعملاء الاستعمار المكشوفين.
وقد عملوا ضمن إطار النظام الانفصالي.. إنهم لم يرفضوا الانفصال.. ولم يثوروا عليه كنظام وإنما عملوا ضمن إطاره وادعوا أن باستطاعتهم أن يستفيدوا من الحريات الديمقراطية الزائفة التي وفرها لكي يعملوا. وكانوا يدعون أنهم يريدون إصلاحه من الداخل.. تصوروا هؤلاء اليساريين الثوريين وهم يريدون إصلاح نظام خالد العظم وناظم القدسي ومأمون الكزبري من الداخل. أيها الرفاق عودوا إلى التاريخ.. إلى تاريخ الحركات الثورية في العالم تجدوا أشباها لهذه الفئة.. إنهم الانتهازيون الاصلاحيون اليمينيون الذين يقفون عند منتصف الطريق ويخشون من المضي في النضال الثوري ويكتفون بالعمل ضمن إطار النظام الرجعي وبمعارضته معارضة جزئية من غير أن يتحملوا مشاق الثورة التي تتطلب الموقف الجريء الجذري والنضال الدائب الطويل. إن باستطاعتكم أن تعرفوا حقيقتهم من طريقة عملهم.. ومن مقارنة أسلوبهم بأسلوب الحزب.
لقد شكلوا حزبا جديدا من مجموعة من التكتلات الشخصية ومن الشلل المعروفة في سورية دون وضع أية قواعد تنظيمية ثورية وراحوا يعملون عملا شبه علني في ظل النظام الانفصالي.. وكان هذا النظام لا يهتم بهم ولا يهتم بمعارضتهم وبياناتهم ولم يتعرض احد منهم للاضطهاد في عهد الانفصال.. كان وضعهم كوضع الأحزاب البورجوازية الموالية للنظام الانفصالي. كانوا جزءا من التركيب السياسي لعهد الانفصال. هكذا كان وضعهم وهم الذين ملأوا الدنيا انتقادا ضد أسلوب الحزب في التنظيم وضد القواعد الثورية في التنظيم الحزبي. أما التنظيم الذي كان مرتبطا بالحزب فانه بني على قواعد نضالية متينة مستقاة من تجارب الحزب التنظيمية في الأقطار العربية. بني التنظيم الحزبي على أساس سري ثوري وكان أعضاؤه يعملون ضمن شروط قاسية وصعبة وكانوا ينظمون المظاهرات والإضرابات الجماهيرية وكانوا يتعرضون للاضطهاد من قبل السلطات الرجعية. وإذا كانت قد حدثت أخطاء في التنظيم المرتبط بالحزب بسبب انحراف البعض وانتهازيته، فان الأساس كان صحيحا ثوريا وكان نقطة هامة في تاريخ حزبنا وأسلوب عمله. أما الفئة المنشقة التي ملأت الدنيا صراخاً عن السياسة والسياسيين وأساليب العمل السياسي فإنها كانت تعمل ضمن إطار اللعبة السياسية التقليدية وكانت تحاول النجاح في هذه اللعبة.
هذه الفئة أيها الرفاق.. ارتضت لنفسها أن تكون إقليمية فأقامت حزبا قطريا لا ارتباط له بالحزب القومي ولم تعتبر ذلك خطأ أو انحرافا أو نقصا وإنما اعتبرت ذلك أمرا طبيعيا وأغرقت نفسها في المسائل القطرية وضاعت ضمن الإطار القطري. إن مجرد تشكيلها لحزب قطري يعبر عن اتجاهها الإقليمي. فحزبنا منذ أول يوم لنشأته لم يكن حزبا لقطر واحد وإنما كان حزبا للوطن العربي كله. لقد كان موقفها ذلك تعبيرا عن نظرتها المنحرفة إلى القضية القومية وقضية الوحدة.
موقف الانزلاق نحو القطرية والإقليمية
لقد انشقت هذه الفئة عن الحزب القومي.. عن الحزب الذي يستمد ثورته من قومية نظرية وقومية تنظيمية وقومية نضالية. فأين هي وحدويتها؟ وأين هي قوميتها؟ هل يمكن لفئة مهما كانت مخلصة أن تكون قومية ووحدوية إذا هي عملت ضمن نطاق إقليمي وانفصلت عن الحزب القومي وعملت على إضعافه وتقطيع أوصاله. ما هي النظرية الوحدوية لهذه الفئة التي بررت بها انفصالها عن الحزب القومي الذي نما وترعرع في الأقطار الأخرى؟.. وكيف نستطيع أن نفسر التناقض الخطير بين وجودها وتركيبها الإقليمي وبين ادعاءاتها الوحدوية؟ إن الاتجاه الوحدوي في نظر حزبنا ليس مجرد نيات وادعاءات وإنما هو انعكاس لواقع فعلي.. لقد اعتبر حزبنا وحدويا لأنه آمن بنظرية الوحدة وأقام كيانه على أساس وحدوي وليس لأنه نادى بالشعارات الوحدوية فقط. إن الرجعيين كانوا هم أيضا ينادون بالشعارات الوحدوية وقد فضحناهم منذ سنين وكشفنا زيفهم فإذا بالفئة المنشقة عن الحزب تأتي بعد سنوات من انهيار الرجعية واندحار أفكارها وانفضاح شعاراتها لتتبنى المنطق والسلوك الرجعي.
وعندما انشقت هذه الفئة عن الحزب كانت تندد بفكر الحزب وتعتبره ناقصا كما كانت تقيم الدنيا وتقعدها عن النقص في المحتوى الاشتراكي لنظرية الحزب. فماذا قدمت لنظرية الحزب وما هي الأفكار الجديدة التي أضافتها إلى تراث الحزب الفكري؟..
لقد عاش قادة هذه الفئة قبل حل الحزب عام 1958 سنين عديدة في الحزب ولم يؤلفوا كتابا ولم يكتبوا مقالا يمكن أن يضيف شيئا إلى نظرية الحزب وتراثه الفكري. وبعد إن انشقوا عن الحزب لم يفعلوا شيئا ولم يقدموا سوى النقد والتجريح والتشهير وحتى بعد حركة آذار حيث امتلكوا السلطة والأجهزة ووسائل الإعلام ما الذي قدمته هذه الفئة لفكر الحزب ونظريته وللمحتوى الاشتراكي لهذه النظرية؟.. لقد اظهروا عقما فكريا لا مثيل له.. وتبين إنهم عاجزون عن العطاء.
إن عقمهم وسطحيتهم وجهلهم كان يدفعهم إلى النقد والتجريح والى الإساءة إلى القادة الذين قدموا للحزب ما باستطاعتهم تقديمه من غير ادعاء أو تبجح أو غرور.. لقد كانوا يحاولون إخفاء عقمهم بالإساءة إلى تراث الحزب النظري والى أفكاره التي حققت له الانتشار والانتصارات.
وهذه الفئة أيها الرفاق كانت تدعي كما ذكرنا اليسارية والثورية والتطرف. كانت تدعي الاشتراكية المتطرفة. ولكن التطرف والاعتدال ليسا مجرد ألفاظ وشعارات وإنما هما نتيجة لمواقف وممارسة عملية. إن الذي يحلل حقيقة آرائهم ومواقفهم العملية والسياسية يجد بأنهم ليسوا سوى إصلاحيين قد يكونون تقدميين نسبة إلى الرجعية ولكنهم يصبحون يمينين بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الثوري. أي بالنسبة إلى حزبنا.
لقد آمن حزبنا بالطبقات الكادحة وبنضالها من اجل الوحدة والحرية والاشتراكية وكانت نظريته تقول بان أهداف الشعب العربي هي القضاء على الإقطاع والرأسمالية، والقضاء على التجزئة والتسلط الدكتاتوري. وإذا عدنا إلى مواقف هذه الفئة السياسية وإلى اهتماماتها النظرية والعملية في وقت الانفصال لوجدنا أنها تركز على الإصلاحات الجزئية في منطق إصلاحي انتهازي في الريف وتعتبرها غاية الثورة ومنتهى اليسار..
لقد كانت هذه الفئة المنشقة أيها الرفاق فئة يمينية في حزبنا وذات سلوك إصلاحي انتهازي. لقد كانت تمثل أولئك الذين تعبوا في منتصف الطريق وعجزوا عن الاستمرار في النضال الثوري الذي يتطلب التضحية ونكران الذات والتعب والإرهاق.
إن واقعهم بعد الحركة هو الذي يفضح حقيقتهم. في العراق قامت انتفاضة رمضان. وكانت هذه الانتفاضة نصرا للوحدة على الانعزالية والإقليمية ونصرا للتقدمية على الرجعية ونصرا للديمقراطية الشعبية على الديكتاتورية العسكرية. وكانت انتفاضة رمضان ثمرة نضال الحزب وثمرة موقفه الثوري الوحدوي الاشتراكي السليم في المؤتمر القومي الخامس. وكانت هذه الانتفاضة في احد جوانبها ردا حاسما على الانفصال الذي وقع في سورية عام (1961) وكذلك كانت حركة آذار. لقد قامت حركة آذار ضد الانفصال وضد منطقه وسياسته ومبرراته والطبقات الاجتماعية التي كانت مهيمنة خلاله. وكانت حركة آذار تعبيرا عن انتصار نظرة الحزب الوحدوية الاشتراكية التي عبر عنها المؤتمر القومي الخامس واندحارا نظريا وسياسيا للفئة القطرية المنشقة. فحركة آذار كانت ضد هذه الفئة.. لأنها كانت ضد التركيب السياسي لعهد الانفصال كله.. وهذه الفئة كانت جزءا من ذلك التركيب وعندما قامت الحركة شعرت تلك الفئة باندحار نظرتها ولم تتبن الحركة واعتبرتها حدثا غريبا عنها وظلت فترة من الزمن سلبية تجاهها وكانت تردد عنها نفس الإشاعات التي كانت ترددها عن الحزب قبلها.
ولكن ما أن مضت فترة من الزمن حتى وجدنا أقطاب هذه الفئة يصبحون محافظين ووزراء وقادة في الحزب، وموجهين في أجهزة الإعلام، يدعون أن الحركة حركتهم وان العهد عهدهم ويكيلون للحزب الذي صنعها الاتهامات وللموقف النظري والسياسي الذي هيأ لنجاحها شتى التهم والطعون. فكيف انقلبت الآية؟
أيها الرفاق
إن هذه الفئة الانتهازية اليمينية الإصلاحية التي اندحرت أمام نظرية الحزب ونضاله الثوري وسياسته السليمة قررت أن تركب مدَ الحركة التي كانت في الحقيقة قد قامت ضدها.
إن الفئة العسكرية التي تحدثنا عنها والتي أرادت السيطرة على الحزب وتغيير حقيقته وجوهره.. بل التي أرادت تبديله بحزب آخر جاءت بهذه الفئة المنشقة ووضعتها على رأس الحزب وضعاً.
إن القطريين الذين كانت الحركة تعبيراً عن اندحارهم وصلوا إلى قيادات الحزب والحكم لا لأنهم ناضلوا في صفوف القواعد الحزبية فرفعتهم هذه القواعد إلى القيادة، ولا لأنهم بشروا بنظرية ثورية جديدة فاعتنقها مناضلو الحزب واختاروهم قادة لهم، ولا لأنهم ضحوا بدمائهم وأرواحهم من اجل الحركة وأبان المؤامرات المتلاحقة.. لقد وصلوا إلى قيادات الحزب والحكم بأيدي الفئة العسكرية وصاروا واجهة مدنية لتسلطها على الحزب وعلى الجماهير.
لقد تحدثوا كثيرا عن اليسارية وعن التنظيم الثوري وعن القاعدة الحزبية وعن المنظمات الشعبية.. ولكن أين هم من كل هذا؟.. لقد كانوا في عهد الانفصال يمينيين إصلاحيين يحاولون إصلاح نظام خالد العظم وناظم القدسي فإذا بهم يصبحون بعد حركة آذار يساريين متطرفين ثم جاءوا على أكتاف العسكريين فإذا بهم يتحدثون عن القواعد الحزبية وعن المنظمات الشعبية. وبعد أن استلموا الحزب وسيطروا عليه هذه الفترة الطويلة لم نجد في أساليبهم التنظيمية غير إدخال المئات والألوف إلى الحزب من غير تثقيف وتدريب على النضال وامتحان القدرة على التضحية والبذل. هذه الفئة كانت تطرح نفسها دائما خارج الحزب وإن هي تسمت باسمه. كانت تقول: لماذا وقع الحزب في هذا الخطأ أو ذاك؟.. لماذا فكر الحزب ناقص؟.. لماذا تنظيم الحزب على هذا الشكل الخ؟
إن هذا الأسلوب هو أسلوب الذين يضعون أنفسهم خارج الحزب وليس أسلوب الذين يعتبرون أنفسهم من صلب الحزب لو كان هؤلاء يعتبرون أنفسهم حزبيين وأبناء الحزب ولو كانوا يشعرون بمسؤوليتهم كما يشعر بها الثوريون الحقيقيون لطرحوا هذه الأسئلة على أنفسهم ولحاولوا مخلصين إيجاد الأجوبة عليها ولعملوا على تصحيح أخطاء الحزب وإكمال نواقصه. ولكنهم كانوا عاجزين وعقيمين فاتخذوا هذا الموقف السلبي، وبعد أن جاؤوا إلى الحزب وتسلطوا عليه وأصبحوا في قياداته العليا استمروا في الموقف نفسه وظلوا يطرحون نفس الأسئلة وكأنهم غرباء عن الحزب. ولم يقدموا طيلة بقائهم في القيادات أي شيء جديد. لقد وضعوا أنفسهم خارج الحزب حتى عندما كانوا في قياداته وعندما كانوا يلعبون كما يشاءون.
قد يتساءل بعض الرفاق ويقول هل يعني كلامنا هذا أننا نبغي تصفية هذه الفئة من الحزب وان كل من انضم إلى التنظيم القطري في عهد الانفصال منحرف يجب ألا يبقى في الحزب.
إننا نرد على هذا التساؤل فنقول: إن الاتجاه القطري.. كاتجاه نظري وسياسي وتنظيمي هو اتجاه يميني إقليمي منحرف.. انه اتجاه معاد للاشتراكية وللوحدة وللتنظيم الثوري والعمل الشعبي الحقيقي وان واجب الحزب تصفية هذا الاتجاه تصفية نهائية لأنه مرض في جسم هذا الحزب والمرض يجب أن يستأصل، أما الذين انضموا إلى التنظيم القطري في عهد الانفصال والذين ظلوا بعد حركة آذار متأثرين باتجاهات هذا التنظيم فان فيهم عدداً كبيراً من المضللين ونحن لا نستهدف تصفية أحد. إن المطلوب الآن هو فضح الاتجاهات اليمينية والمنحرفة وتثقيف الجميع تثقيفاً حزبيا سليماً. تثقيفاً وحدوياً اشتراكياً ثورياً.. أما الذي يصر على مواقفه المنحرفة بعد التثقيف وبعد كشف الحقائق فان بقاءه في الحزب سيكون وضعا غير طبيعي.
هكذا أيها الرفاق دبست شرعية الحزب ومزقت. إن سبعة أعضاء من أصل تسعة أعضاء من المدنيين في القيادة القطرية المنحلة انتسبوا إلى الحزب بعد الحركة.. وان الذين كانوا يهيمنون عليها هم من تلك الفئة القطرية المنشقة عن الحزب.. وان هذه القيادة هي التي أوصلت قادة هذه الفئة إلى مراكز القيادة في الحكم والحزب.
أيها الرفاق
إن الأزمة في حزبنا قديمة.. وخطيرة. لقد ابتدأت بالتسلط وكانت نتيجة للتسلط. لقد أدخلت إلى الحزب أفواج من الانتهازيين ومن العناصر غير المؤهلة للنضال. هذه العناصر كان يجب أن تمر بمراحل. أن يتم تثقيفها. أن تدرب على النضال. وظهر التزييف في الحزب أيضا بإقصاء وإبعاد عناصر سليمة. مناضلين قدامى في الحزب. وظهر التزييف في الانتخابات وفي كل المستويات في استخدام السلطة لوسائل الإغراء لكسب الأنصار والأعوان وفي استخدامها للتهديد والترغيب.
الحل الجذري أم الحل السطحي
كيف نخرج من هذه الحالة؟ هل واجبنا يقض بان نجد حلا سطحيا يؤجل انفجار الأزمة بضعة أشهر ثم تعود أشد مما كانت عليه قبل أشهر؟ أم أن واجبنا يقض بان نجد حلا جذريا.. حلا ثوريا؟ لقل كانت قواعد الحزب تطالب بالتصحيح.. وكانت منظمات الحزب القومية تطالب بالتصحيح وكانت قواعد الحزب في الجيش تطالب بالتصحيح العميق. فلماذا التأجيل؟.. ولماذا الحلول الوسط؟.. إن علينا أن نعود إلى الجذور.. أن نصحح الحزب من أساسه. في تفكيره وفي تنظيمه وفي أخلاقيته وفي سياسته. إن الهدف المطلوب والذي قصدته القيادة القومية في مقرراتها الأخيرة لم يكن تدبيرا مؤقتا ولا سطحيا. إنما كان بداية لتصحيح عميق. ولكي يكون هذا التصحيح ممكنا يجب أن يكشف المزيفون والمتسلطون والمفترون والمندسون والذين يضعون شتى العراقيل في الطريق إلى تصحيح أوضاع هذا الحزب ولإنقاذ الجماهير من الذين تمكنت منهم شهوتهم إلى الحكم والسلطة، ومن الذين أرادوا الاقتتال على السلطة حتى ولو أدى ذلك إلى دمار البلاد وخرابها. انتم تعرفون بعض هؤلاء الذين لم يبق فيهم ضمير والذين كادوا يعرضون حركة آذار إلى الضياع في سبيل المصالح الخاصة ولكي يجمعوا الأنصار ويكسبوا التأييد.
هؤلاء في صراعهم مع الحزب، مع منطق الخير والأخلاق والعمل الثوري الصادق يحاولون التستر بشعارات ثورية ومحببة إلى قلوب الحزبيين الطيبين المخلصين.
إن من واجبكم أيها الرفاق أن تميزوا بين هذه الشعارات وبين المقاصد الانتهازية لبعض الذين يطلقونها ويتاجرون بها. إن حزبنا هو مفجر الثورية واليسارية، هذا الحزب هو الذي اوجد اليسارية الصحيحة في الوقت الذي كانت فيه الحركات والأحزاب الأخرى تتخبط على أعتاب الديمقراطية البورجوازية والفاشية وغيرها من النظم والأفكار السطحية ضد مصلحة شعبنا وجماهيره الكادحة.. إن حزبنا هو الذي نادي بالقومية كعامل ايجابي في النضال ضد الاستعمار والرجعية وها نحن نجد المفكرين والأحزاب التقدمية وبعد خمسة وعشرين سنة يعترفون بما قلناه وأكدناه.. إن حزبنا هو الذي كشف الوجه الايجابي للدين في البلدان المتخلفة وقال أن الدين ليس كله إلى جانب الرجعية وان فيه جوانب ثورية.. وها نحن نجد أن الحركات السياسية في أفريقيا وآسيا تتجه هذا الاتجاه، اقرءوا أيها الرفاق كتابات المفكرين الإفريقيين، تجدوا أنهم رجعوا إلى الحقائق التي كنا ننادي بها منذ ربع قرن من الزمن.
أيها الرفاق
أقول لكم بصراحة.. فلا ينقذنا من أزمتنا إلا الصراحة.. إن عددا من رفاقنا العسكريين قد انزلق إلى مزالق التكتل والتسلط على الحزب وعلى الشعب وإلى الانتهازية والمصلحية وهذا الانزلاق كاد أن يقض على حركة آذار.. وهؤلاء الأفراد لا ننكر عليهم نضالهم.. ودورهم في هذه الحركة ولكن لا يجوز أن نضحي بالحزب لان لهؤلاء الأفراد في الماضي فضلا على الحزب.
الجيش والسياسة
إن هناك تساؤلات تطرح اليوم.. كيف نصحح الأوضاع في الجيش؟ كيف نمنع الجيش من التدخل في السياسة؟ كيف نمنع التدخل العسكري الذي تقع مسؤوليته على رفاق معدودين، أما الكثرة الساحقة من رفاقنا العسكريين فهم أبرياء من هذا التسلط وهذا الانزلاق. إننا عندما نقول إبعاد الجيش عن السياسة لا نريد أن نقيم حاجزا بين الجيش وبين الحزب والعمل السياسي.. بل نريد أن نزيد صلة الحزب بالجيش وصلة الجيش بالحزب.. أن نعمق الوعي العقائدي لكي يمتنع الجيش امتناعا واعيا عن التدخل في شؤون السلطة والتناحر على السلطة. إننا نسعى إلى تصحيح وظيفة الجيش في المجتمع الثوري الذي يقوده الحزب. إن الجيش جيش شعبي وفيه مناضلون مرتبطون بقضية الجماهير وهم أعضاء الحزب في الجيش وهؤلاء مثلهم كمثل رفاقهم الآخرين في الحزب عمالاً كانوا أم فلاحين أم مثقفين، إن لهم الحق في أن يعيشوا حياة الحزب كاملة والعسكريون كغيرهم من الرفاق لهم الحق أن يساهموا ضمن منظماتهم في توجيه الحزب وفي بناء سياسته وبرامجه، وإن لهم الحق الكامل كغيرهم في النقد وفي النقد الذاتي.. إن ما نريده من تصحيح وظيفة الجيش هو عدم الجمع بين العسكرية والمهمة القيادية في الحزب وفي الحكم. فعندما ينتخب الحزب أحد الرفاق العسكريين للقيادة الحزبية لا يعود هذا الرفيق عسكريا بل يصبح حزبيا وقائدا شعبيا ويجب أن لا تبقى له أية صفة عسكرية. ليس هناك حزب ثوري حقيقي في العالم قيادته من القادة العسكريين الذين لا يزالون في قطعاتهم. كما كان بعض الرفاق العسكريين في القيادة وفي الوزارة وفي الجيش في آن واحد.. والقيادة القطرية المنحلة فيها سبعة من العسكريين لا يزال بعضهم يتولى قيادة المقطعات العسكرية والبعض الآخر لا يزال محتفظا برتبته العسكرية وبانتسابه إلى الجيش رغم انه في القيادة وفي الوزارة.. عندما يكون الضابط في القيادة وهو في قطعته العسكرية فانه لن يكون قائدا حزبيا وقائدا شعبيا.. وان لغته لن تكون لغة العقيدة والحوار الحزبي الموضوعي وإنما لغة القوة والسلاح. إن وجود عسكريين في القيادة وفي الحكم مع احتفاظهم برتبهم العسكرية وقطعاتهم العسكرية ابتعاد عن المنطق الثوري الجماهيري.. إن مجرد وجود هؤلاء العسكريين في القيادة بهذا الشكل يعني بكل وضوح أن القوة الحقيقية هي في الجيش وليس في الشعب.. في القطعات العسكرية وليس في قيادة الحزب مهما كانت مسؤولياتها ومهما كان مستواها. فأين هو دور الحزب الجماهيري الثوري؟ أين هو دور الطبقات الكادحة التي نتحدث ليل نهار عن مصالحها وعن قيادتها وعن دورها في الثورة؟.. أين هو دور المنظمات؟.. منظمات العمال ومنظمات الفلاحين ومنظمات الطلبة ومنظمات النساء؟.. وبعد هذا يأتي من يتحدث عن اليمين وعن اليسار ويدعي الانحياز إلى الطبقات الكادحة ومصالحها.. هذا هو مفهوم الحزب لوظيفة الجيش وهذا هو المقصود من إبعاد الجيش عن السياسة. إننا لا نريد أن نجعل من الجيش مؤسسة تحترف القتال فقط، إننا نريد أن نجعل منه جيشا للشعب جيشا للأمة العربية.. وبهذه الطريقة نمنع الصدامات المسلحة بين رفاقنا العسكريين ونضع الحزب فوق الجميع. يجب أن نعلم بان الحزبي عندما يختلف مع الحزبي فانه يحتكم إلى المنظمة.. إلى العقيدة.. إلى النظام.. أما العسكري فعندما يختلف مع العسكري وفي ظل ظروف كالتي حدثتكم عنها، فانه يحتكم إلى السلاح.. وهنا يضيع الحق وتضيع الموضوعية وتكون الغلبة للأقوى.. وبهذه الطريقة أيضا نمنع التصفيات، فعندما يكون الحزب فوق الجميع لا يجرؤ احد مهما كان قويا أن يتجه باتجاه التصفيات. وفي الماضي عندما كانت اللجنة العسكرية هي كل شيء تضامنت في وجه الحزب حيناً من الزمن، ولكن عندما شعرت بقدر من الاطمئنان بدأت تختلف.. وبدأ الواحد يصفي الثاني. وانتم تعرفون قصة التصفيات.
هناك بادرة واعية.. وهي طبيعية. وهذه البادرة هي أن قواعد الحزب في الجيش قد أصبحت متنبهة إلى هذه الأخطاء ولقد اعتبرت بدروس الماضي وبدروس الحاضر فهي تؤمن إيمانا شديدا بان لا ملاذ إلا بالحزب وان لا إنقاذ إلا من الحزب وان وجود هذه الأخطاء والأزمات سببه الابتعاد عن فكر الحزب والتنكر لماضي الحزب والجحود لنضال الحزب. وهي تؤمن أن كل هذا يجب أن يزول وان الذي يجب أن يكون هو الاحتكام إلى الحزب وإلى المبادئ. فحزبنا هو حزب نضال وحزب مبادئ وحزب جماهير كادحة وقد شق طريقه بالصمود والتضحية ولم يشق طريقه بالمدافع والدبابات والطيارات، وان تُنبه قواعد الحزب في الجيش ليس بجديد أبداً.
ففي أوائل السنة الماضية وبعد المؤتمر القومي الثامن انعقد مؤتمر عسكري للقطر وجرت انتخابات للمكتب العسكري ولم ينجح في هذه الانتخابات إلا عضو واحد من اللجنة العسكرية، ومن أصل 14 عضوا. ما يدل هذا؟.. انه دليل واضح على أن قواعد الحزب في الجيش تشجب الأخطاء وتشجب الانحرافات ولا تقبل بالذين فعلوا ما فعلوا أن يكونوا قادة هذا الحزب. ولكن بعد أشهر يأتي الذين سقطوا في انتخابات المؤتمر العسكري عن طريق المؤتمر القطري الذي ركّبته القيادة القطرية كما شاءت. يأتي هؤلاء إلى القيادة لأنهم عسكريون وباسم الجيش وهم لم ينالوا ثقة رفاقهم الحزبيين في الجيش. وهكذا كانوا يتصرفون أيها الرفاق. أيام اللجنة العسكرية كان رفاقنا يأتون إلى القيادة وإلى الحزب ويقولون لنا: نحن نمثل الجيش. وينصّبون أنفسهم أوصياء على الجيش ويقولون للجيش نحن نمثل الحزب ونمثل القيادة.. لعبة مزدوجة ولكنها انكشفت وعرفها الحزب وعرفتها قواعد الحزب في الجيش.
إننا نريد أن نجعل من الجيش عنصرا ثمينا جدا. يصبح قوة في يد الحزب والثورة والجماهير من اجل تحقيق أهداف الأمة العربية. وبذلك لا يستخدمه الحزبيون ضد بعضهم وإنما يكون لحماية الوطن وحماية استقلال البلاد. وفي الماضي كدنا نرى السلاح يرفع ضد الحزب وضد الحزبيين وهذا منتهى الانحراف والتردي والابتعاد عن روح الحزب ورسالته.
يجب أن نتدارك هذا الحزب قبل فوات الوقت.. وقبل أن يضيع وتخسر في ضياعه الأمة العربية أملها وشيئاً كبيراً في حياتها.
عندما يبقى الحزب سجينا بين الجدران ولا ينفتح على الشعب ولا يتصل بالجماهير ويعمل معها في القرية وفي المدينة، في المعمل وفي المدرسة. وعندما لا ينفتح على الأقطار العربية ويخرج من القوقعة القطرية ليؤدي رسالته من اجل الأمة العربية جمعاء.. عندما لا ينفتح هذا الانفتاح سيبقى هذا التنافس وهذا الصراع من اجل المراكز. إن التاريخ لن يذكر اسما من هذه الأسماء التي تتصارع إذا بقيت في مستواها هذا وإذا لم ترتفع إلى مستوى الرسالة التي حملها البعث.
أيها الرفاق
يجب أن ندخل الهواء إلى هذا الحزب من الشعب الطاهر.. من أقطارنا العربية المناضلة يجب أن تعود الأصالة إلى هذا الحزب. وعندما يتم الانفتاح، عندها سترون أن بعض هؤلاء الرفاق الذين ندينهم ونشكو من تصرفاتهم يتبدلون ويعودون إلى أصالتهم ونحن نتمنى ذلك.
إننا لا نريد التصفيات وزرع الأحقاد. إننا نريد جمع الكلمة وحشد الكفاءات. إن مهمة الثورة صعبة ويجب أن يتكاتف الجميع، وعندما نؤمن بهذا الحزب، هذا الإيمان، عندما نشجع هذا الوعي الجديد بين شباب الحزب العسكريين ليعودوا إلى الحزب كل بإرادته وقناعته وليؤمنوا بان الحزب هو الملاذ وانه يجب أن يكون فوق كل سلطة، وقوته المعنوية فوق كل قوة وقرار قيادته فوق كل سلطة نستطيع أن نستبشر، وان نقول بان الحزب ولد من جديد.. وانه مر بتجارب وأمراض لكنه انتصر لأنه حزب الجماهير العربية الكادحة وعندها لن نكون قلقين من احتمال انحراف حكومة ما أو شخص ما ولن نخشى إذا كان الوزير الفلاني لونه كذا وإذا كان ذاك ذا عقلية محافظة الخ.. فنحن لم نصل إلى الكمال بعد. ونحن لم نصل إلى الدرجة التي تكون فيها الوزارة كاملة. إن الضمانة الحقيقية هي عندما يكون الحزب فوق الوزارة والحكومة وعندما تكون سلطة القيادة فوق كل شخص عندما تحاسب كل إنسان الحساب العسير وتوجهه وترشده. وهذا ما تحققه الآن سلطة الحزب وقيادة الحزب، إنها يجب أن تكون فوق سلطة الحكم والجيش وحتى إذا لم يكن بيد هذه القيادة عصا فإنها ستكون الأقوى لأن بيدها سلطة الحزب وسلطة نضال، 25عاماً..
18 كانون الثاني 1966
(1) كلمة في فرع الأطراف بتاريخ 18 كانون الثاني 1966.
——————————–
بيان حول مؤامرة 23 شباط
يا أبناء شعبنا العربي.. ايها البعثيون!
هذا الحزب هو حزبكم، كونّه وبناه جيل عربي كامل من أبنائكم، من أبناء الشعب الكادح المحروم المظلوم المناضل. إنه يمثل آلاما كثيرة وأتعابا وتضحيات جمة طويلة. هي ملك للشعب وللأمة العربية وليست ملكا لفئة أو أشخاص. إنه يمثل أملا كبيرا، هو أيضا أمل الأمة العربية، فلا تدعوه يتداعى وينهار في الظلام، نتيجة الأحقاد والشهوات والأطماع، أطماع فئة تستبيح من أجل أن تبقى في السلطة وترتع في مغانمها الزائلة أن تعرض لخطر الإنهيار أكبر حركة عربية شعبية وجدت في الوطن العربي منذ ربع قرن، وانهيارها سوف يعني فراغا كبيرا ولسنين طويلة، في مجال النضال القومي الشعبي، وبالتالي ظفرا كبيرا وسيطرة طويلة لقوى الإستعمار والرجعية والإقليمية والشعوبية.
إننا نؤمن بأن قواعد الحزب وجماهير الشعب في الوطن العربي الكبير، إذا هي بادرت وتسلمت قضية مصير هذا الحزب الذي هو منها وإليها، فإنها سوف تنقذه من المصير المبيت له، وتنقذ بالتالي قضيتها هي، قضية نضالها الموحد ضد الإستعمار وإسرائيل والأنظمة الرجعية والعميلة، قضية خبزها وكرامتها وأملها في بناء الإشتراكية العربية التي يقدمون تزييفا لها وإلهاء عنها وبديلا، شتاتا من الإجراءات الفوقية المرتجلة، أرادوها في الوقت نفسه إلهاء وبديلا عن العمل من أجل الوحدة العربية.
في هذه الظروف العصيبة الحالكة، ظروف الردة الإستعمارية الرجعية الشعوبية التي تذكر بالردة التي أعقبت الإنفصال، ولكنها أشد هولا وأوسع نطاقا، لأنها تتجاوز الوطن العربي إلى أفريقيا والعالم الثالث، يجدر بمناضلي الحزب وبجماهير الشعب المناضلة ان يعودوا إلى المبادئ الثورية الأولية وإلى الروح النضالية البسيطة الصادقة:
1- هناك عدوان وقح على شرعية ربع قرن من نضال البعث العربي الاشتراكي لا يجوز أن يبرر بأي نوع من أنواع التبرير ولا يمكن ان يفسر إلا من خلال الظروف العربية والدولية الراهنة، ظروف الردة الاستعمارية.
2- هناك انحراف خطير قد وقع باستعمال سلاح الجيش ضد الحزب أولا، وباستعمال بعض الحزبيين في الجيش للسلاح ضد بعضهم الآخر ثانيا. فإذا لم يحاسب مرتكبو هذه الأعمال، ولم تصحح الأوضاع، فإن الحزب سوف ينتهي، لأن القيمة أصبحت للسلاح لا للمبادئ، والجيش سوف ينتهي لأن الثقة لن تعود مطلقا بين رفاق السلاح، ولن يغلق باب الإنقلابات واستعمال القوة وأعمال الغدر.
3- هناك انحراف عقائدي خطير يهدد إتجاه الحزب وثورته، وقضية الشعب ومصلحته الحيوية، هو انحراف عن أهم ما يميز حركة البعث، وخيانة للمبدأ الذي جعل من حزب البعث حزبا ثوريا، وبالتالي حزبا يعيش حتى اليوم: مبدأ القومية في التنظيم والعقيدة. فقد خان المتمردون هذا المبدأ عندما تمردوا على قرارات وسلطة القيادة القومية، ونصبوا من أنفسهم ومن “تنظيمهم“ القطري اللاشرعي سلطة مغتصبة تدعي حق دعوة المؤتمر القومي، كما تدعي حق تصحيح مزعوم للحزب ليس على نطاق القطر فحسب، بل على النطاق القومي كله. كل ذلك لأن بيدهم قوة السلاح ولأنهم اغتصبوا أجهزة الدولة، ويطمعون في أن يلحقوا المنظمات القومية بحزبهم القطري بأسلوب شراء العملاء ومساومة المناضلين الشرفاء على عقيدتهم بالمساعدات المادية.
وكل هذا العدوان على شرعية التنظيم والإغتصاب للسلطة بغية الوصول إلى الخيانة الأساسية، خيانة العقيدة القومية، والعودة إلى جاهلية الفترة السابقة لظهور الحزب، عندما كانت الأقطار العربية تواجه الإستعمار والصهيونية متفرقة ومشتتة بل متناقضة ومتناحرة.
4- هناك تسلط على الحزب والحكم والجيش من فئة عسكرية صغيرة تمارس هذا التسلط منذ بداية الثورة، وقد وصلت في تسلطها إلى ذروة الإغتصاب والتزييف بالإنقلاب الأخير الذي قامت به ضد الحزب وشرعيته وسلطة أعلى قيادة فيه. وفي رغبة هذه الفئة في التسلط وفي ممارستها له تكمن أهم أمراض الثورة وأعمق أسباب الأزمات التي تعرضت لها الثورة حتى الآن، وكل ما طرأ على الحزب من تشويه وتزييف وإفساد، بإباحته لغزو الموجات الإنتهازية المتلاحقة منذ ثلاث سنوات والتي تسربت من خلالها العناصر المدسوسة الحاقدة أو المعادية أو العميلة المتآمرة.
وهذا ما انعكست آثاره على حياة الشعب في هذا القطر وعلى نفسية الشعب العربي في الأقطار الأخرى فشوشت وشوهت صورة البعث في عينه، وبدلت نظرته إلى الحزب، بينما لقي الشعب في هذا القطر أشد العنت والإضرار بمصالحه والعبث بحرياته وكرامته، دون أن يتضح له كل الإتضاح بأن الحزب بريء من أعمال الفئة العسكرية المتسلطة، التي أساءت إلى سمعة الجيش والحزبيين العسكريين بقدر ما أساءت إلى سمعة الحزب وماضيه النضالي المشرف، ووضعت هكذا الحواجز والسدود النفسية بينه وبين الشعب.
يا أبناء شعبنا العربي..
ويا أيها المناضلون أبناء البعث العربي الإشتراكي:
أمام هذه المحنة التي تحل بقضيتكم وبحزبكم المجاهد، يمكن أن يُبحث عن الحل والخلاص بأساليب ونظرات شتى، يمكن أن يُبحث عن حل توفيقي وبأسلوب التسوية والترقيع، ومن وجهة نظر متشائمة متخاذلة فاقدة الثقة بقواعد الحزب، لأنها فاقدة الثقة بالشعب ذاته، فيأتي ذلك كحلقة أخيرة في سلسلة الحلول والمعالجات السطحية والمصلحية التي أدت الى هذا التردي.
ويمكن أن نبحث عن الحل الصادق البسيط، الحل الجدير بروح البعث العربي ونشأته النضالية ومقاييسه التي لا تخطيء: لا مساومة ولا تسوية مع الباطل والغش والفساد. لا اعتراف ولا نصف اعتراف بوضع ينفي وجود الحزب من أساسه ومن يوم تأسيسه. الحزب الذي عرفه الشعب واطمأن إلى عقيدته الثورية، وروحه العربية، وأخلاقيته الأصيلة، ليحلوا محله حزبا آخر بعقيدة إقليمية، وروح طائفية شعوبية، وأخلاق الهمجية والغدر.
لا مساومة ولا تسوية مع التسلط العسكري، لأنه يقضي على الحزب وعلى الجيش، وعلى كل أمل في أن يكون العسكريون جديرين بالحزبية الثورية وبناة الجيش العقائدي العربي.
لا مهادنة مع الفئة المتسلطة التي أساءت استعمال السلاح الذي اؤتمنت عليه من الشعب والحزب، وخانت الإرادة الجماعية للرفاق العسكريين، كما خانت الإرادة الجماعية للحزب في القطر، وفي الوطن العربي كله.
إذا كانت الأخلاق والأساليب التي استعملتها الفئة المتسلطة منذ ثلاث سنوات حتى الآن في الكذب والافتراء والغدر واللؤم بحق الرفيق قبل الخصم، وبحق الشعب قبل العدو الغريب، وإذا كان أسلوب تزييف الحزب وإرادة أعضائه وانتخابات قياداته ومؤتمراته هو الأسلوب الثوري، فمعنى ذلك إن هذه الثورة ليست ثورة البعث، بل الثورة المضادة التي إستطاع الإستعمار وعملاؤه بشكل من الأشكال أن ينفذوا إليها ليضربوا من الداخل أكبر حركة شعبية عربية في هذه المرحلة الحاسمة.. وتكون النقمة المسرحية على أنظمة الحكم الفردية والعهود الرجعية وأساليبها ومفاسدها كذبا ورياء وطريقا إلى الوصول فحسب.
أيها الشعب العربي.. أيها البعثيون!
إذا كانت الدبابات والمدافع هي التي صنعت ثورة الثامن من آذار، وهي التي أتت بحزب البعث العربي الاشتراكي إلى الحكم، فليذهب هذا الحكم لأنه قام على أساس فاسد، ولينته هذا الحزب لأنه يكون قد فقد روحه وحيوية مبادئه، ولم يبق فيه إلا القوة الغاشمة، ولأن الإستعمار يصنع في كل شهر إنقلابا جديدا ليس فيه إلا القوة الغاشمة والغدر.
أما إذا كان البعث العربي الإشتراكي هو الذي صنع ثورة آذار وصنع الدبابات والمدافع والسواعد التي إستعملتها، والعقول والنفوس الواعية الثائرة، التي سيرتها صبيحة الثامن من آذار لخدمة الأهداف التي ناضل البعث العربي الإشتراكي من أجلها في أكثر من قطر عربي أكثر من عشرين عاما، عندئذ يجب أن يذهب الذين استعملوا في الأيام الأخيرة الدبابات والمدافع ضد شرعية الحزب ومبادئه وقيمه، ظانين إن الدبابات يمكن أن تغلب المبادئ، وأن أصوات المدافع يمكن أن تخرس في ضمائر البعثيين وابناء الشعب العربي صوت ماض مشرف من النضال والتضحية تأريخه خمسة وعشرون عاما.
وإذا كان البعثيون الصادقون الذين رباهم النضال هنا وفي كل قطر عربي، قد حبسوا أنفاسهم طوال ثلاث سنوات، وكتموا الهمّ في صدورهم لأنهم من جهة كانوا ينكرون أن تُحسب تلك الأعمال الشاذة التي شوهت ثورة آذار على حزبهم وعقيدتهم، ومن جهة أخرى كانوا يتورعون عن فتح باب الإنقسام والتبرؤ علنا من تلك الأعمال ومن القائمين بها، فلقد قدم لهم اليوم هؤلاء بتمردهم وغدرهم الفرصة لكي يعلنوا هذا التبرؤ وهذا التميّز عن الفئة الضالة التي أعماها حب السلطة أمام الشعب العربي كله وأمام العالم.
ليس هذا حكم البعث، وليست هذه ثورة البعث، ولا الأهداف أهداف حزبنا وشعبنا.. ولا الأخلاق أخلاق حزبنا وشعبنا. إنها فرصة تاريخية، وفي هذا الظرف بالذات، ظرف الردة الإستعمارية الرجعية الشعوبية، وتزعزع الثقة بالأنظمة والأفكار الثورية، أن يعود البعثيون إلى النضال وإلى مبادئه الأولية الصادقة البسيطة، ليجددوا إيمانهم ويعززوا في نفوسهم فضائل الكفاح الذي يؤهلهم لثقة الجماهير العربية في معركة شاقة طويلة الأمد.
4 آذار 1966
—————————————
5 حزيران ونقطة البداية (1)
أتمنى لو استطيع استغلال كل دقيقة من وقتي لأسجل أفكاري وخواطري في هذه الأيام، وخاصة فيما يتعلق بتجربة الحزب ونكبة الخامس من حزيران:
ان نقطة البداية في تصحيح آثار المرحلة السابقة، كما يبدو لي، هي نفسها نقطة بداية العمل قبل ربع قرن: الرجوع الى ينبوع القوة الحقيقي.. الرجوع الى الشعب ومصارحته بالحقائق وتحميله مسئولية النضال والعمل معه جنبا الى جنب. مصارحته بالحقائق وان كان بعضها يشكل نقدا محرجا للحزب.
إن هذا اللقاء الصريح مع الشعب، ومع فئاته الوطنية التقدمية، إن هذا الانفتاح يشكل، بالنسبة الى الحزب، اكثر من اتجاه في ممارسة الديمقراطية الشعبية كمبدأ يؤمن به الحزب، انه سبيل الخلاص من التفرد والعزلة والتقوقع، وسياسة التنافس السلبي التي تطبع المرحلة السابقة للنكبة. فبالانفتاح يستعين الحزب بالجماهير الشعبية وبالرأي العام القومي التقدمي في صراعه مع القوى الغاشمة المتمثلة بالتحالف الصهيوني الاستعماري الرجعي. ومن هذه الجماهير يستمد حرارة النضال المرير في هذه المرحلة التاريخية. فالبعث حركة تاريخية تعمل لمئات السنين، لذلك فهي تعتبر النضال هو الأصل والأساس في الحزب وهو منبع الأفكار والأخلاق الثورية، وهي تعتبر النضال فوق الحكم وقبل الحكم وبعده، وتنظر الى مهمة تطوير النضال الشعبي، سلبيا كان ام ايجابيا، على انه المهمة الثابتة الدائمة للحزب والمجال السليم السوي الذي يسمح للمناضلين بان يحققوا فيه جميع مواهبهم.
الحزب التاريخي ذو الرسالة، هو الذي يطرح مناضلوه قضيته على مستوى الحياة والموت، والقبول بالموت كضمانة متجددة لجدية دوره التاريخي. والعمل الفدائي يمثل الصيغة العملية لتحقيق هذه الصورة وهذا المستوى على صعيد الحزب، كما ان العمل الشعبي المسلح ضمن اطار صيغة جبهوية قومية، هو الصورة الملائمة على الصعيد الجماهيري الواسع.
الحزب التاريخي ذو الرسالة، يفرض حتى على أعدائه ومزيفيه أن يكون عداؤهم وتزييفهم على هذا المستوى الجدي: مستوى الحياة والموت، فالأعداء في السنوات الأخيرة اعتادوا صب هجومهم وحملاتهم على الحزب من أساسه، وعلى مؤسسيه بصورة خاصة، وحرضوا مرارا على قتلهم.
إن رفع النضال الى هذا المستوى الجدي في المرحلة الراهنة هو بداية تحويل الهزيمة الى منطلق للنصر كما ان الارتفاع الى مثل هذا المستوى هو الذي ينقذ الحزب والأمة من التناقضات التي سادت المرحلة السابقة للنكبة، ويكشف تلك النوعية من الذين يتظاهرون بالعقائدية والثورية، ولم يقدموا لنضال الحزب أو الأمة الا القليل لكي ينالوا النفع الكثير ويحصلوا على الوجاهة ويحولوا السلطة الى أداة لتشويه قيم النضال.
لا يجوز ان تضيع الحقائق بعد الان، وان يذهب البريء بجريرة المسيء. وأي حماس يبقى للمناضل اذا رأى ان المسيئين في حزبه يكرمون؟
فإذا كنا مصممين على إعادة بناء النضال العربي على أسس ثورية جديدة تتجاوز أخطاء الماضي وعيوبه، فلا بد ان توضع موضع الدراسة والتحليل الأخطاء والعيوب الأخلاقية التي كانت تتكرر منذ عشر او عشرين سنة وتنمو وتتضخم وتفتك بالنضال العربي الثوري وتنهش من لحمه، دون ان يشعر احد او ينتبه. يجب ان يعرف الحزبيون وجماهير الشعب الحقائق. لان معرفة الحقائق هي المدخل الطبيعي لتصحيح المرحلة السابقة والتحضير لبداية سليمة.
حزيران 1967.
(1) مقتطفات من رسالة الاستاذ ميشيل عفلق الى رفاقه التي بعث بها من البرازيل في حزيران 1967.
—————————
5 حزيران وفرصة العمل التاريخي (1)
س : هناك من يعتقد أن نكسة 5 حزيران قد أنهت دور الأحزاب، فما هو رأيكم؟
ج : إنني اعتقد أن فرصة للعمل الثوري القائم على الفكر، قد أتيحت للشعب العربي من جديد.. أن فرصة تاريخية، كالتي أتيحت قبل ربع قرن عند تأسيس حركتنا، تتاح اليوم للأمة العربية لكي يبنى هذا العمل من جديد على أرض صلبة ونظيفة.
ولست جامد الفكر ومغرور النفس إلى حد أن ادعي أن ليس من حل للعرب إلا حركتنا. فقد مرت أحداث خطيرة، وحصلت تطورات عميقة، والغد يحمل لنا مفاجآت وثورات. ولكني أقول بقناعة ويقين أن حركتنا ستكون أقل من يصيبه الهرم وينال منه الزمن. وسيبقى لها دورها إلى جانب ما قد يصمد من الماضي ويولد من المستقبل. ذلك أن عنصر الصدق قد توافر فيها إلى حد كبير.
إن الشوط الأول من حياة حزبنا، أي الخمس وعشرين سنة التي مضت، ليس لها إلا مغزى واحد: وهو أن الأمة العربية مهيأة للعمل التاريخي.
وفي مثل هذه الظروف التي تتجمع فيها الأخطار الصهيونية والاستعمارية والرجعية ضد الثورة العربية، يشعر البعثيون بطعم الحياة وروح الكفاح وبالمبررات البديهية لوجود حزبهم. إننا نكون أسأنا إلى حزبنا وإلى أنفسنا، إذا رضينا بأن يؤول عملنا، بعد ربع قرن من الجهد والنضال، إلى الحرص على بقايا الحزب، أي محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلى محاولة الحد من الخسائر والحد من التفكك والانهزام والانهيار، ومن عدد المنهزمين والمنهارين. في مثل هذه الحال وهذا الجو، وأمام مثل هذه النظرة، يقول الضمير الثوري، خير للحزب أن ينتهي من أن يهوي إلى مثل هذا الدرك وخير لنا أن نعلن فشلنا ونفسح المجال لغيرنا.
حزبنا حزب رسالة، والرسالة هل تنتهي؟ هل تحققت الأهداف التي ندب البعث نفسه لحملها وتحقيقها؟ هل يمكن أن يحققها غيره من الذين اقتبسوا أفكاره أو قلدوها، وهل ينجح المقتبس والمقلد ويفشل الأصيل؟
هل الحزب شركة يمكن أن تنتهي باتفاق المتعاقدين وانسحاب المساهمين؟
حزب البعث لا يمكن أن يكون مدافعاً، لا يمكن أن يكون خائفاً على أعضائه أن ينهزموا ويتخلوا عنه، لا يمكن أن يمسي همه الحرص والمحافظة وسد الأبواب والنوافذ لئلا يهرب فلان أو فلان.. حزبنا لا يمكن إلا أن يكون مهاجماً، وإلا مجازفاً بأعضائه يكسبهم ويشدهم إليه بمقدار ما يعرضهم للخطر ولكل ما يمتحن إيمانهم وثوريتهم وأخلاقهم الأصيلة ويثبتها ويزيدها عمقاً وصلابة. وليس كالظروف الراهنة ما يساعد الحزب على تعميق تجربته والعودة إلى أصالته ومتابعة رسالته.
لقد استمات أعداء الحزب خلال السنوات الأخيرة، لكي يظهروا ويثبتوا في أذهان الشعب العربي أن الحزب قد انتهى. وأن الحزب هو الذي ارتكب الانحرافات في العراق، وأنه هو الذي تسلط في سورية وأرهب الشعب وقمع ونكل وقتل. وكادت الدعايات المزورة تطمس الحقيقة إلى أن شعت حقيقة الحزب من خلال جريمة 23 شباط 1966 . عندئذ عرف الشعب أن الحزب كان طيلة السنوات الثلاث التي سبقت تلك الجريمة يصارع الانحراف والفساد ولا يستسلم، وأنه كان قوياً بعقيدته، أميناً على أهدافه، حريصاً على أخلاقيته، إلى حد أن الذين كان بيدهم السلاح ووسائل السلطة لم يجدوا سبيلاً إلى التسوية والتفاهم معه، ولم يجدوا بداً من ارتكاب الجريمة ليحتفظوا بالسلطة.
إن الجواب الوحيد الصحيح على الذين حسبوا أنهم باغتصابهم للسلطة يغتصبون الحزب، هو أن يسقط الحزب من حسابه موضوع السلطة وأن يعود إلى نفسه ومبادئه وقدره النضالي البطولي الذي يهزأ بكل سلطة.
وعندئذ تفرض المقاييس الثورية نفسها دون جهد أو عناء، ويأخذ الزمن مدلوله الثوري، فلا يكون اختصاره بالحيل وتجاوز النضال وقواعد العمل الثوري، بل على العكس بمضاعفة النضال وتعميق الوعي.
إن حزبنا لن يتمكن من متابعة دوره التاريخي بعد النكسات التي لحقت به، وبعد النكسة القومية التي نزلت بالأمة العربية، إلا إذا استعاد مبرر وجوده كحركة تاريخية تعمل لمئات السنين، وإلا إذا طرح مناضلوه قضيته وقضية الثورة العربية على مستوى الحياة أو الموت، والقبول بالموت كضمانة متجددة لأصالة الحزب وجدية دوره التاريخي في الثورة العربية المعاصرة.
س : ما هي أمراض التجارب الثورية بوجه عام والعربية منها بوجه خاص؟
ج : المرض ليس في الثورة إنما المرض في القيادات الثورية. قبل عشر سنوات، كان المد الشعبي الثوري في البلاد العربية آخذاً في التوسع والازدياد، بينما كان الاستعمار وأحلافه والحكومات الرجعية العميلة في تقهقر واندحار. وكان ثمة عند الجماهير العربية استعداد لثورة تاريخية، فيما لو وجدت القيادات الثورية لهذه الجماهير ولبت مطلبها الأساسي وحاجتها العفوية العميقة، وهي أن ترى النضال التحرري الوطني والنضال الاجتماعي الاشتراكي مقترنين باحترام الحرية والكرامة للمواطنين وبالتجرد والنزاهة والصدق، خلافاً لما يتصف به الاستعمار من ظلم وعدوان وغدر واستغلال جشع، وما تتصف به الرجعية من استغلال وإهدار لكرامة الإنسان والوطن في سبيل أطماعها وشهواتها.
ولكن سرعان ما خاب أمل الجماهير، وانكسرت حدة اندفاعها التاريخي الذي كان يمكن أن يصنع المعجزات، لان القيادات لم تكن تستلهم هذه الجماهير لتعرف حاجاتها وتتعرف إلى طاقاتها الهائلة بل كانت تقودها بروح الشك والحذر والنظر إليها بأنها قاصرة لا تحسن استعمال الحرية وعاجزة لا تصلح إلا للتنفيذ، وجاهلة لا تستحق المصارحة، وأن المعجزات هي من صنع الأفراد والقيادات، لا من صنع الشعب وجماهيره الثائرة.
لذلك لم يتغير شيء أساسي في نظر الجماهير، بعد أن وصلت تلك القيادات التي تدعي الثورية إلى الحكم، وبقيت السلطة هي السلطة: ضغط وكبت، وشك وحذر، وخداع وتملق، وإفساد للضمائر، وإرهاب للنفوس، واستعباد للأذهان بالدعاية والإيحاء والتلقين وتزييف الديمقراطية، وتزوير الحقائق. لقد عبدت القيادات التي تدعي الثورية السلطة عبادة وثنية سطحية ضيقة، وأقبلت عليها بنهم الجائع المحروم، ونفسية الخوف والتقليد لا نفسية الثقة والخلق، وانتظرت من السلطة ومن وسائلها أن تصنع كل شيء.
كان القلة من القادة الثوريين الذين لا تخدعهم السلطة يستبعدون أنفسهم منها، ويعتبرون ذلك كسبا لهم وللثورة، وكانت الأحداث تأتي مصداقاً لنظرتهم وموقفهم، إذ أن الاسترسال في الاعتماد على السلطة والابتعاد عن الجماهير كان لابد أن يؤدي إلى الانهيارات المفاجئة وانقشاع غشاوات الوهم والتضليل.
الثورة هي من أجل سعادة الإنسان وكرامته، فإذا لم يعد الإنسان مقياسها، وفقدت الصلة بينها وبينه، بين الوسائل والغاية، تتشوه الثورة وتفقد معناها. إن ما تشكو منه الثورات المعاصرة هو التطرف في تقدير أهمية العوامل الموضوعية على حساب العامل الذاتي، تماماً عكس ما كانت تشكو منه الثورات في القديم عندما كانت تبالغ في الاعتماد على العامل الذاتي دون أن توفي العوامل الموضوعية حقها.
س : ما هو موقفكم من القوى الاشتراكية العالمية، وعلى وجه التحديد الاتحاد السوفياتي والصين؟
ج : الاتحاد السوفياتي أكبر دولة اشتراكية وأكبر وزن دولي تقدمي في العالم، وقد عادى حزبنا بدون مبررات جدية، ولكننا لم ننفعل ونبادله العداء، بل صبرنا وتجاهلنا، وبقينا على الموقف الذي يمليه علينا المنطق الثوري ومصلحة الأمة العربية في مصادقة الدولة الاشتراكية، وأخيراً دفع الاتحاد السوفيتي العداء إلى آخره عندما دعم المتمردين على الحزب واعتبر أبناء العائلات المترفة الذين جاءت بهم الدبابات إلى الحكم، والذين يتسترون بألفاظ اليسارية والاشتراكية ممثلي الحزب الحقيقيين، بينما اتهم الحزب وقادته ومؤسسيه الذين عاشوا حياتهم في الحرمان وناضلوا ثلاثين سنة من أجل الاشتراكية ومن أجل قضايا الجماهير العربية الكادحة اتهمهم باليمين والرجعية.
انه لا يجوز لنا أن ننفعل ونتصرف أي تصرف يمكن أن يؤدي إلى أن يستفيد الاستعمار والرجعية منه. ولكن إلى جانب هذا الحرص المشروع وهذه الحيطة وهذه الحكمة، نحن مطالبون بان نخلص للحقيقة، وان ننبه ونحذر من الاسترسال في سياسة القوة والفرض والتعسف والجبروت، مهما يكن التفاوت بين قوتنا وقوة الاتحاد السوفياتي، فالحقيقة هي المقياس وهي أقوى من أكبر قوة في العالم وهي في جانبنا.
إن جوابنا على الاتحاد السوفياتي لن يكون في الرجوع إلى الوراء، في الاقتراب من مواقع اليمين والرجعية، بل في الأمانة لنهجنا وأهدافنا الثورية، وفي توضيح موقفنا لشعبنا وللأحزاب والحركات التقدمية في بلادنا وفي العالم.
أما فيما يتعلق بالصين، فإنني أعتقد بأن الثورة الصينية من أعمق الثورات في القرن العشرين، وقد تابعنا باهتمام كبير ما كتب عن الثورة الثقافية الأخيرة، وقد كان رد فعلنا على المحاولات المغرضة وعلى الأحكام المتسرعة على هذه الثورة، مزيداً من الإيمان بحاجة الثورات القومية الاشتراكية في العالم الثالث إلى الاطلاع والعمق في فهم تلك التجربة التي تملك وراءها أربعين سنة من النضال.
إن الثوريين المتعبين الذين يخافون مجرد الإعلان عن رأي موضوعي في قضايا الثورة العالمية والذين يحملون روحاً شائخة هرمة محافظة، هم الذين يبدون من التحفظات والشكوك في صواب الثورة الثقافية ما يلتقي مع ما يبديه الرجعيون والرأسماليون.
س : كيف تتصورون على ضوء النكسة علاقتكم بالحركة الشيوعية؟
ج : إننا انتبهنا لضرورة تعديل موقفنا من الشيوعية والشيوعيين منذ عام 1953، عندما لجأنا إلى لبنان في عهد أديب الشيشكلي.. وعلى أي حال فنحن قصرنا في إخراج تفكيرنا في موضوع العلاقة مع الشيوعيين إلى حيز التنفيذ الجدي، كما قصرنا في نشر هذا التفكير بشكل واضح وعلى نطاق واسع. والذي حصل أن الفئات والحركات التي -سواء بتأخرها عنا في الزمن أو باختلافها عنا في درجة التمسك باستقلالية القضية العربية وسلامة اتجاهها- لم تضطر أن تقف ذلك الموقف النقدي الحاسم، استطاعت أن توجد معهم علاقات ودية فكرياً وعملياً، كان يفترض أن لا نتخلف عنها، سيما وأن الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية أخذت تدرك منذ مدة أنها تخلفت كثيرا عن ركب التطور، وبالغت في التبعية والولاء الخارجي واكتفت بترديد الفكر الثوري العالمي ترديداً حرفياً جامداً فكانت بذلك عاجزة عن تقديم شيء جديد للثورة العربية، وهي الآن كأحزاب وأفراد، تفتش عن مكان مستقر لها في الوطن الذي نعيش فيه.. فهي أمام عملية اندماج وطني.. وهذا شيء ايجابي نرحب به ونستبشر.
س : ما هو الجواب الذي يجب أن يعطيه العرب على نكسة 5 حزيران؟
ج : الجواب على تلك المأساة التاريخية يكون بالاستفادة أولاً من الأخطاء الماضية أي بالخروج من منطق العمل القطري ومنطق السلطة والعودة إلى منطق العمل القومي ومنطق العمل الجماهيري، ويكون بالعودة إلى مبررات الثورة العربية وبالارتفاع بفكر الثورة وأداتها وأساليبها إلى مستوى مواجهة الأخطار الراهنة.
إن الجبهة القومية الشعبية على نطاق الوطن العربي والعمل الشعبي المسلح هما الركيزة الأساسية لكل إستراتيجية في مستوى الرد على العدوان الصهيوني الاستعماري الأخير. فالوحدة والديمقراطية هما شعارا المرحلة الراهنة، إن النكسة
لا تتحول إلى نصر إلا إذا استطعنا جعلها منطلقاً للوحدة، وهذه مهمة أساسية لحزبنا، تتطلب تعاوناً تاماً وصادقاً مع الجماهير الناصرية وجميع القوى الوطنية والثورية في الوطن العربي.
تشرين الثاني 1967
(1) حديث الأستاذ ميشيل عفلق إلى مجلة الصياد اللبنانية – تشرين الثاني 1967.
——————————————
الآفاق البعيدة للعمل الثوري
اعذروني إذا لم اقدر أن أجيب على كل الأسئلة عدا عن ضيق الوقت عندي عوامل أخرى هي البعد الاضطراري عن ساحة العمل وعن المشاركة مع الرفاق الحزبيين وقت حدوث النكسة في حياة العرب، ذلك الحادث الخطير.
هذه العوامل تفرض علي التروي وعدم تكوين أحكام قبل أن استعيد الصلة الحية بالواقع العربي وبواقع الحزب ولا بد من فترة تمضي للإطلاع واستعادة الصلة، وأيضا لإعادة النظر في كثير من الأفكار التي اعتمدناها في الماضي ويصح أن ننظر إلى الأمور نظرة جديدة. فانا راجع بهذا التصميم بان أضع كثيرا من الأفكار تحت المراجعة والنقد، ولكن بالتعاون مع الحزب والمنظمات والرفاق المؤهلين للتفكير والعمل القيادي لان النكسة تفرض هذه المراجعة وإعادة النظر. وكنت اطلع على شيء مما كتب وأنا بعيد، كانت تصلني بعض الصحف والمجلات وقد حصلت مراجعة فيها أشياء ثمينة ولكن اعتقد أنها غير كافية. هذا ما يفسر شعوري بأني مطالب أنا وغيري بان نتثبت من جديد من متانة الأسس الفكرية التي وضعت للثورة العربية واني أتصور مهمة القياديين الأساسيين في الحزب مهمة فكرية بالدرجة الأولى ومهمة الانكباب على الدرس وعلى الواقع أيضا لوصف نواقص وأمراض هذا الواقع ولنقد الأسس الفكرية الراهنة ليس فقط بالانحصار في الواقع العربي ولكن بالمقارنة مع ما يجري في العالم ووضع الصورة الحقيقية للعمل الثوري.
جئت بهذه النفسية ولعل السن التي بلغتها يكون لها دخل في هذه النفسية، لكن على أي حال من واجبي أن أعلن هذه القناعة التي تكونت عندي ولا أقول بأنها ولدت بعد النكسة فقط ولكن النكسة القومية قوتها ورسختها، وهي كما ذكرت لبعض رفاقنا مقاومة رغبة الانسياق مع الاستعجال والنظرة إلى الزمن نظرة عميقة كالتي بدأت عند تأسيس هذا الحزب. فقبل ربع قرن أو أكثر كنا أيضا في ظروف قومية صعبة تشبه النكسة وكان التفكير الرائج يغري بالسباق والتنافس بين الأحزاب السياسية، وكان لابد من ثقة بالفكرة وبالمبادئ وبالنفس ثقة قوية حتى يقاوم ذلك الإغراء وحتى ينكب بعض الأفراد في البدء على بناء طويل الأمد لا تظهر فوائده وثماره قبل مضي زمن غير قصير فكان في هذا وسيلة لاجتذاب واختيار العناصر الثورية غير العجولة وغير المهتمة بالنجاح السياسي.
موضوع النكسة القومية يطرح مسائل فكرية كيف تستطيع الأحزاب والحركات و الأفراد الذين ساهموا بقليل أو كثير في الإيصال إلى هذه النكسة طوال سنين أو ربما اقتصرت مساهمة بعضهم على أنهم لم يستطيعوا منعها. إنهم قصروا عن المستوى الثوري المطلوب لتفادي مثل هذه النكسة؟ كيف تستطيع هذه الحركات وهؤلاء الأفراد أن يضعوا الحلول والعلاج للنكسة، كيف يستطيعون أن ينتقدوا أنفسهم بتجرد ليس فقط النقد العلني وإنما النقد الداخلي الحقيقي، وكيف يستطيعون أن يصححوا ويهتدوا إلى أسس اسلم في التفكير والعمل؟ من هذه الزاوية يظهر العمل بأنه يتطلب وقتا طويلا وجهدا وصبرا، وأعلى الصفات الثورية من حيث التجرد والإيمان والصبر والكفاءة ولكن طبعا هذه الخواطر وهذه النظرة لا يستنتج منها بالضرورة أن كل شيء في الماضي متهم بالخطأ أو بالتقصير، وكل الأفكار يجب أن يعاد فيها النظر. وقد سمعت من الرفاق الآن جملة ملاحظات واقتراحات فأستطيع أن أوافق عليها وأتبناها، فالمرحلة الماضية برهنت على تهيؤ الأمة العربية للثورة هذا صحيح هناك انجازات، هناك مواقف كان لها دورها في التقدم الذي سجلته الثورة العربية خلال عشرين سنة، كيف؟ لماذا لم تكن هذه الانجازات والمواقف كافية لضمان نجاح الثورة لضمان اضطراد النجاح لمنع التراجع والنكسة؟ ما هي النواقص التي سببت انحراف الثورة العربية؟ لماذا لم تستطع هذه الثورة أن تستغل جميع الطاقات العربية المتوفرة لدى الجماهير؟ لماذا منعت الجماهير وحبست بدل أن تنطلق وتعطي أقصى مداها؟ لماذا زيفت الأهداف وزيفت الحركة أحيانا وكان معظمنا يشعر ويدرك بان حركتنا سجينة وان الأعداء يضعون على لسانها ما ليس في حقيقتها وفي ضميرها، تقوم بأعمال هي نقيض ما كان يفترض أن تقوم به؟ لا أظن إني سأقول لكم أشياء لم تفكروا فيها فهذه التجربة عشتموها كما عشناها. أظن أننا متفقون على أن الثورة العربية وحركتنا التي هي جزء أساسي فيها لم نجسد الصيغة العملية التي تفرض وتتيح لأكبر عدد ممكن من الأفراد أن يعاونوا وان يساهموا في النضال، فكانت الثورة عامة وحركتنا بصورة خاصة تصل إلى تحمل مسؤوليات قبل أن تكون التجربة النضالية قد صهرت جميع أفرادها، او العدد الأكبر من أفرادها، وبالتالي سلحتهم بالوعي وبالأخلاق الثورية لكي يصمدوا أمام المسؤوليات الجديدة، فكانت هذه القفزات مناسبة لظهور النقص والزيف أي ظهور الكثيرين من الذين لم يجربوا التجريب الصحيح لم يتشربوا لم يمارسوا النضال بكل مراحله. القفزات والتساهل في جمع الأفراد والتساهل في تجنب بعض المعارك كل هذا كنا ندفع ثمنه. بعد نكسة 23 شباط شعرنا بان ما خسرناه لم يكن شيئا ثمينا إذا عرفنا كيف نستفيد من ذلك الدرس وان الذي يمكن كسبه من خسارة الحكم قد يكون بداية لتصحيح الانحرافات السابقة وللتعويض عن النواقص السابقة.
وأقول ومعي الكثيرون من الإخوان الذين مروا بتجربة الحكم بان تحمل مسؤولية الحكم قبل التهيؤ اللازم هو نوع من الجحيم الذي لا يحتمل ولا يوصف، لان الحزب محاط بالأعداء والأمة محاطة بالأعداء والمؤامرات من كل جانب، واكبر فخ ينصب للحزب هو أن يورط في الحكم قبل أن يستعد له، في حين أن الحزب في النضال يشعر بأنه يملك ذاته يملك نفسه في كل لحظة وفي كل دقيقة، وسواء أكان يضم الألوف أو العشرات فهذا الشعور هو واحد يضع عشرات من المناضلين في نضالهم واستمرارهم إمكانية كسب الأعداد الكبيرة للحزب، في النضال لا يمكن لأي قوة في العالم أن تضطره لان يقول كلمة لا يؤمن بها ولا يعتقدها أو أن يقوم بأي عمل ليس من طبيعته أو سلوكه. دعايات الأعداء والدول الاستعمارية اعجز من أن تنال من حزب مناضل، أن تزيفه أو تشوهه، تبقى اضعف منه وهذه الحال تتغير تماما عندما يستلم الحزب الحكم، فكيف نحافظ على الاستفادة من ذلك في الوقت الذي يكون فيه الحزب في قطر من الأقطار قد وصل إلى مسؤولية الحكم.
فانا لا أقول بأنه يجب إذ ينسحب رفاقنا من الحكم بعد إذ وصلوا إليه في العراق، ولكن أقول بأن تجارب عشرين سنة وتجربة الخمس سنوات الأخيرة بصورة خاصة من عام 1963 إلى الآن يجب أن تكون ماثلة وان تكون واضحة وان توضح وتكتب وتشرح وان يتمثلها القادة ويتذكروها وليس من المستحيل أن يتمكنوا من استيعاب هذه التجربة استيعابا حيا لمواجهة مسؤوليات الحكم بشكل جديد وبنفسية جديدة وبإرادة جديدة هذا ليس مستحيلا، ولكن هذا ليس سهلا بل هو صعب جدا ويجب أن نلح على هذه الصعوبة تفاديا للوقوع في أخطاء قد تكون مدمرة.
النظرة الأولى للحزب أيها الرفاق نظرة ما زلت اعتقد بأنها مستلهمة من واقع الأمة العربية بصدق حتى قبل نكسة 48 لان نكسة 48 كنكسة 67 كانت نتيجة لا سبب، كانت نتيجة لأوضاع سابقة، كان الحزب عندما تأسس قبل 48 ببضع سنوات، كان يعيش في وسط تلك الأوضاع، وكان بالتالي يستشف الشروط المطلوبة للعمل الثوري الجدي المتكافئ مع الصعوبات التي تقف في وجه الأمة العربية، في وجه حريتها وفي وجه خروجها من التخلف وفي وجه توحيدها. فالنظرة الأولى والتي لم يتراجع عنها الحزب فيما بعد هي اعتبار الأمة العربية في حالة حرب. نظرة ثورية قاسية بمعنى أن الحزب لم يتجاهل حقيقة الإخطار المحيطة بالأمة ودرجة خطورة الأمراض، لم يتجاهلها وهناك إلحاح على هذا الفارق الكبير بين حاضر الأمة العربية وحاضر الأمم الراقية، هذا الفارق الكبير الذي يجب إن يوحي بمستوى الانقلاب الفكري المطلوب.
هذا الفارق الكبير، هذه الأخطار والمؤامرات الاستعمارية ومنها الصهيونية المحدقة بالأمة العربية كان الحزب يلح أيضا عليها وعلى جسامتها وعلى خطورتها، ومقابل ذلك يلح على غنى الإمكانيات العربية، إمكانيات الشعب العربي الكامنة التي يجب أن توقظ والتي يجب أن توضع لها الصيغة العملية لكي تنطلق ولكي تتحقق وتستغل فتستطيع التغلب على الصعوبات وعلى الأخطار والأمراض والعلاقة واضحة بين هذه النظرة القاسية، النظرة التي لا تقلل من شان الأعداء ولا من شأن الأخطار ولا من شأن الأمراض العامة، العلاقة واضحة بين هذه النظرة وبين فكرة الوحدة العربية. هذا شيء ملازم لفكرة الحزب، منذ البدء أكد الحزب أن البعثي لا يصل إلى النظرة الثورية العميقة إلا من خلال النظرة الوحدوية، النظرة للأمة ككل و إلى واقعها المتخلف، فإذا غابت النظرة الوحدوية أو ضعفت وتراخت وتغلبت النظرة القطرية تخف قسوة النظرة الثورية وبالتالي يهبط مستوى التفكير والعمل الثوري.
فمسؤولية تسلم الحكم في قطر هذا شيء واقعي أن الحزب إذا كان عليه أن يصل إلى الحكم فلن يصل دفعة واحدة إلى حكم الوطن العربي بل لا بد أن يصل من خلال الواقع المجزأ إلى الحكم في قطر ثم في قطر، ولكن ربط ذلك بالنظرة الوحدوية الشاملة هو الذي يحمي تفكير الحزب وعمل الحزب من الانزلاق في السهولة أن يتصور الأمور أسهل مما هي في الحقيقة. فوحدة الأمة العربية حقيقة في الإيجاب وفي السلب. حقيقة في الإيجاب لأنها هي القوة وهي الوضع الصحيح السليم، حقيقة في السلب بمعنى أن الأعداء يتآمرون على الأمة العربية كلها وعندما يضربون قطرا من الأقطار يقصدون ضرب الأمة كلها وبالتالي العمل في قطر سواء في حالة نضال أو حالة استلام الحكم (الذي يجب أن نفهم منه انه نضال من نوع أخر). أريد أن أقول أن العمل في القطر في جو وروح ومنطق الوحدة والعمل القومي بتربية الجماهير بتربية مناضلي الحزب على أساس أن الأمة العربية في حرب مستمرة من قبل 67 ومن قبل 48 ولا حاجة للفت النظر إلى أن كثيرين ممن يسمون أنفسهم ثوريين وان كثيرا من الأنظمة التي تسمي نفسها ثورية لم تطبق ولم تجسد هذه النظرة وهذه الروح.
موضوع الجبهة من خلال هذه النظرة من خلال هذا المنطق يمكن أن ننظر إلى إستراتيجية العمل في الجبهة بان يعود الحزب إلى جوه الطبيعي، إلى النضال، إلى نظرته القاسية. وإذا كان الحزب قد تورط في الماضي في الغرور والسطحية والاعتداد و الانفراد وانه يستطيع فعل كل شيء وهو لم يتهيأ التهيئة اللازمة، فخطة العمل الجبهوي هو معالجة لهذا الغرور السابق لهذه السطحية لكي يمحو الحزب من ذهنه وذهن الرأي العام اثر هذه الفجاجة هذا التشويه الذي أحدث خيبة أمل عند الجماهير وعند مناضلي الحزب ولكي يعود ليجد قلوب الجماهير مفتوحة أمامه دون تحفظ ولكن المبدأ الأساسي هو ان يعمل الحزب لأنه يعمل رسالة تاريخية. يعمل عملا ثوريا على مستوى الوطن العربي وان يعتمد على نفسه بالدرجة الأولى وما انفتاحه على الآخرين إلا من اجل تحميلهم مسؤولياتهم ووضع حد لخطر الوقوع في الغرور لخطر تغطية الواقع الهزيل بشعارات فضفاضة ومن ثم لحفز الحزب إلى القيام بالدور الذي لم يستطع القيام به في الماضي.
آسف إذا أخذت كلمتي هذا المنحى ولم أتعرض لبعض الأسئلة بالدقة المطلوبة، ولكن كما قلت لكم في الواقع لم اشعر بأني مهيأ لإعطاء أحكام وآراء قبل أن استعيد الصلة بالحزب وبالواقع القومي وقبل أن أشارك في دراسة هذا الواقع الجديد دراسة متأنية لا تتأثر بعامل السباق، وأضيف كلمة واحدة وهي اني من خلال هذه النظرة لا أعطي للوضع القائم في سوريا تلك الأهمية التي قد يعطيها رفاق آخرون، وحتى من قبل نكسة حزيران وعلى اثر نكسة شباط لم أعط للوضع في سوريا هذا الاهتمام واعتبرته ظاهرة لنكسة الحزب ونكسة الثورة العربية، وان مسالة بقاء مجموعة في الحكم فترة من الزمن هذا الشيء لا يقدم ولا يؤخر كثيرا إذا انصرفن بجد إلى دراسة الظاهرة الكبرى. وبعد نكسة حزيران تضاعفت قناعتي أضعافا بان المهم هو أن يستعيد الحزب دوره بالنسبة للثورة العربية والنضال العربي والى قضية فلسطين التي هي خلاصة هذه الثورة وهذا النضال وان اهتمام الحزب بالوضع في سوريا يجب أن لا يتعدى حدا معينا.
14 تشربن الاول 1968
(1) كلمة الأستاذ ميشيل عفلق في الشباب العربي في باريس ألقاها بتاريخ 14/10/1968 في طريق عودته من البرازيل الى الوطن العربي.
——————————————
الحزب الثوري صورة لمستقبل الأمة
ايها الرفاق (1)
انها مرحلة في غاية الخطورة، هذه المرحلة التي تعيشها امتنا، والحزب الذي يجب ان يجعل هدفه دوما ان يكون ضمير هذه الامة وعقلها وساعدها الايمن، عليه ان يستوعب اهم المقومات اهم الصفات والملامح للمرحلة التي يعيشها على ضوء، تجاربه السابقة مستفيدا من التجارب الثورية بصفة عامة. لن نشعب البحث كثيرا، بل يكفي ان نتذكر بعض الظروف والتجارب التي مرت على حزبنا وعلى امتنا في السنوات الاخيرة.
ان تجربة عام 63 تجربة ما تزال حية في الذاكرة، في الاذهان، وهي غنية بالدروس، ولن نقصرها على هذا القطر بل كان للحزب في الوقت نفسه تجربة في القطر السوري ايضا وانتهت تقريبا الى نفس النتائج. فما هي الدروس التي نستخلصها من تجربة الحكم في عام 63 في العراق، ثم في سوريا؟ لم يكن الحزب مهيئا لاستلام تلك المسؤوليات الضخمة التي استلمها في قطرين هامين لان الشرط الاول هو ان يكون الحزب مسيطرا على نفسه، هو ان يكون الحزب مالكا لارادته، يعرف طريقه، ان يكون وحدة متراصة وشفافة، اي ان يشمله توجيه واحد ويحرك سيره هدف واحد ومنطق واحد، وان يكون ثمة تجاوب كامل وعميق بين القواعد والقيادات، وان يكون عمل القيادات معروفا بتفاصيله وبدوافعه ومبرراته لدى القواعد، وان تكون ارادة القواعد ونظرتها وملاحظاتها معروفة لدى القيادات، ومؤثرة وفعالة يؤيدها النضال، وان يكون ثمة ما يحول الى حد كبير دون تزييف تلك الارادة، او تشويهها او الاستخفاف بها، وهكذا يمكن ان يعرف الحزب في اية لحظة ماذا يريد، وماذا عمل، وكم قطع من الطريق، وهل سار في الطريق السوي، وكم بقي عليه في مسيرته من خطوات؟ وهكذا يستطيع الحزب ان يتدارك الاخطاء ويصححها في الحين المناسب، في حين وقوعها دون ان تتراكم ودون ان يفسح تراكمها مجالا للعقد والشكوك والاحقاد.
ايها الرفاق
طالما سمعتم في حزبكم بان الحزب الثوري الصحيح هو الذي يكون الصورة لمستقبل الامة. الصورة المصغرة للمستقبل السليم الذي يناضل الحزب وتناضل الامة من اجل بلوغه. لا يمكن لحزب مريض ان ينجح في نضاله، ان ينجح في معالجة امراض الامة والمجتمع. فالشرط الاول الاساسي هو اذن ببساطة هذه السلامة في التفكير، في العلاقات الحزبية، في الوضوح الفكري وفي الوضوح التنظيمي، في الديمقراطية الصحيحة التي تسمح دوما بالتجدد وتصحيح الخطأ والتغلب على الضعف دون ان تؤدي الى الميوعة والفوضى، دون ان تكون مطية للوصولية والانتهازية والفوضى والتخريب – هذا الدرس المستخلص من تجربة 63، عندنا ثقة كبيرة بان يكون قد هضم واستوعب بدليل ان حزبنا في هذا القطر قد حقق عملا فذا في صموده وفي استئناف نضاله وتغلبه على الامراض وعلى اليأس والتشتت ومؤامرات الاعداء واستعاد ثقة الجماهير واستطاع ان يرجع الى مكان القيادة فيها.
ولكن من الواجب ومن الوفاء لهذا الحزب، من الوفاء لامتنا المنكوبة ان نتذكر دوما تلك الدروس وان لا ننساها وان لا ياخذنا الغرور وان لا نستهين بقيم وقواعد في العمل الثوري هي ثمرة تجارب طويلة جربتها امم غيرنا وكلفتها التعب الكثير والنضال الطويل والدماء الغزيرة. فالمبادئ والقيم والقواعد في العمل الثوري ليست كلاما والفاظا على الورق انها تسجيل لتجارب حية، والثوري المخلص الامين هو الذي يحترمها ويتعمق في فهمها ويمارسها ولو كانت طريقها اطول واصعب من طريق تجاوزها والتحايل عليها وطريق الاستسلام للاهواء والنزوات والمطامع.
في القطر السوري ايها الرفاق، مرت تجربة هي اكثر هولا واعمق مرضا من التي مرت بالعراق. في العراق كانت القيادة التي استلمت مقدرات انتفاضة رمضان غير مؤهلة، غير ناضجة وكبر عليها الحمل، ولعب في رؤوسها الغرور، ووقعت فريسة التناحر الصبياني على السلطة تخلت عن مسؤولياتها من ايامها الاولى، وكأن الغاية ان يزال حكم عبد الكريم قاسم، وكانه لم يكن للبعث مهمة ايجابية، مهمة بناءة، كأن كل مهمته كانت سلبية، ان يهزم عهدا ظالما ثم يقعد ويستريح. لما انشغل القادة بهذه النظرات والاطماع والحسابات التي لا تليق بثوار حزبيين يعملون للامة العربية كلها اخذوا يتوسلون لتحقيق تلك الأطماع والمكاسب الشخصية، يتوسلون بوسائل مؤذية لسلامة تكوين الحزب ولسلامة نظامه وقيمه وعلاقاته بين اعضاءه فلجأوا الى التكتلات، الى التزوير، تزوير ارادة القواعد، الى الاحتيال باسم النضال على النضال وباسم المبادئ ليخالفوا تلك المبادئ، تركوا النضال فسهلوا بذلك مهمة الرجعيين والمتآمرين والاعداء. والتهوا وألهوا الجهاز الحزبي بالتوافه فلم يعد مستغربا ان يحل بهم ما حل في فترة قصيرة جدا من الزمن.
ولكن الذي حدث في سوريا ايها الرفاق كان مؤامرة ولم يكن طيشا ولا غرورا ولا نقصا في الكفاءة. كان مؤامرة مدبرة لتغيير معالم الحزب رسمت خطوطها قبل حركة آذار بعامين تقريبا منذ ايام الوحدة عندما تشكل ما عرف باللجنة العسكرية في القاهرة من بعض العسكريين السوريين الذين كان لهم صلة سطحية بالحزب، خططوا لان يستولوا على الحزب.
وبعد حركة آذار او بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في آذار في سوريا والذي كان الفضل الاول فيه لثورة رمضان التي عبدت له الطريق واعطته قوة الدفع والزخم، اخذوا ينفذون في السر والخفاء تلك الخطة التي لم تظهر للحزب وقواعده الا بعد سنة او سنة ونصف الى ان ظهر التدهور في الحزب وفي الحكم والى ان ظهر الصراع بين العسكريين انفسهم، الصراع على السلطة الذي كشف خطتهم. ولعلكم تعلمون ان الحزب بقيادته القومية ما كان ليتبنى انقلاب آذار في سوريا لو لم تسبقه ثورة رمضان في العراق. ثورة رمضان كانت ثورة الحزب، كانت في الدرجة الاولى انتفاضة شعبية، خرج فيها شباب الحزب وحملوا السلاح وناضلوا واستشهد منهم اعداد، ولذلك اطمأنت قيادة الحزب الى ان هناك سندا قويا في العراق يسمح بالامل بان يتحول الانقلاب العسكري في سوريا الى ثورة وثورة بعثية ولكن سرعة انتكاس الانتفاضة في العراق اضعفت قدرة قيادة الحزب على السيطرة على من وصلوا الى السلطة نتيجة الانقلاب العسكري.
ونشأ الصراع بين الحزب وبين من اغتصبوا اسم الحزب وشعاراته دون ان يتقيدوا بمبادئه وبروحه وبنظامه وجعلوا من الحزب وسيلة لبلوغ السلطة والبقاء فيها. من كل ذلك نلاحظ تصميماً على محاربة قيادة الحزب، في كل هذه المظاهر، كل هذه الظواهر شيء واحد ثابت هو محاولة اضعاف سلطة القيادة العليا، محاولة الافلات من رقابتها. كان هذا وارداً بالنسبة الى القيادة التي ضيعت الحكم، حكم رمضان لانها كانت تحاول دوما ان تتهرب من رقابة القيادة القومية وكان هذا جليا وواضحا وقويا في سوريا انتهى بان وجهوا الدبابات والمدافع ضد القيادة القومية. ولكن للموضوعية والانصاف نفرق دوما بين طيش القيادة في عام 63 في العراق التي كانت تتهرب من سلطة الحزب، ومن رقابة الحزب عليها لكي يخلو لها الجو وليصل افرادها الى المراكز التي كانوا يطمعون فيها، وبين خطة خبيثة مبيتة وضعت في سوريا لتغير معالم الحزب بل لتغير مسيرة الثورة العربية في اتجاه معاكس للثورة الحقيقية اي بالدرجة الاولى باتجاه معاكس للوحدة العربية التي هي المعيار الاول للثورية في مرحلتنا هذه. فلننظر الى هذه الظاهرة ظاهرة محاربة القيادة القومية في حزبنا، انها تدل على رواسب التجزئة في مجتمعنا وفي التربية السائدة فيه وفي المصالح المسيطرة عليه، كما تنم عن اصابع الاستعمار والصهيونة وجميع اعداء الامة العربية الذين إن يخافوا شيئا فانما يخافون الوحدة العربية، ويخافون حزب الوحدة العربية الذي أتى في هذه المرحلة بالنظرية الصحيحة لتحقيق الوحدة.
فما هو رمز هذه الصفة وهذه النظرية في حزب البعث، هي القيادة القومية كمؤسسة لا كاشخاص، فكيف يمكن ان يكون حزب البعث العربي الاشتراكي امينا لمبادئه قادراً على تطبيقها اذا لم يخلص لهذه التجربة البسيطة في حجمها ومظهرها؟ ان يكون على راس الحزب قيادة من 13-20 هم مناضلون عرب ثوريون، عرب دون مراعاة للقطر الذي جاؤا منه. ان تكون قيادة هذا الحزب هي البرهان الاول على رفضنا للتجزئة وتمردنا عليها وتصميمنا على بناء الامة العربية الواحدة، فاذا لم ننجح في ان نكون 10-20 عربا ثوريين اي بعثيين فكيف ننجح في جعل 100 مليون عربي لأن يكونوا امة واحدة ودولة واحدة؟ قد يقال ايها الرفاق، قد تقولون وانا اقول معكم، واقع القيادة القومية منذ ان أُسست، هذه المؤسسة للحزب منذ ان شكلت واقعها ضعيف، ولكن هل نكتفي بمشاهدة هذا الضعف، هذا الواقع، ونسجله على القيادة القومية ام نتعمق قليلا ونبحث عن اسبابه العميقة وبالتالي نقول بما ان القيادة القومية هي عنوان ثورية هذا الحزب اذا لم ننجح في تكوينها فلن ننجح في شيء! فلنحلل هذا الواقع او فلنحلل اسباب ضعفه فنجد العلاجات ونتلافى هذا الوضع مهما كان صعبا اذ لا يمكن الا ان ينجح حزب البعث في اقامة هذه القيادة حتى تحصل الثقة عند افراده بانه قادر على تحقيق اهدافه ومبادئه.
ايها الرفاق
ثمة اشياء كثيرة يمكن ان تقال عن هذه الظاهرة التي تعبر كما قلت عن الواقع العربي المتخلف الخاضع للاستعمار الخاضع للاستغلال الرجعي، ثمة اشياء كثيرة يمكن ان تقال، لكني اقدر بانكم ادركتم المغزى وادركتم بان هذه المرحلة بالذات، هذه المرحلة التي اتت بعد هزيمة حزيران هي المرحلة التي يطلب فيها من الحزب ان يبرهن على اصالته الثورية، اصالته القومية اذ لا شيء يتغلب على النكسة، على الهزيمة، على الصهيونية واسرائيل، على الاستعمار الذي هو وراء اسرائيل الا الوحدة بمضمونها الثوري الذي وضعه حزبنا، فسير الحزب يجب ان يكون الآن اكثر من اي وقت مضى سيرا هادفاً الى تحقيق الوحدة، وبالتالي ان يكون باستمرار مستلهما المنطق القومي، ان يعيش في الجو القومي، ان يبحث اموره الداخلية وسياسته بمنطق الوحدة، بمنطق الامة العربية لا بمنطق التجزئة الذي يريده لنا الاستعمار والصهيونية اللذان يحلمان بان يعيدونا عشرات السنين الى الوراء، بان يقطعوا اوصال القطر الواحد بعد ان تمكنوا منا في حرب حزيران، فاحلام الاستعمار والصهيونية هي في ان يقطعوا الطريق على الوحدة العربية نهائيا اذا استطاعوا والى عشرات السنين في اضعف احتمال، لان هذا شرط اساسي لكي تبقى اسرائيل وتتوسع وهذا شرط اساسي لابديل له لكي تبقى شركات الاستعمار وتتابع استغلالها، ومعنى بقاء اسرائيل ومعنى بقاء الاستغلال الاستعماري هو ان يبقى شعبنا في حالة التخلف لايقوى على الخروج منها مهما حاول، ليسعى ويتوهم ويتحمس ويناضل ثم يجد نفسه في موضعه في مكانه او متراجعا الى الوراء، يجد نفسه في الفقر والبؤس والمرض والجهل وبكل هذه مقرونة بالتجزئة، التجزئة تعني كل ذلك.
ايها الرفاق
لقد استبشرنا كثيرا بما حققتموه في قطرنا المناضل (العراق)، لقد استبشرنا كثيرا بالكفاءة التي اظهرتموها في استيعابكم لدروس الماضي وعبره، لدروس النكبات، واستطعتم الى حد كبير ان تجنبوا حزبكم وتركيبه وسيره، وان تجنبوا التجربة الجديدة التي قمتم بها عديدا من الامراض التي وقعت في التجربة السابقة ولا احد يريد لهذه الامراض ان تعود، بل لن نسمح لها بان تعود ويجب ان يكون تصميمنا جبارا مسؤولا تتلخص فيه كل ثوريتنا، يتلخص فيه كل ايماننا بامتنا وبحقها في الحياة، ان تنجح هذه التجربة وان تتابع سيرها سليمة من الامراض الماضية والتي لا يجوز ان تتكرر لاننا وُجدنا ووُجد حزبنا لكي يعطي الثقة لشعبنا بنفسه لا ان ييئس هذا الشعب وان نظهر عدم جدارة الإنسان العربي اذا تهاونا وتركنا التجربة ينتابها المرض والوهن. هذا التصميم بان تكون هذه التجربة منطلقا للحزب وللامة العربية لكي يسير الحزب في هذا القطر وفي الاقطار العربية من نصر الى نصر ولكي تعود الامة العربية الى السيطرة على مقدراتها في وجه الهجمة الاستعمارية لذلك ان ما استطعتم تحقيقه بالشجاعة، بالصبر، بالعمل الدؤوب، بالعمل مع الشعب الذي هو دوما المرجع الذي يطهر النفوس ويرفع الاخلاق ويفتح المواهب، العودة الى الشعب بتواضع وصدق ما دمتم قد بدأتم السير في هذا الطريق فنريد ان نعزز هذه المكاسب التي حققتموها من وحدة في القيادة، من انسجام واخوة عربية ثورية، من ثقة متبادلة، من وضوح في النهج والتفكير، من مسؤولية في العمل، هذه الصفات نريد ان نحققها في اعلى قيادة في الحزب، نريد ان تجعلوا اولى مهماتكم تحقيق صورة القيادة القومية الصحيحة السليمة، حزبنا في العراق مطالب بان يكون سباقا في تفهم الضرورة التاريخية لوجود القيادة القومية وان يتفهم بموضوعية وعمق الاسباب والعوامل الموضوعية قبل الذاتية التي سببت ضعف اعلى قيادة في الحزب ضعفا مستمرا، فعندما تكون امامنا ظاهرة متكررة على مر السنين يجب ان يدعونا تفكيرنا العلمي الى التساؤل عن الاسباب الموضوعية وراءها، وقد بينت لكم هذه الاسباب، كل ما في مجتمعنا وكل ما يتآمر على امتنا من استعمار ومصالح استعمارية ورجعية وكل ما في هذا المجتمع من امراض، من رواسب لا ثورية يتآمر على مؤسسة القيادة القومية، يحول دون تجسيد الفكرة القومية في اعلى مؤسسة قيادية في حزب البعث. ما دامت الامة العربية لم تتوحد بعد، ما دامت الدولة العربية لم تولد بعد ودونها مشاق ومشاق فالقيادة القومية ليس لها ارض، ليس لها ثورة خاصة بها، ليس لها حكم تمارسه، ليس لها سلطة، ولكن اذا فهمنا دورها التاريخي فان لها الثورة العربية كلها، لها الوطن العربي كله، لها الحزب كله، اما اذا اكتفينا بالنظرة السطحية وارتضينا ان تبقى القيادة القومية رمزا لاحقيقة وراءها ولا قوة بيدها واعتبرنا الصفة القومية لهذا الحزب شيئا معنويا باهتا يضفي على الحزب لونا عربيا جامعا وجعلناها منفى للذين ليس بيدهم سلطة ليس لهم قوة، فاننا نكون قد اسأنا الى حزبنا اكبر اساءة. نكون قد عرضنا حزبنا بنكسات جديدة ونكسات الحزب هي نكسات الامة. نكون قد افقدنا حزبنا الدم والروح لان الصفة القومية ليست زينة يزدان بها الحزب، انها دمه وروحه، اننا في هذا الظرف العصيب الذي تجتازه الامة قد فوتنا فرصة تاريخية لكي نتغلب على الهزيمة بان نشق طريق الوحدة، ولا يستطيع الحزب تحقيق الوحدة الكبرى اذا لم يحقق هذه النواة الصغيرة المصغرة للوحدة وهي قيادته العليا.
ايها الرفاق
ذكرت لكم كل هذا لانكم توافقونني على ان الشرط الاساسي لتحقيق الثورة هو ان يكون تركيب الحزب سليما في قياداته وقواعده، فاذا انتهينا من هذا الشرط واستوعبناه حق الاستيعاب فان بالامكان ان نتوجه الى المهام المطروحة على الحزب في هذا القطر وفي كل الاقطار.
ايها الاخوان
المهام كثيرة والمصاعب كثيرة كذلك المؤامرات الاستعمارية قد تصل الى حد العدوان السافر عندما ييأسون من ضرب الثورة من داخلها. كيف نتصرف؟ اذا سرنا مع مبادئنا واهدافنا ذعر الإستعمار وخاف على مصالحه فتآمر وقد يصل الى حد العدوان. هل نكتم مبادئنا ونتكتم في اهدافنا؟ هل نقبل التسويات، هل نرجىء، ونؤجل او نمشي بجرأة ووضوح الى آخر الطريق شريطة ان نوصل الثورة الى جميع الجماهير الشعبية في اقصى واصغر قرية في هذا القطر وفي كل قطر، عندما يتمكن الحزب من ذلك الضمانة هي هذه، الحزب يقوم بانجازات اصيلة برهنت على صدق ثوريته وكسبت له ثقة جماهيرية وكسبت له اعتراف فئات تقدمية، بقي شيء فني متعلق بكفاءة الحزب واعضائه لكي يكون الحزب القوة الرادعة للاستعمار وعملاء الاستعمار وحتى يكون القوة التي تستطيع المجابهة عند اللزوم، أمر متعلق بالكفاءة بحسن استغلال طاقات شعبنا احسن استغلال وتنسيق هذه الطاقات على اوسع نطاق وفي اقصي وقت ممكن. وذلك بان يكون الوعي اساس القوة الجماهيرية. ان نوصل قضية الامة، قضية الثورة العربية الى وعي الجماهير. نوصلها يوميا بالتوعية الشاملة المتكررة التي تقترن بالتنظيم والممارسة والتي يجب في يوم ما ان تتوج بان يحمل شعبنا وجماهير شعبنا السلاح ويحققوا اهداف حزبنا وامتنا بالثورة المسلحة التي هي قدر الحزب والامة بعد الآن.
ايار 1969
(1) حديث القي في قاعة المجلس الوطني ببغداد في ايار 1963
———————————
المسألة الكردية والثورة العربية
موضوع الاكراد ذو شقين(1): شق مبدأي وآخر سياسي والحزب لا يعترض على حق الاكراد في ان يكون لهم نوع من الحكم الذاتي، أما الشق السياسي فيختلف: إن حركة العصيان الكردي في العراق كانت موضع استغلال من القوى الاستعمارية والرجعية رغم ان الحركة الكردية تعتمد على شعور وطني عند المواطنين الاكراد. شعور مشروع وغير مشبوه لكن القوى الاستعمارية والرجعية تستغله وتشوه مقاصده وهذا للاسباب التالية:
ان اكثرية الاكراد موجودة في بلدان غير عربية والقسم الموجود في العراق هم أقلية صغيرة نسبياً، ثانياً واقع الاكراد في البلاد العربية يختلف كل الاختلاف عن واقعهم في البلدان التي هم فيها كثرة: تركيا وايران. فالاكراد عاشوا قرونا طويلة مع العرب وحتى الآن ما عرف في طول هذا التاريخ أي تمييز بينهم وبين العرب، وبالتالي أي اضطهاد أو ضغط، كانوا كشعب واحد وابطالهم السياسيون والعسكريون في هذا التاريخ المشترك كانوا هم ايضا ابطال العرب. وهذان الشيئان يُظهران بوضوح كبير ان الحركة الكردية في البلاد العربية والعراق خاصة كانت موضع الاستغلال الاستعماري لأن البلاد العربية هي اقل البلاد ملاءمة لظهور الحركات التمردية او الثورة الوطنية الكردية. فإذن كان اختيار العراق للبدء بالتمرد بداية مفتعلة ومقصودة من الاستعمار زمن الحكومات الرجعية والعميلة لخلق مبررات لنزاع مفتعل.
فعندما تقوم حركات تمردية تضطر الحكومات الى مواجهتها او مجابهتها بالقمع وتتكرر هذه العمليات، تنشأ مع الزمن احقاد وثارات تتخذ فيما بعد أساساً ومنطلقاً للمطالبة بالإنفصال الذي لم يكن له في البدء مبرر. فواجب الحكم الثوري في العراق ان يدرك هذه الحقيقة ويفشل المخطط الاستعماري بان يمنع استمرار وتراكم هذه الأحقاد والمبررات المفتعلة. الحركة الوطنية الكردية لا يمكن ان تتناقض مع الثورة العربية، اذا تناقضت فيكون الاستعمار وراء هذا التناقض سواء في خلقه لقيادات عميلة لهذه الحركة أو بدفعه وتوريطه لحكومات عربية رجعية أو إنفصالية للتصدي لتلك الحركة بالأساليب التي تساعدها على التفاقم طوال قرون عديدة. الاكراد هم مواطنون عرب مسلمون كغيرهم من العرب المسلمين لا يوجد اي فرق بينهم، عندما كانت البلاد العربية تشكل دولة أو دولاً عربية إسلامية. وفي العصر الحديث كانت الدول الغربية الإستعمارية هي البادئة بإيجاد الفروق وعوامل التمييز بين العرب والاكراد سواء باضطلاعها بمهمة التنقيب عن المميزات التاريخية واللغوية والعرقية للاكراد لتكوّن من ذلك منطلقاً للانقسام في بلدان المنطقة التي كانت هذه الدول تخطط لاستعمارها منذ القرن الماضي، وسواء بتوجيهها للحكومات والقيادات العربية، بعد دخولها هذه البلاد، كما فعلت في مناطق اخرى من المعالم وفي البلاد العربية بالذات حيث حاولت نفس المحاولة مع البربر في شمال افريقيا وقبائل جنوب السودان. ولكن هذا لا يعني ان الاستعمار يستطيع ان يخلق ظاهرة تاريخية فالظاهرة القومية هي من ظواهر العصور الحديثة ودور الاستعمار يقتصرعلى استغلالها ومحاولة الانحراف بها عن طريقها السوي وتسخيرها لمصلحته.
وهذا يظهر الفرق بين الاستغلال الاستعماري لمسألة الأقليات القومية وبين الحل الإشتراكي الذي تفادى التصادم بين القوميات المختلفة في دولة واحدة عندما طرح الموضوع على اساس الإشتراك في المصير الواحد بين مختلف القوميات في ظل الدولة الإشتراكية وانتفاء الاستغلال الطبقي والتسلط القومي في آن واحد.
لذلك نعود لنكرر الحقيقة الأساسية التي يجب ان تكون الاساس والمحور للوصول الى حل لمشكلة الاكراد وهي أنه لا يجوز ان يوجد تناقض بين الثورة العربية والحركة الوطنية الكردية فالشعب العربي في مختلف اقطاره هو منذ اكثر من قرن هدف لهجوم استعماري فريد في عنفه وبطشه وفي هذا الوقت بالذات يبلغ هذا الهجوم على الشعب العربي وأرضه وخيراته ذروة التآمر والعنف مما يجعل طريق الثورة العربية هو الطريق الطبيعي والأساسي لكل ثورة تحررية وتقدمية في العالم الثالث والمعيار والكاشف لكل ثورات وحركات التحرر والتقدم في العالم كله. فالحركة الوطنية الكردية هي جزء مشروع وأصيل من الثورة العربية ضد الاستعمار والصهيونية والاستغلال الطبقي والتخلف والتجزئة. وكل ما ينحرف بالحركة الوطنية الكردية نحو الإلتقاء والتواطؤ مع الامبريالية والصهيونية ويضعها في صف الطبقة الإقطاعية وفي صف الانفصال، يجب ان يكشف ويفضح كتآمرعلى الثورة العربية والحركة الوطنية الكردية في آن واحد وان تكون تلبية مطالب الحركة الوطنية الكردية في اطار هذا الانسجام بينها وبين مسيرة الثورة العربية.
11 حزيران 1969
(1) جزء من حديث ألقي في 10/06/1969.
——————————–
المرحلة الجديدة مرحلة تأسيسية
أيها الرفاق
كنت منذ زيارتي الأولى للعراق في هذا العام وبعد ثورة السابع عشر من تموز أود أن اجتمع بكم وقد سألت في ذلك الوقت وقيل لي أن الطلبة منهمكون في الامتحانات وهكذا تأجل هذا اللقاء حتى الآن. إنني أعلق اهتماما كبيرا وأملا كبيرا على الحركة الطلابية واعرف بأنها كانت منذ نشأة حزبنا عنصرا أساسيا في شق طريق الثورة وكيف لا يكون ذلك والطلاب يجمعون ميزتين ثوريتين أساسيتين هما سن الشباب والثقافة. فالثورة هي بطبيعتها ذات روح شابة، روح الثورة، روح التمرد، نضارة النفس والأمل الحار الذي يحرك الإنسان إلى طلب الكمال، كل ذلك يتمثل في سن الشباب. والثقافة هي اكبر سلاح بيد الثورة لأنها تنقل الثورة وتنقل الآمال والأهداف الثورية من حيز العواطف والتمنيات المبهمة إلى درجة الوعي الواضح والوعي المنظم والمخطط، وقد بدأ حزبكم بالدرجة الأولى في السنوات الأولى مرتكزا على الحركة الطلابية قبل أن يصل إلى الطبقة الشعبية الكادحة التي هي بلا شك العنصر الأساسي في ثورتنا العربية والمادة الأساسية ولكن كان لا بد أن تكون الحركة الطلابية هي المقدمة وهي الممهد الذي يوصل تيار الثورة وأفكارها وحماس الثورة إلى الجماهير الشعبية.
لئن فأتني الاطلاع الدقيق على مراحل نضالكم في هذا القطر فاني رغم ذلك اعرف ومنذ زمن بعيد ما هو دور الطلاب بصورة عامة والطلاب البعثيين بصورة خاصة في قطرنا المجاهد القطر العراقي ولقد كان للطلبة البعثيين تجربة جدية آخذة في الاغتناء والتعمق وهذا ما لمست آثاره، الآن في استماعي إلى أقوالكم وملاحظاتكم.
أيها الرفاق
لقد حاول حزبنا أن يقترب دوما بجد وصدق من الصيغة الصحيحة الملائمة لحاجات امتنا العربية ولمتطلبات ثورتها. لمتطلبات المرحلة الثورية التي تجتازها والتي تتجدد وتتطور باستمرار، فالحزب كان لا بد ان ينشأ من هذا الواقع الذي نعيشه، الذي تعيشه امتنا، وهو واقع مريض ومتخلف ومجزأ، كان لا بد ان ينشأ ضمن أقطار، ما دامت الوحدة هدفا يجب أن يناضل الشعب نضالا عسيرا وطويلا حتى تتحقق، فالصيغة الواقعية، الصيغة الحية التي نشدها الحزب دوما وسعى إلى الاقتراب منها هي أن يحقق فكرته ضمن الواقع، أن لا يستغرق في الواقع وان لا يضيع في الخيال والوهم. الواقع هو واقع التجزئة القطرية، والوحدة هي أمنية وهدف بعيد وكل تركيز على احد هذين الطرفين وتجاهل للآخر يبعد عن الصيغة الثورية الصحيحة.
لا نستطيع أن نعمل للوحدة العربية في الفراغ، في الهواء، دون ارض ودون أن نركز أقدامنا على ارض الواقع ومشاكله كما أننا لن نتقدم نحو الوحدة العربية، إذا استأثر الواقع المجزأ، الواقع القطري، بكل اهتمامنا وبكل خيالنا وضاعت الصورة الشاملة والصورة الكلية أمام الأعمال اليومية والتفاصيل الجزئية، وهذا ما تعيشونه بنضالكم وتدركونه بحسكم وتجربتكم وانتم بالذات تتقدمون تقدما محسوسا في معالجة شؤون القطر دون أن يفوتكم الجانب الآخر. أي أن ما تواجهونه من مشاكل وما تتوصلون إليه من حلول ليس هو محدودا بحدود هذا القطر وإنما هو من جهة تعبير عن مشاكل وحاجات شعب واحد هو الشعب العربي في جميع أجزاء الوطن العربي ومن جهة أخرى إنما هو خطوة توصل إلى التحرر من واقع التجزئة والاقتراب من تحقيق الهدف الأسمى في الوحدة العربية.
إن أهم ما واجهكم كما سمعت من أقوالكم هو هذا النقص الواضح في الكوادر الفنية النقابية والحزبية على السواء لأنكم مع بقية قطاعات الحزب وجماهيره قطعتم مراحل جدية من النضال ومن ترسيخ أقدام الحزب، ومن الامتزاج بحياة الشعب، ومن كسب ثقة الجماهير، حتى أصبح حزب البعث في العراق بصورة خاصة مرادفا لحياة وتاريخ وقضية شعب العراق، الشعب المناضل صاحب القضية صاحب المصلحة في الثورة.
لقد حقق الحزب في هذا القطر شيئا أساسيا هو مدعاة للأمل والتفاؤل والثقة بالمستقبل، انه أصبح جزءا لا يتجزأ من ارض هذا البلد ومن حياة هذا الشعب نتيجة للنضال الصادق، نتيجة للآلام الكثيرة التي عانيتموها جنبا إلى جنب مع جماهير الشعب، نتيجة للتضحيات العديدة والثبات والصمود في أحلك الظروف، نتيجة للممارسة النضالية والصدق والجد والرجولة في تحمل أعباء مسؤوليات النضال والانفتاح على الشعب، حتى لم يعد ثمة حاجز أو فارق بين الحزب و بين الشعب. هذا أساس يستطيع الحزب أن يعتمد عليه لمتابعة مراحل نضاله وتحقيق أهدافه، إذ بدون هذا الأساس يبقى كل عمل سطحيا ويبقى مصطنعا ومعرضا للزوال وتحت رحمة اي نكسة أو صدمة. ولكن الامتزاج العميق الذي تحقق بينكم وبين جماهير الشعب وبين تاريخ وقضية هذا البلد الذي هو جزء أساسي في وطننا الواسع، هذا الامتزاج يساعد على مواجهة المستقبل بتفاؤل وإيمان مهما تكن الظروف ومهما تكن الصعوبات ومهما يطرأ من أخطار، إذ لم يعد مهما أن تكون السلطة هي حامية الحزب عندما يصبح الحزب مرادفا للشعب، عندها في كل الأحوال وفي كل الظروف لن يجد الشعب أمامه إلا الحزب وإلا مناضلي الحزب لان الشعب والحزب أصبحا شيئا واحدا. فهذه المشكلة التي هي من أهم مشاكل الثورة العربية واهم مشاكل الأمة العربية في هذا العصر اي نقص الكفاءات والكوادر والتي هي نتيجة واضحة وبارزة للتخلف الذي نحن فيه منذ قرون والذي ساهم الاستعمار الأجنبي اكبر مساهمة في فرضه وتعميمه على بلادنا وامتنا، هو إذن مشكلة قومية لا ينحصر باتحاد الطلبة أو اتحاد العمال ولا في أي فرع من فروع النشاط الحزبي أو في قطر معين وإنما هو مشكلة عامة، يكاد يكون الجواب عليها وإيجاد الحل الملائم لها هو الحل لكل قضايانا ومشاكلنا القومية. وامتنا مطالبة في هذا الصراع الرهيب المفروض عليها من قوى الاستعمار والصهيونية بان تجد الجواب لنقص الكفاءة، لنقص القدرة، وهو المطلب الأساسي في المرحلة الجديدة مرحلة ما بعد النكسة، لأن ما حدث في العشرين سنة الأخيرة يجب أن يكون واضحا في أذهان الطليعة الثورية. لا شك أن خطوات عديدة وكبيرة في طريق التقدم قد حققها النضال العربي ولكن الذي حدث أيضا، وهذا ما يجدر بكل واحد منا أن يتذكره ويتأمل فيه ليقوم بمسؤولية هذا الإدراك وهذا الوعي، إن ما حدث هو أن الدول الاستعمارية بصورة خاصة والدول المصنعة بصورة عامة تتقدم بخطوات أسرع بكثير من تقدم البلاد المتخلفة رغم ما تحققه تلك البلاد، بلاد العالم الثالث، من تقدم نتيجة الثورات ونتيجة انتشار الوعي الثوري والنضالي. هذا راجع من جهة إلى طبيعة الحضارة الفنية الحديثة القائمة على الآلة والاختراع والعلم، ومن جهة أخرى إلى نواقص في بنية البلاد المتخلفة. ولكي لا نسترسل في العموميات والمجردات نرجع إلى واقعنا القومي، والى واقع امتنا ووطننا فنجد أن العقبة الكبرى التي جعلت مجهود البلاد العربية رغم الثورات التي حدثت في العشرين سنة الأخيرة ورغم قيام أنظمة تقدمية في كثير من الأقطار العربية ورغم تبديلات جدية في العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج وفي وسائل الإنتاج أيضا، رغم ذلك كله بقي المجهود العربي عاجزا عن أن يتكافأ مع العدو الخارجي وعن الصمود أمام هذا العدوان ووصل إلى الهزيمة القومية التي منيت بها الدول العربية.
العقبة الأساسية أيها الرفاق هي واقع التجزئة، فالثورات التي حدثت والتقدم لم يستطع أن يتجاوز التجزئة وأن يقتلع جذورها ويتغلب على أسبابها وعواملها، وبالتالي وصلنا إلى حد أصبح فيه وجود الأمة مهددا بالفناء لان نسبة التقدم بينا و بين أعدائنا الطامعين بنا نسبة غير متكافئة، وان الزمن لا يكون في صالحنا إذا نحن لم نجد المعادلة الصحيحة التي تصحح أسلوب العمل الثوري الذي مورس خلال العشرين سنة الأخيرة. هذه النظرة انتم أعرف من غيركم بأنها كانت دوما نظرة الحزب وكانت دوما موضع تركيز خاص وإلحاح خاص لأنها لمست المرض الأساسي، وأخطر موطن للضعف والمرض في حياتنا القومية. ولكن ظروفا كثيرة كانت باستمرار تشوش هذه النظرة، تحول دون بروزها بكل صفائها وبداهتها، فالاستعمار من جهة وكل أعداء امتنا الذين يرون انطلاق الأمة العربية بعين خائفة كانوا يركزون دوما ويحاولون أن يطمسوا هذه الحقيقة. ان يطمسوا اهمية الوحدة في الثورة العربية. ففي الوحدة الجواب على نقص الكفاءات الفنية وشتى انواع الضعف. في الوحدة الجواب على هذا الإدمان في التخلف، على هذا التراوح في نفس المكان دون ان نسجل تقدما حقيقيا. وترون الظروف العصيبة التي نعيشها الآن والتي تتفاقم يوما بعد يوم نتيجة التخطيط الاستعماري الصهيوني الذي يرمي إلى استغلال فرصة يعتبرها ذهبية، أن يفرض على العرب التراجع والتقهقر عشرات السنين إلى الوراء قبل ان يتمكنوا من استعادة أنفاسهم، من استرداد مقاليد أمورهم ومن القبض على مقدراتهم بأيديهم. والمخطط الاستعماري يرمي إلى اخذ العرب في هذه اللحظة من الضعف ومن الحيرة والارتباك وان يفرض حلولا وأوضاعا تزيدهم ضعفا، تزيدهم استسلاما وتنازلا عن شخصيتهم وعن طموحهم في أن يكونوا امة حرة راقية مبدعة بين أمم العالم. لذلك لا أجد انسب من هذه الظروف لكي اذكر مناضلي هذا الحزب بان يربطوا دوما بين نضالهم اليومي في الواقع المجزئ الذي نعيشه كلنا كشعب عربي، وبين الهدف الذي يحررنا من هذا الواقع وينتشلنا منه ويمدنا بالقوة التي بها تتغلب عليه.
أيها الرفاق
لنأخذ الأمور بشكلها البسيط المباشر دون تعقيد. انتم في هذا القطر تناضلون في حزب البعث العربي الاشتراكي. هذا الحزب القومي الذي له في عديد من الأقطار العربية تنظيم ونضال، ولكن نضالكم في هذا القطر يتميز بأنه مدعوم بسلطة وصل إليها الحزب بنضاله وتضحياته وبصموده وبتحمله لصنوف الآلام ومشاركته للشعب مشاركة صادقة، فالحزب في هذا القطر يتحمل إذن مسؤولية من نوع خاص وفي مثل هذه الظروف التاريخية، الحزب مطالب بان تكون له نظرة واضحة إلى الماضي ودروس الماضي والى الأسباب التي أدت إلى النكسات الماضية لكي نتأكد أننا نمثل المستقبل ولسنا جزءا من هذا الماضي الذي حكمت عليه الأحداث بالفشل. يجب أن تكون نظرتنا واضحة في هذا المضمار ولا نكتفي بان نصحح ما وقعنا فيه من أخطاء قبل سنوات عندما وصل الحزب إلى الحكم في هذا القطر او في غيره، إذ المطلوب مع تصحيح تلك الأخطاء ان نعرف بان العالم، بان الزمن، قد تقدم وأن أعداءنا بصورة خاصة قد تقدموا في إعدادهم وتجهيزاتهم وفي اقتصادهم وفي معرفتهم لنا ودراستهم لثورتنا ومواطن ضعفها وقوتها حتى يجدوا ما يفسدون به هذه الثورة ويدمرونها. يجب أن نكون متكافئين مع الزمن الذي نحن فيه لا أن نكتفي بتصحيح ما بدر منا قبل ست سنوات ونتعامى عن متطلبات هذا الزمن. يجب ان ننظر إلى أنفسنا نظرة، وإلى العالم نظرة أخرى في وقت واحد، وهذا ما يضمن لنا أن نبقى قلقين على ثورتنا معمقين لها مصححين لنواقصها مستزيدين من التقدم بدلا من أن نقنع ونرتاح راحة كاذبة، راحة خداعة. هذا العهد الذي يتحمل الحزب مسؤوليته يجب أن ننظر إليه على ضوء الأحداث المصيرية التي تنتظرنا في المستقبل، التي تنتظر الأمة العربية كلها، فالمعركة التي تنتظرنا لا يجدي فيها إلا أن نجند طاقات امتنا بمجموعها لان أعدائنا كثر وأقوياء ومجهزون بالعلم الحديث، فنظرتنا إلى الحكم والى النضال والى الإنتاج يجب أن تستوحي من متطلبات المعركة المحتومة أي أن لا نضع حاجزا أو سدا في وجه مساهمة جميع فئات الشعب المخلصة التي تؤمن بحق وطننا في الحرية وبحق شعبنا في الحياة الحرة الكريمة والتي تكون مستعدة للنضال ضد الاستعمار والصهيونية وضد الأخطار الخارجية. فالانفتاح على الفئات التي لا ترى رأينا في كل شيء وإنما تلتقي معنا في الأمور الأساسية وخاصة في الحفاظ على حريتنا واستقلالنا في وجه الأعداء الحقيقيين، ضرورة قومية ملحة في المرحلة الراهنة، فالانفتاح وروح التعاون والعمل المشترك في نضال طويل مرير تتهيأ له امتنا في كل جزء من أجزاء وطنها .. كل هذا يهيب بنا أن نتحرر من الضيق ومن التعصب ومن المبالغة في رؤية الفروق والخلافات التي تباعد بيننا وبين الفئات الأخرى، كما يهيب بنا بأن نوسع نظرتنا على وطننا العربي كله وعلى امتنا وأجيالها المقبلة، فلا نعطي للانجازات الداخلية قيمة وأهمية إلا بمقدار ما تصب في الهدف العام الذي يخدم المعركة المصيرية. اذ ان الوحدة العربية وحدة امتنا تتحقق الآن في الخطر، فأي قطر عربي حدوده هي حدود الأمة العربية، حدوده هي الوطن العربي كله، حدوده حدود الوجود العربي، فليس ما يضمن سلامة أي قطر عربي مثل مساهمته في القضية القومية الكبرى.
أيها الرفاق
لم أستطع أن أحصر تفكيري وكلامي في حدود العمل الطلابي الذي تمارسونه بجد وإخلاص وتتحرون الأسباب التي تكفل له التقدم بل استجبت لما توحي به ظروفنا القومية الكبرى، وأنا متأكد من أني أتجاوب في هذا مع ضمائركم وأنا متأكد بان كل فرد من أفراد شعبنا في هذا القطر، كل فرد من أفراد الجماهير الثورية، الجماهير الكادحة، وأنتم جزء منها، انما يفكر اليوم في مصير معركتنا في وجه الهجمة الاستعمارية أكثر مما يفكر في خبزه اليومي وفي ما يضمن له أسباب العيش والراحة، لأن الحس الصادق في الجماهير الثورية يهديها إلى اكتشاف الحقائق الساطعة البديهية وهي أن ضمان الوجود القومي يأتي قبل ضمان الوجود الفردي، وأن حريتنا كأمة وكشعب يأتي بالدفاع عنها قبل السعي وراء ما يكفل للأفراد حريتهم ومعيشتهم.
قلت لكم أيها الرفاق بأن حزبكم بدأ نضاله معتمدا على الشباب، على الطلاب، وهم الذين أوصلوا فكرته ونضاله إلى وسط الجماهير الكادحة حتى أصبح هذا الحزب حقيقة واقعة في الوطن العربي كله، واليوم ليس دور الطلاب بأقل مما كان عند بداية الحزب، لأن المرحلة الجديدة هي بمثابة ثورة جديدة، بمثابة تأسيس جديد للحزب، بمثابة تجديد كلي وعميق لمفاهيم الحزب، لفكرته ولنضاله ولآفاق هذا النضال لأن ما يطلب من مناضلي هذا الحزب ومن جميع المناضلين العرب في المرحلة المقبلة هو صيغة جديدة يجب أن تختلف عن الصيغة القديمة، يجب أن تكون أكثر عمقا وأبعد نظرا حتى نستخرج من قدرة وكفاءة امتنا وطاقاتها وإمكاناتها الدفينة قدرا أكبر بكثير من القدر الذي حققه النضال العربي في السنين العشرين الأخيرة. والطلاب بحكم سنهم الشابة المؤهلة لرؤية الجديد ولاكتشاف الجديد ولروح المغامرة والبطولة، وبحكم ثقافتهم التي يجب ان تتطور دوما نحو الثقافة الثورية لا أن تبقى في حدود المفاهيم التقليدية، سيبقى لهم دور الطليعة في المعركة الجديدة لأنها معركة المصير. ومصيرنا في هذا العصر يتعين ويتقرر بالفكر والنضال معا، إذ أن الميزة التي سمحت لهذا الحزب بان يقوم بدور أساسي في حياة شعبنا كانت لأنه جمع الفكر إلى النضال، ويجب ان تبقى هذه الميزة وأن تحافظوا عليها انتم لأنكم تمثلونها وتجدونها في ثقافتكم المتجددة وبروحكم الشابة المتمردة دوما والسلام عليكم.
23 تشرين الأول 1969
(1) حديث خلال زيارة الاتحاد الوطني لطلبة العراق بتاريخ 23 / 10 / 1969.
—————————————
دور الطبقة العاملة في بناء الثورة العربية
أيها الاخوان
إنها لفرصة طيبة أن اجتمع بممثلي الطبقة العاملة، في هذا القطر المناضل، وفي هذه الظروف العصيبة المصيرية، التي يجتازها وطننا الكبير، والتي تؤثر في مصيرنا كأمة، وفي مصير كل قطر من أقطارنا. ولا شك أن للطبقة العاملة في الوطن العربي عامة، وفي القطر العراقي بصورة خاصة، دورا كبيرا وأساسيا في هذه الظروف التاريخية وفي هذه المعركة المصيرية..
وكيف لا يكون ذلك، أيها الإخوة، والطبقة العاملة، والكادحون بصورة عامة، هم أكثرية الشعب الساحقة وهم الذين يعملون وينتجون ويبنون ويعمرون، وهم الذين يقاتلون ويقاومون ويضحون بدمائهم عندما تدق ساعة المعركة.
من تعبهم، من جهودهم ، من تضحياتهم، من بطولاتهم بنيت امتنا منذ القديم، ويبنى شعبنا، ويبنى حاضرنا ومستقبلنا من أكثرية الشعب الكادحة. هذا الدور الخطير للطبقة العاملة، للأكثرية الكادحة، هذا لم يكن معترفا به، ولذلك كانت بلادنا غارقة في النوم، في التخلف وخاضعة للاستعمار، وللاحتلال، ولأبشع أنواع الاستغلال والاستبداد، لان دور الكادحين لم يكن بعد اكتشف، ولم تسلط عليه الأنوار، ولم تعلن تلك الحقيقة إعلانا واضحا وصريحا، فكان ذلك عصر التخلف.
تباشير الثورة
ثم بدأت تباشير الثورة تطل على ارض العروبة منذ عشرات السنين، ونمت بذور الثورة الفكرية شيئا فشيئا حتى ظهرت الحركات المنظمة التي نادت بدور الشعب، ودور الطبقة العاملة، ودور الفلاحين، والمثقفين الثوريين ودور الجنود، أبناء الشعب. ومع هذا فان علينا أن نقول صراحة: بأن الثورة بقيت في منتصف طريقها، لم تجرؤ على المضي الى نهايته، وبقى المنطق الثوري مترددا، يخاف أن يخلص لنفسه كل الإخلاص ويصدق مع نفسه كل الصدق وان يطبق ما أعلنه وآمن به.
لذلك جاءت حصيلة السنين العشرين الأخيرة، حلولا وسطية ونتائج نصفية غير كاملة. وتجلى ذلك في المواجهة الحاسمة التي واجهت فيها الثورة العربية أعداءها الاستعماريين والصهيونيين. وظهر النقص الفادح والتقصير والتخلف وظهر بوضوح أن التقدم الذي سجلناه جميعا في جميع أقطارنا ومن قبل جميع فئاتنا وحركاتنا الثورية، هو جيد إذا قيس بالماضي ولكنه لم يكن كافيا، إذا قيس بالحاجات والمتطلبات الجديدة، وإذا قيس بما يتوفر لدى الأعداء من وسائل وعدد.
لكي تستحق الثورة اسمها
والثورة في الأصل والأساس لا تستحق هذه التسمية إلا إذا استطاعت ان توقظ وتستخرج وتبعث من أعماق الشعب، جميع القوى الكامنة، جميع الطاقات، التي تمكن الشعب والأمة من المواجهة المصيرية للأعداء، جميع الطاقات والإمكانيات التي تكفل النصر في تلك المواجهة. وإلا تكون الثورة ناقصة، وتكون معتلة ويكون فيها خلل يجب أن نبحث عن أسبابه، لنعالجه ونتلافاه.
فهل استطاعت الحركات والأنظمة التقدمية في البلاد العربية أن تطلق فعلا كل القوى الحية في شعبنا الكبير الواسع؟ هل استطاعت أن تهدم جميع الحواجز والعوائق في طريق انطلاقة هذا الشعب؟ هل استطاعت أن توجد النظام والتنظيم الملائم الذي ينسق جميع الفعاليات، وجميع الطاقات، لتعطي أحسن مردود ممكن؟.
ونحن لا نستطيع أن نقبل، بأي شكل من الأشكال، أن تكون النتائج التي وصلت اليها الحركات والأنظمة التقدمية في العشرين سنة الماضية، تعبيرا صادقا وكاملا عن إمكانيات امتنا وشعبنا، وإلا لكان معنى ذلك اليأس من أنفسنا ومن امتنا. واليأس مرفوض بلا شك . إذن لا بد أن نفتش عن الخلل، في الأفكار، وفي الأساليب، وفي الوسائل وفي التصرفات والأعمال التي عالجت قضية الثورة العربية، لنقضي على التخلف ونزيل العقبات من أمام الشعب ونستخرج أعمق ما لديه من نشاط وحيوية، ومن ذكاء وقدرة، ومن غيرة ووطنية وبطولة. ويمكن أن نفصّل في وصف النواقص والأمراض والتقصير ولكني أجمل كل ذلك وألخصه وأعطي أهم شيء يميز ذلك التقصير، فأقول: إن المرض الأساس الذي منع الثورة العربية من ان تؤتي كل ثمارها، وان تصل إلى كل أهدافها وغاياتها على أحسن وأكمل شكل، هو نقص في نظرتها إلى الشعب، ونقص في نظرتها إلى دور الطبقة الكادحة والطبقة العاملة. وهذا هو موطن الداء الذي يجب أن تسلط عليه الأضواء، لكي تكون معالجته منطلق تجديد وتصحيح لثورتنا في وطننا العربي كله.
النظرة الناقصة الى الشعب
النظرة الناقصة إلى الشعب والى دوره في الثورة، تلك هي المشكلة ، ولا أقول بان البرامج لم تعط الشعب حقه من الناحية النظرية، من ناحية الكلام. ولكن إذا لم يكن الكلام مقدمة إلى العمل فانه يكون نوعا من التلهي وأحيانا نوعا من الخداع والتضليل. في السنين الماضية لم تمكّن الطبقة العاملة والأكثرية الكادحة من أبناء الشعب، من ان تقوم بكل دورها في المجال القومي والاجتماعي، لأن الحركات والأنظمة التقدمية، والتي سميت ثورية، لم تكن تؤمن إيمانا عميقا بدور الشعب، وبدور هذه الطبقة. ولم تكن تثق بها كل الثقة، ولم تكن تطمئن إليها كل الاطمئنان. بل كان هناك نوع من الخوف، نوع من الحذر، نوع من الارتياب، ونوع من الاحتقار نحو أكثرية الشعب، إذ لم تستعمل المصارحة، ولم تعط الحرية لأبناء الشعب كي يمارسوا دورهم، ويبنوا أوطانهم، وينشئوا مجتمعاتهم، ويدافعوا عن قضيتهم وقضية آمتهم. بل أريدَ لهم أن يكونوا تحت الوصاية، وان يراقَبوا ويقيَّدوا، وان يُشك في نواياهم وتحركاتهم، وان يوجهوا بالإيحاء والتلقين والخداع والتهويل أو التضليل.
ولو كانت النظرة نظرة احترام، ونظرة تقدير، ونظرة ثقة ومحبة، ونظرة مشاركة عميقة، لما لجأ الحاكمون إلى أساليب الدعاية المضللة والى فرض القيود والمراقبة والقمع والإرهاب، إذ من هو أحق بأن يبني الوطن، وينهض المجتمع، ويدافع ويقاتل؟ من الشعب صاحب الوطن، وصاحب المصلحة الكبرى في بناء المجتمع، وفي بقاء الأمة وتقدمها..؟
كيف آلت القضية القومية
ايها الاخوان
لننظر قليلا كيف آلت قضيتنا القومية بعد عشرات السنين من النضال والتعب والجهد الذي يبذله شعبنا بكل سخاء؟
إن ما آلت اليه هذه القضية لا يطمئن ولا يسر. فنحن نواجه عدوانا وتآمرا استعماريا صهيونيا على وجود امتنا نستطيع أن نقول بكل بساطه، أنه فريد في التاريخ البشري، لم يعرف له مثيل في ظلمه وإجحافه. لم يعرف في التاريخ، لا في القديم ولا في الحديث، ظلم كالذي يقع على الأمة العربية والذي يتلخص في قضية فلسطين ، إذ يجلى شعب من أرضه ويشرد، لا بل يقتل بأفظع أنواع الإجرام والتقتيل، ثم يصور ذلك للعالم اجمع على عكس حقيقته، بان الصهيونية هي صاحبة الحق وان العرب ينكرون عليها هذا الحق ويعتدون عليها.
فهل هنالك ظلم أفدح من هذا الظلم، وهل هنالك تناقض أفظع من هذا التناقض، أن تعكس وتقلب الحقائق في عصر العلم وفي عصر الحضارة والإنسانية، وان يكون نصيب الأمة العربية في العالم المتحضر، هذا الفهم المعكوس لقضيتها الذي يغطي جرائم الاستعمار وجرائم الصهيونية والذي يحجب عن الكثيرين، الاستغلال الذي تقوم به الشركات الاستعمارية، والجيوش الاستعمارية، لنهب ثروات الأرض العربية والشعب العربي لإبقاء شعبنا في حالة الضعف والمرض، في حالة الجهل والتخلف لمنع وحدتنا وقوتنا، لإبقائنا مجزئين متباعدين ومتناحرين أيضا.
القطرية والتعالي
كيف عجزت الثورة العربية في السنين الماضية عن أن تعطي للعالم صورة صادقة عن قضيتنا، صورة مطابقة للواقع، تنادي بحقنا المشروع في الحياة الحرة، في الاستقلال، في أن تكون ثروتنا لأبناء شعبنا وان يكون لنا الحق في أن نتحد ونتوحد. لاشك أننا في هذا العصر قد ابتلينا بعدو خطير في وسائله وقدراته وفي تأثيره على الرأي العام العالمي فها هي الأخبار والإذاعات يخضع أكثرها للتأثير الصهيوني. ولا شك أن ابتلاءنا بهذا العدو ليس بالشيء اليسير، ولكننا ابتلينا أيضا في السنوات السابقة بنماذج للحكم ادعت الثورية ولكنها بقيت أسيرة لمرضين رئيسيين، هما مرض القطرية، ومرض التعالي على الشعب، أبقياها في منتصف الطريق الثوري وحولاها الى عقبة في طريق استمرار الثورة وإنضاجها.
بعض هذه الأنظمة بحكم منطلقها القطري لم تكن تأخذ بعين الاعتبار شروط وأوضاع الأمة العربية في جميع أقطارها وفي كامل أجزائها، بل كانت تتكلم في الظاهر لغة الوحدة والقومية العربية وتعني في الباطن أوضاع ومصالح قطر معين. كما ان هذه الأنظمة بحكم تركيبها البيروقراطي كانت في الظاهر تتكلم عن الشعب وعن طبقاته المحرومة، وتعبر في الواقع والباطن عن عقلية ومصلحة الطبقة البيروقراطية التي تنتمي إليها.
وإذن فلم يكن في مقدورها أن تطرح قضية الأمة العربية في هذا العصر في صراعها مع الظلم الاستعماري الصهيوني كأمة تصارع ظروف التخلف والتجزئة وكأمة تمارس حقها في النضال من اجل الوحدة والتقدم ودفع الظلم ومقاومة محاولات التحالف الاستعماري الصهيوني لتعطيل مسيرتها التاريخية. كما انه لم يكن في مقدورها أن تطرح الوجه الإنساني الاشتراكي للثورة العربية في نضالها من اجل تحرير الجماهير العربية من القيود التي تعطل طاقاتها الثورية.
وهذا ما يجب أن يحفزنا إلى أن ننتقل من مستوى نصف الحل ونصف الطريق، الى مستوى الثورة الكاملة والحلول الجذرية، وان نمضي إلى آخر الطريق دون تلكؤ او تردد.
أيها الإخوان
ليست هذه النتائج السلبية التي توصلنا إليها هي كلها من صنع الاستعمار والصهيونية، بل هي أيضا من أخطاء بدرت من داخل الأنظمة العربية التقدمية.
ولنقل بصراحة بأنه لو كانت النظرة إلى الشعب والى الأكثرية الكادحة من أبناء الشعب العربي نظرة صادقة ونظرة احترام، نظرة ثقة، بان المعوّل هو على هذه الأكثرية، وبالتالي الواجب يحتم مصارحتها بالحقائق كلها لتتحمل مسؤوليتها القومية والاجتماعية، لو كانت النظرة كذلك لما ظهرت في السنين الماضية تلك النماذج من الأنظمة التي جمعت الى مرض القطرية مرض النظرة المتعالية على الشعب، والتي أظهرت الشعب العربي وكأنه شعب غاز يريد أن يفتح ويدمر، والتي أسكرت الشعب بالغرور والأوهام في الوقت الذي كانت تكبل أيديه وتحبس قدراته، وتمنعه من التحرك والممارسة لمسؤولياته.
تصحيح نظرة العالم
إن الحكام لم يكونوا ينظرون إلى مصلحة الشعب والأمة بقدر ما كانوا ينظرون إلى مصلحة أشخاصهم وأنظمتهم وبقائهم في الحكم، بدلا من ان يعدوه للمعركة، فسهلوا بذلك مهمة العدو الصهيوني ومن ورائه الاستعمار، لكي يكسب الجولة بسهولة، ووجدنا أنفسنا شبه وحيدين، غير قادرين على تصحيح نظرة العالم إلينا إلا بعد هزيمتنا. والواقع أن الهزيمة قد أظهرت كذب الدعاية الصهيونية الاستعمارية والتي كانت تدعي بان العرب هم المهددون لسلامة إسرائيل، وان إسرائيل هي الدويلة الصغيرة التي تدافع عن وجودها، فقد عرف العالم بان إسرائيل لم تكن سوى الاستعمار، ولم تكن سوى قلعة للاستعمار، ولم تكن إلا إعدادا متواصلا بقصد التوسع، وبقصد تعطيل النهضة العربية وتعطيل الوحدة العربية.
ولا شك بان ما أحرزناه من عطف وتفهم الدول الاشتراكية والأحزاب الشيوعية في العالم بعد حرب حزيران، قد خطا خطوات جيدة في تصحيح المفاهيم وتصحيح الصورة المأخوذة عن القضية العربية.
ولكن علينا أن نبذل كل الجهود المساعدة على ان تخطو الدول الاشتراكية خطوة حاسمة في طريق هذا الفهم المشترك، وتنتقل من موقف استنكار العدوان إلى موقف استنكار الوجود الصهيوني المتمثل في دولة إسرائيل.
أيها الإخوة
لو أن الطبقة الشعبية كانت تقوم بدورها الكامل لوطنها لكانت تمكنت من أن تبني الثورة العربية الحديثة وان تكون في قيادتها، ولما أمكن للاستعمار والصهيونية أن يضللا العالم فترة طويلة من الزمن وان يظهرا الشعب العربي على عكس حقيقته. ترون إذن ما هو الدور الأساس في نهضتنا، وفي ثورتنا الحديثة، للطبقة الشعبية وللطبقة العاملة بصورة خاصة.
ان نكون اشتراكيين
أيها الإخوة..
إن هناك فرقا أساسيا بين نظرة النماذج نصف الثورية التي تقول: مادامت الطبقة العاملة والطبقات الكادحة متخلفة فيجب أن تبقى تحت الوصاية وليس من الحكمة أن تعطى من الحقوق اكثر مما تستطيع ممارسته، وبين النظرة الثورية الحقيقية التي تقول: ما دامت هذه الطبقة هي أكثرية الشعب، فيجب ان توفر لها جميع الوسائل لكي تصبح هذه الطبقة قادرة على ممارسة حقوقها وعلى ممارسة حريتها. ولا يمكن أن تصل الطبقة العاملة الى مستوى القدرة والكفاءة المطلوبة لها حتى تبني الثورة العربية، الا اذا مارست حقوقها بحرية، فقد تخطيء، ويجب أن تخطيء حتى تتعلم من الممارسة وحتى تصحح الأخطاء في الممارسة وحتى تدب في حياتها روح جديدة وحرارة جديدة هي حرارة الشعب العامل، فالشعب هو صاحب المصلحة في الاستقلال، وصاحب المصلحة في الحرية وفي السيادة، والوحدة، وصاحب المصلحة في التقدم وفي أن يرتفع مستوى الحياة ومستوى العيش في بلادنا.
لا يمكن أن نكون اشتراكيين، وان ندعي الاشتراكية، وان يبقى دور الطبقة العاملة محددا مراقبا وان ننظر إليها وكأننا لسنا منها وليست منا.
نحن جزء من الطبقة العاملة. فالاشتراكيون الصادقون يعتبرون أنفسهم جزءا من هذه الطبقة. الحكم الاشتراكي هو حكم منحاز الى الطبقة العاملة، ينظر الى إمكانياتها في المستقبل، أكثر مما ينظر الى نواقصها في الحاضر، وينظر إلى ما يمكن أن تعطيه وما يمكن أن تخلقه وتبدعه في حياة الأمة وفي معركة المصير، أكثر مما يمكن أن تقع فيه من أخطاء في الممارسة وفي الجزئيات والتفصيلات.
هذا هو التصحيح الحاسم الجذري الذي يطلب منه أن يطبع حياتنا وعملنا في السنوات العشر المقبلة، لتكون ثروتنا ثورة عميقة وصحيحة وقادرة أن تتكافأ مع وسائل الأعداء، ومع ما للأعداء من وسائل هائلة يضعونها كعوائق في طريق نهضتنا.
هذه القفزة هي ان تتغير النظرة إلى الطبقة العاملة والطبقات الكادحة، بان يُعترف بحقوقها أولا وتطالب بواجباتها ثانيا. والطبقة العاملة تدرك مسؤولياتها التاريخية فهي لا تطالب بمكتسبات من اجل الرفاه ومن اجل الاستمتاع ومن اجل العيش المادي فحسب، بل لأنها بغريزتها وبوعيها الجديد تدرك بأنها هي أساس هذا الوطن، هي أساس هذه الأمة وأنها هي التي ستنزل إلى الشارع، وهي التي ستذهب الى الجبهة في يوم الشدة ويوم الخطر، منها المحاربون منها المقاتلون، وهي في أوقات السلم تبني بعرقها وجهدها هذه الخطوات والمشاريع لتنمية البلاد وتصنيعها والانتقال بها من التخلف إلى الرقي والحضارة.
لا أقول هذا لكي يغتر العمال ويزدادوا تعنتا. كلا، ولا اصدق ان الغرور يعرف طريقا إلى طبقاتنا الشعبية . فالطبقات الشعبية هي الطبقات الحانية على هذا الوطن، المحبة لهذه الأرض، وهي التي تضحي بصمت، تؤمن بالقيم الوطنية والإنسانية، أكثر من إيمانها بلقمة الخبز التي تسعى وراءها، أنها في أعماقها تضحي حتى بهذه اللقمة عندما تجد وطنها مهددا، فهي ليست بحاجة إلى نصح ووعظ.. النصح والوعظ يجب ان يوجها إلى الطبقات التي لا تقدر في أي ظرف نحن، ولا تقدر بأننا مهددون في وجودنا كأمة ولا تقدر بالتالي بان الوقت وقت حرمان وتقشف، وإعداد للمعركة وتهيئة لجو المعركة وان ما يجب أن يوفر للطبقات الشعبية ليس ترف، وليس منحة، وإنما وسيلة لكي تستطيع ان تبني الوطن وتدافع عنه.
وعي الطبقة العاملة
الطبقة العاملة بحكم وضعها الاجتماعي، بحكم وعيها الثوري، وبحكم وعيها الاشتراكي، تدرك أكثر من غيرها متطلبات الظرف الجديد، وتعرف بأننا مقبلون على سنين عصيبة قاسية، سنُمتحن فيها في كفاءتنا على البقاء، في كفاءة الأمة العربية، هل تستطيع أن تدافع عن بقائها بالسلاح وبالذكاء، بالقتال وبالبناء، برفض التخلف بكل صوره وأشكاله والدخول دفعة واحدة إلى عالم النور والحضارة، إلى الحياة المنظمة، إلى الحياة المبدعة التي تطلق مواهب الإنسان بدلا من ان تقتل فيه حيويته ونوازع الخير والخلق فيه.
في مشاكلنا الداخلية، وفي علاقاتنا الخارجية، وفي روابطنا القومية تختلف الصورة تماما، بين ان يكون الدور الأساسي للطبقات الكادحة وفي طليعتها الطبقة العاملة وبين أن تكون هذه الطبقات معزولة عن القيادة، معزولة عن المشاركة. الطبقات الكادحة إنسانية بطبيعتها، بغريزتها، بتجربتها اليومية، مؤمنة بالتآخي بين الشعوب.
الوحدة المقاتلة
هذه هي الصورة التي يجب ان تعطى عن ثورتنا الى العالم الخارجي، الثورة التي يبنيها العمال والفلاحون في روابطنا القومية، في أعز هدف علينا، في هدف الوحدة العربية، في الهدف الذي ما زال يتعثر عشرات السنين، ننادي به، ونحنّ إلى تحقيقه، ثم يتلاشى كالسراب من امامنا لأن الوحدة العربية لا يبنيها إلا الكادحون. لان الوحدة العربية كانت وهي اليوم أكثر من أي وقت مضى، اكبر خطر على الاستعمار والصهيونية وعلى الرجعية العربية لأنها توفر لامتنا من القوة، من الوسائل، من التكامل الاقتصادي، من الحشد البشري النضالي، ما تتضاءل أمامه قوى الاستعمار والصهيونية وكل قوى الاستغلال والرجعية. ولذلك فهم يقاومون الوحدة العربية.
ولن تتحقق الوحدة العربية إلا إذا كانت وحدة مقاتلة يكون فيها الشعب بأكثريته الساحقة مسلحا يدافع عنها بالسلاح، والا اذا كانت وحدة من اجل تحرير أرضنا المغتصبة. ان الاستعمار والصهيونية لن يتركونا -24 ساعة– متوحدين. إذا ما حققنا بمعجزة من المعجزات وحدة بين قطرين أو أكثر فكل قوى البغي والاستعمار سيتنادون وينزلون بنا حمم الجحيم لمنع هذا الخطر. فالوحدة لن تكون الا وحدة مسلحة، وحدة مهاجمة، وحدة من اجل دخول المعركة.
والطبقة العاملة تدرك وتخلص للقضية الوطنية كل الإخلاص ولا مجال للشك في وعيها وإخلاصها في العمل السياسي، في العمل الاجتماعي، ولكن هل تستطيع فئة واحدة ان تواجه المهام والصعوبات والأخطار في هذه المرحلة الحاسمة في هذه المرحلة العصيبة؟. كلا.
لا انفراد ولا استئثار
ان من أمراض الفترة السابقة، السنين التي سبقت حرب حزيران ذلك الاستئثار والغرور، ذلك الضيق والتعصب الذي كان يوهم الأنظمة والأحزاب بأن واحدا منها يستطيع ان يدير الارض كلها ويحكم العالم وان يدبر ويقرر دون مشاركة احد، بل بمخاصمة الجميع، وجاءت الحرب، وجاءت النكسة، لتعطي الدرس البليغ بان العمل الثوري لا يعني الانفراد والاستئثار.
وفي هذه المرحلة بالذات، يجب أن نحقق درس التعاون ودرس الانفتاح على مختلف فئات الوطن، شريطة أن تكون مخلصة في وطنيتها، مخلصة في عدائها للاستعمار والصهيونية وان تكون مؤمنة بالأهداف التقدمية.
ولقد خطونا خطوات في هذا السبيل، خطوات جيدة، محمودة، ولكن لا بد أن نكملها بجرأة، وان يتم التعاون والتلاقي بين فئات هذا الشعب، بين عناصر هذا الوطن، وان يسود التآخي بين العرب والأكراد بصورة خاصة فلقد كانوا إخوة في تاريخ طويل، وليس من صنعهم ولا من صنع الوطن أن يختلفوا. لقد كان الاختلاف مدسوسا، ومصطنعا، مفتعلا من الاستعمار الأجنبي، ويجب ان نتغلب على هذه الافتعالات، أن يتحقق التآخي تحت شعار الوطنية والتقدمية والدفاع ضد الاستعمار والصهيونية.
طابع المرحلة المقبلة
ايها الاخوة
أقول بقناعة، بان طابع المرحلة المقبلة والمعيار لصحة سيرنا وسلامة نهجنا هي أن نرى الطبقة العاملة آخذة دورها التاريخي في الثورة العربية. لم يعد جائزا ان ننادي بالاشتراكية وننادي بالقومية وننادي بالتقدمية وان نكون أوصياء على الطبقة الكادحة العاملة، بل ينبغي على الفئات الثورية من المثقفين الذين اخلصوا لأهداف الثورة العربية ولمصلحة الطبقة العاملة والطبقات الكادحة، وتفهموا بوعي دور هذه الطبقة الأساس، أن يضعوا يدهم بيد الطبقة العاملة وان يشركوها إشراكا فعليا في المسؤولية وان تكون المرحلة الجديدة متميزة بهذا النفس الشعبي الطيب الصادق، المنبعث من أعماق أرضنا الطيبة، المنبعث من أعماق الآلام التي عاناها شعبنا طوال قرون، المنبعث من الأمل والتفاؤل الذي يشعر به، لأنه شعب كبير، وشعب حي قوي لا يستسلم لليأس ولا للهزيمة بل يريد الحياة وسيبرهن على جدارته بالحياة.
تشرين الثاني1969
(1) حديث في العمال والنقابيين في بغداد.
—————————————
نداء المسؤولية التأريخية
المعركة المصيرية التي تواجهها أمتنا العربية تحتاج إلى كل قدرات وطاقات هذه الأمة. تلك حقيقة تقع في منزلة البديهيات. ولكن البداية الطبيعية لهذا الحشد والتوحيد لطاقات الأمة العربية تتلخص في المرحلة الراهنة وتتركز في إتحاد جماهير الأقطار المحيطة بإسرائيل وهي: مصر والعراق وسورية.
هذا ما يؤكده ويمليه منطق الوحدة المتجهة إلى المعركة. فإتحاد الأقطار الثلاثة هو الإتحاد الذي يصح أن يسمى إتحادا ثلاثيا، لأن كلا من أقطاره الثلاثة يشكل ركنا أساسيا لا يستقيم الإتحاد من دونه. فهو ليس إتحادا رقميا كميا، وليس مجرد امتداد جغرافي بعيد عن مواجهة إسرائيل. وهو لا يمكن أن يكون إتحادا محوريا يتجاهل قطرا رئيسيا ويضع التناقضات الثانوية في منزلة التناقض الأساسي مع العدو. وهو أخيرا لا يمكن أن يكون صيغة وحدوية شكلية ليست مقصودة بذاتها، أو وسيلة لتمرير حلول إستسلامية. بل إن هذا الإتحاد الثلاثي لا يمكن أن يكون في هذا الظرف إلا إتحادا نوعيا. وأن يكون الأساس لكل مواجهة جدية للعدو. فهو الذي يستطيع بالقوة التي يحشدها، ليس فقط أن يتكافأ مع متطلبات المعركة، بل هو الذي يستطيع بما يتوافر له من عناصر السلامة والإيجابية، أن يخلق الثقة في جماهير بقية الأقطار العربية. فتعود إليها ثقتها بالوحدة العربية، لأنها تدرك إن جهودها سوف تثمر إذا ما انضافت وانصبت في هذه البداية الطبيعية السليمة.
ولكن نظرة الى الواقع العربي الراهن، ترينا إن هذا الذي نقوله ونتمناه، يكاد يكون أقرب إلى الحلم منه إلى الحقيقة وفي هذه المفارقة وحدها ما يكفي لفضح أمراض وتناقضات مستوطنة في جسم الثورة العربية. إن لم تكشف اليوم وتحلل بصراحة ووضوح وبروح إيجابية، فقد تفوّت الأمة العربية فرصة تأريخية ثمينة.
لقد ظلت هذه الأمراض تفعل في هذا الجسم وتخرب سنين طويلة حتى كادت قوى الثورة العربية تصبح نقيض حقيقتها، ويصبح عملها وخط سيرها مخالفا لطبيعتها، بل ولكل شيء طبيعي في حياة الثورة العربية.
إذ كيف يمكن أن يقوم في بلدين متصلين نظامان يقولان بالإنتماء إلى حركة ثورية واحدة، هي حزب البعث العربي الاشتراكي، ويستمران في تغليب التناقضات الفرعية والثانوية على مواجهة العدو، تلك التناقضات التي لا يجوز أن توضع في مستوى الأخطار المهددة لمصير الأمة. فالواضح والأكيد بعد هذه التجارب الطويلة المتكررة، أن إرادة الفرقة والتجزئة والتناحر هي الأصل والأساس، وإن التبريرات العقائدية والسياسية تأتي لتستر وتغلف هذه الإرادة.
ثم ما الذي كان وما زال يدفع بالحركة الناصرية إلى معاداة حزب البعث، وما الذي يقيم بين سوريا والعراق ومصر الفروق والحواجز المتعددة المظاهر والنسب، في حين أن أفكارا وأهدافا واحدة تجمع حزب البعث والحركة الناصرية، وأن الجماهير العربية، قبل أن تقع فريسة للتضليل الإعلامي، كانت من قبل وحدة 1958 وأثناءها، تنظر بحدسها الصافي إلى هاتين الحركتين على أنهما حركة واحدة.
وكيف يمكن لعربي مخلص أن يعتبر إرادة الإنقسام والتجزئة والتناحر إرادة عربية وطنية وأن ينزهها عن التخطيط الأجنبي المعادي.
لقد مرت سنون وسنون على هذا التمزق، والجماهير العربية تخضع مرغمة لمخططات الفرقة والإنقسام على غير قناعة أو حماسة، لأنه كان يطلب إليها أن ترى الإختلاف حيث التوافق والتكامل والوحدة، وأن تستسلم لهذا الواقع الشاذ المناقض لطبيعة المنطق والأشياء، فلا تستفيق إلا على صدمة النكسات والهزائم لتلمح في ضوء ما ينتج عن النكسة من صحو في العقل والضمير، بطلان ذلك الإنقسام المصطنع، كما تلمح طريق الخلاص في الوحدة والتوحيد، وفي استرداد الإرادة السلبية والتحرر من تأثيرات المخططات اللاوطنية المتعارضة مع الخط الطبيعي لمسيرة الثورة العربية.
فما هي العوامل والمؤثرات التي سلبت الأمة العربية إرادتها حتى أمست تسير وفق ما يخططه لها أعداؤها من إستعماريين وصهاينة؟ ومن الذي أراد أن يكون حزب البعث، حزب الوحدة والجماهير والتراث العربي والحضارة العربية سجين الأطر القطرية والطائفية وأسير الواقع الذي جاء لتبديله وتغييره؟ ومن الذي خطط أن يكون هذا الحزب التاريخي على هذه الصورة؟ ثم من الذي فرض التحريم على علاقة الحركة الناصرية بحزب البعث، ودفع إلى رفع شعار (لا وحدة مع حزب البعث) وإلى مهادنة القوى والأنظمة الرجعية، في وقت لم يكن قد مضى عامان على نكسة الإنفصال ودرسها المرير الذي كشف عن مسؤولية إنقسام قوى الثورة العربية في إعطاء فرص للاستعمار والصهيونية والرجعية لتضرب الوحدة. ومن قال ان حزب البعث العربي الإشتراكي هو نقيض الحركة الناصرية؟ وهو الذي التقى مع هذه الحركة التقاء تأريخيا على طريق الكفاح ضد الإستعمار وأحلافه ومشاريعه، واستطاع بالتعاون معها أن يحبط تلك الأحلاف والمشاريع الاستعمارية، والتقى بها في عمل تاريخي رائد في أول تجربة للوحدة العربية في هذا العصر، تلك التجربة التي كان طريقها الطبيعي أن تصل إلى معركة تحرير فلسطين. ولكن الإستعمار والصهيونية اللذين كانا يدركان خطر هذه الوحدة، ويعرفان طبيعتها النضالية التحررية وضعا كل ما يملكان من وسائل ودهاء وجهد لتخريبها من داخلها وللتفريق بين القوتين الثوريتين اللتين صنعتاها.
ولما تغلب حزب البعث، رغم ما أصابه من تمزق على وضع الانفصال وطرح مشروع الوحدة الثلاثية (ميثاق17 نيسان) لتجديد الوحدة، كان لابد للإستعمار والصهيونية أن يبذلا جهودا جديدة لاستعداء الحركة الناصرية على حزب البعث، ولمحاولة لغم الحزب من الداخل بأخبث الأساليب التي تستعير لغة الثورة وشعاراتها، حتى ضرب الحزب نفسه باسم اليسار واليمين، وحيل بين الحزب وبين الإلتقاء من جديد بالجماهير العربية في مصر التقاء يقطع الطريق على مخططات التجزئة والإنقسام والتناحر والتنافس السلبي. ولا زالت اللعبة مستمرة لا تجد من يستنكرها ويفضحها.
ولقد نشأت جماعات وفئات وتكتلات، وجدت في هذه الإنقسامات مورد رزقها ووسيلة لبلوغ السلطة والظهور وتمثيل الأدوار، حتى أصبح الإنقسام في داخل حزب البعث تجارة واسعة رابحة مضمونة النجاح تغري حتى العاديين والمغمورين، لأن قوى خفية ضخمة تمد يد العون والتشجيع لكل من يتعاطاها. كما أصبحت لعبة المحاور ومعركة المحاور مظهرا دائما للعلاقة بين القوتين الرئيسيتين للثورة العربية، وأصبحت ممارسة هذه اللعبة سهلة مستمرأة لأنها تلقى التشجيع والترحيب والدعم من جميع الجهات التي تخطط للإيقاع بالثورة العربية والقضاء عليها، ولأن معركة المحاور لا تحتاج إلى جيوش ولا إلى تضحيات ولا إلى مشقة، بل تشكل مسرحا لتمثيل أدوار المزايدة اللفظية المخربة، أو لتحويل الأنظار عن مواقع التردي والإستسلام للمخططات الاجنبية.
ولكننا على أبواب مرحلة جديدة أخذت تباشيرها تظهر وتتجسد، ويسقط معها التضليل والتزييف وأصنام التزييف الذين جردوا أقلامهم ووضعوا حقدهم في وجه كل صيحة مخلصة وموقف شريف طيلة المرحلة السابقة. وأخذت تنقشع الغشاوات وينفتح الطريق واسعا غير محدود لتفجر طاقات الأمة العربية ونضال جماهيرها، وتظهر في بعض الأقطار معالم انفجار شعبي ذي دلالات واسعة يحتاج إلى أعلى المستويات القيادية والتجرد القومي حتى يتكافأ معه ويكون جديرا بقيادته.
إن هذه المرحلة تشير بإصبع الاتهام إلى الذين ما زالوا يمارسون لعبة الإنقسام ويتاجرون بالخلافات وسياسة المحاور تحت شتى الحجج والإدعاءات.
فالأمة في ساعات اليأس والخطر البالغ تسترد إرادتها السليبة ووعيها الصافي السليم، إرادة البقاء والتقدم الكامنة في جماهيرها الواسعة الكادحة التي تدفع باستمرار ثمن النكسات والهزائم والمؤامرات والمخططات الأجنبية، والتي ترفض اليوم ما حولها وتصمم على النضال وعلى تبديل الواقع.
إن هذه الجماهير العربية الكادحة التي لا تستطيع أن تشتريها الحكومات بالمال، ولم يعد للتضليل الإعلامي تأثيرا عليها، والتي تشكل القواعد الشريفة البريئة للحركة الناصرية ولحزب البعث العربي الاشتراكي ولباقي القوى الوطنية والتقدمية، طليعتها المناضلة، سوف تضع حدا للعب بمصائرها أمام اقتراب المعركة المصيرية، وسوف تفرض الوحدة والتوحيد على فصائل الثورة العربية من أجل دخول المعركة التي هي قدر الأمة في هذه المرحلة، دخولا يضمن لها النجاح والنصر.
فالأنظمة لن تستطيع بعد اليوم أن تهرب من عجزها الى الإدعاء، ولا من النقد الذاتي إلى النقد والتجريح، ولا من الحقائق إلى الشعارات، ولا من الاستسلام للمخططات الأجنبية ولواقع التجزئة إلى المحورية البعيدة عن هدف المواجهة للعدو وعن هدف التحرير. لأن القواعد الوحدوية المناضلة في الحركة الناصرية وفي البعث وفي المقاومة المسلحة وفي جميع المنظمات القومية والتقدمية المناضلة، وجماهير الأمة الكادحة الثائرة، سوف تكون لها بالمرصاد.
إن هذه القواعد المناضلة مدعوة اليوم إلى الإرتقاء فوق التصنيفات الاصطلاحية، وإلى استنشاق هواء المعركة المصيرية، هواء النظرة الموضوعية لخلق جو ثوري جديد، ولبناء القاعدة الصلبة للثورة العربية التي تقضي على الإستسلام والتجزئة وتفرض الوحدة والتحرير.
فليس بغير هذا التجديد لمناخ النضال وتنقيته من كل ما لحق به من شوائب مصطنعة ومن تزييف، وليس في غير هذا الظرف تستطيع هذه القواعد أن تفرض إرادتها على القيادات وإن تلتقي على صعيد التلبية الحارة لنداء مسؤوليتها القومية وواجبها التأريخي.
عام 1970
——————-
حول مقال نداء المسؤولية التاريخية
أيها الرفاق
لقد نبعت فكرة المقال من الفترة العصيبة التي تجتازها الأمة العربية، فترة ضياع وتشتت ويأس يزداد يوما بعد يوم وكأن هناك مخططا معاديا لكي يخدر الشعب العربي ويوقعه تحت شعور العجز التام واليأس من نفسه.
في هذا الجو يستيقظ الحس التاريخي في الحزب، والدور الأصيل للحزب يعود ليفرض نفسه بإلحاح على ضمائر المناضلين وعقولهم: هل انتهى الحزب؟
هل تسري عليه هو أيضا نفس قوانين اليأس والعجز والضياع ويكون من بين المستسلمين والمتفرجين على عجزهم وعلى ذلهم، أو أنه، لما له من نظرة قومية شاملة، بما له من ماض طويل، يشعر انه ما زال قادرا على أن يقول كلمته وان يلعب دوره متجها إلى المستقبل متحللا من شتى القيود الاصطلاحية والآفاق الضيقة ولو بشيء من القسوة على النفس وبتوجيه اللوم والتعنيف للنفس، والرجوع إلى الأفكار والمبادئ الأساسية للحزب، والرجوع إلى عفوية الشعب بالوقت ذاته أو كشيء واحد، أي أن الرجوع إلى المبادئ الأساسية هي مثل الرجوع إلى عفوية الشعب.
هل نستسلم؟ أم نقاوم مؤمنين وواثقين بقدرات امتنا اللامحدودة على المقاومة والصمود؟
وهذا يجب ان يبقى أيضا ضمن صيغ واقعية وان لا يتميع في أحلام واسعة وسائبة.
فمن أرض المعركة، من موطن الخطر، يجب أن نستخرج الصيغة الواقعية العملية لتكون بداية الانطلاق البداية الناجحة المشجعة حتى تتحرك القوى العربية في الأقطار العربية البعيدة وترفد هذه البداية وتكملها.
كيف نستطيع إذن أن نجند نواة قوة جدية للمواجهة، لمواجهة إسرائيل؟ هناك إذن الأقطار الأساسية واضحة: مصر والعراق وسوريا.
فلماذا إذن هذا الشيء البديهي في ضمير الشعب وتفكيره، لماذا هذا الشيء كاد يصبح ابعد شيء عن التصديق، أي أن تجتمع هذه الأقطار الثلاثة؟
لان هناك مؤامرة كبيرة وقديمة، وحزبنا يعيشها من الداخل واقدر من أي فئة في الوطن العربي على كشفها وفضحها وبالتالي تحطيم هذه العقبات التي كانت توضع دائما لمنع وحدة الأقطار الثلاثة.
فكان لا بد إذن من التفاتة إلى الماضي، التفاتة إلى الوراء، إلى ماضي أكثر من عشر سنوات أو 12 سنة، إلى تاريخ قيام أول تجربة وحدوية الذي هو في الوقت ذاته تاريخ إحكام اكبر مؤامرة استعمارية صهيونية، لم تكن المؤامرة الأولى ولكنها حلقة جديدة وضخمة تتناسب مع القفزة التي حققتها الأمة العربية في ذلك التاريخ من بعد جملة انتصارات تتالت في أعوام قليلة وتوجت بقيام الوحدة بين سوريا ومصر.
ضخامة هذه المؤامرة وخبثها يتمثل في أنها لغم للثورة العربية من داخلها، بزرع بذور الانقسام والتناحر فيما بين قواها الرئيسية.
ولان الاستعمار والصهيونية تقديرا لخطر نجاح الثورة العربية ولخطر تحقق الوحدة العربية على وجودهم، وضعا كل إمكانياتهم ودهائهم وأحدث أساليب التخريب في تلك المؤامرة، ولكن الثورة العربية من جهة أخرى غضة العود فيها ثغرات، وفيها سطحية، وفيها عاطفية أكثر مما فيها من الوعي العميق والتنظيم المتين، وفيها جملة تناقضات، كل هذا سهل أن تنـزلق بعض القوى الثورية العربية في مخططات الانقسام دون تقدير لكون هذا ما يرمي إليه الاستعمار والصهيونية، أي انزلاق دون وعي تام واضح لمرامي هذا المخطط.
إذن الدعوة إلى توحيد هذه القوى الأساسية كبداية للمواجهة، لمواجهة العدو ولمعركة التحرير من دون هذا النقد الذاتي، وهذا الرجوع إلى الماضي لتحليله وتوضيح تناقضاته وأسباب نكساته، وكل ما دخله من الإرادة الأجنبية والتخطيط الأجنبي، الدعوة هذه تبقى دعوة شكلية وفوقية وسطحية وعقيمة، أما أن تبقى بدون تنفيذ وان تصبح كمثل هذه الدعوات والمشروعات التي تقوم من اتحادات لا تبنى على أساس جدي عميق ومتين من الوحدة الحقيقية بين الجماهير، وحدة تقوم على أنقاض الرواسب والحواجز المصطنعة والأحقاد والخلافات التي افتعلها الأعداء.
إذن الدعوة منطلقة أساسا من جواب على سؤال مصيري:
هل نستسلم أم نقاوم؟ هل نيأس أم نؤمن بإمكانية النصر؟
وبعد هذا الجواب من الطبيعي أن نعتبر أن حزبنا هو القوة الثورية المؤهلة أن تقود وان تتبنى هذه الدعوة، وان تتوجه بثقة بالنفس وثقة بالأمة، تتوجه إلى القوى الأخرى التي لا بد من إشراكها إذا كنا مصممين على خوض المعركة.
ولا يمكن أن نجد سبيلا إلى عقول جماهير هذه القوى وقلوبها إذا لم ننطلق من التجرد الكامل والنزاهة التامة والإرادة المؤمنة فلا نميز أنفسنا عنها ولا نتجاهل قسطنا من الخطأ بل نتكلم بلغة الجماهير العفوية وبنظرتها التي لا تقر الخلافات مهما كانت وجاهتها أمام خطر الغزو الاستعماري الصهيوني المدمر لوجود الأمة.
هذه اللغة التي هي لغة الشعب، لغة الجماهير، لا بد أن تصدم العادات المألوفة والتفكير العادي والعقليات والمصالح، ولكن ليس غير هذه اللغة قادرا أن يعبر عن الحاجات العميقة بهذا الظرف وان ينقل القوى الثورية إلى المناخ الثوري الحقيقي.
هذه الدعوة إذن، لئن تضمنت قسوة على أنفسنا كحزب فهذا هو الثمن والشرط الضروري لكي يبقى للحزب دور تاريخي، ولكي يبقى له حق القيادة وحق التوجيه إلى القوى الأخرى وتحريكها وتوحيدها.
والمفروض انه إذا أدرك الحزب مرامي هذه الدعوة، وارتفع إلى مستواها، المفروض فيه أن يرى فيها مصلحته العميقة وسبيل استمراره كقوة من قوى المستقبل، ما دامت القوى الأخرى لم تبرهن على نفس الدرجة من التجرد والوعي والثقة بالنفس حتى تبادر إلى مثل هذا الموقف أو مثل هذه الدعوة.
طبيعي أن المقصود بالدعوة هي الجماهير وليست الأنظمة والمقصود بصورة خاصة من الحركة الناصرية هي الجماهير العربية في مصر لان حزبنا يتميز بأنه يدرك أهمية مصر ولا يتصرف بردود الأفعال.
فمصر فيها مفارقات، فيها أعلى مستوى علمي وحضاري وصناعي بالنسبة إلى الأقطار العربية الكبرى، وفيها اكبر كتلة بشرية من جهة وهي حديثة العهد بالوعي العربي ومتخلفة بأمور أخرى، إذا قيست بلبنان والعراق وسوريا تظهر متخلفة في بعض الأشياء الأساسية التي تدخل في صميم العمل الثوري العربي.
فلا بد أن تدخلها حركتنا ولا بد أن تتفاعل معها، وإذا عرفنا كيف هي العقلية في مصر، عقلية الطبقة المثقفة التي تعد بالألوف، هذه الطبقة القابضة على زمام التوجيه، وهي عقلية الاعتداد وعقلية الاستعلاء والاكتفاء بالذات وعدم التصور بان شيئا يمكن أن يأتي من خارج مصر. لا بد إذن أن نجد الأسلوب المناسب، أن نزيل هذه الحواجز النفسية ولو اقتضى الأمر حدا كبيرا من المرونة حتى يتحقق هذا الانفتاح.
لا يمكن أن ننتظر حتى يأتي الآخرون إلينا، لا يمكن أن ننتظر الآخرين حتى يدخلوا المعركة، نحن يجب أن نبدأ، وان ندرك مسؤولياتنا، يجب أن نبادر.
نحن نتوجه إلى الجماهير والى الفئات الواعية والبعيدة عن الانتهازية وعن المصلحية، القريبة من مصلحة الطبقة الشعبية، هذه تدرك بان مواجهة المعركة المصيرية لا تكون إلا بالوحدة، وبالوحدة الجماهيرية الواسعة. وبالتالي الإلحاح على أسباب الفرقة والاختلاف في هذا الظرف ليس إلا حجة من اجل التهرب من المعركة. افتعال المحاور والخلافات بين الأقطار والحكومات ومع حزب البعث بصورة خاصة. تذكرون كيف في وقت الموافقة على مشروع روجرز افتعلت حملة على الحزب ربما كان القصد منها أن يعودوا إلى المهاترات التي عرفناها في عامي 1963، 1964.
هذا مفهوم، إنها ذرائع لتحجب عن الجماهير الطريق السوي الطبيعي لمقاومة العدو.
الطريق الطبيعي هو في الوحدة العربية، وحدة للتحرير، وحدة لدخول المعركة، وحدة الجماهير المسلحة المقاتلة، فالأنظمة التي تخاف من الجماهير والتي لا تسلح الجماهير، لا تستطيع أن تدخل في معركة مع العدو، وبالتالي تحتاج إلى أن تتستر وان تلقي التبعة على غيرها.
إذن فان حزبنا لا يستطيع أن يتخلف وان يستعمل نفس الأسلوب بان يلقي التبعة على غيره، وإلا سقط في عداد الحركات نصف الثورية وهبط إلى مستوى الأنظمة القطرية العادية.
فإذا كانت هناك مسؤولية تاريخية كيف يجوز للحزب أن يدير ظهره لها؟ أن يتجاهلها؟ فإذا تجاهلها، فان التاريخ يتجاهله، ولا أقول بان مجرد الدعوة للوحدة العربية ولدخول المعركة سيحقق هذه الغاية وان الوحدة ستتحقق وسندخل معركة التحرير.
كلا.. ولكن يجب أن نبدأ، أن نحرك الجو.. هنا دعوة إلى شعب مهدد بوجوده أن ينتبه، دعوة إلى الضمير والعقل، أن يصحو في ساعات الخطر ودعوة من حزب يقول عن نفسه انه حزب الوحدة العربية، حتى عندما يحمّل الحزب نفسه جزءا من الأخطاء والنقد الذاتي فان هذا يجعل كلامه مسموعا لدى الآخرين، فينظر إليه بأنه موضوعي متجرد علمي صادق وانه لا ينشد المزايدة أو الاستغلال أو تسجيل التقصير على الآخرين أو أي شيء من هذا النوع. هذه دعوة إلى الشعب، إلى الجماهير، إلى الأفراد الواعين، المتجردين، المتحسسين بالمسؤولية التاريخية وهم موجودون في امتنا وفي كل قطر.
أيها الرفاق:
إن هذا المقال هو حلقة في سلسلة طويلة وكم كنت أتمنى لو كانت أطول بكثير مما هي، أي أن أتمكن أنا وكثيرون غيري من الرفاق أن يكتبوا في هذا المجال منذ سنين، أي أن يوضحوا ويفضحوا أبعاد مؤامرة كبرى على حزب البعث، وهي مؤامرة على الثورة العربية ولا تقتصر على الحزب. مؤامرة بدأت بالكشف عنها للرأي العام الحزبي والشعبي من قبل 23شباط، منذ عام 64 حتى الآن في كتابات وأحاديث في مؤتمرات الحزب وفي بعض مناسبات عامة في سوريا وفي ندوات مع القواعد قليلة، لأنه لم يكن ذلك ميسورا دوما. كانت تقوم صعوبات جمة في وجه لقائي مع القواعد ولو راجعتم هذه المقالات والأحاديث التي جمعت في كتاب “نقطة البداية” وهي ليست كل شيء، لان أكثر الأحاديث والكلمات التي ألقيت في سوريا بين عامي 64 و66 غير متوافرة وليست في متناول اليد، لوجدتم أنها كلها تدور حول هذه الأشياء، أي أن هناك مؤامرة يجب فضحها ويجب أن يلجأ الحزب إلى الجماهير يصارحها ويشركها في قضيته وفي المحنة التي يتعرض لها باستمرار. عندئذ سيجد العون الكبير من الجماهير.
كانت تطغى عوامل عدة ومنها هذا الاعتبار، إن ما يجري في الحزب يجب أن يبقى ضمن جدران الحزب لان ذلك غير مألوف، ولان ذلك يضعف الحزب عندما يكشف الخلافات والأشياء الداخلية لان أعداء الحزب يستغلون ذلك.
لكن قناعتي كانت دوما أن الفوائد من هذه المصارحة وهذا الكشف هي أضعاف الخسائر والأضرار وهذه بالأصل النظرة الثورية التي ولد منها الحزب.
وأظن أن كل حزب ثوري يولد هكذا لأنه عندما نعلن للشعب هذه الأخطاء سيسمعها الاستعمار والصهيونية، ولكن عندما نقرر أن نعلن أفكارنا للشعب فإننا ننطلق من الإيمان بان الشعب بتفاعله مع هذا الفكر يتمكن من ضرب الأعداء ويفوّت عليهم استغلالهم ومؤامراتهم.
فالأعداء سيعملون كل ما في وسعهم لإحباط هذه الحركة والتآمر عليها، ولكن عندما نمضي في طريق إعلان أفكارنا للشعب نكون قد آمنا بان اعتناق الشعب لها اقوي من تخريب الاستعمار والرجعية والأعداء، وإلا لكان أسلوب الجمعيات الباطنية والسرية هو الأسلوب الصحيح.
المؤامرة أيها الرفاق هي تشويه هذا الحزب تشويها كاملا إلى حد إيصاله إلى نقيضه.
المؤامرة أرادت تحويل الحزب من حزب الجماهير الواسعة إلى حزب القلة القليلة الضيقة الحاقدة المتشنجة.
من حزب التراث العربي إلى حزب الطوائف والأقليات، من حزب القيم الإنسانية إلى حزب القمع، من حزب الوحدة والوحدويين إلى حزب الانفصاليين والإقليميين.. لقد بدأت هذه الصورة تعطى عن الحزب بعد عام 63 حين صوروه في الأجهزة الإعلامية بأنه حزب فاشي، حزب القمع والإجرام.
إن هذه المؤامرة إذا لم نكشفها لقواعد الحزب وللشعب ستبقى مسيطرة على أذهان الجماهير وأذهان القواعد، وحين تكوّن الجماهير فكرة معينة عن حزب البعث يستحيل أن تسير قواعد الحزب في صورة مختلفة. الجماهير هي المناخ الطبيعي والمجال الحيوي لعمل قواعد الحزب.
فإذا كان عند الجماهير صورة مشوهة عن الحزب فعمل الحزب بينها يصبح عبثا.
يجب أن يكشف الحزب هذا التشويه التاريخي بعملية مصارحة موضوعية ونزيهة، بهذا يكون قد فتح لنفسه طريقا جديدا بعدما كادت السبل تسد في وجه رسالته.
يجب أن نعيد الصورة الأصلية للحزب، هذا حزب الوحدة حزب التراث العربي، هذا حزب العروبة الإنسانية، لا نتساهل في هذه الصفات بأي شكل من الأشكال، لا نقبل أن يتقوقع حزبنا فيأخذ شكلا منفرا وحاقدا ومبغوضا من الجماهير الواسعة..
فالحزب وجد للشعب وليس العكس..
والثورة وجدت للشعب وليس العكس..
فالمسالة إذن ليست جديدة، وإنما هي محاولة قديمة ومستمرة، وكل أملي أن يتبناها الحزب ويساهم فيها ولا تبقى على جهد فرد واحد.
عام 1970
——————————————
البعث أمام تجاربه ومهامه الكبرى
إن بعض الأجواء النقدية السلبية التي تمر خلال الندوات الحزبية ظاهرة مألوفة دائما في هذا الحزب فهي من طبيعة الأحزاب الثورية وهي من طبيعة الأحزاب الأصلية التي تؤمن بحرية الرأي وتؤمن بأن النضال هو وليد الحرية، وليد الشعور بالمسؤولية، فإذا انتفت الحرية ضعف النضال وتلاشى.
أيها الرفاق
في حزبنا كما في مجتمعنا وأجزاء وطننا أمور سلبية كثيرة، عوائق مصطنعة رواسب من الماضي. مهمة الحزب أن يناضل لينقذ ويخلص نفسه والمجتمع العربي منها. وأكبر العوائق وآفة الآفات هي التجزئة في وطننا العربي ثم الأوضاع الجائرة المفروضة على كثير من أقطاره نتيجة النفوذ الاستعماري الذي هو نتيجة لضعف المجتمع وتخلفه، لوجود طبقات مستغلة متحكمة بحرية الشعب وبثروات البلاد ومقدراتها. ولئن كان حزبنا قد برهن على ثورية أصيلة عندما شق طريقا غير معبدة وغير مألوفة، طريق التنظيم القومي الواحد، ولئن كان قد حقق شيئا لا يستهان به، في ربع القرن الأخير من حياة الأمة العربية وخاصة على هذا الصعيد أي صعيد توحيد النضال، فان مسافات كبيرة ما تزال تفصله عن الهدف الذي يسعى إليه في أن تتحقق الوحدة فعلا، ليس في التنظيم فحسب وإنما في العقول والأفكار والمشاعر والعادات حتى يغدو المجتمع العربي مجتمعا موحدا متجانسا متآخيا متجاوبا. فإذا ألقينا أيها الرفاق نظرة هادئة على ما يطرح أحيانا في اجتماعاتنا وما يتخللها من آراء ومواقف غير متجانسة أدركنا أن مردها إلى التجزئة، إلى العوائق التي تحول دون التواصل، دون الإندماج، دون التفاعل بين أبناء الأمة الواحدة والوطن الواحد والحزب الواحد.
لقد لاحظت أن بعض الرفاق كان يركز على تجربة من تجارب الحزب والنصف الآخر يركز على تجربة أخرى من تجارب الحزب أي أن كل نصف كان معنيا بالدرجة الأولى بالتجربة القريبة منه التي عاشها وعاناها وذاق مرارتها وبالتالي نشأ عنده التصميم على ألا يقع مرة ثانية فيها.
حزبنا في العراق الذي كان دوما الحصن المنيع لفكرة البعث ولنضاله، هذا الحزب نشأ ونما وكبر في قطر من أهم أقطار العروبة، هو القطر الذي تدافع فيه العروبة منذ مئات السنين دفاعا يوميا عن وجودها، وقد ورث حزبنا هذه المهمة وحمل بالإضافة إلى دعوته الثورية والنضال من أجلها، حمل أيضا بالنسبة إلى ظروف هذا القطر مهمة الدفاع عن الوجود العربي المهدد بأبسط أشكاله وصوره.
لقد مرت على الحزب في العراق تجربة 18 تشرين وهي تجربة قاسية، وبالرغم من قسوتها ومن الإضطهاد والتنكيل اللذين تعرض لهما رفاقنا في هذا القطر فقد استطاعوا أن يصمدوا وأن يعودوا ليستلموا المسؤوليات القومية في أحرج الظروف فكان طبيعيا أن تنطبع ذكريات تلك التجربة في أذهانهم وذاكرتهم وأن يخرجوا منها بالدرس البليغ، وان يحاكموا الأمور بجدية ورصانة لأن النضال في هذا القطر بصورة خاصة نضال حياة أو موت، لذلك تطلب الروية والحكمة والواقعية عندما تعالج أمور الحزب.
وثمة تجربة أخرى عاشها حزبنا في سوريا هي التي أدت إلى نكسة 23 شباط وهي تجربة لا تقل عن الأولى في قسوتها وفي عنفها. أهم ما يميز التجربة التي انتهت إلى نكسة 18 تشرين في العراق هو تلك الطفولة السياسية الثورية التي ظهرت بين أفراد قيادة الحزب بعد 14 رمضان فجعلتهم يختلفون منذ الأسابيع الأولى، يختلفون على شيء لم يبدأوا بعد بتحقيقه، نسوا الحزب وانشغلوا بأنفسهم وأشخاصهم فعرضوا الحزب والحكم للضرب في 18 تشرين، في حين أن الذي يميز تجربة الحزب في سوريا، تلك التجربة التي انتهت بنكسة 23 شباط هو ان فئة متآمرة على الحزب كانت قد بيتت التآمر منذ الوقت الذي كان الحزب فيه منحل التنظيم واستغلت تلك الحالة وبيتت ان تستولي على الحزب وان تستفيد من حالة ضعفه. وأقول لكم بالمناسبة لأن احد الرفاق تعرض لهذه الناحية، ان الحزب ما كان ليتبنى انقلاب 8 آذار العسكري لولا سبقته 14 رمضان ولولا أنه كان يضع الأمل في تلك الحركة ويعتبرها الحركة الشعبية الأصيلة. ولم ينفرد الحزب في سوريا، ولا القيادة القومية في هذه النظرة بل شارك في ذلك الحزب في العراق وكان مستعجلا لتبني انقلاب آذار لكي يحمي الحكم نفسه في العراق. وكان رفاقنا في العراق يلحون في أن يتبنى الحزب ذلك الانقلاب وقد شاركوا منذ الأيام الأولى للانقلاب في الاجتماعات والمداولات أي أن الانقلاب وقع في الثامن من آذار والرفاق العراقيون وصلوا دمشق في الحادي عشر منه.
العظة من تجربة سوريا هي أن عددا من الأفراد العسكريين عرفت فيما بعد باللجنة العسكرية، وكان تشكيل هذه اللجنة يحمل طابعا خاصا وكانوا يعتمدون على تكتلات في الجيش وهكذا بدأوا ينفذون خطتهم في الاستيلاء على الحزب بتزييفه وبتصديع وبتحطيم قيمه ونضاله وكل مقوماته النضالية بينما لا يزال في بدء نشأته التنظيمية بعد أربع سنوات من حل التنظيم والضياع بنتيجة ذلك نشاهد الحزب قد تعرض الى ألوان من التآمر والتزييف والتسلط إلى أن أوصله كل ذلك إلى النكسة.
ثمة شيء آخر أيها الرفاق، ثمة ملاحظة يجدر بكم أن تراعوها. الحزب يتحمل مسؤولية الحكم في العراق وللمرة الثانية، والحزب تحمل ولو في ظروف وشروط مختلفة مسؤولية الحكم في سوريا ولو ظاهريا وأمام الرأي العام. وان تحمل مسؤولية الحكم توجب نوعا من الجدية والواقعية قد لا يقدرها الرفاق الذين يناضلون في منظمات لا تزال ظروفها بعيدة عن إمكانية استلام الحزب للحكم وأنا أقول بأن واجب الرفاق أن يعتبروا بان الحزب كله وليس فرعا له في قطر من الأقطار او في قطرين اثنين، حزب البعث كله أصبح في نظر الرأي العام العربي والعالمي منذ عشر سنوات على الأقل، أصبح حزبا حاكما أو مؤهلا لاستلام مسؤوليات الحكم، وهذه الملاحظة توحي بأن يتحرر الحزب والرفاق في المنظمات التي لا تزال تناضل نضالا سلبيا، أن يتحرروا من بقايا عقلية طفولية قد تمنعهم أحيانا من تقدير الأمور بالموازين الواقعية الدقيقة، كما ان الرفاق الذين يحملون مسؤولية الحكم يجب أن يرحبوا بالنفحة الثورية التي يحملها الرفاق من المنظمات الأخرى، النفحة المبدأية التي ليس لها إلا تفسير واحد هو الحرص والإخلاص للحزب بكل فروعه وخاصة في القطر الذي يتحمل مسؤوليات أكبر وأضخم. وكنت في كل الاجتماعات اشعر هذا الشعور بأن ليس وراء تلك الملاحظات إلا المحبة والحرص والتضامن.
إني متأكد أيها الرفاق بأنه ليس بين أعضاء حزبنا إلا من يريد لتجربة الحزب في العراق أن تنجح وان تقوى وان يقدم لها قسطه من الدعم والمعونة، ولكني اعرف أيضا بأن حزبنا الثوري الأصيل يزداد نموا ونضجا في نضاله وفي فكره ووعيه وفي تجربته القومية الإنسانية وانه يعرف ما هي طبيعة العمل الثوري ويحرص عليها وعلى شروطها ويعرف أن التعاون المجدي هو التعاون الذي يتم نتيجة التفاعل في لرأي والنضال والتجارب وهو الذي يتم من خلال نظام الحزب وقيمه وبمطلق الشعور بالمسؤولية والحرية. وان اي نوع آخر من التعاون يكون اقل جدوى واقل بكثير مما تطلبه الحاجات الراهنة في حزبنا وامتنا.
لاشك أن عملية التفاعل هي أصعب عملية ممكنة نظرا لواقع المجتمع العربي المتميز بالتجزئة المصطنعة ونظرا لواقع الحزب أيضا، لأن في الحزب فترات انقطاع وثغرات ونواقص أخرت إندماج مختلف الفروع بعضها ببعض وأخرت تجانس العقليات وتماثل المستويات الفكرية والنضالية. وأهم شيء في الحياة الحزبية هي الثقة بين المناضلين. ولكني أحرص على القول بأن الثقة –لأنها أثمن شيء في نظر المناضل ولأنها يمكن أن تثير فيه أعلى مواهبه وإمكانياته ليقدمها للنضال– هذه الثقة تأتي في الانفتاح، بأن ينفتح بعضنا على بعض، وان نعتبر بحقيقة نفسية أن الذي يبدأ الآخر بالثقة كثيرا ما يجعله بمجرد هذا الموقف جديرا بتلك الثقة. الثقة والكرامة أعز ما يتمسك به المناضل لأن المناضل قد قبل أن يتعرض لشتى الأخطار وان يعيش عيشة المناضلين فلا يبقى له عزاء في الحياة ودافع ومحرك إلا القيم المعنوية. وأكبر بلية تصيب حركة الثورة وتقضي عليها هي عندما يفقد هذا الجو، جو القيم المعنوية والثقة والمحبة والكرامة.
أيها الرفاق :
جدير بنا أن لا نكتفي بالنظرات السلبية وبرؤية الجوانب السلبية في حزبنا وفي مسيرته، صحيح أن هذا معبر عن المثالية والطموح إلى الكمال، ولكن النفس بحاجة أيضا إلى الاعتزاز والحماس والأمل والثقة بالنفس. واعتقد أن حزبا ثوريا في مجتمع متخلف صمد ثلاثين عاما وما زال يتابع سيره ونضاله وما يزال محط آمال قسم كبير من الجماهير العربية التي وصلت إليها دعوته وأخبار نضاله، هذا الحزب الذي صمد في فترة يصح أن تسمى تاريخية جدير أن يحرك في نفوسنا مشاعر الإعتزاز والأمل والثقة بالنفس.
أيها الرفاق :
أن حزبنا في العراق الذي هو حزب أصيل كما نعرف وبالتالي يتحرك ويتصرف بفكر الحزب القومي وبمنطقه وشموله يعرف مثل الرفاق الآخرين أن قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى وأن فيها تتقرر المعركة المصيرية بالنسبة لأمتنا.
وأعتقد أن قسما من الرفاق أتوا متأثرين بجو أقطار قريبة جدا من مواجهة العدو وتتعرض للاعتداءات وتعيش بجو المعركة والعمل الفدائي فكان يبدو على ملاحظتهم النزق والاستعجال وهو امر طبيعي، لا أعتقد ان أحدا يلومهم عليه. فنحن مطالبون بأن نقود حزبنا ونرفعه الى أعلى مستوى من الوحدة وحشد الجهود والكفاءات والتضامن والتلاحم حتى يصمد في وجه المؤامرات.
أيها الرفاق :
ان ما يحتاجه حزبنا في هذه المرحلة وهي مرحلة مصيرية ألخصه للتبسيط ولتحاشي الإطالة بشيئين، هو بحاجة الى قيادة مناضلة تجمع أعلى مستويات الفكر والكفاءة لكي تخطط لأكبر وأخطر معركة في تاريخنا القومي، عليها يتوقف مصيرنا، مطلوب حشد الأدمغة والعقول النيرة المطلعة التي تعيش في هذا العصر وتستطيع ان تخطط للمستقبل، والشيء الثاني الذي يحتاجه الحزب هو عمل في أوساط الجماهير الكادحة، واسع عميق، بالتوعية ومشاركة الشعب في أعماله ومشاكله وفي تعبئته وتجنيده للمعركة التي هي قريبة وقادمة لا ريب فيها.
علينا ان نخرج الحزب من الغرف والقاعات، نخرج مبادئه وأفكاره وتنظيماته ودراساته وخططه ومشروعاته ونخرج حماسته وإيمانه واندفاعاته من هذا الإطار الضيق الذي يضم العشرات في قيادات ومؤتمرات ونبذره على الأرض العربية الواسعة وبين الجماهير الكادحة. نلقي البذور ونتعهدها يوميا.
آذار 1970.
(1) كلمة ألقيت في إحدى ندوات حزب البعث العربي الاشتراكي في آذار 1970.
————————–
كلمة الرفيق الامين العام للحزب في المؤتمر القومي العاشر
ايها الرفاق
ان مؤتمرنا القومي العاشر ينعقد في ظروف مصيرية بالنسبة لامتنا العربية ولحزبنا ايضا. وانه من الطبيعي ان يكون هذا المؤتمر مقدرا لمسؤولياته في هذه الظروف وان ينتهي الى نتائج ايجابية مثمرة تؤكد الإيمان والعزم على متابعة النضال لبلوغ اهداف الحزب التي هي اهداف الأمة.
ان بعض الاجواء النقدية السلبية التي تمر خلال المؤتمرات الحزبية ظاهرة مألوفة دائما بهذا الحزب فهي من طبيعة الاحزاب الثورية وهي من طبيعة الاحزاب الأصيلة التي تؤمن بحرية الرأي وتؤمن بأن النضال هو وليد الحرية، وليد الشعور بالمسؤولية فإذا انتفت الحرية ضعف النضال وتلاشى.
ايها الرفاق
في حزبنا كما في مجتمعنا وأجزاء وطننا أمور سلبية كثيرة وعوائق مصطنعة، رواسب من الماضي، مهمة الحزب ان يناضل لينقذ ويخلص نفسه والمجتمع العربي منها. واكبر العوائق وآفة الآفات هي التجزئة في وطننا العربي ثم الاوضاع الجائرة المفروضة على كثير من اقطاره نتيجة النفوذ الاستعماري الذي هو نتيجة لضعف المجتمع وتخلفه ولوجود طبقات مستغلة متحكمة بحرية الشعب وبثروات البلاد وبمقدراتها.. ولئن كان حزبنا قد برهن على ثورية أصيلة عندما شق طريقا غير معبدة وغير مألوفة، طريق التنظيم القومي الواحد، ولئن كان قد حقق شيئا لا يستهان به، في ربع القرن الأخير من حياة الأمة العربية وخاصة على هذا الصعيد اي صعيد توحيد النضال، فان مسافات كبيرة ما تزال تفصله عن الهدف الذي يسعى اليه في ان تتحقق الوحدة فعلا، ليس في الانظمة فحسب وانما في العقول والافكار والمشاعر والعادات حتى يغدو المجتمع العربي مجتمعا موحدا متجانسا متآخيا متجاوبا. فاذا القينا ايها الرفاق نظرة هادئة على ما يطرح احيانا في مؤتمراتنا وما يتخللها من آراء ومواقف غير متجانسة ادركنا ان مردها الى التجزئة، الى العوائق التي تحول دون التواصل، دون الاندماج، دون التفاعل بين ابناء الامة الواحدة والوطن الواحد والحزب الواحد.
لقد لاحظت ان بعض الرفاق كان يركز على تجربة من تجارب الحزب والنصف الآخر يركز على تجربة اخرى من تجارب الحزب، اي ان كل نصف كان معنيا بالدرجة الاولى بالتجربة القريبة منه التي عاشها وعاناها وذاق مرارتها وبالتالي نشأ عنده التصميم على الا يقع مرة ثانية فيها.
حزبنا في العراق الذي كان دوما الحصن المنيع لفكرة البعث ولنضاله، هذا الحزب نشأ ونما وكبر في قطر من أهم اقطار العروبة، هو القطر الذي تدافع فيه العروبة منذ مئات السنين دفاعا يوميا عن وجودها، وقد ورث حزبنا هذه المهمة وحمل بالإضافة الى دعوته الثورية والنضال من أجلها، حمل أيضا بالنسبة الى ظروف هذا القطر مهمة الدفاع عن الوجود العربي المهدد بأبسط اشكاله وصوره .
لقد مرت على الحزب في العراق تجربة 18 تشرين وهي تجربة قاسية، وبالرغم من قوتها ومن الاضطهاد والتنكيل الذي تعرض لهما رفاقنا في هذا القطر فقد استطاعوا ان يصمدوا وان يعودوا ليستلموا المسؤوليات القومية في أحرج الظروف فكان طبيعيا ان تنطبع ذكريات تلك التجربة في اذهانهم وذاكرتهم وان يخرجوا منها بالدرس البليغ، وان يحاكموا الامور بجدية ورصانة لان النضال في هذا القطر بصورة خاصة نضال حياة او موت، لذلك تطلب الروية والحكمة والواقعية عندما تعالج امور الحزب.
وثمة تجربة اخرى عاشها حزبنا في سوريا هي التي أدت الى نكسة 23 شباط وهي تجربة لا تقل عن الاولى في قسوتها وفي عنفها، اهم ما يميز التجربة التي انتهت الى نكسة 18 تشرين في العراق هو تلك الطفولة السياسية الثورية التي ظهرت بين افراد قيادة الحزب بعد 14 رمضان فجعلتهم يختلفون منذ الاسابيع الاولى، يختلفون على شيء لم يبدأوا بعد بتحقيقه، نسوا الثورة وانشغلوا بانفسهم واشخاصهم فضاعت الثورة، في حين ان الذي يميز تجربة الحزب في سوريا، تلك التجربة التي انتهت بنكسة 27 شباط هو ان فئة متآمرة على الحزب كانت قد بيتت التآمر منذ الوقت الذي كان الحزب فيه منحل التنظيم واستغلت تلك الحالة وبيتت ان تستولي على الحزب وان تستفيد من حالة ضعفه. واقول لكم بالمناسبة لأن أحد الرفاق تعرض لهذه الناحية، ان الحزب ما كان ليتورط بانقلاب 8 آذار العسكري وما كان ليتبناه لولا ان سبقته ثورة 14 رمضان ولولا انه كان يضع الأمل في تلك الثورة ويعتبرها الثورة الشعبية الأصيلة ولم ينفرد الحزب في سوريا، ولا القيادة القومية في هذه النظرة بل شارك في ذلك الحزب في العراق وكان مستعجلا بتبني انقلاب آذار لكي تؤمن الثورة على نفسها في العراق وكان رفاقنا في العراق يلحون في ان يتبنى الحزب ذلك الانقلاب وقد شاركوا منذ الايام الاولى للثورة في الاجتماعات والمداولات اي ان الثورة وقعت في الثامن من آذار والرفاق العراقيون وصلوا الى دمشق في الحادي عشر.
العظة من تجربة سوريا هي ان عددا من الافراد العسكريين عرفت فيما بعد باللجنة العسكرية، وكان تشكيل هذه اللجنة يحمل طابعا خاصا من فئات معينة في سوريا وكانوا يعتمدون على تكتلات في الجيش وهكذا بدأوا ينفذون خطتهم في الاستيلاء على الحزب بتزييفه وبتصديع وبتحطيم قيمه ونظامه وكل مقوماته بينما كان لايزال في بدء نشأته التنظيمية بعد اربع سنوات من حل التنظيم والضياع، بنتيجة ذلك نشاهد الحزب قد تعرض الى ألوان من التآمر والتزييف والتسلط الى ان اوصله كل ذلك الى النكسة.
ثمة شيء آخر ايها الرفاق وثمة ملاحظة يجدر بكم ان تراعوها. الحزب يتحمل مسؤولية الحكم في العراق وللمرة الثانية، والحزب تحمل ولو في ظروف وشروط مختلفة مسؤولية الحكم في سوريا ولو ظاهريا وامام الرأي العام. وان تحمل مسؤولية الحكم توجب نوعا من الجدية والواقعية قد لا يقدرها الرفاق الذين يناضلون في منظمات لا تزال ظروفها بعيدة عن امكانية استلام الحزب للحكم، وانا اقول بان واجب الرفاق ان يعتبروا بان الحزب كله وليس فرعا له في قطر من الاقطار او في قطرين اثنين، حزب البعث كله اصبح في نظر الرأي العام العربي منذ عشر سنوات على الاقل، اصبح حزبا حاكما او مؤهلا لاستلام مسؤوليات الحكم، وهذه الملاحظة توصي بان يتحرر الحزب والرفاق في المنظمات التي لا تزال تناضل نضالا سلبيا ان يتحرروا من بقايا عقلية طفولية قد تمنعهم احيانا من تقدير الامور بالموازين الواقعية الدقيقة. كما ان الرفاق الذين يتحملون مسؤولية الحكم يجب ان يرحبوا بالنفحة الثورية التي يحملها الرفاق من المنظمات الاخرى، النفحة المبدئية التي ليس لها الا تفسير واحد هو الحرص والاخلاص للحزب بكل فروعه وخاصة في القطر الذي يتحمل مسؤوليات اكبر واضخم. وكنت في كل جلسات المؤتمر اشعر هذا الشعور بان ليس وراء تلك الملاحظات الا المحبة والحرص والتضامن.
اني متأكد ايها الرفاق بانه ليس بين اعضاء حزبنا الا من يريد لتجربة الحزب في العراق ان تنجح وان تقوى وان يقدم لها قسطه من الدعم والمعونة، ولا شك ان المؤتمر سيؤدي هذا الغرض ولكني اعرف ايضا بان حزبنا الثوري الاصيل يزداد نموا ونضجا في نضاله وفي فكره ووعيه وفي تجربته القومية الانسانية وانه يعرف ما هي طبيعة العمل ويحرص عليها وعلى شروطها ويعرف ان التعاون المجدي هو التعاون الذي يتم نتيجة التفاعل في الرأي والنضال والتجارب وهو الذي يتم من خلال نظام الحزب وقيمه بمطلق الشعور بالمسؤولية والحرية وان اي نوع آخر من التعاون يكون اقل جدوى واقل بكثير مما تتطلبه الحاجات الراهنة في حزبنا وامتنا.
لا اشك ان عملية التفاعل هي اصعب عملية ممكنة نظرا لواقع المجتمع العربي المتميز بالتجزئة المصطنعة ونظرا لواقع الحزب ايضا، لأن في الحزب فترات انقطاع وثغرات ونواقص أخرت اندماج مختلف الفروع بعضها ببعض وأخرت تجانس العقليات وتماثل المستويات الفكرية والنضالية. واهم شيء في الحياة الحزبية هو الثقة بين المناضلين. ولكني احرص على القول بأن الثقة -لانها هي اثمن شيء في نظر المناضل ولأنها يمكن ان تثير فيه اعلى مواهبه وامكانياته ليقدمها للنضال- هذه الثقة تأتي في الانفتاح، بان ينفتح بعضنا على بعض، وان نعتبر بحقيقة نفسية، ان الذي يبدأ الآخر بالثقة كثيرا ما يجعله بمجرد هذا الموقف جديرا بتلك الثقة. الثقة والكرامة أعز ما يتمسك به المناضل لأن المناضل اذ قَبِلَ ان يتعرض لشتى الاخطار وان يعيش عيشة المناضلين فلا يبقى له عزاء في الحياة ودافع ومحرك الا القيم المعنوية. واكبر بلية تصيب حركة ثورية وتقضي عليها هي عندما يفقد هذا الجو، جو القيم المعنوية والثقة والمحبة والكرامة.
ايها الرفاق
جدير بنا ان لا نكتفي بالنظرات السلبية وبرؤية الجوانب السلبية في حزبنا وفي مسيرته، صحيح ان هذا معبر عن المثالية والطموح الى الكمال، ولكن المناضل بحاجة كذلك الى الاعتزاز والحماس والأمل، والثقة بالنفس، واعتقد ان حزبا ثوريا في مجتمع متخلف صمد ثلاثين عاما وما زال يتابع سيره ونضاله وما يزال محل آمال قسم كبير من الجماهير العربية التي وصلت اليها دعوته واخبار نضاله، هذا الحزب الذي صمد في فترة يصح ان تسمى تاريخية جدير ان يحرك في نفوسنا مشاعر الإعتزاز والأمل والثقة بالنفس.
ايها الرفاق
ان حزبنا في العراق الذي هو حزب اصيل كما نعرف وبالتالي يتحرك ويتصرف بفكر الحزب القومي وبمنطقه وشموله يعرف مثل الرفاق الآخرين ان قضية فلسطين هي قضية العرب الاولى، وان فيها تتقرر المعركة المصيرية بالنسبة لأمتنا.
واعتقد ان قسماً من الرفاق أتوا متأثرين بجو أقطار قريبة جداً من مواجهة العدو الصهيوني وتتعرض للاعتداءات وتعيش بجو المعركة والعمل الفدائي فكان يبدو على ملاحظاتهم النزق والاستعجال وهو أمر طبيعي لا اعتقد ان احدا يلومهم عليه. فنحن مطالبون بان نقود حزبنا ونرفعه الى اعلى مستوى من الوحدة وحشد الجهود والكفاءات والتضامن والتلاحم حتى يصمد في وجه المؤامرات.
ايها الرفاق:
ان ما يحتاجه حزبنا في هذه المرحلة وهي مرحلة مصيرية الخصه للتبسيط ولعدم الاطالة بشيئين: هو بحاجة الى قيادة مناضلة تجمع اعلى مستويات الفكر والكفاءة لكي تخطط لاكبر واخطر معركة في تاريخنا القومي، عليها يتوقف مصيرنا، مطلوب حشد الادمغة والعقول النيرة المطلعة التي تعيش في هذا العصر وتستطيع ان تخطط للمستقبل والشيء الثاني الذي يحتاجه الحزب هو عمل في اوساط الجماهير الكادحة، واسع عميق، بالتوعية ومشاركة الشباب في اعماله ومشاكله وفي تعبئته وتجنيده للمعركة التي هي قريبة وقادمة لا ريب فيها.
عليا ان نخرج الحزب من الغرف والقاعات نخرج مبادئه وافكاره وتنظيماته ودراساته وخططه ومشروعاته ونخرج حماسته وايمانه واندفاعاته من هذا الاطار الضيق الذي يضم العشرات في قيادات ومؤتمرات ونبذره على الارض العربية الواسعة وبين الجماهير الكادحة. نلقي البذور ونتعهدها يوميا.
آذار 1970
(1) كلمة في المؤتمر القومي العاشر المنعقد ببغداد في اذار 1970
—————————
ان مهمة اللجنة الاساسية(1)، في رأيي، هي تمكين الحزب، في المستقبل، ان يكون حزب الثورة العربية، لحد الآن حقق حزبنا هذا الشيء لحد ما، ولكن يجب على الحزب ان يصبح بالفعل وبدون منازع حزب الثورة العربية، ولكل الأمة العربية، فالمهمة الأساسية اذاً هي ضمان مستقبل الحزب. لقد قام الحزب منذ البدء على اساس هو: “الفكر اساس العمل” فعندما نضمن لحزبنا الاسس الفكرية، ونعمل على توضيحها وتعميقها وتطويرها حتى يقدر الحزب ان يستوعب حاجات المرحلة الجديدة في الثورة، في كل اقطار الوطن العربي او في المجتمع العربي الموحد الذي نسعى الى تحقيقه نكون ضمنّا استمرار التقدم المضطرد في الحزب.
ان العمل الفكري في الحزب يجب ان ينطلق من المستقبل، وليس من الماضي او الحاضر مع الرجوع الى الماضي والحاضر، وهذا يتطلب تحديد معالم الثورة العربية بآفاقها القومية والعالمية كما يتطلب دراسة واقع المجتمع العربي دراسة علمية دقيقة بنواحيه الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية والعلمية والعسكرية.
لماذا قلت حزبنا يجب ان يصبح حزب الثورة العربية؟.. لانه حتى الآن عجز عن ذلك ولكن يجب ان لا نستسلم، ان الحزب منتشر في الهلال الخصيب، اما انتشاره في المناطق الأخرى من الوطن العربي فضعيف. هناك ثغرة مخيفة لاتساعها واهميتها ودورها الثقافي والحضاري والمادي هي مصر، ان غياب حزب البعث عن مصر قد حكم على الوطن العربي بالتجزئة، حيث سيظل هناك قطبان: الحزب ومصر. هذه المسألة من أهم الاشياء التي يجب ان ينتبه اليها العمل الفكري في الحزب، ان المطلوب هو المعالجة الفكرية هذه المسألة وليس المطروح التفتيش عن تنظيم حزبي في مصر، المطلوب دراسة موضوعية عميقة للاسباب التي جعلت الحزب يعجز عن دخول مصر وللاسباب التي تجعل مصر متحفظة او سلبية من حزب البعث مهما تكن مزاياه، هناك الاسباب السطحية، ان الحزب لم يسع بصورة جدية، ولم تكن وسائله تسمح له بالتركيز على مصر.
اما الاسباب الحقيقية فهي تكوين مصر الخاص، وهناك ايضا المغرب العربي الذي له طابعه الخاص ايضا، ان الحزب بحاجة الى دراسة واقع المغرب العربي.
***
ان المرحلة الجديدة التي دخلتها الثورة العربية بعد حرب حزيران تتميز بميزات على الصعيد العالمي فهناك تبدلات عميقة تجري في الاسس الفكرية والعقائدية والاوضاع الاجتماعية والسياسية وفي موازين القوى في العالم.
ان اول شرط لضمان مستقبل الثورة العربية ومستقبل الحزب الذي يقود الثورة هو ان نعرف وضعنا في العالم، اننا نشهد في السنوات الاخيرة تبدلات عميقة في المعسكر الشيوعي، هناك الانقسام داخل المعسكر، ووجود قطبين كبيرين فيه هما الصين والاتحاد السوفيتي واتساع الفوارق بينهما مع اختلاف في الاتجاه، ففي الصين اتجاه ثوري متطرف تتجاوب معه شعوب المجتمعات المتخلفة والمستعبدة والمهددة بالاستعمار بينما الاتحاد السوفيتي يخطو كل يوم خطوة نحو التقرب اكثر فاكثر الى الغرب ويبتعد عن واقع المجتمعات المتخلفة وهذا يعكس حقائق مهمة جدا بالنسبة لمستقبلنا، اين مصلحتنا؟ اين سنلاقي التجاوب ووحدة المصالح ؟..
وفي الوقت الذي تتزعزع فيه الاسس الفكرية التقليدية الشيوعية بشكل ينذر بان الشيء الذي سمي شيوعية منذ نصف قرن يصبح بعد 20 او 30 سنة شيئا من التاريخ، في هذا الوقت تظهر في الوطن العربي دعوات وبدع تحاول بعث الماركسية – اللينينية بحرفيتها وحذافيرها وكأنها كتاب منزل يحل لنا كل مشاكلنا.
ان هذه الحقائق تعيدنا الى ماضي الحزب ومنطلقاته، فالحزب انطلق من منطلقات عميقة وناضجة، ولما لم يتيسر لها العقول التي توضحها وتعمقها بقيت ادلة على الطريق. كان للحزب منذ بدايته نظرة ليست حدسية كما يقولون وانما ناتجة عن الدراسة والتتبع، وقد توصل الحزب الى ادراك “نسبية” الشيوعية كنظرية وبالتالي كتطبيق ونظام، اي ليست هي الشيء الذي ليس فيه خطأ، وانما كشيء نسبي وانها معرضة لان يتجاوزها الزمن، كان هذا واردا منذ السنوات الاولى للحزب، واحيانا كان هناك انفعال في التعبير عن هذه الحقائق لاننا كنا وجها لوجه مع احزاب شيوعية محلية كانت تجافي مصلحة البلاد وتتحدى فكان هناك انفعال، فلنطرح الانفعال جانبا، نجد هناك نظرة اعطيت حقها من الدراسة.
والعالم الرأسمالي، هل هو الآن كما كان قبل نصف قرن ؟.. ما هي التطورات التي حدثت عليه؟.. عندما ندرس التطورات التي طرأت على الماركسية وندرس الاشياء التي اتت مخالفة لهذه النظرية، اي مخالفة للقوانين التي وضعتها، لا بد ان نكوّن فكرة عامة واضحة عن المجتمع الغربي في اوربا وامريكا، عن التقسيم الطبقي، والتطور العلمي والمراحل البعيدة التي وصلها والنتائج التي توصل اليها والتناقضات التي يعيش عليها.
***
ان من اسباب نجاح الحزب في بدء الاربعينات وعند تأسيسه انه لم يعمل بأفق محلي ولم تقتصر نظرته على البلاد العربية، وانما كانت نظرة حضارية مستوعبة بشكل جيد الى حد ما اوضاع العالم ودرجة تطوره ونموه والقوى المختلفة التي تؤثر في العالم الحديث، كذلك يجب ان يكون مثل هذا الادراك اليوم في هذه المرحلة من الثورة العربية مع المحافظة على السبق، فالحزب قد حقق سبقا قبل ربع قرن، وفي المرحلة الجديدة في العالم تتأكد استقلالية فكر الحزب، وهي الشيء الذي الح عليه منذ البداية، اي ان لا تتقيد بمذهب معين، وان تكون لنا نظرة مستقلة، وهذا اهم شيء في فكر الحزب، لقد اخذت الاستقلالية تعبيرها السياسي في نظرية الحياد الايجابي، ولكن الاستقلالية اعمق واشمل من نظرية الحياد، لانها الحرص على الموضوعية الذي لا يترك اي مجال للوقوع في اسر المذهبية. ان النظرية المتعصبة المغلقة التي تعطي قوة عملية في فترة من الزمن تحجب الكثير من الحقائق وتخل بعملية التفكير. .
ان النظرية التنظيمية للحزب لم تستكمل بعد، انها موجودة بشكل موزع ومشتت في كتابات الحزب ولكن لم تكن هناك دراسة جدية لها.
ان النظرية التنظيمية من الامور الرئيسية في عمل اللجنة الفكرية لانها من الامور الرئيسية لضمان مستقبل الحزب.
***
يتفرع عن النظرية التنظيمية موضوع التثقيف والتربية، ان الحزب الثوري هو الحزب الخلاق الذي يخلق شخصية جديدة لاعضائه، شخصية فكرية وعملية، يخلق منطقا جديدا في التفكير ومسلكا وقيما عملية. ان الاثر االذي احدثه الحزب في اعضائه وفي المجتمع العربي كان اثرا آنيا وليس نتيجة تخطيط وتصميم حيث لم توضع نظرية للتنظيم والتثقيف. ان ما كان يصل من افكار الحزب الى قواعده وانصاره ومؤيديه احدث بعض الاثر، هذا اثر بدون جهد وغير ارادي ولايسمى تثقيفا ثوريا او تربية ثورية لانه لم يدخلها عنصر الارادة والتخطيط، انني في هذا الحديث اعمم، لانه ربما كانت هناك محاولات اصابها الفشل او لم تستمر ولم تعط النتيجة المطلوبة لا بد ان نعتبر بان هذا الشيء كان مفقودا ويجب ان نحدثه وان نركز عليه الاهتمام.
وفي حزبنا لا ترد المحاذير التي ترد في الاحزاب الشيوعية اذا نحن بقينا امناء لمنطلقاتنا فالتربية لا يدخلها الاصطناع وقولبة الشخصية بحيث يفقدها الحرية والابداع ولكنه ينقذها من التسيب والميوعة والضياع والفردية التي تشل الحرية الحزبية.
***
عندما نكتب تاريخ الحزب فعلينا ان ندرك ان مهمتنا هي المستقبل، من هذه الزاوية يسد هذا النقص. ان حزبا بلا تاريخ غير مضمون الاستمرار. ان كتابة تاريخ الحزب ليس عملا اكاديميا انه عمل لضمان تقدم الحزب المضطرد نحو المستوى الذي طمحنا اليه كي يكون حركة تاريخية تقود الثورة العربية في احرج وادق مراحل نهضة الأمة العربية.
اذا اردت ان اضيف شيئاً الى هذا التصور الذي يجب ان ينبعث دوما من الواقع العربي. اقول، ان العالم يشهد تطورات هي اقرب ان تكون ثورات فكرية، هذا التصدع في المعتقدات التي كانت تظهر قبل عشرين سنة او اقل بانها معتقدات أبدية وعلمية لا يتطرق اليها الشك، اصبحت اليوم تعاني من التصدع والتفكك، وهنا نشير الى ظهور الظاهرة القومية ضمن المعسكر الشيوعي وهذه تعطي لحزبنا تدعيما جديدا لاصالة تفكيره.
اننا يجب ان نرى الطور الذي وصلناه في الوطن العربي وللتبسيط اقول انه يشبه زمن ظهور الحزب.
ومثلما كنا في الاربعينات نرى نهاية الانظمة الاقطاعية البرجوازية قبل ان تنهار فاننا اليوم نرى اوضاعا مماثلة. ان الظروف الراهنة الناجمة عن نكسة حزيران تنذر بنهاية الانظمة التي كانت قائمة قبل النكسة والتي فقدت القدرة على تجديد ذاتها. وان طموح الحزب ودوره يجب ان يكونا على مستوى المرحلة الجديدة، وان يملأ الفراغ بعد سقوط الانظمة التي هي الآن في حكم الساقطة، وبالتالي فان الحزب يجب ان لايحدد نفسه وعمله واهدافه في مكان واحد وبمهمات قريبة، وانما يجب ان يظل الايمان بانه حزب الثورة العربية، ولكل الامة العربية.
***
ان المستقبل هو المهم، واهمية الماضي تأتي من كونه تراثا، ان مهمتنا هي سد حاجات المستقبل دون التقيد الشديد بالماضي الا كروح وتراث. ماذا نستخلص من هذه القواعد؟
تركيز الانتباه والاهتمام على حاجات المستقبل، وهي غير خافية وغير غامضة، من خلال هذه الحاجات هناك عودة طبيعية الى الماضي، ولكن تبقى في هذه الحدود، حدود الماضي باعتباره روحا وتراثا، لو سألنا انفسنا ما هي حاجات المستقبل التي يطرحها وجود الحزب واستمراره وتقدمه، الحاجات الفكرية او النظرية، ان الحزب مطالب بان يكون له موقف نظري من القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة في هذا العصر بالنسبه للعالم وبالنسبة للامة العربية، وهو مطالب بتحديد موقف من الماركسية بعد دراسة جدية ونقدية وجديدة متحررة من النواقص ومن رواسب الماضي، وهو مطالب ايضا بتحديد موقف من نظريات اجتماعية جديدة غير الماركسية، قريبة منها مخالفة لها، بشكل يجعل الحزب قادرا على الرد على جميح التساؤلات والاعتراضات وان ينتقل من مرحلة الدفاع، من موقف الدفاع الى موقف التبشير من جديد، اي موقف الهجوم، علينا الا نطمئن الى تجديد الحزب الا عندما يبدأ بكسب عقول الشبيبة العربية على امتداد الوطن العربي. يجب ان يكون تجديد فكر الحزب بمستوى اعلى درجات الفكر والثقافة في الوطن العربي. ولابد ان نأخذ بعين الاعتبار في عملنا الفكري الجديد، ان المتطلبات الفكرية في قطر من اقطار المغرب العربي قد تكون اشد واصعب منها في بعض اقطار المشرق، وسبق ان اشرنا الى مصر، فهي مركز فكري وثقافي في غاية التقدم ولا يجوز ان نهمل في عملنا الفكري هذه الحقيقة.
شيء اخذ يحتاج الى اهتمامنا الشديد، وهو التثقيف التربوي الذي يتناول خلق الشخصية البعثية المتكونة من فكر وسلوك، وهذا طبعا يفترض الاطلاع الواسع والدراسة العميقة للعلوم النفسية والتربوية والاجتماعية.
ان الذي ذكرناه في الجلسة الاولى عن ضرورة الرجوع الى التاريخ العربي يظهر انه لا غنى عنه، حتى انه غير قابل للتأجيل، فبالاضافة الى ضرورة دراسة ماضي الحزب لا بد من دراسة ماضي الامة وقد يتم هذا دون اسهاب وضمن امكانيات اللجنة. وعلينا ان نطلع على التجارب الاشتراكية المعاصرة وان نتعمق في دراستها، وبخاصة دراسة اساليب التثقيف والتربية الحزبية في الاتحاد السوفيتي وفي الصين، ان هذه الاساليب في التربية اوصلت الى اعلى مردود عملي.
ان العمل الثوري هو اختصار الزمن دون قلع الجذور، ان ابعد حد في اختصار الزمن مع ابقاء جو نفسي سوي للشخصية، لشخصية الفرد والامة، كما يفترض ايضا دراسة العناصر المكونة للشخصية في الجتمعات الغربية، الامريكية والاوربية.
***
المفروض في الناحية التنظيمية ان تلتقي فيها النظرية الفكرية للحزب والنظرية التربوية فالتنظيم لا يكون في الفراغ وهو ليس غاية في حد ذاته. ولعلنا نستطيع تحديد ثلاثة اشياء اولية تقوم عليها النظرية التنظيمية .
1- استقلالية شخصية المناضل البعثي.
2- وحدويته اي ان يكون التنظيم مندفعا باستمرار الى تجاوز الاطر القطرية والتفاعل مع المنظمات القومية بشكل يؤدي الى تحقيق نفسية وروحية الوحدة العربية في كل تنظيم للحزب.
3- الاتجاه العلمي.
أيار 1970
(1) كلمة في الدورة الاولى من اجتماعات اللجنة الفكرية المنبثقة عن المؤتمر القومي العاشر في أيار 1970.
————————-
المؤامرة التاريخية على حزب البعث
أيها إلاخوان (1):
حديثي إليكم سيكون صريحا بسيطا.. سأوجز ملاحظاتي والخواطر التي أثارتها أقوالكم في نفسي، ولكم بعد ذلك أن تفكروا مليا لكي تكون أعمالكم وخطواتكم وانتم شباب الحزب المناضلون المعتمد عليهم مع الرفاق الذين يتحملون التعذيب والاضطهاد في داخل القطر السوري.. أقول لكي تكون خطواتكم رصينة وفي مستوى المسؤولية غير متأثرة بالانفعال وحالة الألم والنزق التي تنتج عن وضعكم بعد أن اضطررتم إلى مغادرة الأرض والأهل.
الملاحظة الأولى التي أريد أن أذكركم بها هي انه توجد مؤامرة تاريخية على حزب البعث لم تبدأ اليوم ولا قبل سنوات وإنما من سنين طويلة، منذ ان اتضح لأعداء الأمة العربية ولذوي المصالح في هذه المنطقة، لذوي المصالح الأجنبية طبعا، وللرجعية العربية مدى واقعية هذا الحزب ومدى تجاوبه مع الحاجات التاريخية للأمة العربية في هذا العصر، منذ ذلك الحين بدأت المؤامرة ثم اتسعت ودخلت فيها عناصر جديدة وكانت تتجدد في مظاهرها وأشكالها ولكنها تبقى واحدة في أساسها وتصميمها وأهدافها الأخيرة، مؤامرة على حزب البعث أي مؤامرة على يقظة الأمة العربية في هذا العصر وعلى ثورتها وانطلاقتها، أي مؤامرة على وجود الأمة العربية.
هذا الحزب هو من الواقع العربي وبالتالي فلم يكن معقولا أن يأتي منزها عن جميع أمراض هذا الواقع، ولكنه لو لم يكن منزها عن بعضها على الأقل لما احتل المكانة التي احتلها، ولما صمد حتى الآن. لم يسبق تأسيس هذا الحزب إعداد نظري او تنظيمي يكون في مستوى الصعوبات التي كان محتوما على الحزب أن يواجهها. نشأ الحزب كاندفاعة وتلبية صادقة لحاجات الأمة، وفيه ثقة بان الأمة سوف تحتضنه وتمده بالقوة والوسائل بنسبة تفتّح وعيها واستكشاف ما بينها وبين هذا الحزب من صلة ووحدة في الضمير ووحدة في الأهداف. ولكن هذا لم يكن كافيا ليحول دون تسرب تخريب الأعداء إلى داخل الحزب وقد استغلوا كل ما في المجتمع العربي من أمراض ورواسب، ليحاربوا بها الحزب وليفسدوه وسرعان ما ظهرت في الحزب نزعة الاستعجال، أي استعجال الوصول إلى السلطة، في حين كان الحزب بحاجة إلى زمن أطول وتجارب أعمق ليصلب عوده وليكون قادرا على قهر الأمراض، أمراض الواقع العربي وفي مستوى المسؤولية التاريخية، ولم يكن كل الحزب بهذه النفسية وبهذا التفكير ولكن نزعة الاستعجال هي التي تغلبت، وإذا الحزب يجد نفسه بعد ذلك أسيرا لأحد خيارين أو طريقين لا ثالث لهما، إما أن يكون حاكما أو مغلوبا على أمره ومسحوقا، اما أن يكون ظالما أو مظلوما بمعنى انه يحمل من الأعباء والمسؤوليات ما يفوق قدرته وتهيؤه وإعداده فيشعر بالتناقض والتمزق.
بعد ثلاثين سنة من ظهور حزبنا أستطيع أن أقول بأنه الحركة الوحيدة في الوطن العربي التي استشرفت المستقبل بنظر صاف والتي وضعت الأسس لنضال عربي تاريخي قادر على الصمود والإستمرار حتى تتحقق أهداف الثورة العربية المعاصرة، وتجيء الأحداث تلو الأحداث والنكسات والانتصارات أحيانا لتؤكد هذه الحقيقة. إنما الشيء الوحيد الذي ينقص الحزب والذي يكفل له تحقيق أهدافه التي هي أهداف الأمة العربية هو ان يخلص هذا الحزب لنفسه وان يقترب أكثر فأكثر من فكرته وتصميمه الأول وان يراجع نفسه بين الحين والآخر ليقيس المسافة التي ابتعد بها عن تلك الفكرة وذلك التصميم حتى يسيطر على نفسه من جديد.
في إطار هذه الملاحظة العامة نجد تفسيرا ليس فقط لانتكاسة 23شباط وإنما لكل التشويه الذي طرأ على الحزب قبل تلك الانتكاسة بسنين، وخاصة لذلك التزييف الكامل الذي وقع الحزب ضحيته من بعد انقلاب الثامن من آذار.
ليس من المجدي أن ادخل في تفاصيل ولكن لابد ان أصحح للرفيق قوله باني قبيل 23 شباط أشرت بإصبع الاتهام إلى القيادة القومية، كانت تلك الإشارة ليست إلى القيادة القومية بل إلى الفئة التي كانت تتحكم بسورية في ذلك الحين من وراء جميع القيادات. كذلك أحب أن أصحح قول الرفيق بأننا نحن الذين اضطهدنا الشعب وعملنا كل ما عمل في تلك الفترة من اضطهاد واستغلال وغير ذلك. أقول بان الحزب بريء والحزب أخطا عندما وثق بتلك المجموعة من العسكريين واعتبرهم رفاقا حزبيين وإذا باللجنة العسكرية تدبر مؤامرة لتزييف الحزب تزييفا كاملا وللاستيلاء عليه معتمدة على السلاح الغاشم، على الدبابة والمدفع، وقد لجأ هؤلاء إلى أخبث الأساليب من اجل تحقيق أغراضهم وتزييف الحزب فشجعوا الانتهازية إلى ابعد الحدود وشجعوا الفساد وحاربوا الإخلاص وحاربوا العقيدة الحزبية المؤمنة واتوا حتى بأعداء الحزب وأدخلوهم في الحزب ليكونوا عونا لهم ضد الحزب الأصيل. فشهوة السلطة عندما تسيطر على النفس توصل إلى الخيانة وهذا ما قصدته عندما أشرت في كلمتي في 19كانون الأول سنة 1965 بان في الحزب عناصر مشبوهة وان الاستعمار قد دخل إلى داخل الحزب وقد لا ينطبق هذا الاتهام إلا على أفراد قلائل واحدا أو اثنين أو ثلاثة. أي الأشخاص الرئيسيين وهذا كاف لإيصال البلاد إلى كارثة.
ماذا كان يستطيع الحزب وممثلوه الصادقون أن يفعلوا أمام مؤامرة داخلية من داخل الحزب. مؤامرة خبيثة نفذت ببطء وخبث وذكاء على مراحل. عندما كان واحدنا يفكر بان يعلن ذلك على الملأ كان رفاق كثيرون وأكثرهم مخلصون يرفعون أصواتهم بالاحتجاج إذ لا يجوز في عرفهم أن يظهر الانقسام خارج الحزب فيشمت الأعداء وترفع الرجعية رأسها ويتدخل الاستعمار وغير ذلك من التصورات. سأقول لكم واقعة من عشرات الوقائع: في كانون الأول سنة 1964 تم الاتفاق بين أعضاء القيادة القومية على تخصيص دورة لطرح أزمة الحزب، وكان هو الشيء الذي أقنعني
بالعودة من أوروبا بعد ان كنت قد تركت سورية محتجا على الأوضاع الحزبية المزيفة ومعلنا عجزي عن معالجتها ولم تكن القيادة القومية قبل سفري مقتنعة كلها بوجود التزييف والتسلط، وفي خلال خمسة أشهر قضيتها في الخارج حصل من التجارب ما اقنع أعضاء القيادة القومية، وأخيرا طرحت أزمة الحزب واتخذت القيادة القومية قرارات لوضع حد للتسلط والتزييف وجمدت القيادة القطرية ولكن اللجنة العسكرية ومعها العديد من الانتهازيين والحزبيين المزيفين هددوا وضغطوا ولم ترد القيادة القومية أن تصل الأمور إلى حد الانفجار، وفي تلك الأثناء جاءت رسالة من الرفيق منيف الرزاز، رسالة طويلة وكان عضوا في القيادة القومية، وكنت وجهت اليه ثلاث مرات برسائل ورسل دعوته لحضور تلك الدورة فاعتذر، ولكن بعد أن وقعت الأزمة بين القيادة القومية وقيادة القطر المتمردة على القرار، قرار الحل، أرسل الرفيق منيف تلك الرسالة المطولة يضع فيها اللوم على القيادة القومية، وبعض اللوم على الطرف الآخر، ويظهر أسفه وألمه لهذا الانقسام بين رفاق حزب واحد بإسهاب، طلبت قراءة الرسالة أمام القيادة في حين كان رأي بعض الرفاق عدم قراءتها وكنت اعرف مغزاها، وبالفعل لاقت ارتياحا لدى أعضاء اللجنة العسكرية في القيادة وبعد ذلك ببضعة أشهر أي من كانون الأول 1964 إلى انعقاد المؤتمر القومي الثامن في نيسان 1965 بعد ذلك طلبت من الرفيق منيف الرزاز أن يتحمل مسؤولية الأمانة العامة ويجرب بنفسه تحمل المسؤولية، إذن حتى في مستوى أعلى القيادات وأعلى القياديين كان هناك نقص في الفهم وفي التجربة، وآراء عاطفية تدخل في المواقف التي تتخذ من أخطر أزمة مر بها الحزب. وتركت القيادة وأصر القطريون بالذات على انتخابي في القيادة القومية رغم انسحابي وإعلاني المتكرر لذلك الانسحاب، أصروا هم لكي يبقوني داخل سجن التزييف لكي تستمر الأخطاء وتستمر المؤامرة، تنفذ إلى آخر مراحلها، واحمل مسؤوليتها. ولكني قاطعت رغم كل شيء، قاطعت اجتماعات القيادة القومية بعد المؤتمر القومي الثامن ثمانية أشهر، ولم أحضر إلا في ذلك اليوم الذي كاد يحصل فيه اشتباك بالسلاح أي يوم 19 كانون الأول 1965 ضغط علي الرفاق لكي أذهب إلى القيادة القومية وأهدئ الجو، وألقيت تلك الكلمة التي أشار اليها الرفيق.
أيها إلاخوان
أتمنى لو تستجمعون كل انتباهكم وتجربتكم النضالية لتفهموا ما أريد إيجازه لكم في هذه الكلمة لأني حريص ألا تفقد اللغة المشتركة يني وبين أعضاء هذا الحزب. ألا تفقد الصميمية والمفاتحة الوجدانية. إن المؤامرة التاريخية على حزب البعث التي ذكرت لكم شيئا عنها في بدء هذا الحديث، كان من أوضح تعبيراتها ومظاهرها التحامل على شخصي والمستهدف هو الحزب وليس الشخص، ولكن في حساب الاستعمار والقوى المتآمرة أن تحطيم الشخص يوصل إلى تحطيم الحزب أو إنزال الأذى الكبير به. وهذا ما يفسر كيف أني بعد أن علمتني التجارب الطويلة صرت احرص على الإبتعاد عن المسؤولية على ما في ذلك من الم في نفسي لكي أفوت على المتآمرين بعض الفرص. وقد حدثتكم حديثا صريحا بينت فيه أن الحزب منذ نشأته لم تترك له الظروف والأحداث فرصة ومجالا لتكوين نفسه فكريا وتنظيميا وتربويا التكوين الصلب الذي يجعل منه جسما واحدا موحدا كالرجل الواحد، بل حمل الكثير من أمراض المجتمع ودخلته الدسائس والأصابع المشبوهة ولكن بذرته الطيبة ضمنت له الصمود رغم كل شيء. إذن لم يكن باستطاعتي أن أتكافأ بالوسائل والسلطة مع كل تلك الفئات التي اغتصبت اسم الحزب اغتصابا وعملت على تشويه وجهه وحقيقته. لم يكن ثمة أدنى حد من التكافؤ لان الحزب لم يكن موحدا ولم يكن سليما في الداخل بل كان شتاتا من الفئات والأهواء والمصالح فلكي ننقذ سمعة الحزب وفرصة تجدده في المستقبل ونهوضه من عثاره كان لابد أن نفضح التزوير
والتزييف بالابتعاد. وخرجت من تلك التجربة بدرس نهائي وبقناعة نهائية انه بالنسبة لي على الأقل ليس من مصلحة الحزب أن أضع نفسي في الواجهة وأمكن أعداء الحزب وأعداء الأمة من أن يصيبوا الحزب من خلالي، وصممت أن يقتصر دوري على الناحية الفكرية وهذا ما أطبقه وأمارسه منذ ذلك الحين حتى الآن وتعرفون ولابد أن تكونوا عرفتم باني في المؤتمر القومي العاشر الأخير بعد أن تعذر إقناع الرفاق أعضاء المؤتمر والرفاق العراقيين بخاصة بان يعفوني من مسؤولية الأمانة العامة حتى من المسؤولية الإسمية وافقت على قبول الصفة دون ممارسة المسؤوليات ووافق المؤتمر على طلبي بان انقطع للجنة شكلها المؤتمر باسم اللجنة الفكرية. مع العلم باني اشعر برابطة قوية بيني وبين الرفاق المتسلمين للمسؤولية في هذا القطر، واطمئن إليهم واثق بنزاهتهم وأخلاقيتهم وأصالتهم الحزبية كما اشعر نفس الشعور نحو رفاقي في القيادة القومية واعتقد وأؤمن بان هذا الظرف الذي نحن فيه هذا الظرف الذي لا ترون أيها الرفاق منه إلا وجهه المظلم لأنكم عانيتم من الإضطهاد على أيدي تلك الفئة المشبوهة التي اغتصبت اسم الحزب في القطر السوري. هذا الظرف بالذات له وجه آخر مشرق وإشراقه يربو على ظلمته أضعافا مضاعفة، هو اكبر فرصة تاريخية أعطيت لحزب الثورة العربية لحزب الوحدة العربية، لكي يقوم بدوره الأصيل بينما تتخاذل الأنظمة العربية وتتآمر لفرض حلول تعادل الانهزام والموت، لأنها فضلت نفسها وأشخاصها وطبقتها الحاكمة على الأمة العربية بإمكانياتها الزاخرة الوفيرة التي تستطيع أن تحارب عشرات السنين وان تصمد وان تنتصر فيما لو وجدت القيادة الشجاعة والواعية والثورية بالمعنى الصحيح التي ترى إمكانيات المستقبل وتراهن عليها وتطلقها وتفجرها بدلا من أن تخنقها وتتآمر عليها. فالطريق واضحة وبسيطة طريق الثورة، ثورة الشعب، عندما يندمج الحزب بالشعب وهي كما قال رفيق آخر مرتبطة بالمعركة المصيرية في فلسطين فإذا قام الحزب بواجبه على الجبهة الشرقية فان أمر المعركة يكون سهلا وقد قلت قبل عام لرفاقنا في القيادة القومية في أوائل آب عندما طرحت موضوع الوحدة وضرورة وضع خطة لتحقيقها بان طريق الوحدة يمر
بفلسطين.
اكتفي بهذا أيها الرفاق وبعد أن وضحت ما أستطيعه وما لا أستطيعه أعدكم بان ابذل كل جهودي في هذا السبيل شريطة إلا نعود إلى الإلتباسات الماضية التي لم يستفد ولن يستفيد منها إلا أعداء الحزب وأعداء الأمة.
تموز 1970
(1) حديث ألقي على عدد من المناضلين السوريين في تموز 1970، ونشر في (نقطة البداية) تحت عنوان طريق الوحدة يمر من فلسطين.
————————
نصرة أبطال الفداء واجب مقدس
الاخوة اعضاء اللجنة المركزية لحركة المقاومة (1)
الأخ ياسر عرفات
عمان
ان صمود رجال المقاومة البطولي في وجه مؤامرات الاستعمار والرجعية الشرسة العميلة قد عزز الثقة بقدرة شعبنا العظيم على الكفاح والتضحية وتحقيق النصر.
ولاشك بان الوقفة التاريخية التي يقفها الثوار في الاردن المناضل اليوم تجسد إرادة الجماهير العربية قاطبة وتصميمها على استحقاق النصر في معاركها التاريخية مع الصهيونية والاستعمار واعداء التقدم العربي.
لقد اصبح الاردن ميدان الصراع الحاسم بين قوى الثورة وإرادة الحياة في الأمة العربية وبين اعداء امتنا الذين يريدون قهرها وافناءها.
ومن واجب جميع الثوريين من مناضلين وقوى عربية مقاتلة ومواطنين شرفاء خوض المعركة المصيرية الحاسمة الى جانبكم وبكل قوة حتى يتحقق لثورتنا الفلسطينية طليعة الثورة العربية، اهدافها في النصر والتحرير.
ان الشهداء الابطال الذين يسقطون في ساحات الشرف اليوم لا يدافعون فقط عن المقاومة الفلسطينية، وانما يفتدون بأرواحهم العزيزة الغالية مستقبل امتنا العربية المناضلة، وأجيالها الصاعدة ايضا. وان التاريخ لن يغفر لكل من يحجم عن نصرة ابطال الفداء العربي وعن المشاركة الفعلية في حماية حق الجماهير في النضال من اجل تحرير الارض العربية وانقاذ المصير العربي من الصهيونية والاستعمار.
لقد انتصرت الثورة الفلسطينية في هذه المعركة منذ ان اختارت الصمود والفداء والقتال طريقا لتثبيت هويتها واسلوبا لمجابهة اعدائها.
سيروا الى الامام فجماهير الشعب وكل المناضلين والثوريين معكم.
اخوكم
ميشيل عفلق
أيلول 1970
(1) برقية الى أعضاء اللجنة المركزية لحركة المقاومة أثناء مجزرة أيلول 1970 في الاردن.
————————
نداء الى البعثيين للالتحاق بالثورة الفلسطينية
إلى جميع الرفاق الحزبين في الوطن العربي وخارجه،
تحية العروبة والنضال(1)
في هذا الظرف الحاسم الذي تمر فيه الئورة الفلسطينية طليعة الثورة العربية والذي يفرض تخطي الاساليب المتبعة في مخاطبتكم أوجه هذا التعميم على وجه السرعة الى من لم يلتحق منكم حتى الآن بصفوف المقاومة الفلسطينية لتضعو أنفسكم تحت تصرف اللجنة المركزية لحركة المقاومة للقتال مع رفاقكم الثوار والمقاومين الابطال الذين يدافعون عن الوجود العربي، والمستقبل العربي امام الهجمة الاستعمارية الصهيونية الرجعية في الأردن.
ان ما تواجهه حركة المقاومة في الأردن ومن ورائها حركة التحرر العربي بمجملها يفوق من حيث خطورته ونتائجه التاريخية حرب حزيران. ففي الخامس من حزيران هزمت الأنظمة العربية ذات العقلية الفوقية المتخلفة. أما هدف الاستعمار من المعركة الحالية فهو قهر الجماهير العربية وطليعتها الثورية المسلحة المتوجهة نحو تحرير فلسطين وإنقاذ المصير العربي من الصهيونية والاستعمار.
إن رفاقا لكم يخوضون اليوم معركة الشرف والبطولة والفداء وان التزامكم بمبادئ حزبكم المناضل حزب الوحدة والحرية والاشتراكية يفرض عليكم ان تكونوا معهم في ساحات النضال. لقد علمكم الحزب ونضال الحزب ان الجماهير وحده قادرة على صنع التحرير والنصر وان وجودكم جميعا في صفوف الجماهير المسلحة يشكل ترجمة عملية صادقة لمبادئ حزبكم وهو تتويج لنضالكم الطويل من اجل تحقيق آمال الجماهير.
فإلى الأمام ايها البعثيون المناضلون لمشاركة اخوانكم ورفاقكم الابطال في الاردن المناضل فطريق النصر وتحرير فلسطين يمر عبر عمّان.
ولرسالة امتنا الخلود
ألامين العام
الرفيق ميشيل عفلق
(1) تعميم صادر عن الاستاذ ميشيل عفلق الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي بعد مجزرة ايلول 1970 في الأردن.
————————–
البعث حضور دائم في ساحات النضال
أخي الحبيب الرفيق أبو هيثم
تحية العروبة والنضال، وبعد فلا يخفى عليكم أن الظرف الذي تمر به الأمة العربية والذي تتجمع أحداثه الآن في الساحة الأردنية إنما هو ظرف تاريخي مصيري، وإن أنظار الجماهير العربية متطلعة الى حزبنا والى ما يمكن ان يعمل ويقدم في المعركة.
ومع علمي وتصوري أن المعركة طويلة ومريرة، تقاس بالسنين العديدة، لا بالأيام والأسابيع. وانها معركة عقل وتخطيط وإعداد وبناء وصبر وصمود، بمقدار ماهي معركة شجاعة وإقدام وقتال، فثمة ظروف ومواقف لا مجال للتردد أو التهاون فيها، كالظرف الراهن في الأردن، فهو خطير وحاسم، وهو البداية العملية للمعركة الطويلة التي بدأها الحزب وحكم الحزب في العراق برفض الحل السلمي والإستسلام. وهو أول إمتحان علني جماهيري لصدق موقف الحزب وجديته خاصة ان الحزب وثورته في العراق قد ارتبطا والتزما علناً أمام جماهير الأمة العربية جمعاء بتعهدات ومواثيق تاريخية، وان أعداء الحزب وخصومه اتهموه بعدم الجدية، وانهم سيتخذون من تقاعسه أو تراجعه سلاحاً فتاكاً للتشهير بقصد إنجاح المؤامرات التي يدبرونها ليل نهار ليسقطوا الحكم وينهوا الحزب. إني أعرف أن الجماهير العربية لا تريد لحزبنا المناضل أن ينتحر في مقامرة طائشة بل تريد له ان يبقى ويقوى ليقود نضالها الطويل الصعب. ولكن من أهم شروط البقاء والقوة والديمومة أن يكون الحزب حاضراً في ساحات النضال والتضحية لا أن يسجل على نفسه التراجع. ليس صعباً على حكمتكم وتجربتكم أن تجد ذلك الحد من المشاركة الذي يفي بواجب النضال، دون أن يعرض للهلاك والفناء، ويهمني أن أؤكد هنا وأكرر ما قلته لكم شفاها في آخر مقابلة لي معكم، بأن بقاء الثورة في العراق هو نفسه يتطلب موقف الهجوم لا موقف الدفاع، والإقدام لا التراجع.
ايها الاخ الحبيب والرفيق الاعز
انتم إخواني وأحبائي، أريد لكم الخير والنجاح وأتمنى أن تكتبوا بنضالكم أشرف الصفحات وأنصعها في تاريخ حزبنا وأمتنا لذلك جئتكم بهذه الكلمة، مناشداً ومذكراً، رغم العزلة التي اخترتها لنفسي، ورغم ما أنا فيه من مرض وكبر سن إذ رأيت إن سمعتكم وكرامة الحزب ومصلحة الأمة مهددة إذا لم تقفوا الموقف الذي تنتظره منكم جماهيرنا العربية ويمليه دور الحزب التاريخي وعقيدته الثورية الأصيلة. واسلموا لرفيقكم المحب.
ميشيل عفلق
بيروت في 18 ايلول 1970
(1) رسالة الى الرفيق أحمد حسن البكر أمين سر القيادة القطرية في العراق.
———————
المؤامرة الكبرى
في الخامس من حزيران (1)، منيت الأنظمة العربية التقدمية بهزيمة تاريخية. ولقد كان من الطبيعي أن يسقط عار الهزيمة، الأقنعة التي كانت تحجب الأنظار عن رؤية حقيقة تلك الأنظمة واكتشاف الخلل الكامن فيها وفي أنماط العقليات والأساليب التي سادت المرحلة التي سبقت تلك الهزيمة..
وبعد أن استردت الأمة العربية وعيها من بعد ذهول الصدمة، اعتقدت أن بإمكانها تجاوز الهزيمة عن طريق تفهم أسبابها العميقة ومعالجة تلك الأسباب ولو اقتضى ذلك أن تعيد بناء ثورتها من الصفر. بيد أن الاستعمار والصهيونية وأعداء الثورة العربية، كانوا بالمرصاد لهذه اليقظة الجديدة. فقد جندوا قواهم لتعطيلها وإجهاضها والتآمر عليها والحيلولة دون الثورة العربية ودخول المرحلة الجديدة، مرحلة تحويل الهزيمة إلى منطلق للنصر، وقد وجد التحالف الاستعماري الصهيوني الرجعي في أنظمة الهزيمة خير عون له على تحقيق مخططه الإجرامي، ذلك أن ابتعاد الأنظمة العربية التقدمية عن الشرطين الأساسيين اللذين بدونهما لا تكون الثورة العربية ثورة بالمعنى الصحيح:
أ- مشاركة الجماهير الشعبية الواسعة.
ب- السير في طريق الوحدة العربية.
قد افقد تلك الأنظمة كل طابع ثوري جدي، وجعلها تقوم في الأساس على التسويات الطبقية والإقليمية والتسوية الضمنية مع الاستعمار والصهيونية وأعداء الثورة العربية. وكان محتوما أن يدخل الاستعمار بشكل أو آخر في بنيان تلك الأنظمة وان ينفذ إلى قياداتها وان يخط لتلك الأنظمة مجرى سيرها والحدود التي ينبغي أن تتوقف عندها.
وقد اتضح بعد فترة قصيرة من هزيمة حزيران المخطط الجديد المشترك الذي تعاونت على تنفيذه جميع القوى المضادة والمعيقة والمعادية للثورة العربية. فقد وجدت الأمة العربية نفسها بعد أيام وأسابيع من النكسة التاريخية معرضة لأدهى أنواع الدعايات والمؤثرات الهادفة إلى تخدير حسها بالهزيمة حتى تبتعد عنها صورتها يوما بعد يوم، وتنسى الذين تسببوا فيها، وتتم هكذا ببطء عملية ترويض نفسية فريدة من نوعها، لتوجيه الأنظار نحو مسببي الهزيمة كما لو أنهم منقذون، وتحويل صورة الهزيمة إلى ما يشبه النصر، وتصوير استمرار الأنظمة التي صنعت الهزيمة بأنه نصر يفوق نصر الأعداء. وبتعبير أوضح: حماية الأمراض والآفات التي أوصلت إلى ه حزيران وتمكينها من متابعة فتكها في جسم المجتمع العربي لكي تتجدد الهزيمة بين حين وآخر وتتوالد وتشيع اليأس وتقضي على كل أمل في الخروج من المحنة.
وهكذا سُلطت على الجماهير العربية الجريحة المنكوبة الأساليب الاستعمارية الجديدة لزرع اليأس في طريقها عن طريق دعم الصيغ القديمة التي جاءت بالهزيمة، وخلق الشعور لدى هذه الجماهير بأنها لم تخسر الحرب فقط، بل خسرت أيضا الدروس والعبر التي قدمتها النكبة.
وقد رافق عملية رد الاعتبار للأنظمة التقدمية المهزومة بطبيعة الحال، تشجيع للأساليب الفوقية البيروقراطية التقليدية المعادية لانطلاقة الجماهير، غير المؤمنة بدورها، المتسلطة على مقدراتها، المعيقة لتطور ثورتها، المزيفة لنضالها. وتشجيع مقابل أيضا للنزعات القطرية والانكماش الإقليمي والعشائري ولأساليب الغدر اللاأخلاقية. ومن خلال هذه الثغرات كانت الامبريالية والصهيونية والرجعية تجد منافذ لها للتآمر على اليقظة الجديدة للجماهير العربية الثورية الكادحة بعد الهزيمة. وقد أدى انكشاف التخلف والتردي والتسلط والتواطؤ لدى الأنظمة المهزومة المسماة بالتقدمية إلى تثبيت مواقع الأنظمة الرجعية واكتسابها قوة جديدة وعمرا جديدا بمجرد المقارنة مع تلك.
وأصبح من الجلي الواضح أن كل محاولة لبناء نظام تقدمي جديد بعد الخامس من حزيران، تحتاج إلى ارتفاع إلى مستوى جديد من التقدمية يكون نقيضا حقيقيا للنظم التقدمية الزائفة التي عرفتها مرحلة ما قبل النكسة. وان الفشل سيكون حليف الأنظمة الجديدة التي تطمح إلى تحطيم طوق التخلف والتجزئة والوقوع في أسر الاستعمار والصهيونية وأعداء الثورة العربية، إذا لم تنطلق من المبادئ والشروط التي تتطلبها المرحلة الجديدة، ومن الدرس الأول لهزيمة حزيران المتمثل بضرورة تخطي الأساليب القديمة التي ثبت فشلها وعجزها وتآمرها، أساليب العمل المغلق الفوقي والأساليب غير المؤمنة بالجماهير وبالوحدة وبأسلوب الكفاح الشعبي المسلح وبالعمل الجبهوي التقدمي.
وقد كان من البديهي أن تندفع الأنظمة الجديدة التي لم تتعظ بعبر النكسة إلى نفس المواقف التي وقفتها الأنظمة التي صنعت الهزيمة وان يكون موقفها من الكفاح المسلح ومن العمل الجبهوي ومن الوحدة العربية ومن الجماهير، على قدم المساواة مع الأنظمة التقليدية التقدمية والرجعية التي سبقت النكسة وكانت عاملا من عواملها.
وقد كشفت المحنة الجديدة الرهيبة التي أُدخلت فيها القضية العربية من جراء المشروع الأميركي التصفوي، هذه الحقائق بوضوح.
فقد تركزت جهود الأطراف المتآمرة جميعها على تعميم مشاعر اليأس المطبق على الجماهير العربية وقتل روح الصمود والثورة. وعندما برزت روح الصمود متجلية في الكفاح الشعبي المسلح، تكالبت على تحطيمها وإفنائها كل تلك الأشكال والنماذج من الأنظمة المتواطئة مع الاستعمار المعادية للجماهير المنكمشة على حدود مصالح التجزئة.
ومن هنا كان تاريخ السابع عشر من أيلول يحمل معه من المعاني والمخاطر ما يتجاوز في شروره الخامس من حزيران. انه مؤامرة كبرى تشترك فيها جميع الأطراف التي تتعارض مصالحها مع أي وجود ثوري وقومي سليم وصحيح في الوطن العربي. إنها مؤامرة لتصفية الثورة العربية وسحق كل روح ثورية عربية وكل قواعد ثورية أينما تكون. وليس ما نشاهده على ارض الأردن اليوم من حجوم مذهلة ومريعة للمحنة الجديدة، ومن انتظام وائتلاف الأطراف العاملة والممهدة والمسهّلة لتنفيذ المخطط الأميركي الإجرامي، ومن اعتماد على القوى الخارجية لسحق الجماهير المناضلة على ارض المعركة، ومن وضع للمقاومة المسلحة التي تمثل ضمير الأمة على قدم المساواة مع الرجعية العميلة ومن خنق للمبادرات الهادفة إلى إذكاء مشعل الثورة التي أطلقها العمل الفدائي الذي اكتسب من جديد شرف تجسيد إرادة الأمة بمجموعها. ليس ذلك كله إلا محاولة لتنفيذ اكبر جريمة في التاريخ الإنساني المعاصر، ولكن القوى المعادية للتاريخ وللشعوب التي فشلت في إيقاف تقدم البشرية المتحررة في فيتنام وأميركا اللاتينية والجزائر سوف تلقى نفس المصير من الجماهير العربية الزاحفة لنصرة العمل الفدائي وإنقاذ الثورة العربية وإسقاط المخططات الامبريالية الصهيونية الرجعية على ارض فلسطين العربية.
23 أيلول 1970
(1) مقالة نشرت في “الأحرار“ البيروتية بتاريخ 25 أيلول 1970.
—————————
الجماهير هي الضمانة
الجماهير هي المرجع الأخير (1)، والجماهير هي اليوم أكثر من أي وقت مضى صانعة الثورة وصانعة التاريخ.
ذلك أن الأحداث المصيرية كشفت الخلل والمرض في الأنظمة والحركات الثورية وكشفت كيف أن القيادات متخلفة عن القواعد، والقواعد متخلفة عن الجماهير.
الآن أكثر من أي وقت مضى الجماهير هي المرجع الأخير والقول الفصل في كل شيء، في الفكر، في العقيدة، في السياسة، في النضال، في القتال، في الشرعية والنظام، في الجوهر والاشكال.
مضى زمن السحر والطلاسم الثورية والانغلاق والاختباء وراء الألفاظ والشعارات. فالحركة الثورية تفقد هذه الصفة وتتحول إلى خدعة مفضوحة إذا لم تنفتح على الجماهير بكليتها، إذا لم تشرك الجماهير في أسرار تركيبها الداخلي وما ينتاب هذا التركيب من نواقص وأمراض.
الحركة الثورية بعد اليوم لا يحق لها أن تحمل هذه الصفة إذا لم تنفتح على الجماهير وتشركها ليس في مسيرتها الظاهرية فحسب بل أيضا في مسيرتها الداخلية والتي كانت حتى الآن باطنية مكتومة.
الحركة الثورية هي ملك للجماهير ولذلك فمن حق الجماهير أن تعرف طبيعة العلاقات التي تسود أفراد هذه الحركة وقياداتها، أن تعرف ما قيمة الفكر والمبادئ والنضال والأخلاق في تقدم الأشخاص أو تأخرهم داخل الحركة، أن تعرف طبيعة الوسائل والأساليب التي تؤثر في سير الحركة الداخلي وفي تماسكها وتحركها، أن تعرف طبيعة الجو الروحي والفكري الذي تتنفس الحركة ضمنه هل هو جو المحبة والحرية والثقة أم جو الخوف والشك.
ولا ضير على الحركة الثورية أن يكون فيها نواقص وأمراض إذا صممت على تصحيح سيرها والتخلص من أمراضها. فالحركة الثورية هي في آخر الأمر من إمكانيات وشروط وظروف هذا الشعب الذي هو شعبنا والشعب يدرك ذلك بحسه السليم العفوي إذا كانت الحركة منفتحة عليه تشركه في مسيرتها ومصيرها وتحمله مسؤوليته ليس في دعمها ونصرتها فحسب بل في المساهمة في تصحيحها ومعالجة أمراضها.
الإيمان بالشعب وبالجماهير يبقى لفظا بلا معنى، ورياء ونفاقا إذا لم يوصل إلى هذا الانفتاح الصميمي والى هذه المشاركة المصيرية. فالإيمان بالشعب وبالجماهير يعني أن هذه الجماهير هي القوة الكبرى الأساسية الوحيدة التي تستطيع أن تحقق أهداف الثورة العربية وإنها القوة الأساسية الوحيدة التي تستطيع أن تتكافأ مع قوة الاستعمار والصهيونية وأعداء تقدم الأمة العربية.
وإذا كان الاستعمار والصهيونية والأعداء عامة يمكنهم أن يستغلوا انفتاح الحركة الثورية وان يشهروا بنواقصها وأمراضها فان هذا الضرر لا يعادل جزءا بسيطا من النفع الكبير الذي تجنيه الحركة الثورية عندما تشرك الجماهير في مصيرها كله ظاهره وباطنه فتكسب بذلك ثقتها العميقة والتحامها الصادق الثابت.
الحركة الثورية الأصيلة تستطيع أن تصحح الأخطاء مهما كبرت ولكن التصحيح لن يأتي صادقا وجديا إلا بضمانة من وعي الجماهير ومراقبتها ومشاركتها. بدون هذه الضمانة تدخل عوامل الأنانية الشخصية والمنافع والأطماع والخوف على النفس لكي تجعل من التصحيح مناسبة للتمادي في الخطأ وإسكات المعارضين وإبعاد أصحاب المواقف المبدئية.
في الأحداث المصيرية التي تمر بها امتنا الآن بعد انكشاف النواقص والأمراض تنهار جملة أشياء من بينها تلك الشرعية الشكلية التي تتناقض بشكل فاضح وفاجع مع إرادة الجماهير ومصلحتها، ومع وعي الجماهير الثوري الذي اكتسبته في معارك القتال ودفعت ثمنه من دمائها.
فالحقائق المصيرية لا يسطرها الموظفون بل تسطرها الجماهير الثائرة الثورية الأصيلة عبر مسيرتها من اجل تحقيق أهدافها. والحركة الثورية تستطيع أن تدرك كل هذا وان تستلهم الضمير وتحكم العقل وتعود إلى طريق الأمان الحقيقي، طريق الديمقراطية في داخل الحركة الثورية، طريق المشاركة والمصارحة والتفاعل مع الجماهير.
23 تشربن الاول 1970
(1) مقال افتتاحي نشر في “الأحرار“ بتاريخ 23 تشرين الأول 1970.
——————————————————–
البعث والكفاح المسلح
ماذا يريد الحزب من الكفاح الشعبي المسلح ومن العمل الفدائي؟
هل يريد أن يسد نقصا كان فيه؟ أو أن يجاري حركات ومنظمات أخرى؟
كيف قصر حزب الثورة العربية، الحزب الذي سبق في وعيه ونظرته الثورية وفي نضاله كل الحركات العربية واستوعب طبيعة المرحلة القومية؟ كيف قصر عن فهم هذه الناحية الخطيرة؟
الاستنتاج المنطقي هو أن الحزب إذن ليس فيه نقص من ناحية واحدة، من ناحية معينة هي ناحية الكفاح المسلح، وإنما الحزب مقصر منذ زمن في كل نواحيه، وهذا ما حجب عنه رؤية الحاجة الأساسية إلى الكفاح المسلح وأهمية معركة فلسطين في الثورة العربية، وأنشغل بأمور ثانوية بالنسبة إلى المعركة.
فالحزب عندما يبادر إلى تشكيل الجبهة والعمل في ارض المعركة إنما يريد لا سد نقص معين فيه وإنما الشفاء من أمراضه كلها. يريد أن يتجدد كليا، يريد أن يولد ولادة جديدة سليمة، ولادة فكرية، ولادة عملية، ولادة نضالية. هذه نظرة يجب أن تكون واضحة لأن الجبهة بالنسبة إلى الحزب ليست جزءا من عمله، ليست الجزء العسكري، ولا الجزء القتالي، ولا الجزء الفلسطيني ونما هي الحزب بإرادته في الانبعاث من جديد، في إرادة التصحيح الشامل والعميق في أوضاعه، وترجعون أحيانا إلى تراث الحزب قبل 20 و25سنة، في ذلك الحين كان الحزب في أوضاع سليمة، ولذلك كان يرى بوضوح الطريق الصحيح ويلمس بعمق الحاجات الأساسية للأمة في مرحلة الثورة. هذا قبل 20 و25 سنة ولكن قبل 10 سنوات مثلا، من عشر سنوات إلى الآن بدلا من أن نرى تقدما وتعمقا في هذه النظرة الثورية والممارسة نجد ابتعادا عنها. أي نظرة شاحبة وكأنها ذكرى في أذهان بعض الحزبيين لم تعد حقيقة نابضة بالحياة يحياها الحزب. هذه سمات وأعراض المرض الذي أنتاب الحزب.
المطلوب إذن هو التحرر من كل العوائق المصطنعة التي دخلت على الحزب، كل التزييف، كل الجمود، من خلال عمل نضالي ثوري إلى ابعد حدود الثورية فيه كل الحرارة القادرة على أن تذيب هذا الجمود المزمن. ولكن لنكن صريحين وواضحي النظرة ونعرف بأن العملية هذه تتطلب وقتا، وتتطلب ممارسة وتتطلب جهودا فكرية وتنظيمية وانغماسا في النضال حتى نصل إلى النفسية الجديدة، الانتقال الشكلي من هنا إلى الجبهة هذا لا يغير النفوس ولا يغير العقول، ولا يحقق المعجزات. يجب أن تتوفر شروط الولادة الجديدة شروط التبدل العميق وإلا نكون كمن يخدع نفسه، كمن يحتال على نفسه وعلى الشعب.
إذا حملنا معنا كل العقلية القديمة والأمراض القديمة إلى الجبهة فلن يخرج الشيء الجديد المرجو وبالطبع لسنا يائسين من الحزب ولا يجوز أن نيأس ولم يعدم الحزب كل إمكانية ولم يفقد كل جوهر، فيه إمكانيات وفيه نفوس خيرة وفيه استعدادات نضالية. والتاريخ والأدلة كثيرة على حيوية الحزب وقدرته على التجدد.
لقد أظهرت محنة 23 شباط أن في الحزب بقايا ثمينة جدا من الصمود والروح النضالية والفكر الثوري كما أن صمود رفاق في القطر العراقي دليل آخر على حيوية الحزب. كما أن ظهور وتفجر قوى نضالية في أقطار ومناطق مختلفة بين الحين والآخر في تونس مثلا، وغيرها أيضا أدلة على أصالة الحزب. هذا لا يجوز أن نبالغ فيه أيضا. هذا فقط يسمح لنا بأن نحاول المحاولة الحاسمة محاولة تجديد الحزب من خلال معركة فلسطين والكفاح الشعبي المسلح. أي أن في الحزب عناصر نضالية وللحزب فكره الثوري وفيه الاستمرار بين ماضيه السليم وبين المستقبل المرجو له، استمرار يتجسد في قلة مناضليه وهؤلاء يعقد عليهم الأمل بأن يكونوا الأساس لانبعاث الحزب من جديد.
إن الحزب اعم واشمل من العمل القتالي بلا شك. حزب الثورة العربية له مهام متعددة واسعة تتناول جميع النواحي الحياتية العربية في السياسة والثقافة والاقتصاد والتربية والاجتماع والحرب والقتال وكل شيء.. ولكن نرجع إلى المقدمة التي انطلقنا منها وهي أن الجبهة بالنسبة إلى ما انتاب الحزب من تشويه وتزييف طوال سنين، لا تعود مجرد ناحية من نواحي نشاطات الحزب وإنما تصبح المدخل إلى تجديد كلي وعميق للحزب. فهذه المقدمة تعني أنه من المفروض أن يؤدي العمل في الجبهة إلى تجديد فكر الحزب.
فكر الحزب ينبغي أن يولد من جديد في جبهة التحرير العربية. فكر الحزب الذي توقف من سنين ولم يعد يواكب التطور.. وكذلك تنظيم الحزب وكل حاجات الحزب التي سنكتشفها اكتشافا من خلال الممارسة في العمل الشعبي المسلح. لأن الصيغة الراهنة التي كان يعمل فيها الحزب في معظم منظماته وفي معظم أقطاره صيغة فقدت الحياة ولم تعد ناجعة ولا ناجحة.
ما هو دليل حيوية حزب من الأحزاب الثورية؟
إقبال الشباب عليه أول دليل، وإقبال الجماهير الشعبية الكادحة عليه هو الدليل الثاني:
ولولا تبني الحزب لشعارات المعركة لما كان بين الحزب والجماهير الكادحة من صلة غير صلة تبادل المنافع. طبعا جماهير العمال والفلاحين لا تجد في الأقطار العربية التي وجد فيها الحزب وانتشرت أفكاره غير حزب البعث ملجأ لها لتحقيق مطالبها لترفع عن نفسها الغبن والاستغلال، ولكن الجماهير العربية الكادحة تطمح إلى حياة جديدة لا يقف طموحها عند تخفيف الظلم أو تحقيق بعض المكاسب، ولم تعد الصيغة القديمة تلبي هذا الطموح. والذي يستطيع الآن أن ينفذ إلى قلوب الجماهير وأعماقها هو نداء معركة التحرير.
ماذا ينتج من هذا التصور للجبهة ولولادة الحزب من خلال الجبهة؟
ينتج بكل بساطة أن العناصر الطليعية التي أدركت قبل غيرها ما تعني الجهة بالنسبة لحياة الحزب وبالتالي بالنسبة لحياة الأمة وللمعركة المصيرية للأمة العربية هي المكلفة بأن تبني الحزب بناء جديدا بنفس الروح الثورية الأصيلة التي تُبنى فيها كل الثورات. أي بالانقطاع التام، بالإخلاص التام لهذه التجربة، بالتحرر من كل المفاهيم و العادات القديمة، من مفهوم البيروقراطية والروتين والعمل السياسي التقليدي الذي دخلت عدواه مع الأسف الشديد إلى الحزب.
فالجبهة هي ككل ثورة، هي أولا بقيادتها، بنوعية القيادة، بقدرة هذه القيادة على أن تعيش التجربة الجديدة بكل انقطاع وتفرغ وبكل إقبال وحماس لأنها ستجد في هذه التجربة معنى حياتها والمعاني الأصيلة للحزب ولفكرة الحزب ولأهدافه.
فالمنظمات الأخرى التي ليس لها أحزاب لا يطلب منها ما يطلب من جهة التحرير العربية. إن الجبهة بما أنها مولودة من فكرة نضال الحزب فهي تعتمد على قوة لا تتوافر للمنظمات الأخرى. والجماهير العربية تنتظر منها أكثر مما تنتظر من المنظمات الأخرى.
يخرج من هذا التصور أيضا أن الجبهة هي صيغة تجدد الحزب و انبعاثه يخرج منه أن الجبهة لا يمكن أن تعتمد على السلطة، حتى ولو كانت هذه السلطة منتمية إلى الحزب وبينها وبين الحزب روابط عديدة.
في هذه الأمور لا يمكن التسويات ولا يمكن الاحتيال. أما جبهة ثورية وإذن قوتها الأساسية ومصدرها ومصدر قوتها هو الشعب ومقدار تجاوب نضالها مع إرادة الجماهير الشعبية وأماني الجماهير وثقة الجماهير وأما جبهة واجهة للسلطة وطريقها مسدود. وهذا شيء معروف لدينا جميعا لم يمنعنا من أن نعتمد في البداية على ما تقدمه سلطة الحزب في العراق ولكن كنا أيضا عارفين بوضوح أن هذا الشيء مؤقت و لا يجوز أن يطول أمده ولا يجوز أن يستمر وإلا فقدت الغاية الأساسية من الجبهة. لأننا لم نقصد أن نضيف منظمة إلى المنظمات الموجودة منظمة فدائية إلى عديد المنظمات الأخرى. وإنما أردنا أن تكون الجبهة هي المنظمة الحقيقية منها يتجدد الحزب، وإذا تجدد الحزب تتجدد الثورة العربية والواجب أن يصبح الحزبيون في قيادة الجبهة هم قيادة الحزب.
قيادة الجبهة هي قيادة الحزب، هي أعلى قيادة في الحزب، هي القياد القومية، ولكن كما قلت في بدء هذا الكلام يفترض فينا أن نكون عميقي النظرة صادقين وجادين في العمل الثوري لأن حياة الأمة رهن بصدق هذا العمل.
هذه غاية يجب أن نبلغها أي أن تصبح قيادة الجبهة هي أعلى قيادة في الحزب أي بالجدارة والكفاءة والممارسة والتفاني في العمل تصبح قيادة الجبهة هي أعلى قيادة في الحزب ولكن ليس بالشكليات والانتقال الشكلي من مكان إلى مكان وبتغيير الاسم. وبين الواقع الراهن وبين ما نأمله ونرجوه مسافة ومراحل وشروط واقعية لا تحدد سلفا ولا تحدد على الورق بقدر ما تستكشف وتستجلى من التجربة نفسها. المطلوب أن نعاني التجربة بصدق.
16كانون الثاني 1970
(1) من حديث للأستاذ ميشيل عفلق ألقي 16كانون الثاني 1970.
—————————
للبعث رصيد في ضمير الأمة
ايها الرفاق (1)
كانت بالفعل امنية غالية ان التقي بمناضلي البعث في هذه المدينة المناضلة.. إنني أعطي لتأثير المكان أهمية خاصة فهناك في الوطن الواسع بعض الأمكنة، بعض المناطق، بعض المدن تتجسد فيها معان قومية ونضالية أكثر مما تتجسد وتتمثل في غيرها من الأمكنة، ولاشك ان هذه المدينة هي من الأماكن المرموقة في تاريخ النضال العربي الحديث، وكان طبيعيا جدا ان ينشأ حزب البعث فيها، وان ينمو ويأخذ طابعا شعبيا أصيلا عميقا. فحزب البعث ايها الرفاق، ولد من البيئة الوطنية، قبل اي شيء آخر، الوطنية بمعناها البسيط الصافي كما يفهمها شعبنا وكما يفهمها كل شعب، كانت هي المهد الذي نشأ وترعرع فيه حزبكم.
قبل الافكار والنظريات، قبل التطرق الى المشاكل الاجتماعية والاقتصادية كان هناك جو هو الغالب، هو الطاغي، هو المؤثر بعمق، هو المحرك والدافع: ذلك هو جو الوطنية المكافحة ضد الاستعمار، ضد الأجنبي الدخيل، ضد الاستعباد، ضد الاحتلال. وإذا سألتم عن سر أصالة هذا الحزب، وعن سر صموده طوال هذه السنين، وعن سر قربه من روح الشعب، ومن أوساط الشعب.. فالجواب في هذا الذي ذكرت بأنه نشأ نشأة طبيعية سليمة سوية، نشأ في بيئة ومن وسط وعلى أيدي شباب رضعوا الوطنية منذ الصغر، وعاشوا بين أهل وجيران يتحسسون بهذا الشعور القوي، ويلبون نداءه، فكانت نشأة الحزب اذن منذ بدايتها سليمة، بمعنى انها عبرت عن أسمى وارفع وأقدس شعور في الانسان، شعور الدفاع عن الوطن، وعن الكرامة وعن الحرية، وبمعنى ان هذه النشأة كانت متصلة بروح الشعب تستلهم هذه الروح وترجع اليها كلما التبست الأمور وتعتبرها اصح مقياس، واصدق مقياس، قبل الأفكار وقبل النظريات. ولان أفكار الحزب اهتدت بهذه الروح الوطنية الشعبية، ظلت قريبة من الحياة بعيدة عن التطرف، وعن الخطأ، بعيدة عن الشذوذ، بعيدة عن الكذب والنفاق، لان الانطلاق من الكتب وما يسجل في الكتب قد يسمح احيانا بافتراق بين القول والعمل.. بين الفكر والسلوك، ولكن عندما يكون الانطلاق من الجو والتربة الوطنية الشعبية يكون للحركة، للحزب، رصيد من الصدق لا ينضب. وهذا ما يفسر كيف استطاع الحزب ان يتغلب على عديد من محاولات التشويه والتزييف خلال تاريخ مسيرته الطويلة، لانه تسلح بتلك الأصالة الأولى.
وكما بدأ الحزب يلبي الاندفاعات الوطنية العفوية ثم اخذ ينمو وينضج ويتعمق في تلك الوطنية حتى يعطيها المضمون الحي القوي المتين الذي يكفل لها الصمود والدوام والنصر، فتوسع وتعقق في معاني الوطنية حتى كشف عن الجوانب الاجتماعية في حياة الوطن والمواطن وكان بذلك سباقا اذ جمع الثورة القومية التي تعني التحرر من الاستعمار والتحرر من التجزئة، الى الثورة الاجتماعية التي تعني ثورة الإنتاج وثورة في امتلاك وسائل الانتاج والتي تعني الاشتراكية وتعني توفير الوسائل التي تتيح للمواطن العربي أن يناضل ضد الاستعمار ويكون نضاله ناجعا ناجحا، وان يناضل ضد التجزئة وان يصل الى تحقيق الوحدة قلت: كما ان الحزب نما ومر بهذه المراحل بشكل طبيعي لا اصطناع فيه، كذلك أرى ان هذه المدينة قد مرت بشكل طبيعي بهذه المراحل ايضا، فانتقلت على يد حزب البعث ومناضليه من مرحلة الوطنية العامة العفوية الى مرحلة الوطنية المعمقة التي تدرس الجوانب الاجتماعية، في حياة المواطنين، والتي تبني بهذا الشكل نضالها على أمتن الأسس واصلب الأسس، اي على الطبقات الشعبية ذات المصلحة في التحرر من الاستعمار وذات المصلحة في التحرر من التجزئة، وذات المصلحة في التحرر من الاستبداد والإقطاع والرأسمالية المستغلة.
فكان عمل البعث في هذه المدينة تكملة طبيعية وضرورية للمرحلة الوطنية وهذا ما اعطى لنضال هذه المدينة ذلك المركز المرموق، لأنها عرفت كيف تتابع نضالها وتتابع تطورها، ولا تتوقف وتتجمد عند مرحلة الوطنية التي لا محتوى لها، بعد تغير الظروف وجلاء الأجنبي المحتل، فانها اذا لم تعط المحتوى الاجتماعي الذي اعطاه حزبنا فإنها تتحول الى شعار خادع يخفي المصالح الآثمة التي تستغل الشعب وتستعبده.
ايها الرفاق
بودي ان أحدثكم طويلا، واذا لم أتمكن من الإطالة في هذه المرحلة فآمل ان استطيع اكمال حديثي اليكم في مرة ثانية.
اني افضل ان يكون حديثي من خلال ما يجول في أذهانكم من اسئلة ومن خواطر في هذه الظروف القومية العصيبة التي تهز الوجدان العربي، إذ أني لا أحب أن يكون الكلام من طرف واحد، وأن يلقى كتلقين وتدريس.. أرى ان الفائدة تتحقق، وان طبيعة الحزب الثوري الشعبي ان لا يكون فيه فرض للافكار وللتقييمات، وان يصل الى ذلك بالحوار والتفاعل بين المناضلين، بين القيادة والقواعد.. وكثيرا ما تلهمني أسئلة الرفاق في قواعد الحزب أفكارا وتنبهني الى ملاحظات أكون غافلا عنها او ناسيا لها، ولعلكم تعرفون بان الأحاديث التي قيلت في هذا الحزب منذ بدايته وعلى مدى سنين طويلة كانت نتيجة هذا التفاعل وهذا الحوار، لذلك اترك لكم المجال كي تطرحوا أسئلتكم وملاحظاتكم.
الاجابة على الاسئلة
سوف تكون أجوبتي غير خاضعة لتسلسل الاسئلة لان هناك بعض الاسئلة متشابهة، ولكن أرجو ان أتمكن من الاجابة على الاسئلة كلها.
في اكثر من حديث، صارحت أعضاء هذا الحزب، صارحت قواعد الحزب، ليس في قطر واحد بل في اكثر من قطر، بان نشوء هذا الحزب وتطوره لم يكن مثل بقية الاحزاب والحركات الثورية، ولم يجيء دوما مطابقا للرغبات والاماني التي كنا نتصورها في البداية، والسبب في ذلك لابد ان يرجع الى شيئين:
نقص في الحزب نفسه اولا، ثم طبيعة المرحلة التي تمر بها الأمة أو التي وصلت اليها امتنا في مسيرتها التحررية ثانيا.
اذن التفسير لا بد ان يأخذ بالاعتبار هذين العاملين، شيء متعلق بالحزب، بتكوينه، بأشخاصه، بظروفه، بتنظيمه، بوسائله.. وشيء آخر يتعلق بالمجتمع الذي يعمل الحزب فيه.
عندما نريد ان نيأس ونتشاءم نجد مبررات كافية وأكثر من اللزوم للتشاؤم واليأس، وعندما يحلو لنا ان نغتر بأنفسنا ايضا قد لا تعوزنا الأدلة لكي نرى اننا سبقنا غيرنا وحققنا أشياء لم يستطعها غيرنا.
ولكن الحقيقة الموضوعية هي بين الغرور والتشاؤم. بعد ثلاثين سنة من العمل في هذا الحزب وما تخلل هذه الاعوام الثلاثين من نضال ونشاط وانتاج، واحيانا من جمود وفتور في العمل وضياع وتشويه، بعد هذه المدة الطويلة استطيع ان أقول انه كان يمكن لحزب البعث ان يكون على صورة أحسن مما هو عليها، أن يعطي نتائج خيرا من التي اعطاها، أن يكون تنظيمه أقوى وانضج وأكثر استمرارية، أن تكون أفكاره أوضح، أكثر علمية في العرض والتبويب والشرح.. ان تكون خطواته السياسية فيها اخطاء اقل مما وقع، ان تكون مدروسة أكثر، ان تكون اقل عفوية وارتجالا، ان تكون نتيجة خطة واستراتيجية، كل هذا وأكثر منه يجوز قوله، ولكن الى حد. وهذا ما الفت اليه الانظار: بان هذا المستوى الأفضل والأرقى الذي كنا نحلم به ولم نستطع بلوغه وكان يمكن ان نحقق ما هو أفضل نسبيا فقط، بدرجة نسبية من المستوى المتحقق. ان العامل الثاني الذي أشرت اليه وهو المتعلق بالمجتمع وبطبيعة المرحلة التي وصلت اليها الأمة، في تطورها، يفرض حدودا للتحقيق، أي ان الأماني لا تكفي والإرادة وان تكن خلاقة فانها ايضا لا تكفي، لا تستطيع ان تتجاوز امكانيات مرحلة معينة في حياة الأمة.
صحيح انه كان بالامكان لولا نواقص معينة وعثرات وأمراض والخ.. لجاء الحزب على مستوى أفضل. ولكن الا نتساءل لماذا لم يظهر في هذا الوطن العربي الكبير من الخليج الى المحيط، لماذا لم يظهر حزب كحزب البعث ويتلافى الأخطاء كلها او بعضها او أكثرها تلك التي صدرت عن حزبنا، الخ؟؟..
فاذن هذا يرجعنا الى الواقع، ويرينا الحدود التي يفرضها الواقع، ويبقى أمامنا مجال واسع رحب للتصحيح وللتحسين وللسير نحو الافضل، هذا في داخل الحزب، في مجال الفكر، في مجال الإنتاج الفكري والثقافي، في مجال التنظيم والعمل مع الجماهير وتوعيتها وتثقيفها والتعاون معها في القضايا الاجتماعية..
لم أقصد من الاشارة الى طبيعة المرحلة والحدود التي تفرضها انه لا يوجد مجال للسير نحو الأفضل إنما ايضا لو كانت طبيعة المرحلة التي تجتازها الأمة قابلة للاكثر –نوعيا وليس كميا- كان يمكن أن يأتي الحزب أكمل من الناحية الكمية.
من الناحية النوعية هذا متعلق بطبيعة المرحلة ولولا ذلك لولد ذلك الحزب الكامل، لان لا احد يمنعه من الظهور، ولان لا احد يمكن ان يمنع ولادة حركة عميقة اصيلة.
ايها الرفاق
رفضنا اليأس والتشاؤم كما رفضنا الغرور، ولكنا نطلب التفاؤل وكنا دوما متسلحين به منذ بداية عملنا في هذا الحزب.
التفاؤل فضيلة نضالية ولا تتعارض مع النظرة الموضوعية ولكن هي تعبير من جهة عن نفاذ البصيرة الثورية التي تري ما هو كامن في الأمة وفي الشعب، ما سوف يتحقق بعد حين وان لم يكن الآن متحققا، وهو تعبير من جهة أخرى عن ارادة النضال والاستمرار وعن روح الكفاح وعن تحقيق شخصية الانسان العربي من خلال الكفاح والنضال، فلأنه مصمم على هذا، ولان هذا سر وجوده ومعنى حياته فلا بد له أن يتفاءل.
افكار الحزب كما يعرفها الكثيرون، وكما اشار بعض الرفاق في اسئلتهم الى انها جاءت في كثير من الاحيان احاديث مثل هذا اللقاء وهذا الحديث، ومقالات في مناسبات، وهذا له تفسيره، تفسيره الذاتي والموضوعي.
الاشخاص لا يمكن ان نفرض عليهم ما ليس في طبيعتهم. هناك من يؤلف الكتب بالشكل المدرسي المعروف، بشكل البحث العلمي، وهناك من يتفاعل مع التجربة النضالية ويأخذ الأفكار حية من هذه التجربة، على غير أسلوب البحث المعروف، التفسير الذاتي هو طبيعة الشخص الذي يكتب ويتحدث والتفسير الموضوعي يرجع الى ظروف الحزب، ظروف الحركة.
لاشك انكم تعرفون عن الحركة الشيوعية اشياء كثيرة لانها اصبحت شائعة ومتدارسة ومعروفة على أوسع نطاق.. وجدت النظرية، وضعت الكتب والأبحاث العميقة التي استغرق وضعها سنين وسنين. ماركس ابو الشيوعية وواضع نظريتها، وضع مؤلفاته خلال سنين طويلة ثم جرت المحاولات لتأسيس الحركة، وتعثرت المحاولات وفشل بعضها الى أن استقرت وسارت في طريق مستقر ومستمر.
حزب البعث لم ينشأ بهذا الشكل، وكثيرا ما قلت ذلك ووضحته للقواعد في اكثر من مناسبة، والآن في كلمتي الاولى عندما ما حدثتكم عن نشأة الحزب وبينت لكم أن الرصيد، رصيد الأصالة والسلامة في تركيب هذا الحزب آت من نشأته الوطنية، وانه قبل ان يعمل للاشتراكية ولشتى النظريات الاجتماعية كان يلبي نداء الواجب الوطني والشعور الوطني.
والسنوات الاولى من تاريخ الحزب معروفة، معارك الحزب، حتى قبل نشوء الحزب هناك تاريخ لمؤسسيه ولبعض رفاقهم قبل تأسيس الحزب، هناك تاريخ نضال وطني ضد الانتداب، ضد الاحتلال، ضد العملاء، وهناك وقائع قد لا تكون معروفة على نطاق واسع ولكنها ليست سرا من الأسرار.
فالحزب بدأ بتلبية حاجات ونداءات ملحة، لم يبدأ بوضع نظريات، ولو ان الأفكار كانت منذ البداية في حالة تصور عام، شهد على ذلك، كتابات سابقة لتأسيس الحزب، ولكن الافكار ولدت مع الممارسة عدا التصور العام الذي كان سابقا، فافكار الحزب هي وليدة النضال، وليدة الممارسة.
ظروف أمتنا، ظروف مجتمعنا لم تمهلنا، لم تسمح لنا ان نعمل كما عمل فلاسفة الشيوعية، دخلنا النضال بنداء بسيط ولكنه جوهري، زاد من الفكر والثقافة القومية والانسانية، وبدأت هذه الافكار البسيطة المكثفة، بدأت تتفصل وتتفرع وتتنوع خلال الممارسة.
يحدث ان اشياء كتبت قبل عشرين سنة او قيلت قبل خمس عشرة سنة، وبقيت مسجلة على الورق ظن انها فهمت او استوعبت، وربما تكون فهمت من الشباب، لكنها لم تدخل في حياة المجتمع، لم تؤثر لم تغير، لم تصل الى الذين بيدهم وسائل التأثير والتغيير، بقيت افكارا عائمة، والآن في هذه السنة او قبل سنة او سنتين، نجد لبعض هذه الافكار معنى حيا متجاوبا مع حاجات راهنه موجودة الآن.. تنكشف لنا آفاق نتيجة تطور الأحداث، نتيجة اغتناء التجربة القومية، نتيجة ما مر على أمتنا من فترات تقدم وفترات انتكاس وتقهقر.
نجد ان هذه الافكار تأخذ، كما لو كان لأول مرة، معناها، كأن لم يكن لها معنى في الماضي، لأنها بقيت دون تأثير. ماذا نستنتج من ذلك؟
نستنتج شيئين: شيئا متعلقا بالحزب، وشيئا متعلقا بطبيعة المرحلة اي بالمجتمع العربي.
الحزب لم يكن في كل الأوقات وربما لم يكن في معظم الأوقات مسيطرا على نفسه سائرا حسب خطة وحسب برامج وحسب استراتيجيه تنظيمية كالجسم الحي، كالعفوية الحية، له رأس يوجه ويقود.. هناك تربية كما ذكر الرفيق، تربية يعطيها الحزب لأعضائه فيختلف مستواهم عن الزمن الذي كانوا فيه خارج الحزب، تتغير شخصيتهم ولو أنهم في اساس الشخصية يبقون هم هم، الا ان الشخصية تتفتح، وتكتشف كنوزها وخبراتها وتتمرن وتتمرس وتنضج من التجربة.
هكذا يكون الحزب الثوري الصحيح السليم، يكون فاعلا، يكون خلاقا، أي لا يكتفي باعطاء الافكار دائما، يربي الشخصية، وهذا مع الأسف ضعيف جدا في حزبنا، لا أقول انه لا توجد بين البعثيين صفات مشتركة.. وشيء يمكن، بتجاوز كبير، ان نسميه الشخصية البعثية، ولكن بصراحة، هذا ضعيف ودون المستوى المطلوب.
لم توجد فى الحزب تربية حزبية بالمعنى الصحيح، تربية للعقل والروح والأخلاق، تربية للعمل والممارسة والنضال، والعمل في داخل المجتمع، في التعاون مع فئات الشعب.
هذه نواقص إذا كنا نطرحها بهذا الشكل الصريح، وقد طرحتها مرارا وخلال سنين، فلأني لم افقد الأمل بان الحزب يستطيع ان يصحح، يستطيع ان يسيطر على نفسه، يستطيع ان يمتلك الصورة الصحيحة عن مهمته التاريخية، عن واجباته، عما يجب ان يعمله وان يكون عليه. وان الوقت لم يفت وانه اذا كنا مضطرين ومن واجبنا ان لا نجد لأنفسنا الاعذار لئلا نتهاون ونتراخى. ايضا يجب بين حين وآخر ان ننظر الى حركتنا نظرة تاريخية لا نظرة الافراد، ونظرة الحاضر، ونقيسها بعمر الفرد ونقول: مضت ثلاثون سنة وما زلنا نعاني أمراضا ونواقص فادحة، هذا شيء مفيد أن ننتبه الى نواقصنا ولكنه من المفيد والضروري أيضا أن نقول بان ثلاثين سنة ليست شيثا كثيرا في حياة أمة وان الحزب يستطيع في كل لحظة، ان يتدارك نفسه ويتدارك أخطاءه وان يدخل عنصر الإرادة بشكل قوي لأنه لم يستعمل هذا العنصر كما يجب في الماضي، وان يدخل معركة مع ذاته ليصحح ويسد النقص ويبني نفسه بناء جديا.. والوقت لم يفت، وعلى العكس كل هذه الاخطاء والعثرات وحتى النكسات الكبيرة يمكن ان نحولها الى فوائد ونفع كبير، عندما ندرسها ونحللها ونخضعها لقوانين العلم والتجربة الثورية ونقارن تجربتنا مع تجارب حركات ثورية في العالم.
الوقت لم يفت، بل هناك فرصة كبيرة لان الساحة شبه فارغة، والأمة تنادي من يقويها في الظروف الحالكة، والحزب رغم كل ما افتري عليه وكل الدعايات الاستعمارية والرجعية، يبقى له رصيد في ضمير الأمة ويبقى متمتعا بثقة غير قليلة.
تكلمت عن البداية.. فلننتقل حتى لا يتجمد الحديث على نقطة. لننتقل الى ظروفنا الراهنة، ظروف الأمة الراهنة، الى سؤال طرحه رفيق لكم هو سؤال يطرحه كل عربي اليوم: كيف نرفض الحل السلمي رفضا عمليا وجديا وليس بالكلام واللسان فقط؟
هذا يضطرني ان اعود الى افكار الحزب والى الماضي ايضا..
ايها الرفاق
الحزب وضع تصورا للثورة العربية لم يأخذ شكل البحث العلمي ولكنه واضح، ويمكن رؤيته والرجوع اليه من بداية الحزب حتى الآن وخلال كل هذه الأعوام.. نظرة واحدة تتكرر، نظرة واحدة تفرض نفسها، هذه النظرة لم يشارك الحزب فيها أخذ من الحركات أو الأنظمة التقدمية ومما سمي بالثورات وبالأنظمة الثورية في الوطن العربي، لذلك فان ما يسمى بالحل السلمي المستمد من قرار مجلس الأمن، والذي جاء على اثر هزيمة حزيران، يمكن للبعثيين ان يقولوا بان الذين قبلوا بالحل السلمي في قرار مجلس الأمن في عام 1967 كانوا قابلين به قبل ذلك بعشر او خمسة عشر عاما. لم يقبلوه كشيء جديد، كانوا قابلين به ضمنا لأنهم لم يأخذوا بالنظرية الثورية الصحيحة. النظرية الثورية الصحيحة لخصها حزبنا بشيئين: الوحدة، والنضال المستمر من اجل التحرر والتحرير او: الوحدة والتحرير.
الأنظمة التي قبلت بالحل السلمي قبل ذلك، اي منذ اليوم الاول لنشوئها، قبلت بالقطرية ورفضت النضال، رفضت نضال التحرير، رفضت ان تجعل قضية فلسطين هي مركز ومحور نضالها، ولو ادعت احيانا غير ذلك بمجرد ادعاء.
الحزب خلال ثلاثين عاما الح على هذه الفكرة، الوحدة العربية بالنضال، وحدة النضال من اجل تحقيق اهداف الثورة العربية، اهداف الأمة العربية في أن تحرر ارضها وتحرر مصيرها من كل ضغط وسيطرة استعمارية، وتكون مالكة لإرادتها ومصيرها، وان تنظم مجتمعها التنظيم السليم العادل الذي يضمن اكبر مردود واحسن انتاج للوطن والمواطنين.. يبني الوطن ماديا ويبني المواطن معنويا وروحيا وفكريا..
اول تجربة للوحدة في هذا العصر دخلها الحزب وساهم فيها وعلق عليها الآمال الكبار لكي تكون بداية للتحرير: لو رجعتم الى كتابات الحزب، تجدون هذا الكلام الصريح الواضح: ان الوحدة تقود الى الثورة والثورة تقود الى الوحدة.
ماذا عملوا بتلك التجربة بدلا من ان تسير على أساس النضال المستمر، النضال الثوري لكي ينتقل ويشمل بقية الاقطار في استراتيجية للوحدة من أجل التحرير، أي توحيد النضال من اجل التحرير، كانت حقيقة تلك الوحدة التي استبعد الحزب من التأثير فيه، ومن الفعل فيها، ووضع على الهامش منذ الايام الاولى، كيف نفذت وكيف كان المخطط؟ المخطط انها وحدة مغلقة تقتصر على هذين القطرين وتجعل هدفها التنمية لا التحرير.
التنمية بديلا عن التحرير، الهاء عن التحرير، ولكن الحزب كان دوما قبل هذه الوحدة بسنين، وأثناءها وبعدها، يلح على أن كل تنمية لا تكون ضمن استراتيجية التحرير ومعركة التحرير هي فاشلة، وعاجزة، وكل تنمية قطرية تبقى دون قوة العدو، وقوة الاستعمار والصهيونية بكثير. التنمية خارج استراتيجة التحرير ومعركة التحرير هي تسوية مع الاستعمار واسرائيل بصرف النظر عن النوايا.
التنمية لكي تكون مجدية يجب ان تكون تنمية للمعركة وليست بديلا عن المعركة، وتنمية في اطار الوحدة، وعندها تكون مجدية، لأننا انطلقنا من هذه المسلمة بان ليس غير مجموع أجزاء الوطن العربي بقادرة على ان تتكافأ مع متطلبات المعركة ضد الاستعمار والصهيونية. القطر مهما يكن كبيرا وغنيا بالامكانيات يبقى دون متطلبات المعركة..
الوحدة فقط والتي تتحقق بالنضال ووصفناها بانها الوحدة المقاتلة، الوحدة التي يتسلح فيها الشعب، جماهير الشعب، الوحدة التي تبدأ بوحدة النضال، وتتم التنمية على نطاق الوطن العربي الموحد او السائر نحو التوحيد ومن اجل دخول معركة التحرير، هذه التنمية هي التي تبقى والتي تجدي وتتكافأ مع قوى الاعداء.
اما كل شيء آخر يذكر عن التنمية هو بين جهل وتضليل، والجهل داخل على الاقل في الماضي، الآن امكانية الجهل محدودة جدا بعدما تكشف من هزيمة حزيران ونتائجها.
ولكن قبل عشرين سنة وقبل خمس عشرة سنة، هذا النظام التقدمي الذي ظهر في مصر قبل تسع عشرة سنة لم يكن نظاما عاديا ولم يكن بلا انجازات وبلا فوائد وبلا نواحي ايجابية، انه حدث كبير في تاريخ العرب المعاصر نظرا لأهمية مصر ولكون هذا الانقلاب الذي حدث في مصر أخرجها من طور الى طور. ولان التطور السياسي كان عاجزا عن ادراك اهمية الوحدة بالمعنى الثوري، وعن ادراك عجز التنمية حتى ولو كانت في قطر كبير كمصر، عجز التنمية عن ان تسابق الاستعمار في وسائله وبمعداته ووسائل سيطرته، لذلك انتقل هذا النظام في المناسبات القومية المصيرية من نكسة الى نكسة، من تعثر الى اخر، ليس كما يبالغ البعض فيسيء الظن ويتهم ويلقي الشبهات.
بل لان النظرة كانت ناقصة، النظرة الاساسية لأولئك العسكريين الذين احدثوا الانقلاب في عام 1952 كانت ناقصة مقصرة عن إدراك طبيعة المرحلة العربية والعالمية. انهم لم يفهموا الاستعمار وإمكانياته ولم يفهموا الصهيونية وارتباطها العضوي بالاستعمار وبالتالي استمدادها اكبر قسط من قوتها من الاستعمار نفسه، وخاصة لم يفهموا امكانيات الأمة العربية، لم يفهموا أن في الأمة العربية امكانيات غزيرة وضخمة اذا ساروا في طريق التوحيد، التوحيد بالنضال ليس بسياسة الدولة، لا وليس بوسائل المال والاجهزة وانما بالاعتماد على الجماهير التي تصنع الوحدة بالقتال والنضال، وبالتالي تصنع التنمية من خلال المعركة ومن اجل المعركة.
في الماضي ايها الرفاق، كان هناك جهل، عجز عن تصور علمي شامل لطبيعة الاستعمار ولحقيقة الأمة العربية واستعدادها للثورة والنضال، اما اليوم فليس هناك جهل اليوم عندما يقال بانه يمكن الوصول الى حل سلمي عادل وشريف وغير ذلك من هذه الالفاظ، وانه من اجل السلام ينطلق الشعب للبناء والتعمير، لم يعد هذا جهلا بل هو تضليل، لان نكسة حزيران لم تترك شيئا خفيا وشيئا غامضا، انها أوضحت كل شيء. اليوم تقدم رشوة للانظمة لكي تخدع جماهير الشعب فترة من الزمن، بالازدهار، بخلق المشاريع الاقتصادية، بتشغيل الناس، ولا تلبث هذه الانظمة حتى تجد نفسها بعد وقت قصير مطوقة ومستعبدة وأسيرة من قبل الاستعمار واسرائيل، وتجد انه لا مجال للبناء وللتعمير، طالما ان العدو هو الذي يرسم ويخطط ويضع الحدود والسدود وهو قادر أن يمنع ويوقف كل حركة بناء وكل تنمية. هذه التنمية اكثر من مشبوهة، هي تنمية مؤقتة لتمرير الاستسلام.. إشغال الناس بالكسب الوهمي الخادع في الفترة الاولى حتى يصحوا على العبودية.
الحزب اذن كان دوما ضد هذه النظرة، ضد هذا التصور، النقص أين هو؟ النقص ان الحزب لم يمتلك كل الامتلاك مصيره ومقدراته، لم يمتلك كما يريد إرادته ووسائله، حتى يحقق ما هو قانع به، وحتى ينفذ بأمانة افكاره.
الحزب اذا بقي، اذا أمضى عشر سنوات أخرى تضاف الى الثلاثين سنة من عمره، اذا أمضى عشر سنوات من اجل هذه الغاية فلن تكون سنوات ضائعة.
ان يسيطر على نفسه وعلى وسائله، ان تكون له قيادة اقرب من طبيعته ومن افكاره، وان تكون متجاوبة، متفاعلة مع قواعده ومع جماهير الشعب، فانه يستطيع ان يحقق اهدافه كلها.
المعركة الكبرى بالنسبة الى الحزب هي المعركة مع ذاته، ولكن هذا لا يعني ان نترك النضال ونترك الامة في محنتها. اننا نصل الى السيطرة على انفسنا ووسائلنا بمشاركة شعبنا معركته وبالمزيد من الممارسة النضالية بين الجماهير.
القيادة تخرج من النضال والممارسة لا من النقاش. تفرض نفسها بشجاعتها، بوضوحها، بنضالها، بسلوكيتها.
أيها الرفاق
اليوم وقع بصري على عنوان كبير في جريدة لوموند الفرنسية، لم اقرأ كل المقال، ولكن فهمت ما هو المقصود منه، ثم ذهب فكري الى المقارنة مع حالتنا وأوضاعنا العربية.
عنوان المقال (من العظمة الى السعادة)، والمقصود فيه –لاني كنت قد قرأت شيئا بهذا المعنى من قبل–، الكلام عن الرئيس الفرنسي الحالي، الذي خلف ديغول والذي يتبع سياسة يصورها الكاتب إسعاد الشعب إسعاد المواطنين. سعادة بمعنى الرفاهية، مقابل السياسة التي كان ينتهجها ديغول، وهي سياسة العظمة، سياسة الرسالة، المصير الكبير، المصير التاريخي.
الدور الانساني لأمة من الأمم.. تساءلت –ولو ان الفوارق كثيرة وكبيرة بين وضعنا وبين وضع دولة من دول الغرب– هل مثل هذه السياسة التي تطبق الآن في مصر او يمنى بها الشعب، او حتى من قبل، عند القبول بالحل السلمي وبمشروع روجرز..
كم اسهبوا في وصف مغريات السلم، السلم والامن والبناء والانصراف للعمل والانتاج وسعادة الأفراد والتعليم و شتى الصور الجذابة. قبل نكسة حزيران كان العرب وخاصة النظام في مصر، والرئيس عبد الناصر بالذات هو ممثل هذا النظام وهذه السياسة، سياسة العظمة، الدور الكبير، الدور الدولي، الدور التاريخي. ثم يأتون الآن ويضربون على وتر السعادة، سعادة المواطنين.. امنهم.. رخاء معيشتهم.
فقلت في نفسي: حتى هذا لا يصح علينا. بالنسبة لفرنسا نفسها هذا يمثل هبوطا من ديغول الى بومبيدو، انه هبوط من الدور العالمي الى الانشغال بالداخل واهتمام بالربح وتحسين المعيشة، ولكن هذا كلام صحيح. من بعد لعب الأدوار العالمية ربما يتعب الشعب ويحن الى الراحة، الى الاستمتاع، الى الربح، هناك انتقال من العظمة الى السعادة.
لكن بالنسبة الينا، في ظروفنا هذه، لا بديل عن الدور التاريخي، لأنه اذا تخلينا عنه لا نهبط الى السعادة والرخاء بل الى الفقر والشقاء، الى الذل والبؤس.
دور العظمة بالنسبة الى العرب هو دور النضال، والصمود، والاستمرار بمعركة التحرير.
لو كنا مستقلين، لو لم نكن مطوقين، لو لم نكن مجزئين، لكان يصح ان نتعب فترة ونميل الى الرخاء والراحة والعيش في ظل الأمن وتحسين المعاش والأحوال، ولكن العدو سيتغلب علينا ويفرض شروطه اذا تخلينا عن دور النضال والصمود والمقاومة. نتخلى عن لقمة الخبز لان هذه اللقمة لم يعد ممكنا كسبها الا بالنضال، واللقمة التي تأتي بدون نضال هي رشوة مؤقتة لكي ينفذوا مآربهم في ترويض هذا الشعب وفي فرض العبودية عليه.
وبعد هذا، أي الفضائل ستمنع الاستعمار من نهب اراضينا، واسرائيل عن استغلال خيراتنا؟ ام ان بقاءهم رهن بان نبقى فقراء وضعفاء عائشين في الانحلال الخلقي وحكم العصابات وحالة الانحطاط والجرائم والتناقضات التي تمنع الشعب من ان يتوحد ويقاوم.
هذه ظاهرة لها علاقة بموضوعنا: ليس لنا خيار، ليس صحيحا ان الرخاء ممكن، وان الأمن ممكن، وان التنمية ممكنة، هذا جهل وتضليل. صحيح انه لا تزال توجد كمية غير قليلة من الجهل، لكن التضليل أوسع واكبر.
ايها الرفاق
عن موضوع الاتحاد الذي طرحته ونشر في “الاحرار“، إني أضيف شيئا جديدا على التوضيح الذي قدمته والذي وصلكم، ولكني بهذه المناسبة اكرر بان الدعوة كانت موجهة الى الجماهير ولم تكن موجهة الى الانظمة، ثانيا الاتحاد الذي اقترحته كبداية لدخول معركة التحرير وبداية لوحدة أوسع قد تشمل الوطن العربي او اكبر جزء منه، هذه البداية لم اقترحها دون ان اقترح معها ما يمهد لها حتى تصبح ممكنة وتصبح بداية سليمة وليست بداية مصطنعة تفشل عند اول صدمة.
قلت: يجب ان نعيد النظر في السنوات العشر الماضية وما افتعله الاستعمار والرجعية وأعداء الأمة العربية من انقسامات في داخل صفوف الثورة العربية.
يجب ان نعيد النظر في ذلك بالتحليل العميق والنقد الذاتي النزيه الصريح ومصارحة الجماهير لنجد بعدها أن تلك الانقسامات كانت مفتعلة، وانها كانت مخططا استعماريا مقصودا، وان بعض الفئات الوطنية سارت بها دون وعي لنتائجها، واننا اذا مشينا في هذا الطريق، طريق المصارحة والنقد الذاتي والارتفاع الى مستوى المعركة والاهتمام بالتناقض الاساسي الذي هو تناقضنا مع الاستعمار والصهيونية والرجعية نستطيع ان نشكل بداية للوحدة التي تقاتل وتدخل معركة التحرير.
وقلت ايضا ان هذا اقرب الى الحلم والتمني منه الى الواقع، ولكن يجب ألا نقنع بهذا الواقع الكسيح، ويجب ان نطمح دوما الى المستوى التاريخي في ظرف يتقرر فيه مصيرنا جميعا ولعشرات السنين.
طبعا انا قانع بان هذه هي البداية السليمة وهي على صعوبتها ممكنة، ولن تجدب امتنا ولن تعدم من يمثل فيها هذا الطموح وهذا السمو والارتفاع فوق الأنانيات والمصالح الآنية.
لذلك أردت ان أربط الحديث عن هذا الموضوع بالحديث عن مصر. وكنا نتكلم عن مصر.
ليس ثمة حاجة الى تكرار القول الذي جاء في المقال بان كل اتحاد لا يكون فيه العراق ركنا أساسيا هو اتحاد فاقد للجدية، غير جدي، ولكن يجب ان نوجه انتباهنا الى شيء هو في هذا الظرف خطير في نتائجه.
هناك المخطط الاستعماري الصهيوني القديم الذي يحاول وينجح احيانا، وقد نجح بالفعل في عزل الاقطار العربية بعضها عن بعض، وفي إيجاد الانقسام بين القوى الثورية في البلاد العربية، وخاصة بين حزب البعث وبين مصر.
أيها الرفاق
لو سارت الوحدة عام 1958 دون انحراف لتغير وجه التاريخ كله، لأنه بالتقاء حزب البعث بمصر، بالتقاء حزب البعث الذي كان منتشرا في سوريا والاردن والعراق ولبنان انتشارا قويا، هذا اللقاء مع القوة التقدمية الحاكمة في مصر كان يمكن ان يحقق الوحدة العربية والتحرر العربي الكامل.
لكن كان هناك مخطط، ومع الأسف الشديد كان في النظام المصري استجابة لهذا المخطط، بان يضربوا حزب البعث، فادى ذلك الى انتكاسة الوحدة والى الانفصال والى كل النكسات التي حصلت فيما بعد. هل نتفرج على مصائبنا وهزائمنا دون ان نعتبر ونستفيد من الدروس؟
تميز حزبنا، والاتجاه الأصيل في حزبنا وهو معروف، تميز بتقدير أهمية مصر وانه لا شيء يمكن أن يتم، لا شيء جديد يمكن أن يتم في الوطن العربي من دون مصر، هي في موضع القلب والرأس. لا أريد التشبيهات القائمة، ولكن اقول: اي انتقاص من أهمية مصر هو مكابرة وانحراف وبعد عن الخط الثوري.
ولكن ما العمل والذين بيدهم المقدرات في مصر يرفضون هذا اللقاء وهذا التقدير منا، لان هناك المخطط الاستعماري، ويفعل فعله باستمرار ليمنع لقاء هاتين القوتين. فما هو جواب الحزب الثوري السليم الحكيم البعيد النظر؟ هل اذا رفضونا نرفضهم، واذا ابتعدوا عنا نبتعد أكثر، أم نعتبر اننا مسؤولون عنهم كما نحن مسؤولون عن انفسنا وحزبنا؟ هل مصر بشعبها الكبير، بإمكانياتها، بمستواها الحضاري، هل هي بالضرورة هذا الشخص أو ذاك من الحكام، هذا الجهاز او ذاك من الاجهزة الذين ساروا في تنفيذ مخطط الاستعمار في الانقسام؟ يجب أن ننظر الى مصر في امكانياتها، في ما يمكن أن يخرج منها، في التطورات المقبلة.. يجب أن نساعد على تطويرها على الاقل بان لا يكون موقفنا منها موقف رد الفعل وموقف الانفعال نتيجة تصرف حاكم او جهاز في الحكم.
سأروي لكم شيئا عن مقال كتب هذا الأسبوع في مجلة “الحوادث“ لعلكم اطلعتم عليه او لعل بعضكم اطلع. الخلاصة ان هذا المقال، هو في يقيني من وضع الاستعمار وعملاء الاستعمار والمخطط الاستعماري، يستعرض تاريخ علاقة مصر بالعروبة، وبتيار القومية العربية ويقول بان مصر من زمن الانكليز، اي عندما كانت محكومة من قبل الانكليز، كانت تنظر باشتباه، بارتياب، الى التيار العروبي لأنه كان ممثلا، كان يمثله اشخاص لهم صلات بالغرب بالمستعمرين الانكليز او الفرنسيين، هذا في بداية القرن، وان هذا التيار ظهر في بلاد الهلال الخصيب التي كانت محكومة من الدولة العثمانية كرد فعل على الحكم العثماني، وانه أي هذا التيار، كان يدعو الى عزل مصر، والى استبعادها من حظيرة البلاد العربية والى آخر هذا الكلام.
ثم يغمز الكاتب من الحزب وينسب الى الحزب انه هو الممثل لهذه الخطة، خطة عزل مصر، مع ان الواقع ايها الرفاق أنه لم توجد حركة أعطت لمصر ما أعطاه حزبنا من اهتمام ومن قيمة ومن دور في الثورة العربية وفي حركة الوحدة العربية.
حتى ان انشقاقا كبيرا حصل في الحزب نتيجة لهذا الخلاف، زمن الانفصال يوم ظهرت القطرية في فئة كانت في الحزب وأرادت ان تحمل مصر وشعبها تبعات اخطاء الحكم الذي كان زمن الوحدة. وهذا يلتقي مع المخطط الاستعماري الذي يريد عزل البلاد العربية بعضها عن بعض لتسهيل مهمة اسرائيل وتوسعها. فالشواهد اذن على ان الحزب كان دوما مدركا، وفي أعلى مستوى الإدراك، المسؤولية القومية في ترفعه عن كل ما أصابه من النظام المصري من افتراءات وحملات ظالمة من اجل ان لا يدع مجالا لأحقاد تنشأ ولحواجز نفسية وعاطفية تنتصب بين جماهير الحزب، وهي منتشرة في سورية والعراق ولبنان والاردن بصورة خاصة، وبين الجماهير العربية في مصر.
رغم ذلك والاستعمار في هذا الظرف بالذات مع الرجعية العميلة والمأجورين من الكتاب يحاولون باستمرار ان يثبتوا في اذهان الجماهير هذه الافتراءات، هذا التزوير الفاضح، بان حزب البعث يعزل مصر عن ساحة العروبة، والعكس هو الصحيح تماما، لذلك ايها الرفاق اقول بان حزبنا اذا لم يتمسك بالمستوى التاريخي المترفع عن الخلافات والاحقاد ولعبة السياسة الحقيرة، بالمزايدات وردود الافعال، اذا لم يتمسك بدوره التاريخي وانه فوق المخططات الاستعمارية وانه يفضحها ويعرف مراميها ويتغلب عليها ببعد النظر وبالتجرد وبالمبادرات التي يأخذها لمكافحة هذا المخطط الانقسامي ولفضح هذه المؤامرة الطويلة التي افترت على حزب البعث شتى الافتراءات ولا زالت الرواسب التي تراكمت منذ وحدة 1958 الى الآن، اذا لم يحتفظ الحزب بهذا المستوى التاريخي، –والمقال الذي كتبته ينطلق من هذا المستوى ويطرح مبادرة باسم الحزب– فنكون وكأننا نسهل للاستعمار والصهيونية مهماتهما واغراضهما.
هذان المستويان المتناقضان موجودان، ووجدا دوما في الحزب، وبينهما صراع دائم، وجدا في الحزب من بعد السنوات الاولى القليلة بعد ان اصبح للحزب مكانة ووزن سياسي، عندها ظهر المستوى العادي الذي يريد ان يسخّر الحزب لأغراض السياسة العادية وهذا لا يكون الا على حساب رسالة الحزب التاريخية.
أيها الرفاق
انتم تعرفون وتدركون ان هناك مستويين، ولا يجوز ان يبقى هذا التشويه لحقيقة الحزب، لا يجوز ان يتحول حزبنا الى حزب سياسي عادي. فاذا نظرنا اليوم الى ما يجري في مصر، ولخصناه بكلمات ثم تساءلنا: كيف يجب ان يكون موقفنا؟
ان ما حدث في مصر هو بداية وفصل من فصول التغييرات المنتظرة العديدة التي كان لا بد ان تعقب غياب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. هناك قوى خارجية وداخلية، قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية، تحاول ان تسيطر على هذه المتغيرات و توجهها لمصلحتها، وتبقيها في الحجم والحدود التي تريدها لها، اي في حدود التنفيس عن الكبت الذي صنعته أجهزة القمع طوال سنين، وفي حدود انفراج مؤقت ظاهري يلهي عن الاهداف الاساسية. ولكن الجماهير العربية هي التي سيكون لها الدور الفعال في إحداث التغيير باتجاه الصمود للهجمة الاستعمارية الصهيونية الرجعية وتعبئة جميع القوى من اجل الدخول في معركة التحرير.
ثمة مقارنة تفرض نفسها على التفكير بما يحدث في مصر، وما حدث في سورية قبل بضعة اشهر، وبالرغم من الفروق الهامة البارزة بين الحالتين، فان قانونا واحدا ينتظم هذه الاحداث والظواهر. فصحيح ان العهد الذي صُفي وأُبعد في سورية كان حكما مزيفا بغيضا معزولا عن الشعب عزلة رهيبة، في حين ان التصفية التي تجري في مصر هي لأقرب الفئات والأشخاص الى الرئيس عبد الناصر. لكن هذه الفروق تبقى في حقيقة الأمر نسبية وأهيتها قليلة في مقياس الظروف الجديدة. إذ أنه بعد غياب عبد الناصر الذي كان لشخصيته وزن كبير مؤثر، لم يعد اهتمام الجماهير منصرفا الى المفاضلة بين درجات الاستسلام لمخططات الاستعمار الاميركي واسرائيل، ما دام جميع أهل النظام قد قبلوا بالحل السلمي، وانما القضية اصبحت في نظر الجماهير بين القبول بالحل ورفضه، الرفض الفعلي الفعال الذي يوجه جميع الامكانيات والطاقات وكل العقول والمشاعر في طريق صاعد، في اتجاه المعركة المصيرية المحتومة، وفي الطريق الذي يضمن لها النجوع والنصر، اي طريق الوحدة العربية وتسليح الجماهير الشعبية.
والتحول من طريق الاستسلام على اختلاف درجاته الى طريق الصمود والاعداد والقتال لا يكون في التعلق بأذيال الماضي والتشبث بأشكاله الفارغة الجوفاء. التغيير أصبح حاجة ملحة عميقة محتومة. ولن يأتي دفعة واحدة ولن يتوقف عند حد. المهم معرفة القوى التي ستستفيد من التغيير. فالاستعمار والصهيونية والرجعية تتدخل بشتى الحيل والاساليب لتوجه هذا التغيير لمصلحتها، اي لتصفية القوى الثورية وإرجاع قوى الرجعية والاستغلال والاستسلام الى مراكز القيادة والحكم.
فواجب القيادات الثورية أن تحبط مخططات الاعداء وان تتقدم تيار التغيير لتوجهه لمصلحة الجماهير الكادحة واعدادها للصمود ومعركة الوحدة والتحرير.
ايها الرفاق
اشعر ان الظروف مواتية لكي يبادر الحزب ويتقدم بجرأة ويرفع صوته. وإذا أراد حزبنا ان يكون له دور تاريخي قومي فلا يجوز ان يتصرف بردود الافعال، ويجب ان نضع دوما نصب اعيننا اهمية مصر ودور مصر في كل معركة قومية، وفي هذه المعركة بصورة خاصة.
ايها الرفاق
اشعر أني أطلت عليكم مع اني كنت مصمما على الاختصار لضرورات خاصة تضطرني ان اعود الى بيروت، ولكن هذا الزمن الطويل الذي كنت اشعر فيه بالحاجة الى لقائكم وعدم توافر الظروف لتحقيق ذلك جعلني أسترسل وارتاح في التحدث اليكم بإسهاب، وأنا أدرك أيضا أني لم أستطع تناول كل النقاط التي طرحها الرفاق في أسئلتهم، ولكن ارج وان يتاح ذلك في لقاء آخر والسلام.
حزيران 1971
(1) حديث في اجتماع منظمة الحزب في طرابلس في حزيران 1971.
————————-
بيان حول تأميم النفط في العراق
ايتها الجماهير المناضلة.. ايها الرفاق
يخوض شعبنا المناضل في العراق بقيادة حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي، وتضامن القوى الوطنية والقومية التقدمية كافة، معركة من اخطر معاركنا القومية ضد الوجود الامبريالي والنهب الاستعماري، ضد شركات النفط الاجنبية التي طالما استغلت ثروات شعبنا وسلبته ارادته وحالت دون وحدته و تحرره.
ويخطىء من يظن ان المعركة الدائرة بين الجماهير في العراق وبين شركات النفط الاجنبية هي معركة قطرية تخاض من اجل مكاسب مالية ومطالب جزئية، اذ انها في حقيقتها وجوهرها معركة الجماهير العربية في جميح أرجاء وطننا الكبير. معركة الجماهير التي طالما ناضلت من اجل امتلاكها لزمام مصيرها بوثوق ولتحقيق وحدتها عبر مجابهة صريحة وحاسمة مع الاستعمار وركائزه الاقتصادية والسياسية.
فالجماهير تدرك بوعيها النضالي السليم وحسها القومي التحرري استحالة تحررها وتقدمها في ظل سيطرة الشركات التي تحتكر مصدر ثروتها الاساسي تتحكم باقتصادها وحرية تحركها السياسي. وهي تدرك انها سوف تظل خاضعة للنفوذ الاجنبي طالما ان التجزئة والكيانات للقطرية المصطنعة قائمة.
ان النضال من اجل تأميم النفط ارتبط دوما بالاهداف القومية الكبرى في الوحدة وتحرير فلسطيين، اذ ان الجماهير تدرك ادراكا لايرقى اليه الشك طبيعة العلاقة المحكمة بين عوامل التجزئة والتخلف وبين وجود اسرائيل كقاعدة عدوانية للامبريالية في المنطقة العربية. ان الدول الاستعمارية ونهبها للثروات العربية وبقاء التجزئة يشكلان القاعدة المادية للتحالف الامبريالي الصهيوني، ولا بد من مجابهة الامبريالية والصهيونية على اساس انهما عدو واحد.
ان تأميم النفط والقضاء على ركائز الاحتكار والنفوذ الاستعماري في العراق يشكل تجسيدا حيا لمبادىء حزبنا ونضاله عبر عشرات السنين وبداية الرد الحاسم على هزيمة الخامس من حزيران. واني على يقين ان هذه الخطوة الضرورية الحاسمة ستفتح نوافذ الامل وتنعش ارادة الصمود والقتال وترفع النضال العربي الى مستوى التحدي المفروض على امتنا بعد هزيمة حزيران. وسوف تكون جماهير امتنا الظامئة للمعركة ولانقاذ المصير العربي، الدرع الحصين والسلاح الامين لحماية كل خطوة ثورية في هذا الطريق وتحقق شروط نجاحها وربطها بمعركة المصير واحباط تآمر الشركات والدول الاستعمارية.
ان جميع مناضلي الحزب ومعهم المناضلون التقدميون داخل الوطن العربي وفي العالم اجمع يتطلعون الى التأميم بداية جدية للمسيرة الحاسمة نحو الوحدة ومعركة المصير المشترك في فلسطين وسوف يتصدون لحمايته ودعمه بكل الوسائل والامكانيات. وليس هناك قوة في العالم تستطيع ان تقف بوجه شعب مصمم على تحقيق ارادته في التحرر والحياة الكريمة.
فإلى الأمام ايها الرفاق لتحقيق اهداف الامة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية.
1 حزيران 1972
———————- 1974
حرب تشرين والمصير القومي
“حرب تشرين حرب كشفت الأمة العربية نتائجها بسرعة مذهلة، إن مرحلة جديدة في تاريخ العالم، في حياة العصر قد بدأت. وكان شيء من هذا قد ظهر على نطاق أضيق وتأثير أخف في العام 1956 في أزمة السويس وهذا ما يمكن تسميته “بعالمية القضية العربية “.
منذ قرن ونصف كانت “المسألة الشرقية” لها تأثيرات وتفاعلات شبه عالمية ولكن بمعنى تنافس وتطاحن الدول الكبرى ومصالحها في تلك المنطقة وتزاحم على اقتسامها واستغلالها.
ان بروز القضية العربية في هذه المرحلة هو بروز فاعل يعبر عن نهضة أمة. ولئن كان لتنافس الدول المتقدمة صناعيا على ثروات الوطن العربي دخل في إعطاء القضية مثل هذه الأبعاد، فان العنصر الذاتي القومي عنصر النهضة والانبعاث يبقى هو الأساس.
والأحداث الدولية الكبيرة وحدها لا تكفي لتعطي قضية من القضايا أهمية عالمية تاريخية تكون بمثابة إشعاع. أما عندما يحصل لقاء بين هذه الأحداث وبين تطور ذاتي عميق ومتصل، في أمة من الأمم، فتأخذ المسألة شكلا آخر.
الأمة العربية في حالة تحفز وانبعاث منذ عهد محمد علي، وقد جاء العدوان التاريخي عليها بإقامة دولة إسرائيل محرضا ومعجلا لنهضة أصيلة كانت ستواصل سيرها ولو لم يحصل هذا العدوان. فمعركة تأميم القناة في العام 1956 بعد ظهور عبد الناصر كانت أول رد على هزيمة 1948 وإنشاء دولة إسرائيل، ولكنه لم يكن الرد الكافي فكان يحمل في انتصاراته وحتى في انتكاساته معنى الاستباق وانعكاس الآمال العربية على المستقبل. وفي هذه الحالات من أطوار ومراحل نهضة الأمة تكون الإرادة القومية دوما اقوي وأعمق وابعد أثرا وأوضح تعبيرا من إرادة الأفراد أو حتى الحركات الثورية. فعبد الناصر في تخطيطه الواعي لم يكن ينوي محاربة إسرائيل في حزيران 1967. ولكن الإرادة القومية العميقة كانت تضغط وتملأ الجو من اجل الوصول إلى مجابهة قد لا تكون متكافئة، ولكنها تنقذ القضية الأساسية من النسيان والإهمال والتبني اللفظي الخادع، والانحراف بالنهضة العربية عن طريق المعركة الأساسية، وعن طريق النضال الجدي القاسي والمواجهة الجريئة الصريحة مع الاستعمار والصهيونية قبل الانغماس والتيه في سراديب التنمية التي لا هدف أساسيا لها.
وهكذا وبرغم هول الهزيمة التي حلت بالعرب في حزيران 1967 وبالرغم من كونها جاءت أقسى وأوسع مما توقعه الأعداء فان نتائجها تفاعلت تفاعلا خصبا مع نفسية الأمة وعوامل النهوض والتقدم فيها وبدلا من أن تلد اليأس جددت الحيوية والإيمان وصقلت الكفاءة، وكانت حرب تشرين بعض نتائجها. إن الأمة العربية التي وقع عليها اكبر ظلم في العصر قبلت التحدي وجعلت هدفها أن تحقق من خلال تحريرها لنفسها ودفاعها عن حقها تحرير العالم من الظلم. وكان بالتالي من الطبيعي أن تأخذ حرب تشرين هذه الأبعاد الدولية والمعاني الإنسانية.
وهنا لابد من الإشارة إلى الهزة العميقة التي أحدثتها هزيمة حزيران في نفوس المثقفين العرب. فقد دفعتهم إلى الاقتراب أكثر فأكثر من مشاكل أمتهم ومصيرهم والانكباب على أمراض الحاضر لتحليلها ومعالجتها بمستويات وأساليب متعددة وكان من نتيجة ذلك هذا التخمر الثوري القومي الذي انفجر في حرب تشرين قوة وكفاءة وبطولة. وظهرت هزيمة حزيران بشكل واضح، أنها كانت بصورة خاصة نتيجة القحط الفكري الذي رافق الحكم الديكتاتوري نتيجة غياب الفكر الحر، وتدني مستوى الثقافة، ثم ظهر في الفترة مابين هزيمة حزيران وحرب تشرين أن دور المثقفين ومعالجاتهم للحياة القومية كانت افعل وأعمق أثرا من الشعارات الحزبية التقليدية المستهلكة ولو أن ذلك لا يصيب جميع الأحزاب الثورية والتقدمية بالنسبة نفسها مما يشير إلى نقص وخلل في الحياة الحزبية التي غزتها البيروقراطية، فلم تعد بواقعها الراهن تربة خصبة ومناخا صحيا لازدهار الفكر الثوري الحقيقي.
الأحداث والشعب
الأحداث هي نصف المسألة ونصفها الآخر هو أثرها في الشعب. إن تاريخ الشعب وتراثه وانتصاراته ونكساته في الماضي والحاضر ومؤهلاته للمستقبل في الاستمرار والانبعاث هي المحصلة وهي الجواب على الأحداث.
والذين طبخوا مؤامرة اغتصاب فلسطين منذ أوائل هذا القرن والتقوا في هذه المؤامرة مع المصالح الاستعمارية من اجل إبقاء البلاد العربية في حالة تجزئة وتخلف حتى يسهل على القوى الاستعمارية استغلال ثرواتها والاستفادة من موقعها ومزاياها لم يكن في حسابهم أن يتحول هذا المشروع الاستعماري كما ذكرنا إلى محرك ومحرض للنهضة العربية.
وهنا يدخل عامل تكوين الأمة التاريخي والجغرافي. فهي من قديم الزمان تعيش على ارض هي ملتقى الطرق بين القارات، ثم ظهرت فيها دعوة دينية لها أبعاد عالمية، وتطور تاريخها بهذا الاتجاه الإنساني العالمي. وعندما تؤخذ هذه الأمور بعين الاعتبار يفهم لماذا يأخذ الجواب العربي على التحديات الأجنبية والمؤامرات الدولية حجما ومعنى بحجم العالم ومعنى الإنسانية.
وهنا تتبادر إلى الذهن ثورة فيتنام ومقارنتها بالثورة العربية. فحرب فيتنام هي منارة في تاريخ نضال الشعوب وصمودها دون شك، ولكنها لم تأخذ في يوم من الأيام حجم القضية العربية حتى في أسوأ حالات هذه القضية، أي عندما كانت في وضع يائس وضعيف. ذلك أن شعب فيتنام وحضارته لم يشكلا بالنسبة إلى العالم وبالنسبة إلى العالم المتقدم بصورة خاصة التحدي والمنافسة في حين يعترف للأمة العربية صراحة أو ضمنا بهذا الدور. ومثلما كان في 1956 استباق للزمن وتطلع للمستقبل وتصور إمكانات الحاضر وكأنها قد تحققت في المستقبل، تتكرر الظاهرة اليوم فيعيش الشعب العربي في تخيل النتائج والتطورات الكبرى التي ولدتها حرب تشرين وكأنها متحققة الآن، رغم إنها لا تزال بذورا تحتاج إلى وقت وإلى عناية وجهود مستمرة لكي تنمو وتثمر ولا يصيبها الجفاف أو الهزال، خاصة أن الأعداء قد انصرفوا منذ الآن إلى التفكير وإعداد الوسائل التي تبدد هذه البذور أو تضعف وتؤخر نموها وتنحرف بها عن غايتها.
والقيادات الحالية تستغل هذه الحالمة لتنفرد في التصرف بمقدرات الأمة من دون أن تجد مراقبة شعبية جدية على عملها. وليس في تصرف هذه القيادات ما يطمئن إلى أن ايجابيات حرب تشرين ستسير في طريق النمو وفي الاتجاه الصحيح.
إن الأفراد حتى عندما يكونون من النوعية الفذة النادرة التي تصنع التاريخ، يكونون في تصوراتهم وأعمالهم دون مستوى الإرادة والإمكانات الشعبية. فكيف إذا كانوا من النوع الذي تأتي به الظروف والمصادفات ليحصد ما زرعه غيره؟
إن الخطر يكمن اليوم في نوعية القيادة ومستواها، فبينما تعتبر الجماهير انها لم تتمكن من إعطاء كل طاقاتها ومن إكمال النصر الذي بدأته، تعتبر قيادات الأنظمة انها بإيقافها الحرب عند ذلك الحد قد تفادت الهزيمة، وانها أحرزت من المكاسب أكثر مما كانت تتوقع وأكثر مما كان الشعب يستحق، وهذا يدل على أن هذه القيادات كانت عاجزة عن فهم نفسية الجماهير وإدراك غنى إمكاناتها لأنها كانت فاقدة التصور الصحيح لتاريخ الأمة ولرسالتها ولتراثها وللمستقبل الذي تطمح إليه فاقدة لإدراك ملامح العصر واتجاهه أي فاقدة لعنصر الفكر وهذا أهم شرط يطلب توافره في قيادة المستقبل إلى جانب الشروط الأخرى.
احتيال على النصر
هناك شعور غالب في الرأي العام العربي بوجود غبن كبير واحتيال. شعور بان النتائج أو الحل الذي تسعى إليه الأنظمة هو اقل بكثير أو غير متناسب مع ما كشفت عنه حرب تشرين من طاقات عربية هائلة.
فثمة احتيال على النصر وتقليل من حجمه وشانه. كما حدث تآمر عليه عند وقف إطلاق النار لإيقاف الإندفاعة التاريخية التي انطلقت من الجيوش العربية والجماهير العربية، والتي تجلت في وحدة الشعور القومي تجاه معركة المصير، وخلق حالة من الغرور والشعور بالثقة والاطمئنان الخادع، ليسهل معها القبول بالتفريط في الحاضر واعتباره تفريطا موقنا لا يلبث أن يعوض بقصد تعميم الاسترخاء وتبريد الجذوة، ولجم الاندفاعة وإخماد النار التي ظلت تتأجج منذ هزيمة حزيران حتى الحرب الأخيرة في تشرين، وكذلك المضي في عملية تقرير المصير القومي في اخطر ظرف مر على الأمة العربية في معزل عن الجماهير، وفي إصرار على قمعها ومنعها من التحرك وقول كلمتها فيما يخص مصير الأمة ومستقبل أجيالها، وإعطاء فرصة للعدو لكي يعالج أسباب الهزيمة التي مني بها ويتداركها ويعد للنهوض منها ويستغل حالة الجمود والذهول التي تخيم على البلاد العربية ويفاجئ العرب بضربة تعيد إليه بعض المكاسب وبعض المعنويات التي فقدها.
أريدَ لهذه الحرب أن تكون مصنوعة ومحدودة، وان لا تتجاوز في أهدافها تطبيق قرار مجلس الأمن (242) الذي يمثل حالة العرب عندما أصيبوا بهزيمة حزيران، أو حالة الضعف العربي، مقابل التفوق الإسرائيلي في ذلك الحين، ولكن الحرب جاءت على غير ما خطط لها وتفجرت بالطاقات والقدرات الخلاقة الخارقة. ورغم ذلك بقيت الأنظمة عند مطلب القرار القديم لمجلس الأمن وفي مستواه لأنها كانت مشاركة في صنع الهزيمة وعاجزة عن تجاوز ذلك المستوى. وكما أثبتت حرب حزيران أن الاتكال على هذه الأنظمة هو الذي يحرم الشعب العربي من ثمار انتصار تاريخي.
إن هذه الأنظمة لو كانت تمثل إرادة الجماهير، لاستمرت في القتال، أو على الأقل في تعبئة الجماهير وفي قطف ثمرات الانطلاقة القومية، فتحقق خطوات وحدوية حاسمة بين الأقطار المقاتلة تكون هي الضمانة لانسحاب العدو من الأراضي، ولتراجع الاستعمار بدلا من الاعتماد على (نخوته وصدقه).
فأمام هذا التشويه والاحتيال على نتائج النضال العربي لابد من تجاوز هذه الأنظمة لكي يعود الوضع إلى سلامته، وتقف الجماهير أمام مسؤولياتها وأمام أعدائها وقفة صريحة واضحة لا يداخلها الالتباس ولا ينطلي عليها الخداع. ولكي تسترد الجماهير العربية زمام مقدراتها وتفرض على الأعداء النتائج المنطقية الطبيعية لكل نصر وهي: رفض التفريط بالأرض وبالحقوق القومية، وتوفير القوة الفورية الضامنة لجدية هذا الرفض، في توحيد الأقطار المقاتلة وإطلاق حرية الجماهير وطاقاتها الخلاقة.
الجماهير تمارس حريتها في الحرب
لقد ضاعت فرص كثيرة ثمينة منذ وقف إطلاق النار حتى الآن، ولكن لا يزال أمام الجماهير العربية فرصة لكي لا يتحول النصر إلى هزيمة كاملة. لتتحرك هذه الجماهير ولتقل كلمتها في هذا المستوى المتخلف من الحكم والقيادة والذي استوى فيه مع فروق نسبية التقدمي والرجعي. ولقد أصبح واضحا أن الفرق بين التقدمية والرجعية ليس فقط في الانجازات الاجتماعية ومشاريع التنمية والتعمير، بل هو في الشيء الأساسي والاهم، وهو بناء الإنسان العربي الحر، ولا تزال الأنظمة على اختلافها سجونا كبيرة لهذا الإنسان، ولا تزال العقلية الفردية الفوقية السلطوية هي اكبر عائق في سبيل ولادة هذا الإنسان العربي الجديد، ولقد كانت حرب تشرين مناسبة لإظهار بعض ما يستطيع هذا الإنسان العربي إعطاءه من كفاءة وشجاعة بطولة نادرة، عندها يتحرر من سجن الأنظمة بدخول الحرب، لان الحرب في الأوضاع العربية الراهنة أمست المجال الوحيد لممارسة الجماهير العربية لحريتها. وهذا ما يفسر تلكؤ الأنظمة في الإقبال على الحرب ومسارعتها بإنهاء القتال عندما تشعر بان استمراره سوف يؤكد استرداد الجماهير حريتها بصورة نهائية.
إن ثورة العرب في هذا العصر هي الحرب لأنها المجال الأوسع والأكمل والأسلم لتفتح جميع مواهبهم وتفجر كفاءاتهم وبطولاتهم. والحضارة التي يسعى العرب إلى بنائها لن تبنى إلا من خلال النضال في أعلى مراتبه وأشكاله، أي النضال الشعبي المسلح، وستكون الحضارة القائمة على احترام المبادئ والمثل الإنسانية، وعى احترام الإنسان وحريته وكرامته واحترام حريات الشعوب والسعي نحو السلام الحقيقي.
إن حرب العرب في هذا العصر هي حرب تحرير وحرية، وكرامة، وحب للحياة ودفاع عن الحياة. حرب العرب هي الحضارة وهي الثورة، هي ذروة التنظيم والعلم والانضباط والتضحية والأخلاق. من هنا تأتي أهمية الحرب الأخيرة التي لو أتيح لها ان تستمر لأفضت إلى تغييرات جذرية وجوهرية حاسمة لصالح القضية العربية بصورة عامة ولفلسطين بصورة خاصة.
معركة فلسطين جزء من المعركة القومية
إن معركة فلسطين هي جزء من المعركة القومية، ومسؤولية تحريرها تقع على العرب جميعا لان المستهدف من قيام “إسرائيل” هي الأمة العربية لا القطر الفلسطيني. والمخطط الصهيوني الذي وضع في أوائل هذا القرن لم تقتصر حدوده على ارض فلسطين فحسب، بل تعداها إلى أجزاء أخرى إضافية من أراضي الوطن العربي.
عندما تكون قضية فلسطين هي الأصل والأساس، وهي قضية العرب الأولى، لا يعود هناك فرق بين ارض فلسطين وبين ارض أي قطر عربي آخر، إلا من ناحية خطر ترسيخ الاستيطان الصهيوني وترسيخ الادعاء التاريخي الباطل للصهيونية بحقها في ارض فلسطين. ويصبح كل تحرير لأرض عربية هو جزء من تحرير فلسطين أو مساعد أو ممهد لتحرير فلسطين.
ولكن عندما تكون عودة هذه الأراضي إلى مصر وسوريا لها ثمن: هو التنازل عن فلسطين للصهيونية، وعندما تكون عودة هذه الأراضي بداية لانصراف مصر وسوريا عن معركة التحرير، وعن وحدة المصير، بدلا من استخدام هذه العودة، وهذا الكسب، لمزيد من الإعداد والتهيئة للجولة المقبلة مع العدو، عندئذ يظهر التفريط بالقضية القومية، وينكشف التزييف والاحتيال، وتجعل قضية فلسطين هي القضية الأخيرة والأقل أهمية، وليست قضية العرب بل قضية جزء من الشعب الفلسطيني!
والذي يجري الآن هو ان مصر تريد استرداد أراضيها، وكذلك سوريا، ولا يجوز أن تتذرع المقاومة بحجة تخاذل الأنظمة وقبولها بالتسوية، لأنها تصبح عندئذ مثل قيادات الأنظمة القابلة بالتسوية سواء بسواء. الدولة الفلسطينية بمقدار ما هي رمز التسوية، هي أيضا رمز إرجاع فلسطين أو القضية الفلسطينية من حجمها التاريخي المصيري بالنسبة إلى الأمة العربية، إلى حجم جغرافي قطري، هزيل ممسوخ!
إن إعطاء الأهمية الأولى، الكبرى، للقطر، للجزء قبل الكل يؤدي إلى التفريط بالقضية القومية، إن مجوعة قطريات لا توصل إلى الوحدة، ومجموعة مصالح قطرية لا توصل إلى المصلحة القومية!
إن فلسطين والشعب الفلسطيني هما دوما الضحية، وهما يدفعان دوما الثمن. وهذا يجب ألا يستمر لان هذا الجزء الذي يحاولون إرضاء الفلسطينيين به لا يمثل سوى خمس أراضي فلسطين، وسوف لا يكون حرا، عدا انه سيؤخذ من الشعب الفلسطيني صك تنازل عن بقية أراضيه.
إن جو التسوية يسود، في غياب التحرك الجماهيري، وفي حال التحرك الجماهيري يسود المنطق القومي حتى في ابعد الأقطار عن الوعي القومي، أو أكثر الأقطار حرصا على المصالح القطرية.
إن التحرك الجماهيري الذي ظهر في مصر اخذ أبعادا قومية، فهو لم يضع في رأس الهدف البناء والتعمير، واستخدام رؤوس الأموال، وإعادة بناء المدن المخربة، بل إن التحرك الجماهيري في مصر، مثلما ظهر في عدة مناسبات، طرح قضايا قومية مثل التحرر من الاستعمار والصهيونية، والارتباط العضوي بالبلاد العربية وبقضية الوحدة كعامل أساسي في معركة التحرر.
– يجب أن نرفض دولة فلسطينية من ضمن التسوية
– يجب أن نرفض إعادة الأراضي الفلسطينية إلى حسين.
– المطلوب تعطيل التسوية في مصر وسوريا ودفع كل قطر عربي للمساهمة في تعطيلها لأنها هي الأساس لتسوية الدولة الفلسطينية أو لتسوية عودة الأراضي إلى حسين.
– المطلوب استئناف المعركة والإعداد لها، فأما أن تنسحب إسرائيل دون شرط ودون مقابل، عندئذ تقوم سلطة وطنية على هذا الجزء من ارض فلسطين بانتظار معركة التحرير الكامل، واما أن يستمر النضال حتى يتم التحرير في المستقبل.
الوحدة والديمقراطية
يجب الاعتراف بأننا ما زلنا رغم التحول الكبير الذي أحدثته حرب تشرين، ما زلنا بوضع دفاعي، مهددين باستمرار بهجوم غادر من إسرائيل والامبريالية الأميركية، وان آخر ما تفكر فيه “إسرائيل” وأميركا هو التسليم بانتصار العرب ورجحان كفتهم وتمكينهم من استثمار هذا الرجحان لتحقيق مزيد من التقدم والقوة.
وليس من شك في أن ثمة في “إسرائيل” والولايات المتحدة هيئات على أعلى مستوى سياسي وعسكري تدرس ليل نهار وتخطط للأخذ بثأر هزيمتهم النسبية في حرب تشرين. ولئن تحقق في الوقت نفسه نوع من التضامن العربي كان له أثره الفعال، فان ما يعده الأعداء للمستقبل بعد صحوتهم وذعرهم من بوادر النصر العربي لن يكفي لمواجهته إعداد على الوتيرة السابقة أي في إطار التجزئة العربية والتنسيق المرتجل والتضامن القصير النفس. وليس من جواب ناجح على الإعداد المعادي ألا بالخطوات الوحدوية. وفي جو التجزئة الراهنة تصعب مطالبة الجماهير بالاستمرار في تحمل أعباء معركة لم تعد هذه الجماهير واثقة من جديتها، ويسهل بالتالي في جو العزلة القطرية نجاح مغريات الازدهار والرخاء. في حين أن الجو الجديد الذي تخلقه الوحدة جو الثقة بالنفس والإيمان بالمستقبل والشعور الحي برسالة الأمة كفيل بأن يفجر في نفوس الجماهير العربية الطاقات والكفاءات الخلاقة.
أن خلاص العرب هو في الوحدة وسبيلهم إلى تحقيقها هو الديمقراطية. ولكي لا تبقى الوحدة مطلبا نظريا، ولكي لا تنحرف الديمقراطية إلى أهداف اقل جوهرية من الوحدة، فيجب أن تتوجه الجماهير لانتزاع حقها في الديمقراطية المرتبطة بالوحدة، أي لتحقيق الوحدة جماهيريا وتحقيق الديمقراطية من خلال النضال الوحدوي للجماهير.
شباط 1974
———————————–
شمولية فكرة البعث حاجة حياتية قومية
انني سعيد جدا بهذا اللقاء(1) وما سمعته عن نشاطاتكم وجهودكم فهو شيء مطمئن يبعث على الامل والتفاؤل بمستقبل زاهر لهذا الحزب ولهذا القطر. ترون ايها الرفيقات والرفاق كيف ان الدأب والتشبث والاستمرار يكون تجربة ويغنيها يوما بعد يوم. حزبنا في العراق تميز دوما بالدأب، بالتشبث بالارادة القوية بفهمه الجدي العميق لمسؤولياته القومية فرغم كل الفترات المظلمة التي مرت بالحزب وبالقطر رغم النكسات لم يحدث انقطاع، لم يحدث توقف كان دوما هناك من ينبري لحمل المسؤولية، وقد يخسر الحزب اعدادا ولكن لا يلبث ان يسترجع وزنه الشعبي ويتكاثر لأن الشعور بالمسؤولية كان دوما حافزا في هذا الحزب حسب معرفتي بتاريخ الحزب في العراق ومتابعتي لنضاله أذكر له هذه الميزة الكبيرة. حصل احيانا فترات قصيرة من البلبلة ولكن بقي من يمثل الحزب، بقي دوما عدد قليل يتابع المهمة ولا يلبث البناء ان يرتفع حول هذا العدد القليل وهذا مدعاة للاطمئنان وللاعجاب ايضا.
بالنسبة للرفيقات لاشك ان ثمة فرقا كبيرا بين النتائج التي وصلن اليها الآن وبين البدايات الصعبة. وقد اجتمعت قبل اربع سنوات كما اذكر ببعض الرفيقات في لبنان وكن يشكين من التعثر في العمل النسوي ومن قلة العدد ومن المعوقات الموروثة ولكن الميزة التي تحدثت عنها الآن هذه الميزة ليست وقفا على البعثيين في العراق وانما تشمل البعثيات ايضا فقد برهن دوما على الدأب والاستمرار والشعور الجدي بالمسؤولية.
هناك مجالات خاصة بالنساء للعمل النسوي وهي مهمة صعبة وجليلة نظرا للتخلف الذي يعاني منه مجتمعنا، فهذه المجالات التي دخلتموها والتي تتابعونها بصبر ونفس طويل لاشك انها اساسية في تطوير مجتمعنا رغم مظاهرها البسيطة. هذا العمل سواء في المدينة او الريف وهذا التراكم يبني التجربة يوما بعد يوم، التجربة النضالية والتجربة التقدمية الحضارية.
لابد ان اذكركم بشيء لا تجهلونه بل تعرفونه وتحيونه دوما هو ان الشيء الذي يعطي هذا العمل اليومي الدؤوب الروح والحرارة والافق الحضاري والتاريخي، انما هو عندما يخوض الحزب المعارك القومية وعندما يطرح الحزب اهدافه القومية المصيرية عندئذ تأخذ ابسط الاعمال اليومية معنى آخر رائعا ومعنى عميقا يستثير حماس النفوس ويكون معادلا لأكبر توعية واكبر تثقيف، هو هذا الربط بين السير الحزبي اليومي في طريق التقدم في شتى المجالات وبين الاهداف القومية الكبرى، ويجدر بنا ان نتذكره دوما خاصة في هذه الظروف التي تعرفون الى اي حد هي حاسمة والى اي حد يتقرر على نتائجها مستقبلنا كأمة عربية.
والعراق مطالب بان يكون الطليعة في هذه الظروف العصيبة وفي مواجهة هذه الاخطار الداهمة ولذلك ترون بان شمولية الفكرة في حزبنا هي شيء حي لم يكن شيئا نظريا ولا ترفا فكريا وانما حاجة حياتية، هناك يجب ان يبقى تفاعل مستمر بين النضال القطري المحلي اليومي المطلبي وبين الاهداف القومية الكبرى خذوا مثلا هذه الحرب الاخيرة حرب تشرين اعتقد بان مساهمة العراق فيها تلك المساهمة القومية التاريخية، مساهمة الجيش العراقي التي ذكرتنا بالبطولات العربية القديمة، لاشك انها عكست جوا على كل اعمالكم ونضالاتكم الحزبية واليومية واعطتها هذا المعنى الجديد الرائع اذن عندما نظل امناء لاهدافنا القومية البعيدة لايعود ثمة خطر او خوف ان يسقط عملنا اليومي في الروتين، في التكرار، في الملل وانما يأخذ معناه العميق الحقيقي في المسيرة التاريخية.
واذكر انه بالنسبة للرفيقات وما يلاقين من صعوبات ومعوقات هي طبيعية في مجتمعاتنا بان الاحداث القومية الكبرى والمعارك القومية تختصر الزمن، تختصرعشرات السنين في ايام، وتذوب وتنصهر امامها هذه المعوقات اذ تتحرر النفوس والارادات باكتشافها لواجباتها القومية وبقيامها بهذه الواجبات وبتحقق الكثير من المساواة التي تطمح المرأة العربية اليها في جو المعارك والاحداث القومية المصيرية خاصة اننا في ظروف مصيرية ستزداد مع الزمن عمقا واتساعا بعد ان ظهرت في الحرب الاخيرة هذه القوة العربية التي كانت كامنة والتي ارجعت الثقة الى النفوس والتي سببت الذعر للعدو الامبريالي الصهيوني فشدد من تآمره ومن حشد وسائله التخريبية، ولكن الشعب العربي مصمم ان يواجه هذه الاخطار الجديدة بالعزم ولتهيئة الوسائل المتكافئة معها خاصة انه خرج من المعركة الاخيرة مرفوع الرأس واثقا بنفسه داخلا معركة حضارية جديدة اعترف له العالم أجمع بجدارته بدخولها.
ايها الرفاق
لايسعني الا ان اقدر عملكم في كل المجالات، في المجال الطلابي وفي مجال الشباب وفي المجال المهني وانا مطمئن الى ان تجربتكم تنضج بسرعة تثير الاعجاب وليس عندي ما اقوله لكم في هذه المجالات الا ان اتمنى لكم كل توفيق لخير عراقنا الحبيب ولخير امتنا العربية.
21حزيران 1974
(1) حديث مع اعضاء المكاتب التنفيذية للاتحاد الوطني لطلبة العراق والاتحاد العام لشباب العراق والإتحاد العام لنساء العراق في 21/6/1974.
———————————–
العراق والبعث
ايها الرفاق (1)
من الصعب جدا عندما أوجد بينكم، اي بين حزبنا المناضل، من الصعب جدا ان لا أكون عاطفيا، لاني احببت هذا الحزب منذ خطواته الاولى. قدرت فيه مزايا نضالية، واخلاقية قلما وجدتها في فروع اخرى او اقطار اخرى وكنت وانا الذي بدأت النضال في القطر السوري، تربطني برفاقي في سوريا كل روابط النضال، اعتبر بأن حزبي هو في العراق، ان الحزب في الدرجة الأولى هو في العراق.
لذلك تستطيعون ان تقدروا فرحتي وانا قد بلغت هذه السن عندما أرى وألمس، هذا التقدم الذي يحققه الحزب في العراق. إنني اشعركلما زرتكم -وحتى عندما اكون بعيدا شعوري واحد ولو انه يصبح اقوى عندما التقي بكم لقاء مباشرا- أشعر بتعويض عن كل الأتعاب والآلام التي مر بها المناضلون في هذا الحزب. فالمشقة والألم قانون الحياة وقانون النضال والثمن لكل شيء جدير بالاحترام. لا بد من دفع الثمن لكل شيء عظيم في هذه الحياة.
لماذا وضعت كل هذه الآمال وهذه الثقة وهذه العاطفة المحبة في حزبنا في العراق؟
قد يكون هناك عامل بسيط لا أريد ان أبالغ فيه، هو ان التوجه القومي يدفع بشكل لا شعوري الى التطلع الى ابعد من القطر الذي يعمل فيه المناضل.. هذا عامل طبيعي وبسيط. عامل آخر، عندما أحلل أحيانا بيني وبين نفسي، هناك حب للعراق نشأنا عليه في سوريا من قبل نشوء الحزب جعلنا نتطلع الى العراق. كان الاستعمار الفرنسي ثقيل الوطأة على سوريا وكان الوضع في العراق أخف لاعتبارات كثيرة، وربما كنا نبالغ في تصور هذا الفارق لكي نقوي الأمل في انفسنا بان هناك قطرا عربيا أحسن حالا من سوريا أكثر تحررا ويمكن ان يكون هو المنقذ.
فاذا عمدنا الى اسلوب التحليل النفسي لكي ابحث في تربيتي ونشأتي عن اسباب هذا التعلق، اجد هذا العامل ايضا بانه ذو أهمية. كانت سوريا، كان الشباب المؤمن بعروبته وامته والمستنكر لوجود الأجنبي واحتلاله والمتطلع الى الاستقلال والى الوحدة العربية، كان ينظر الى العراق.
ولكن هناك عوامل اكثر وضوحا نشأت بعد نشوء فرع الحزب في العراق وبعد أن بدأت تتوثق الصلات بيني وبين شباب الحزب ومناضليه فالجدية التي لمستها، التي تجسدت في البعثيين العراقيين لم أجد لها مثيلا في فروع الحزب الأخرى. منذ البداية وجدت مستوى من الجدية والرجولة كنت دوما أحلم به وأعتبر أنه هو الشرط لكي يحقق الحزب أهدافه… أصبحت أجد أن شخصية الإنسان العربي في العراق لها مميزات. والحزب الذي نشأ على هذه الارض ومن هذا الشعب اكتسب هذه المميزات، ولا تستغربوا سماع هذه الاشياء مني. قومية العقيدة البعثية لا تعني بانه ليس للاقطار العربية مميزات مختلفة لأن هناك بعض صفات يختص بها قطر، ينما هناك صفات أخرى يختص بها قطر اخر وهكذا. على المدى البعيد والمستقبل البعيد نطمح الى تكوين أمة متجانسة ولكن التجانس الايجابي الذي يحافظ على المزايا القطرية في كل قطر مع العلم بان هذا المطمح أقرب الى الشيء النظري.. الى المطلب النظري، إذ من طبيعة الاشياء ان تبقى بعض الفوارق وبعض الخصائص، وهذا يغني الحياة القومية ولا يضيرها ولا يؤذيها عندما تتوحد الأمة في دولة واحدة. من عوامل إثراء نفسية الأمة وعبقريتها ان تكون الوحدة ضمن التنوع.
هذه الصفات اذكرها ليس فقط لأني متأثر عاطفيا بلقائكم، بل عن قناعة علمية بان في القطر العراقي مزايا تميز شخصية الانسان العربي، مزايا، اذا أحسن توجيهها فانها تستطيع ان تعمل الاعمال الكبيرة والاعمال الخارقة احيانا. وفي كل الاحوال كما قلت هي تمثل هذا المستوى من الجدية، هذا المستوى الذي هو شرط أساس لكي يكون حزب البعث العربي الاشتراكي.. حزبا تاريخا.. اي ان يحقق انجازات كبيرة ويجري تحولات عميقة في حياة الامة العربية والمجتمع العربي، لا ان يبقى في عالم التمنيات والافكار المجردة.
ايها الرفاق
طبعا سررت كثيرا لهذا العرض الذي سمعته عن اعمالكم وعن تطور نضالكم وعن التقدم المطرد الذي تسجلونه. لم افاجأ بهذه المعلومات فانا اعرف بانكم على الطريق الصحيح.. طريق الجد والدأب والعمل بين الجماهير وهذا هو الاساس ان لا تبتعدوا عن الجماهير. وأذكر أنني في عام 1969 عندما زرتكم اول مرة بعد الثورة، او ثاني زيارة ربما، قلت في حديث او في لقاء من لقاءاتي مع الحزبيين بان حزبنا في العراق اصبحت له جذور عميقة في هذه الارض ومع هذا الشعب وليس من قوة تستطيع ان تقتلع هذه الجذور بعد الآن..
وبعد خمس سنوات من هذه الملاحظة أستطيع ان أؤكد هذه الحقيقة واقول بان هذه الجذور قد قويت وترسخت اكثر من ذي قبل والآن تمر بالامة العربية فترة من أصعب ما مر عليها في عشرات السنين الماضية ويجب ان يكون للجماهير العربية التي تتعرض في عدة اقطار، الاقطار القريبة من اسرائيل بصورة خاصة – وسيشمل ذلك اقطارا اخرى- هذه الردة قد تتوسع رقعتها يجب ان يبقى للجماهيرالعربية مكان يشع منه الأمل تتطلع اليه لتقوى على متابعة النضال، لتقوى على صد الهجمة الشرسة التي تتعرض لها، يجب ان يكون هذا القطر هو الامل وهو قلعة الصمود وان يكون الحزب بتعاونه وتفاعله اليومي مع الجماهير وبتعاونه مع الفئات الوطنية الاخرى في هذا القطر وانفتاحه عليها يجب ان يهيأ العراق لهذا الدور وان يجعل اي احتمال مهما كان ضعيفا لاي تراجع او نكسة شيئاً مستحيلاً، ان يصبح الحزب مساويا للمواطنين العراقيين بكامل عددهم ان يصبح العشرة ملايين عراقي عشرة ملايين مناضل مستعدين للدفاع بالسلاح وبجرأة النضال وايمان المناضلين عن هذه القلعة الصامدة. الصمود كمرحلة اولى يجب ان يعقبها تقدم لمساعدة المناضلين ولإسناد نضال الجماهير العربية في الاقطار الاخرى.
ايها الرفاق
قد نواجه اياما وشهورا صعبة فيها آلام كثيرة وتتطلب جهودا وتضحيات ولكنني مؤمن بان هذه الفترة لن تطول كثيرا، لأن هناك حقائق ظهرت في الآونة الأخيرة اي خلال حرب تشرين هي من القوة والوضوح واليقين لدرجة لاينفع فيها اي احتيال واي تزوير كما تحاول بعض الانظمة ان تفعل، فتصور الاستسلام بصورة النصر. الحقائق الجديدة التي ظهرت ليست حقائق وقتية عارضة سطحية وانما هي نتيجة تفاعل عميق في نفس الشعب العربي من اقصى الوطن العربي الى اقصاه كجواب على الهزيمة المصطنعة، الهزيمة التي الحقت به في حرب حزيران، هذا التفاعل، هذه اليقظة في الشخصية العربية لم تكن يقظة بسيطة، لقد عادت تستنجد بكل تاريخها من ايام ظهور العقيدة، من ايام ظهور الاسلام دين العرب، وايام الفتح العربي وايام اشراق الحضارة العربية. كل هذا التفاعل اختمر في النفس العربية في هذه السنوات المعدودة بين حزيران 67 وتشرين 73 وظهرت القوة الجديدة التي تآمروا عليها ليخنقوها في مهدها ولكنها ليست من الاشياء التي يمكن خنقها وانما هي ظاهرة تاريخية.. انها استرداد الأمة لوجودها، لشعورها بوجودها، لشعورها بمعنى وجودها، لرسالتها في الحياة.
لذلك تبدو الأخطار المتوقعة في المستقبل القريب تافهة وثانوية ولا يمكن ان تخيف شعبا يعيش دوما في الأفق التاريخي، ويعلم ان حياته ستكون دوما على طريق الصعود الشاق، الصعود البطولي.
اني اتمنى لكم كل توفيق واتمنى ان تتكرر لقاءاتنا وان اعوض عن الغياب الذي كان طويلا بيننا ولم أرده وانما ظروف عارضة فرضته، ولم أبتعد عنكم يوما واحدا. كنت معكم.. مع هذا الحزب في كل عملكم ونضالكم وسأبقى معكم انشاء الله، الى آخر لحظة من حياتي.
21 حزيران 1974
(1) حديث مع اعضاء قيادة فرع بغداد لحزب البعث العربي الإشتراكي في 21/6/1974.
———————
القطر الصامد ينهض بمسؤولية العمل القومي
أريد أن أهنئ الرفاق على جهودهم، وأطلب منهم أن يضاعفوا الجهد، لأن المؤامرة الاستعمارية الصهيونية الرجعية تبلغ الآن ذروتها، وكما ذكر احد الرفاق، فإن العراق وحده يقف صامدا في وجه هذه الهجمة، بينما تستسلم بعض الأنظمة للاستعمار، كما ان هناك انظمة كانت دوما عميلة للاستعمار. ولولا وقوف العراق بهذه الارادة الثورية الصامدة المتمسكة بحقوق الوطن العربي وبقدسية القضية الفلسطينية لساد اليأس ولتفشى التردي، على الاقل على مستوى الحكومات، لأن الجماهير العربية لا يمكن ان تستسلم ولا يمكن ان تتراجع بعد ان كشفت الحرب الاخيرة –حرب تشرين– عن القوى الكامنة الفاعلة التي اختزنتها جماهيرنا العربية في طول الوطن العربي وعرضه والتي تستطيع بها ليس الصمود فحسب، وانما تستطيع بعد فترة من الزمن –نرجو ان لا تطول– ان تسترد ممارستها النضالية وان تتصدى للهجمة الاستعمارية الصهيونية، ولكن لا بد في مثل هذه الظروف ان يكون هناك نور يتقدم الطريق.. ان تكون هناك منارة تشع، ان يكون هناك أمل تلتف حوله القلوب وتتطلع اليه النفوس والإرادات. وانتم تشكلون هذا النور وهذا الأمل، الطبقة العاملة والطبقة الشعبية لأمة خيرة. الفلاحون والعمال في هذا القطر المناضل يجب ان يكونوا الطبقة التي تحرك بالقدرة وبالعدوى وبقوة النضال كل الجماهير العربية وان توحدها حول الأهداف القومية السامية.
أيها الرفاق
لاشك انكم تتقدمون باطراد على طريق العمل النقابي والممارسات النقابية الوطنية والقومية والدولية، وانكم تشكلون بابا وطريقا للحضارة الحديثة لأنكم تضطلعون بمسؤولية اهم ما يميز الحياة العصرية المتقدمة أي التصنيع، تقومون بدور حضاري كبير اذ تقوم عليكم وعلى جهودكم حركة التصنيع، التي نرجو ان تنقل، وفي اقصر مدة ممكنة، شعبنا العربي من حالة التخلف الى حالة الرقي ومجاراة الأمم الراقية. وإن العمل في المعامل والصناعات كما تعلمون جيدا وبالتجربة الحية ليس مجرد انتاج، ليس مجرد انتاج كميات من الأشياء المصنوعة وانما هو عقلية حديثة، عقلية جديدة متنورة علمية تستطيع من خلال ممارستها لأعمالها في المعامل وفي مجال الصناعة والتصنيع ان تغير وجه المجتمع. كذلك فطبقة الفلاحين في بلادنا ايها الرفاق اذا صح القول بانها ترزح تحت اثقال مزمنة من التخلف، فيصح القول ايضا بانها تحمل في ممارساتها الحياتية، في سلوكها واخلاقها، في نظرتها الى الحياة، في ارتباطها الوطني والقومي والإنساني ، تحمل عصارة الحضارة. فالتخلف لا ينفي العراقة في الحضارة، وشعبنا شعب عريق وفلاحنا العربي فلاح عريق، ومن واجب الحزب ومناضليه عندما يتعاونون ويتفاعلون مع افراد شعبنا في الريف ان يكتشفوا جليا هذه السمات والمعاني الحضارية العربية التي يعيشها الفلاحون في السلوك والممارسة، وان كانوا لا يتعلمونها في المدارس. من واجب المناضلين في حزبنا ان يكتشفوا ذلك وان يكشفوه ايضا لجماهير الشعب لكي يصبح الشيء الممارس وعيا واضحا وناضجا وعندها تسهل مكافحة التخلف ويسهل التغلب على التخلف واختصار الزمن، لاننا سواء في مجال العمل الفلاحي او في مجال العمل العمالي لا نريد لنهضتنا القومية ان تكون مقلدة، ان تنقل مجرد نقل من الحضارة الأجنبية، وان كنا بحاجة الى التفاعل مع حضارة العالم، لكن نريد ان يأتي ذلك بشكل طبيعي وان يتفاعل مع مميزات شخصيتنا القومية، وان يكون الإقتباس من الخارج ومن الحضارة الحديثة مساعدا على تبنّي واكتشاف وإظهار مزايا وخصائص الشخصية القومية وما فيها من قوة وإبداع.
ايها الرفاق
ان ما حققتموه حتى الآن في هذا القطر، في سنوات معدودة مضت على قيام الثورة لهو كبير وجدير بكل تقدير، ولكن المطلوب دوما المزيد ثم المزيد. المطلوب ان نتكافأ دوما مع عظم الأخطار التي تواجهنا وتواجه أمتنا. ان نبذل من الجهد في كل قطر من اقطارنا ما يدفع الخطر ليس عن هذا القطر فحسب وانما عن الأمة العربية كلها. عندما تكون أوضاعنا القومية ليست في مستوى واحد من السلامة، عندما تكون هناك اقطار رازحة تحت الحكم الرجعي العميل واقطار يحكمها حكام انتهازيون رخيصون لا يمثلون كرامة الأمة ولا طموحها ولا كبرياءها، يستسلمون للحفاظ على منافع الحكم. عندما تكون الحالة هكذا، فلا بد ان يحمل قطر من الأقطار مسؤولية الجميع او يحاول على الأقل ذلك، لا يكتفي بنفسه ولا يكتفي بمتطلبات حاجاته وانما ان ينظر الى مصلحة الأمة كلها، وان يتحمل مسؤوليته القومية الى جانب مسؤوليته الخاصة.
ومَن غير الشعب، غير الجماهير الشعبية الكادحة يقدّر هذه المسؤولية، من غير ابن الشعب الذي يكدح والذي يروي الأرض بعرقه وتعبه، من غير جماهير الشعب تستطيع ان تقدّر هذه الروابط وهذه المسؤولية.. مسؤولية المصير العربي الواحد لكي نحافظ على سلامة ترابنا القومي ووحدته ونحافظ على حريتنا واستقلالنا ولكي نعد ونجهز من اجل معركة قادمة… معركة التحرير التي تستأصل الصهيونية الدخيلة على ارضنا، لكي نرى ذلك اليوم المأمول يوم تتوحد الأمة العربية وتحقق رسالتها الانسانية.
بغداد بتاريخ 21 حزيران 1974
(1) من حديث مع أعضاء مكتب العمال المركزي ومكتب الفلاحين المركزي في 21 / 6 / 1974.
———————————
فلسطين قضية الثورة العربية
انا بالإجمال غير متشائم(1)، وهذا لا يعني اننا لن نمر بفترة قاسية، ولكن الأرجح ان هذه الفترة لن تكون طويلة، أبني تفاؤلي على ان القوة العربية التي كشفت عنها حرب تشرين هي قوة حقيقية عميقة وليست وهم، وكان يمكن ان تنفجر اكثر وتطول، ولكنهم تآمروا عليها وأوقفوها عند حد.
وهذه الحلول التي يطرحونها حلول مصطنعة والجماهير العربية يوما بعد يوم تكتشف الخدعة، ولكن هناك أشياء لا بد من بعض الوقت حتى تتوفر. في مصر وفي سوريا، هناك فراغ في التنظيم الشعبي والقيادات الشعبية نتيجة سنين طويلة من الحكم الدكتاتوري الذي لم يتح مجالا للتنظيم الثوري.. ولكن يجب ان يكون لدينا يقين باننا عندما نجتمع مثل هذا الاجتماع فان ما يدور بيننا يدور في كل حلقة يجتمع فيها عدد من المواطنين الواعين في مصر وسوريا والأقطار الأخرى، لاسيما أن درجة الكبت الذي كان يسيطر قد خفت نسبيا.
في تقديري لقد بدأ أحرار الفكر والمناضلون في توعية الجماهير وإعدادها للنضال، في هذه الأقطار.
القضية الفلسطينية هي قضية الثورة العربية، ولذلك فاني أتكلم عن مصر وسوريا وبقية الأقطار لأن كل تقدم ثوري، كل تقدم في التنظيم الشعبي النضالي يصب في الثورة الفلسطينية ويساعدها. الظرف او المرحلة القادمة سوف تثبت بشكل واقعي ملموس اكثر من الماضي ان القضية الفلسطينية هي فعلا قضية الأمة العربية كلها، وهذا التصدي الذي سوف تواجه به الظاهرة الاستعمارية في سوريا والاردن وكل مكان سوف يوصل الى حمل السلاح لتحرير فلسطين، والخوف من ان ينتزعوا البنادق من الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية هو خوف وارد ومشروع، يجب ان نحذر من ذلك.. ولكن بوعينا واستشرافنا للمستقبل يجب ان نعرف ونعمل على ان تكون فلسطين في كل قطر عربي، وان تحمل الجماهير العربية البنادق من اجل فلسطين.
المطلوب هو الصمود والتفاؤل، وأقول ايضا ان الحرب الاخيرة دللت على مستوى جدي يمكن ان يوصف بالنضج، او تقدم نحو النضج خطوات. الثورة لا تساوم ولا تتساهل ولكن بعد ان لمست هذه القوة الجديدة التي هي ليست وقتية يجب ان يكون تصرفها خاليا من التزمت ومن ردود الفعل، وان تكون واثقة من المستقبل ومن النصر العربي ومن الوعي العربي لان هذا الوعي في تقدم وفي نضج مستمرين، وان تكون تصرفاتها معبرة عن هذه الثقة بالنفس وبالمستقبل.
22 حزيران 1974
(1) من حديث مع أعضاء اللجنة السياسية للثورة الفلسطينية في العراق ورؤساء الاتحادات الشعبية في 22-6-1974
———————————–
العمل النضالي الوطني الصادق هو عمل قومي
انها فرصة من اسعد ايام العمر(1) ان اجتمع بالرفاق وان اسمع هذا العرض لتجربتهم الغنية الناضجة. هذا شيء يبعث في النفس البهجة والأمل والإطمئنان الى ان هذا الحزب لن يصيبه ضر في هذا القطر وانه باق وان جذوره ستمتد بعيدا بعيدا في الارض العربية ويتجاوز حدود العراق وأن توجهه القومي عميق وأصيل.
لم يكن فهمنا للهدف القومي فهما سطحيا لقد اشرت الى هذه النقطة في حديث لي في الاتحاد الوطني لطلبة العراق عام 1969 فقلت ان الصفة القومية في الحزب لا تعني ان نتجاوز القطر انها تعني ان نعمل بعمق في القطر دون ان ننسى الأفق القومي. العمل القطري الصادق العميق هو عمل قومي. فانتم باخلاصكم في عملكم وفي هذا الانقطاع والعطاء الكامل تعدون انفسكم ايضا للمهمة القومية ولا ارى ذلك اليوم بعيدا عندما سيخرج مناضلو البعث من العراق ويحملون هذه التجربة ويثقفون بها الرفاق والمناضلين العرب في اقطار اخرى.
الحقيقة ان هذا الانكباب المتواصل مع الوعي، مع الفكر الواعي، المنفتح، ان الممارسة والوعي يكونان لحزبنا ولهذا القطر تجربة فريدة رائدة لن تكون اقل من أية تجربة اشتراكية. ويستطيع المرء ان يلمس بسهولة وبسرعة ان العنصر الذاتي عنصر الخلق والابتكار فيها اكثر بكثير من عنصر الاقتباس. كل ما ذكرتموه ايها الرفاق، أصغيت اليه باهتمام واستوعبته ولا مجال لان ادخل في التفاصيل، ويكفي ان اقدر بصورة خاصة هذا الاسلوب في التعامل سواء في المناطق ذات الطابع
العشائري، او المناطق ذات الطابع الديني. انه اسلوب حكيم فعلا لاني في الماضي، لااكتمكم، كنت احيانا اشعر ببعض الأسف لأني لم أكن ألمس الاندماج الكلي مع الشعب الذي يفترض ان يتحقق في البعثي، المحبة العميقة والتفاعل الذي لا ينفي رؤية الاخطاء والتصميم على تقويمها ولكن بالمحبة والعمل الدؤوب. في الماضي سواء هنا او في اقطار اخرى كنت ألمس أحيانا بعض السطحية النظرية في ممارسات بعض الرفاق البعثيين وكنت ألمس شيئا من الغربة والتنافر بين هؤلاء
الرفاق وجماهير الشعب. وكانت هناك احكام سطحية وقاسية على الشعب… وكنت أتألم، ولكن عندما سمعتكم شعرت بارتياح كبير وشعرت بمدى المسافة التي قطعها الحزب في طريق النضج. لا يمكن ان نقود شعبنا اذا لم نحبه ونتفهم تقاليده والعنصر الايجابي فيها. لان التقاليد ليس كل ما فيها للاسقاط والطرح، وانما هي تعبر في الاصل عن اشياء ايجابية، دخلها جمود فلم تعد كلها حية. التدين والتقاليد الاجتماعية يجب ان نكتشف فيها العنصر الايجابي ويكون هو المدخل الى الناس، عدا عن الروابط والاواصر التي يفترض ان تربطنا بالشعب. هذه الارض كانت مسرحا لاحداث تاريخية ذات معان قومية وانسانية خالدة، فمن اجدر منا بالاعتزاز بها ومحبتها؟؟
كذلك في التعامل في الاماكن والاوساط العشائرية كانت تجربة 63 متسمة بالسطحية كما تعرفون، وكذلك بالنزق والطيش مما سبب اضرارا للحزب وسمعة الحزب. وهذا تجاوزناه ووصلتم الى الاسلوب السليم. كذلك التعامل بصورة عامة في الريف والمدن مع اي مواطن واي حزبي يجب ان يتسم بمبدأية الحزب وأخلاقيته وإنسانيته. وهذا ما انتم مدركون له تجسدونه في ممارساتكم.
ليس لي الآن الا ان أهنئكم على هذه الجهود واتمنى لكم مواصلة العمل بكل نشاط وحماس وحرارة لأن دربنا لا زالت طويلة… والسلام عليكم.
22 حزيزان 1974
( 1 ) حديث مع اعضاء قيادة فرع الفرات الاوسط في 22/ 6/ 1974
———————
يجب ان يكون طموحنا كبيرا وان نبني تجربة رائدة
ايها الرفاق (1)
منذ ان جئت الى هذا القطر المناضل وانا ارى كل يوم شيئا جديدا يبعث على الامل والتفاؤل والاعتزاز ولكن ما شاهدته اليوم في هذا المشروع يفوق في نظري كل الانجازات لانه يجسد العقل العربي الحديث والارادة العربية المصممة المبدعة ولاننا في معركة البقاء التي تخوضها امتنا نحاج اكثر ما نحاج الى هذا العقل المبدع والى هذه الارادة المصممة. واذا كنا اليوم نرى في هذا المشروع انتاجا لآلات زراعية ولأدوات النقل ولأشياء كثيرة كلها نافع وكلها ضروري لحياة هذا البلد وجماهيره فاننا نستطيع ان نرى ايضا بعين المستقبل ان هذا المشروع وامثاله سينتج لنا بعد فترة من الزمن السلاح الذي نحاجه لتحرير ارضنا من الاغتصاب وللقضاء على آخر اثر للصهيونية والإستعمار في وطننا العربي. ان التصنيع هو قوة انتاجية هائلة وهو ايضا قوة دفاعية يحمي السيادة ويحمي الكرامة ويحمي الحرية. واذا قلت نتشوق الى ذلك اليوم الذي ننتج فيه البنادق والمدافع فليس لاننا نعشق الحرب والتدمير بل لاننا نعشق الحرية والاستقلال ولاننا نعلم علم اليقين بالتجربة الحية بانه لا يمكن ان يقوم سلام ما لم تحمه القوة.
ايها الرفاق
في ايام الشباب كنا نتطع الى العراق وكان جيلنا يسمي العراق بروسيا العرب، اما الآن وقد شق حزب البعث العربي الاشتراكي طريق النهضة لهذا القطر، طريق النهضة الجدية فاننا لم نعد بحاجة الى التشبيه بالبلاد الاجنبية بل سيقال بعد اليوم في كل قطر عربي سائر في طريق النهضة انه يشبه عراق البعث.
ايها الرفاق
اذا لم نجسد افكارنا ومثلنا منذ البداية، ومنذ بداية التجربة الثورية واثناء الممارسة فلن نستطيع تجسيدها فيما بعد.. انني رأيت صورة مؤثرة تمثل صدق المبادئ في هذه المعامل عندما رأيت هذه الوحدة بين العامل والمهندس والمدير وانهم فعلا ينتمون الى حزب واحد والى شعب واحد والى طبقة واحدة. يجب ان يكون طموحنا كبيرا وواسعا وان نبني تجربة رائدة وان نجسد المساواة الحقيقية والاخوة العربية في كل خطواتنا وكل ممارساتنا، يجب ان نشعر الطبقة العاملة بانها هي التي تبني بالفعل، تبني هذه التجربة وانها المسؤولة عنها وعن نجاحها وان المجال امامها مفسوح وطليق وانها تبني بملء إرادتها وطموحها وحماسها واندفاعها لأن التجربة هي تجربتها والبلاد هي بلادها.
ايها الرفاق
العلم موجود كالسلع يمكن ان يقتنى ولو ببعض الجهد وبزمن من الدراسة فهذه المدارس والجامعات تملأ الدنيا، والمال ايضا يمكن ان يتوافر ولكن لا العلم وحده يكون خلاقا ولا المال وحده يستطيع ان يخلق حياة جديدة ونهضة جديدة، وقد مرت عهود على هذا القطر وكان المال متوافرا وكانت المدارس والجامعات مفتوحة ومملؤة وكانت البعثات الى البلاد الاجنبية تذهب بالاعداد الكبيرة فماذا فعلوا وماذا شيدوا من نهضة حقيقية. ان هذا وحده لايكفي، هناك المثل والمبادئ والنظرة القومية الشاملة وهناك حرارة الايمان بالمبادئ والمثل، هناك الجو الثوري الذي يخلق من الرجل العادي بطلا، هناك الفكرة القومية التي تذكرنا بماضينا المجيد وفي نفس الوقت تخلق فينا طموحا الى مستقبل أمجد، هذا هو سر هذه النهضة. عندما يخلق هذا الجو يصبح العلم مفيدا ومبدعا وعندما يخلق هذا الجو يصبح المال شيئا عظيما لانه لا يبدد فيما لا طائل تحته وانما يصرف فيما يضمن للامة ولجماهيرها الخير والسعادة والكرامة هذا ما تحدثه حركة تاريخية، هذا هو التعبير العميق الذي تحدثه حركة تاريخة في حياة الامة. الحركة التاريخة لا تأتي بعلم الهندسة ولا تأتي بعلم الميكانيك ولا تأتي بالطب ولا بأي فرع من فروع العلم، إنها تأتي بالنظرة الشاملة، تأتي بالحماسة والنظرة البعيدة والطموح والاخلاقية والتجرد وروح التضحية من اجل الاجيال القادمة، وهذا كله نحن مدينون به لحزبنا ولحركتنا التاريخية ولاشك ان لقيادة هذا القطر فضلا كبيرا في خلق هذه الروح، في رعايتها والسهر عليها، فانني أحيي بهذه المناسبة الرفيق الكبير الرئيس احمد حسن البكر والرفيق الذي يجسد طموح الشباب العربي الرفيق صدام حسين. كما احيي رفيقنا الذي يشتغل ويعمل بهمة لا مثيل لها الرفيق طه الجزراوي والذي سمعت كثيرا وانا بعيد على نشاطه وتفانيه في عمله كما اني معجب بالرفاق الذين رأيتهم وتعرفت عليهم اليوم كما احيي الرفيق المدير العام والرفاق المهندسين والفنيين والعمال فلكم جميعا تقديري ومحبتي ونرجو الله ان نلتقي بمناسبات اخرى وان نقترب يوما بعد يوم وسنة بعد سنة من هدفنا الكبير هدف التحرير وهدف الوحدة العربية، والسلام عليكم.
22 حزيران 1974
(1) كلمة الرفيق القائد المؤمس في عمال وموظفي الشركة العامة للصناعات الميكانيكية في الاسكندرية في 22/7/1974.
—————————
الطبقه العاملة ضمان نجاح الثورة وقيم الحزب
ايها الاخوة(1)
إنني عندما اوجد بينكم، بين افراد الطبقة العاملة اشعر بكامل حريتي. أشعر بأنني أمام اصدق صورة للحزب الذي نناضل جميعا منذ عشرات السنين في سبيله، اشعر أنني امام الصورة الحية للثورة العربية. في كل المجالات الأخرى، في كل الاوساط الاخرى التي التقي بها أرى وألمس جوانب وروابط هامة تربطها بالحزب والثورة، ولكني في نفس الوقت اشعر أيضا بان ثمة نقصا أو أكثر ينقص الصورة حتى تكتمل وان لابد من التوعية ومن النضال ومن التوضيح الفكري والتوجيه العملي والسهر الدائم حتى لا تحدث الإنحرافات، حتى يمضي السير سليما، في حين ان الطبقة الشعبية الكادحة وفي طليعتها الطبقة العاملة، تحوي الصورة الكاملة والشروط الكاملة للثورة العربية. هذا هو الأصل، هذا هو المبدأ والفئات والاوساط الثورية الاخرى تأتي كمساعدة، كمكملة في ناحية من النواحي، أما الأصل فهو الشعب. العدد الأكبر بطبقته الكادحة، بروحه المتحررة الثائرة، في حياته الممثلة لآلام امتنا والممثلة ايضا لإرادتها ولطموحها، لإرادتها في التحرر وطموحها في بناء المستقبل العربي المنشود.
ايها الرفاق.. ايها الاخوة
ان ثورة الحزب في هذا القطر حققت الآمال التي وضعناها عليها وإن كان الطريق ما زال طويلا، الا اننا واثقون كلنا بأن الخطوات المقبلة لن تكون الا كالخطوات السابقة، بنفس الروح ونفس العزم ونفس الاخلاص ونفس الجدية. هذه ثورتكم، وانتم الضمانة الكبرى لها. انكم تبنون هذا القطر ولكنكم في كل يوم وفي كل ساعة وانتم تعانون وتجهدون تعرفون الصلة الوثيقة بين شعبكم ونضالكم القطري وبين نضالكم القومي. وكيف ان مردود هذه الاتعاب التي تتحملونها في هذا القطر لن يقتصر على العراق وانما هو للنضال العربي كله، ولمعركة المصير العربي كله، فانتم الذين تفتحون هذه النافذة بين نضال القطر ونضال الوطن الكبير، بين العمل للقطر والعمل للوحدة العربية. بل اقول اكثر من ذلك انكم ايها الرفاق العمال بنضالكم تعطون للثورة العربية ابعادها الانسانية لأنكم توحدون جهودكم مع كل الطبقات العاملة ومع كل قضية عادلة، وتمثلون هكذا الانسان العربي الجديد الذي لن يكتفي ببناء وطنه وبناء مجتمعه، وانما من يتحمل مسؤولية إنسانية كهذه سوف يكون عضوا فعالا في جسم الإنسانية. وقد آن لنا، للشعب العربي ان يخرج الى المبادرات العالمية، آن له بعد فترات طويلة من التخلف والتقوقع والجمود ان ينطلق من جديد الى رحاب العالم وان يبرهن من جديد على جدارة العربي وعلى منزلة العبقرية العربية بين الأمم وبين الشعوب.
أيها الرفاق
ايام معدودة في حرب تشرين الأخيرة انطلق فيها الشعب العربي بحرية وعفوية، في ايام قليلة استطاع ان يهز العالم بأسره، أن ينال اعجاب الشعوب واحرار العالم، ان يبرهن بالدليل الحسي انه قد يؤثر على نظام العالم، قد يختل نظام العالم إذا تجوهلت إرادة الأمة العربية، اذا تجاهل الغير مصلحة هذه الأمة، فكانت اذن لمحات وومضات خاطفة من البطولة العربية، من الشجاعة ومن الكفاءة تسنى لها ان تظهر وتتحقق في ايام الحرب، واذا عهد جديد يبدأ، وإذا الغرب والشرق ينتبهون ان شيئا جديدا قد ظهر في القوة العربية، الإرادة العربية. فترة قصيرة من التضامن العربي فرضته الجماهير على الحكومات أخاف الإستعمار وهز أركانه في أوربا وأمريكا كما هز أركان الصهيونية وأسُس عقيدتها الواهية المصطنعة، فكيف اذا توحدت هذه الأمة، كيف اذا اصبح العرب دولة واحدة بإرادة موحدة وبتخطيط واحد و باقتصاد واحد، بجيش واحد، بكفاءات علمية وفكرية موحدة، تعود كلها الى الوطن بعد الاغتراب واليأس وتعمل في سبيل هدف واحد.
انتم ايها الرفاق أجدر من يستوعب هذه الصورة، انتم الطبقة العاملة الموحدة التي ينتظر منها ان تحقق الوحدة للطبقة العاملة العربية وللأمة العربية كلها. انتم أجدر من يدرك ويلمس الفرق الأساسي النوعي بين حالة التجزئة وما تسببه من هدر للجهود وللثروات وللكفاءات، وبين حالة الوحدة التي تضاعف قوتنا اضعافا في نواحيها المادية والمعنوية.
انني لا أشعر عندما أكون بينكم بحاجة الى ان احثكم على النضال فأنتم رواد النضال في هذه الأمة، وفي هذا القطر تبرهنون عمليا في تحملكم لأعباء مهمات الثورة وفي تضحياتكم وفي حماسكم الذي لا يفتر، تبرهنون انكم تدركون اكثر من أي كان، ما هي مهماتكم وما هي الأهداف التي يجب ان توجهوا جهودكم لبلوغها. ولذلك اشعر أولا بالإطمئنان الى الغد، الى المستقبل، عندما أرى الطبقة العاملة حاصلة على منزلتها وكرامتها، متحملة لواجباتها، لأن هذه هي الضمانة الكبرى لنجاح الثورة ولتقدم الحزب والنصر في معركة المصير. والسلام عليكم.
23 حزيران 1974
(1) حديث في مقر الإتحاد العام لنقابات العمال في القطر العراقي في 23/6/1974
———————————————–
القدرة العربية المتنامية على مجابهة الأعداء
ايها الرفاق (1)
ان سعادتي بلقائكم ولقاء الحزب في هذا القطر سعادة عميقة، وهي مزدوجة بمعنى ان سببها اولا ان ألمس هذا التقدم الجدي الذي حققه الحزب وثورته في العراق. تقدم يبعث على الأمل والتفاؤل.. تقدم هو للقضية الكبرى كلها، هوللامة العربية كلها.
في أقل الإحتمالات ايها الرفاق عندما يكون قطر بوزن العراق ناهضا متقدما مطرد النمو والتقدم على كل المستويات فذلك كسب للامة العربية، فكيف اذا كان هذا التقدم موجها من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي المؤمن بوحدة القضية ووحدة الامة ووحدة الثورة.
والسبب الثاني لسعادتي بلقائكم ولقاء الحزب في العراق هو أن هذا اللقاء جاء في ظرف مصيري، في ظرف له وجه قاتم هو وجه التآمر الاستعماري الصهيوني الرجعي، وجه الاخطار التي لا يجوز ان نستخف بها ولكن له وجها آخرمشرقا هو ان امتنا في هذه الآونة وبعد الحرب القصيرة التي خاضتها في تشرين والتي تآمرت قوى الاستعمار والصهيونية والرجعية على خنقها قبل ان تأخذ مداها، أقول ان امتنا خرجت منها أشد ثقة بنفسها من اي وقت مضى، فلئن كانت الأخطاركبيرة فان القوة العربية تتزايد وتتنامى بعمق من الداخل، من الاعماق بشكل لايستطيع الاستعمار مهما أتقن حيله وأساليبه ان يؤخر هذا النمو. اذ لوكان للاستعمار مثل هذه القدرة لوجب ان يظفر بأمتنا عندما نزلت بها تلك الهزيمة غير العادية في حزيران 1967 وما تلاها من سنوات اليأس والتردي. كانت الظروف ملائمة جدا لقوى الاعداء ولمخططات الاعداء لكي تجهز على الامة العربية لو انها أمة يمكن ان تُغلب. ولو انها لا تستند الى معين لاينضب من القوة العميقة تستمدها من حاضرها ومن ماضيها، من حاضرها المليء بالآلام والعبر، ومن ماضيها المليء بالشواهد والادلة على طاقاتها الخارقة، على قدراتها، على صمودها. فاذا كانت هزيمة حزيران لم تقتلنا فهل يستطيع الاعداء ان ينالوا منا وقد كدنا نحقق انتصارا كاملا لولا تخاذل القيادات، بعض القيادات التي تعرفونها، ولولا ارتباطاتها المشبوهة ولولا عجزها عن فهم وتقدير امكانيات الجماهير العربية التي لاتنضب.
فاذا اردنا ان نرسم صورة للمستقبل، للعمل في المستقبل فلا بد ان نضع هذه الحقيقة في رأس خطتنا وهي أنه لم يعد من مبرر لليأس، لم يعد من مبرر للهروب،لم نيأس في أحلك الظروف فجدير بنا عندما برهنت الجماهير العربية على اصالتها وعلى شجاعتها وعلى قدرتها اللامتناهية في البذل والتضحية، جدير بنا ان نعمل بنفس طويل وبأمل كبير وان نجمع بين الرصانة والحماسة، بين النضج وبين حرارة الثورة والنضال. لم يعد يليق بالمناضلين ان يتصرفوا تصرف النزق والغضب، تصرف اليأس. ان القوة العربية الجديدة التي كشفت عنها الحرب الأخيرة ليست قوة مادية فحسب، هي قوة أخلاقية، هي بطولة وهي استيعاب لقدر الامة، بمعنى وجودها منذ الماضي البعيد والى المستقبل البعيد. هي تجربة اخلاقية وهي ايضا كفاءة علمية ونضج علمي ما كان يمكن ان تتحقق تلك النتائج لولا ذلك المستوى الجديد الذي بلغته الجماهير العربية والامة العربية عامة من النضج العقلي ومن الكفاءة العلمية التي وصلت اليها بسرعة غير عادية تيجة الوطأة الثقيلة لهزيمة حزيران على النفس العربية. لقد كانت حافزا ومحرضا نقلت النفوس والارادات من مستوى الى مستوى آخر، فكانت تلك الثمرة الطيبة.
ايها الرفاق
ان واقع التجزئة ليس بالواقع السهل وليس بالواقع السطحي، وما اظن ان الحزب استخف بهذا الواقع يوما من الايام فاذا كنا نقول سوريا والعراق ومصر فلأن هذه الكيانات تمثل واقعا جديا لابد ان ندخله في حسابنا، في التخطيط لكل نضال قومي. وان فهمنا لواقع التجزئة ولواقع الكيانات القطرية هو الذي يساعدنا على تخطيها في المستقبل، هو الذي يسهل عملية الوحدة العربية في المستقبل وليس تجاهل هذا الواقع هو الذي يسهل الوحدة العربية، فاذن هناك واقع، هناك شيء إسمه سوريا، وقد كان لسوريا دور رئيسي في النهضة العربية الحديثة، في الحركة القومية منذ بداية القرن. وليس نشوء حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا من قبيل الصدف فكيف لا يركز الأعداء كل اسلحهم التآمرية على هذا القطر الذي كان مصدر اشعاع للوعي القومي، وقد ازدادت اهميته بقيام الدولة الغاصبة الدخيلة.. اسرائيل، وقد بلغت أهمية سوريا الذروة عندما قامت الوحدة بينها وبين مصرعام 1958، وانتم ابناء القطر السوري تعرفون بان سوريا كان لها الدور الاكبر في تحقيق تلك الوحدة بقيادة الحزب بلا شك، ولكن جماهير سوريا المشبعة بفكرة الوحدة وبحب العروبة وبآمال الوحدة هي التي ظلت تناضل وتضغط وتملاء الجو العربي بالنداءات والشعارات والمعارك النضالية حتى مهدت وخلقت عوامل الجذب لمصر وللقيادة المصرية في ذلك الحين لكي تقدم على خطوة كانت تعتبر اقرب الى المستحيل، وتعرفون ماذا كانت تعني هذه الوحدة بين سوريا ومصر المحيطتين باسرائيل من الشمال والجنوب، مصر بوزنها البشري الحضاري الكبير وسوريا بوزنها المعنوي الكبير جدا في تمثيلها لأعلى مستوى من الوعي القومي الثوري، قد يكون الاستعمار والصهيونية قد فوجئا بقيام تلك الوحدة التي تمت فعلا في ايام، في مباحثات لم تتطلب اكثر من ايام وحسب عقلية الاستعمار وعقلية حتى الدول الصديقة ولكن التي يصعب عليها فهم النفسية العربية والظروف العربية، استطيع ان اقول ان الوحدة كانت مفاجأة للعدو والصديق على حد سواء. ولكن العدو بدا منذ اليوم الثاني للوحدة لتخريبها وللانقضاض عليها، وطبعا لايستطيع الاعداء ان يخربوا الا اذا وجدوا ثغرات وأخطاء داخلية ينفذون من خلالها، ولما نفذت جريمة الانفصال انكمشت مصر ولكن لم ينلها شيء كبير من هذا التخريب، فشعبها كما تعرفون متجانس وبعد الصدمة الاولى استطاعت القيادة في مصر ان تسترد الزمام، ولكن سوريا كانت بلا قيادة، وكانت في وضع داخلي مجزأ مفرق واستطاع الاستعمار واستطاعت الصهيونية ان يمعنا في التخريب من الداخل، ومنذ ذلك الحين فقدت سوريا الشيء الكثير من سيطرتها على نفسها وعلى مقدراتها وانكفأت الى مواقع الدفاع والانشغال بمشاكلها الداخلية بدلا من ان تكون في مواقع الهجوم، في مواقع الأشعاع على غيرها من الاقطار، بدلا من ان تتابع دورها القيادي الذي كان لها. في تلك الظروف حدثت الانقلابات التي نتج عنها اشتراك حزبنا في الحكم دون ان تكون له السيطرة الفعلية على الحكم فقد كان اسمه يُستغل، ورصيده يُستهلك اما القيادة فكانت لغيره وهكذا بقي الحزب يقاوم مقاومة يائسة حتى كانت الغلبة للمتآمرين وللمشبوهين، ولكننا اعتبرنا تلك النكسة ذات وجه ايجابي ثمين لانها انقذت الحزب من الالتباس، صحيح ان الحزب اصبح بعد 23 شباط مطاردا مقهورا كثير من مناضليه في السجون يتحملون ما لا يحتمل ولكن ميزة واحدة كان بامكانها ان تعادل كل تلك العذابات والسلبيات هي ان تبرىء صفحة الحزب امام الجماهير العربية في سوريا وفي سائر الاقطار وان تجلو وجه الحقيقة، لان الحكم في تلك السنوات لم يكن حكم حزب البعث، كان حزب البعث مشاركا بشكل من الاشكال كان يحاول ويكابر ويقاوم الفساد ويقاوم عملية التخريب والتمزيق والتزييف الواسعة للحزب، عملية لم يكن لها مثيل في سابق تاريخ الاحزاب. وقد كانت هناك التباسات كثيرة مسيئة لسمعة الحزب ولرصيده قضت على الشيء الكثير من الثقة التي كان يتمتع بها لدى الجماهير ولما حدثت النكسة ركز الحزب على الناحية الايجاية هذه ان يعيد صلته الايجاية بالجماهير، ان يبرهن للجماهير ان ذلك الحكم لم يكن حكمه وان هذا التلطيخ لوجه الحزب وسمعته لم يكن من عمله وانما كان مدسوسا بغية تخريب الحركة الوحدوية التي تخيف الاستعمار والصهيونية اكثر من أية حركة سياسية واكثر من اي زعيم او قائد مهما بلغ من النفوذ لان الزعيم يمكن ان يقضى عليه بشكل من الاشكال ولكن حزب الثورة العربية هذا الذي كان يخيف الاعداء لذلك كان تركيز الاعداء على سوريا من وزن رهيب لكي يقضوا على الحزب قضاء نهائيا بتسويد صفحته، بقلب مفاهيمه، بنزع ثقة الجماهير منه الى الابد وهكذا يكونون قد بلغوا غايتين في آن واحد ان يقضوا على الحزب وعلى القطر الذي له دور قيادي في المعركة القومية.
ايها الرفاق
لا أريد ان انسى نفسي، واخشى ان استرسل واطيل، ولنا لقاءات مقبلة نستطيع ان نتابع فيها هذه النظرة وحسبي ان اقول: بان فكرة الحزب هي من معدن هذه الامة العربية لا يسهل القضاء عليها، ليس من السهل ان تُجتث وان تُقتل، فاذا استطاعوا ان يقمعوها في قطر فانها تظهر في آخر وهكذا يأخذ نضال رفاقنا في العراق هذا المعنى لانه هو الثأر وهو المتابعة والاكمال لرسالة الحزب، الى ان يأتي اليوم الذي نستغني فيه عن التسميات القطرية ونرفع اسم الوحدة بين هذين القطرين اللذين يشكلان وحدة طبيعية بكل معنى الكلمة.
والسلام عليكم
23 حزيران 1974
(1)حديث مع الرفاق السورين في بغداد 23/6/1974.
———————————–
قدرنا أن نبني وأن نحارب في آن معاً
ايها الرفاق (1)
إنها لحظة سعيدة أن أرى روح البعث العربي متجسدة فيكم انتم طلائع هذا البعث ليوم التحرير والنصر، ليوم التحرير والوحدة. ان الشباب ايها الرفاق هو روح الثورة، فالثورة في معناها العميق هي حياة شابة متجددة ابداً صافية متوثبة كسن الشباب. والحركة الثورية هي التي تتوجه أول ما تتوجه الى شباب الأمة، ومعيار ثوريتها هو إقبال الشباب عليها. الحركة الثورية هي التي تجعل من الشيوخ شبابا فكيف بالشباب أنفسهم، إنها تزيدهم حرارة واندفاعا انها تحفظ لهم حيويتهم من ان تتبدد في مسالك سقيمة، وتوجهها الوجهة الصحيحة.
ايها الرفاق
النصر الأخير لنا لا ريب في ذلك، لأن امتنا كلها أمة شابة فتية ولأن نهضتها وثورتها تقومان على عنصر الشباب. ايها الرفاق، ايها الاخوة والاخوات، قد دخلنا مرحلة معارك المصير فمرحبا بها كما كنتم تنشدون. مرحبا بمعارك المصير لانها ستكشف عن معدن هذه الامة. لأن آمالاً واسعة عريضة وكنوزاً من الخير والأمل مختزنة في نفوس جماهيرنا العربية وليس غير المعارك المصيرية مفجر لها. اننا في معارك المصير لا نبني المستقبل فقط، لا نشق طريق المستقبل فقط، وانما نحيي ماضينا المجيد ايضا، نخلع عليه ثوب الشباب، نجدد خلوده كما حدث في الحرب الاخيرة، كما برهن جيشنا العراقي الباسل على ان بطولات خالد وصلاح الدين ليست من صفحات الماضي فحسب، وانما هي بطولات تتجدد ابداً.
ايها الرفاق
نحن امام اخطار تتزايد وتتعاظم، فالاستعمار والصهيونية والرجعية العميلة ما ان اكتشفوا تلك القوة الهائلة التي فاجأتهم في حرب تشرين حتى أخذوا يعدون الخطط الجهنمية ليقتلوا هذه الروح قبل ان تقتلهم، ليقضوا عليها قبل ان تقضي عليهم فيجب ان نتوقع الكثير من المؤامرات، ولكننا اذا أخلصنا لروح حزبنا وثورتنا فاننا منتصرون عليهم باذن الله.
الامة العربية كما قلت لكم أمة شابة فتية. رغم انها من أعرق الأمم في التاريخ، ورغم حضاراتها العريقة المغرقة في القدم، ولكنها الآن في يقظة تاريخية وانتم الشباب تمثلون وتجسدون هذه اليقظة. عندما تكون الأمة معرضة للخطر الكبير واجبها ان تحشد كل قواها، ان تستثمركل امكانياتها، وهذا الذي تعملونه وتمارسونه، هو نموذج لهذا الحشد للطاقات والامكانيات والإعداد لمواجهة الاخطار. نعم، يجب أن نجند حتى الاطفال لمواجهة الهجمة الاستعمارية الصهيونية. يجب ان تكون الأمة كلها حاضرة مكافحة في هذه المعركة رجالا ونساء شيوخا وشبانا واطفالا.
ايها الرفاق
اننا على الدرب الصحيح في هذا القطر الذي يطبق مبادئ البعث العربي الاشتراكي، ونرجو في وقت قريب ان تتسع هذه التجربة وان تحطم الحدود الاقليمية لتعيد الى الامة وحدتها وشبابها لان الشباب الحقيقي للامة هو عندما تصبح جسماً واحدا متكاملا لا ان تبقى اجزاء متفرقة تقوم فيما بينها الحدود والحواجز الكثيفة، فبارك الله فيكم ولتكونوا عنوان هذا الزحف الجديد، الزحف العربي، زحف البعث العربي في البناء وفي القتال لأن قدرنا أن نبني ونحارب في آن واحد. انني فخور بكم واعتبر ما تحققونه في هذا القطر قدوة تحتذى، ولا شك ان مبادئ حزبكم هي التي تسير خطواتكم وممارساتكم وتسري فيها سريان الروح في الجسد. لسنا كالبلاد التي تجند شعبها، شبابها للعدوان والغدر والاغتصاب والنهب والسلب. ان الحق يقف في جانبنا والحرية في صفنا والإنسانية ترفرف فوق معاركنا ويرتبط مصيرها بمصبرنا. فنحن ندفع العدوان ونحطم القيود في سبيل الحرية وفي سبيل الحق والعدل، وفي كل خطوة نخطوها وفي كل عمل نقوم به انما تحدونا مبادئنا السامية ولذلك لاخوف من ان تتجند هذه الامة وتجند نساءها واطفالها لأن معاركها معارك الحق والحرية والانسانية.
23حزيزان 1974
(1)حديث مع الطلبة المشاركين في معسكر الخالصة للعمل الشعبي في 23/6/1974.
————————-
بالعلم نتكافأ مع الأخطار التي تهددنا
إنها لفرصة سعيدة أن التقي برجال العلم (1)، العلم الذي يلتصق بالحياة، بحياة الشعب، بحياة المواطن ويستمد من هذا الإلتصاق ومن هذه المعايشة لحياة المواطنين أبناء شعبنا عمقاً انسانياً.. قلت أيها الإخوة بأن العلم الذي تمارسونه وتقفون حياتكم وأوقاتكم عليه يتميز عن غيره من فروع العلم لأنه ملتصق بحياة الشعب والإنسان والمواطن العادي، ولذلك فهو مغموس بالروح الإنسانية لأنه قريب من آلام الإنسان، ومن أمراضه. وهذا في رأيي هو العلم الكامل وقد تصورت الطب
دوماً، والطبيب بأنه يمكن أن يكون نموذج الإنسان الكامل، لأنه لا يقوم بالأبحاث المجردة في الغرف المعزولة وإنما يدخل الى أعمق أعماق الواقع الإنساني، وهو في حقيقته المثلى التي يجب أن يطمح إليها كل طبيب وكل عالم بالطب ان يكون ملماً بكل نواحي الحياة لأن معالجة المريض لا تقتصر على ناحية واحدة، لا تقتصر على معالجة ناحية من جسمه وإنما كما تعرفون، ولا أزيدكم بذلك علماً انها معالجة شاملة لنفسية المريض قبل جسمه وبنيته العضوية تتطلب فهما عميقا وشاملا للنفس الإنسانية، تتطلب الماماً بالنواحي الروحية والاخلاقية والاجتماعية، تتطلب حنواً وحدباً على المريض الذي هو مواطن وإنسان وأخ في الوطن والقومية والإنساية.
إن هذه النهضة التي يسجلها عراقنا، القطر العربي الأبي، رمز الطموح منذ القديم، ان هذه النهضة تختصر الزمن مسافات واسعة، وتكون للعروبة طليعة سليمة مجهزة بالعلم وبالصحة السليمة وبالفتوة وبالروح الشابة الشجاعة، المبادرة. وكل هذه الصفات وأكثر منها مطلوب في معركة العروبة لأننا لن نتكافأ بدونها مع الأخطار التي يهددنا بها أعداؤنا الإستعماريون والصهيونيون في معركة بقاء أو فناء، هذه الصفات هي المطلوبة وهي التي تستطيع أن تستخرج من الشعب العربي، من الجماهير العربية أقصى إمكاناتها، أقصى قدراتها وكفاءاتها لكي تصمد ولكي تنتقل من الدفاع الى الهجوم. والأمة العربية غنية بقدراتها، بطاقات أرضها وأبنائها، غنية بأمجادها وبتراثها وبذكريات ماضيها الحافزة. وعندما تتوافر القيادة الحكيمة التي تؤلف القلوب وتوحد الجهود وتوضح الطريق، فالكل مهيأ ومستعد أن يتبارى ويتسابق في خدمة هذا الوطن وفي سبيل قضية هذه الأمة. وقد رأينا لمحة خاطفة من قدرة أبناء أمتنا في هذه الحرب القصيرة الأخيرة – حرب تشرين- التي تآمروا عليها وخنقوها قبل ان تأخذ مداها ولكن الأمة العربية رأت والشعب العربي رأى في أيام معدودة ماذا يستطيع أبناؤه ان يفعلوا من بطولات ومعجزات، ولذلك لم يعد مهماً أن يخطط للمؤامرات وأن تتآمر بعض الحكومات طالما أن هذه الرؤية واضحة طالما أن الشعب العربي من المحيط الى الخليج رأى وشاهد طريقه وآمن أن في قدرته أن ينتصر عندما يتوحد وعندما ينطلق دون قيد أو عائق، عندما ينطلق على سجيته ومع عقيدته، ولذلك فإن ما تحققونه أيها الاخوة الأساتذة في هذا المجال هو جزء هام وخطير في معركتنا الشاملة، إنكم تقومون بعمل جليل عندما ترفعون من مستوى المواطن العراقي في مجال الصحة، عندما يدفعكم طموحكم الى أن تبنوا مؤسسة في مستوى المؤسسات في أرقى الدول، هذا نموذج من الطموح العربي. فأنا سعيد بالإطلاع على جهودكم وعلى هذه النتائج التي وصلتم اليها والتي لن تتوقف عن النمو والتقدم.
ولكم مني كل تقدير ونرجو لهذا القطر العزيز أن يبقى في طليعة أقطارنا وأن يكون دوماً هو الرائد وهو القائد.
23/6/1974
(1) كلمة الرفيق القائد المؤسس بالأطباء العاملين في مدينة الطب في 23/6/1974.
——————————
تجربة البعث في العراق منطلق للثورة العربية
ايها الرفاق (1)
ان التأثر كان يسيطر علي منذ ان وطأت تراب هذا القطر العزيز والتقيت بالرفاق الاعزاء وما زلت خاضعا لهذه الحالة النفسية. اني اعيش لحظات خالدة برؤى ثمينة للمستقبل ولا استطيع الآن ان اعبر عنها ولكني واثق بانها ستشكل مادة لتفكيري في المستقبل.
ايها الرفاق
لقد لمست فيكم المحبة الرفاقية كما اعتقد انكم شاهدتم فرحتي بلقائكم. اعيذكم ان تحسبوا انني عندما كنت بعيدا عنكم لم اكن اشعر بهذه المشاعر ولم اكن ارافقكم في كل خطواتكم وافرح لفرحكم واتألم لألمكم.
ايها الرفاق
سمعتم مني بعض الكلمات اثناء تجولي ومشاهداتي لبعض انجازاتكم. ولكن الحقيقة انني كنت في كلامي دون وصف واقع مشاعري فانتم باشخاصكم وباعمالكم وانجازاتكم تحتلون في نفسي مكانة اكبر من التي عبرت عنها واعجابي بكم هو اكبر من كل الكلمات التي قلتها.
نعم انها تجربة فذة تجربة الحزب في العراق، انها تجربة الحزب التي لن تفوقها تجربة ليس لاننا بلغنا كل الاماني؛ كلا فنحن في بداية الطريق ولكن هذه البداية الاصيلة وحدها هي التي ستوصل الى النهاية الموفقة الظافرة. كنت قبل دقائق اقول للرفيق العزيز صدام بان فكرة الحزب من الاساس فكرة متوترة فكرة تتطلب مستوى متوتراً من الثورية وانتم تعرفون الكتابات في بدا ية الحزب. وقلت له ان ظروف سوريا حيث نشأ الحزب لم تكن الى هذا الحد من القسوة والصعوبة وكان طبيعيا ان يكون العراق العربي بظروفه المأساوية القاسية هو المنطلق لبداية تحقيق جدي لهذه الفكرة.
ايها الرفاق
لقد قمتم بانجازات ضخمة حاسمة رائدة، تأميم النفط بدأ مرحلة جديدة في العراق وفي الوطن العربي، وبدأ انطلاقة جديدة للحزب اذ اعاد له ثقة الجماهير العربية فكان بداية مرحلة الصعود التي نرجو ان تستمر دوما. والتأميم لم يكن مجرد خطوة ثورية، لم يكن مجرد تحد للاستعمار وشركاته، هذا شيء مهم ولكن المهم ايضا الحسابات الدقيقة والتخطيط الدقيق الذي ضمن لهذه الخطوة ان تنجح وان يستمر نجاحها وان لا تبقى مجرد موقف ثوري.
المشاركة في حرب تشرين، هذا القرار لا يتخذه الا قادة تاريخيين، اذ رغم ما كان يحيط بالانظمة التي بدأت الحرب من شكوك وما يعرف عنها من استعداد للتسويات ومن عجز عن انتهاج النهج الثوري الحاسم، كان قرار المشاركة في الحرب تعبيرا عن ايمان بالجماهير العربية عن ايمان بقدرة الامة العربية ان تعطي عندما تسنح الفرصة اكثر بكثير مما قدر لها حكام الانظمة وان تغير في طبيعة تلك الحرب. وبالفعل هذا الذي حصل وحرب تشرين ستبقى من امجد المعارك العربية لانها كانت انتصارا على الاعداء وعلى الانظمة التي كانت تريد ان تجعل منها لعبة محدودة. وكانت مشاركة العراق بالحجم المتناسب مع تاريخية ذلك القرار، واعتقد بان مشاركة الجيش العراقي على الارض العربية في القطر السوري لن ينسى اثرها، لن يذهب اثرها سدى. لقد انجزت شيئاً باقياً وخلاقاً. اذكر انني قلت لعدد من الرفاق السوريين الذين جاؤوني في اواخر ايام الحرب يستعجلون الوحدة بين العراق وسوريا، قلت لهم: تستطيعون ان تتأكدوا ان الوحدة قد حصلت نتيجة هذه المشاركة والمسألة مسألة وقت لا اكثر.
من بين انجازاتكم البارزة هذا الاهتمام الصادق بالطبقات الشعبية، هذا الاهتمام والرعاية لمصالح الجماهير الفقيرة الكادحة. وهذا عدا عن انه يرفع من مستوى الاكثرية من المواطنين في هذا القطر لكي يكون هذا القطر مهيئاً للمهام القومية المقبلة، عدا عن ذلك فان هذا الاهتمام يعبر عن وجه الحزب الاشتراكي، عن ايمانه بالجماهير وبانها هي الاصل، هي القوة الحقيقية، هي المنبع الذي لا ينضب هي منبع القوة، منبع الحياة والبناء. كذلك فان تصوركم لبرنامج التنمية هو تصور جدي عصري وقومي ليست هي تنمية التبذير، ولا تنمية التبرير انها تنمية حقيقية تهدف الى استثمار كل طاقات هذا القطر وباقصر وقت ممكن وباكثر فاعلية ممكنة لكي يحتل مكانه القيادي في المعركة القومية، في معركة البناء القومي في معركة الوحدة العربية، في معركة التحرير.
ليست التنمية هنا الهاء عن مشاغل اخرى اهم منها وانما خدمة للاهداف القومية، هي مرحلة، هي خطوات على نفس الطريق، ليست التنمية كالتي يريدونها في غير مكان لكي ينسوا الشعب، ينسوا الجماهير مهمة محاربة الاستعمار والصهيونية ينسوها معركتها المصيرية، ان يغرقوها في المال والرخاء الزائل المؤقت، انها تحمل كل سمات الجدية ولا تخفي اهدافها البعيدة.
ايها الرفاق
عندما استعرض هذه المراحل في مسيرتكم لابد ان اقول كلمة عن القضية الكردية وهي احد المشاغل الهامة لهذا القطر وللحزب. تعرفون بان بيان 11 آذار1970 كان في نظر الحزب انجازاً تاريخياً لانه كان يرمي الى وضع حد للاقتتال بين الاخوة، الى وضع حد نهائي لهذه المسألة وكان يرمي في الوقت نفسه الى اعطاء قدوة لكل حركة تقدمية في الوطن العربي بل في العالم حول نظرة البعث في حل مسائل الاقليات القومية. وكان الحزب فخورا بذلك الانجاز. ولكن المؤسف حقا ان بعض قيادي الحركة الكردية لم يكونوا في مستوى هذا الانجاز التاريخي لم يفهموه الفهم الصحيح، الفهم العميق فظلوا في المستوى العادي للمساومات السياسية وللاخذ والرد واهتبال الفرص لكي يحققوا مكاسب جزئية او يظنوا انهم يحققون مكاسب. قضية كهذه تتطلب نظرة تاريخية ان يعرفوا التاريخ على الاقل، بانه لم يكن بين العرب الأكراد الا الاخاء والتلاحم والحياة المشتركة.
كنا شعبا واحدا في الماضي ولئن كان للشعب الكردي شكوى فهي ببلاد غير البلاد العربية اذ لم يكن بينهم وبين العرب اي فرق او تمييز، وقد عوملوا في البلاد العربية معاملة العرب للعرب. ثم هناك حقيقة لا يعمى عنها الا الذين ليس لهم نظرة تاريخية هذه الحقيقة هي ان الثورة العربية هي ثورة هذا العصر، الثورة العربية هي المعيار لكل ثورة ولكل تقدمية في كل بلد من بلاد العالم من يقف في صفها يمكن ان يكون ثوريا وتقدميا ومن يعاديها لابد ان يقع في شراك الاستعمار والرجعية والصهيوية فكيف يجوز لحركة تحرر وطني لشعب صغير ان تتناقض مع مسيرة الثورة العربية كيف يمكن ان يبقى فيها الحد الادنى من السلامة، كيف لاتفسد وتدخلها الاصابع الاجنبية والاستعمارية وتصبح اداة مسخرة طالما انها لم تدرك الحقيقة الساطعة وهي انها لا يجوز ان تتناقض مع الثورة الام، الثورة العربية.
ايها الرفاق
عندما نتطلع الى المستقبل ماذا يمكن ان نضع كخطوط عامة عريضة للمرحلة المقبلة، مجرد اشارات وعناوين.
من جهة، واجبنا ان نتابع مسيرتنا في هذا القطر في كل المجالات وعلى كل الاصعدة، على السطح وفي العمق ان نستثمر دوما طاقات جديدة ومجالات جديدة لكي نحصن ثورتنا ونجعلها منيعة كل المنعة، ان تكون منعتها بالهجوم لا بالدفاع بالانتاج والمزيد من النشاط بتربية المواطنين من الاطفال الى الشيوخ، بتحسين احوالهم لكي يدافعوا عن ثورتهم وعن ارضهم.
اذا كنت ايها الرفاق اطلقت لتفاؤلي العنان عندما التقيتكم وعندما شاهدت شيئا من انجازاتكم البارزة فهذا لن يعني بالنسبة لي ولا بالنسبة اليكم ان نسكر او ننتشي وانما الاخلاص للحزب والشعب وقضية الامة يقتضي التغلب على العواطف، عواطف الفرح والاستبشار والتفاؤل هذه ضرورية ضرورة الماء والهواء والخبز ولكي نستمد منها ومن لحظاتها الخاطفة قوة متجددة ثم نعود الى السيطرة على اعصابنا وعقولنا لان نجاح الثورة لا يكون الا بالنظرة الموضوعية، بالنظرة العلمية. واستطيع ان اقول بكل ثقة ويقين، بأني قلما شاهدت قادة بمثل رصانة قيادتكم وبمثل موضوعيتها. انها تعتز وتفخر لبعض اللحظات ثم تنكب على العمل اليومي بكل دأب وبكل تجرد.
ايها الرفاق
هناك بعض الحقائق ظهرت نتيجة الحرب الاخيرة فقد ظهر تنام للقوة العربية، للقدرة العربية، للكفاءة العربية من بعد ذلك الحافز القوي، حافز الشعور بالهزيمة بعد عام 1967 هذه القوة الجديدة، وان كان الاستعمار والصهيونية بدأا غداة الحرب يعدان الخطط لتفتيتها ولخنقها ولإفسادها، هي قوة عميقة وليست مزيفة، قوة حقيقية عبرت عنها شجاعة الرجال، وعبرت عنها كفاءة الفنيين، وعبرت عنها القوة الخارقة التي اظهرتها الجماهير العربية في كل مكان. فاذن نستطيع ان نضع الخطط للمستقبل ونحن واثقون من انفسنا ومن شعبنا ومن وعيه المتنامي.
ان الوحدة العربية ايها الرفاق التي كلما اقتربت تضيع من بين ايدينا يجب ان ننظر اليها نظرة متجددة لكي لا تكون هناك افكار خاطئة ولكي لا ينتابنا يأس غير مبرر. فالوحدة العربية تقترب ونحن الآن اقرب اليها من اي وقت مضى، لأنها متجسدة في وعي الجماهير العربية. وعي الوحدة قد نما كثيرا وخاصة بعد الحرب الاخيرة واثناءها ويمكن ان نتوسل لبلوغها طرقا شتى ان يكون لنا من هذا المستوى الجديد مستوى النضج الذي بلغته جماهيرنا الا نبقى على الوقفات العاطفية القديمة فاما ان يقبلوا معنا بالوحدة واما ان نغضب ونحزن ونتألم. الوحدة هي ان نستغل كل ظرف وبكل مجال للاتصال والتعاون والبناء المشترك بين الاقطار العربية، ان نعتبر ان الحكومات وكل هذه الحواجز مؤقتة وزائلة وان نبني للغد وللاجيال، ان نشق طريقنا الى الجماهير حتى في الاقطار التي استسلمت حكوماتها للاستعمار وتخاذلت. خطة الأعداء ان يرونا معزولين منكمشين متقوقعين محاصرين كي يصلوا الى داخل البيت، يجب ان نفشل هذه الخطة بالمبادرات المتكررة المتعددة ان ينفتح العراق على الأقطار العربية كلها وان يراعي النسب في القرب والبعد بينه وبينها من حيث المبادئ وسلامة السياسة.
ايها الرفاق
يجب ان ننظر ونؤمن بان شيئاً واحداً هو مستحيل، هو ان تستطيع قوة في هذا العالم خارجية او داخلية ان تضطرنا الى التراجع او تزيحنا من مكان القيادة. يجب ان نعبر عن ايماننا بأمتنا وبحزبنا وبثورتنا بالتصميم وبالمزيد من النشاط والتضحية والجهد وبتصور الحياة بأنها هجوم مستمر. الثورية لا تتلائم مع عقلية الدفاع: الهجوم المستمر بمعنى المبادرة، بمعنى ان يتفوق المرء على نفسه ببذل اقصى جهوده، ان نفتش دوما عن مجالات جديدة نسثمرها لإغناء هذه الثورة، ثورة الحزب
لزيادة قدراتها ومنعتها لزيادة اشعاعها لأننا نريدها مشعة تستطيع بعد زمن ان تفيض على الارض العربية وان تبني للاقطار العربية او تساعد في بناء تجارب مماثلة.
ايها الرفاق
انني انظر الى المستقبل بعين التفاؤل والايمان ولاشك ان لكم ولتجربتكم ولجهودكم فضلا في تعزيز ثقتي وايماني بمستقبل امتنا وحزبنا، انني قبل ان انهي كلمتي ارى ان اشير اشارة خاطفة الى ان الحزب في الاقطار العربية، حيث يقوم له تنظيم وحيث لم يقم له تنظيم بعد مطالب بان يضاعف الجهد فالمجال فسيح وواسع والظرف مؤات وقد تداعت افكار ونظريات كثيرة كما تداعت تجارب حكم كثيرة او فقدت الكثير من رونقها ومن ثقة الجماهير بها، واحتفظ الحزب برصيده الفكري النضالي والعملي في البناء وهذا مجال يجب ان نضاعف الجهد فيه لانه تعبير عن قومية حزبنا من جهة وقوة وحماية لثورة الحزب في هذا القطر من جهة اخرى، واتمنى لكم كل توفيق.
24 حزيران 1974
(1)حديث مع الكوادر المتقدمة لحزب البعث العربي الإشتراكي بتاريخ 24/6/1974.
——————————-
تميز البعث بشموليته القومية وأخلاقيته
أيها الرفيقات والرفاق (1)
إنها لمناسبة عزيزة علي أن أتحدث إليكم عبر هذه الرسالة عن الزيارة التي قمت بها مؤخراً الى قطرنا العراقي الحبيب، وعن نتائجها المرجوة وحول ضرورة تماسك حزبنا وتمتين وحدته في هذه المرحلة بالذات لتعزيز تجربة الحزب في العراق، ولتمكينه من تطوير هذه التجربة التي تدعو الى الإعتزاز والأمل صعوداً الى الإنطلاق لأداء واجب الحزب وتحمل مسؤولياته التاريخية على الصعيد القومي.
أريدكم أيها الرفاق أن تعلموا انني كنت دوماً أكن عاطفة الحب والإعجاب لحزبنا في العراق واعقد عليه أكبر الآمال واني لم ابتعد في وجداني وعقلي يوماً واحداً عنه.
وفي السنوات الأخيرة كنت أعبّر باستمرار لكل الرفاق الذين كانوا يزورونني عن تقديري الخاص لكفاءة قيادة الحزب في العراق والمواقف التاريخية المشهودة التي وقفتها هذه القيادة سواء في معركة النفط والصمود في وجه الشركات الإحتكارية الامبريالية وبالتالي الإقدام على وضع الشعار الذي رفعه الحزب (نفط العرب للعرب) موضع التنفيذ أو في المبادرة السريعة الى المشاركة الهامة في حرب تشرين التي أنقذت شرف الأمة العربية وأكدت دور حزبنا وقطرنا العراقي في تحمل المسؤولية التاريخية تجاه معركة المصير، او في تحقيق الحكم الذاتي للاكراد الذي جلا الوجه الإنساني للقومية العربية كما آمن بها البعث. او في تحقيق الجبهة الوطنية القومية التقدمية والإنجازات الهامة الأخرى التي وضعت الحزب على طريق تحقيق اهدافه الأساسية السامية.
ولقد شكلت هذه الإنجازات والمواقف تحدياً للامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة وخطراً على مصالحها مما جعل الحكم الثوري في العراق هدفاً لتآمر جميع هذه القوى. ومن هنا كان الواجب القومي والحزبي يدعو الى إعطاء الدعم الكامل لرفاقنا ليزدادوا قدرة على الصمود في وجه مؤامرات الاستعمار والصهيونية والدول والحركات التي ترتبط بهما وخاصة الاطماع الايرانية في الخليج، وذلك التمرد المشبوه الذي افتعله البرزاني في شمال العراق لتهديد وحدة التراب العراقي، واشغال حكم العراق وجيشه عن مهماته الاساسية في ظروف مصيرية تتعرض فيها الامة العربية لأدهى مؤامرة استعمارية صهيونية عرفتها في هذا القرن. وهذا الدعم لرفاقنا في تصديهم لفتنة البرزاني يشكل في الوقت نفسه تأييداً لمصالح الشعب الكردي الشقيق الذي تفرض عليه روابط الاخوة التاريخية والمصلحة المشتركة وطبيعة نضاله الوطني ان يبقى منسجماً مع الثورة العربية وان يقاوم محاولات استخدامه كأداة في يد الاستعمار والصهونية لضرب حركة التحرر العربي في المنطقة العربية.
وكنت على يقين من ان اللقاء المباشر بيني وبين قيادة الحزب في العراق سوف يضع حداً نهائياً وبصورة حاسمة لكل التباس أو سوء تفاهم ولكل استغلال حصل او يمكن ان يحصل في خارج القطر وداخله لاحتمالات او تفسيرات بوجود خلاف بين قيادات الحزب. فتنجلي في هذه الظروف المصيرية صورة حزبنا، المصقولة بالتجارب، المضاءة بنور العقل، الممهورة بالتصميم التاريخي، على اقوى واروع شكل.
لقد كانت سعادتي بلقاء الرفاق في بغداد غامرة عظيمة. كما كنت مرتاحاً أشد الإرتياح لما أكدته هذه الزيارة من انطلاق الحزب لتحقيق الطموح البعثي الكبير.
لقد عززت هذه الزيارة يقيني بان الحزب في العراق يبني تجربة جدية فذة أجرت حتى الآن تغييرات هامة في المجتمع العراقي، وادخلت عليه تحسينات نوعية بارزة، الأمر الذي يبشر ويؤكد بان تجربة الحزب في العراق سوف تحقق في المستقبل ما هو أهم وأعمق على مختلف الاصعدة. وبالطبع فان هذا المستوى من الانجاز لا يكون ممكنا لولا ان الحزب بكامل قياداته وقواعده واجهزته هو الذي يبني هذ التجربة بتعاون وتفاعل مستمرين ومتناميين مع الجماهير. كذلك فان هذه التجربة الضاربة الجذور في الارض العراقية ليست قطرية منغلقة وانما هي تبنى وتتكامل ضمن الافق القومي.
وهكذا فان اصالة حزبنا في العراق تتجلى في تعلقه العميق بأهم صفتين تميزان حزب البعث منذ نشوئه الا وهما: شموليته القومية، التي تقيم تفاعلا خلاقا بين عمله الاقليمي وآفاقه الوحدوية والتي تعبّر عن نفسها بوجه خاص في فهم مركزية القضية الفلسطينية في الثورة العربية والنضال الدائب من اجل استمرار العمل لتحرير فلسطين. واخلاقيته التي تميزه عن كثير من ثورات هذا العصر، فتشده دوماً الى الصدق والعمق وقول الحق، وترده باستمرار الى الانسان، مقياس الثورة وغايتها، والى حرية الانسان وكرامته، وتقيم توازناً حياً وحواراً خصباً بين الحرية والتنظيم، بين الفرد والمجموع، بين الجماهير والسلطة والثورية.
أيها الرفاق
ان مجمل ما لمسته من النضج المتمثل في استيعاب غنى التجربة القومية الطويلة ودروس هذ التجربة بمختلف وجوهها، وما تحقق من بناء ثوري وتفاعل قوي مع الجماهير، وما تكشف لي من وحدة فكرية ونضالية عميقة تربط بين مناضلي الحزب ومنظماته وفروعه المختلفة. ان هذا كله يؤكد ان الحزب بات مؤهلا للانطلاق ولتحمل مسؤولياته القومية الكبرى ليحقق الطموح القومي بما ينسجم ويتكافأ مع خطورة المرحلة ومع الفرصة الثورية التاريخية المتاحة. ان تصميمنا التاريخي في هذه الظروف القومية المصيرية على بدء انطلاقة جديدة للاضطلاع بمسؤوليات الثورة العربية في حيوية متجددة وايمان راسخ بالنصر القريب يفرض على جميع الرفاق مضاعفة الجهود في تبني تجربة حزبنا في العراق واسنادها ورفدها والتفاعل معها والمشاركة فى تعزيزها واغنائها، بكل الوسائل والامكانيات علاوة عى مضاعفة الجهود النضالية في الاقطار والفروع الاخرى. وهذا ما يؤدي الى تفاعلات إيجابية خلاقة للحزب القومي بكامله تضعه في حالة نفسية وفكرية سوية، مفعمة بالأمل والثقة، يفسح فيها المجال لتفاعل خصب وانفتاح صميمي ما بين القيادات والقواعد، ما بين الحزب في القطر والمنظمات القومية. وهذه الوحدة الداخلية الحقيقية تتيح للحزب ان يركز كل جهوده للانطلاق كالجسم الواحد سواء في معارك البناء وتحقيق البرامج والمشاريع او في معارك المواجهة مع اعداء الامة ودفع الاخطار عن البلاد.
أيها الرفاق
إن لحزبنا عمقاً روحياً، اخلاقياً وانسانياً، بقي في اكثر الأحيان كامناً لا يظهر، دفيناً لا يستثمر، وان كان يشكل في الحقيقة اساساً لأصالة هذا الحزب ومناعته. انه العمق المتصل بتراث أمتنا، والمتجاوب مع حاجات نهضتنا الحديثة، والذي يعطي لمسيرتنا النضالية الطويلة الشاقة سمات الحركة التاريخية. وقد تجلت هذه السمات في الفترة الاخيرة في هذه المحبة الرائعة التي شملت الحزب كله. ولقد كان حبنا لامتنا هو دافعنا الاول الى العمل والنضال، ويبقى الحب ملهمنا الأخير. وسوف تبقى المحبة في حزبنا قيمة ثورية عليا، لأنها تتويج للمقاييس الثورية لا نفي لها، ولأنها مشبعة بالوعي والارادة والرؤية الواضحة.
أيها الرفاق
لقد اخترت لتوجيه رسالتي اليكم مناسبة الذكرى السادسة لثورة 17 تموز المجيدة تدليلاً على تعلقنا جميعا بحزبنا المناضل في العراق وعلى اعتزازنا بثورته وحرصنا على استمرارها ونجاحها، ولكي ابعث بهذه المناسبة الى جميع الرفاق في جميع منظمات الحزب وبخاصة الى قيادة الحزب وقواعده وجماهيره في القطر العراقي بتهنئتي القلبية راجياً لثورة الحزب المجيدة المزيد من التقدم والصمود والنجاح في وقت تتطلع الأمة العربية كلها الى حزب البعث العربي الاشتراكي وتعقد
عليه الآمال.
والسلام عليكم..
17 تموز 1974
(1) رسالة الأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي في الذكرى السادسة لثورة 17 تموز.
———————————
الجبهة الوطنية والقومية التقدمية تتصل بأعمق مبادئ حزبنا الثوري
أيها الرفاق(1)
إنها مناسبة عزيزة عليّ أن أزوركم وأن أرى الجبهة الوطنية والقومية التقدمية حقيقة حية بعد ان كانت حلماً عزيزاً عملنا طويلاً وجهدنا وتخطينا صعوبات جمة من اجل تحقيقه، إنكم ايها الرفاق بهذه الجبهة تمثلون مبادئ وتمثلون قيماً عالية وتمثلون نظرة تقدمية، نظرة انسانية، نظرة عميقة وناضجة الى مستقبل شعبنا والى مستقبل كل الشعوب ومستقبل العالم. الجبهة في الأصل تنطلق من نظرة واقعية ناضجة تغتني بالتجربة الطويلة وتنبني على إيمان منفتح متفائل بالإنسان بوجه عام
وبالشعب العربي والجماهير العربية في هذا الوطن الواسع والاخوة الذين عاشوا جنباً الى جنب مع هذا الشعب منذ قرون وقرون. الجبهة اذن ليست عملاً بسيطاً، ليست عملاً سياسياً فحسب، ليست انجازاً وقتياً او عابراً.. الجبهة تتصل بأعمق مبادئ الحركة الثورية، بأعمق مبادئ حزبنا لأن فيها استيعاباً للماضي وتجاربه وعبره ولروابطه الأصيلة. كما أن فيها تطلعاً الى المستقبل الجدير بشعب حر ناهض محبّ للتقدم وللتعاون مع سائر الشعوب. لم يكن لقاؤنا ايها الرفاق الاعزاء بكم وبأحزابكم لقاءً عارضاً، لقاءً سطحياً، لم يكن لقاؤنا بالحزب الشيوعي امراً عادياً بل كان نتيجة سنين طويلة من التجارب السلبية والإيجابية سواء على صعيد هذا القطر او على صعيد الوطن العربي او على الصعيد العالمي، وكان لا بد ان تؤدي هذه التجارب بكل ما تضمنته من سلبيات وإيجابيات الى هذه القفزة النوعية التى حتمت اللقاء الثابت الدائم المتطور بين فرقاء ثوريين لأن الثورية الحقة هي القائمة على النظرة العلمية الموضوعية، والنظرة العلمية الموضوعية ترفض الاستئثار والتعصب وترفض الغرور الذي يوهم بأن بالإمكان الإستغناء عن التعاون مع الفصائل الثورية الاخرى.
أيها الرفاق
لقاؤنا بالحزب الشيوعي يعبّر عن مرحلة نضج وصل اليها كلا الحزبين، سواء على الصعيد القومي والقطري، وسواء على الصعيد العالمي والدولي. كانت الثورة العربية ما تزال مقصرة عن التعبير عن نفسها التعبير الكامل الوضوح، وكانت الحركات الثورية في العالم والحركة الشيوعية في مقدمتها مقصرة عن الاهتمام بالثورة العربية الاهتمام اللازم واللائق، وكانت تنشأ خلافات ناتجة عن نقص المعرفة ونقص الإطلاع وعن أوهام وأخطاء في المعلومات، كما كانت ناشئة عن تجاهل لبعض الحقائق الأساسية وبالنتيجة فان الظروف الثورية التي تمر منذ عشرات السنين بالأمة العربية وبالجماهير العربية ساعدت على كشف حقيقة حزب البعث وعلى إزالة الإلتباسات التي كانت قائمة عند البعض وساعدت على كشف اهمية العامل القومي في الثورة العربية وفي كل ثورة لأن المبدأ الذي قام عليه حزب البعث لم يكن خاصاً بقوم او بشعب معين وانما هو حقيقة علمية تنطبق على كل الشعوب وكل الثورات، وهكذا تعاظم الإهتمام بالثورة العربية وبنضال حزب البعث لدى الاحزاب الشيوعية والحركات التقدمية في العالم اكثر من ذي قبل وهذا ما ساعد حزب البعث والحركة العربية الثورية بوجه الإجمال على التحرر من بعض العقد وعلى الانفتاح الحر الصافي على الأحزاب الشيوعية والحركات التقدمية لأن الحزب والثورة العربية قد قدرا هذا الاهتمام بعد التجاهل وبحد كثير من سوء الفهم وسوء التفسير، ولقد سار هذا التقارب على صعيدين: صعيد العمل الحزبي، وصعيد الصلات والعلاقات الدولية مع المعسكر الاشتراكي وفي طليعته الاتحاد السوفيتي وكانت خطوة تاريخية عندما قام هذا التعاون بين الثورة العربية وبين المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي الصديق، كانت خطوة تاريخية غنية بالنتائج الإيجابية ليس على العرب وعلى الدول الاشتراكية فحسب وإنما على العالم ومصيره ومستقبله.
وترون بأننا أصبحنا في موقع ننظر منه الى المستقبل بتفاؤل كبير وبرغبة تطوير وتعميق هذه الصداقة وهذه الصلات مع العالم الاشتراكي والاتحاد السوفييتي بوجه خاص وانتفت نهائياً والى الأبد كل احتمالات العودة الى السلبية والى سوء التفاهم لان الثورة العربية تسير باتجاه النضج والتكامل ولأن الدول الاشتراكية ايضاً تسير باتجاه التطور والمزيد من التحرر والانفتاح والتفاعل مع الشعوب والثورات الاخرى. كذلك ايها الرفاق علاقة الحزب بالحركة الكردية انها من اثمن وأعز ما تمتلكه تجربة حزبنا، هذه العلاقة القائمة على مبادئ وعلى واقع حي يعود الى مئات السنين والى عشرات الاجيال والقرون. اخوة في التاريخ اخوة في المصير اخوة في التراث بين هذين الشعبين.. لم يكن شيئاً عادياً بالنسبة لحزبنا هذا اللقاء الأخوي التاريخي بيننا وبين الحركة الكردية.
كان توضيحا لحقيقة قديمة عريقة، كان توضيحا لواقع مغرق في القدم والتاريخ نعيشه ونحياه ونتعلق به كان توضيحا مبدئيا وواقعيا لكل هذه الاشياء عندما اعلن حزب البعث نظرته الى التعايش مع القوميات غير العربية في الوطن العربي ولكن اكاد اقول بان النظرة الى الشعب الكردي هي نظرة خاصة لانه ليس ككل الاقليات بل اكاد اقول بانه ليس اقلية فهو بامتزاجه العميق في التاريخ العربي والأمجاد العربية اكتسب مكانة خاصة. ونحن ايها الرفاق لأقلها ببساطة نحن شعب عربي مسلم تراثنا ليس للماضي فقط وانما نور وضوء على المستقبل ومنه نستمد المثل والمبادئ الانسانية والاخلاقية منه نستمد الروح والنظرة الى الإنسان بوجه عام فلم يكن غريبا ان نلتقي باخوتنا الاكراد لقاء هو في الحقيقة مستمر لم ينقطع يوما من الايام ومنذ اجيال وانما كان لابد ان يعطى المعنى العصري الجديد.
هذه الاخوّة هذا الاشتراك في المصير جاءت ظروف الثورة العربية وظروف العالم المعاصر لتعطيه أبعاداً جديدة بالإضافة الى اساسه الراسخ العميق جاءت لتعطي هذا اللقاء معنى التعاون في سبيل الحرية والتحرر من الاستعمار والصهيونية، من كل استعباد اجنبي، من كل استغلال، جاءت لتعطيه معنى اللقاء الثوري الوطني التقدمي ضد القوى الاستعمارية الغاشمة وضد الصهيونية اداة الاستعمار، ولتعطيه المعنى الايجابي وهو التعاون الخلاق لبناء مستقبل زاهر لشعوبنا جميعاً، لذلك ما دمنا واثقين من منطلقاتنا هذه من انها هي المنطلقات الصحيحه والعميقة التي توجه تفكيرنا واعمالنا، فاننا لن نشعر باي خوف وبأي يأس من المستقبل بل نؤمن بان كل محاولة تشويش وتشويه لهذه العلاقة التاريخية الراسخة العميقة بين الشعب العربي والشعب الكردي محكوم عليها بالفشل، محكوم على محاولات التشويش والتشويه والتمرد، محكوم على ذلك بالفشل والفشل القريب لأن هذا ضد الطبيعة، ضد التاريخ، وضد إرادة التحرر والتقدم.
فكل العوامل تجمعنا وتحتم استمرار تعايشنا الايجابي الخلاق. واخيراً ايها الرفاق تضم الجبهة عنصراً ثالثاً كما اعتقد يمثل فريقاً وطنياً قومياً غير بعثي وهذا ايضا له في نظرنا قيمته فحزبنا كما اسلفت لا يقول بالاستئثار ولا يقول بالضيق والتعنت وانما يتسع للتعاون مع فئات عربية وطنية قد يكون اجتهادها مختلفاً بعض الاختلاف عن رأي الحزب ولكن بينها وبين الحزب نقاط التقاء ومشاركة عديدة ولأقل بصراحة أكثر، بأن في الوطن العربي وبين الجماهير العربية وفي حركة الثورة العربية هناك فصيلان: البعث والحركة الناصرية، ولكننا نحن منذ أن حدث اللقاء التاريخي بين حزبنا وبين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ذلك اللقاء الذي أثمر أول تحقيق للوحدة العربية عام 1958 لم نكن نعتبر ان ثمة طريقين وان ثمة مذهبين للثورة العربية خاصة ان الأفكار والشعارات التي تبنتها السلطة بالذات، لم تكن سوى افكار وشعارات حزب البعث، والخلاف الذي حصل فيما بعد لم يكن خلافاً فكرياً بل نتيجة اختلاف في التطبيق وفي فهم وتطبيق هذه الأفكار والشعارات. ثم دخلت مصالح الفئات المعادية للثورة العربية والقوى الأجنبية المعادية لنهضة الأمة العربية ولاستقلالها واستطاعت ان تنفذ وان توسع تلك الخلافات ولكن حزب البعث كان دوماً متمالكاً وعيه ورباطة جأشه وكان ينظر الى المستقبل اكثر مما ينظر الى الحاضر ولذلك رفض باستمرار ان ينجر الى تلك الخلافات والمهاترات التي لم يكن يستفيد منها الا العدو الإستعماري والصهيوني وإلا الرجعية العربية الخائفة من تقدم الثورة العربية.
ولذلك بقينا في وضع اتاح فيما بعد عندما هدأت النفوس وتغيرت الظروف وجاءت ظروف قاسية دلت بالوقائع الحية على مدى الاضرار الفادحة التي لحقت بالثورة العربية والامة العربية من جراء انقسام المعسكر الثوري الواحد ومن جراء التناحر.. وهكذا استطعنا ان نصل الى جو فكري ونفسي يسمح بمراجعة هذه العلاقة الممتدة الى ما قبل عشر او خمس عشرة سنة لاستخلاص العبر منها ولتوحيد الثورة العربية بفكرها ونضالها وممارستها وأعتقد بأن الحزب في العراق، هو في الوضع الذي يؤهله لأن يبادر مبادرات خلاقة في هذا المجال تكون بالفعل فتحا جديدا في العلاقات بين الفئات العربية الثورية وبين الاقطار العربية التي تأخذ بهذه الاجتهادات، وما البادرة التي اتخذها العراق نحو جماهير الشقيقة مصر متجاوزاً الخلاف السياسي الهام مع نظام الحكم فيها الا خطوة ذات دلالة كبيرة ونتائج عظيمة فهي تدل على ان الجماهير العربية والحركة الثورية العربية واعية لخطر الانقسام واعية لمخططات الاستعمار والصهيونية وانها مصممة على احباط كل ما يمكن ان يوجد ثغرات في صفوف الجماهير العربية المناضلة وخاصة هذه الثغرة التي يبني عليها الاستعمار والصهيونية منذ الماضي الطويل مخططاتهما وآمالهما في استعبادنا واستغلالنا اي الفرقة بين العراق مصر.
اذن من كل ذلك نستطيع ان ننظر الى المستقبل بأمل وتفاؤل وإيمان متجدد بوحدة الحركة العربية الثورية.. والسلام عليكم..
23 تشرين الاول 1974
( 1 ) حديث الى قيادة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في .23/10/1974
———————————
الجيش هو جزء من الجماهير المناضلة
ايها الرفاق (1)
كنت باستمرار أتشوق الى هذا اللقاء، أرجو ان يكون ويعتبر بداية للتعارف، وان يتاح لنا في المستقبل لقاءات اطول، نتعرف من خلالها على نشاطاتكم ومدى التقدم والتطور الذي تحققونه للقوات المسلحة. أود ان اقول بأن الحزب يعطي الجيش أهمية كبيرة. في تصور الحزب الاساسي وفي نظرته للجيش مكانة خطيرة. وكان اهتمام الحزب العملي بالجيش قديماً. بعد تأسيس الحزب بقليل بدأنا نهتم بالكلية العسكرية في سورية، وبتوجيه شباب الحزب الى دخول الكيلة العسكرية لأن الحزب كان في دراسته للواقع العربي يرى بوضوح ان الجيش إما ان يكون مع الجماهير العربية الكادحة التي يرجى منها ان تحمل العبء الأكبر في النضال وفي بناء المستقبل العربي. اما ان يكون في صفها او يستخدمه الاعداء لضربها، لضرب الثورة، لضرب النضال والمناضلين، فاذن النظرة الأولى كانت وهي في اعتقادي صحيحة، أنه لا يمكن ألاّ نهتم بالجيش لا يمكن ان نكون حياديين أمام الجيش. كل جيش عربي من واجب الحزب ان يكون له موقف منه وخطة لكسبه الى قضية الأمة. حتى لا يبقى أداة في يد الرجعية، وفي يد عملاء الاستعمار وفي يد المغامرين الانتهازيين لضرب حركة التحرر والتقدم والوحدة العربية.
كذلك كان للحزب نظرة الى الجيل العربي الجديد كما تعرفون. هذا الجيل العربي الجديد الذي أخذ الحزب على عاتقه تربيته وتنشئته ولو انه يتعثر احيانا في القيام بهذه المهمة التي هي فعلا كبيرة وشاقة وتتطلب الابتكار والابداع والصبر الطويل. هذا الجيل العربي الجديد لا يجوز ان يكون على نوعين عسكري ومدني. يجب ان يكون موحدا، موحد النفسية، موحد العقلية، موحد الممارسة والنشاط والاهداف.
وبما ان للجيش تقاليده المعروفة في كل بلاد العالم، فكان طموح الحزب، ان يدخل الى هذه التقاليد نفسا جديدا مستلهما من فكر واهداف النهضة العربية الحديثة. ان تقوى النواحي الايجابية في تقاليد الجيش وان تعالج النواحي السلبية بهذه الروح الجديدة. كما ان تربية الشباب الذين لا يدخلون الجيش، الا لفترة قصيرة، فترة خدمة العلم، الذين يبقون في الحياة المدنية وهم الكثرة يجب ان تدخل في حياتهم بعض الصفات التي تقربهم من الحياة العسكرية. وهي الصفات النضالية والجدية التي يتسم بها الايمان بعقيدة وبنضال ثوري طويل النفس فعندها نضيق المسافة ونقرب بين نوعين من الحياة نتمنى ان يتوحدا توحدا كاملا.
ولعلي لا اكون مخطئا اذا قلت بان العراق قد نجح الى حد جيد بالسير في هذا الاتجاه، وهو مؤهل لان يسجل نجاحا اكبر. وان يتكون فعلا جيل عربي موحد فيه كل المزايا الايجابية للحياة العسكرية وكل المزايا الايجابية للحياة المدنية في آن واحد وعندما اقول الحياة المدنية اقصد بالدرجة الاولى النضال الشعبي الذي يستمد قوته وروحه من فكرة الحرية من الشعور بالحرية وبالمسؤولية من تحسس المهام القومية والاجتماعية ومن الاندفاع في سبيل تحقيقها وتحمل المشقة والتضحيات. النضال الشعبي فيه هذا الطابع الحر، ولو ان النضال أمر جدي وخطير ولا يسمح بالفوضى ولا يتساهل في الاخلال بالنظام. وانما يبقى فيه هذا النفس العفوي المندفع. واذن، هناك مجال للتفاعل بين الجوين وللتداخل بينهما. وعندها يكون الجيش جزءا من الجماهير المناضلة من الجماهير الكادحة، جزءا ليس بينه وبينها غربة او فاصل اوتناقض وانما تكامل وتعاطف وألفة وتساند في اوقات الخطر والقيام بالواجب القومي. هذا بالنسبة لتنشئة الجيل الجديد سواء في الجيش او الحياة المدنية. ولكن هناك دوما جيلا قديما ولا بد من مواجهة هذه المفارقة، هذا التصادم في العقلية واحيانا في المصالح. الا ان الحزب ينظر الى هذه الناحية نظرة الثقة بالنفس والثقة بالآخرين والتفاؤل بمعدن الإنسان العربي. وانه ما عدا الاستثناءات القليلة، ما عدا قلة تكون مستعبدة لأهوائها، لعاداتها، لمصالحها الضيقة، فالجيل القديم هو ايضا من هذه الارض من هذا الوطن من هذه الامة، وببعض التكيف في الاسلوب، في اسلوب التعامل نستطيع ان نخلق صعيدا مشتركا بيننا وبينه وان نحرك فيه أوتار الوطنية والإرتباط القومي والاستعداد للتضحة. ولذلك مع رؤيتنا الواضحة لواقع مجتمعنا، وبان هناك قديما وحديثا، مسنا وشابا، لكن علينا ان نتزود بقدر أكبر من التفاؤل والمحبة، وان لا نجعل من هذه الفوارق حقائق واقعة فانها تزداد رسوخا وتتضخم، اذا صنفناها هكذا، وان علينا ان نعتبرها أشياء قابلة للاصلاح قابلة للتحسين وللتطوير.
ايها الرفاق
قلت ان هذا اللقاء هو للتعارف واقول لكم بأنني كنت دوما متشوقا اليه، لهذه الأهمية التي نعطيها للقوات المسلحة العربية وللآمال الكبيرة التي نعلقها على الجيوش العربية التي نتطلع الى اليوم الذي تصبح فيه الجيش العربي الموحد. وانا وان كنت لم اجتمع بكم في الماضي، وان كنت بعيدا فقد عرفت كما عرف الشعب العربي في كل مكان ببطولات جيشنا في العراق بمساهمته الجبارة البطولية في حرب تشرين، بما يقوم به من مهام عظيمة، بتصديه لحركة التمرد في الشمال من اجل تحقيق وحدة التراب والوطن في العراق ووحدة الشعب ولكي لا يبقى اي منفذ للاستعمار وللعملاء وللصهيونية في هذا القطر المؤهل لان يضطلع بالدور الوحدوي العظيم. فلقد كان العراق قبل نشوء حزب البعث، قطرا تراوده هذه الاحلام القومية الجليلة، تراوده هذه الاحلام ووضعه السياسي والاجتماعي على ما كان عليه من الفساد والسوء والاختلال فكيف لا تنمو وتكبر هذه الاحلام وتتحول الى حقائق بعد ان دخل حزب البعث في حياة العراق وتأصل في ارض العراق وانتشر في جو هذا القطر ودخل النفوس والعقول وبعد ان وصلتم بنضالكم وبحماسكم وبصبركم وتحملكم للتضحيات وصلتم الى الحكم، واستطعتم في مدة تعتبر قصيرة في عمر الثورات ان تنهضوا بهذا القطر بشكل بارز المعالم وما تزال روح الثورة تتأجج في هذا الحزب وفي جميع منظماته وعلى كل المستويات كما ألمس ذلك. ويتفجر بالتالي العراق، بالانتاج والابداع وبالتقدم السريع. ولكن طموحنا يبقى أكبر من هذا الذي وصلنا اليه. طموحنا تعرفونه ايها الرفاق هو الوحدة العربية والوحدة الكبرى التي تقلب هذه الأوضاع المريضة في الوطن العربي تقلبها قلبا وتحول هذا الوطن العربي المجزأ الى قوة حضارية متفجرة يمكن ان تغير وجه التاريخ.
24 تشرين الاول 1974
(1) حديث الى المكتب العسكري والفرع العسكري في 24/10/1974.
—————————————–
الوحدة العربية هي الثورة الحقيقية
العرب والأكراد اشقاء في هذا الوطن
ايها الرفاق(1)
ان السعادة تغمرني كلما ازددت اطلاعا وتعرفا على مسيرتكم في هذا القطر فانا اجد جيلا عربيا مناضلا يعمل بحرارة المؤمنين. لقد ذكر الرفيق شيئا واشار الى بداية الحزب، وبداية نشر افكار الحزب في الاربعينات وهذا تعبير عن الوفاء المتأصل في نفوسكم، وهكذا يمكنكم ان تقدروا مدى غبطتي عندما ارى الثمار الطيبة بعد ما يزيد على الثلاثين عاما.
ايها الرفاق
ليس من قبيل المديح ولا المجاملة، وتعرفون اني ما اعتدت ذلك قط، ولكن لقد نلتم بجدارة ثقة امتكم، ثقة حزبكم بهذه الجدية التي تبرهنون عليها. بهذا الاقتحام لصعوبات واقعنا ومشاكل مجتمعنا بعزم حديدي وبنفس مؤمنة متفائلة. ولئن جاء هذا الحزب للامة العربية كلها للوطن العربي من اقصاه الى اقصاه، تبقى هناك حقيقة هي ان العراق كان المؤهل، ويثبت دوما انه المؤهل لحمل رسالة الحزب وللانطلاق بها بالعمل الجدي وبالاندفاع والارادة الجبارة. فالعراق.. عراق البعث هو الآن يعمل للعرب وسيكون محقق الوحدة العربية وسيكون جيشه جيش الوحدة.
الوحدة العربية، ايها الرفاق، هي الثورة الحقيقية وكل ما يسبقها هو تمهيد للثورة ولا يتخذ المعنى الثوري العميق الا عندما تتحقق الوحدة العربية. الوحدة العربية رسالة هذا العصر لايكفي للقطر ان يكون ضخما، ان يعد عشرات الملايين، المطلوب الايمان والاقدام والاندفاع وان لا يهدأ لنا بال ولا نرتاح على حال الا اذا اكملنا هذه الرسالة فحيث يكون الايمان بالوحدة العربية.. الايمان العملي، اي الارادة، يكون البعث. واني مرتاح اعمق الارتياح لان ارى ثورة هذا القطر بعد اكثر من ست سنوات تندفع بحرارة الايام الاولى، بحرارة السنة الاولى، بحرارة البدايات، لم تتعب ولم تترهل وهذا دليل العافية ودليل سلامة التكوين.
ايها الرفاق
عملكم في هذ المحافظة يحتاج الى استلهام اعمق المبادئ التي قام عليها حزبنا لان ظروف هذه المحافظة صعبة معقدة وهي بالتالي ظروف ثمينة في نظر البعثي لانها تمتحن اصالته، تمتحن عمق تفهمه لمبادئ حزبه ولرسالة امته. عندما اعلن الحزب في بداية الاربعينات نظرته الى المستقبل العربي الى القومية العربية وبانها قومية انسانية تنظر بحب وتعاطف واحترام لكل القوميات وخاصة لتلك القوميات التي شاركت العرب بالمصير قرونا واجيالا وجمعتها بالعرب حضارة واحدة وتراث روحي واحد. الآن وبعد ثلاثين عاما هناك مجال لكي تبرهنوا على صدق اعتناقكم لهذه المبادئ. والمبادئ هي اقوى من كل المشاكل العارضة. هذه المبادئ قوية لانها عميقة صادقة يبرهن الزمن كلما مر عليها بانها صحيحة لانها تطلعت الى المستقبل ولم تتعلق يمصالح وقتية او بضغائن واحقاد او بنظرة استعلاء وتمايز وانما نظرت الى المستقبل البعيد ورأت ذلك اليوم الذي تتوحد فيه الامة العربية وتستأنف اداء رسالتها الانسانية وانها بالتالي امة تستطيع ان تنظر الى غيرها نظرة ثقة بالنفس. امة اصيلة تستند الى تراث مجيد وما زالت كفاءاتها ومؤهلاتها تتجدد مع الزمن فلا مجال للتناحر ولا مجال للفرقة والانقسام لان الامة ذات الرسالة لا تضيع جهدها ووقتها في مثل هذه الصغائر، فكانت اذن نظرة مستقبلية تتمشى مع تطور العصر وتطور شعوب العالم كله انها تلتقي بأسس تراثنا المجيد تراثنا الروحي الخالد الذي لايبلى على مر الزمن، هو الذي امدنا بهذه الثقة بالنفس بهذه الثقة بامتنا بهذه الثقة بمستقبلنا وبمستقبل العالم لانه تراث منبعث من الايمان بالانسان وطيبة الانسان وطيبة عنصره وبانه قادر ان يصل الى الكمال والى البطولة فعندما تستلهمون هذ المبادئ تستطيعون ان تتغلبوا على مصاعب كثيرة، وان تخلقوا الثقة عند الاخرين وان تهزموا الحركات والعقليات المتخلفة القائمة على الاحقاد العنصرية الضيقة وعلى المصالح الاقطاعية وعلى الاستعباد للجماهير واستغلالها. لاول مرة ايها الرفاق تتوضح حقيقة المعركة ليس بين العرب والاكراد، وهذا غير صحيح، وانما بين عقلية انسانية عصرية منفتحة وبين عقلية عنصرية اقطاعية متخلفة غير اخلاقية لانها لا تقيم وزنا للوفاء ولانها لا تقيم وزنا للحرية والاستقلال ولانها تتحالف مع قوى الاستعمار والصهيونية وتترك صف حرية الشعوب وتقدمها فلا يمكن لمثل هذ العقلية ان تنتصر.
ايها الرفاق
ليست هذه المشاكل بمعظمها من صنع داخلي هي جزء من حرب الامبريالية والصهيونية على العرب هي افتعال مفضوح في وقت كان الاجدر بالقيادة الكردية ان تتطوع للجهاد في فلسطين ولمحاربة اسرائيل مع الاشقاء االعرب لاننا كنا دوما اشقاء في هذا الوطن. العرب والاكراد عاشوا مئات السنين مصيرا واحدا وكان لهم نفس الامجاد ونفس الابطال القوميين ولم نسمع بهذه النغمة العنصرية الداعية الى التفرقة والى اقتتال الاخوة الا في زمن دخول الاستعمار الغربي الى بلادنا فالعملية مشبوهة من بدايتها وان كنا نفرق بين قيادة مشبوهة وبين جماهير طيبة تستحق كل محبة وكل تعاطف وهم اخوة لنا وعلينا تجاههم نفس الواجبات التي للجماهير العربية علينا.
ايها الرفاق
لقد سمعت كل ما يبعث على التفاؤل. ليس المهم ان نتغلب اليوم على كل المشاكل فقد يتطلب ذلك بعض الوقت، المهم هو ان نكون على الطريق الصحيح ان نكون عارفي اهدافنا وان تكون اساليبنا سليمة وحكيمة ومن نوعية اهدافنا وهذا ما لمسته وما سمعت عنه كثيرا اي عن تعاملكم مع جماهير هذه المحافظة وعن معاملة الجيش لهذه الجماهير وفي ساحات القتال المعاملة الكريمة الانسانية التي تكسب القلوب التي تذكر باجواء الرسالة العربية القديمة عندما كان المقاتل العربي يفتح الامصار ليس بقوة السيف فحسب وانما بكرم سجاياه وبانسانيته الرفيعة وبحسن معاملته للناس فنستطيع ان نمضي قدما مطمئنين الى ان الحق في جانبنا وهذا اكبر سلاح لنا واننا مستعدون دوما ومنفتحون امام من يرجع عن الخطأ لاننا لم نرد هذا القتال بل فرض علينا وان لنا مهمة اكبر واعلى شأنا هي ان نتابع نضالنا ضد الاستعمار والصهيونية لنحرر ارضنا العربية من كل دخيل اجنبي لنحرر فلسطين ولنعيد لهذه الامة حضارتها ومكانتها بين الأمم… والله يوفقكم.
26 تشرين الاول 1974
(1) حديث مع قيادة فرع كركوك في 1974/10 /26
—————————————
مشاركة الجماهير دليل ارتقاء الأمة
ايها الرفيقات والرفاق (1)
كنت استمعت الى خلاصة عن نشاطاتكم في الزيارة السابقة، وكلها كانت تبعث على التفاؤل والثقة في مسيرة الحزب، وليس ثمة مجال للتوسع في هذه النواحي التفصيلية وانما يحسن بنا بين الحين والآخر ان نخرج من التفاصيل ومن الاختصاصات لنلقي نظرة اجمالية وشاملة على مسيرة الحزب.
صحيح ان مسيرة الحزب انما تتكون من هذه التفاصيل، من هذا النشاط اليومي المتراكم في شتى النواحي والاختصاصات ولكن الثورة، الحزب الثوري، لا يصح ان يكون مجرد دوائر تعمل دون ان ترى الغاية الكبرى التي تعمل من اجلها، ودون ان تكون الصورة الكلية ماثلة امامها بين الحين والآخر. لان هذا يعطي دفعاً وحرارة للعمل وتصحيحاً للخطأ. اذ يظهر اذا كان ثمة تناسق بين مختلف النشاطات، كما يظهر اذا كانت وتيرة السير والعمل هي الوتيرة الثورية التي ستختصر الزمن وستحقق الاهداف وتحقق القوة الذاتية التي تستطيع ان تسبق القوة التي يصنعها اعداء الامة العربية واعداء ثورتها في وجه هذه الثورة وتقدمها. اذ لا يكفي ان نتقدم بل يجب ان نتقدم بسرعة معينة تجعل من المستحيل، من المتعذر على الاعداء ان يتمكنوا من ايقافنا، من ارجاعنا الى الوراء.
ايها الرفاق
لا حاجة الى ان أكرر بان اهم مقياس للنجاح في نظرة حزبنا هو ان نرجع الى الجماهير، الى جماهير شعبنا بين الحين والآخر. نحن نعيش مع هذه الجماهير، ضمنها، في داخلها ونتعاون معها، ولكن بين الحين والآخر علينا ان نوقظ حس النقد والمراقبة فيها لنرى الى اي حد هي راضية؟ الى اي حد متفاعلة قلبا وقالبا مع مسيرة الحزب؟ الى اي حد تقدم وعيها، الى اي حد نمت كفاءاتها بنتيجة الممارسة والمشاركة؟ هل تتلقى الخدمات من الثورة وتشكر، ام انها تشارك في صنع هذه الخدمات وهذا الانتاج وهذا التقدم؟ هل تشعر بان الحزب شيء اعلى منها يعطيها، ام تشعر بانها هي الحزب بانها لا تأخذ من احد، وانما هي تنتج، وهي تعطي للامة؟.
دور الحزب، ايها الرفاق، ليس هو على مستوى او صعيد واحد وانما تتعدد الاصعدة ويمكن القول بان هناك الصعيد الاساسي هذا الذي اشرت اليه الان وهو مشاركة الجماهير لان الجماهير هي الاساس هي الاصل هي القوة الحقيقية الثابتة والدائمة، فعندما نطمئن الى ان الجماهير تشارك وتزداد مشاركتها يوما بعد يوم وسنة بعد سنة وبالتالي ان الامة ترتقي.. ترجمة ذلك: عندما تتقدم الجماهير في المشاركة والممارسة معنى ذلك ان الامة العربية ترتقي. وهناك صعيد آخر اساسي
بلا شك ولكنه يأتي بالدرجة الثاية هو الانجاز النوعي عند المتفوقين من ابناء الشعب هذا يطلب له اهتمام خاص. ان تكون هناك ادمغة وعقول ملتزمة بمصير الامة ومصير ثورتها مؤمنة بالامة والثورة عقول متفوقة تعمل وتفكر وتجرب يوميا. من اجل اعطاء الثورة العربية المادة والوسائل لتسابق الزمن لتسابق الحضارة العالمية لتسابق القوى الكبرى ولتتحصن ضد الانتكاس ضد الهزيمة ضد التخلف وهذا طبعا هو اعلى معنى واعلى صيغة للقيادة الثورية.
ايها الرفاق
وضع امتنا العربية ومبادئ حزبنا التي استمدت من واقع امتنا لكي تعالج هذا الواقع وتحدث فيه الانقلاب العميق، وضع امتنا المجزأ، ومبدأ الوحدة وأهمية الوحدة في حزبنا يعطي لحزبنا الصيغة الثورية الجادة المركزة المكثفة. هناك جدلية، كما تعبر الاصطلاحات الاشتراكية والفلسفية، هناك جدلية في صميم تفكير البعث وفي صميم الواقع العربي، جدلية بين التقدم وبين الوحدة.. كلما ظننا اننا سجلنا تقدما كبيرا ترفع الوحدة صوتها معترضة بان هناك مجالا واسعا جدا في الوطن العربي لم يدخله التقدم ولم يحقق ما حققتموه ولا تنهض الامة الا اذا كان التقدم عاما وشاملا اجزاءها، عندما نحسب اننا حققنا استقلالا خاليا من الشوائب يرتفع صوت الوحدة ليذكرنا بفلسطين وبالكيان الصهيوني المزروع في قلب وطننا وباخطاره الحاضرة والمقبلة فنتذكرحدود استقلالنا وان استقلالنا نسبي، وان امننا نسبي ايضا، واننا لا يجوز ان نطمئن ولا يجوز ان نهدأ لأن المهمة اوسع والدرب اطول.
ايها الرفاق
لم اكتم فرحتي في كل مرة زرتكم فيها في خلال سنوات الثورة. من اول مرة الى هذه المرة. لقائي مع الحزب هو بالنسبة لي سعادة وفرح وتفاؤل كبير بالمستقبل وانا لا أبني فرحي وتفاؤلي على الوهم وعندما زرتكم اول مرة في عام 1969 يمكن ان تراجعوا بعض هذه الاحاديث التي نشرت لتروا بانني كنت عارفا واثقا بان الحزب قد بدأ يمشي على الطريق الصحيح لان اساسه اصبح راسخا ومتينا وانه لا خوف عليه بعد اليوم وان كان سيواجه صعوبات ومشاكل قد تكون احيانا في منتهى الخطورة. بنيت قناعتي هذه على معرفة سابقة بحزبنا في العراق ومعرفة بالاشخاص وبنيته على معرفة بالآلام التي تحملها هذا الحزب في هذا القطر. على تلك التجربة العصيبة النادرة التي مر بها الحزب بعد 18 تشرين الثاني 1963 الى 17 تموز 1968 هذه التجربة لا تذهب سدى في حزب اصيل في حزب مناضلين جديين، هذه التجربة وحدها تشكل ان لم اقل الضمانة الكافية ولكن اكبر ضمانة بين الضمانات… هذه التجربة ضمانة اساسية، الحزب الذي يجتاز هذه التجربة بنجاح بصمود بعزم متجدد يمكن ان نتوقع له كل النجاحات ان نتوقع له الصمود والاستمرار والنجاح المستمر.
اذن بعد تجارب عديدة في سورية وغيرها وفي العراق اخيرا وصل الحزب في هذا القطر الى حد من النضج الثوري من امتلاك الصفات النضالية الاساسية مستفيدا من تجربته في القطر ومن تجارب الحزب في الاقطار الأخرى حتى بلغ تلك الدرجة تلك الحالة التي توحي بانه بعد اليوم لن يكون معرضا لاية هزة لن يكون تحت رحمة القدر هذا حزب مكتوب له ان يستمر. تأصل في تربة الوطن دخل الى قلب الشعب، امتلك نفسه ووعيه وارادته وانضباطه وعرف اين طريقه.
هذه هي المزايا وهي الشروط الأساسية التي بلغها حزبنا في العرا ق والتي هي خير وبركة للحزب وللامة العربية.
لقد قلت امس في لقاء في فرع الحزب في كركوك باني مستبشر بان ارى مسيرة الحزب لا تزال فيها حرارة البدايات وان الثورة لم تتعب ولم تترهل. بالفعل اشعردوما واغتبط بهذا الشعور وان كنت اشعر ان من واجبي ان احذر – اني اقول لكم سعادتي بما اشاهده وبما تحققونه ولكن من واجبي ان احذر – من التعب ومن الترهل ومن القنوع والاكتفاء بحد معين. دون هذه المحاسبة للنفس ودون ان نرجع الى جدلية الوحدة ان ننظر الى باقي الوطن العربي وان ما نحققه هنا ليس الا جزءا يسيرا وان واجبنا اكبر وحتى ضمن القطر يفترض فينا ان نحاسب النفس بصرامة وان نعتبر ان المطلوب اكثر واكثر مما نحققه – امراض الثورات معروفة ولن ازيدكم علما بذلك وانتم تقرأون الكثير وتمارسون وتعرفون بالتجربة والممارسة ولكن يجدر بنا دوما ان نبقي هذه الشعلة في داخلنا ان نحافظ على القلق الداخلي الذي لايرضى بالقليل، الذي لايفتر. هذه هي الثورية الصحيحة بعد الاطمئنان الى الخطوط العريضة الى الاساس الى صواب الطريق وهذا حصل.. ونحن مطمئنون منذ بداية هذه الثورة الى ان الحزب على الطريق الصحيح وانه يمتلك تجربة غنية وانه خرج منها بالنضج الذي يؤهله للانجازات الكبيرة. بعد هذا الاطمئنان بعد الثقة بالنفس لانها هي الشرط الاساسي – مطلوب القلق والتساؤل والمحاسبة عندها لا يكون القلق مدمرا طالما انطلقنا من الثقة بالنفس ومن الاطمئنان الى اننا على الطريق الصحيح، القلق هذا يكون من اجل منع الانحراف تحاشي الراحة والاسترخاء، منع الشطط.
الواقع بانني لا اريد ان اقول اكثر مما قلت من تذكير بملاحظات ومقاييس نشأ عليها حزبنا منذ البداية، هي في صلب تفكيره وفي صلب تجربته ولعل لها نصيبا كبيرا في ضمان استمرار هذا الحزب لأنه لا يهدأ من محاسبة نفسه وانه لا يقنع بحد وانه يتطلع الى الاهداف الأخيرة الى الاهداف الكبرى الى الوحدة العربية والى الحضارة العربية. الوحدة في المكان الاول هذا شيء اساسي وهي الثورة الحقيقية، والحضارة العربية هي المحتوى لهذه الوحدة اي التقدم الذي نصنعه التي تصنعه
اجيالنا هذا الذي سيخلق حضارة جديدة لامتنا.
27 تشرين الاول 1974
(1) حديث مع قيادة فرع بغداد
—————————
المستقبل لن يُبنى الا بالعلم وفي منظار الوحدة العربية
من الصعب ايها الأخوة(1) ان أعبر عن مدى سعادتي بلقائكم وانتم تمثلون في نظري حقيقة امتنا ومستقبلها، تشكلون حقيقتها العميقة التي شابتها الشوائب في فترات من الزمن فأضعفت الثقة بامكانيات الأمة العربية رغم انها كانت صانعة حضارة من اكبر حضارات العالم، وتمثلون المستقبل العربي بهذه الوحدة، بهذا التضامن والتكامل الذي تجسدونه في مجملكم، وترمزون الى ان المستقبل العربي لن يبنى الا بالعلم، بالتفكير العلمي الموضوعي الدقيق المتحرر الجَسور المستكشف. وايضا تشيرون باجتماعكم هنا الى ان المستقبل العربي لن يتحقق كما نتمناه الا في منظار الوحدة العربية وفي الشعور باننا امة عظيمة ولها رسالة انسانية، واننا اذا لم نحتل مكاننا في هذا العالم وبين أممه فان العالم كله يبقى مختلا ويبقى مفتقرا الى عنصر اساسي في تكوينه.
ايها الاخوة
إنني بلا شك فخور بجهود رفاقي في هذا القطر العظيم. انهم من نوعية الأبطال الرواد الذين يعملون بإيمان ورجولة ليل نهار ويبنون لهذا القطر وللأمة العربية كلها، ولكنني اقول لكم ايضا ببساطة أنني فخور ومن باب اولى بالإنسان العربي في كل مكان وبالشعب العربي الذي هو الأصل والمنبع للبطولات والأبطال، وان قلبي ليهتز فرحا وسعادة كلما رأيت أخوة لنا من اقطار عربية مختلفة يجتمعون في قطر عربي ويتعاونون تعاون الإخوة وفي سبيل المصير الواحد المشترك، واليكم تحياتي واعجابي.
وارجو ان نجتمع في فرص ومناسبات اخرى يكون فيها الحلم الأكبر قد تحقق او سار في طريق التحقيق وهو حلم الوحدة العربية.
1974
(1) من حديث مع العاملين بوزارة التخطيط في بغداد بتاريخ 20 حزيران
————————-
تتحقق الوحدة العربية متى تحول الشعور بضرورتها إلى إرادة
أيها الر فاق(1)
بدأ حزبنا قبل أكثر من ثلاثين عاماً بين الطلاب وبقينا سنوات نتوق ونتحرق للوصول إلى صفوف الجماهير والجماهير الكادحة وكنا على يقين بأننا سنصل إليه. وكانت البداية مع طبقة الطلاب العرب بداية طبيعية وسليمة كما أعتقد، إذ لم يكن بد من طليعة قادرة أكثر من غيرها من طبقات الشعب على استيعاب فكرة الحزب ومهمته، وقادرة بحكم وضعها واعمار أفرادها وبعدهم عن المصالح الخاصة أن تنبري لحمل رسالة الحزب بحرارة واندفاع، وبعد سنين ومشقات وصل الحزب إلى الجماهير وأصبحت الجماهير ترى فيه المعبر عن مصالحها وعن إرادتها، ولكن المعيار لقابلية الحزب للاستمرار والتجدد ومواكبة التطور بقي هو مقدار ما يؤثر هذا الحزب في صفوف الطلبة العرب، ومقدار ما يجذب منهم إلى صفوفه. وهذا شيء أساسي أذكره في كل مناسبة ألتقي فيها بالطلاب البعثيين، وعندما أسمع عن تنظيم لنا في قطر من الأقطار العربية أسأل أول ما أسأل عن مدى تغلغل الحزب في صفوف الطلاب رغم معرفتنا وقناعتنا جميعاً بأن المادة الأساسية للحزب وللأمة هي الجماهير وأن الثورة العربية لا تقوم على طبقة المثقفين وإنما تقوم على الجماهير الكادحة، ولكن تفاعل الحزب مع الطلاب هو الدليل على صحة السير، على أن الحزب لم يتخلف، لم يطرأ عليه الجمود، لأن الطلاب يمثلون نبض الأمة، نبض المستقبل وهم متطلعون دوما إلى المستقبل، فإذا ابتعدوا عن الحزب فهذا دليل سيء، دليل على أن الحزب بحاجة إلى تجديد، إلى تطوير، إلى إعادة نظر.
أيها الرفاق،
في هذه الظروف المصيرية التي تجتازها أمتنا تنتظرون ولا شك كلمة فيها بعض التوضيح، فيها بعض الضوء لإنارة الطريق، ورغم أن ظروفنا العربية وظروفنا القومية معقدة جداً فنستطيع أن نتبين بعض الخطوط الأساسية، نستطيع أن نرى أن الأمة سجلت تقدماً ملحوظاً في الوعي وفي الممارسة، في الفكر وفي النضال. فالهزيمة التي أصابتنا عام 1967، رغم أن التآمر الاستعماري الصهيوني كان هو المسبب الرئيسي لها، هذا التآمر المستمر على يقظة الأمة العربية ونهضتها لكي تبقى مفككة مجزأة ضعيفة تنهب ثرواتها وتستغل أرضها، رغم ذلك كان في ضمير الأمة شعور بأن شيئاً في الهزيمة كان مفيداً وكان حقاً وعدلاً وكان لخير الأمة. بمعنى أن الأوضاع التي كانت تحظى بالتأييد الشعبي والتي كانت تصنف بأنها أوضاع وطنية وقومية وتقدمية، إن لم نقل ثورية، كان فيها نقص كبير، وكان فيها خلل وأمراض وكان يخشى أن يستمر ذلك أن تستمر تلك التغطية للحقيقة وأن يستمر ذلك التزوير وأن يؤثر في وعي الجماهير العربية فتكون ثورتها مختلة وغير سليمة وبالتالي تكون مقصرة عن بلوغ أهدافها الكبرى، جاءت الهزيمة لتكشف عن الأمراض، لتكشف عن التضليل، عن التزوير، عن التعمية والتغطية. صحيح أنها كانت مؤامرة استعمارية صهيونية خبيثة، ولكن كان فيها ناحية خير من أجل أن لا يستمر الغش، من أجل أن نصحح الأسس التي تبنى عليها الثورة العربية المعاصرة، وبالفعل هذا القدر من الوضوح الذي ولدته الهزيمة، فأدى إلى سقوط الحجب والستائر، هذا القدر من صحوة الفكر النقدي عند الجماهير العربية والأجيال العربية الشابة المثقفة، هذا التنبه هو الذي فعل فعله خلال سنوات قليلة محدودة وانفجر في الحرب الأخيرة، في حرب تشرين، بطولة وشجاعة وعلماً وكفاءة، وكان يمكن أن يصنع أضعاف ما صنعه لولا أن الحكام والأنظمة وضعت في وجهه العراقيل منذ بدايته الأولى لتبتره بتراً. ولكننا نؤمن رغم ذلك التشويه ورغم ذلك البتر بأن الوعي العربي قد انطلق ولن يقيَّد بعد الآن ولن يكبَّل، وأن تلك الأنظمة التي حاولت أن تظهر أنها صانعة النصر في حين كانت هي التي جمدت النصر في منتصف الطريق وهي التي شوهته وزيفته فيما بعد حتى كاد يتحول إلى هزيمة في المساومات المشبوهة حفاظاً على وجودها لا أكثر، نحن نؤمن بأن هذه الأنظمة عاجزة عن أن تطمس الحقائق، فهزيمة 67 هي فاصل تاريخي في حياة الأمة العربية، هي بمعنى من المعاني الحل الذي بلغت فيه الجماهير العربية سن الرشد وتخلت عن الخرافات والأساطير، تخلت عن أن تسلم قيادها وتتكل على زعيم أو مجموعة أشخاص أو أي شيء من هذا القبيل، وبلغت النضج لكي تستلم مقدراتها بيديها ونحن نرى ونلمس الآن، رغم استمرار تلك الأنظمة في أساليبها القديمة، في القمع، في المراقبة، في التوجيه، في الإعلام، في كل ذلك أن روحاً جديدة تختلج في قلوب وعقول الجماهير العربية والطلائع الشابة المثقفة بأنها لن تعتمد إلا على نفسها، إلا على الرؤية الواضحة.
ماذا نستخلص أيها الرفاق من هذه الأوضاع العربية؟ أبرز شيء يقفز إلى النظر والى الذهن هو مفارقة عجيبة قد تكون فريدة في تاريخ الشعوب هي أن وطننا العربي الكبير وأمتنا العربية المجيدة، هذا الوطن الكبير فيه من الثروات ومن الطاقات ما يستطيع أن يغير مجرى تاريخ العالم كله، والأمة العربية فيها، في تراثها وماضيها من القيم والاستعدادات، وفي حاضرها من القوى المتفجرة والكفاءات والنبوغ ما يكفي لبناء دولة عظمى ولبناء حضارة جديدة رائعة تسهم في إسعاد العالم، ورغم ذلك لا نرى إلا التخلف والبؤس والتفكك والتناحر والاستسلام أمام القوى. هذه المفارقة يجب أن ندخلها إلى وعي كل فرد من أبناء أمتنا، إلى عشرات الملايين من الجماهير العربية يجب أن ينظروا ويلمسوا هذه المفارقة ليعرفوا أن أي عذر يسقط، وأية حجة تبطل، لأي نظام إذا لم يتحرك من أجل القضاء على علة هذه المفارقة، على سبب وجودها، على علة الضعف والتخلف في الوجود العربي، على التجزئة العربية.
أيها الرفاق
مشاكل الأمة العربية كبيرة وصعبة ومعقدة، هناك وطن مترامي الأطراف مقسم إلى دول ودويلات، وهنالك تفاوت في مستويات التطور والرقي، هناك انقسامات على شتى الأصعدة، ولكن هناك شيئا لا تستطيع قوة أن تنكره أو تتجاهله، هو أن هذه الأمة تشعر وتعرف بأنها أمة واحدة، ومتى استطعنا أن نحول هذا الشعور وهذه المعرفة الأكيدين إلى إرادة تتحقق الوحدة العربية.
أمتنا أيها الرفاق لا تستطيع أن تهرب من نفسها، من طبيعتها من ماضيها من أصالتها. لها تكوين، لها روح، لها خصائص، فهي إما أن تكون أمة عظيمة أو تتردى على شكل هذا التناثر وهذا التخلف الذي نرى، إما أن تكون صانعة للحضارة، صانعة للتاريخ، أو أن تتمزق وتنقسم فيما بينها لأنها لا تستطيع أن تقبل بوضع لا يرقى إلى مستوى طموحها وطبيعتها الأصيلة. كيف تستطيع الأمة العربية أن تبلغ هذا المستوى؟ من يستطيع أن يوصل الأمة العربية إلى غايتها الأساسية؟ ليس غير الجماهير الواسعة، الجماهير الكادحة هي وحدها، ليس فقط في عددها الضخم، سواء في البناء أو في القتال، وهذا شيء أساسي، وإنما بما تتميز به من حيوية متجددة ومن تجرد واستعداد عميق وتام للتضحية وتحمل المشاق والنضال الطويل، هذه الطبقة طبقة الفلاحين والعمال الكادحين على صنوفهم المختلفة هي وحدها التي لا تتعب، هي وحدها التي تلتقي أهدافها بأهداف الأمة، إنها مؤهلة لأن تناضل وتناضل وتبني وتحارب حتى تبلغ الأمة أهدافها. أما الطبقات الأخرى ومنها طبقة المثقفين فإن نفسها قصير واستعداداتها العقلية والنفسية تغريها كثيرا باختصار طريق النضال والاخلاد الى الراحة والاستمتاع وبخلق شتى الأعذار والحجج، فليس بينها وبين الأمة ذلك التوافق التام، إنها تكتسب صفتها الثورية من انحيازها إلى الجماهير الكادحة، من اندماجها بقضية الجماهير، فاذا انفصلت عن تلك القضية لا تعود ثورية رغم كل نواياها الحسنة ورغم كل كفاءاتها. ومن يصنع الوحدة العربية غير الجماهير الكادحة؟ الوحدة العربية تبدو أمراً بديهيا ولكن دون تحقيقها الصعاب، وتكاد تبدو من ناحية أخرى وكأنها مستحيلة ولكن عندما تقوم الثورات على يد الجماهير الكادحة ذات النفس الطويل، والحيوية المتجددة والتفاؤل المميز لجماهير شعبنا، عندما تقوم الثورات على يد هذه الجماهير وتأخذ هذا الطابع الشعبي الجذري، الذي لا يقبل الالتباس، ثورة شعبية بالمعنى الصحيح، فإن مثل هذه الثورة تجتاز الحدود وتصبح كالنار في الهشيم، تنتقل عبر الحدود وتخلق التيار الشعبي التاريخي الجارف الذي يصنع الوحدة العربية.
أيها الرفاق
لقد قدر لحزبنا ان يحمل العبء الكبير، أن يضطلع برسالة الوحدة، وهو يسير على الطريق الصحيح. لقد ترسخ حزبنا في هذا القطر وضرب جذوره في أعماق تربته. هذا القطر الذي كان وحدوياً من قبل البعث، هذا القطر، العراق، عراق العرب، بطبيعته بتكوينه بمشاكله،كان مؤهلا لأن يحمل رسالة الوحدة. ولكن أوضاعه البائدة الفاسدة كانت تعطل فيه هذه الإرادة وتلك الإمكانات حتى جاء الحزب وترون بأنه يعمل عملا أصيلاً في هذا القطر وأنه ثورة متجددة لا تهدأ ولا تتعب ونحن كلنا ثقة بأن ثورة الحزب في العراق ستسير يوما بعد يوم لتأخذ الطابع الشعبي الجذري لتصبح ثورة الجماهير الكادحة بكل معنى الكلمة ولكي يكون العراق كما أهلّه التاريخ وكما أهلّه الحزب، محقق الوحدة وبانيها. والسلام عليكم.
28 تشرين الأول 1974
(1) حديث إلى الطلبة العرب في 28/10/1974
————————
الثقة بالنفس شيء أساسي العمل الخلاق هو اللذة الكبرى
أيها الرفاق(1)
إن لقائي مع المناضلين البعثيين يزيدني فرحا واطمئناناً إلى مستقبل أمتنا العربية.
إنكم تسيرون على الدرب الصحيح، وليس قولي هذا لكي نغفل عن الأخطاء أو نغتر ونظن أننا بلغنا الكمال، ولكن الثقة بالنفس هي شيء أساسي والثقة بأننا على الطريق الصحيح هي بداية النجاح وأساسه. علينا ونحن نسير على الدرب الصحيح أن نتحلى دوما باليقظة والحذر، بالحس النقدي العلمي الذي لا يتهيب رؤية الخطأ لأنه باستطاعتنا عندئذ أن نصحح الأخطاء ولا نتهيب رؤية المسافة الباقية من الطريق وإن كانت طويلة لأننا نعرف بأن الأمة هي الخالدة وبأن جيلاً يعمل ويمضي ويأتي بعده جيل وأجيال، وإأن علينا أن نوفي قسطنا من هذا الطريق.
لقد وصلتم أيها الرفاق في كل مكان من هذا القطر الى مستوى عال من مستويات النضال لأني ألمس نفس الروح، نفس النضج في الوعي والممارسة، وقد وصلتم الى الحد الذي يجعل من النضال نفسه أكبر عزاء، أكبر مكافأة للمناضل. العمل نفسه هو اللذة الكبرى بالنسبة لكم لا تطلبون شيئاً آخر بل تطلبون المزيد والمزيد من العمل لإقامة هذه الصلة الحميمة بينكم وبين الجماهير، وبين شعبنا العربي. هذا حلم كان في بداية الحزب وقد حققتموه ونأمل أن تزدادوا قرباً وصلة بجماهيرنا في هذا القطر. لم يعد الحزب بعيدا عن الجماهير بل أصبح قريبا جدا ونرجو أن يأتي اليوم الذي يزول فيه الفرق بين الجماهير وبين الحزب فتشعر الجماهير انها هي البعث العربي، هي الأمة العربية في حالة البعث والنهضة. كل إعجابي وتقديري لكم وأرجو أن تزداد لقاءاتي بكم وأن يكون عزائي وفرحي الكبير هو أن أعيش بين انجازاتكم، أراها وأعتز بها وأرى فيها صورة أولية للمستقبل العظيم الذي ينتظر أمتنا… والسلام عليكم…
28/تشرين الأول/1974
(1) حديث مع قيادة فرعي الفرات الأوسط والأنبار 28/10/1974.
———————————–
أهمية اليقظة العربية
هذه هي الزيارة الأولى(1)… وأرجو أن نلتقي لقاءات عديدة في المستقبل وأن أشاهد وألمس في كل مرة تقدماً ملموساً لنشاطكم ونضالكم. لا حاجة لأن أكرر أن سعادتي كبيرة بما أشاهده في كل مناطق هذا القطر وفي كل نواحي نشاط الحزب، وأن ما اطلعت عليه في هذه الزيارة القصيرة هو شيء ثمين جدا نظراً لأهمية مدينة البصرة في الظروف الراهنة، أهمية تنضاف إلى أهميتها التاريخية، لأن البصرة تذكرنا بتاريخنا الزاهر يوم كانت الحضارة العربية تشع على العالم كله.
في الظروف الراهنة أيها الرفاق البصرة بالنسبة للجوار تواجه الخطر والتهديدات الإيرانية كما هو معروف وهذا يلقي مزيدا من الوضوح على قضيتنا القومية، على أوضاع الأمة العربية كلها، إذ ما معنى أن تكون إيران هي المنفذة للسياسة الاستعمارية وللأغراض والأهداف الاستعمارية في البلاد العربية وفي العراق بصورة خاصة، في حين أن الشيء الطبيعي كان أن نلتقي مع جارتنا. لم نسئ إليها لا في الحاضر ولا في الماضي، فلقد حمل إليها العرب الرسالة التي هدتها وأخصبت حضارتها. أما في الحاضر فالشعب والجماهير الايرانية تشكو مما تشكو منه الجماهير العربية من الاستغلال الامبريالي والظلم الاجتماعي والتخلف. وإذن كان يمكن أن يكون ثمة لقاء وتعاون لولا الطبقة الحاكمة الرجعية العميلة التي في سبيل الحفاظ على مصالحها غير المشروعة ترضى أن تسخر نفسها وتسخر بلادها لتنفيذ السياسة الاستعمارية ولتهديد قطر عربي كالعراق في بدء نهضته القومية والاجتماعية، وتهديد الأمة العربية وهي في صميم معركة التحرر وصميم المعركة ضد التخلف. فهذا الشذوذ، هذا الوضع المعكوس، يزيد قضيتنا وضوحا يزيدنا ويزيد جماهيرنا وعياً لأهمية اليقظة العربية، لما تشكله من خطر على الاستعمار العالمي، وانه بالتالي يحاول أن يحيطها بسوار من العداء ومن المؤامرات فيهددوها بالغزو والقوة الغاشمة وبتدبير المؤامرات من الداخل تارة أخرى.
لماذا كل ذلك؟ لان يقظة الأمة في هذا العصر ستقلب موازين القوى في العالم وستغير مجرى التاريخ. ستقضي على أكبر استغلال وجشع استعماري عندما تحرر ثرواتها وأراضيها من استغلال الشركات الأجنبية والدول الأجنبية وستضع هذه الثروات في خدمة التقدم الاجتماعي وفي النضال التحرري، ليس في البلاد العربية فحسب وإنما في العالم الثالث كله، لأن حريتنا مرتبطة بحرية العالم الثالث بل بحرية العالم كله. وهذا ما يفسر كل هذا التآمر الاستعماري الذي خلق إسرائيل بشكل مصطنع، بشكل لم يعرف في التاريخ، ثم دفع إيران وهي كما قلت كان يمكن أن تكون جارة وصديقة، دفعها إلى أن تغطي مشاكلها الداخلية ونواقص حكمها واستغلال حكامها لجماهيرها.. أن تغطي ذلك بافتعال عداء غير طبيعي مع العرب ومع القطر العراقي، وهذه نغمات قديمة متخلفة والعالم يمشي باتجاه معاكس، العالم يمشي نحو نبذ الخلافات العنصرية والتاريخية بين القوميات وينشد المصالح المشتركة والنقاط المشتركة التي تجمع بين الشعوب. فنحن نرى في أوروبا دولاً كفرنسا وألمانيا تنسى خصوماتها التاريخية المزمنة التي دامت مئات السنين لتفتح عهداً جديداً من التعاون في سبيل تقدم ورخاء شعوبها. كما أن أوروبا الغربية وألمانيا الغربية بالذات تنسى ما بينها وبين الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية من خصومات تركتها الحرب العالمية الأخيرة، وتتجاوز هذه السلبيات إلى صعيد التفاهم والتعاون، بينما نرى في إيران تحريك عصبيات قديمة وذميمة لا تستند إلى حقائق، فنحن نستمد من هذا الواقع وعيا جديدا لأهمية النهضة العربية، لأهمية التحرر العربي والوحدة العربية وما سيحدثه ذلك في العالم، ونتشبث أكثر فأكثر بالمضي في طريقنا النضالية، ونتشبث بمبادئنا التي تدعو الجماهير الإيرانية إلى أن تكشف الخدعة التي تورطها فيها الفئة الحاكمة ولكي يزداد ويشتد النضال ضد الحكم الرجعي العميل، ونستطيع أن ننظر بتفاؤل إلى المستقبل، ولا يمكن أن يرجع العالم الى الوراء. كذلك في البصرة أيها الرفاق ننظر بالقرب منا فنشاهد مفارقات عجيبة تزيد قضيتنا وتزيد وعينا عمقاً وتزيد بالتالي نضالنا عزماً وحرارة أن نرى المطامع الاستعمارية التي تحاول أن تمزق وطننا لتستغل ثرواته ولتمزق قوته وتماسكه، تخلق مثل هذه المفارقات وتغذيها باستمرار وليس من دليل على إجرام التجزئة وعلى خيرات الوحدة ومنافعها مثل هذا المثل: العراق والكويت. إن هذه الدويلة المصطنعة تملك من الثروات ما يكفي للقضاء على إسرائيل، ما يكفي لتعبئة أكبر جيش عربي يستطيع أن ينهي السرطان الصهيوني في بلادنا، هذه الثروات التي تتمع بها وتبذرها دويلات صغيرة كهذه تستطيع أن تنهض بعشرات الملايين من الشباب العربي من الجماهير العربية التي تحتاج إلى الغذاء الكافي وإلى الدواء وإلى المستشفيات وإلى المدارس. وإذا هذه الثروات يبذر قسم منها على الحكام ويذهب أكثرها إلى مصارف الدول الاستعمارية، وهذا وحده كاف لينضج وعي جماهيرنا. يكفي أن يطلعوا على هذه المفارقات ليعرفوا أنه ليس من عذر لمن يضع أي هدف قبل وفوق هدف الوحدة العربية.
إن ما سمعته من الرفاق عن نشاط الحزب في هذه المدينة وعن المقارنة بين ما كان عليه الحزب قبل بضع سنين، بين ما كان عليه من ضعف وبين ما هو عليه الآن، وكيف أنه اكتسب قلوب الجماهير من كل الفئات والأصناف، هذا شيء يدلنا على أننا نتحصن أيضا، وإلى جانب قوة السلاح وإلى جانب بناء الجيش والبحرية والطيران وكل ذلك، نتحصن بالقوة المعنوية باكتساب الجماهير إلى صف الحزب اكتسابا صادقاً حميماً عن قناعة وعن تجربة وممارسة لتتحطم على صخرة هذه الصلة الوثيقة بين الحزب والجماهير جميع مؤامرات الاستعمار وأدوات الاستعمار..
والسلام عليكم
31/تشرين الأول/1974
(1) حديث مع قيادة فرع البصرة في 31/10/1974
——————————-
1975
البعثي هو الصورة الحية للأمة
أيها الإخوة والأخوات (1)،
من دواعي السعادة أن التقي بهذا العدد من المناضلين المهيئين للمهمات القومية الكبيرة الذين ألقى عليهم الحزب واجبا من أهم الواجبات ومن أكثرها تعبيرا عن طبيعة حزبنا، الواجب التثقيفي.. فالحركة الثورية أيها الرفاق هي بطبيعتها نثقيف.. هي ثقافة جديدة.. ولكن ثقافة للعمل. للتطبيق.. للممارسة ولكي نخلق او نكوّن من جديد الشخصية العربية الموحدة التي يلتقي فيها الفكر بالعمل في تركيب موحد مؤتلف منسجم.
واني إذ أقول ذلك ارجع بالذاكرة الى بداية حزبنا.. أتذكر تلك المحاضرة التي ألقيتها عام 1943 في جامعة دمشق في ذكرى الرسول العربي والتي بدأتها بالكلام عن الشخصية العربية وضرورة توحيدها بعد ان تجزأت وتفككت… واذكر انه جاء في معرض الكلام انه يجب ان يتحد الفكر النير مع الصلاة والساعد القوي ليؤدي ذلك الى العمل المؤثر.. العمل الخلاق.. العمل العفوي الذي لا تكلف فيه.. وبعد مضي كل هذه السنين ما زلت اعتقد بان المطلوب لتوحيد الشخصية العربية هي هذه الشروط بالذات. البعثي هو العربي الجديد.. كما تعرفون. البعثي يذهب الى جموع الجماهير من أبناء شعبنا، لا يذهب اليهم ليعلمهم وإنما ليشاركهم.. لا يذهب إليهم ليلقي درسا نظريا ثم يرجع، وإنما ليقرن الفكر بالعمل وبالممارسة. لا يشاركهم في بعض نواحي حياتهم وبتحفظ في نواح أخرى.. لا يكشف لهم عن نواح في شخصيته وبخفي نواحي أخرى.. اذا كان يريد ان يحدث ثورة وانقلابا في حياة شعبه فعليه ان يضع كل شخصيته كل حياته في هذا العمل في هذا النضال.. أن ينفتح كل الانفتاح على جماهير الشعب ليحصل التجاوب العميق الذي يوقظ في الجماهير اصالتها ونزوعها الى التقدم والى المستوى الانساني اللائق والى التضحية والبطولة. هكذا نتصور المناضل البعثي انه الصورة الحية للحزب وللأمة.. للماضي والمستقبل.. للتراث والأصالة وللتقدم والإبداع الجديد.
هكذا كانت دوما فكرة البعث وفي الظروف المصيرية يطلب ان نكشف عن حقيقة فكرتنا كلها وان نستلهمها على حقيقتها الكلية العميقة.
ان التراث ايها الرفاق ليس في حركتنا الثورية شيئا من الماضي وليس شيئا للتسجيل في الذاكرة وإنما حياة نابضة، هو الأصالة والقدرة على الإبداع. القدرة المتجددة في امتنا والتي تهتز في كل مرحلة ومنعطف تاريخي حاسم.. لتعود الأمة العربية الى مكان القيادة في مسيرة البشرية. في تصورنا لا نرجع الى التراث رجوعا وإنما نبلغ حقيقة التراث، حقيقة الأصالة بلوغا ونتقدم نحوه ونرتقي اليه ارتقاء يأتي بعد النضال وبعد الجهد الصادق وبعد التضحية نكتشف حقيقة تراثنا ونبلغ مستواه.
أيها الرفاق والرفيقات
اذا كانت ظروفي هذه المرة لا تسمح بالاستفاضة فاني رغم ذلك حريص على ان لا أضيع هذه المناسبة العزيزة علي دون أن أذكركم بالظروف الراهنة التي تعيشها امتنا العربية في أرجاء وطننا الكبير. إنها منعطف تاريخي بالنسبة للأمة العربية وبالنسبة للإنسانية وحضارتها. اننا نعيش الآن واقعا كنا نراه قبل عشر او عشرين من السنين. كنا نراه بالفكر وبالقلب وبالرؤيا، وكان في ذلك الحين غامضا على الكثيرين لا يستطيعون رؤيته لشدة الفارق والمفارقة بين واقع امتنا الضعيف اذ ذاك وبين طموحها ونزوعها الى أهدافها الكبرى ولكننا الآن نتأكد ان تلك الرؤيا لم تكن حلما، بل كانت حقيقة عميقة احتاجت الى بعض الوقت كي تتجلى في الأحداث وكي تظهر لأعين العدد الكبير.
مصير الإنسانية مرتبط بمصير العرب. تقدم الإنسانية مرتبط بتقدم الأمة العربية وتحررها. قلنا ذلك منذ زمن ولكنه اليوم يقوله العالم باجمعه يعترف به حتى الأعداء وان لم يصرحوا به. اذن مصيرنا أصبح بأيدينا، لم يعد هناك ثمة تشكك في صحة مسيرنا وفي ان مستقبلنا سيكون مشرقا.. لم يبق الا ان نضاعف الجهد.. نقوي النضال، ان نتمسك بالاهداف والمبادئ وبالهدف الأكبر الذي فيه انقاذ نهضة الأمة العربية وهو هدف الوحدة.
لم يعد التراجع واردا بالنسبة الى نضال الأمة العربية ولكن المطلوب ان نعطي ونزيد في العطاء ونضاعف النضال لكي نختصر الزمن ولكي لا نترك مجالا للأعداء ان يعطلوا بمؤامراتهم مسيرتنا ويؤجلوا يوم النصر وهو قادم لا ريب فيه.
بمثل هذه الروح أيها الرفاق والإخوة يجب ان يذهب المناضل البعثي الى المهمة الحزبية التي تنتظره وان ينقل الصورة كاملة وان يضع شخصيته كاملة في عمله مع جماهير شعبنا وان ينقل الى ابعد قرية والى أصغر فرد من أبناء شعبنا وفي أصغر عمل او مهمة ان ينقل روح معركة المصير. أن ينقل التصور الكلي الى أبناء الشعب لكي تتضاعف قوتهم وحماسهم أضعافا.. لكي تفجر فيهم القوة الخارقة التي كانت في أساس ماضينا المجيد، ولكي يشعر كل مواطن انه يشارك في صنع المستقبل العظيم.
12 شباط 1975
(1) حديث في مدرسة الإعداد الحزبي بتاريخ 12/2/1975 نشر في “البعث والعراق” و”أحاديث في مدرسة الإعداد الحزبي” تحت عنوان “البعثي هو العربي الجديد”.
—————————
1976
النظرة المستقبلية الحضارية
أيها الرفاق والإخوة(1)
إن لقاءكم واجتماعكم في هذا الظرف العصيب الذي تمر به أمتنا العربية لهو جواب طبيعي بل ضروري، يصدر عن ضمير الأمة التي تمثلون مستقبلها ليرد على روح اليأس والتداعي بالإيمان والتفاؤل والعزيمة الصادقة. لقد كنتم دوماً يا طلاب الأمة العربية، المستجيب لنداء المسؤولية التاريخية في أحلك الظروف وأقسى اللحظات، وهذا دليل على أن أمتنا تجدد شبابها، تستعيد حيويتها ونضارة شعورها بالحياة، بأنها استطاعت أن تلهم الشباب شعور المسؤولية وان تحرك فيهم الطموح والتطلع إلى المستقبل رغم ما يشوب الحاضر من أمراض ومن تراجعات.
أيها الإخوة
إني أرى في اجتماعكم رمزا وطريق، رمزاً لصعود الأمة، وطريقاً للتغلب على المصاعب الراهنة، فنحن لا نستطيع أن نسيطر على الحاضر إذا لم نؤمن بالمستقبل، كذلك أيها الإخوة والرفاق، إن في مشاركة ممثلي القوى التقدمية في العالم لكم في مؤتمركم لدليلاً آخر ورمزاً آخر يشير إلى مستقبل القضية العربية، وإلى طبيعة النهضة العربية الحديثة بأنها جزء لا يتجزأ من مصير الإنسانية، وأنها مع القوى التقدمية في مصير مشترك وتفاعل دائم، فنحن إذن كما أننا لا نسيطر على الماضي إلا إذا آمنا بالمستقبل، كذلك لا نحقق النصر لقضيتنا القومية اذا لم نؤمن بالعالم وبالإنسانية وبصلتنا العضوية بهذا العالم وبمسؤوليتنا عنه، وعن مصيره ومستقبله كما هو مسؤول عن مصيرنا وعن مستقبلنا.
أيها الرفاق والإخوة
لم تصبح القضية العربية قضية معاصرة وموضع اهتمام العالم إلا عندما وضعت أو جعلت نظرتها نظرة مستقبلية حضارية، إلا عندما استلهمت أصالة أمتنا التي لم تكن لترضى لنفسها بأن تنشغل بأمورها الخاصة، وبنفعها الخاص، وإنما كانت بداية انطلاقتها الحضارية تقوم على نظرة إنسانية شاملة، وعلى تصور إنساني حضاري يرتب على الشعب العربي مسؤوليات جدية تجاه إخوته في الإنسانية، ولذلك لم تستقم ثورتنا العربية إلا عندما استردت هذه النظرة الإيجابية إلى الحياة، وإلى المستقبل، إلا عندما نظرت بإيمان وتفاؤل إلى جماهير الشعب العربي رغم كل عوامل التخلف، ورغم كل القيود المادية والفكرية التي كانت وما تزال الى حد ما تكبل قدرات هذه الجماهير.
نظرت الثورة العربية بتفاؤل وإيمان بالقدرات الكامنة بهذه الجماهير وراهنت عليها، ليس من أجل تحقيق أهداف محدودة أي أن يتخلص العرب من الاحتلال الأجنبي، وأن يتخلص العرب من التخلف والتجزئة، ولكن من أجل مشروع حضاري ترجع فيه الأمة العربية إلى العطاء الإيجابي لتتساوى مع الأمم والشعوب بهذا العالم في بناء المستقبل الحر الذي نطمح إليه.
أيها الرفاق.. أيها الإخوة
نحن في ظروف صعبة قاسية، ولكن لننظر إليها نظرة تحليلية عميقة، هل هي ظروف طبيعية؟ هل تعبر عن حقيقة الأمة العربية؟ عن حقيقة إمكانات الجماهير العربية؟ هل نحن نعود الى الوراء بعد أن تقدمنا في الربع الأخير من القرن الحالي تقدما ملموسا، أم نحن أمام نكسة عارضة لا نستخف بها، وانما لا نذعر ولا نتشاءم، ننحني عليها لندرس أسبابها، ولنعرف كيف نتغلب عليها؟ ولكن لا يجوز أن يغيب عن بالنا أن كثيراً من الاصطناع وكثيراً من الافتعال وكثيراً من التخريب الخارجي المخطط يدخل في مظاهر هذه النكسة وهذا التردي الذي نشاهده.
إننا حققنا قبل عشرين سنة انتصارات وخطوات تقدمية وانتصارات تحررية، شهد لها العالم، ولكننا نسينا أن الأعداء، أن الاستعمار والصهيونية، قد تنبهوا إلى تفجر القوة العربية، فراحوا يدرسون مكامن هذه القوة وأسباب ظهورها وتفجرها، وانصرفوا إلى تجديد أساليبهم في محاربتنا، وإلى استخدام أقصى ما وصل إليه العلم في شتى المجالات ليعيقوا تلك النهضة، ونحن لم نطور أساليبنا ولم نجدد خططنا، وهكذا فاجئنا الأعداء بما لم نكن مستعدين له، ولكننا -أيها الإخوة- كأمة ناهضة فتية تنبعث من جديد لا نخاف من هذه الأخطاء، بل نعتبرها مناسبات لكي نصحح سيرنا ولكي نعمق تفكيرنا، ولكي نرتقي دوماً بأساليبنا وبأدواتنا إلى المستوى الذي يحمي ثورتنا ويشق طريقها الى المستقبل.
إن في محاربة الامبريالية والصهيونية ما يعزز إيماننا بدورنا الإنساني، إذ لو لم يكونوا متخوفين من أصالة هذه النهضة العربية ومن قوتها، وقوة العطاء فيها لما جمعوا لها كل هذه المعوقات ووضعوها في طريق النهضة العربية. إن في قضية فلسطين -أيها الرفاق- ما يلخص وضعنا في هذا العصر وفي هذا العالم، إن التآمر الاستعماري الصهيوني على فلسطين هو في حقيقته تآمر على النهضة العربية كلها، إذ لم يعرف التاريخ أن تجمعت قوى شريرة بمثل هذه الوسائل الخبيثة الفتاكة لكي تخنق نهضة أمة وتحول دون وحدتها مثلما وقع للأمة العربية في فلسطين، فإذن، نحن عندما نكاد ننسى آفاقنا الحضارية، وأبعادنا الإنسانية، يأتي الأعداء ليذكرونا بها بتآمرهم، بمكائدهم، ولكنهم يسيرون ضد تيار التاريخ ونحن نمشي في اتجاه حركة التاريخ، وحركة المستقبل، وهكذا نرى أن قضية فلسطين تكاد تصبح قضية العالم، قضية الإنسانية، قضية العصر، أي درس نستخلص -أيها الرفاق- من هذه الملاحظة؟
نستخلص أن نضالنا لا يمكن أن يتكافأ مع قوة الأعداء ووسائلهم إذا لم يكن أولا: نضالاً عربياً موحداً، وثانياً نضالاً إنسانياً تقدميا..
بهذا التشوف، بهذا التطلع إلى المستقبل، استقدام المستقبل إلى الحاضر نستطيع أن نغني نضالنا وثورتنا، وكلما ضاق أفقنا تعثرنا وفشلنا.
الثورة الفلسطينية -أيها الرفاق- هي حدث تاريخي في حياة أمتنا في هذا العصر، إنها وضعت المستوى الذي يتوجب على العرب بلوغه، والارتقاء إليه في نضالهم، وفي تفكيرهم لكي يخلقوا نهضة إيجابية معطاء. الثورة الفلسطينية بوضعها الكفاح المسلح، والعمل الفدائي طريقا للثورة العربية، أعطت الجواب على متطلبات المرحلة الجديدة في مراحل نهضتنا، فالنهضة العربية أمام كل هذه القوى المعادية وأمام القوى الرجعية الداخلية المتآمرة والمعطلة لمسيرة النهضة العربية لم يعد يكفيها النضال السياسي –ولو أنه مطلوب- لكنها ككل النهضات الأصيلة، النهضات التاريخية، تعبر عن نفسها بموقف جدي من الحياة والموت، ولا أخفي رأيي فيما تسرب الى الثورة الفلسطينية من سلبيات يجب أن نراها بوضوح لكي ننقي الثورة منها.
لقد تسربت إلى الثورة الفلسطينية عدوى مرضين تعاني منهما الثورة العربية ككل هما: القطرية، وحب السلطة، وهما متلازمان، بل متعاونان يرتكز كل واحد منهما على الآخر، ويستمد منه قوة وغذاء، إذن لم يكن ذلك أصيلاً في الثورة الفلسطينية بل كان موقف رد فعل على قطرية الأنظمة العربية وعلى استهتار تلك الأنظمة بالقضية الفلسطينية أو على محاولة احتوائها وتسييرها لغير الأهداف القومية، ولكن ردود الفعل ليست من صميم الثورة، ليست من روح الثورة بل هي أمراض تعتريها، ومازال للثورة الفلسطينية دور كبير، وما يزال المستقبل أمامها عندما تتخلص من التفكير القطري وتدرك أنها هي الجزء الأصيل من الثورة العربية، وعندما تسترجع النفس الطويل والنظر البعيد دون أن تستوقفها رؤية سلطة غير متوفرة المقومات، وعندما نرجع الى الرؤية الأصيلة الثورية، وهي النضال الطويل لاستكمال الأهداف القومية الكبرى، وهذا ما يجعلنا نقيم وزنا كبيراً لاجتماعكم -أيها الإخوة والرفاق- ونعتبره بدايات مليئة بالوعد والأمل، لأنكم بحكم وضعكم كطلاب عرب بعيدون عن هواجس السلطة، والوصول الى السلطة..
أيها الإخوة
إننا أمام مهمة كبيرة تتطلب بالدرجة الأولى الوحدة والتوحيد، توحيد النضال بين جماهير الأمة العربية وصولا إلى الوحدة العربية التي لا تقوم إلا على سواعد الجماهير وبملء حريتها ونضالها لا في الوحدات المصطنعة المزيفة التي تفرض من فوق، ولا ترى النور حتى توأد وتتلاشى.
الوحدة التي هي طريق الخلاص والإنقاذ هي التي تنقل أمتنا وجماهير شعبنا من حالة الدفاع والتراجع إلى حالة الهجوم والتقدم. ليست الوحدة التي تعمل غطاء للتسوية، غطاء لتصفية القضية، فلم يعد أحد ينخدع بهذه الألاعيب. الوحدة -أيها الرفاق- هي القيمة الثورية العليا التي لم تعط حتى الآن ما تستحق من اهتمام ومن جد وإخلاص، فهي تتطلب تربية جديدة، وعياً عميقا، يشعر كل عربي بأن ما يصيب وطننا وأقطارنا من ترد ومن تمزق، وما يمكن الأعداء من التلاعب بمصيرنا إن هو إلا نتيجة عجزنا حتى الآن عن فرض الوحدة، لأن الوحدة لا تقوم إلا إذا فرضتها الجماهير العربية بانطلاقة حرة تنتزع من خلالها كل حقوقها، حقها في تقرير مصيرها، حقها في بناء مجتمعها. هذه هي الخطوة التي يجدر بالشباب العربي الواعي المثقف، بشباب الوطن العربي كله على اختلاف أقطاره واجتهاداته أن يجعلها الهدف الأول والأسمى.
أيها الرفاق
إنكم تعطون كما قلت، تعطون لاجتماعكم هذا أملاً لأمتكم، ورمزا وهاديا إلى الطريق عندما تلتقون من جميع الأقطار العربية ومن مختلف الاجتهادات، وتتحاورون في سبيل الوصول إلى صيغة مشتركة موحدة للعمل والنضال وبناء المستقبل إنما تعطون الصورة، صورة الوحدة الحقيقية التي تولد من التنوع ومن التعدد ومن الرأي الحر، ومن الجواب الجدي، هذه الوحدة الراسخة، هذه هي الوحدة الحية التي يكتب لها البقاء.
والثورة العربية ليس أمامها إلا هذا الطريق بعد أن رسخت هويتها واستقلاليتها، واكتشفت طريقها الخاص بين ثورات العصر، لم يعد من خوف عليها أن تنفتح وتتحاور وتغتني بالرأي المخالف، وبالارادات الحرة، هذا هو مستقبلنا الآن، هذه هي المرحلة الجديدة -أيها الرفاق- ولئن كنا من حين لآخر نرى فائدة بل ضرورة لكي نؤكد على استقلاليتنا، ولكي نبرز ملامح طريقنا الخاص، ولكي نحرك ونهزّ شعور الأصالة في كل عربي من أجل الانطلاق إلى مستقبل مبدع، لئن كنا بين حين وآخر نوضح هذه الأمور، فليس يعني ذلك أننا مقتنعون بالانكماش ضمن الحدود، وأننا مكتفون بأفكارنا ونظرتنا، وأننا مغلقون على غيرنا بل على العكس من ذلك، إن التأكيد الشخصي هو الذي يعطي ثقة بالنفس من أجل الانفتاح الكبير، الانفتاح الخلاق، ولذلك لا يجوز أن يبقى أي لبس وأية شبهة على هذه الناحية من ملامح الثورة العربية. الثورة العربية كانت مطالبة، مسؤولة، مضطرة لكي تضمن لنفسها مقومات النجاح والاستمرار أن تبحث عن خصوصيتها، أن تخرج من ضباب المجردات، أن تقف على الأرض، وتهتدي إلى الأرض الخصبة التي تثمر فيها الجهود، لذلك كانت لها وقفة في الماضي من التراث، من الأصالة، ليس بدافع عاطفي، وليس بنظرة رجعية الى الوراء وإنما التطلع إلى المستقبل الذي دفعها إلى وجدان شخصيتها الحقة، ولكنها بعد ان اجتازت المرحلة التي تطمئنها على هذه الشخصية، وعلى استقلاليتها، وعلى أنها تتكلم لغة الجماهير الشعبية لكي تحرك هذه الجماهير نحو نضال تاريخي، بعد أن تأكدت من ذلك كله هي واثقة من نفسها أكثر من أي وقت مضى، بعيدة عن التعصب والضيق، تفهم أنها حركة تاريخية، ليست فئوية، وتفهم أنها للعرب جميعا بل للإنسانية، وتعرف أنها بحاجة إلى الأخذ كما أنها بحاجة أمسّ وأقوى إلى العطاء.
أيها الرفاق والإخوة
إن اجتماعكم في هذا البلد المناضل الذي يبني تجربة لنفسه وللأمة العربية بنظرة متفتحة، وبطموح قومي إنساني، إن لقاءكم وأنتم مستقبل الأمة العربية وأمله، مع هذا القطر وتجربته التي هي أيضاً أمل من آمال الأمة العربية ومستقبلها، لهو حدث نتمنى أن يكون له تاريخ، وأن يكون بداية لتغيير أساسي في أوضاع الوطن العربي كله، للانتقال إلى المرحلة الهجومية الإيجابية الخلاقة التي هي وحدها الجديرة بشباب أمتنا والسلام عليكم.
(1) كلمة بحضور أعضاء الوفود الطلابية العربية والأجنبية المشاركة في أعمال المؤتمر التأسيسي الأول للاتحاد العام للطلبة العرب المنعقد ببغداد خلال شهر كانون الاول عام 1976.
—————————
البعث وتحديات المستقبل
أيها الرفاق المناضلون(1)
يا جماهير أمتنا العربية
تأتي هذه المناسبة في ظرف بالغ الخطورة، قلما عرفت الأمة العربية مثله في تاريخ نهضتها الحديثة.
ويكاد تاريخ هذه الأعوام الثلاثين، يتضاءل امام أهمية الحاضر الذي نعيشه وأمام حراجته.
بل ان أهمية الحاضر وحراجته لتمليان الطريقة الوحيدة التي يجوز أن يعالج بها الماضي: أي ان يثبت جدارته وقيمته وجدواه بان يعطي الجواب المقنع والنافع على الأسئلة المصيرية التي يطرحها الحاضر العربي.
فلمثل هذا اليوم توجد الحركات الثورية الأصيلة، وفيه تجد مبرر وجودها، فالحزب هو جزء من الأمة، خرج من آلامها وحاجاتها، وتطلعاتها، ويبقى مرتبطا بالأمة وتاريخها ومصيرها، ويبقى وسيلة، والأمة هي الغاية. فماضي الحزب لا ينفصل عن حياة الأمة وحياة الثورة العربية وكل ما أصابته من نجاح أو فشل في الثلاثين سنة الأخيرة. كذلك فماضي الحزب لا ينفصل عن حياة مناضليه وما قدموه من عطاء وما تحملوه من تضحية ومشقة.
فكرة هذا الحزب كانت رهانا على أصالة الأمة العربية وعبقريتها المبدعة، لم يعتبر الحزب أَنَّه من الضروري، كما لم يكن بالإمكان، ان يأتي بالصيغ الجاهزة الكاملة لما يجب ان تكون عليه الحياة في المجتمع العربي المنشود. بل اكتفى بوضع إشارات وعلامات وملامح وخطوط أساسية، تاركا للأجيال العربية الصاعدة المناضلة ان تغني بتجربتها الحارة العميقة المتفاعلة مع الأحداث القومية والعالمية هذه المؤشرات الثورية على طريق المستقبل الفسيح المنفتح.
كذلك لم يعتبر الحزب أنَّ من مهمته ان يأتي بنظرية كونية عالمية تستوعب تفسير التاريخ الإنساني، وتحدد مستقبل البشرية، انه لو فعل ذلك -على افتراض ان ذلك مستطاع- لما كان الحزب، حزب البعث العربي الاشتراكي أي حزب الثورة العربية المعاصرة، بل ربما كان تقلص الى حلقة دراسية وعمل نظري مجرّد.
اما الحزب الذي ينبثق فعلا وبصدق من الحاجات العميقة للأمة العربية، في مرحلة انبعاثها الراهنة، فانه لا يستطيع ان يأتي بما هو بعيد أو غريب عن المعاناة الصادقة للأمة في هذه المرحلة.
وتجربة الأمة في هذه المرحلة التي نشأ فيها الحزب لم تكن بعد مهيأة للشمول والإشعاع. ولكن صدق المعاناة جعل تجربة الأمة -من خلال تجربة الحزب- تفصح عن استعدادها الأصيل للشمول والإشعاع، عندما أعطت جوابها وتعديلاتها الخاصة على النظريات والحركات الثورية العالمية التي كان لابد للأمة في طور تحفزها للثورة، ان تحتك بها وتتفاعل معها. وهكذا فقد جاء فكر البعث ليكمل الفكر الاشتراكي لا لينقضه، واستطاع وهو بعد في بداية طريق التجربة الثورية ان يؤدي قسطه من المساهمة على الصعيد الإنساني بمجرد ان واجه مشكلات أمته ومجتمعه، مواجهة نزيهة عميقة، بتسليطه الضوء على هاتين الحقيقتين الأساسيتين: قومية الاشتراكية وإنسانية القومية.
ولم يكن الاهتداء الى هاتين الحقيقتين اللتين ظهر إثرهما الكبير في ثورات العالم الثالث، ثم في الآونة الأخيرة على صعيد العالم المتقدم ممكنا، لولا ان سبقهما تصحيح أهم وأعمق، هو الانطلاق من الواقع الحيّ الذي كان يعني الانطلاق من الحرية. وإن الوقفة الأصيلة الصّادقة لفكر الحزب مدينة بالدرجة الأولى لروح الحرية التي استلهمها، وان كل فكرة أصيلة ومبدعة أتى بها الحزب على امتداد مسيرته الطويلة، وان كل موقف ثوري نضالي في تاريخه، إنما كان بفضل الحرية.
لقد كانت اللحظة التاريخية في حياة الثورة العربية المعاصرة هي سلامة الاختيار.. ولم يكن الاختيار بسيطا، لأنه لم يكن بين نقيضين فحسب: المحافظة والثورة، اليمين واليسار، التجزئة والوحدة، الرجعية والاشتراكية، بل كان الاختيار أيضا: بين ثورة وثورة، يسار ويسار، وحدة ووحدة، اشتراكية واشتراكية. ولم يكن بين روح ومادة، بل بين مادة مستقلة مسيطرة، ومادة نابعة من الروح وتابعة لها. والروح في تفكيرنا ليست شيئا غيبيا ولا سحريا يناقض منهجنا العلمي، وإنما هي الوعي، وهي الإرادة، والأخلاق وكل النزعات التي تشدنا الى الخير والجمال والتضحية والبطولة، وهي الايمان بالحقيقة والعدالة والحرية. وكان على الحزب التاريخي ان يقول كلمة واحدة امام كل اختيار مُحيّر، هي الكلمة التي تنبع من الأصالة ومن تجربة الأمة فتجعل الأفكار المجردة مبدعة حياة وصانعة تاريخ.
وقد كان الموقف من التراث القومي أي من الإسلام وعلاقته الوثيقة بمرحلة الانبعاث القومي المعاصرة، معبرًا عن إحدى الاختيارات الكبرى لفكر البعث الذي قام منذ البدء على تصور ثوري للتراث، فحقق في نظرته الجديدة هذه، كما حقق في مفهوم القومية وفي النظرة الى الحرية سبقاً على الحركات التي أتت قبله. وليس موضوع التراث في حزبنا اليوم، ولم يكن في الماضي، موضوع مناسبات وظروف، بل هو محور أساسي لتفكيرنا ولان هذه النقطة الأساسية لم تعط حتى الآن الاهتمام الذي تستحقه، بل بقيت مجهولة من الكثيرين، كان لا بدّ، حرصا على المستقبل وسلامة الاتجاه، من الإشارة الصريحة الى ذلك، والتتمـّة على الأجيال البعثية الصّاعدة.
ان هذه النظرة، وهذا الموقف من التراث الذي أعلناه قبل أربع وثلاثين سنة، لم يكن موقفا تفسيريّا للماضي بقدر ما كان موقفا ثوريا من الحاضر ورؤية للمستقبل. ولقد حرصنا دوما منذ بداية الحزب، وانطلاقا من حقائق نفسية معروفة، على تجنيب الثورة العربية، ما استطعنا الى ذلك سبيلا، الأمراض الخطيرة التي أصابت ثورات غيرها، فمسخت إنسانية المبادئ في بعضها، وكانت سببا في فشل وانهيار بعضها الآخر.
فاستلهام التجربة الخالدة في حياة الأمة العربية إنما يعني استلهام الإبداع والدوافع والقيم الإنسانية العميقة، القيم الثورية التي لا تخول الأمة العربية حقوقا وامتيازات بقدر ما تحمّل ثورتها المعاصرة مسؤولية كبرى، وواجبات عالية، نحو نفسها ونحو الإنسانية. انه تأصيل لفكر الحزب وليس تراجعا عن تقدميته ونهجه العلمي أو عن سياسته تجاه حلفائه التقدميين في الداخل والخارج.
يا جماهير شعبنا العربي
أيتها الطلائع الثورية
لاقت حركة البعث منذ نشوئها الارتياح والتجاوب العميق من الجماهير العربية، لذلك فإنها تعرّضت، وهي ما تزال تنتظم العدد القليل ممن كانوا يأتونها فردا بعد فرد، الى مقاومة شرسة وتشكيك وتجريح من فئات واسعة من السياسيين المتزَعـّمِين وأعوانهم، ومن أكثرية المثقفين الذين لم يرق لهم ان يروا الثقافة تتحول الى نضال.
ثم لما أصبح لها بعض الشأن والتأثير، وبدء التفاعل بينها وبين جماهير الطلبة يتحول الى جسر يصلها بالفئات الشعبية التي تجاوبت مع الدعوة والتقطت بغريزتها الصافية جوهر الأفكار التي كانت مثار جدل وإنكار من قبل أدعياء الثقافة والفكر، تنبه لها الاستعمار وأعوانه من السياسيين والرجعيين والمتسترين بالدين، فاستُعملت في محاربتها جميع الأسلحة دون تورع أو شرف.
ولكن مقومات الحياة في الحركة، كانت أقوى من كل المصاعب والعقبات، وأقوى من العثرات التي كانت تصاب بها من ذاتها، ومن داخلها، والتي كانت كافية لإنهاء حركة غير أصيلة، لأنها كانت تستمد قوتها من الأمة ومن صعود الأمة واندفاعة نهضتها.
لقد امتلك الحزب حسا واقعيا جعله يحرص دوما على ان يكون حركة ثورية نضالية تقوم على الفكر، لا مدرسة فكرية تبشر بالثورة والنضال، وهذا ما يفسر كيف ان هذه الحركة لم تبق في منأى عن بعض أمراض المجتمع الذي تصدت لقيادته ومعالجة مشكلاته، كما انه ينبئ عن المعاناة الداخلية المُمِضّة التي تعيشها الحركة في أعماقها، والتي يهون ويصغر أمامها كل ما يصيبها من خارجها، ولكنه قدرها الذي آمنت به وظلت أمينة له.
وما كان لهذا الحديث الآن مجال لولا أننا نعتبر الظروف الراهنة من أقسى وأصعب ما مرّ على الأمة العربية، وبالتالي فان المناسبة صالحة لكي تقال الكلمة الناصحة المغموسة بدم التجارب، لعلها تنفع الصادقين.
لتجربة حزب البعث خصوصية، ان هي أهملت أو تجوهلت، فان ذلك يعرض هذه الحركة الاساسية في مسيرة الثورة العربية لكثير من التشويه والانحراف، وهذه الخصوصية التي تميـّز بها الحزب: هي اقتران الموضوعي فيه بالذاتي في شكل وحدة عضوية، فلا يمكن فصل أفكار الحزب القومية والاشتراكية والديمقراطية عن العملية النفسية الداخلية التي تشكل هذه الخصوصية، ولقد أصبحت أفكار الحزب مشاعا للشعب العربي منذ عشرين عاما على الأقل، ولكن أياّ من القادة او الحركات لم يستطع ان يكون البديل للبعث، لأنهم اخذوا الأفكار كنتائج جاهزة ولم يدخلوا الى المعاناة الفكرية والنفسية والأخلاقية التي ولدتها. فالأفكار قد تكون ذات قيمة وتأثير، ولكنها لا تصبح فكرا موحدا خلاقا يلد حركة حية إلا بتلك المعاناة التي لا تـُفتعل، ولا تـُقلد، ولا تستعار.
لقد ارتبطت حركة البعث بالجماهير الشعبية الكادحة ارتباطا مصيريا عميقا متعدد الأسباب والعوامل. فبالإضافة الى القناعة العقائدية الراسخة بان أي هدف من أهداف الثورة العربية المعاصرة لا يمكن ان يتحقق إلا بنضال الجماهير الواسعة، فلا التحرر من الاستعمار والصهيونية، ولا تحقيق الوحدة العربية، ولا بناء الاشتراكية يمكن ان يقوم إلا على هذا النضال الجماهيري. فان ارتباط حركة البعث بالجماهير الكادحة هو الذي يحصنها من عدة أمراض فتاكة يفرزها مجتمعنا نتيجة للتخلف الحضاري والضعف الثقافي، وخاصة في ظل التجزئة. لان الجماهير الكادحة هي وحدها القادرة بما تمتلكه من قدرة على الصبر والصمود، وبما تمتلكه من حس نقدي أصيل، وبما تختزنه من عبقرية وإبداع، على فرض التصحيح من جهة، وعلى رفد الحركة الثورية بأدواتها الثورية من جهة ثانية.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العربية
ثلاثون عاما مرّت من عمر الحزب، ومن عمر الأمة، ومن عمر المناضلين، وقد يصاب المناضل بالغرور، او باليأس إذا لم ير إلا نفسه وتاريخ نضاله. ولكنه عندما ينظر الى نفسه ونضاله كجزء من حركة أوسع منه وأبقى، فانه عندئذ يقترب من النظرة الموضوعية ومن التوازن النفسي.
كذلك الحزب إذا حصر نظره في نفسه، فانه يتعرض للمحاذير ذاتها، اما إذا رجع لأصل مهمته، ودوافع ظهوره الى الوجود، وتذكر انه ليس إلا نتاجا لأمته ولحظة من تاريخها، ومحاولة للتعبير عن حاجاتها وإرادتها، وأنه الفرع وهي الأصل، فانه كذلك يحافظ على موضوعيته وتوازنه.
وفي هذا الظرف بالذات ما احرانا ان نتجنب المرضين الخطيرين: الغرور واليأس.
لا يفرحنا او يدفعنا الى التباهي أن نكون وحدنا على حق، وأن نرى الآخرين يسيرون في طريق الضلال والانحراف، بل ان ذلك مدعاة ألم لنا ودافع الى مطالبة أنفسنا بالمزيد من النضال، والتضحية، والمزيد من الموضوعية والانفتاح والحوار مع القوى التقدمية والقومية الأخرى، والعمل المثابر والدءوب معها وحثها على ضرورة التنسيق، لمواجهة الردة الرجعية، الاستعمارية المتمثلة في “الوحدة المضادة”، التي لا ينجح في مواجهتها إلا تجمع القوى الوحدوية وتضامنها الدفاعي والهجومي.
ونحن نرى انه من الطبيعي في أوضاع التجزئة الراهنة ان تتعدد التجارب الثورية في المجتمع العربي وتتنوّع. وننظر إليها كأنها تجربة واحدة متعددة الجوانب متكاملة الأجزاء، وإنها مكملة لتجربة الحزب لا منافسة له، ومن واجبها ان تتكامل وتتفاعل في سبيل تعزيز وحدة النضال ونضال الوحدة، لأنه من غير الطبيعي وفي منتهى الشذوذ ان تكون هذه التجارب مغلقة بعضها على بعض فلا تستفيد إحداها من التجارب الأخرى ولا تفيدها.
ولا يوهن من عزيمتنا ان نرى مظاهر التنكر والتآمر ومحاولات العزل والحصار، فحزب البعث وُجد لمثل هذه الظروف العصيبة. فقد صهرته التجارب والمحن، وضرب جذوره قوية عميقة في الأرض العربية، وربط مصيره بمصير الجماهير الكادحة على امتداد الوطن العربي، وهي القوة الأكيدة، بل القوة الوحيدة صانعة التاريخ والمستقبل.
لقد نبذنا التعصب بكل أنواعه، والغرور، والاستعلاء وضيق النظرة، وضيق الأفق، منذ ان اخترنا طريق البعث طريقا للثورة، فنحن، منفتحون على العالم وحضارته بل حضاراته، مقدرون حاجتنا الى الأخذ والاقتباس، ولكننا في الوقت نفسه نشعر بالقدرة وبالحاجة الى العطاء، وأننا نستطيع ان نضيف الى حضارة العالم شيئا جديدا وشيئا ثمينا، وان لنا شخصيتنا القومية المميزة وهي طريقنا الى الإنسانية، وان لنا خصوصيتنا وهي إسهامنا في إغناء التراث الثوري والحضاري في العالم.
بل إننا نخشى التعصب ونحاربه، ولقد اصطدمنا منذ بداية الطريق بتعصب اليمين المتخلف، وتعصب اليسار المتحجر، واضطررنا الى الدفاع عن حرية اقتناعنا وشق طريقنا الخاص بالمشقة والكفاح والايمان ضد الذين كانوا يدّعون امتلاك الحقيقة واحتكارها.
وبعد ان ثبتنا حقنا في حرية اختيار الطريق الى الثورة، وفي حرية فهم ماضينا وتراثنا، لم نعد نعتبر ان ثمة مشكلة تقوم بيننا وبين الذين يلتقون معنا في الأهداف كلها او بعضها، ويختلفون عنا في طريق الوصول الى تلك الأهداف إذا كانوا يحترمون حرية اختيارنا وخصوصية طريقنا.
نحن لسنا ضيقي الفكر حتى نعتبر ان الثورات التي قامت منذ بداية هذا القرن ضد الاستغلال والظلم والتخلف، وشملت بلدانا واسعة وكتلا بشرية ضخمة، وهي تقيم الآن أنظمة ودولا تحتل المكان الأول من حيث القوة المادية والأدبية، لها التأثير الكبير في السياسة الدولية، وتقف الى جانب حرية الشعوب واستقلالها، لسنا ضيقي الفكر حتى ننكر على هذه الثورات وأنظمتها وشعوبها فضلها ومكانتها، كل ما في الأمر أننا اخترنا طريقنا الخاص وأيدتنا الوقائع والتطورات التي طرأت على العالم وعلى هذه الثورات بالذات، إذ أنها انتهت الى إقرار تعدد الطرق الموصلة الى الاشتراكية.
إننا لا نساوي بين الأصدقاء والأعداء، بين الرجعيين والتقدميين، بين العملاء والذين يجتهدون في الرأي.
أيها الرفاق، المناضلون
يا جماهير أمتنا العربية
ان الأعوام الثلاثين الأخيرة التي مرت على الوطن العربي مليئة بالدروس والعبر. فقد بدأت بضياع فلسطين، ولكن الهزة العنيفة التي أوقعها ذلك الحدث في الضمير العربي فجّرت العديد من المحاولات الثورية. وكان أهمها ثورة تموز في مصر التي بتفاعلها مع نضال حزب البعث في أقطار المشرق العربي، استطاعت ان ترد على الهزيمة بجملة مواقف وانتصارات تـُوّجت بقيام دولة الوحدة بين مصر وسورية، بعد قيام دولة الاغتصاب الصهيوني بعشر سنوات، وكان تجاوب الجماهير العربية من المحيط الى الخليج مع تلك البداية الوحدوية معبرا عن الوعي التاريخي لهذه الجماهير وحِسّها العميق، وإدراكها ان الجواب الوحيد على الاستعمار والصهيونية، هو الوحدة.
وبدلا من ان تنمو تلك البداية وتتسع، انكمشت واعتلت وسهل على الاستعمار والصهيونية والرجعية ضربها، فظهر تخلف القيادات، وتخلف أساليبها في الحكم، وخطأ تصورها ونقص ثقافتها، لأنها لم تعرف كيف تحافظ على تلك الوحدة الصغيرة لكي تطورها فيما بعد، في حين ان الجماهير لم تبخل بعطاء أو تضحية.
لقد كان من المفروض بعد الانفصال ان تلتقي القيادات العربية لتبحث معا أسباب هذا الفشل الأول، ولكن بدلا من ذلك، استمرت الأخطاء والأساليب الضارة والتصورات الناقصة والثقافات المسطحة، وازدادت الأوضاع سوءا وترديا، لان طبيعة التجزئة تشجع هذه النواقص والأمراض، بينما من أهم فوائد الوحدة رفع المستوى القيادي العربي، ورفع مستوى التخطيط للقضية القومية.
وكانت حرب حزيران والهزيمة التي أعقبتها نتيجة منطقية لتلك الحالة من التمزق والتناحر وضيق الأفق عند الحكام العرب. وكما ان نكسة الانفصال لم تعط كل الفوائد النقدية التي كان مؤملا ان تعطيها من أجل مراجعة الأخطاء ورفع الشروط السليمة للخروج من الانفصال الى الوحدة، فسرعان ما حصل الانتقال. ولكن من الانفصال الى الانفصال، ومن صف النضال الوطني الى كراسي الحكم، دون ان يتوافر الحد الأدنى من شروط الفكر والثقافة والتجربة والممارسة للاضطلاع بمسؤوليات الحكم في تلك الظروف العصيبة. كذلك لم يترك لهزيمة حزيران ان تثير كل ما تستطيع إثارته من مراجعة ونقد ذاتي وتصحيح جذري لذلك المستوى القيادي، فكل تصحيح او تقدم او ارتقاء دون مستوى الوحدة، والعمل الوحدوي والتفكير الوحدوي، يقصر عن النجاح حتى على المستويات القطرية، ويعجز عن الاستمرار طويلا، لان الوحدة هي التي تستطيع ان تقف في وجه الاستعمار والصهيونية وتنتزع منهما كامل الحقوق العربية في فلسطين وكل ارض عربية. وفي غياب الوحدة يبقى كل استقلال مُهدَّدا، بل ملغوما بألغام كثيرة يفجرها الاستعمار في الأوقات التي يختارها.
بعد زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، لم تعد الوحدة حلما يداعب الخيال وأملا يرتجى لجمع الشمل ومضاعفة القوة، بل أصبحت تعني البقاء والدفاع عن المصير. لقد أصبحت الهدف القومي الرئيسي، وأكاد أقول: الوحيد الذي يتضمن تحقيقه تحقيق كل الأهداف الأخرى. فالوحدة هي الثورة، والثورة مطالبة لكي تثبت صدقها ان تكون ثورة الوحدة على وثنية القطريات، أي ثورة التحرير. لان كل كلام عن معركة التحرير دون وحدة هو لغو أو خداع.
لقد أدرك الاستعمار والصهيونية هذه الحقيقة أكثر من كثيرين من العرب، ولذلك فإنهما يحاربان الوحدة الثورية بكل ما أوتيا من علم ووسائل وقوة، ويدعمان التجزئة الحالية التي استبدل بمفهومها مفهوم جديد هو “القومية القطرية” الملقحة ضد الوحدة، بان تلحق بها صفة العربية، فهي القطرية المصرية العربية.. والسورية العربية.. الخ. وهذه القومية الجديدة هي في الواقع قومية الفئات والطبقات الحاكمة التي تبتعد عن الوحدة الحقيقية.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العربية
لقد تآمر الاستعمار والصهيونية على أول تطبيق للوحدة في تجربة عام 1958 واستغلوا الثغرات والأخطاء التي ظهرت في هذا التطبيق، واستطاعوا، مع الرجعية العربية ومن خلالها ان يضربوها ضربة أرادوها ان تكون قاصمة ونهائية ورادعة، وركزوا تآمرهم على القطر الأصغر، والأسهل تناولا، وهو سورية، لان سورية كانت قد تنازلت في سبيل الوحدة عن كل شيء، عن شخصيتها الدولية وحركتها الشعبية المتقدمة، ودورها القيادي العريق، دون ان يؤدي هذا التنازل الى اغتناء الكيان الوحدوي الجديد. لذلك لم يكن الانفصال مجرد عودة بسورية الى ما قبل الوحدة. بل كان وضعا جديدا أصبحت فيه سورية على درجة من الضعف، غير قادرة معها على التغلب على المؤامرة الاستعمارية التي أوجدت لها ركائز داخل البلاد في بعض الأجهزة السياسية والعسكرية، فجعلت من الانفصال وضعا معاديا للوحدة بشكل هجومي، محركا لشتى النوازع والمصالح والعصبيات المضادة للوحدة، كالطائفية والعشائرية.
وعلى أثر نجاح حزب البعث في العراق في ثورته المجيدة في الرابع عشر من رمضان عام 1963، سقط حكم الانفصال في سورية دون أية مقاومة، لكي يبقى جوهر الانفصال قائما، وراسخا في العهود المقبلة. ولكي تدخل سورية في دوامة ليس منها مخرج. وقد أصاب حزب البعث من جراء التطبيق المشوه لوحدة عام 1958 ما أصاب القطر السوري من تمزق وضعف. فلم يستطع ان يسيطر على الظروف الجديدة المعقدة، ظروف استلام السلطة في ظل التسلط العسكري عليه. وعندما تمسك بمبدئيته ورفض التشويه والتزوير، أسقط بقوة السلاح.
وكان ذلك مأساة بطولية للمئات من مناضليه الذين استشهدوا، أو لاقوا ألوان العذاب في سجون القطريين المزورين، ولكن بالنسبة للحزب فقد سلمت المبادئ وانتصرت الهوية القومية الوحدوية للبعث، وهذا ما أفصحت عنه بعد ذلك ثورة السابع عشر- الثلاثين من تموز في العراق بتميـّزها الواضح الحاسم عن الخليط الغريب المشبوه الذي ظل يحكم سورية حتى اليوم، منتحلا اسم الحزب، والذي أسفر عن وجهه الحقيقي ودوره الضالع في التآمر على البعث وعلى القضية الفلسطينية وعلى الأمة العربية من 23 شباط إلى حرب حزيران الى حرب لبنان.
ان حزب البعث الذي شهد النور في ربوع سورية ونما فكرا ونضالا في أجوائها العربية الحرة الصافية وتقاليدها القومية الوحدوية والذي ضحى بالعديد من الشهداء، ولا يزال المئات من مناضليه الصامدين يقاسون العذاب في سجون سلطة دمشق، يعرف ما لسورية عليه من حق. ولكنه في الوقت نفسه يؤمن ان مسؤولية إنقاذ سورية ليست مسؤوليته وحده، بل هي مسؤولية عربية، مسؤولية الجماهير والقوى التقدمية العربية. وان لسورية في الظروف المصيرية دورا أساسيا نابعا من موقعها في مواجهة العدو الصهيوني، ومن تاريخها الحديث كحاملة لمشعل الدعوة القومية الوحدوية. وقد استفرد الأعداء الاستعماريون والصهاينة هذا القطر بشكل أدى تركيز التآمر عليه الى ان ينقلب دور سورية القومي الى عكسه، فبعد ان كانت سورية تدفع القطر المصري في طريق الوحدة، أمسى النظام فيها يسهل له طريق الاستسلام والصلح مع العدو. وبعد ان كانت سورية تلتقي مع مصر على طريق مقاومة الاستعمار وأحلافه، صار اللقاء في أحضان الامبريالية كمقدمة للتلاقي مع الكيان الصهيوني، وأمست المقاومة الفلسطينية ومناضلو الحركة الوطنية في لبنان يموتون برصاص السلطة السورية.
لقد انكشفت حقيقة هذا النظام للجماهير العربية داخل القطر السوري، وعلى امتداد الساحة العربية، وحكمت عليه حكمها الأخير. ولن تنفعه بعد اليوم محاولاته الخادعة للتظاهر بادوار مضللة عن حقيقته كأداة بيد المخططات الامبريالية.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العظيمة
ان تصورنا للمرحلة التاريخية كان دوما انها مرحلة انبعاث وصعود بالنسبة للأمة العربية وهذا يعني، ان النكسات والتراجعات وفترات الجمود والتردي ليست إلا أعراضا زائلة وفترات استثنائية عابرة، على طريق النهضة الطويل الصاعد، وأنها في أكثرها ردود فعل وأعمال دفاعية من قوى التخلف المندحرة، وخطط تآمرية من أعداء الأمة، الاستعماريين والصهاينة يستغلون فيها الثغرات ونقاط الضعف في حركة الثورة العربية وفي المجتمع القديم الذي لم تترسّخ فيه بعد، القيم الجديدة، والثورة العربية تنمو وتتقدم بمنطق جدلي، أي انها تتفاعل وتتعامل مع الظواهر السلبية التي تعترض مسيرتها من الداخل أو من الخارج، بشكل يساعدها على تسريع عملية التصحيح والتكامل والتوحيد.
ان إدراك هذه الحقيقة هو الذي يميز الثوريين عن غيرهم، فالثوريون يوظفون هذه الحقيقة في تخطيطهم ويدخلونها في الحساب حتى في نضالهم اليومي.
وهذا ما يفسر كيف أننا نشاهد الى جانب مظاهر التراجع والتردي، مظاهر للنمو والتقدم. فقد كانت أول ثمرة ثورية طيبة لهزيمة الخامس من حزيران، ثورة السابع عشر من تموز المجيدة في العراق التي فجرها حزب البعث العربي الاشتراكي، فكانت ثأرا للهزيمة القومية، كما كانت ثأرا وردًا حاسما على الردة الشباطية الحزبية التي وقعت في القطر السوري.
كذلك حصلت ولادة ثورية في القطر اللبناني لم تأخذ شكل الانقلاب المفاجئ، بل التفاعل البطيء العميق مع النكسة القومية، وأخذ لبنان يوما بعد يوم، وسنة بعد سنة، يصبح متنفس الضمير العربي الجريح، والفكر العربي الثائر، ومسرحا للنضال الشعبي الملتزم بالعروبة و المتوجه نحو فلسطين.
وفي حين يظهر الاستعمار والصهيونية والرجعية بأنهم هم المهاجمون المبادرون، يمكن ان تظهر لنا النظرة المتعمقة الجانب الآخر من الصورة، حيث تبدو تحركات الأعداء كهجوم معاكس على ذلك التفجر في القوة العربية التي ان وضعت العراقيل في طريقها من ناحية، فاجأت العالم بسيلها الجارف يصب في ناحية أخرى.
إنّ الصورة التي تبدو قاتمة للوضع العربي الراهن لا تخيفنا. لأننا نؤمن بان الأمة العربية في طور انبعاث تاريخي، وان مظاهر التردي هي مؤقتة وزائلة، ويقابلها، في الوقت نفسه، مظاهر للتقدم والثورة لا يجوز إهمالها أو إسقاطها من حساب المناضلين.
فما حدث في لبنان، ليس في النتيجة، سوى مظهر من مظاهر التقدم على طريق الثورة العربية لأنه بلور قضية الصراع العربي الصهيوني، وقضية الثورة العربية في لبنان. لقد كرست الأحداث الأخيرة عروبة لبنان، كما كرست شعبنا في لبنان أداة فعالة من أدوات الثورة العربية، ولابد للجماهير التي سارت وراء القيادات الانعزالية ان تكتشف خديعتها الكبرى عندما تسقط المؤامرة ويعود لهذا القطر المناضل وجهه العربي.
وما الانتفاضة الشعبية الشاملة التي حدثت في مصر، في الآونة الأخيرة، سوى مظهر آخر من مظاهر التقدم على طريق الثورة العربية لان شعبنا العربي في مصر استعاد دوره الاجتماعي والوطني والوحدوي، رغم الردة السياسية والاقتصادية والقومية التي حدثت في هذا القطر المناضل. لقد أصبح الشعب العربي في مصر سيد نفسه، لأنه تخلص من الوصاية التي فرضت عليه سنين طويلة. وهو إذ يدرك الآن العلاقة بين وضعه وبين المصير العربي، فإنما يفعل ذلك نتيجة لمعاناته ولشعوره بالمسؤولية القومية، وتمسكه بدور مصر العربي.
اما ما قدمته وتقدمه الجماهير الفلسطينية من تضحيات وبطولات خارقة، في مواجهة العدو الصهيوني في الأرض المحتلة، أو في مواجهة التآمر والغدر على ارض لبنان، ليأتي في مقامة العوامل الايجابية التي تدعو الى التفاؤل والثقة بالمستقبل، وان هذا المستوى من الوعي الثوري والصمود والاستبسال عند هذه الجماهير ليشكل الضمانة الأولى لاستمرار المقاومة الفلسطينية، ولمحافظتها على دورها الثوري. وهو في الوقت ذاته نداء الى الجماهير العربية لتتحمل مسؤوليتها في إحباط مؤامرة التسوية الاستسلامية والتصدي للضالعين فيها.
ان الاستعمار والصهيونية يركزان هجومهما على وطننا العربي، وبدرجة عالية من الإعداد، بسبب عاملين هما:
أولا– الوضع العالمي الذي يشهد الآن فترة انتعاش وتفوق مؤقت للأنظمة الرأسمالية الاستعمارية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية والذي يعبر عنه بالتفوق التكنولوجي، وبأساليب التآمر.
الثاني– أهمية الوطن العربي الإستراتيجية وأهمية الثروات النفطية الموجودة فيه وإدراك الاستعمار والصهيونية لإمكانات التقدم والثورة الكامنة في الأمة العربية.
إن المخطط الاستعماري الصهيوني، استباق لهذا التقدم المحتوم على المدى البعيد بقصد عرقلة سيره وتأخيره، والأمر الذي يلاحظ بسهولة، ان الاستعمار قد طور أساليبه تطويرا كبيرا، بينما ظلت الثورة العربية في حالة تجمد وانكفاء، مما أتاح للاستعمار ان ينازلها في الساحات والأوقات والأساليب التي يختارها هو.
المطلوب، هو أن يصبح اختيار الساحة والوقت والأسلوب بيد الثورة، وهذا يتطلب توافر عاملين:
1 – النضال الجماهيري الواسع.
2 – النضال العربي الموحد الذي يشمل الوطن العربي، أو معظم ساحاته.
وهذان العاملان، يضمنان دوما، الرجحان والتفوق للثورة العربية على أعدائها، فلا النضال القطري قادر ان يتكافأ مع قوى الأعداء، ولا الوحدة بدون نضال تستطيع ان تغير شيئا في ميزان القوى، ولا الاستسلام الى ظاهرة التطور السلمي والانخداع بنتائجها المحدودة والسطحية، كفيل بأن يبعد عنا الأعداء أو ان يوصل الى تحقيق الأهداف.
ان مهمة التصحيح والقضاء على مظاهر التردي، هي مهمة الأحزاب والحركات الثورية في الوطن العربي، وفي مقدمتها حزبنا الذي تصدى لهذه المظاهر منذ نشأته، وهي كذلك مهمة الأنظمة العربية التقدمية، بل ان مقياس تقدميتها، يجب ان يحسب على هذا الأساس، وهي أيضا مهمة الجماهير العربية التي ازداد وعيها، ونضجت تجربتها، وأثبتت قدرتها النضالية خلال حرب تشرين، و خلال الحرب اللبنانية، وخلال الهبّة الجماهيرية في مصر، وخلال مقاومتها للنظام السوري، وخلال عطائها الفذ والرائع للثورة الفلسطينية.
إن نجاح هذه المهمة، يتوقف آخر الأمر، على مدى وعي الثورة العربية لذاتها وللظروف والقوى المحيطة بها. كما يتوقف على النتيجة العملية لهذا الوعي: وهي قدرة الثورة على السيطرة على الظروف والتخطيط للمستقبل المستوعب تخطيط الأعداء، فالثورة هي دوما مهاجمة، بمعنى انها تفهم المستقبل وتسهم الى حد ما في خلقه، فتقدر ما يحتوي عليه من إمكانات مساعدة أو معوقات، وتعمل وتتصرف بشكل يمكنها من استغلال الإمكانات المساعدة، واتقاء المعوقات أو تذليلها والتغلب عليها.
وإذا كان الحزب قد اعتبر دوما الوحدة مرادفة للثورة، فلان الوحدة تتيح، حتى قبل ان تتحقق، أسلوبا في التفكير ومستوى في التخطيط، وغنىً في إمكانات النضال ووسائل المواجهة، مما لا يتيحه أي منطلق آخر.
وسوف يبقى أعداء الثورة العربية، الاستعمار والصهيونية والرجعية في موقع الدفاع ورد الفعل، حتى لو استطاعوا، أحيانا، ان يتفوقوا في وضع الخطط الهجومية وأخذ المبادرة لصالحهم، فالثورة بالإضافة الى كل الوسائل والقوى التي تستطيع تعبئتها في الحاضر، إنما تستند أيضا الى قوتين صاعدتين غنيتين بالمفاجآت: قوة التاريخ العربي، وقوة التاريخ الإنساني. التاريخ العربي في تقدم، وكذلك التاريخ الإنساني، ونحن في مرحلة توافق وانسجام كبيرين بين هاتين القوتين.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العظيمة
ان من المظاهر المهمة التي تميز المرحلة التاريخية، التي هي مرحلة انبعاث وصعود بالنسبة للأمة العربية، ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة قبل اثنتي عشرة سنة، كردّ على تهرب الأنظمة العربية من معركة تحرير فلسطين وارتدادها عن طريق الوحدة، طريق التحرير، ولقد كان في تكوينها عنصران، سلبي وايجابي: اما السلبي فهو قطري ضيق ورد فعل على الأنظمة العربية التي كانت تتعامل مع قضية فلسطين تعاملا قطريا سلطويا استغلاليا، فكان جواب المقاومة على ذلك: قطرية بقطرية، واستغلال باستغلال، أي انها تحاول ان تستفيد من كل الأنظمة دون تفريق بين رجعي وتقدمي، كما انها جعلت هدفها امتلاك السلطة هي أيضا.. أي الحصول على دولة فلسطينية.
وأما العنصر الايجابي فيها فهو العنصر الثوري الذي يلتقي مع الثورة العربية، وأهدافها التحررية التقدمية الوحدوية، لأنها تُنازل الاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح والعمل الفدائي، وهو ارقي أسلوب في المواجهة الثورية.
وقد استعملت قيادة المقاومة هذين العنصرين، محتفظة بالتوازن بينهما حينا، ومرجحة الأول، القطري السياسي على الثاني حينا آخر. وهذا الترجيح للجانب القطري السياسي، هو الذي يهدد بالخطر الأكيد ثورية المقاومة وإمكانية استمرارها وهناك خلط وعدم تمييز بين القطرية والهوية الفلسطينية، فالهوية الفلسطينية هوية قومية ايجابية مشروعة، تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار والصهيونية، وتكسب من خلالها التأييد العالمي. ولكن العالم الغربي المتحالف مع الصهيونية يحاول ان يجعل لهذا التأييد ثمنا باهظا وتثبيت قطرية الفلسطينيين، ومحاصرتهم فيها وعزلهم أو إبعادهم عن العلاقة المصيرية بالثورة العربية.
قناعتنا ان الواقع العربي ومنطق الثورة العربية يحتمان وجود المقاومة الفلسطينية، كضرورة تاريخية، ويعملان على إرجاعها الى دورها الثوري الطليعي كلما ابتعدت عنه تحت ضغط الظروف القاسية التي تحيطها بها أنظمة التسوية، أو نتيجة تراجع الوعي الثوري عند بعض قياداتها.
إن الحقيقة الموضوعية التي تـُقرِّرُ أن قضية فلسطين هي القضية المركزية في الثورة العربية، ترتب على المقاومة الفلسطينية واجبات ومسؤوليات، كما تعطيها حقوقا ودوراً طليعياً بارزاً. فكما ان الثورة العربية مسؤولة عن حماية المقاومة ورفدها بالعطاء النضالي المستمر، كذلك فالمقاومة مطالبة بان تبقي قضية فلسطين في مستواها التاريخي، الذي هو مستوى الأمة العربية ونهضتها المعاصرة، وأن يكون التعبير العملي عن ذلك مزيدا من الاقتراب والاندماج مع نضال الجماهير العربية الكادحة في سبيل أهدافها القومية.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العظيمة
إن هذه التجربة التي يقودها حزبنا في العراق منذ ثورة السابع عشر من تموز، هي تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي كله، بفروعه ومنظماته القومية في كل مكان. وتجربة البعث كله بماضيه وحاضره، وقاعدة لانطلاقه الى المستقبل بكل آماله وأهدافه القومية ومبادئه الأخلاقية والإنسانية، بل نستطيع القول بأنها لم تعد تنحصر في حزب البعث، فهي أيضا تجربة القوى الوطنية والتقدمية في العراق وفي الوطن العربي، وإنها بانجازاتها الكبيرة، وبالنسبة الى ظروف الواقع العربي وإمكاناته، تقدم نوعي في مسيرة الثورة العربية.
إن ما قدمه الشهداء من دماء عطرة، وما تحملته أجيال من مناضلي الحزب من الآلام والمتاعب ليهون امام هذه الحقيقة المشرقة: وهي ان البعث العربي الاشتراكي يقف اليوم في ظرف تاريخي مصيري، وعلى ارض قطر بأهمية العراق العربية والدولية، ليمثل مرة أخرى إرادة الأمة العربية في الصمود، وتمسكها بحقوقها ومبادئها وسلامة مستقبلها دون تراجع ولا تفريط، ولكي تبقي راية النضال العربي مرفوعة ومشعل المبادئ مضيئا ومشعا. وهذا الشرف الذي يؤول الى حزب البعث إن هو إلا ثمرة إيمان الحزب بوعي الجماهير الشعبية، وروحها النضالية الغنية المتجددة والتي كانت لها دوما الكلمة الأخيرة.
لقد استطاع حزبنا في العراق، نتيجة لارتباطه بالجماهير الكادحة، ان يكون التجربة الحزبية الوحيدة في الوطن العربي التي ضربت جذورها في الأرض وينتظرها مستقبل مديـد. لقد ساعدته ظروف العراق السياسية القاسية على امتداد ربع قرن على ان يبني نفسه البناء العقائدي والنضالي المتين، وصهرته السجون والعذابات والمحن، حتى أصبح أهلا لتحمل مسؤولية الحكم، ونجاح الحكم رهن بالحفاظ على الفضائل النضالية التي أهَّلت الحزب لهذا الدور القومي البارز.
ولذلك فاني عندما أتحدث عن حزبنا في هذا القطر المناضل، تهزني عاطفة المحبة العميقة، ويغمرني شعور بالاعتزاز والتقدير. فتاريخه ملحمة رائعة من الايمان والثبات والبطولة والتضحية، وحاضره مَحَـطّ لآمال المناضلين، ومشعل يبدد الظلام الذي يسود المنطقة.
إن الجماهير العربية الكادحة في أرجاء الوطن العربي، وهي تعيش ظروف الردة الرجعية الاستعمارية، وترى أبعاد المؤامرة التي تحاك ضد العراق محط آمال المناضلين العرب وأحرار العالم الثالث، لخنق صوته المعبر عن آلامها وتطلعاتها وإرادة الصمود فيها، تحيط الحكم الثوري في العراق بكل دعمها وتأييدها.
إن الطاقات النضالية التي يزخر بها هذا القطر المناضل، عماله وفلاحوه ونساؤه وجيشه الباسل، ومناضلوه في الجيش الشعبي، وشبيبته التي جعلت عيدها مقترنا بعيد تأسيس حزب الثورة العربية، وطلائعه الطلابية ومثقفوه الثوريون، وقواه الوطنية والقومية التقدمية المتحالفة.. ان هذه الطاقات الثورية، طاقات جماهيرنا المناضلة في هذا القطر مع جماهير امتنا العربية كفيلة برد التآمر على القوى الصامدة في الوطن العربي وعلى ثورتها في العراق. وكلما ازداد اعتماد القوى العربية على الجماهير وانطلقت من أطرها التقليدية الى مجال العمل القومي الخصب الفسيح على امتداد الأرض العربية، في جبهة قومية تقدمية واسعة، كلما سارعت في نقل حركة الثورة العربية من مواقع الدفاع الى مواقع الهجوم، والانقضاض على بؤر التخاذل والاستسلام والتآمر في الساحة العربية، التي تشكل قوى الثورة المضادة والتي تحاول عبثا ان تعترض مسيرة النهضة العربية وخطها الصاعد التاريخي.
يا جماهير أمتنا العظيمة
أيها الرفاق المناضلون
لقد حمل حزبكم أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبة.
وانه لشرف عظيم ان تتناقل الأجيال العربية المناضلة تلك الأمانة، كالراية في المعركة، حتى يرتفع علم الدولة العربية الواحدة، علم الوحدة والحرية والاشتراكية. وان إيماننا العميق بأمتنا، وثقتنا اللامحدودة بطاقات جماهيرنا المناضلة يمداننا في هذا الظرف المصيري الذي تمر فيه الذكرى الثلاثون لتأسيس حزبنا، حزب الثورة العربية، بالقوة والتصميم على الصمود امام كل التحديات التي تواجهها امتنا، لنصون كرامتها، ونحقق إرادتها، ونؤدي الأمانة التي نحملها بصدق وبشرف ورجولة. تحية الى شهداء حزبنا الأبرار، والى شهداء الأمة العربية في كل مكان من الأرض العربية.
تحية الى جميع الذين كان لهم شرف المساهمة في بناء هذا الحزب، وفي نضاله، وفي تحقيق انتصاراته والذود عنه في المحن والملمات.
تحية الى رفاقنا الذين يربضون في المعتقلات والسجون على امتداد الساحة العربية، وبخاصة سجون حكام دمشق.
تحية الى رفاقنا الأبطال الذين قاتلوا واستبسلوا وقدموا أغلى التضحيات دفاعا عن شرف العروبة في لبنان والذين ما زالوا يتصدون للمؤامرة الصهيونية الرجعية على جنوب لبنان.
تحية الى جماهير شعبنا الصامدة في الوطن المحتل.
تحية الى قوى الصمود والثورة في الوطن العربي.
تحية الى جماهير شعبنا في الوطن العربي وفي المهاجر.
تحية الى حلفاء الحزب من القوى الوطنية والقومية التقدمية، العاملة معه على تحقيق أهدافه الثورية.
تحية الى الحركات التقدمية وحركات التحرر الصديقة في العالم.
تحية الى الأجيال العربية الشابة الصاعدة، التي تحمل مشعل المستقبل العربي، والى شبيبتنا في هذا القطر في عيدها اليوم.
تحية حب وتقدير الى جماهير أمتنا العربية وعهدا على المضي في طريق النضال لتحقيق أهدافنا القومية.
(1) كلمة في السابع من نيسان عام 1977 لمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.
—————————
الثورة العربية في طريق النضج
أيها الرفاق الأعزاء(1)
أتمنى أن يكون هذا اللقاء عبارة عن حوار وتبادل رأي وتجربة بيني وبينكم، وأن يأخذ طابع البساطة والانفتاح والاقتراب من حياتنا القومية وحياتنا الواقعية بهمومها ومشاكلها سواء في الحزب أو في شتى طبقات الشعب. وقد سرني كثيرا أن أرى أن حزبنا أصبح متغلغلاً في كل ناحية من نواحي حياتنا الوطنية والقومية وأن أي لقاء في هذه المدرسة يعطينا صورة عن مجمل فعاليات هذا القطر ونشاطات وإنجازات ثورة الحزب فيه لتنوع الاختصاصات والمراكز التي شغلها الرفاق الذين يؤمّون هذه المدرسة…
فهي فرصة ثمينة أن نكّون فكرة عن كيفية سير الأمور ومختلف النشاطات وفي الوقت نفسه أن نعرف ما هي الأمور التي تقلقنا بالنسبة إلى المستقبل ما هي الآمال التي تحفزنا، ما هي تطلعاتنا المستقبلية البعيدة سواء بالنسبة لقطرنا العراقي أو بالنسبة لوطننا العربي الكبير؟
فقبل أن أستمع إلى أسئلتكم والى انطباعاتكم أحب أن أؤكد في هذه المناسبة بأننا نستطيع أن نقرر رغم صعوبة المهام ورغم العوائق الكثيرة التي يضعها التخلف في طريق الثورة، ورغم حراجة الظروف الخارجية المحيطة بالأمة العربية والمتآمرة على نهضتها ورغم مظاهر سلبية كثيرة تنتشر في وطننا الكبير، نستطيع أن نشعر بالاطمئنان وبالثقة دون غرور ودون استرخاء، نستطيع أن نشعر شعور اليقين بأننا وصلنا إلى حد من نضج التجربة، من وضوح النظرة، من عمق الصلة بالشعب، من نضج الممارسة، وصلنا الى حد نستطيع معه أن نواجه المستقبل سواء في هذا القطر أو على النطاق العربي الواسع بثقة بالنفس لم نعرفها في يوم من الأيام في الماضي، وبشعور بالقدرة وبالكفاءة وبأننا ماضون في تحقيق رسالتنا القومية رغم كل الصعاب، وأن هذه الحركة أصبحت في ضمير الأمة العربية تحتل مكاناً شرعياً لا يناقش أو يجادل فيه، وأنها الأمل دون أن نغمط غيرنا حقه، دون أن يعني ذلك الاستئثار والانفراد، ولكن هذا تقرير واقع بأنها الحركة العربية القومية الأساسية التي تتطلع إليها الجماهير العربية وهذا ليس شيئا للتفاخر وإنما هو مسؤولية كبيرة، إذا أمعنا فيه النظر فإنه في نفس الوقت الذي يلهمنا الحماسة والاندفاع، يلهمنا في الوقت نفسه شعوراً عميقاً بالمسؤولية ويرتب علينا قدراً كبيراً من التجرد ومن الزهد ومن الانقطاع لمهامنا القومية التي هي أسمى ما يقدر للإنسان أن يعمله في حياته. والآن أيها الرفاق أرجو أن نبدأ بسماع ما يعتلج في نفوسكم وفي أذهانكم من تساؤلات ومن استيضاحات لكي نتبادل فيها الرأي ولكي يكون حديثنا حديثاً حياً من الواقع لا درساً من الدروس.
**********
*طالما شعرنا بالتفاؤل الواثق ونحن نسترشد بكتابات الرفيق القائد المؤسس وتوجيهاته، وهذا ما دفعنا إبان النضال السلبي، وشحذ عزائمنا لكي نحقق النصر ثلاث مرات -مرتين في العراق ومرة في سوريا- رغم الهجمات الشرسة التي كنا نجابه بها من قبل الحكومات الغاشمة التي كانت تسير من قبل الاستعمار.
ورغم الافتقار إلى الوضوح الكامل لبعض جوانب الحياة القومية إلا أني أرى أن ما يجري في الوطن العربي إن هو إلا تطويق لحركتنا التاريخية، أرجو التفضل بإعطاء فكرة حول كيفية كسر هذا الطوق والانطلاق من موقف الدفاع إلى الهجوم. وبماذا ينصح رفيقنا القائد المؤسس الشباب البعثي الذي اتسع وتغلغل بين طبقات الشعب ليبقى في الطليعة ويحقق رسالة الأمة؟.
–أيها الرفاق
لنعد بفكرنا إلى الأوليات، إلى دوافع نشوء حركتنا، كيف فكرت هذه الحركة بأنها تستطيع أن تحقق نهضة أصيلة لأمتنا، ولو أن ذلك يتطلب نضالاً طويلاً وزمناً طويلاً. كيف وثقت حركتنا من قدرتها على الاضطلاع بهذه المهمة رغم معرفتها بوجود الأعداء الأقوياء الذين يعملون بكل الوسائل للحيلولة دون هذه النهضة ودون نجاحها لأنهم يعرفون أن نهضة الأمة العربية تنهي استغلالهم، تنهي سيطرتهم وقد تنهي الاستغلال والاستعمار على نطاق أوسع من النطاق العربي؟؟
الفكرة المضيئة التي أنارت الطريق من البداية كانت بهذه البساطة بأننا نحن في وضع متخلف ومحكوم من قبل المستعمرين ومستغل ومجزأ. لأن القسم الأكبر من إمكانات شعبنا غير مستغلة، مخنوقة لا يسمح لها بأن تنطلق بأن تتحقق أو أن بعضها يستغل ضد مصلحة الأمة بدلاً من أن يكون في خدمة الأمة وفي خدمة نهضتها. فإذن ما هي مهمة الثورة أو الحركة الثورية؟ هي أن تسعى دوماً لكي تهيأ الظروف والشروط التي تمكن شعبنا العربي في كلّ أقطاره وجماهيرنا الواسعة من أن تحقق إمكاناتها، تنتج، تناضل، تفكر، تستخدم كل مواهبها كما هي الحال في كل شعب راق.. معيار الرقي الحقيقي هو عندما يكون مجموع الشعب أو على الأقل الأكثرية الكبيرة من الشعب في حالة انطلاق وإنتاج لا تحد من قدراته قيود مصطنعة، عراقيل مصطنعة، سواء نتيجة التخلف والعادات السقيمة والجهل وتحكم طبقات مستغلة ترى من مصلحتها بقاء الجهل وبقاء الجمود والانكماش، أو بفعل مؤثرات خارجية أجنبية، احتلال أجنبي أو ضغط أجنبي أو استغلال بأي شكل من الأشكال يأتي من الخارج من وضع هذه العوائق، هذه المعوقات والحدود والقيود المصطنعة ليبقى الشعب متخلفاً ضعيفاً وليبقى استعداده واستثمار ثروات أرضه واستغلال مواقع بلاده ليبقى محصورا بالقوى والدول الكبيرة.
فالفكرة الأساسية الهادية هي هذه دوماً.. هذه لا يطرأ عليها هرم أو قدم ولا تصلح لزمن ثم لا تعود صالحة لزمن آخر، هذه هي من صميم التفكير الثوري هو أن نعود دوماً إلى واقعنا ونرى، نبحث، نشاهد، إلى أي حد نجحنا في تحطيم القيود التي تعطل نشاط وإبداع جماهيرنا الشعبية، شعبنا بصورة عامة، هل هو وجد الشروط الملائمة والمساعدة على أن يعطي أقصى جهوده وأحسن ما يستطيعه وأحسن وأعلى قدراته أم أن كثيراً من هذه الإمكانات والقدرات يظل مخنوقا، يظل معطلاً بسبب ظروف المجتمع؟ ومهمة الثورة، مهمة الحركة الثورية أي الحزب، مهمة الحزب، دوما أن يعود إلى هذا المقياس، أن يرى ما هي الوسائل التي يستطيع بها أن يحقق أكبر قدر من الانطلاق بطاقات وإمكانات الشعب.
وعندما أقول ذلك يجب أن أكمل هذه الفكرة أو أن أزيدها وضوحاً بأن أقول بان الإنسان يختلف عن الآلة، الإنسان هو جسد وروح وعقل ومشاعر، فعندما نقول الحركة الثورية مطلوب منها بنضالها وبفكرها الثوري ونضالها الدؤوب أن تزيل من طريق الشعب المعوقات التي تمنع انطلاقة مواهب الشعب وقدرات الشعب، فمعنى ذلك أنه ليس فقط القدرات المتعلقة بما هو شبه آلي في الإنسان، أي أنه يستطيع أن يعمل بيده، أن ينتج، أن يمارس عملاً معينا، أن يتقن وظيفة ما أو فناً ما، كلا هذا لا يكفي، المطلوب هو ان نحقق الحرية والانطلاق والتفتح بإنسانية الإنسان العربي، لكل المواهب في شعبنا العربي لأن أهم قوة يستند إليها الشعب في محاربة الأعداء، في محاربة التخلف، في مسابقة الزمن من أجل تحقيق التقدم هو الدافع الذاتي. أهم قوة هي الدافع الذاتي، ليست القوة التي تطلب منه، أو تفرض عليه، ليست القدرة التي يمكن أن يعطيها بقدر ما هي الاندفاع الذاتي العميق نتيجة شعوره، بوجوده، شعوره بأنه إنسان، وإنسان عربي وموجود في هذه الحياة وليس وجوده عبثاً وأنه منتسب إلى شعب، إلى أمة لها تاريخ، ويجب أن يبقى لها حاضر ومستقبل، لها رسالة، لها مميزات مثل كل الأمم الراقية التي تركت آثاراً في تاريخ الإنسانية والتي تقرر مصير الإنسانية، فهذا الشعور، هذا الوعي العميق، يجب أن يكون رائدنا دوماً. إننا إذن في مواجهة هذه المؤامرة الواسعة، المؤامرة الاستعمارية الصهيونية والتي تجد في داخل المجتمع العربي والوطن العربي ركائزها وحلفاء وعملاء تستند إليهم لالتقاء المصالح بين القوى الاستعمارية والصهيونية وبين هذه الفئات والأنظمة المستغلة التي لا تزال في كثير من الأقطار العربية أو في نواحي المجتمع العربي.. كيف ترد هذه المؤامرات الواسعة الشرسة؟ إذن بإطلاق إمكانات شعبنا بكل نواحيها وبصورة خاصة بأن ننمي في الشعب الدافع الذاتي.. الشعور بالمسؤولية، الشعور بأنه حي وأن له حق الحياة وعندما يكون له حق الحياة تترتب عليه واجبات ومسؤوليات لأن الحياة بدون مسؤوليات لا معنى لها ولا طعم، لأن الحياة الحقيقية المفرحة السعيدة هي الحياة التي يتحمل فيها الإنسان ويتحمل فيها الشعب مسؤولية الغد… مسؤولية التقدم. مسؤولية التحرر، مسؤولية الأجيال القادمة وقد يصل عمق الشعور بالمسؤولية إلى حد أن الشعب يشعر بأنه مسئول عن الإنسانية لأنه جزء حي من هذه الإنسانية، فكيف يشعر بالاطمئنان ويشعر بالسعادة ما دام يسمع ويرى بأن الظلم قائم في أماكن أخرى، وأن شعوباً تستعبد وتظلم وتقتل وأن الكرامة تهدر، فهذه اليقظة التي نريدها لشعبنا وللمواطن العربي الجديد، لإنساننا العربي الجديد، هذه اليقظة، هذا الانطلاق في العمل وفي الإنتاج لا يقتصر على الإنتاج المحدد، وإنما يجب أن يذهب إلى أعماق النفس، إلى أعماق الشعور بمعنى وبجود إنسان، لماذا هو موجود على وجه البسيطة؟ لم يوجد عبثا، له رسالة، هناك معنى لوجود الإنسان ولوجود الشعوب وعندها تكون النهضة أصيلة، لأنها من جهة تضمن لنا هذا الانطلاق الشامل من جماهير شعبنا وتضمن لنا أن يضع الشعب في طريق النهضة كل إمكاناته المادية والروحية والفكرية، لأننا حركنا فيه كل إنسانيته.. حركنا فيه كل مواهبه وشعوره بانتمائه القومي وبانتمائه الإنساني وبمعنى وجوده في الحياة وبتطلعه الى الغد الأفضل بالنسبة لنفسه، لشعبه، وبالنسبة للإنسانية كلها. لذلك، المقياس للتقدم، للنجاح في عملنا، كحركة قومية ثورية يجب أن يكون دوماً إلى أي حد استطعنا أن نحرر الإنسان العربي، أن نحرر الجماهير الشعبية الواسعة، لأنها إذا انطلقت بكل قدراتها فنحن نؤمن بأنه ليس من قوة على الأرض تستطيع أن تمنع نهضة أمة مصممة على النهوض مهما تكالبت الأطماع والقوى الاستعمارية، مهما تفننت في أساليبها ومؤامراتها فإن الشعب الحي الواعي مالك الإرادة، الذي يملك إرادته. والإرادة هي الحرية هي وليدة الحرية، الذي ليس حراً لا يملك إرادته، فنحن أيها الرفاق كثورة عربية نمشي نحو النضج لأننا جربنا في العشرين سنة الأخيرة، جربنا انطلاقة الجماهير قبل عشرين أو خمسة وعشرين عاماً لم تأخذ كل مداها، لو أن انطلاقة الجماهير في الخمسينات تتابعت لكان تاريخ هذه البلاد قد تغير، ولكن الذي حصل أن انطلاقة الجماهير في الخمسينات استخدمت لكي تفرض على هذه الجماهير فيما بعد، قيود كبلتها وحددت دورها في الهياج العاطفي المنفعل في التصفيق والتأييد دون أن يكون لها مشاركة جدية عميقة في تقرير مصيرها وفي صنع حياتها وفي صنع مجتمعها الجديد، فكانت النكسة.. أعقب ذلك النكسة لأنه لم نستفد الاستفادة المطلوبة من حركة الجماهير، وإنما كان هناك عقلية غير واثقة كل الثقة بالجماهير الشعبية، فكان هناك خوف من انطلاقة الجماهير الانطلاقة الكاملة، ولذلك حصلت النكسات وكان الشعب على الهامش غير مشارك وعندها أخذت الثورة العربية درسا بليغاً، فنحن إذن في مرحلتنا الحاضرة نسير متذكرين ذلك الدرس ومتعظين به. ولذلك نعرف بأن القوة الحقيقية التي نواجه بها الاستعمار أو الرجعية المتحالفة معها، إنما هي قوة الجماهير الشعبية المندفعة ذاتياً، المندفعة نتيجة شعورها بالحرية وشعورها بأن هذا المجتمع هو لها وهي تبنيه وتصنعه بأيديها وإرادتها، وأن المستقبل لها، وعندها تضع كل طاقاتها في الإنتاج وتضع كل حياتها في النضال وهكذا نصل إلى القوة التي يجد الاستعمار نفسه أمامها عاجزاً وضعيفاً.
*ورد في أدبيات الحزب بأن جميع الأقليات الموجودة في الوطن العربي قوة مضافة الى الأمة فمن خلال النظرة الإنسانية للحزب كيف يكون التعامل مع هذه الأقليات باعتبارها تشكل نسبة غير قليلة في الوطن العربي لا سيما وأن هناك إيقاظاً قوميا لهذه الأقليات من قبل المستهدفين لهذه الأمة.؟
بالنسبة للأقليات القومية نحن استلهمنا الفكر الثوري القومي، كما استلهمنا تراثنا العربي ووضعنا هذه النظرة المتميزة التي لنا ثقة كبيرة بأنها إذا أحسن فهمها وطبقت بإخلاص وبكامل التطبيق فإنها كفيلة بأن تنهي مشكلة الأقليات أو أن تضع لها الحل السليم والذي سيكون نموذجاً لشعوب أخرى، سيكون نموذجاً إنسانياً.
نحن انطلقنا من الشعور القومي، من الوعي القومي، شعورنا القومي هدانا إلى الثورة لأننا شاهدنا واقعنا القومي المتخلف الضعيف الممزق فتأملنا وفكرنا في كيفية الخلاص إذا كنا نقدس هذا الشعور القومي فإننا نقدسه عند كل الشعوب الأخرى، فإذن ليس في تفكيرنا أي انغلاق أو تعصب قومي من شأنه أن يؤدي للضغط على أية أقلية قومية أو لإنكار حقها في أن تكون حرة، ولكننا أيضاً لم نأخذ المسألة بشكل نظري بعيد عن الواقع، ننظر إلى الواقع، ما هي هذه الأقليات؟ هناك أقليات واضحة.. أقليات قومية واضحة، ولكن عاشت ضمن المجتمع العربي مئات السنين دون أن يكون هناك مشكلة قائمة بينها وبين الشعب العربي كأقلية قومية. لم نعرف بأن في التاريخ هناك ثورة للأكراد مثلاً بل نعرف أن هذا الشعب كان يعيش مندمجاً ومتآخياً مع سائر العرب وكان مشاركاً في المصير يدافع عن الأرض العربية وعن القيم الحضارية العربية وعن المصير العربي سواءً تجاه الغزوات الصليبية أو التترية أو غيرها، متى ظهرت هذه النغمة؟.
معروف أنها ظهرت مع الاستعمار الغربي الحديث فهذا ما يجب أن يوضح دوما، هناك مصير مفتعل يفتعله الاستعمار، هذا الحد من الافتعال يجب أن يوضح للجميع.. للعرب وللأكراد وللعالم الخارجي وهكذا تبقى الأشياء الواقعية المشروعة التي لا خلاف عليها بأن هذه الأقلية لها حقوقها ولها حرمتها عند الأمة العربية ولها تاريخ طويل مشترك مع الشعب العربي، ولكن من غير الطبيعي وليس شيئاً سليماً وليس شيئاً بريئاً أن تفتعل الحركات والعصيانات عندما تكون الأمة العربية في معركة مصيرية ضد الاستعمار والصهيونية وفي ثورة شاملة هي ثورة هذا العصر، الأمة العربية لم تكن في الماضي وليست هي الآن ولن تكون في المستقبل أمة استعمارية، أمة مستعمِرة، أمة ظالمة لغيرها، مستبدة لغيرها، ولكنها لا تتجاهل أن الأعداء يلجأون إلى شتى الأساليب لكي يلغموا نهضتها، لكي يضعفوا نضالها، لكي يخلقوا لها المعارك الجانبية التي تلهيها عن معركتها الأساسية. هذا يجب أن يوضح دوماً لأنه ليس منطقياً ولا طبيعياً أن تقوم ثورة صغيرة تحررية ضد ثورة تحررية أوسع منها. الشيء الطبيعي هو الالتقاء وهو التعاون وهو الإخاء طالما أن خلال مئات السنين كان هذا الإخاء متحققاً، وكيف تشذ الآن عن القاعدة ويكون التحرر الصغير ضد التحرر الكبير، الثورة الصغيرة ضد الثورة الكبيرة التي هي الثورة الفعالة ثورة الأمة العربية في هذا العصر، هي الثورة التي ستؤمن وستضمن للعرب ولشعوب كثيرة الحرية والعدالة. عندما يكتمل التحرر العربي، عندما لا يبقى أثر للنفوذ الاستعماري على الأرض العربية، معنى ذلك أن هذه القوى قد ضعفت وتراجعت وبالتالي معناها أن شعوبا كثيرة ستتحرر نتيجة تحرر الأمة العربية. المستقبل هو الحياة المتآخية بيننا وبين هذه الأقليات التي كانت في الماضي في أخوة معنا ولم يحصل الآن ما يبرر فصم هذه الأخوة، لأن العدو مشترك.. لا يمكن أن نسمي ثورة، التمرد الذي يستعين بالقوى الاستعمارية والصهيونية ضد الثورة العربية، هذا هو عكس الثورة، هذه هي الثورة المضادة ولا نرضى لإخوتنا الأكراد أن يسيروا في طريق الضلال، وأعتقد بأن الجماهير الكردية عندها من هذا التراث المتراكم من العيش المشترك مع إخوتهم العرب وهذا التراث المشترك الروحي الذي يجمعهم أيضاً بالعرب ما يشكل الضمانة، ولا أعتقد بأن التضليل سينجح بعد الآن في حرف الجماهير الكردية عن الطريق السوي الذي هو التعاون والتحالف. تبعاً لهذا، يترتب علينا أن نسعى دوماً لتجسيد مبادئنا وأفكارنا القومية الثورية التجسيد الصادق في التعامل دون غفلة ودون أن نتجاهل خبث الأعداء وأساليبهم في الاستغلال وفي الاندساس والتآمر، ولكن بمقدار ما نمضي في تجسيد مبادئنا الإنسانية في تعاملنا مع الأقليات القومية الواضحة المعالم، نضمن تحقيق هذا المستقبل الذي لن يكون فيه فرق ولا تباعد بيننا وبينهم. وقلت بأن ليس كل الأقليات لها معالم واضحة وهذا صحيح فإن هناك افتعالاً من قبل الدول الاستعمارية هو افتعال واضح وصارخ لبعض الفئات غير المندمجة اندماجاً كاملا، ولكن هذا لا يكفي لكي يجعل منها قومية خاصة. القومية الخاصة، القومية المستقلة، لها شروط، يجب أن يكون لها تاريخ وحضارة وأرض وغير ذلك. فإذن نحن نمضي في طريقنا الثوري وفي الاستمساك بمبادئنا الإنسانية وفي الوقت نفسه نمضي في نضالنا ضد الاستعمار والقوى الاستعمارية والصهيونية وكل نجاح نحققه في نضالنا ضد القوى الأجنبية المعتدية سيخفف من هذه المشاكل المصطنعة والمفتعلة وسيظهرها على حقيقتها بأنها مفتعلة وليس لها أساس موضوعي، كما هي المسألة في لبنان أيها الرفاق، إذ صرنا نسمع بالعنصر الماروني وكأنها قومية أو عنصر متميز له تاريخ وله حضارة، وهم شعب عربي مثل باقي العرب، وإنما هي قيادات نفعية وذات أطماع سياسية وطبقية استندت الى تشويه ثقافي استمر ردحاً من الزمن، مدة قرن كامل والمدارس التبشيرية تنفث سمومها في تلك الأوساط، وتخلق وعياً منحرفاً وشعوراً منحرفاً بأنهم ليسوا عرباً وأنهم شيء آخر وبالتالي يمكن أن يتحالفوا مع أعداء العرب لكي يستقلوا ويتحرروا، هذه افتعالات ضد طبيعة الأشياء لن يكتب لها البقاء، لن تدوم طويلا، ونحن، الأمة العربية الكبيرة ذات الوزن العالمي وذات التاريخ العريق وذات الرسالة الإنسانية نستطيع أن ننظر بأفق واسع وبنظرة شاملة ومتفائلة إلى المستقبل، نستطيع أن نصبر ونتحمل بعض الشيء لكي نفلّ ونعطل الذي يفتعل هذه المشكلات في مجتمعنا والذي قد يصل إلى افتعال مشكلات أخرى مستفيدا من التخلف، مستفيداً من بعض الثغرات، من بعض النقص، من بعض الإهمال في التوجيه. يجب ألا نرتاع بل نتحصن دوماً بالنظرة البعيدة إلى المستقبل، بأن هذه الأشياء يجب أن نأخذها كتنبيه مفيد، تنبيه فيه كل الخير، هل نحن مقصرون في التوجيه؟ هل نحن مقصرون في توضيح فكرتنا، هل نحن مقصرون بعض التقصير في التعامل، وإذا وجدنا أي تقصير نتلافاه، وإذا كانت بعض أفكارنا غير واضحة وغير مفهومة ولم تصل إلى هذه الفئات التي ينفذ إليها الاستعمار وتنفذ إليها القوى الرجعية، يجب أن نذهب، وأن نذهب بأنفسنا كمناضلين إلى هذا الشعب، شعبنا، نذهب إليه متسلحين بالمحبة وبالانفتاح وبالشعور الواحد بأن آلامه هي آلامنا، نسمع منه ليسمع منا، وأعتقد بأننا قادرون على سد كل ثغرة من هذا النوع وعلى تمتين بنياننا القومي بشكل يصمد في المستقبل لكل المؤثرات والصدمات الخارجية.
* في حديثكم إلى مجلة “آفاق عربية” تكررت عبارة “الشعب اليهودي” أرجو توضيح الالتباس الحاصل في فهمنا حول هذا الموضوع سيما وأنه من الحقائق المعروفة لدينا أن اليهود ليسوا بشعب.. ولا يمتلكوا مقومات الشعب.
هو كان حديثاً عفوياً وبسيطاً مع رفيقين كنا نتحدث والرفيق شفيق يكتب بعض الأشياء، فعلى افتراض أن هذا ورد على لساني في حديث غير منظم، هو كان بقصد أن أشرح بعض الأفكار، فكان القصد هو الماضي وليس الحاضر كنت أنظر إلى ما كان في القديم أنه كان يوجد شعب يهودي والشعب العربي. أخذت صورتين للشعب العربي الذي برهن عن الاستعداد للانفتاح والاتساع، فتح صدره لشتى الشعوب، اندمجت فيه -وعن طريق الإسلام بالطبع-، وذلك الشعب المنكمش على نفسه الذي هو الشعب اليهودي انكماش مرضي، فعلى افتراض أن التعبير ورد فكان المقصود الماضي وليس في الحاضر. أما اليوم فليس العرب فقط ينكرون وجود شعب يهودي وإنما علماء التاريخ في العالم غير المتحيزين أيضا لا يعتبرون أن هناك شيئاً يصح أن يسمى شعباً يهودياً -هناك دين يهودي- مذهب يهودي، ولكن لا يوجد شعب يهودي، هذا مفروغ منه. إن الفكرة كانت عن الماضي وكيف أن فرعين من الشعوب السامية فرع عنده استعداد لأن يكون إنسانياً واتسع، وفرع آخر يفقد هذه الإمكانات فانكمش وتقلص.
* جاء في حديثكم عن حتمية انتصار حركة الثورة العربية ما عزز ثقتنا بقدرة الأمة على تجاوز معاناتها، يرجى إعطاء بعض المؤشرات والدلائل التي استمد منها القائد المؤسس هذا التفاؤل و الطموح، سيما وأن الأمة العربية تمر بأخطر مراحلها وأن القوى الرجعية بدأت تحتل مواقع جديدة كانت قد طردت منها.
أول مؤشر هو مسيرة الحزب وتجربة الحزب في هذا القطر، وهذا ما بدأت به حديثي بأنه عندما تصل حركة قومية بعد تجارب عديدة وبعد نكسات مرت بها إلى حد جيد، لا أقول بأنه مثالي، ولا أقول بأنه وصل إلى غاية الأماني، وإنما إلى حد جيد من التماسك، من وضوح الشخصية، من وضوح الملامح الفكرية، من الرسوخ بالاستناد إلى قاعدة شعبية قوية واسعة وإلى ثقة عربية خارج حدود القطر وموزعة على جميع الأقطار العربية وفي الأوساط الشعبية والثورية، أصبح هناك اعتراف أكيد بهذا القدر من الرسوخ الذي حققه الحزب، هذا شيء ليس بالقليل، هذا شيء جديد في حياة الأمة العربية والعصر الحديث، هذا شيء تتمناه قوى راقية أحيانا أن يكون لديها حركة بمثل هذه السعة وبمثل هذا الأساس الفكري، بمثل هذا الارتباط المصيري بالجماهير، فحركتنا هي العامل الأول في تفاؤلنا الواقعي.
ثم نحن نؤمن بشعبنا، نؤمن بأن الشعب العربي هو واحد في جوهره، في أصالته، في تجربته المعاصرة العميقة الجادة التي بلورت وعياً ثورياً عند هذا الشعب. فإذا كانت حركتنا كتنظيم لم تتسع كثيراً، ولكننا نحن نؤمن بأن الجماهير الشعبية في مختلف الأقطار العربية هي نفس هذه الجماهير التي نراها هنا في هذا القطر لا تختلف عنها لا من حيث الوعي ولا من حيث القدرات النضالية، وإن اختلفت الظروف أحياناً وشروط المعيشة. ونحن نرى بأن النكسة أحياناً هي سبيل إلى التقدم وإلى التصحيح وكذا النصر. تمر مصر بنكسة بالنسبة إلى العهد السابق، تراجع عن الاشتراكية، تراجع عن الوطنية، عن المبادئ الوطنية، تراجع عن القومية العربية بمبادئها وبتمسكها بحقوقها في وجه الاستعمار والصهيونية، كل هذا واضح في مصر، ولكن إذا نظرنا نظرة فاحصة نجد أن الانتقال الذي تحقق في عهد عبد الناصر في مصر من الإقليمية المصرية إلى القومية العربية لم يكن انتقالاً عميقاً لم يكن على صعيد القواعد وإنما كان تمهيداً فوقياً، والشعب لم يتفاعل مع هذه المبادئ التي أعلنها عبد الناصر إلا تفاعلاً سطحياً، وأصاب مصر ردة، هذه الردة يمثلها نظام ضعيف ليس له تلك القبضة الحديدية على البلد وعلى الشعب، وليس له هيبة ولا حرمة، هو نظام ضعيف مادياً ومعنوياً، الجماهير التي عاشت زمن عبد الناصر فترة من الزمن في حلم الانتصار وفترة أخرى في ألم النكسة، الآن تعود لتخدم هذه المبادئ التي كانت تفرض عليها دون أن تنبع من داخلها، الآن المبادئ القومية يعيشها الشعب في مصر لأنه من الضائقة الاقتصادية أخذ يفهم ماذا تعني القومية العربية، من هذا الإذلال الاستعماري لوطنه أخذ يفهم ماذا يعني المصير العربي المشترك، انه إذا انعزلت مصر فهي ضعيفة أمام الولايات المتحدة وأمام الكيان الصهيوني، أما إذا كانت مصر جزءاً من وطن عربي كبير فإنها تستطيع أن تصمد وأن تحفظ كرامتها. فعندنا إذن تفاؤل في المستقبل، لم يعد هناك خوف من نكسة أخرى في مصر، المنتظر هو على العكس الصعود، لأن النكسة حصلت بكامل حجمها والى آخر درجاتها، والصعود هو المنتظر.
بالنسبة للمغرب العربي -أقطار المغرب العربي نحن لا تصلنا أخبارها، يعني لا نطلع الإطلاع اليومي، إلا لمن يقدر له ان يذهب في وفد هذا يطلع– لكن الحقيقة هي أن أقطار المغرب العربي تعيش منذ نكسة حزيران وبصورة خاصة من حرب تشرين، يعني من عشر سنوات، ثم من أربع سنوات، منذ حرب تشرين أقطار المغرب كجماهير وكفئات واعية وموجهة للجماهير، تعيش في حالة مخاض عربي وحدوي، نكسة حزيران عام 1967 جسدت لجماهير المغرب العربي، جسدت لها عروبتها التي لم تكن تعرفها معرفة واضحة، لأن الأنظمة، فضلاً عن الاستعمار الذي حاول طمس شخصيتها العربية، الأنظمة القائمة كانت تحاول إبعادها عن العرب والعروبة. وأمام النكسة القومية حصل الانفجار العاطفي العفوي، ولا شك أنكم اطلعتم في ذلك الوقت على رد الفعل الذي حصل عند الجماهير في تونس وفي الجزائر وفي المغرب.
بعد حرب تشرين حصل شيء مختلف وإيجابي بأن هذا الوزن الذي احتله العرب دولياً بعد حرب تشرين، وكانت أقطار المغرب بعيدة وغير مشاركة في ذلك الانتصار الذي كشف عن قدرة الإنسان العربي، قدرة الجندي العربي وكفاءته وبأنه لا يعوقه عائق عن أن يكون في مستوى أرقى الشعوب في هذا العصر، ثم النفط وأهمية النفط وقطع النفط عن الدول الغربية تلك الفترة القصيرة وأثر ذلك على العالم، هذان العاملان فعلا فعلاً كبيراً خاصة في الطبقات المثقفة والتي بيدها التوجيه في أقطار المغرب.
فتفاؤلنا ليس سحرياً، ليس من قبيل الإيمان بالغيب ومن قبيل تشجيع النفس كلا، وإنما هو فعلاً قائم على حقائق موضوعية، وان في مجتمعنا ظروفاً تاريخية كثيرة أوجدت هذه التجزئة، ومهمتنا الأولى هي القضاء على هذه التجزئة وتحقيق الوحدة، ولكن الوحدة تصنع يوماً بعد يوم، هي في طور الصنع وإن كانت لا ترى في وضح النهار، هذه بعض الأشياء التي أحببت أن الفت إليها نظر الرفاق.
(1) لقاء حوار مع طلبة الدورة السابعة الخاصة في مدرسة الإعداد الحزبي بتاريخ 10/5/1977.
—————————-
بناء المناضل
أيها الرفيقات والرفاق(1)
من الطبيعي ومن الواجب أن نولي هذه المدرسة الاهتمام الكبير لأنها تعنى ببناء المناضل، والمناضل العربي هو الأساس لحزبنا والأساس لحركة الثورة العربية.
تقوم حركتنا على الإيمان بالجماهير العربية الكادحة، بالجماهير الواسعة. ولكننا لا ننظر إلى الجماهير ككتلة تحركها الغريزة أو الحاجات المادية أو التأثيرات الانفعالية، بل ننظر إلى جماهيرنا بأنها مؤلفة من أفراد أحرار من مواطنين واعين لارتباطهم بقضية أمتهم وملتزمين بهذه القضية ومصممين على بناء المستقبل العربي، فإذن المناضل العربي هو أساس الجماهير التي تقوم عليها حركة الثورة العربية التي نؤمن بأنها هي صانعة التاريخ.
أيها الرفاق،
بين الحين والآخر علينا أن نرجع إلى الكلمات والشعارات التي ننادي بها ونعلنها لنرى إذا كانت لا تزال حية ندية تنبض فيها الحياة بكل قوتها وحرارتها او إنها أصبحت أشكالا فارغة ولم تعد تعني شيئا كثيرا وإنها قد أفرغت من محتواها وان الحياة في جهة والكلمات في جهة أخرى.
الحركة الثورية الحريصة على الصدق وعلى التجدد وعلى أن تبقى دوما قريبة من قلوب الجماهير وقريبة من نبضات التأريخ.. عليها أن تعيد النظر بين الحين والآخر لتمتحن عملها وأفكارها وشعاراتها ولترى بملء الرؤية إذا كانت لا تزال قريبة من الواقع –إذا كانت لا تزال تعبر فعلا عن الأفكار والأهداف التي تجندت الحركة الثورية على أساسها وبدافع منها.. لذلك أقول أيها الرفاق بأن الثورة، كل ثورة، والثورة العربية بخاصة إنما ولدت من اجل الإنسان العربي، لان الإنسان هو الذي يصنع الحياة وهذه العودة بين الحين والآخر إلى الواقع بنظرة فاحصة نقدية هي التي ترينا إلى أي حد نجحنا في بناء هذا الإنسان الجديد، في تنمية الإنسان العربي الذي هو أغلى ثروة والذي هو يصنع التنمية المادية، الإنسان بصورة عامة في كل مكان وزمان هو مادة وروح لا يكفيه ولا يغنيه أن يأكل ويشبع فحسب، وليس هذا أهم شيء في إنسانيته وإن كان شيئا ضروريا أن يأكل ويشبع، ولكن إنسانية الإنسان الحقة إنما تبدأ بعد الشبع، بعد الأكل، عندما يحقق مواهبه وقدراته، عندما ينظر إلى مهماته الاجتماعية والقومية التي تعطي معنى لحياته، إنسانية الإنسان تبدأ عندما ينصرف إلى العمل والخلق والإبداع والنضال والى كل شيء يتجاوز شخصه ويتجاوز أنانيته الضيقة لأنه عندئذ يشعر بملء إنسانيته وبأنه ليس خلية عمياء في جسم أو في آلة، وإنما هو فرد حر وجد لغاية سامية في هذه الحياة وأنه مطالب بأن يعطي لحياته معنى ساميا.
الضرورات الحياتية، الضرورات المادية، هي مهمة جدا ولا يمكن أن نستخف بها وأن نقلل من شأنها، وقد قامت ثورات كثيرة وتقوم ثورات بدافع الجوع وبدافع الحاجة الماسة إلى ضرورات الحياة، وتأمين هذه الضرورات أمر في غاية الأهمية.. لان الإنسان إذا كان محروما من هذا الحد من تأمين الحاجات المادية فأن إنسانيته تكون ناقصة وتكون مشوهة، لأنه لا يكون في وضع يؤهله لأن ينظر إلى المستقبل وينظر إلى الآخرين وينظر إلى ما يتجاوز شخصه ويومه وينظر إلى المثل والمبادئ، وإنما يكون مستعبدا لهذه الحاجات الضرورية القاهرة، فجزء كبير ومهم من عمل الثورة، كل ثورة، هو تغطية هذه الناحية.. تأمين هذه الحاجات لأبناء الشعب، لذلك لم نبن حركتنا على المثالية الفارغة، إنما بنيناها على الواقع وجعلنا لهذه الناحية أهمية خاصة، ولكننا لم نقف عند هذا الحد ولم ننظر إلى الإنسان العربي والى الجماهير العربية نظرة فقيرة بأنها لا تطلب إلا الخبز، لو اكتفينا بهذه النظرة لكنا ضحينا بأهم شيء في الإنسان وفي الأمة.
أيها الرفاق
لنعد قليلا إلى شعارنا المعروف والذي يتردد كل يوم على ألسنتنا (الوحدة والحرية والاشتراكية)، الاشتراكية هي التي تراعي هذه الناحية التي أشرت إليها. هذه الناحية هي بالنسبة إلى كل شعب ناحية في غاية الخطورة ولكنها بالنسبة إلى الشعب العربي والى الأمة العربية هي ذات خطورة خاصة وبالغة ولعلكم تذكرون قولا من كتابات الحزب بأن الاشتراكية بالنسبة إلى الأمة العربية هي قضية بقاء ومصير وصمود أمام تنافس الأمم القوية الراقية في هذا العصر، منذ البداية لم نقل أن الاشتراكية هي فقط لتأمين الحاجات الضرورية، بل قلنا بأنها هي التي تتيح للأمة أن تحقق كل طاقاتها وقدراتها، ونحن نؤمن بان امتنا عندما يتاح لجميع أفرادها أن يحققوا كل ما يمتلكون من قدرات وكفاءات فإنها تتحرر تحررا تاما من كل استعمار خارجي ومن كل استغلال داخلي ومن التخلف الحضاري، وإذا كانت الأمة العربية لا تزال حتى الآن تشكو من نقص سيادتها وتحررها ومن نقص في تقدمها ومن انعدام لوحدتها، فما ذلك إلا لأنه حتى الآن لا تزال الكثرة الساحقة من أفراد شعبها مقيدة بقيود كبيرة بقيود مادية ومعنوية لا تسمح لها بأن تنطلق ملء قدرتها وأن تناضل وأن تبني لكي تتحرر وهذا ما يجب أن نرجع إليه بين الحين والآخر ونتذكره تذكرا قويا لنعرف الأسباب الحقيقية لتعثر الثورة العربية ولتأخرها عن تحقيق كامل أهدافها. فما دامت الجماهير الواسعة في كل قطر عربي لم تعط بعد كل الفرص من اجل تحقيق ذاتها وتحقيق إنسانيتها ومن اجل أن تعطي أقصى ما تستطيع لمعركة البناء ولمعركة القتال والنضال، ومن الطبيعي أن نبقى مقصرين عن بلوغ الأهداف الكاملة إذ لا يحقق أهداف الأمة العربية إلا كامل الشعب العربي، فالاشتراكية كما قلت في نظر الحزب حملت هذا المعنى منذ البداية لأنها ضرورة حيوية ومصيرية بالنسبة للأمة العربية لأنها هي التي تضع في الساحة كل القدرات العربية، كل الكفاءات العربية، كل إمكانات الشعب العربي النضالية.
أما الحرية أيها الرفاق.. فهي التحرر من الاستعمار ولكنها أيضا هي التحرر من كل القيود، من قيود التخلف.. من قيود الجهل من قيود الذات، الحرية هي روح الثورة.. روح الثورات، إذ لا يمكن أن نتصور ظهور ثورة إذا لم يكن باعثها الحرية، والحرية ليست هي الفوضى كما تعرفون. الحرية مسؤولية.. الحرية هي تسليم كل مواطن مسؤولية حياته ومسؤولية مجتمعه، يتحمل مسؤولية مقدراته الشخصية كما يتحمل مسؤولية مقدرات المجتمع الذي ينتمي إليه، والأمة التي ينتمي إليها.
وإذا كانت الحرية بحاجة في مجتمع متخلف إلى الرعاية والعناية والتهذيب، إذا كانت بحاجة إلى تعليم وتثقيف يساعد المواطنين على ممارسة حريتهم، فإن ذلك لا ينقص شيئا من أهميتها ومن ضرورتها الحيوية، كذلك الوحدة العربية أيها الرفاق، وهي الهدف الذي ألح عليه الحزب وأعطاه رجحانا على بقية الأهداف، لان هناك فرقا نوعيا هائلا بين صورتين.. صورة الثورة والتقدم في حالة التجزئة وصورة الثورة والتقدم والتحرر في حالة الوحدة. الوحدة لا تكتفي بأن تضيف أعدادا بعضها إلى بعض، لا تكتفي بأن تضيف قوى بعضها إلى بعض.. لا تضيف كفاءات وقدرات وثروات بعضها إلى بعض فحسب وإنما تخلق مستوى جديدا.. تخلق حالة سوية للأمة، فالأمة في حالة التجزئة أمة مريضة.. ومشوهة ومنقسمة على نفسها وفكرها حائر مشتت ومنقسم، ولا تصل إلى وضع الصحة والعافية إلا في حالة الوحدة.
شعار الحزب أشار منذ البدء إلى أن الأمة الواحدة هي التي تستطيع أن تفكر في الرسالة، في أن يكون لها رسالة، ولكونها في حالة التجزئة يكون هذا ادعاء غير جدي، فكما أن الإنسان لا يبدأ بتحقيق إنسانيته إلا بعد أن يلبي حاجاته المادية الضرورية.. كذلك الأمة، لا تبدأ رسالتها على الأرض.. ورسالتها الى الإنسانية الا بعد ان توحد أجزاءها، وبعد أن تصل الى الحالة السوية.. حالة الجسم الواحد..
هذا أيتها الرفيقات وأيها الرفاق تذكير لنا جميعا بأن لا نغرق في المجردات وأن لا نسكر بالشعارات وأن لا نبيع الحقائق بالكلمات.. علينا أن نعود باستمرار إلى واقعنا الحي نتفحصه نحدب عليه، بغيرة وحب وتفاؤل لنرى ما حققناه وما أنجزناه ولنرى ما بقي علينا أن نتابعه وننجزه. هذه العملية مطلوبة في حزبنا.. مطلوبة باستمرار لكي نبقى صادقين مع أنفسنا.. صادقين مع حركتنا ومع امتنا ولكي تكون خطانا على أرض الواقع لا في أرض الأوهام، وأن يكون تفاؤلنا تفاؤلا جديا ناتجا عن معرفتنا ووعينا للظروف وللواقع لا عن تجاهلنا لهذا كله.
هذا ما اكتفي به الآن وأحب أن استمع إلى أسئلتكم والى ما يدور في أذهانكم وما يعترض حياتكم الحزبية من مشكلات وما تطرحه على أذهانكم وضمائركم الأوضاع القومية وكيف تواجهونها وكيف تفكرون في إيجاد الحلول لها، فأرجو أن أسمع أسئلتكم.
***
أسئلة واجوبة
- ما هو تحليلكم لموقف الحزب في اعتبار القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، مع وجود أجزاء مغتصبة من الوطن العربي لا تقل أهمية عن فلسطين؟
اعتقد أن الفرق بين قضية فلسطين وقضية الأجزاء العربية الأخرى المغتصبة فرق واضح، فاغتصاب فلسطين وزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي لتعطيل النهضة العربية لإشغال العرب وهم في مرحلة نهوض تأريخي، لإشغالهم بهذا العدو ومنع تحقيق الوحدة العربية وفصل القسم الآسيوي من الوطن العربي عن الشطر الأفريقي، كل هذا أعتقد بأنه واضح ولا يحتاج إلى شرح طويل لنظهر بأن اغتصاب تركيا للواء الاسكندرون أو ايران لعربستان أو مثل هذه الأجزاء لا يمكن أن يساوي قضية فلسطين التي هي فعلا قضية مركزية، والعرب يعيشون هذه الحقيقة منذ ثلاثين سنة، أي أنهم يجربون هذا الالتحام العضوي بين الاستعمار أو الامبريالية وبين الصهيونية ثم التحالف بينهما وبين الرجعية العربية كل هذا لا ينطبق على الأجزاء المغتصبة من الأرض العربية في أمكنة أخرى فقضية فلسطين لم تعد قضية مركزية بالنسبة إلى العرب فحسب وإنما أصبح لها حجم دولي وعالمي وأصبحت قضية العصر وفي نظرتنا البعيدة نعتبر بأن الحل النهائي والسليم والمبدئي لقضية فلسطين سيكون في الوقت نفسه إنهاء للاستعمار وللصهيونية في العالم كله، لان استرداد فلسطين واسترداد عروبة فلسطين بكاملها، هذا معناه أن الأمة العربية والقوى التقدمية في العالم التي هي حليفة الأمة العربية في هذا الصراع قد رجحت كفتها واستطاعت أن تتغلب على القوى الاستعمارية والصهيونية.
لذلك كثيرا ما نقول بأن تحرير فلسطين هو تحرير للعالم من الاستعمار وإن كان هذا يتطلب زمنا ويتطلب نضالا طويلا. أما الأجزاء العربية الأخرى، الأجزاء المغتصبة، فهي بشكل آلي تعود إلى الأرض العربية والى الوطن العربي عندما تحل قضية فلسطين الحل المبدئي القومي الكامل.
- ما هو تصوركم لمستقبل الدور القيادي للبرجوازية الصغيرة، وما هو البديل؟
في المؤتمر العاشر كما تعرفون أقر هذا المبدأ بشكل نظري بإنهاء دور البرجوازية الصغيرة. ولكن هذا بقي أمنية ولا يزال دون تحقيقها الكثير من الجهد والنضال والصعوبات، إلا أننا لا يجوز أن نتهاون في هذا المطلب وفي هذه القناعة وأن نتمسك بها دوما وأن نصر عليها، لان في هذا الإصرار نشرا للوعي وتوسيعا وتعميقا للوعي الثوري في الحزب وعند جماهير الشعب مما يعجل في إيصال الطبقات الكادحة إلى المشاركة في قيادة الثورة.
نحن نقول بالمشاركة، وان كنا نعطي الأولوية للطبقات الكادحة. عندما تكون الطبقات الكادحة في مركز القيادة في الثورة العربية لا يعني هذا بأن البرجوازية الصغيرة لا يستفاد من كفاءاتها ولكن هذا يعني إنها لن تكون مستأثرة ولن تفرض عقليتها وتصوراتها المنبعثة من مصالحها كطبقة والتي لا تنسجم دوما مع مصلحة الثورة العربية، ولا نتصور هذا الانتقال بشكل عنيف –الانتقال من قيادة البرجوازية الصغيرة الى قيادة الطبقات الكادحة– وإنما نتصوره بشكل تطوري، فنلح على مبدأ المشاركة والتفاعل، الآن الطبقات الكادحة هي فعلا بحاجة إلى هذا التفاعل اليومي مع المثقفين الثوريين الذين يشكلون النسبة الكبيرة في طبقة البرجوازية الصغيرة، وأضيف إلى ذلك بأن هذا الإصرار على إعطاء ثورتنا العربية طابع الثورة الشعبية الجماهيرية له أكثر من فائدة ويلبي أكثر من غرض، فنحن من جهة نؤمن بأن الجماهير الكبيرة الواسعة هي القادرة على إحداث التغيرات التأريخية الحاسمة وليست الأقليات المثقفة مهما يكن شأن تفوقها الفكري والثقافي، من جهة أخرى نريد فعلا أن تكون الثورة العربية المعاصرة ثورة إنسانية كما كانت في الماضي رسالة إنسانية، ولا تكون كذلك إلا إذا كانت ثورة الجماهير الواسعة لا ثورة النخبة المتعالية والتي تتعامل مع الأفكار المجردة وتمنح الشعب التقدم بدلا من أن يكون التقدم من صنع الشعب ومن صنع نضاله ومن صنع معاناته ووعيه لدوره القومي والإنساني.
والثورة العربية هي ثورة الوحدة وبدون وحدة لا تكون الثورة ثورة حقيقية وليس من قوة قادرة على تحقيق الوحدة في هذا العصر إلا الجماهير الشعبية الواسعة، لان الوحدة تصطدم بمصالح فئات وقوى كثيرة معادية، الأجنبية المعادية والداخلية المستغِلة، والجماهير العربية الكادحة في كل قطر هي وحدها صاحبة المصلحة في الوحدة العربية. لذلك حتى لو لم نحقق تقدما كبيرا في هذا المجال، ولكنني اعتقد بأننا نتقدم عن السابق وأن دور الطبقة العاملة والطبقات الكادحة يتسع على الأقل في الحزب، يأخذ مكانا، وفي هذا القطر يأخذ مكانا متزايد الأهمية، ولكننا نطمح إلى أكثر بكثير ولذلك نصر باستمرار على أن الهدف الأخير هو أن تكون الجماهير الكادحة هي قائدة الثورة العربية.
- هناك سؤال قريب من هذا عن الطبقة العاملة في نظر الحزب هل يأخذها الحزب بمنظورها الطبقي أم ماذا؟
لعلكم تلاحظون بأننا في كتابات الحزب لا نذكر الطبقة العاملة إلا مقرونة بالطبقات الكادحة لكي نعطي صورة واقعية عن الثورة العربية، ظروف الثورة العربية تختلف عن ظروف الغرب في عصر الصناعة في العصر الذي ظهرت فيه الماركسية كنتيجة لتطور الصناعة ولتضخم الطبقة العاملة في الغرب، فنحن من جهة لم نبلغ في وطننا العربي هذا المستوى من التقدم الصناعي، ومن جهة أخرى ليست مشكلتنا الأساسية هي المشكلة الطبقية، دون تقليل من أهمية المشكلة الطبقية، نظرة الحزب تعتبر أن المشكلة الأساسية هي المشكلة القومية التي تتضمن في داخلها المشكلة الطبقية فنحن في الحزب منذ البداية توجهنا إلى الأكثرية الساحقة من الشعب العربي، وقلنا أن هذه الأكثرية هي التي يقع عليها الظلم الخارجي والظلم الداخلي وهي بالتالي صاحبة المصلحة في التغيير وهي إذن دعامة الثورة، ولم نقتصر على الطبقة العاملة خاصة في بدايات الحزب قبل ثلاثين وخمسة وثلاثين عاما كانت الصناعة في الوطن العربي مبتدئة فكانت نظرتنا اقرب إلى الواقع الحي وعندما توجهنا إلى الأكثرية الساحقة من الشعب العربي التي تشمل العمال والفلاحين والمثقفين والموظفين الصغار والكسبة وكل هذه الأعداد من المواطنين الذين يصيبهم الظلم، الظلم بشكل أو بآخر، لأنهم مستغَلون استغلالا مزدوجا مستغلون من الطبقات المسيطرة ومستغلون بصورة غير مباشرة من الاستعمار الذي يستغل ثروات الوطن وهكذا كانت النظرة أقرب إلى الواقع. فالمنظور القومي لا يمحي المنظور الطبقي.
عندما ننظر إلى مشكلاتنا من خلال النظرة القومية وبالمنطق القومي، لا يجوز أن يفهم من ذلك أننا نتجاهل الظلم الطبقي والاستغلال الطبقي وأننا ضد الصراع الطبقي، كلا، وإنما وضعنا الصراع الطبقي في مجاله الطبيعي.. في مجاله الجدي والمؤثر والفعال، عندما قرنّاه بالقضية الأهم التي هي قضية الأمة في صراعها مع الاستعمار والصهيونية وفي صراعها مع حلفاء الاستعمار والصهيونية في الداخل التي هي الأنظمة الرجعية والطبقات الرأسمالية والإقطاعية المستغلة، وقد يحلو لبعض ذوي العقلية المحافظة وذوي المصالح الكبيرة أن يفهموا البعث فهما يمينيا بأنه ما دام يركز على القضية القومية فهو يرفض النظرة الطبقية ويحرّمها ويحرّم الصراع الطبقي، ولكننا لم ننخدع بهذه التحريفات وسنبقى دوما متيقظين، لئلا يدخل على فكرنا ما ليس منه، فالحزب حركة ثورية اشتراكية لمصلحة الطبقات الواسعة الكادحة، ولكنه يرى الثورة بأنها ثورة قومية، والصراع الطبقي والحركة الطبقية تجري من ضمن النضال القومي.
- سؤالين، احدهما حول توجه الحزب القومي في العراق، كونه لم يحقق طموحات شعبنا في الوطن العربي الكبير.. وآخر حول ضعف اهتمام الحزب بالمغرب العربي وتركه الساحة النضالية لقوى سياسية لا تخلو أفكارها من الإقليمية والقطرية؟
أيها الرفاق
هناك أحيانا تصورات تضع العمل القطري كشيء مناقض أو معاكس للعمل القومي، وهذا تصور غير سليم وغير صحيح. كيف نستطيع أن نعمل لوطننا الكبير إذا لم نعمل، لم نبدأ بوطننا الصغير، إذا لم نبدأ من الأرض التي نحن عليها، لكن الفرق بيننا وبين الذين لا يتوجهون بتوجيه حزب البعث، بالتوجيه القومي والمنطق القومي هو أننا نسعى دوما لكي نجعل من عملنا القطري خطوة إلى عملنا القومي، ولكي نجعل من عملنا القطري أداة تفتح لنا نافذة ومجالات على الوطن الكبير.. هذا ولا شك أنكم تدركون كيف أن إمكانات كثيرة في هذا القطر توضع في خدمة العمل القومي، فلو أننا لا نكتفي ولا يقف طموحنا عند هذا الحد ولم نؤمن في الماضي ولا نؤمن الآن بأن سلامة قطر عربي يمكن أن تضمن في القطر نفسه، إذا كانت الأقطار العربية الأخرى في حالة غير سليمة خاضعة للنفوذ الاستعماري أو للحكم الرجعي أو للفئات الانتهازية المفرّطة بالحقوق القومية، لذلك نحن نعتبر العمل القومي فضلا عن أنه هو الواجب وهو الأول في سلم الأولويات، فأنه أيضا هو الضمانة لنجاح عملنا في القطر الذي يحكمه الحزب، فلا فاصل إذن بين العمل القطري والعمل القومي إذا نحن فعلا طبقنا مبادئنا واستلهمنا فكرتنا وجعلنا من كل إنجاز أو عمل صغير نقوم به في هذا القطر في القرية وفي المعمل وفي أي مكان وفي أصغر بقعة، أن نجعل آفاق هذا العمل الوطن العربي وبعث الأمة العربية وأن نخلق عند جماهير شعبنا وهم يعملون لوطنهم الصغير.. وهم ينتجون ويبنون، أن نخلق عندهم هذا التفكير وهذا الشعور وهذا الاهتمام، بل هذا الهم، لأنهم إنما يبنون ويكدحون لبناء الوطن العربي الواحد، لتحقيق الوحدة العربية الكبرى ولقيام الدولة العربية الواحدة الراقية ذات الحضارة الجديدة، وأن يكون الهم القومي حاضرا معنا في كل عمل وفي كل خطوة نخطوها، لأنه عندئذ يتحول الفكر إلى عمل والى انجاز، ويتحول الإيمان إلى تحقيق تاريخي عندما يصبح هم الوطن العربي والوحدة العربية هو شاغلنا جميعا في القرية وفي المدينة وفي المدرسة وفي الجامعة وفي كل مكان.
نحن كما سبق وقلنا بأننا نحتاج إلى تربية جديدة تقوم على الإيمان بالضرورة الحتمية للوحدة العربية، وأن تصبح هذه القناعة هي المسيّرة لأفكارنا ولعواطفنا ولكل تصرفاتنا، لأننا إذا لم نكن كذلك فلا نكون ثوريين أيها الرفاق، ولا نكون بعثيين ولا نكون فاهمين مستوعبين لتطورات واحتمالات المستقبل. فالمستقبل إما أن نربحه في صراعنا مع تلك القوى الضخمة التي تريد أن تعطل نهضتنا (الامبريالية والصهيونية والرجعية) –ولن نربحه إلا بالوحدة العربية-، إما أن نتوحد فنبقى وأما أن نعجز عن الوحدة، عن بلوغ الوحدة العربية، فنندثر.. هذا ما يجب أن يدخل في تربيتنا الجديدة. لن نربح المستقبل إلا بالتعلق بالوحدة العربية، بهدف الوحدة العربية، وبتفضيله على أي شيء سواه، بتنشئة أطفالنا على هذا الإيمان، لان الوحدة كما قلت أكثر من مرة، منذ أن أنشئ الكيان الصهيوني المغتصب في أرضنا، في قلب وطننا، أصبحت قضية مصير، قضية بقاء.
المغرب العربي يحظى باهتمام الحزب باستمرار ولنا أمل كبير في التأثير في المغرب العربي ولو أننا نعتمد على التأثير البطيء العميق أي على انتشار أفكار الحزب، فهناك خطوات قد تحققت ولا يزال أمامنا خطوات أوسع ويحصل في أقطار المغرب اهتمام متزايد للتعرف إلى أفكار الحزب، ولم تعد تلاقي الانغلاق أو التردد التي كانت تلاقيه في السابق، وأملنا أيضا في المستقبل.
- تؤكدون باستمرار على صلة العروبة الحية بالإسلام، هل هي صلة ذكريات أو امتداد أو تجديد؟
سأختصر لان هذا الموضوع طرقته أكثر من مرة وهنا في هذا المكان بالذات، الصلة كما نراها ونؤمن بها هي صلة عضوية بين العروبة والإسلام لا يمكن أن تنفصم. صلة تاريخ، وهي مستمرة منذ القديم حية لا تموت، وهي أيضا -ونظرة الحزب ركزت على ذلك– صلة تجديد.. أي أننا لنا فهم ثوري للإسلام ونرى أيضا ونعتقد بأن نشوء حركات إصلاحية وثورية في الدين تنفض الغبار عن حقيقة الدين وتعيد إليه إشعاعه وحيويته، اعتقد بأن هذا ضروري في حركة الثورة العربية واعتقد بأنه سيحصل بشكل حتمي، الأمة عندما تنهض وتدخل في طور الإبداع فإنها تنهض وتبدع في كل مجالات الحياة، ولا تقتصر على ناحية واحدة والدين من أهم مجالات الحياة.. الحياة الروحية في الإنسان لها أهميتها الكبيرة، لذلك بمقدار ما تتقدم مسيرة الثورة العربية نجد أن الفكر الديني يصبح أكثر إشراقا.. أكثر تجددا.. أكثر تحررا، يذهب إلى اللب والى الحقيقة ويتخلى عن القشور وعن العقلية الحرفية الجامدة، النهضة العربية ستكون نهضة شاملة.. نهضة في الفكر ونهضة في الدين ونهضة في الفن ونهضة في البناء المادي والاقتصادي، ولذلك كانت نظرة الحزب إلى هذه الصلة.. صلة العروبة بالإسلام بأنها هي بصورة خاصة صلة تجديد.. أي أننا نستمد من فهمنا الثوري لحركة الإسلام قوة ثورية لتجديد عقليتنا ولتجديد أوضاعنا الفكرية والاجتماعية والقومية، وهنا أحب أن أشير إلى فكرة عزيزة علي، وهي أن أمتنا قد عرفت عند ظهور الإسلام ما لم يتسنّ لأية امة أخرى أن تعرفه.. عرفت تجربة مطلقة وبقي شيء من هذه الذكريات في نفس كل عربي حتى الآن وسيبقى ذلك طويلا الى المستقبل البعيد.
الثورات أيها الرفاق معرضة لكثير من الأمراض النفسية والأخلاقية لأن قياداتها بشر ومعرضون حسب المصادفات لكثير من هذه الأمراض التي قد يكون لها تأثير بالغ السلبية وبالغ السوء على مصير شعوب وأمم، ونحن كعرب عندنا هذا الرصيد الروحي.. هذا التراث إذا حرصنا على أن نبقي صلتنا حية بيننا وبينه، وخاصة نحن كحركة ثورية أن نستلهم هذا التراث بقيمه الروحية والأخلاقية السامية فإننا نعطي لثورتنا العربية ضوابط أخلاقية وجوا فيه هداية وفيه ردع وفيه ضوابط كثيرة نحن بحاجة ماسة إليها، لذلك قلت في مقال (آفاق عربية) في العام الماضي بأن ثورات هذا العصر ثورات نسبية، والثورة العربية كذلك ثورة نسبية ولكنها إذا حرصت على صلتها بالتراث الخالد فإنها تستطيع أن تدخل إلى جوها شيئا من المطلق.. أي من الضوابط الأخلاقية الرفيعة.
- تبدو حركة الثورة العربية عاجزة عن وقف تنفيذ مشاريع التسوية المشينة في الوقت الحاضر.. وإذا ما نجحت هذه المشاريع فتكون مقدمة لضرب الثورة العربية وإجهاضها.. ما رأيكم في ذلك؟
هذا تصوير للواقع، كما أن التخوف هو تخوف مشروع لان تقوم القوى الرجعية بعد أن تنجح الحلول.. حلول التسوية، لضرب وإجهاض الثورة العربية، لذلك نقول دوما بأن الثورة يجب أن تكون مهاجمة وان لا تكتفي بمواقف دفاعية، وقد تضطر أحيانا إلى الدفاع ولكن هذا يجب أن يستخدم لإعداد خطة الهجوم، والهجوم لا يعني دوما الحرب والقتال وإنما هو اخذ المبادرة أو المبادرات وهكذا نعود دوما إلى النقطة الأساسية والمركزية وهي إطلاق حرية الجماهير الشعبية، لا يمكن أن ننتقل إلى مواقع الهجوم ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية العميلة إلا بإطلاق حرية الجماهير وإلا بتعبئة الجماهير.
ونحن في هذا الحزب مقدمون على مرحلة جديدة والحزب اخذ في التهيئة والمبادرة لتوحيد القوى العربية الثورية والتقدمية في جبهة عريضة، ولذلك فالمستقبل فيه مجال للتفاؤل والأمل.. ولو أننا لم نفقد تفاؤلنا مطلقا، لأننا نعتبر أن هذه الردة الاستعمارية الرجعية لا تقوم على أساس متين وقوي، بل هي استغلال مؤقت لثغرات قائمة في الثورة العربية، وهذا من منطق الثورات ومن منطق تقدم ونضج التجربة الثورية، فترات قصيرة يكون فيها توقف.. يتوقف فيها المد الثوري ولكن من اجل التحفز لقفزات جديدة، والواقع أننا من خلال هذا التوقف المؤقت نرى ونلمس بعض الأخطاء وبعض النواقص التي شابت بنية الثورة العربية في السنين العشرين الأخيرة، وهذا مجال للتأمل وللتفكير وللتصحيح.
- في بعض الكتابات عن القومية جاء أن الإيمان يسبق المعرفة، فكيف يمكن أن نؤمن بالشيء قبل معرفته، ثم ما هو دور العقل في هذه المسألة؟
هذا سؤال أسمعه من سنين عديدة من عدد من الرفاق، وهي كلمة ذكرتها في حديث من الأحاديث الحزبية في بداية نشوء الحزب.. وفيها بعض الغلو، ولكني قصدتها لكي أنبه إلى حالة مرضية كنا نلمسها عند بعض الشباب في ذلك الوقت. كانت الفكرة القومية مهملة أو مطروحة على مستوى فاتر وحيادي وكأنها ليست مسألة حيوية بالنسبة إلينا، كان ذلك طبعا له أسباب أهمها تأثير الأفكار الشيوعية في ذلك الحين.. أي قبل أربعين سنة أو ثلاثين سنة أو أكثر من ثلاثين، فكنا نرى في لقاءاتنا مع بعض الشباب مثل هذه العقلية التي تجادل في البديهيات، واذكر أني أيضا تطرقت الى هذه العقلية بمقال صغير كتبته لمجلة مدرسية عام 1940 في المدرسة التي كنت ادرس فيها حتى ذلك الحين، كنت ادرس التاريخ وكانت في المدرسة مجلة يكتبها الطلاب بخط يدهم… فكتبت لهم هذا المقال الصغير (القومية حب قبل كل شيء) وهو مثبت في كتاب (في سبيل البعث) وفيه على ما أذكر أقول لهم الحب أولا والتعريف ثانيا.. ما يطلب من الشباب العربي ليس أن يقتنعوا بقوميتهم وبانتمائهم إلى أمتهم بعد التعريف الذي نعطيه للقومية وللأمة، المفروض أن يبدأوا بالحب، ثم التعريف يأتي بعد ذلك، وهذا القول هو أيضا بنفس المعنى الإيمان يسبق المعرفة.. في قضية مصيرية قضية أمة في حالة خطر.. في ظروف تهدد بقاءها وتهدد معنى وجودها.. تهدد أن لا يكون لها مستقبل وان لا يكون لها دور حضاري بين الأمم، هل نطرح المسألة بهذا الشكل الحيادي بأنه هل نكون عربا، أم ننتمي إلى حركة أممية أم غير ذلك؟ هذا الجو استوجب مثل هذه المبالغة.. مثل هذا الغلو بأنه الحب أولا والتعريف ثانيا.. الإيمان يسبق المعرفة.. المفروض أن نؤمن بانتمائنا القومي.. بقوميتنا وبعد ذلك على هدي هذا الإيمان وهذا الحب نستطيع أن نرى الشروط اللازمة.. الشروط العلمية اللازمة للنهضة، ولكن مسألة امة ليست مسألة رياضية، ليست مسألة حساب، ليست مسألة رموز مجردة، إنها مسألة عميقة جدا، ارتباط الفرد بأمته بتأريخها، بتراثها، بحضارتها، بآمال الأجيال للمستقبل هذا يحرك كل كيان الإنسان ولا يقتصر على التعريف.
أما أي شيء آخر اقصده.. لم أضع نظرية فلسفية لهذا الكلام ولم اقصد مناقضة العقل أو إلغاء دور العقل أو التقليل منه، وإنما فقط الإشارة إلى خلل في فترة من الفترات كانت الفكرة القومية ضعيفة، كان يمثلها كما تعرفون، تمثلها القيادات القديمة والحكام بشكل ينشر الغرور القومي والذي يخفي المصالح الخاصة ويخفي الجهل ويخفي الاستغلال للآخرين، فكانت الصورة غير مشرقة ولذلك وجدت الأفكار الأممية في ذلك رواجا عند كثيرين من الشبان وكان لا بد أن نهزهم في عاطفتهم العميقة وان نذكرهم بأن انتماءهم القومي يجب أن يكون نوعا من الإيمان ونوعا من الحب العميق قبل المعرفة والتعريف.
أيتها الرفيقات أيها الرفاق
بودي لو أستطيع أن أكمل الإجابة على جميع أسئلتكم ولكن من جهة أرى أن الوقت الذي مضى قد يكون أتعبكم ونحن أمامنا فرص، ومناسبات نرجو أن تكون عديدة في المستقبل للقاء بكم والسلام عليكم.
11 أيار 1977
(1) حديث في مدرسة الإعداد الحزبي بتاريخ 11/5/1977
—————————
الحزب تسوده روح الأسرة الواحدة
أيها الرفاق
نفتتح مؤتمرنا القومي الحادي عشر بروح التفاؤل والتصميم على المثابرة في طريق النضال، لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة العربية. إن هذه الظروف التي ينعقد مؤتمرنا فيها ظروف خطيرة وغاية في الأهمية بالنسبة لتاريخ نهضتنا الحديثة، في العالم والوطن العربي تغيرات وتطورات كثيرة، جديدة، صعبة لجدتها ولأنه لم يسبق أن واجهنا مثلها، ولكننا رغم ذلك نشعر بقدر كبير من الاطمئنان والثقة بالنفس والتفاؤل بالمستقبل. وليس ذلك من قبيل التمنيات او خداع النفس، وإنما يرتكز إلى أسس موضوعية. وأهم دواعي التفاؤل والثقة بالنفس وبالمستقبل هو ما وصل إليه الحزب في الوطن العربي بعامة وفي هذا القطر بصورة خاصة، وما تميز به من استقرار، من نضج، من وضوح في الفكر وفي العمل. إن ما وصل إليه الحزب لا نعتبره المثل الأعلى وإنا يجب أن نعترف ونقول بأنه يمثل تقدما محسوسا وجوهريا بالنسبة إلى الماضي، وهذا الشعور اعتقد بأنه يسود الحزب كله، في هذا القطر وفي جميع منظمات الحزب، بأننا تجاوزنا والى الأبد أطوار الارتباك والانقسام، ووصل الحزب أخيرا إلى النقطة التي بدأ منها إذ كان في بدايته كأنه أسرة واحدة.
إننا نشعر الآن بأن الحزب تسوده روح الأسرة الواحدة، وهذا شيء في غاية الأهمية لأنه البداية الضرورية التي لا غنى عنها للانطلاق إلى المجالات الرحبة، إلى الأهداف البعيدة، إلى المهمات القومية الواسعة والصعبة. لابد من منطلق متين متجانس، وفي الوقت نفسه حي متحرك.
أيها الرفاق
لا أريد أن أقول كلاما تقليديا، ولا اعتقد أن مناسبة المؤتمر هي أهم مناسبة في حياة الحزب، ولو أننا لا نقلل من شأنها ونطالب أنفسنا بأن نستفيد منها الاستفادة القصوى، ولكن العمل الجدي والعمل الأخلاقي ليس مقصورا على المؤتمرات، وقد لا تكون المؤتمرات أهم مجالاته، إنها مناسبات مهمة للقاء وتبادل الرأي وإلقاء نظرة على المسافة التي قطعت من الطريق، ونظرة أخرى على ما تبقى علينا أن نقطعه.
إننا نستطيع أن نطمئن ونعتز بما حققه حزبنا في العراق، ليس هذا من قبيل الإطراء، ولكن هذا جزء مهم من الوعي الذي يجب أن يكتسبه مناضلو الحزب، يجب إن يعرفوا الأسس والمزايا التي أهلت حزبنا في هذا القطر لان يحقق استمرارية لم تتحقق في أي قطر آخر، وأن يحقق مسيرة نضالية متطورة ومتكاملة ذات تاريخ. هذا شيء موضوعي من واجب البعثيين ان يدرسوا ويحللوا هذه الحقائق.
وهذه التجربة، وفي هذه الظروف بالذات –هذه الظروف القومية العصيبة– هي شي ثمين للأمة كلها، والبعثيون مطالبون قبل غيرهم بان يحرصوا عليها، وان يغذوها تغذية يومية بعقولهم وقلوبهم ونشاطاتهم، ولكننا نعلم بان غايتنا أوسع وابعد، وان الوطن العربي كله أصبح مهيئا بنسب متفاوتة ولكن بنسب جيدة، ليتطلع إلى حزبنا، ليرى فيه المثل والأمل لأن تجارب أكثر من ثلاثين سنة مرت عل هذه الأمة في نضالاتها ومحنها أظهرت أن الحزب ظل ثابتا ومتميزا ببعض الصفات التي لم تتوافر لحركة غيره.
هذا ما يجب أن يحفزنا دوما لكي نوجه هذه التجربة الناضجة والناجحة في قطرنا العراقي. إن نوجهها وجهة الوطن الواسع والأمة الكاملة والمستقبل العظيم الذي لا نشك انه سيتحقق للأمة العربية.
العالم، أيها الرفاق، يرى أحيانا إمكاناتنا وقوتنا أكثر مما نراها نحن، أو كما يراها العرب بصورة عامة فللأمة العربية دور كبير في هذا العصر، والحزب لا بد أن يواجه مسؤولياته الكبرى، لا يمكن أن يقبل بالأهداف المحدودة، طالما ان التاريخ يريد ذلك ويهيئ العرب هذا الدور العالمي، فنحن اذن أمامنا طريق طويل ولا نتوقف عند بعض الثغرات والنواقص. لان العمل التاريخي، العمل الكبير لا بد أن يتأثر إلى حد ما بالواقع مثلما يؤثر في الواقع. والعمل الكبير يصحح نفسه بمجرد أن يتابع حركته، وأن لا يتوقف. يجب أن نقوي هذا الشعور في البعثيين بأنه أصبح لهم تاريخ، ليكون ماثلا بجوهره وبمجمله في كل لحظة من لحظات وعيهم ونضالهم، يستعرضونه بشكل خاطف لكي يضيفوا إلى هذا الماضي ويعطوا له باستمرار معاني جديدة وقيما جديدة متطورة. فالنضال، كما يخلق المستقبل فهو يخلق الماضي أيضا بمعنى من المعاني.
تجربة حزبنا في العراق تجربة فريدة وقوية وناضجة. لذلك لم تتبرأ من الماضي، من ماضي الحزب في الأقطار العربية الأخرى، حملت مسؤولية هذا الماضي، أفادت من ايجابياته واتعظت بسلبياته. هذا دليل على أصالتها ونضجها بأنها لا تعتبر نفسها البداية والنهاية، وبهذا النظر الواسع المنفتح يستطيع مناضلو الحزب في الأقطار الأخرى أن يشعروا بأن هذه التجربة هي تجربتهم أيضا، وأن أي دعم لها وأي جهد يصرف في سبيلها هو دعم للحزب كله في مسيرته التاريخية.
إني مؤمن بأن الحزب يتقدم بخطى وطيدة فيها التأني وفيها الحكمة وفيها الواقعية، ومؤمن بأن الأمة العربية تتقدم وان الغد غني بالمفاجآت، وان عبقريتها آخذة في الانطلاق والتفجر، وأن مظاهر التردي التي نراها لن تمنع ولن تحول دون التطور الحتمي المنتظر لامتنا.
ولكن هذا التردي البادي على سطح الحياة العربية في بعض الأقطار لا يجوز أن نستخف به، ونقول بأنه شيء عارض لا يؤثر في الجوهر، لا بد ان تكون له أسباب حقيقية، يجب أن نبحث عنها ونواجهها بوضوح وشجاعة، فبعد فترة الحماس والإيمان التي حركت الجماهير العربية في الخمسينات نرى مظاهر الشك والتردد والعجز، لان المشاكل التي نواجهها أصبحت أكثر تعقيدا، ولكن المهم أن نُرجع إلى الجماهير العربية حرية الحركة والتحرك، وان نرجع إليها الجو التاريخي، جو الأهداف الكبرى، جو الرسالة العربية. فخروجنا (اي خروج العرب) من الحالة العارضة، اعتقد انه سيكون بغرس الثقة من جديد بلأمة وتاريخها ورسالتها، وبغرس الثقة بالإنسان العربي وبالإنسان بعامة، وغرس الثقة بالجماهير وقدرتها وحكمتها أيضا. لا نقلل من حكمة الجماهير ووعيها المختزن ودوافعها التاريخية العميقة. كما أنه في الحزب علينا أن نجدد الثقة بالمناضل البعثي ليكون مناضلا مسئولا، حرا، متحملا للمسؤولية.
ايها الرفاق
في العالم تحدث تطورات سأكتفي بالإشارة الى بعضها لأني اعتبرها مؤثرة في مسيرتنا الثورية. الثورات الاشتراكية التي حدثت في العالم من بداية هذا القرن واستمر بعضها حتى الآن، في أنظمة معروفة لم تحقق القفزة النوعية التي كان مأمولا منها ان تحققها. حققت تقدما اجتماعيا لبلدان وشعوب كانت تعاني بنسب مختلفة من التخلف ولكنها لم تحقق التغيير النوعي في الإنسان، لم يخلق الإنسان الاشتراكي الجديد، لم يتكون، لم تنجح تجربته، أو لم ينجح تكوينه. ومضى على هذه الثورات عدد كاف من السنين، عشرات السنين و لا يبقى عذر لأي ثورة إذا هي لم تجسد أفكارها الأساسية، ولا تعطي خلال هذه العشرات من السنين جوهر ثوريتها.
والواقع أن الفرصة ضاعت على هذه الثورات رغم القوة التي بلغتها بعض البلاد، قوة تكاد تنحصر في النواحي المادية التي لا تصمد للزمن، أكثر منها في تكوين الإنسان والمجتمع الاشتراكي. إن هذه الثورات سبقتنا في الزمن وكانت قد ورثت أيضا تراثا ثقافيا فكريا اغني وأوسع من التراث الفكري والسياسي الذي في حوزتنا، وكانت الثورة العربية بما فيها حزبنا تتطلع، شاءت أم أبت، إلى الثورات الاشتراكية وتقتبس تارة عن وعي وتارة بدون شعور وبالتقليد.
إن أمام حزبنا وقفة، وقفة متأنية ومتعمقة يجب ان نطالب أنفسنا بها لكي نعزز في حزبنا النهج الاستقلالي والتفكير الأصيل، ونتعظ بما يجري عند غيرنا، ونتحرر ونتخلص من التقليد الذي دخل، كما قلت، عن فصائل الثورة العربية بنسب مختلفة. وقد نكون أحسن حالا من الجميع في هذا الموضوع ولكننا مطالبون بان نعتبر بهذا التوقف أو التجمد الذي أصاب الثورات الاشتراكية، والذي يجب إن نبحث عن أسبابه لأننا نحن في وضع أفضل، مازلنا في بدايات الطريق طالما أننا لم نوحد أجزاء وطننا الكبير ولم نوحد امتنا الكاملة، فإذن الزمن يسير لمصلحتنا ويعطينا أمثلة ونماذج للاعتبار والدرس، ولكي نصرّ على استلهام الأصالة في تاريخنا وفي روح أمتنا، ولكي لا نصل في يوم ما إلى طريق مسدود.
هذا أيها الر فاق، ما أردت إن أشير إليه إشارات عابرة وأرجو لهذا المؤتمر النجاح في أعماله واكرر ثقتي بان حزبنا وامتنا تسيران في طريق صاعد.
والسلام عليكم
15 أيلول 1977
(1) كلمة في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر القومي الحادي عشر المنعقد في 15-9-1977
——————–
الأمة تسير إلى الأمام
أيها الرفيقات والرفاق(1)
مدرسة الإعداد أمل من آمال حزبنا وعندما نوليها الاهتمام فإنما نتطلع إلى الأجيال البعثية، التي نريدها أن تسجل تقدماً في الوعي والنضال على من سبقها وأن تقترب أكثر من النموذج البعثي الذي نطمح إليه والذي نلمس فعلاً بأنه يرتقي وينضج، وإن كان لا يزال يحتاج الى المزيد من التقدم ومن التعمق ومن الوضوح. فنحن نشعر حتى في أحلك الظروف بالثقة بالنفس وبالتفاؤل بالمستقبل لأننا أوجدنا على الأرض العربية أجيالاً مرتبطة بهذه الأرض، ارتباط حب وإيمان، ومرتبطة بقضاياها المصيرية ومتشوقة إلى المستقبل وإلى الحضارة.
لذلك لا نرتاع ولا نفزع عندما تداهمنا الأحداث، وإنما نتخذ منها وسائل وسبلاً لمزيد من التعمق في فكرنا ومزيد من الالتصاق بقضايانا ومزيد من الجهد والنضال والتضحية في سبيل بلوغ أهدافنا.
أيها الرفاق
هذه الظروف التي نعيشها الآن ظروف يشتاقها المناضل وان تبدو قاسية مؤلمة، ولكن المناضل المؤمن إنما يشعر بارتعاشة الحياة تخفق في قلبه وضميره وتزيل عنه الخدر وأثر العمل العادي لتضعه فجأة في لجة المعركة، في صميم الشعور بالمصير المهدد فيدرك في لحظة خاطفة مقدسة كل معاني القوة كمناضل وكل الدوافع العميقة التي كونته ودفعته إلى طريق النضال والثورة فيلتقي مرة جديدة بنفسه، بمبادئه وقدره.
لا أريد أن أبتعد عن الموضوع الذي يفرض نفسه علينا في هذه الأوقات، الموضوع القومي المصيري، ولكنني أجد علاقة وثيقة بين معالجة هذا الظرف القومي المصيري وبين تسليط الضوء على وجودنا كبعثيين، كحركة تاريخية قطعت أشواطاً من الزمن ومن النضال وأثبتت وجودها وقدرتها على البقاء والاستمرار وصمودها للنكبات والنكسات سواء أكانت من داخلها أو خارجها، فليس لغواً ولا خروجاً عن الموضوع أن نذكر ذلك ونذكر أنفسنا به في مثل هذه الظروف، بأن حركتنا بلغت حدّاً من التكون العضوي الحي السليم الذي يعزز ثقتنا بأنفسنا ويعطينا شعوراً قويا بالواجب والمسؤولية، وأننا أجدر من تتطلع إليه الأمة في الظروف العصيبة وأحق من يتقدم الصفوف للاضطلاع بالواجبات القومية لإعطاء القدوة ولإرضاء الضمير وللتقدم خطوات جديدة على طريق الأهداف البعيدة.
أيها الرفيقات والرفاق
هل هذا الظرف يحمل جديداً لم نكن نعرفه أم أنه نتيجة منطقية لسلسلة طويلة من الظروف ومن الأحداث ومن السياسات والممارسات والمؤامرات التي سبقته وأعدت له؟ نعرف جميعاً بأنه هو نتيجة لكل ما سبقه منذ عشر سنوات إذا أردنا الاختصار ونستطيع أن نرجع بذلك إلى عشرات من السنين، ولكن فيه عنصر جدة. بدليل أنه أحدث من الوعي واليقظة في الجماهير العربية وفئاتها الواعية وأحدث هزة وجدانية وحرك الشعور بالمسؤولية بدرجة وبشكل يختلفان جداً عن السنين السابقة والظروف السابقة، فهو بهذا المعنى حدث جديد وفرصة ثمينة يدرك المناضل الواعي بحسه وبتجربته النضالية أنه يجب أن يستغل ويستثمر إلى أبعد الحدود، وأنه يحمل آمالاً وإمكانات إيجابية كبيرة وأنه بفعل الإرادة الواعية، بفعل الإرادة النضالية، يمكن أن يحول إلى عكس ما قصده الأعداء العملاء الخونة الذين تجرؤوا وأقدموا عليه مستهينين بكرامة الشعب وبقدرة الشعب. هذه هي العبرة من هذا الظرف وما فيه من جدة.
أيها الر فاق
إننا في كل منعطف في طريق نضالنا القومي نعود إلى مبادئنا وإلى فكرتنا نسترشد بها ونحلل الظروف والأحداث على ضوئها وهديها، فكيف يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد؟ إنها لصدمة تلك التي أحدثتها زيارة السادات، زيارة العار، فكيف وصلت الأمور إلى هذا الحد؟ إننا لو أخذنا السنوات العشر الاخيرة فحسب ابتداء من حرب حزيران إلى الآن، فماذا نجد؟ نجد أن ما تم مؤخراً هو نتيجة هزيمة، نتيجة هزيمة حزيران، هذه النتيجة التي لم يجرؤ أحد في أعقاب حرب حزيران أن يصل إليها، فإنها تتم وتحصل بعد عشر سنوات وبعد حدث كبير تم خلال هذه السنوات العشر هو حرب تشرين.. حرب تشرين التي نعرف بأنها كانت حدثاً عربياً كبيرا، حدثاً عالمياً، حدثاً عربياً أعاد إلى الأمة ثقتها بنفسها وإلى الإنسان العربي ثقته بنفسه، وحدثاً عالمياً لأن حرب تشرين غطت على كل الدعايات السلبية المغرضة التي لفقها الاستعمار والصهيونية زمناً طويلا لطمس حقيقة الأمة العربية وتشويه سمعتها، فكانت حرب تشرين تمزيقاً لهذه الحجب المصطنعة وإيذاناً ببروز قوة عالمية على المسرح الدولي وفي حضارة العصر هي الأمة العربية، في طورها المتجدد.. هذه الحرب، نعرف الآن معرفة تكاد تكون أو تصبح يقيناً كاملاً بأنها كانت مدبرة ولم يكن الأعداء بعيدين عن تدبيرها ولكنهم لم يكونوا يتوقعون كل النتائج التي أثمرتها تلك كانت المعجزة، معجزة الشعب العربي بأن يتغلب على تخطيط الأعداء ومؤامراتهم ويفاجئهم ويفاجئ نفسه بالقدرات الخارقة عندما يثور لكرامته وعندما يستشعر دوره في الحياة ورسالته الإنسانية، عندها كان على الأعداء وعملائهم أن يراجعوا خططهم وأن يؤجلوا ما كانوا ينوون عمله في أعقاب حرب تشرين إلى هذا الظرف الذي نحن فيه، أربع سنوات قضوها في تبديد أو محاولة تبديد إيجابيات تلك الحرب مع الاحتفاظ بسلبياتها والحرص على تلك السلبيات.
حوادث لبنان، عامان كاملان من الحرب الأهلية ومن الخراب والتدمير في لبنان، لا يمكن أن يفهم ذلك إلا بأنه تنفيذ لتلك الخطة، خطة القضاء على إيجابيات حرب تشرين.. القضاء إذا أمكن على تلك الثقة بالنفس التي اكتسبها أو جددها الشعب العربي من خلال خوضه معارك تشرين، ولكن الاحتفاظ بالسلبيات، وما هي تلك السلبيات؟ هي روح التخدير ذريعة بيد الحكام المتآمرين الذين يسعون إلى التسوية وإلى التفريط وإلى الاستسلام وبأن يتخذوا من حرب تشرين واسطة لدغدغة الشعور السطحي عند الجيوش وعند الجماهير لأنهم حققوا نصراً. وانهم إذا مدوا يدهم إلى الأعداء فإنما هي يد المنتصر.. وانهم وفوا الواجب واستردوا الحقوق. فكل هذا لمحاولة تغطية المؤامرة الاستسلامية التي هي من الكبر والضخامة بدرجة أن لا شيء يستطع تغطيتها وتمويهها والتعتيم عليها، فالأمة تسير إلى أمام وجماهيرها تزداد وعياً وتمرساً يوماً بعد يوم، وطلائعها المثقفة تتقدم في المعرفة وفي العلم وفي الوعي والنظرة، فكيف يمكن أن يغطوا شيئا، أن يزيفوا حقيقة كان شعبنا يدركها قبل خمسين عاماً وأكثر منذ أن طرحت قضية الصهيونية وأطماعها في أرضنا. كان جواب الشعب العربي بالإجماع وفي كل قطر، الرفض الكامل، الرفض المطلق، فكيف يمكن أن يطمعوا في انطلاء الخدعة على الأمة العربية وجماهيرها الواعية وطبقاتها المثقفة وحركاتها المناضلة بعد أن بلغت ما بلغته اليوم من وعي وتقدم. لكنهم رغم ذلك ماضون في المؤامرة مستهينون بكل هذه المقومات التي عددناها، ذلك لأنهم ينظرون إلى واقع مصطنع يجمد القدرات ويعزل بعضها عن بعض ويمنع توحدها وتفاعلها ويمنع أن يكون لهذا الوعي المتقدم في الأمة العربية ترجمة عملية وأن يكون لهذا التقدم في شتى الميادين الاقتصادية والعسكرية والثقافية حصيلة فعالة تخيف الأعداء وترهب العملاء وتردعهم، هذا الواقع المصطنع يكفي في نظر الاستعمار والصهيونية والحكومات المتآمرة الضالعة في مؤامرة الاستسلام أن يبنوا عليه آمالهم واستغلالهم لفترات ولسنوات للمستقبل، لأن طبيعة العدوان والاستعمار وطبيعة الاستغلال في الحكومات العميلة والمتآمرة أنهم لا يبنون المستقبل البعيد البناء الأزلي الأبدي.. لا ينطلقون من مبادئ، ولا يؤمنون بقيم، وإنما يسعون إلى إشباع شهوات وإلى استفادة من فرص لاستغلال ثروات الشعوب ولكي يؤخروا نهضة هذه الشعوب ويحولوا دون وحدتها أكثر ما يستطيعون الى ذلك سبيلا. إننا أيها الرفاق مطالبون بعمل مزدوج، مطالبون بتعبئة الأفكار والنفوس وحشد الإمكانات للتصدي للمؤامرة الكبرى بعد أن سقط عنها آخر ستار، وإننا في الوقت نفسه مطالبون بأن نلقي نظرة تحليلية على هذا الواقع العربي الذي اعتبرناه مصطنعاً مفروضاً لا يعبر عن حقيقة الأمة وعن حقيقة إمكاناتها ولا عن حقيقة إرادتها ولكنه لن يزول من نفسه إذا لم ندرسه ونحلله ونكتشف أسبابه الحقيقية لنتمكن من تغييره وإخضاعه لإرادة التحرر والتقدم في أمتنا.
إن واقعنا أيها الرفاق تبرز فيه أول ما تبرز علة التجزئة التي تهدر القسم الأكبر من جهود أمتنا ومن قدرتها، لأن النظرة العفوية البسيطة تظهر أن العرب اليوم قادرون على المساهمة مساهمة جدية في بناء العالم وحضارة العالم، فالاصطناع واضح.. اصطناع الأوضاع.. زيف هذه الأوضاع وكونها مفروضة. وجزء من هذا الاصطناع هو نتيجة خطأ في التفكير، خطأ في التصور وسطحية وتقليد لأفكار الغير.. هذه الأنظمة التي تسجن الجماهير بحجة التقدمية وبحجة البناء الداخلي، أية قيمة لهذا السبب وأي معنى لهذه التقدمية إذا توصل الأعداء وعملاؤهم بأن ينفذوا المؤامرة، أن يفرضوا السلام الإسرائيلي على الأمة العربية الذي يعني ببسيط العبارة مزيداً من التجزئة والتفرقة وتمزيق الأمة العربية ليس إلى دول ودويلات فحسب بل إلى عصبيات وطوائف وعشائر وإقليميات متناحرة ويعني بما يعنيه ضياع المكتسبات، ضياع الاستقلال، ضياع الثقافة الاستقلالية، دخول ورجوع الثقافة الاستعمارية التي ظهرت بعض معالمها في الطبقة التي يستند إليها السادات في مصر، هذه الطبقة التي لم تعد تخفي أفكارها أو تخجل منها، فهي قد تحللت من القيم ومن الكرامة الوطنية والقومية ومن الحرص على الأرض وعلى الشعب وعلى المواطن ولا تعرف ديناً غير دين النفع الشخصي ولو كان بالعمالة والتبعية حتى لإسرائيل.
أيها الرفاق
الطبقية هي حقيقة وحقيقة قوية لم ننكرها ولم نتجاهلها وإن كنا اصطدمنا منذ بداية حركتنا بمفاهيمها المنحرفة والخاطئة فأردنا أن نصححها ونضعها في مكانها الطبيعي.
وكشفنا عن حقيقة القومية التي هي ليست نقيض الطبقية وإنما ضد ذلك المفهوم الخاطئ الذي كان يلغي القومية بحجة الطبقية.. وأية طبقة هي التي تقبل اليوم بالاستسلام في قطرنا العربي الكبير مصر، أية طبقة تقبل بأن تستسلم لإسرائيل وتستلم للامبريالية الأمريكية والغربية وتستسلم وتمشي في ركاب الرجعية وأشد ما في واقعنا العربي من تخلف، هذه الطبقة التي فيها الكتاب والأدباء، هل هي الطبقة التي كانت حاكمة في عهد فاروق، طبقة الإقطاع والرأسمالية أم أنها طبقة نمت وترعرعت في ظل الثورة. هذا هو الشيء الخطير.. ما كان بمقدور السادات أن يعيد بقايا الإقطاع وبقايا العهد الملكي لو لم يكن ثمة واقع قوي هو تلك الطبقة المسلمة لمقدرات الأمور للدولة وللمجتمع والتي سارت في ركاب الثورة دون قناعة ولا اقتناع وكانت مثال الانتهازية وركبت الموجة حتى إذا أصيبت الثورة بنكسة كانت هذه الطبقة مهيأة للخيانة، مهيأة للارتداد، مهيأة للتعامل مع أعداء الثورة وأعداء البلاد حفاظا على امتيازاتها وعلى ما جمعت من أموال ومنافع. هذا شيء خطير ينبه إلى حقيقة يفترض فينا أيها الرفاق أن نكون أكثر الحركات تنبهاً فيها وقدرة على تفاديها، هذه الحقيقة هي أن الثورات إذا لم تبن بناء متيناً على الإيمان بالمبادئ وعلى الوعي الواضح العميق المنتشر على أوسع نطاق، إذا لم تكن أدوات الثورة من صلبها، ومن دمها ولحمها، إذا لم تتجلّ بهذه الأدوات في كل وقت روح التجرد والتفاني والبعد عن الاستغلال والامتناع والانصهار في الخدمة العامة لقضية كبرى ولقضية مقدسة، إذا تساهلنا في المقاييس فإن الحاضر قد يهيئ لمستقبل مناقض له، ليس من طبيعته وإنما من طبيعة مضادة. وهذا ما يفرق الثورات التي قامت على أفراد قلائل ولم تكن تؤمن بالجماهير، والثورات التي تبنيها الحركات العقائدية التي تبني الإنسان بنفس الوقت الذي تبني فيه الدولة والمجتمع.
أيها الرفاق،
إن حسابات حكام هذه الطبقة التي أعمتها مصالحها وقطعت جذورها عن الأرض وعن الشعب، هؤلاء يبنون حساباتهم على أنهم يستطيعون عزل مصر عن بقية أقطار الوطن العربي وأن يديروا ظهرهم لهذا التيار القومي الثوري الذي يرفض استسلامهم ويقاومه، وأن يمشوا في ركاب الصهيونية والغرب مؤملين بمساعدات يخدعون بها الجماهير لفترة من الزمن وقد لا يحصلون عليها. هذه المحاولة نؤمن بأنها باطلة وفاشلة وان مصر العربية كانت دوما عربية منذ أقدم العصور…. والتاريخ يشهد بذلك، فهي التي أنقذت العروبة من هجمات شبيهة بهجمة الصهيونية والامبريالية في هذا العصر، هجمات الصليبين والتتار وغيرهم.. ولكنها أيضا في هذا العصر حتى في ظل الحكم الاستعماري والثقافة الاستعمارية لم يتمكن الاستعمار من فصلها عن الجسم العربي، فكيف بعد أن أصبح لكل بيت في مصر شهيد أو أكثر في معارك القومية العربية، كيف تنجح مؤامرة العزل بعد أن نشأ ت أجيال جديدة في جو الثقافة القومية العربية، الثقافة الثورية. إن إيماننا لا يتزعزع بعروبة مصر وبنموّ وتعمّق هذه العروبة يوماً بعد يوم. ولقد شاهدتم وسمعتم تلك الأصوات الحرة والأقلام الحرة التي استنكرت وقاومت ما أقدم عليه السادات، وإنه أيها الرفاق، ومن دواعي الأمل الكبير أن نلمس ذلك التطور في السنوات الأخيرة الذي بنته وأسهمت فيه القيادة السياسية لحزبنا في هذا القطر لإرجاع الجسور التي تهدمت لفترة ولخلق الأجواء الإيجابية ولانفتاح الأذهان والقلوب لصوت الحزب ولهذه الأخوة القومية التي توثقت أكثر من أي وقت مضى بين مناضلي حزبنا وبين أفواج من المناضلين والمفكرين في مصر العربية، وهذا الإيمان الذي بدأ ينمو في قلوب إخوتنا في مصر بأن العراق.. عراق البعث، هو المؤهل لأن يحمل الأمانة وأن يرد كيد المؤامرة وأن يقود نضال المواجهة للاستسلام وللردة، هذا كسب كبير وثروة تعزز ثقتنا بحزبنا وبأمتنا وبمستقبل الحزب والأمة..
أيها الرفاق
إن هذا المخطط الاستعماري الصهيوني الرجعي ليس بالشيء الهين ولا بالشيء المرتجل، إنه عصارة التفوق العلمي الذي يتمتع به الغرب الاستعماري والصهيونية العالمية وهو قديم وهو متجدد أيضا يستوعب كل ما تحققه الأمة العربية من تقدم في الوعي والقدرة لكي يأتي بالأسلحة المتفوقة على هذا الوعي وتلك القدرة فيوقف نموها وتقدمها ويضع الحواجز والعراقيل في وجهها، في طريق تصميمها العميق على الوحدة. هذا المخطط الاستعماري الصهيوني الذي تلتقي الرجعية العربية معه بدافع الحفاظ على المصالح الخاصة.. هذا لا يمكن أن يهدم في يوم، لا يمكن أن ينتهي في هبة جماهيرية أو صحوة فكرية، إنه يتطلب العمل الدائب الطويل. ولكن أهمية هذا الظرف هو أنه يقدم فرصة نادرة لكي نضع في وجه هذا المخطط الرهيب القوة المتكافئة معه، وليس غير قوة الجماهير العربية الواسعة التي تضم الوطن الكبير بكامله، ليس غير هذه القوة بمستطيعة أن تتكافأ مع المخطط المعادي، ولو أننا نعرف بأن الطريق طويلة وشاقة وأن معارك كثيرة تنتظرنا وآلاماً كثيرة سنواجهها ونتحملها لكن المطلوب هو البداية الصحيحة التي كدنا أو كاد العرب ينسونها في السنوات الأخيرة، هو التحرك الجماهيري، التحرك الشعبي، الخروج من الأسوار، من أسوار الإقليمية لبدء مرحلة جديدة لا تكون تاريخية إلا بمقدار ما تكون شعبية جماهيرية. عزلة الشعب والجماهير هي وراء كل ما شاهدناه من ترد في الواقع العربي ومن ركود ومن فقر دم. الروح الشعبية أيها الرفاق هي التي تمنح القيادات الثقة بالنفس والثقة بالمستقبل وترجع إليهم الحس السليم والنظر المبدئي والإيمان بالقيم.. ترون أن الذين يمشون في طريق التفريط والخيانة هم من نوع مريض شاذ وكأنهم غرباء عن تربة هذا الوطن والشعب. ترون هذا النموذج المريض الشاذ الذي هو السادات يطلب ويستعطي إعجاب الغرب به، يريد أن يكون موضوع إعجاب الأعداء: الغرب والصهيونية، يريد أن تطبل باسمه أبواقهم ودعاياتهم، هذه ثمرة الثقافة الاستعمارية والتربية الاستعمارية.. العقدة أمام المستعمر وأمام الغرب، فما أن يتيسر لواحد من هذه النوعية أن يصل إلى السلطة حتى تظهر عقده النفسية ويكشف عنها. هذا النموذج الذي يجب أن يتخذ عبرة للانحراف في مجتمعنا، لأن السادات يسمي استسلامه وزياراته الحقيرة يسميها تحضراً وعنواناً للتحضر. إذا كان هذا مفهوم الحضارة الذي يقدمونه لنا فمن يمشي مع هذه الحضارة مع هذا المفهوم؟ ليس الأقطار العربية التي قطعت أشواطاً في التقدم، وإنما تمشي المجتمعات المتخلفة الرجعية التي يعتمد السادات على مؤازرتها والتي لا ذنب للمواطنين فيها في تخلفهم وإنما الذنب للحكام الذين خنقوا أصواتهم وتركوهم في الجهل والتخلف.
أيها الرفاق والرفيقات
إن للحزب دوراً كبيراً لم نكن نجهله أو نتجاهله، ولكن اليوم يطالبنا به الكثيرون من خارج الحزب، الجماهير العربية وجماهير المثقفين العرب تتابع الحزب في هذا القطر وفي كل مكان لأن يتقدم إلى هذا الدور الذي أُهّل له وأهله نضاله الطويل له، وإننا لا نستطيع أن نقوم بهذا الدور بتفكير سلبي دفاعي بأننا لسنا مع الخونة والمستسلمين أو نرفض الاستسلام والخيانة، وإنما نستطيع أن نضطلع بالدور التاريخي عندما نضع الخطة الإيجابية البديلة البناءة التي تقول للشعب العربي في كل مكان هذا البديل، هذا هو المستقبل وليس بلوغه سهلاً ولكن ليس الشعب العربي بعاجز عن تقديم الجهود والتضحيات لبلوغ هذا الهدف وإننا بحاجة إلى أكثر من التفاؤل.
أيها الرفاق
إننا بحاجة إلى الإيمان بأمتنا والإيمان بحزبنا والإيمان بالإنسان العربي، والسلام عليكم…
3/كانون الأول/1977
(1) لقاء مع طلبة الدورة الخاصة التاسعة والسادسة عشرة الاعتيادية لمدرسة الإعداد الحزبي في 3/12/1977.
——————————-
1978
عصر الوحدة
ايتها الرفيقات والرفاق(1)
نحن امام ظرف خطير لا يجوز ان نستهين به او نخفف من خطورته، ولكننا في الوقت نفسه نشعر أننا اقدر وأقوى من أي وقت مضى على مواجهة الظروف الخطيرة وأننا مهما تبلغ خطورتها نستطيع بل يجب ان نحيلها الى قوة جديدة تضاف الى ثورتنا العربية الصاعدة، نبحث عن العارض الوقتي المصطنع في المؤامرة الكبيرة التي دبرها اعداء الأمة لكي نكشف اصطناعه وضعفه ولكي نسهل على جماهيرنا العربية والمناضلين الثوريين في سائر ارجاء وطننا الكبير ان يتغلبوا على هذا الخطر عندما يعرفون ما ينطوي عليه من خدعة، ونكشف ايضا عن الجدية والعوامل الحقيقية التي ما كانت المؤامرة لتقوم ولتكبر الى هذا الحد لولا ثغرات وأمراض ونواقص ما زالت قائمة في مجتمعنا، في بنياننا القومي، في تكوين ثورتنا المعاصرة. تأتي التحديات لتزيدنا تنبها ولتزيد خطانا سرعة في معالجتها لكي يصبح البنيان متينا واكثر منعة وصلابة.
قلما عرفنا ظرفا في حياتنا القومية، في مسيرة حزبنا العظيم كانت فيه الأمور واضحة الى هذا الحد. وهذه علامة ايجابية مشجعة لان هذا الوضوح في الظرف وفي تصرفات الأعداء وعملائهم ليس مقصودا من قبلهم بقدر ما هو نتيجة لتقدم الثورة العربية ولكونها لم تعد تترك للاعداء وأدواتهم فسحة واسعة للتستر والمغالطة والالتواء..
اننا كعرب وكثورة عربية نعاني منذ سنوات ومنذ سنة وبضعة أشهر على وجه التخصيص، نعاني من ظاهرة شاذة في الحياة العربية، في السياسة العربية، تكاد تكون ظاهرة فريدة، ظاهرة مرض وشذوذ، هذه التي تتمثل في شخص السادات وفي عقليته ونفسيته وممارساته. فقد عرفنا عهودا رجعية مفرطة في رجعيتها فاسدة ومفرطة في فسادها مرتبطة بالأجنبي تأتمر بتوجيهاته، ولكننا لم نعرف بعد مثل هذه الظاهرة خاصة عندما تظهر في اكبر قطر عربي، في قطر كانت له دوما القيادة والريادة والثقل الأكبر في التاريخ العربي، في الحضارة العربية، في مواجهة الغزوات التي دبرها الغرب منذ العصور الوسطى ضد الأمة العربية.
هذه الظاهرة اذا توقفنا عندها قليلا، فلكي لا تأخذ في تصورنا حجما اكبر مما تستحق ولكي لا تدخل أي اثر للوهن في عزيمتنا. فالسادات اذا نظرنا الى الوقت والى الظروف التي جاء فيها الى الحكم في هذا القطر الكبير الذي يعادل كما يردد السادات وأبواق إعلامه نصف الأمة العربية من حيث العدد ومن حيث الامكانات، في اي ظرف جاء السادات؟ بعد ان قضى ما يقرب من العشرين عاما في زوايا الإهمال في عهد عبد الناصر وفي “الحياة التافهة”، تساعده لعبة الأقدار بان يصل الى السلطة، فلا تتحمل شخصيته العادية تغيرا مفاجئا مثل هذا، فيجعل من السلطة متنفسا لعقده المكبوتة، جاء بعد عهد من البطولة وجاء بعد ملحمة من الاعمال لم تكن مقتصرة على مصر بل شاركت فيها جماهير الأمة العربية بكاملها، سواء أكانت المشاركة بالفعل ام بالفكر والعاطفة، وبالرغم من ان ذلك العهد كان ايضا يعاني من نواقص فادحة لم تتح له ان يتوج تلك الملحمة بالنصر المبين بل انتهت كما نعرف جميعا بشكل مؤلم فاجع وتحملت الأمة العربية كلها نتائج تلك المغامرة ولكن ذلك كله لا يمحو حقيقة مغروسة في قلوب الجماهير العربية وقلوب جماهير مصر بان محاولة صادقة جرت، محاولة بطولية، جرت في عهد عبد الناصر من اجل توحيد القوة العربية في وجه اعداء الأمة الاستعماريين ومحاولة لتثوير الجماهير ولاستخراج القوى الثورية والنضالية في عدة ساحات عربية. ولست بحاجة الى ان اذكر وأنا أخاطب مناضلين بعثيين بأنه كان للبعث فضل وسبق وإسهام كبير في خلق تلك الأرضية الثورية في الوطن العربي وفي تمكين عبد الناصر من ان يتجاوب مع أماني الشعب العربي وان يقف تلك المواقف الجريئة الشجاعة في وجه الاستعماريين. هذا الجو قد تغير واختلف بعد الهزيمة ثم بعد غياب عبد الناصر وآلت الأمور الى شخص السادات فلم يستطع ان يكتشف لنفسه دورا تاريخيا الا بحالة غير معقولة من الاستسلام والتبعية والذوبان في جسم الأعداء حتى عبر عن حصيلة ذلك في الخيانة السافرة التي أوصلته الى توقيع معاهدة الخيانة..
نريد ان نخلص من هذا الى ان شيئا من شخصية السادات ساعد على إبراز موقف التبعية والاستسلام الى هذا الحد من الخيانة، ولكن تبقى الحقائق هي هي اذا صرفنا النظر عما أضافه شذوذ السادات من مبالغة في الموقف، فان هناك حقائق لا تتغير تتلخص في ان الأمة العربية وثورتها المعاصرة ستجد نفسها والى امد طويل امام طريقين، طريق التخلي والمساومة والضعف والحرص على المنافع الخاصة وطريق الرؤية الثورية والتجرد الثوري والانطلاق من مصلحة الأمة ومن صورة مستقبلها كما يجب ان تكون، وبالتالي من موقف الصمود والنضال والتضحية والمثابرة، تغذيها بايمان متجدد وتعززها الانتصارات وخطوات التقدم المحتومة لان الأمة العربية دخلت ومنذ زمن في طور النهضة والصعود، في طور الانبعاث الحقيقي، ويبقى ان هذا الانبعاث لا يستطيع ان يواكبه او يشعر به او يؤمن به كل الحكام وكل الطبقات الحاكمة فلا بد من رؤية ثورية ولا بد من انحياز عميق الى مصلحة الجماهير الكادحة وارتباط مصيري بها وايمان لا يتزعزع بإمكاناتها وبأنها هي صانعة التاريخ. اما الحكام والطبقات التي تثقلها وطأة مصالحها الخاصة من طبقية وفردية وتعمي ابصارها وتبلد حسها، فهذه لم تكن في يوم من الايام ممن يصنعون التاريخ بل كانت هي العقبات في طريق الثورة وفي طريق التجدد ولا بد لحركة الانبعاث حتى تنمو وتتفتح وتكبر وتتصلب من ان تعارك العقبات ومن ان تعيش الواقع العربي بكل أمراضه لتحسن وضع العلاج له ولكي تتغلب على الأمراض والعقبات واحدة تلو الأخرى.
ان جماهير مصر العربية لئن كانت حتى الآن لم تثر ثورتها لتسقط الخائن ونظامه فلن يكون هذا ببعيد وقد اعطت جماهير شعبنا في مصر البراهين الكثيرة على ثورتها وروح التضحية عندها بما فيه الكفاية لكي لا يداخلنا ريب فيما سيكون موقفها وفيما هي حقيقتها وحقيقة معاناتها، ونحن نعرف ان اعداءنا الذين يملكون الوسائل الرهيبة، وسائل العلم الحديث المنصرف الى الشر والجريمة، كيف يتوصلون في فترات مؤقتة الى كبت حرية الشعوب وحصارها ولكن ذلك يبقى الى زمن محدود حتى تختمر الثورة وتؤذن بالانفجار..
ايها الرفاق
ما دامت حركتنا الثورية والثورة العربية بوجه عام، تتقدم وتقترب من النضج فان من مستلزمات النضج ان تأخذ من كل ظرف عبرته وفائدته، ان تأخذ حتى من النكسات ومن المؤامرات ما يساعد على مزيد من الوضوح في رؤيتنا ووعينا ومزيد من الصواب في سيرنا وفي تخطيطنا فموضوع مصر ليس جديدا والمناضلون البعثيون لهم معاناة خاصة في هذه العلاقة مع اكبر قطر عربي اذ كنا دوما نتمنى ان نجد التجاوب التام والفهم المشترك مع الجماهير والحركات التقدمية في قطرنا العربي مصر وكنا نصطدم ببعض الفروق نتيجة اختلاف في التجارب وفي الظروف ينعكس على الوعي العربي في مصر، وكان حزبنا اسبق واقدر من غيره على استكناه هذه الفروق وعلى فهم هذه الخصوصية لكي يكون اقدر على التعامل والفهم والتفاهم مع اخوتنا في مصر. ولكننا في الوقت نفسه نعترف باننا لم نبذل بعد كل الجهود المطلوبة من اجل عمل ضخم يسرع اندماج مصر في حركة الثورة العربية، وهذه مهمة تأتي الظروف الخطيرة الآن، ظروف المؤامرة لتنبهنا تنبيها فيه بعض العنف والقسوة لكي نولي هذه المهمة قدرا اكبر من العناية والجهد فلا يخطر ببالنا، ولا يجوز ان يخطر ببالنا لحظة واحدة، ان هناك تقصيرا من مصر وحدها، والتقصير عام ومتبادل ومشترك، وهذا ما يجب ان نعيه ونلح عليه ويجب ان نبدأ بأنفسنا ويجب ان ننبه الجماهير العربية في بقية اجزاء الوطن الى تقصيرها مثلما ننبه الطلائع الوطنية والعربية في مصر الى ضرورة مزيد من المبادرات نحو بقية الاقطار العربية ونحو حركة الثورة العربية لنتغلب على صعوبة هي عامل بطء في مسيرة الثورة العربية. هذا ما نستفيده من عبرة الظرف الراهن ولكننا في الوقت نفسه نؤمن بان ما يجري باسم مصر هو زائف ومزور ومفروض لا يمثل مصر وشعبها وأننا اقرب الف مرة الى جماهير مصر والى مشاعرها والى مصلحتها والى طموحاتها من هذا النظام الخائن المفروض بقوة الاجنبي والذي يتعارض مع ابسط بديهيات الواقع والتاريخ العربي.
قلنا ايها الرفاق بان الوضوح في الظرف الراهن لم يشأْهُ الاعداء بقدر ما فرضه سير النضال العربي، هذا الوضوح الذي جعل الامبريالية الامريكية تقوم بدورها الرخيص المفضوح لانجاز مؤامرة لا يمكن ان تصمد ولا يمكن ان تخدع احدا، معتقدة ان كسبها للسادات هو كسب لمصر في البدء، وللعرب فيما بعد، وان العرب يمكن ان ينخدعوا بنظرة السادات الى الصهيونية والكيان الصهيوني، وان يبرئوا الصهيونية من كل عنصرية ومن كل شر قامت عليه وان يبرئوا الكيان الصهيوني من كل اغتصاب ومن كل إثم اقترفه بحق العرب طوال عشرات السنين، وان يطمئنوا الى المستقبل والى ان التعايش ممكن وسليم العواقب. فهذه امور لم يعد الطور الذي بلغته الأمة العربية وجماهيرها وحتى الطبقات الحاكمة يمكن ان تقتنع بذلك وان يكابر احد في امور اصبحت حقائق في نظر العالم وفي نظر وعي وضمير الشعوب كلها. ذلك إذاً لن يؤثر على صراعنا التاريخي لا مع الصهيونية ولا مع الامبريالية ولكننا امام صدمة كالتي نواجهها مطالبون بان نتصور المستقبل وما يجب ان نعد لهذه المؤامرات من خطط ووسائل وما يجب ان نسلح به جماهيرنا من وعي وروح نضالية لكي تستمر المسيرة وتتصاعد فلا خوف ان يتمكن الاعداء من فصل مصر عن جسم الأمة العربية فالعرب قد دخلوا عصر الوحدة حتى عندما انتكست التجربة الاولى للوحدة كان انتكاسها درسا مفيدا وغذاء ضروريا لكي تأتي التجربة الجديدة وقد توافرت لها شروط من الصحة والنضج تضمن لها البقاء والنماء..
ايتها الرفيقات والرفاق.
هناك جواب واحد في ضمائركم وعلى ألسنتكم وفي ضمير كل عربي مخلص جواب للرد على المؤامرة، هو بالوحدة، تعرفه الجماهير بغريزتها ونعرفه بصلتنا العميقة بمصير امتنا وبفكرنا البعثي الذي انطلق منذ بدايته من النظرة الوحدوية واعتبرها اكثر اهداف الثورة ثورية، الرد على المؤامرة بالوحدة. ولكن يجب ان نستفيد من قسوة الظرف وصدمه العنيف لنفوسنا لكي نلتقط الصورة الحية، الصورة الصحيحة التي يجب ان تكون وتبنى عليها الوحدة، وحدتنا. وحدة البعث كانت منذ البدء وستبقى في تصورها الاول والدائم وحدة مواجهة، وحدة قتال، وحدة جماهير، جماهير مناضلة، ستبقى وحدة لا تستقر ولا تهدأ لان غايتها توحيد الأمة العربية كلها وتحرير الأمة العربية كلها فلن تغرق في بناء الدولة، وان كانت الوحدة لا تستغني عن الدولة، وان كانت الوحدة تحتاج الى ارض وتحتاج الى وسائل لكي تنطلق في اداء مهامها، ولكنها ستبقى متوترة نزاعة الى التقدم والى التوسع والى الهجوم، الهجوم لكسب الجماهير العربية قاطبة، لتجسيد آمال ومطامح هذه الجماهير في كل بقعة عربية. هذه الوحدة التي تبقى في أفق تصورها التاريخي، هذه وحدها قابلة للحياة وللاستمرار ولان تقوى وتزداد قوة. أما الوحدة التي تقنع وتفرح بداخل البيت وبان ترتب وتنظم ما هو داخل البيت وتنسى مهامها البعيدة فسوف تكون معرضة لان تذوي وتختنق من ضيق الأفق ومن الانشغال في الأمور الصغيرة ومن شحة الهواء، فالوحدة حتى لو كانت خطوة جزئية فهي الوحدة العربية ويجب ان تشعر وتعتبر نفسها دوما ممثلة للامة العربية في حالتها الثورية، في وضع الثورة لمواجهة اعدائها التاريخيين وفي وضع الثورة من اجل تحقيق نهضتها وحضارتها…
ايها الرفاق
قلت في بدء حديثي باننا لا نستخف ولا يجوز ان نستخف بالمؤامرة الكبيرة التي نجح الاعداء، ولو في الظاهر، في تنفيذها، وقلت ايضا باننا رغم حملها على محمل الجد ورغم تنبهنا لكل مخاطرها فإننا نشعر باننا أقوى من أي وقت مضى علي مواجهتها ومواجهة كل المؤامرات واننا قد استطعنا حتى الآن ان نكون للثورة العربية سمات وملامح وشروط العمل التاريخي، وان نكوّن الجسم الحي العضوي الذي ينمو نموا طبيعيا سليما ويستقطب كل ما حوله، فلا تجد الامة أنّى تلفتت إلا هذا العمل ذا القسمات الواضحة الذي تطمئن الأمة الى ان تصب فيه جهودها وان ترفده بالقوى الجماهيرية تباعا. هذا انجاز ليس بالسهل. وعندما تصل حركتنا الى هذا الحد من التكوين الصحي الذي يكتسب ثقة ومصداقية، نستطيع ان نواجه المستقبل بروح العزم والتفاؤل لان كل شيء سيتحول الى غذاء لهذا العمل التاريخي، النجاح والفشل، السهولة والصعوبة، ذلك لاننا كما قلت أمة في مرحلة الانبعاث نعمل لمدى اجيال طويلة ونعمل من الداخل وننمو من الداخل بينما اعداؤنا يعملون للظرف القصير، للوقت القصير، للنفع العاجل، ليس لهم جذور في الارض وليس لهم رسالة تحدوهم وتلهم مسيرتهم، فهذه المؤامرة هي واحدة من مؤامرات عديدة سبقتها بل هي محصلة للمؤامرات التي سبقت ولن تكون الاخيرة لان الاعداء لن يتوقفوا عن عدوانهم واطماعهم، واننا نواجهها الآن، بما اعددنا في السنين الماضية، نواجهها بحصيلة نضالنا الطويل السابق لذلك نشعر بثقة بالنفس لانها لا تفاجئنا ولا نرتجل المواجهة ارتجالا. كذلك نجاحنا في المستقبل يتوقف على اعدادنا منذ الآن لأن الحركة الثورية اذا لم تستطلع المستقبل وتعد له وتعمل بهدي مقاييسه ومتطلباته فانها لا تكون ثورية حقا..
ايها الرفاق
فكرتنا منذ البدء هي هذا التطلع الى المستقبل هذه الرؤية الثورية التي نحاول فيها جهدنا ان نرى صورة المستقبل فنطبق شروطه في الحاضر حتى نساعد على ولادته، نعزف عن العاجل من اجل المستقبل، لا نهمل الحاضر ولكن بعقلية ونفسية الذين يبنون المستقبل هذا هو بالذات التفكير الوحدوي الذي ميز حركتنا، هذا هو المناخ الذي نبتت ونمت فيه الفكرة الوحدوية في حزبنا لان الوحدة عندما قام الحزب كانت مجرد فكرة وابعد الأفكار عن إمكان التحقيق، ولكن الحزب آمن بأنها هي أقوى من الحقائق كلها، ومنها ومن هذا الايمان، من هذه القناعة استمد قوته على الصمود والاستمرار حتى وصل الى الحد الذي يستطيع فيه ان يجسد فكرة الوحدة..
ايها الرفاق
هذا المنطلق الوحدوي هو المنطلق الثوري، وثورية البعث واخلاقية البعث حيث تلتقي الثورية بالاخلاقية ويندمجان معا لأن الوحدة تتطلب التجرد، تتطلب التضحية بمصالح آنية كثيرة، تتطلب النظر البعيد والصبر والعمل الدؤوب حتى تخرج الأمة الى حيز الواقع، لأن الأمة بدون وحدة هي مشروع أمة فقط. هذه النظرة التي ابتدأ بها البعث هي التي يجب ان نعود اليها دوما لكي نقوى على مواجهة الصعاب، نقوى على مواجهة الظروف الخطيرة، اي ان البعث هو دوما للأمام وللمستقبل وللأمة، للآخرين من شعبنا، لتأريخنا، لاجيالنا. هذه النظرة هي التي تستطيع ان تجمع الأجيال المناضلة من البعثيين قديمها بحديثها، لأن الاجيال الحديثة اذا لم تعش في ذلك الجو الذي بدأ منه البعث، فان المبادئ التي تعمل لها قد تفقد شيئا من حيويتها. في كل ظرف خطير هذه الرؤية الصافية الصادقة هي التي وضعتنا على طريق النضال والتضحية والسعادة الفائقة لخدمة امتنا والسلام…
28 آيار 1978
(1) حديث مع طلبة الدورتين الثالثة عشرة الخاصة والتاسعة عشرة العامة بمدرسة الاعداد الحزبي في 28/03/1978.
——————–
قضية الأمة ومؤامرة التسوية
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير امتنا العربية المناضلة
تأتي هذه المناسبة اليوم في ظرف قومي تمر فيه الأمة العربية بامتحان تاريخي تنضج فيه تحولات مصيرية، تذكرنا بظروف نشأة الحزب، فنشعر أننا نعيشها، فالحركة الثورية الأصيلة ميلادها لا ينتهي. فهي تولد من جديد مع كل أزمة عميقة ومع كل فرصة تاريخية للنضال الخلاق.
ان إحياء ذكرى مولد البعث لا يذكر بالبهجة والأفراح وإنما بالظروف العصيبة والآلام القاسية التي كانت تعانيها امتنا العربية من مشرق وطننا الى مغربه والتي دفعت جيلا من شباب العرب الى التفكير والتأمل للبحث عن طريق الخلاص.
ولد الحزب في ظروف صعبة قاتمة، كانت الامة العربية فيها مستعبدة ممزقة، تعاني أقطارها من وطأة الاحتلال الأجنبي وما يرافق الاحتلال والاستعمار من ضعف وتخلف وتجزئة ومن قمع وحشي لكل بادرة من بوادر الوعي والتحرر. ان الباعث العميق لظهور حركة البعث كان يكمن في إدراك التناقض الكبير بين أوضاع الأمة العربية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبين الإمكانات الضخمة التي كانت تزخر بها الأمة ولا تستطيع التعبير عنها وتحقيقها في الواقع. ذلك لان قيادات تلك المرحلة كانت عاجزة عن إطلاق طاقات الجماهير وتعبئتها وإعدادها لنضال منظم طويل النفس، واضح الأهداف يعبر عن روح الأمة وضميرها، وعن الحاجات الحيوية لجماهيرها الشعبية الواسعة.
ونحن الآن بعد مضي نحو خمس و ثلاثين سنة على تلك الفترة وبعد ان جلا المستعمر عن معظم أجزاء الوطن العربي نتيجة نضال الشعب وثوراته المتلاحقة وبعد التقدم الذي أحرزه الشعب في مختلف أقطاره وعلى شتى الأصعدة، نجد أنفسنا مرة أخرى امام التناقض الكبير الصارخ بين الواقع العربي الموسوم بالجمود والعجز، وبين الإمكانات الضخمة التي تزخر بها الأمة والتي لا تجد سبيلها الى التحقق والتوحد، ذلك أن العمل الثوري خلال الحقبة السابقة لم يكن عميقا وجذريا الى الحد الذي تتطلبه أوضاع الأمة العربية كيما يحدث التصحيح المطلوب. لأن التصحيح المطلوب إحداثه بالعمل الثوري يجب ان يؤدي الى توفير القدرة الواضحة الحاسمة على تحرير الأرض العربية من السرطان الصهيوني، وتحرير الوطن العربي من النفوذ الامبريالي والقضاء على كل ركائز الاستعمار والصهيونية في هذا الوطن، وذلك لا يكون إلا بتحرير طاقات الجماهير العربية. ولئن لقيت الانجازات التقدمية على اختلافها، رضا من الجماهير فان كثيرا منها لم يلامس بعد أعماقها القومية الانسانية. واهم تعليل لهذه الظاهرة هو ان هذه الانجازات صنعت من فوق، هبة ومنحة، وقليلون هم القادة الذين توجهوا الى الجماهير الشعبية باعتبارها صاحبة الوطن وصاحبة القضية، وصاحبة الحق في النضال قبل الحق في ثمرات النضال. ان الجماهير إذا أعطيت منجزات لصالحها فإنها تقبلها ولا ترفضها. أما إذا استطاعت هي ان تحقق بنضالها هذه المنجزات فإنها تصبح منجزات ثورية، لأنها تحققت على أيدي جماهير مناضلة تعرف كيف تحميها وتدافع عنها. ان كون الثورة العربية في معظم أقطارها لم تصل بعد الى هذا العمق في التأثير، هو في آن واحد، مدعاة أسف، ودافع الى الأمل والعمل.
نأسف لأنّ أوقاتا وفرصا قد ضاعت على الأمة العربية كان يمكن أن تسجل خطوات في التقدم نحو أهدافها ولكننا نشعر بالأمل يملأ جوانحنا، ويحفز هممنا عندما نرى ان شيئا كثيرا مازال ينتظر المناضلين الصادقين والقادة المبدعين المؤمنين بالشعب. نشعر بالأمل لأن العجز الذي نشاهده ونعاني منه في الوضع العربي الراهن، لا يدل على عجز في الأمة وجماهيرها الشعبية بل يشير على العكس الى أن الأمة وجماهيرها لم تشترك بعد اشتراكا كليا في المعركة القومية، ويتحمل مسؤولية ذلك أكثرية القادة والحركات التي تتكلم باسم الأمة والجماهير ولكنها لم ترد او لم تعرف بعد كيف يصل كلامها وعملها الى أعماق الأمة وأعماق الجماهير.
وليس يعني هذا أن الأمة والجماهير الشعبية لم تشارك بعد مشاركة كلية عميقة في أي عمل او انجاز ثوري تم حتى الآن. ذلك أن الأمة وجماهيرها كانت حاضرة ومشاركة الى الأعماق في ثورة الجزائر البطولية وفي تأميم عبد الناصر لشركة القناة وتحديه الاستعمار أثناء العدوان الثلاثي على مصر، ثم في فرحة إعلان الوحدة بين سورية ومصر، وأيضا في ثورة 14 تموز في العراق التي قضت على أقوى ركيزة للاستعمار في المنطقة. كما كانت الأمة العربية وجماهيرها حاضرة ومشاركة أعمق الحضور والمشاركة يوم أمم العراق نفطه، متحديا الشركات الاستعمارية ومفتتحا عهدا جديدا من السياسة الوطنية الاستقلالية القائمة على الإرادة الثورية الاقتحامية والتخطيط العلمي الثوري الدقيق.
وكانت الأمة وجماهيرها حاضرة ومشاركة بقلبها وروحها وضميرها في كل عملية فدائية جريئة قدم فيها شباب عرب أرواحهم الطاهرة وأعمارهم النضرة نداء للمثل العليا وبدافع الحب للأمة العربية والحرص على مستقبلها، وكم مرة ساد فيها العجز والجمود، وكاد اليأس يستولي على النفوس، وإذا العمل الفدائي يشق حجب اليأس والظلام ويمنح النور والأمل كأنه وحي من السماء يذكر الشعب بقوته الكامنة ويذكر العدو بضعفه الأساسي وبالفرق بين الغاصب المعتدي وصاحب الحق المؤمن بحقه.
ان ما يجدر بالبعثيين وبالمناضلين العرب والجماهير الشعبية الكادحة ان يذكروه وان يرسخ في وعيهم، هو ان فترة العجز والارتداد والاستسلام ليست إلا فترة مؤقتة عابرة، ولا بد ان تنتهي وفي وقت قريب، فهي ليست عامة شاملة، بل تقتصر فقط على بعض الأنظمة والحكام. وأنها ليست إلا استثناء للقاعدة التي هي نهوض الأمة العربية في مختلف أجزاء وطنها، ونضال جماهيرها الذي سجل انتصارات تاريخية ضد قوى استعمارية ورجعية شرسة.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير امتنا العربية العظيمة.
عندما لاح للامبريالية الأمريكية وللكيان الصهيوني ان القوى العربية التقدمية قد ضعفت وتفككت بعد مؤامرة الانفصال على دولة الوحدة، وبعد مؤامرتي 18 تشرين و23 شباط على حزب البعث في كل من العراق وسورية، استدرجت عبد الناصر الى معركة مباغته، واعتقدت ان هذه الضربة ستكون كافية لإخضاع الشعب العربي وتيئيسه، وجره الى الاعتراف بالأمر الواقع، الذي هو: ضياع فلسطين والقبول بالتعايش مع الكيان الصهيوني المنتصر، المسيطر على المنطقة كلها بمساعدة الامبريالية الأميركية ومشاركتها، وكان الأعداء مطمئنين الى موقف الرجعية العربية متأكدين من مؤازرتها للمشروع الامبريالي الصهيوني ومن التقاء مصالحها معه.
ولكن مخطط الأعداء فوجئ، بتفاعلات الهزيمة القومية مع روح الجماهير العربية الشعبية وقواها الثورية، فظهرت المقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي وقام مناضلو حزب البعث في العراق بالاستيلاء على السلطة من جديد، مزودين بتجربة قومية وحزبية غنية أنضجتها النكسات التي مرت على الأمة والحزب.
وكان لا بد من البحث عن طريق يضمن موافقة العرب على ما لم يستطع الأعداء فرضه عليهم بالقوة، فكانت حرب تشرين. ولكن القوة العربية التي فجرتها الحرب تجاوزت ما خططت له الامبريالية الأميركية والأنظمة العربية المتواطئة معها في تدبير تلك الحرب، تجاوزا كبيرا لم يكن في حسبان المخططين. ذلك ان أية قوة دولية عظمى، مهما تكن متفوقة في التخطيط والوسائل تبقى عاجزة عن حساب ما يمكن ان تبدعه روح الجماهير وقواها الكامنة. فحرب تشرين التي دبرت كوسيلة حاذقة بارعة لتمرير التسوية، أي تصفية قضية فلسطين بالصلح مع العدو المغتصب ومفاوضته والاعتراف به، أصبحت عقبة في طريق هذه التسوية اكبر من عقبة هزيمة حزيران، هذه هي المفارقة الكبرى التي أوقعت الأعداء والعملاء في التخبط والتناقض حتى الآن. فالعدو الصهيوني بعد الهزيمة النسبية التي لحقت به، تعرى امام العالم كله، وبان اصطناع كيانه، وانكشف مقتله، وظهر ان وجوده بالذات وجود مؤقت، ينتهي مع أول نصر عربي يأتي به المستقبل، في ظروف وموازنات دولية ملائمة.
امام هذه الحقائق التي هي ليست جديدة، إلا من حيث انكشافها وانتشارها امام العدد الواسع، لجأ العدو الصهيوني الى أساليب جديدة لا تغير شيئا أساسيا في استراتيجيته، بل تخدمها وتعززها. ففي الوقت الذي انكشفت فيه حقيقة الصهيونية على الصعيد الدولي، كحركة عنصرية استعمارية استيطانية توسعية، وأدينت بقرار من أعلى هيئة دولية، يضع هذا الكيان على رأس الحكم لديه، أكثر الفئات تطرفا في عقيدتها الصهيونية العدوانية، لإضفاء مظهر القوة والصلابة والتصميم على المضي في المشروع الصهيوني التوسعي بصورة اشد وأقوى من أي وقت مضى، تثبيتا لثقة سكان الكيان الغاصب ولاحتياطيه في الخارج، وضغطا على الامبريالية الأمريكية التي تعتبر الكيان الصهيوني قاعدة وقلعة وأداة فعّالة لعدوانها ولنهبها ثروات الوطن العربي، لكي تبقى هذه الامبريالية ملتزمة بالتحالف الستراتيجي مع الكيان الصهيوني فلا تبتعد عنه في مساوماتها مع الأنظمة العربية الرجعية العميلة، والأنظمة المتهاوية والمتهافتة (بسبب ضعفها) على التسوية الأمريكية.
اما الأنظمة المتواطئة مع الامبريالية الأميركية في تدبير حرب تشرين، فقد اسقط في يدها، لأنها بعد ان بالغت في حجم انتصار تشرين، أمست تنوء بعبء النصر الذي لم يكن في الحقيقة من صنعها ووقعت في الحرج والتناقض، لان الروح التي خلقتها حرب تشرين تتنافى مع الروح الاستسلامية التي تحاول هذه الأنظمة إشاعتها في أقطارها.
لقد كانت هذه الأنظمة تطمح ان تجري التسوية من موقع المنتصر، محاولة بذلك خداع الجماهير ولو الى حين ولكن حساباتها لم تأت متفقة مع حسابات العدو الصهيوني. فقد رد العدو عندما أوصل الفئات الصهيونية الإرهابية الأكثر تطرفا الى رأس الحكم في الكيان الصهيوني، رد بمنطق المزايدة والمكابرة، على النتائج السلبية التي أفرزتها حرب تشرين بالنسبة إليه. فهو الآن مضطر للتعامل مع العرب بمزيد من القوة والشراسة والغطرسة، بل ان شراسته الآن هي أشدّ منها في أعقاب حرب حزيران متجاهلا حرب تشرين وكأنها لم تحدث، بل انه حاول خلال السنوات الأخيرة ان يعمل على إلغاء نتائج تلك الحرب، بان افتعل بواسطة عملائه وحلفائه الانعزاليين في لبنان حربا أهلية مدمرة، أراد منها القضاء على ما أثارته حرب تشرين في الجماهير العربية من انتعاش وثقة بالنفس.
ان العدو الصهيوني هو الذي يرفض التسوية الآن، لأنه يريدها بشروط المنتصر. وهو يفتقد الشعور بالانتصار رغم استسلام حكام التسوية. فالتسوية التي يقبل بها العدو هي التي تبدأ من ضعف العرب ومن تفرقهم، لتزيدهم باستمرار ضعفا على ضعف، وتمزقا فوق تمزق، وهو لذلك يحتاج الى مزيد من الوقت يحاول فيه بالتعاون مع الامبريالية الأميركية والرجعية العربية، والأنظمة المستسلمة ان يضعف العرب، ويفتت صفوفهم، ويشغلهم بالفتن الداخلية والخلافات الثانوية.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العظيمة
إننا نرى الواقع العربي بكل أمراضه، ولكننا نرى فيه أيضا عوامل القوة والأمل، نحكم عليه حكما ثوريا حاسما، ولكننا نثق أعمق الثقة بان مستقبلا مشرقا سيولد منه. نأسف لهذا الواقع ونتألم ونغضب ولكننا لا نستغرب ولا نحار، فأسبابه واضحة لدينا ونؤمن انه تأهب لقفزة جديدة الى امام، لا علامة ردّة وترَدٍ، وطبيعي ان يظهر من يرى في هذا التوقف المؤقت، فرصته للاستغلال والتمتع بالسلطة، ولو بالتضحية بمصلحة الشعب، ومستقبل الأمة، وحتى عن طريق التآمر والخيانة.
لقد عين الاستعمار للحكام العرب الممالئين له، وللطبقة الطفيلية المحيطة بهم، أدوارهم، ولكن منطق الثورة عين لهم أدوارا أخرى: بان يكونوا بخيانتهم وتواطئهم واستسلامهم، مهمازا يحرك الوعي وينضجه ويثير النخوة والغضب، ويعجل في تفجير ثورة الشعب من جديد. ان الجماهير لا يمكن ان تقبل او تصدق، ان تكون مصر العربية رائدة النهضة الحديثة منذ قرنين من الزمن وحاملة أعباء النضال ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، هي التي تطلب اليوم من العرب ان يصالحوا العدو المغتصب ويسلموا بشروطه. ولا يمكن ان تقبل وتصدق ان تسالم مصر العربية الصهاينة المحتلين وان تتنكر لقضية فلسطين وهي التي قدمت في سبيلها في الماضي البعيد وفي الماضي القريب، مئات ألوف الشهداء، لكي تبقى الأرض العربية مطهرة لا يدنسها غاصب ولا يقيم عليها محتل.
لقد اختار السادات لنفسه ان يكون منفذ الردة والأداة الأولى للرجعية العربية والامبريالية في المنطقة، فارتمى هو والطبقة الطفيلية المستفيدة من حكمه، في أحضان الامبريالية الأميركية، جاعلا إياها، بقرار شخصي منه، طرفا حياديا بل صديقا، متجاهلا نزعتها الى الاستغلال والسيطرة وأطماعها في موقع الأقطار العربية وثرواتها، وتحالفها الستراتيجي مع الكيان الصهيوني، ومصلحتها في إبقائه أداة عدوان على الأقطار العربية وعامل تهديد وإضعاف لها، ليمنع وحدتها، ويعطل نهضتها. كذلك، وكنتيجة منطقية لارتباطه بالامبريالية، وبقرار شخصي منه، اعتبر السادات عندما زار الأرض المحتلة ان الكيان الصهيوني قد غير طبيعته العنصرية العدوانية التوسعية ولم يعد الأداة والقاعدة الرئيسية للامبريالية في المنطقة العربية، وانه أصبح كيانا مسالما، وهو المزود بالسلاح الى حد التخمة، يكرر عدوانه على الأقطار العربية ويوسع رقعة اغتصابه، وينشر القتل والدمار في أرضنا وبين أهلنا. وعندما فوجئ، السادات باستنكار الأمة العربية كلها لفعلته المهينة لم يجد مهربا إلا ان يحاول عزل مصر عن جو الشعور العربي، وان يخرجها من مسيرة النضال العربي.
ولكن الجماهير العربية ستبقى تتطلع الى مصر، رائدة النهضة واثقة ان سحابة التشويه والتزوير لابد ان تنقشع، وان هذه التجارب المريرة ستعجل في تعميق انصهار مصر وشعبها في تيار المصير العربي، لتعود الى مركزها الطبيعي في حركة الثورة العربية، ويتطابق دورها الذاتي الواعي الإرادي مع دورها الموضوعي، باعتبارها الثقل العربي البشري والحضاري الأكبر والأفعل. ان حاكم مصر يستطيع ان ينفرد في اتخاذ الموقف ويكون مطمئنا الى تأييد الجماهير العربية ودعمها له، إذا كان الموقف الذي يتخذه، موقفا ثوريا متجاوبا مع أعماق الضمير العربي الشعبي. ولكن حاكم مصر لا يستطيع ان يتخذ موقف التخاذل والتفريط والخيانة، ويضع العرب أمام الأمر الواقع، حتى ولو كان يعتمد ضمنا على تأييد الأنظمة الرجعية العميلة او سكوتها، لان موقفه هذا يصطدم مع ضمير الجماهير العربية ويثير سخطها واستنكارها، ويتعرض للمقاومة العنيفة الثابتة.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا المناضلة
ليس وضع سورية بأقل خطورة من وضع مصر، من حيث نتائجه وانعكاساته على القضية القومية. بل ان بين الوضعين تماثلا وتجاوبا حتى بالرغم من مظهر التباعد والتخاصم في بعض الأحيان. لان كل واحد من هذين النظامين بحاجة حيوية الى وجود الآخر ومساندته، فالنظام الذي يتكلم باسم سورية يعطي باسم القطر الذي ولد فيه الوعي القومي العربي الحديث الشرعية القومية والغطاء العربي للتفريط المنوط بالنظام المصري ان يقدم عليه، كما ان النظام الذي يتكلم باسم مصر، الثقل العربي الأكبر والاهم، يمنح النظام السوري الدعم والجرأة في إعلان ما لم يألف شعب سوريا سماعه من حاكم، في قبول الصلح مع العدو الصهيوني. وطبيعي ان يختار لهذه المهمة نظامين ضعيفين، ليس لهما جذور شعبية ووطنية.
إن أنظمة التسوية تريد ان تدخل في روع الجماهير العربية خدعتين، الأولى: ان الأمة العربية لا تملك في الوقت الراهن، القوة التي تمكنها من الصمود امام العدو الصهيوني المدعوم بقوة الامبريالية الأميركية، والثانية: ان هذه التسوية ليست إلا هدنة يستكمل العرب خلالها أسباب قوتهم وشروط إعداد أنفسهم لمعركة التحرير. والحقيقة ان القوة العربية الراهنة لا تقصر عن الصمود للعدو، إلا بسبب وجود أنظمة التسوية المتخاذلة ومن ورائها الأنظمة الرجعية العميلة التي تتزعم الردة في البلاد العربية منذ هزيمة حزيران وتتبنى –بشكل مغطى- مشروع التسوية الاستسلامية والتي تتنازل كل عام عن المليارات من أموال الشعب، للامبريالية الأميركية مقابل ان تضمن لها هذه الامبريالية بقاءها في الحكم. وأما الحقيقة الثانية: فهي ان التسوية لن تكون في حال من الأحوال هدنة لاستكمال القوة، ولا أمانة للتحرير تتركها هذه الأنظمة لتنجزها الأجيال القادمة.
ان مقدمات التسوية تدل على ان المطلوب منها –فيما لو نجحت– ان تعيد ترتيب الأوضاع العربية لمصلحة الأنظمة والطبقات الرجعية، وتخلق جوا من الإرهاب والقمع والانكماش والتعصب الإقليمي، وتهدف الى محاصرة الأنظمة والحركات التقدمية ومحاربتها وتصفية المقاومة الفلسطينية وإشاعة الفساد والميوعة وروح الاستسلام، أي ان المطلوب اليوم ان توكل مهمة التحرير الى الأجيال العربية القادمة –كما يدّعون– بل قتل الروح التي يمكن ان تخلق مثل هذه الأجيال. ان أنظمة التسوية والأنظمة الرجعية العربية التي وراءها، هي أكثر من استسلامية لا تكتفي بالخضوع للعدو، بل تسعى الى تشكيل حلف مع الامبريالية و الصهيونية، له إستراتيجية هجومية شاملة للوطن العربي كله. وقد تتعداه الى بلدان العالم الثالث لضرب كل بؤرة للثورة والتحرير يمكن ان تنتقل عدواها الى أقطارها.
ان التصرف بالقضية الفلسطينية أي بالقضية المركزية للأمة العربية والتي تتعلق بمصيرها ذاته، هو من حق هذه الأمة وحدها. أي من حق الملايين من جماهيرها الشعبية الكادحة من أقصى الوطن العربي الى أقصاه، هذه الجماهير الأصيلة المناضلة الوفية لتراث أمتها المجيدة، والحريصة على ان يكون للأمة مستقبل عظيم مشرق في مستوى ماضيها العريق، حتى المقاومة الفلسطينية، التي هي من ابرز عناوين صمود هذه الأمة، واستبسالها في الدفاع عن وجودها، فإنها ليست إلا جزءا من الأمة وطلائعها الثورية ولا تملك حق التصرف في قضية، هي قضية المصير العربي كله. فمن هم الذين يتصرفون اليوم بهذه القضية، ويقدمون على الصلح مع العدو، وعلى الاعتراف له بشرعية اغتصابه لفلسطين؟ وماذا تمثل هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام؟ هل يمثلون تراث الأمة وعراقتها وأصالتها وتمسّكها بحقها؟ هل يمثلون الجماهير الواسعة التي تكدح، تزرع الأرض وتبنى المدن وتحارب، وتقدم دماءها من اجل ارض الوطن؟ أم إنهم يمثلون الطبقات المستغلة المنحلة التي انقطعت صلتها بالأرض وبالشعب وبالتراث، ولم تعد تعرف إلا مصالحها الجشعة؟
أليست الرجعية العربية هي القائدة والمدبرة لمؤامرة التسوية؟ أليست مدفوعة بالحرص على أموالها، التي هي أموال الشعب العربي وسلطانها المدعوم بقوة الأجنبي؟ أوَلم تجد فرصتها الذهبية في هزيمة الأمة وهي تعمل منذ ذلك الحين لإرجاع سيطرة الامبريالية، وتمكين اغتصاب العدو الصهيوني ليتوفر المناخ الذي تستطيع فيه ان تتنفس وتعيش وتستمتع دون ان يهددها خطر من الشعب المطالب بحقه والمدافع عن كرامته؟.
أيها الرفاق، المناضلون
يا جماهير أمتنا العربية المناضلة
ان فترة الخمسينات التي حقق خلالها المد الشعبي الثوري انتصاراته التاريخية كانت فترة وضوح في الرؤية واستقرار في الوعي. اما فترة النكسات والتراجعات فطابعها اهتزاز الرؤية واضطراب الوعي وتخلخله، فالعدو صديق والصديق عدو، والنصر نصف نصر، والهزيمة نصف هزيمة، والتسوية تسويتان: رجعية وتقدمية. وهذا كله يسهم في زيادة الغموض والبلبلة، وفي استنزاف حيوية الجماهير وزعزعة يقينها.
ان إنقاذ مستقبل النضال العربي الثوري يستوجب العودة الى الرؤية الواضحة والخط الثوري السليم، لكي لا تبقى قضيتنا المصيرية التي فيها بقاؤنا او فناؤنا كأمة، مرتهنة للدول الأجنبية المعادية لنا والصديقة المحالفة، ينوبون عنا في وضع الحلول لها. فالحل الثوري الكامل الواضح هو الذي يضعنا في صف الجماهير العربية المناضلة لإسقاط التسوية الاستعمارية، لان هذه التسوية هي استمرار لمؤامرات الاستعمار على وجودنا وعلى أرضنا وخيراتها. كما انه يضعنا بالنسبة الى أصدقائنا وحلفائنا على صعيد الاستقلالية والإرادة الحرة.
ان القضية العربية التي تلخصها قضية فلسطين، هي قضية هذا العصر، ولكن ثورتها لم تصبح بعد ثورة العصر، لان النضال العربي لم يرتق بعد الى مستوى قضيته وهذه هي مهمة الشعب العربي وجماهيره المناضلة، وطلائعه الثورية. هذه المهمة التي يجب ان لا توكلها الى احد، ولا تتنازل عنها لأحد، انها الامتحان التاريخي لجدارة الأمة العربية، وهي المراهنة الصعبة التي يطلب فيها الارتقاء الشاق المضني بالنضال العربي الشعبي الى مستوى الرسالة الإنسانية، كما يطلب منها تصحيح مفاهيم الحق والعدل في السياسة الدولية، وبث روح جديدة في النضال الاشتراكي العالمي الذي تكاد السياسة الواقعية، ومجاراة الأمر الواقع تطفئ جذوته المبدعة وتفضي به الى مواقع الدفاع والمحافظة، وتفقده المبادرة التاريخية التي هي أمل الشعوب في خلق إنسانية تقدمية.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العظيمة
إننا ورثة حضارة من أعظم حضارات العالم، وان ملهمات الماضي وتحديات الحاضر تدفعنا الى إحياء دورنا الحضاري، وتشدنا الى العلم والمعرفة، والى بناء المجتمع بناء حديثا، ولكننا ندرك ان قدرنا في مرحلة الانبعاث، هو ان ننشد الحضارة من خلال الدفاع عن بقائنا، وان نبني المجتمع الحديث في جو الثورة والنضال.
ان السلام غايتنا، ولكنها غاية بعيدة، لن نبلغها إلا بعد ان نرد العدوان، ونزيل الظلام، ونُحِقّ الحقّ لان سلامنا هو السلام الحقيقي الثابت الوطيد لنا ولجميع الشعوب المعتدى عليها، الضعيفة المستغَلة لأنه سيكون إنهاء للسيطرة الاستعمارية، وبداية للسلم العالمي.
اما سلام الأعداء فليس إلا خدعة تخبئ لنا الحرب الغادرة والعدوان الوحشي، والمذلة والفقر والدمار.. ورفضنا له لا يعني أننا نرفض السلام او أننا ضد الحضارة وإنما يعني أننا نرفض العدوان علينا واغتصاب أرضنا.. وتقتيل وتشريد شعبنا ونهب ثروات وطننا وفرض التجزئة على كياننا القومي، والتخلف والفساد على مجتمعنا العربي.
ان تطلعنا الى السلام، والى إحياء دورنا الحضاري يفرض علينا ان نستعد لرد العدوان وان نخوض معركة التحرير، فمعركتنا دفاعية مشروعة وهي ثورة إنسانية بناءة، نؤدي فيها الامتحان الصعب لشعورنا بإنسانيتنا ودفاعنا عن كرامتنا، وقدرتنا على تجاوز عوامل التخلف، ومجاراة عصر العلم، ووعينا لدورنا الحضاري ومسؤوليتنا تجاه مستقبل العالم. وعندما نرفض ان نواجه قدرنا مواجهة صريحة شجاعة ونتهرب من المعركة، فإننا عندها نرفض السلام الحقيقي ونرفض إحياء دورنا الحضاري، ونتيح للعدو فرصة لكي يشغلنا بمعارك داخلية تستنزف حيويتنا وطاقاتنا، وتزرع الأحقاد بين صفوفنا كما جرى في لبنان على امتداد سنتين. ولئن كان مفهوما ان تقترن النظرة الحضارية بالحرص على السلام بين الدول القوية المتقدمة التي تعبت من حروب التنافس على السيطرة ومناطق النفوذ، فليس الأمر كذلك بالنسبة الى الشعوب المعتدَى على سيادتها وأرضها وحريتها وثرواتها، والتي ليس أمامها سوى النضال والقتال، ودفع الثمن الذي تدفعه الأمم الحية للمحافظة على بقائها والدفاع عن شخصيتها وقيمها الحضارية. فنحن مكرهون على المواجهة ودخول المعركة، لأننا ندافع بواسطتها عن وجودنا ومصيرنا، لذلك فحربنا جدُّ مختلفة عن حروبهم، وسلامنا جد مختلف عن سلامهم. ان السلام الذي تدعو إليه الدول الكبرى او الدول القوية المتقدمة هو سلام القوي الذي يفرض شروطه، وليس سلام الضعيف الذي يستجدي الرحمة من هنا وهناك. وكما ان الحضارة ملازمة دوما للقوة المدافعة عن الحق وللإقدام المنتصر له، فان الحضارة تبدأ بالتفسخ عندما تضعف هذه الصفات او تفتقد.
ان للأمة العربية وضعا خاصا متميزا، يتيح لها شروطا قلما تتوافر لغيرها.. فهي في الوقت الذي تخوض فيه معارك تحرير أرضها، واسترداد ثرواتها، وتوحيد أجزائها، تضع وتبني مفاهيم جديدة للقوة والسلم والعدل كأساس لحضارة جديدة. ولكن هل تعني هذه المواجهة الصريحة الواضحة لحقيقة ظروفنا وقدرنا، ولما يمكن ان ينتظرنا في مستقبل قريب ان نركب الحماسة ونستعجل الأمور ونرتجل الخطط في قضية المصير؟ ان الشعب العربي قد تجاوز منذ زمن هذا الطور وأصبح ينظر إلى المعركة من كل وجوهها، ويعرف انها بناء صبور وتقدم في العلم والثقافة والفن، وتسابق في ميادين الصناعة والإنتاج والاختراع، مثلما هي قتال وتضحية وفداء.
من واجبنا ان نعرف من هم أعداؤنا، وماذا يبيّتون لنا، فنستعد للدفاع عن بقائنا، ولكننا أصدقاء جميع الشعوب ننفتح على الإنسانية كلها، ونتحاور ونتفاعل ونحن واثقون ان في ذلك خيرا لنا وتعريفا بحقنا، وتعجيلا في انتصاره. ليس تمسكنا بحقنا وحرصنا على أرضنا واستقلالنا وتحقيق نهضتنا، واستعدادنا للقتال في سبيل ذلك ليتعارض مع استعدادنا الصادق للتعارف والتعاون. ان في الشعب العربي توقا عميقا وأصيلا الى الإخاء الإنساني، ولكن من موقع المنعة والعزة والكرامة. الغرب الأوربي يعرف حقنا ولا يجهله، ويعرف العدوان علينا وهو الذي خلق هذا الوضع العدواني في الماضي، وهو ما زال يشارك في دعمه صراحة حينا وحينا في الخفاء والرياء، حضارته بلغت السن المتعبة التي ترى الحق ولا تجد في نفسها القدرة على الاعتراف به والانتصار له، بل تغلبها مصلحتها المادية وتحبب إليها الراحة والسهولة. ان بين نظرتنا ونظرة هذا الغرب فارقا كبيرا لا سبيل الى ردمه وتجاوزه في مستقبل قريب، ولكن هذا لن يمنعنا من التعامل والتفاعل مع شعوب الغرب، وبيننا وبينها أكثر من صلة حضارية خلال قرون عديدة من التاريخ.
اما صلتنا كعرب بالدول والشعوب الاشتراكية، فهي على حداثة عهدها، اقرب وأوثق، بالرغم من انه لا يزال ثمة فارق بين نظرتها الى قضيتنا المصيرية فلسطين، ولكننا أكثر ميلا الى التفاؤل بتطور موقف هذه الدول والشعوب في المستقبل باتجاه تغليب السياسة المبدئية على السياسة الواقعية، كما أننا متفائلون وواثقون بان المستقبل هو للفكرة الاشتراكية وللشعوب التي تؤمن بها، رغم التهويش الذي تنشره الصهيونية ومفكرو النظام الرأسمالي حول البلدان الاشتراكية. إننا نشعر بالتضامن مع هذه الشعوب، ومع شعوب العالم الثالث في قارات آسيا وافريقية وأميركا اللاتينية التي تخوض معنا معركة تصفية القلاع الأخيرة للنظام الرأسمالي الاستعماري الفاسد الظالم، وتربطنا بها تجارب ومعاناة ثورية مشتركة، ونؤمن ان الإنسانية الجديدة التقدمية ستولد من هذا التضامن المصيري.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير امتنا المناضلة
ان حزب البعث العربي الاشتراكي هو لكل العرب، صمم كذلك منذ ان كان مجرد فكرة، ولكن التجزئة المفروضة على الوطن العربي، حتمت ان يبدأ العمل الثوري الوحدوي من بعض الأقطار المهيأة أكثر من بعضها الآخر، لمثل هذا العمل وكانت سورية أكثر الأقطار استعدادا لان ينشأ فيها البعث، ويقطع أشواطا واسعة على طريق النضال الفكري والسياسي أثمرت في أواخر الخمسينات انجازا تاريخيا هو وحدة سورية ومصر. ولكن هذا الانجاز الذي كان نصرا كبيرا لحزب البعث ولمبادئه، كان في الوقت نفسه نهاية لصعود مسيرة الحزب في سورية، وبداية التفكك والضعف. ذلك ان تجربة الوحدة فشلت نتيجة عوامل عديدة، منها، انه لم يُسمح للحزب ان يشارك في توجيهها والإشراف على تطبيقها، ومع الانفصال تركز التآمر الاستعماري والصهيوني الرجعي على سورية وحزب البعث، وهما في أقصى حالات الضعف والتفكك، مما أدى الى ما نشاهده منذ سنوات والى اليوم من مفارقات عجيبة، وارتكابات تتم باسم سورية وباسم حزب البعث وسورية وحزب البعث منها بريئان.
ان فكرة الحزب القومية ضمنت له ان ينتشر في أكثر من قطر عربي، وهذا ما شكل له حماية وقوة. وكان الحزب في العراق قد نشأ نشأة صحية قوية تحمل بذور الصدق والجدية والروح النضالية العالية. فلم تمض سنوات على نشوئه، حتى أصبح له ثقل خاص ورأي حاسم في تطور الحزب القومي، وفي ما حققه من انتصارات، وما واجهه من أزمات وكان يقف دوما مع الخط التاريخي للحزب، خط العقيدة القومية الثورية، مع المواقف المبدئية الثورية التي تتطلب التجرد والنفس الطويل في وجه النزعات الإصلاحية والانتهازية، والميول القطرية والوصولية، مع العقيدة الوحدوية في وجه الذين تراجعوا عنها، او شككوا فيها نتيجة التطبيق المشوّه لوحدة عام 1958، مع العقيدة القومية ضد الذين حاولوا ان يحجبوها ويطمسوها ويقيموا تناقضا بينها وبين الاشتراكية فيقضوا هكذا على أهم ما تميز به الحزب عندما قرن القومية بالاشتراكية.
هكذا حمل الحزب في العراق، الأمانة بحق وجدارة وكانت استعادته للسلطة في 17-30 تموز عام 1968 أي بعد اقل من خمس سنوات من الردة السوداء في 18 تشرين عام 1963، وبعد عامين من مؤامرة 23 شباط عام 1966 عملاً فيه الإقدام والحكمة ومستوى من النضج جديد. وخالط البعثيين وأصدقاءهم شعور هو مزيج من الأمل الكبير والحذر من تجربة السلطة بعد الذي عانوه من الأخطاء التي رافقت ثورة رمضان العظيمة، ومن مرارة تجربة الحكم في سورية حيث كانت سمعة الحزب، تتردى هناك، ولم تعد الجماهير الشعبية تستبين ملامح البعث في ذلك الحكم، البعثيون أنفسهم أنكروا ان يكون ذلك هو حزبهم.
وسارت ثورة 17ـ30 تموز في طريقها الصعبة باتئاد واتزان، تحمل آمال الحزب والشعب، ومخاوفها من ان تتكرر الأخطاء والنكسات. ولكنها كانت تحمل أيضا مبادئ البعث تمدها بالقوة والمنعة لمواجهة المسؤوليات القومية في اخطر فترة تمر بها الأمة العربية وأصبح كل يوم يمر على التجربة يكشف جانبا من صدقها وصدق انتمائها الى البعث وتجسيدها لمبادئه ويقربها أكثر فأكثر من قلوب المناضلين والجماهير العربية.
ان تاريخ الحزب على امتداد مسيرته الطويلة التي أتت بالنجاحات والانتصارات، كما تخللتها العثرات والنكسات قد حمل دوما قرائن الصدق مع النفس والقضية. لأنه عاش في مثول دائم أمام تاريخ الأمة يستلهمه ويطلب حكمه، ولا يطلب الحكم إلا منه. لذلك فضل الحزب في فترات حاسمة من تاريخ نضاله ان يدخل مناضلوه السجون ويشردوا في المنافي على ان يتساهل ويتنازل في أمور عقيدته أو ان تدفعه شهوة الحكم الى عمل ما يخالف هذه العقيدة. هذا هو الإرث الايجابي الذي تتابعه تجربة حزبنا في العراق لتغنيه وتزيده إشراقا.
ان ثلاثين عاما من النضال مرت على الحزب لا تعتبر كثيرة ما دامت قد أوصلت الى هذه التجربة الممتلئة عزما وعافية، والتي هي بداية سليمة على الطريق الطويلة لتحقيق وحدة الأمة العربية ولتحرير أرضها وإرادتها وطاقات جماهيرها الكادحة المبدعة، فالبداية السليمة هي وحدها القادرة على الوصول الى الغاية.
نحن بحاجة دوما الى الرؤية الثورية المؤمنة بحق الأمة العربية في الحياة وبقدرة الشعب العربي على تحقيق أهداف الأمة. نحتاج الى النفس الطويل لان قضيتنا القومية قد تتطلب أجيالا تتعاقب لتكمل الرسالة ولكن واجبنا ان نسلم الأجيال التي تأتي بعدنا إرثا ايجابيا من الصمود والإباء ومن الانجازات والانتصارات.
أيها الرفاق المناضلون
يا جماهير أمتنا العربية العظيمة
ان مما يعزز الايمان بقدرة الجماهير العربية الشعبية على الاضطلاع بأعباء الثورة العربية ومهماتها التاريخية هو ما نشاهده من روح الصمود والاستبسال عند المقاومة الفلسطينية وأبناء الشعب الكادح في جنوب لبنان في تصديهم للغزو الصهيوني وأسلحته المدمرة، وأساليبه الوحشية إذ نجح مئات من المقاومين والمقاتلين في إفشال مرامي حملة العدو وإرباك جيشه رغم الحصار المضروب على المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية من مختلف القوى المعادية والمتواطئة. وكان إنجاد العراق للمقاتلين، وتخطيه شتى المصاعب والمعوقات بارقة نور مشرقة وسط ظلام التآمر والتخاذل.
ومما يعزز الايمان أيضا بروح الأمة وجماهيرها الكادحة، ما شاهدناه قبل أشهر، من انتفاضة شعبية عارمة في القطر التونسي حملت معاني كثيرة توحي بالأمل والعبرة ولا يمكن ان نجردها من معنى التجاوب والتضامن مع نضال الجماهير الشعبية في أقطار المشرق العربي ضد التسوية والتفريط بقضية فلسطين، وتحديا للأنظمة الرجعية والليبرالية الإقليمية المتواطئة بشكل او بآخر مع القوى الامبريالية والصهيونية، والتي لا تبدي اهتماما بشؤون المشرق العربي إلا من اجل تسهيل مهمة أعداء الأمة لتمرير مؤامرة التسوية والصلح مع العدو الصهيوني بينما تمنع أي اتصال وتفاعل جماهيري بين أقطار المغرب والمشرق، وتقيم سدا عازلا بين جناحي الوطن العربي، وكذلك ما قامت به الجماهير الشعبية في مصر في العام الفائت من انتفاضة شاملة جارفة ضد حكم السادات والطبقة المستغلة الفاسدة التي تحكم من ورائه، ان دل على شيء فإنما يدل على ان الحاكم الذي يثور الشعب عليه، بمثل هذه القوة وهذا الشمول، لا يحق له ان يتكلم باسم مصر وشعبها، وبخاصة في أمرٍ بخطورة أمر الصلح مع العدو والتفريط بقضية فلسطين.
ان العبرة الايجابية التي تستخلص من هذه الظواهر هي ان الجماهير العربية الكادحة لا تقصّر في مكان ولا تبخل بعطاء من اجل إحباط المؤامرة على مصير الأمة العربية وأهدافها الكبرى. ولكن ثمة عبرة سلبية لا يجوز ان نتجاهلها، وهي ان هذه الانتفاضات الشعبية تُترك وحيدة في مواجهة قوى عاتية مدعومة من الامبريالية وبالتالي فان وحدة النضال بين الجماهير العربية في مختلف أقطارها، أصبحت هي المطلب الثوري الأول.
النضال يكشف عن الجوهر الإنساني للأمة العربية، بينما يفضح طبيعة العدوان والإجرام عند أعدائها. يوحدنا ويفرقهم، يغنينا ويفقرهم، يدفعنا في طريق الرقي والحضارة، ويدفعهم إلي الأعمال الهمجية ويكشف عن عنصريتهم يضعنا في قلب الحداثة والعصر، ويلقيهم في عزلة العقائد المتحجرة. شعارنا للمستقبل يجب ان يكون: إزالة التناقض بين حقيقة الأمة وواقعها الراهن، بين قضية الأمة ومؤامرة التسوية. توحيد طاقات الأمة وتحريرها وإعادة وحدة النضال العربي الى طريقها الصاعدة المتفجرة.. تعميق الطابع الإنساني الحضاري لنهضتنا المعاصرة..
شعارنا للمستقبل يجب ان يكون: الثورة العربية ستكون ثورة الإنسانية الجديدة.
تحية الى شهداء حزبنا، والى شهداء الأمة العربية الأبرار.
تحية الى المناضلين العرب الذين يربضون في المعتقلات والسجون دفاعا عن المبادئ والقيم النضالية.
تحية للبطولات الفذة التي تتفجر في الأرض المحتلة وعلى الساحة العربية، وتفتح أبواب المستقبل المشرق.
تحية للقوى الصامدة في وجه مؤامرات الاستسلام، العاملة على تحقيق وحدة النضال القومي، وتفجير طاقات شعبنا العربي.
تحية للشعوب الصديقة، والقوى المؤازرة للحق العربي، المشاركة معنا في نصرة القضية العربية.
(1 ) كلمة في السابع من نيسان عام 1978، لمناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.
—————————-
مهمة الطبقة العاملة العربية
ان مجلة وعي العمال (1) التي تتوجه الى الطبقة العاملة العربية، والى الجماهير الكادحة المناضلة في هذا القطر، انما تنهض باهم واخطر المهمات القومية.
فالوعي الذي تكتسبه الطبقة الثورية الاكثر تماسكا وتنظيما وصلة بطبيعة العصر، وبالتناقضات الاساسية الكامنة في المجتمع العربي، هو القاعدة الاساسية التي يقوم عليها بناء الثورة العربية المعاصرة.
وقد ادرك حزبنا منذ تأسيسه طبيعة هذه المهمة واهميتها، وجعل من التثقيف العمالي ركيزة من ركائز عمله الفكري النضالي.
وفي التجربة الثورية التي يبنيها حزبنا في هذا القطر المناضل، تزداد اهمية الوعي العمالي، القومي الاشتراكي، مع ازدياد حجم الطبقة العاملة والتطور المتسارع في مختلف قطاعات الانتاج والحياة.
فالى مجلة ( وعي العمال) التي تتصدى لمثل هذه المهمة النضالية، تهنئتي بالجهود التي تبذلها من اجل تحقيق هذا الهدف، وثقتي بان كل عام يمضي على تأسيس حزبنا سوف تدخل فيه وسائل التوعية الثورية لدينا في مرحلة جديدة من تطورها، لان الطبقة العاملة تلعب دورا قياديا متزايدا في حركة الثورة العربية.
وتحيتي لجميع العاملين في اسرة (وعي العمال) الذين يبنون في تجربة قطرنا المناضل صرحا للثقافة الثورية يقترن فيها الكدح بالمعاناة الفكرية، ويدفعون بهذه التجربة خطوة جدية على طريق تحقيق اهداف ثورتنا العربية المعاصرة.
7 نيسان 1978
(1) رسالة تهنئة لأسرة وعي العمال وعمالها بمناسبة الذكرى الحادية والثلاين لتأسيس الحزب.
——————————-
البعث أصالة عربية وعقل ثوري
أيها الرفاق والرفيقات
نعيش في ظروف في منتهى الخطورة والجدة، ظروف خطيرة ولكنها غنية فيها خلق وفيها إمكانات غزيرة وآمال واسعة.
في ظروف كهذه يصل فيها الخطر على الوجود القومي وعلى وجود الأمة ذروته، تبرهن الأمة عن مقومات الحياة فيها ومقومات البقاء وعن استعداداتها الحضارية الغنية، فتتيح هكذا لأبنائها على مختلف مستوياتهم أن يتأكدوا مرة جديدة من هذه الحقيقة التي يؤمن بها المناضلون بأن الأمة العربية أمة حية فيها قابلية للتجدد المستمر وللانبعاث المبدع وإنها في هذا العصر تبدأ نهضة حضارية جديدة هي بداية تاريخ لها وللإنسانية أيضا.
هكذا يتاح للمؤمنين بأمتهم وللمناضلين في سبيل حقوقها وأهدافها بين فترة وأخرى أن يسعدوا بهذه الرؤية، بهذه اللحظات الخالدة التي تعزز فيهم الإيمان والثقة بالمستقبل.
لا أعتقد أن البعثيين يمكن ان ينتابهم شك في حقيقة أمتهم وحقيقة استعدادها الأصيل لثورة عميقة شاملة في هذا العصر، ولكن الانجازات الكبيرة التي تتحقق في فترات فاصلة حاسمة تغني نفوس المناضلين وتغني رؤيتهم وتكشف لهم معاني أعمق في النضال وفي المهمات التي ندبوا أنفسهم لها.
ماذا حدث أيها الرفاق حتى تغير الوضع العربي في فترة زمنية قصيرة جداً لا تتعدى الأسابيع المعدودة؟ هذا التغير الحاسم الذي حصل في هذه الفترة القصيرة يبدو وكأنه معجزة ولكنه في الواقع لم يأت صدفة ولم يأت دون مقدمات ودون أسباب قريبة وبعيدة ودون تهيئة وعمل دائب استمر سنوات ساهم فيه الشعب بكامله وكان الحزب بمناضليه طليعة للشعب في هذه المهام الثورية وهذه النهضة التي بناها حزبكم في هذا القطر. إنه تراكم لعمل يومي، لعمل خططت له عقول ثورية ونفوس عربية أصيلة تغار على مصلحة الشعب وعلى مصير الأمة، فأمكن أن يوجد بعد سنين من هذا العمل الذي كان بعضه ظاهراً واضحاً وبعضه خافياً مستتراً لا يعلن عن نفسه، أمكن بعد كل هذا الوقت وهذه الجهود أن تبني القاعدة الأساسية القادرة على أن تتجمع فيها وحولها آمال الأمة، أن تكون موضع الأمل والثقة بما تم فيها من بناء للقدرات البشرية، للعقول الثورية، وكذلك ما استطاعت هذه القدرات وهذه العقول أن تحوله في أوضاع المجتمع وفي الأشياء حتى طوعت الصعوبات ووفرت الوسائل وأمكن أن يظهر آخر الأمر في وسط الظلام الذي أشاعه الأعداء في وطننا الكبير، في وسط روح اليأس والهزيمة، أن تظهر هذه القاعدة الصلبة التي استطاعت في ساعة الخطر الشديد أن تكون الملجأ وأن تتطلع إليها الأنظار وأن يستمد منها العزم وأن تنطلق منها المسيرة لعمل قومي واسع.
هذا حزبكم أيها الرفاق وهذا شعبكم العربي، حزبكم الذي مضى على مسيرته النضالية عشرات السنين حقق خلالها انتصارات قومية معروفة وأصيب خلالها بعثرات ونكسات كانت في بعض الأحيان موجعة. هذا الحزب له تاريخ صاعد متكامل أفضى إلى هذا النضج الذي تمثل في قطركم وفي تجربة قطركم هذا. وإن الأفراد المبدعين لا يظهرون عبثا ولا يظهرون بدون تهيئة في المجتمع، في تجارب المجتمع، في حاجات المجتمع، وإن ظهورهم الذي يبدو أحياناً وكأنه صدفة ومعجزة إنما له تفسير اجتماعي، بل الحاجات والتجارب والانتصارات والنكسات كلها تساهم في خلق هؤلاء الأفراد الذين تكتمل فيهم الشروط ويتحقق فيهم التجاوب والانسجام بين تطلعاتهم وتطلعات مجتمعهم وشعبهم وعندها يقومون بتمثيل إرادة هذا الشعب على أقوى شكل لتمثيل إرادته العميقة بتحقيق القفزات في طريق تحرره وتقدمه معتمدين على هذا التجاوب، معتمدين على تجربتهم التي هي تجربة الشعب والأمة، التي تلخصت فيها تجارب الشعب والأمة، فيأتون ليحققوا انعطافاً حاسماً تكون أسبابه قد نضجت وتهيأت في المجتمع. ولكن ليس أي فرد يستطيع أن يمثل إرادة الأمة ويحقق مثل هذا الانعطاف، إذ لا بد من شروط خاصة، صعبة التوافق تتهيأ في المراحل التاريخية الفاصلة ويكون فيها هذا الانسجام الفائق بين عمل القائد وبين إرادة الشعب والأمة. لقد توفر لهذا الحزب بعد تجارب مضنية برهن فيها الحزب أنه مستمسك برسالته لا يتخلى عنها مهما تكون العقبات والنكسات، مهما تبلغ مؤامرة الأعداء عليه، هذا الإيمان وهذا الإصرار رغم تبدل الظروف وقسوة الظروف هو الذي يسمح أخيراً بأن تظهر القيادة الفذة التي تستند إلى هذا الإيمان، إلى هذا الاطمئنان بأن وراءها حركة تاريخية لا بد أن تشق طريقها وتتابع مسيرتها رغم كل شيء، عندها ينطلق هؤلاء الأفراد مستندين إلى هذا الشعور والى هذا اليقين وتتحقق على أيديهم الإنجازات التي تأتي لتعوض عن كل فترات الجمود والتراجع التي أصابت الحزب في بعض الأوقات.. ولتظهر في يوم واحد جوهر هذا الحزب وما يكمن فيه وما ينطوي عليه من أصالة ومن إمكانات ومن تصور صادق لأبعاد المهمة الثورية الحضارية التي تقدم لحملها.
رأيت أيها الرفاق أن أبدأ بالبداية الصحيحة التي تؤهلنا لأن نفهم بوضوح ما تحقق في هذا الظرف الأخير وتؤهلنا لأن نستجلي الظروف المقبلة وكيف يمكن أن نواجهها ونتصرف في مواجهتها. البداية الصحيحة هي هذه، أن عملاً قوميا تاريخيا، لا يمكن أن يكون ابن ساعته، لا يمكن أن يكون مرتجل، لا يمكن أن يكون تكوينه سهلاً عادياً لا بد إذن أن يمر بطريق طويلة ومشقات كثيرة وأن يتمرس بالمصاعب حتى تقوى بنيته وتتعمق نفسيته وتتسع آماله وطموحه، كذلك الأمة أيها الرفاق والرفيقات، الأمة يمثلها الحزب بشكل مصغر ولكنها هي أيضا تتكون هذا التكون السليم الصحي من خلال التجارب، من خلال التكامل بين أجزائها المختلفة بين أدوارها ومراحلها المختلفة، النكسة تولد النصر، والنصر قد يبقى فيه أثر للأمراض السابقة فيستدعي مزيداً من التعمق، مزيداً من الدأب ومن الجدية ومن الشمول، فيتعثر النصر حتى يظهر مرة أخرى بشكل أكمل وأروع، هذا هو تاريخ الأمة في نهضتها الحديثة.
وإن أورع ما تحقق أيها الرفاق في الظرف الاخير كرد على التحدي الاستعماري الصهيوني هو كما تعرفون جميعاً وكما نشعر أعمق الشعور، هو هذا اللقاء بين سورية والعراق، هو الرد التاريخي لأنه سبق مخططات الأعداء، مخططات الامبريالية العالمية بكل تفوقها العلمي التآمري وسبق خبث الصهاينة وكيدهم بلحظات من اللقاء الأخوي كانت نتيجتها أن دخلنا ودخلت الجماهير العربية في الوطن الكبير الواسع في مرحلة استرداد الثقة بالنفس والاستبشار بالمستقبل والعزم والتصميم على مواصلة الكفاح بشعور بالقوة لا مثيل له وشعور بأن الأعداء مهما أوجدوا ومهما اخترعوا من أسباب التخريب والتآمر، فكل هذا سيكون على السطح عاجزاً خائباً لا يمس جوهر الأمة، لأن الأمة قادرة في الأوقات الحاسمة أن تبتكر وتصنع المعجزات مستندة إلى تراثها الحضاري، مستندة إلى معاناتها الصادقة في حاضرها. انتقلنا أيها الرفاق في لحظات من وضع التجزئة إلى رحاب الوحدة، من حصار التجزئة إلى رحاب الوحدة، الوحدة التي تمثل بالنسبة إلى كل عربي تجسيداً للحرية بأوسع معانيها وأعمقها. حرية العربي هي في وحدة أمته لأنه يشعر بأنه يسير على الطريق السليم، يسترد كامل شخصيته وكامل قدراته ويواجه مصيره بوعي واضح وإرادة حاسمة، وهل للحرية معنى أشمل وأعمق من أن يواجه الإنسان مصيره بالوعي والإرادة في أعلى درجاتهما؟ انتقالنا أيها الرفاق إلى جو الإيمان بأعمق معانيه، الإيمان الذي يمر على الماضي وعثراته وجراحه فيمسحها ويطهرها ويجعل منها قوى وحوافز للمستقبل..
هذا اللقاء الذي كان وسيبقى أمل الجماهير العربية في الوطن الكبير، هذا اللقاء صنعته الأصالة القومية والعقلية الثورية، صنعه البعث، والبعث هو هذا أيها الرفاق، أصالة عربية وعقل ثوري، صنعه البعث للأمة العربية كلها لأن المطلوب الآن هو جواب قومي ينقذ الأمة كلها، لأن الخطر يهدد مصيرها كلها، فإذن ليس لقاء سورية والعراق هو لقاء قطرين إنما هو لقاء الأمة العربية بذاتها، لقاء الجماهير العربية بنفسها بروحها النضالية بأملها في المستقبل بثقتها بالنصر والتغلب على مؤامرات الأعداء.
دبر العقل الاستعماري مكيدة، العقل الاستعماري والعقل الصهيوني دبرا مكيدة كبيرة للأمة العربية، عملا للوصول إليها زمنا طويلاً وإن بدت كأنها من صنع الأشهر الأخيرة، هذه المكيدة هي التآمر على وحدة الأمة العربية، على تماسكها العضوي بإخراج مصر من المعركة، ومن المصير العربي لو أمكنهم ذلك، فكان لابد أن يأتي الجواب بهذه القوة، بهذا الصدق، في تلبية نداء الأمة من أعماق الحاجة وأعماق الضرورة بأن نفتح من جديد طريق الوحدة العربية واسعاً مشرعاً وأن تعود الآمال فتنتعش في صدر كل عربي وأن يستهين عند ذلك بمؤامرات الأعداء ومكائدهم، لا ليغفو وينام بل يتجند ويجاهد لأن الوحدة وحدها تجعل النضال مثمرا ومضمون النجاح بالنصر، وعندما يكون الرد رداً وحدوياً بهذا المستوى فإن المؤامرة التي دبرت لمصر تفشل فشلاً كاملاً لأنها بنيت بالأصل على اليأس، على حالة اليأس، وحين تعيد الوحدة الأمل إلى الجماهير العربية، فإن مصر بجماهيرها المناضلة الأصلية تكون قادرة على كشف المؤامرة وعلى الرد عليها وهكذا نكون قد كسبنا الوحدة وكسبنا مصر في آن واحد.
لم نصدق في يوم من الأيام أن شعبنا في مصر يمكن أن ينفصل عن جسم الأمة العربية أو يرضى لنفسه مصيراً غير مصير أمته، ولكنها ظروف وقتية وخدع محبوكة استطاعت أن توجد وضعاً مفروضاً مزيفاً يتنافى استمراره مع طبيعة شعبنا العربي في مصر ومع تاريخه ومع حاضره المليء بالتضحيات من أجل المصير العربي. ولكن إذا كنا نريد لمرحلتنا الجديدة الصاعدة التي بدأت بهذا الإنجاز الوحدوي الرائع، وإذا كنا نريد للمرحلة الجديدة بأن تكون متقدمة نوعياً عن المراحل السابقة، فعلينا أن نستفيد حتى من مؤامرات الأعداء ومكائدهم وحتى من أعمال الحكام العملاء الذين رضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات مسخرة لأعداء أمتهم، فننظر بموضوعية وبتجرد إلى الثغرات التي استغلها الأعداء واستغلها العملاء لكي يشوشوا الوعي مؤقتاً عند قسم من الشعب، ولكي يستطيعوا أن يمرروا -لحين- هذه المؤامرات، فان شعبنا في مصر يدفع ثمن عروبته باهظاً من دماء عشرات الألوف من الشهداء، ويدفع من قوت يومه، ولكن التجزئة الراهنة جعلت هذا الشعب العظيم في أوضاع اقتصادية متردية بينما هناك أقطار ترتع في البحبوحة بعدد ضئيل من السكان.. هذه المفارقات في وضعنا القومي لو رضينا بالتجزئة وأحكامها لأوصلت إلى شرور وويلات كالتي نشاهدها في قطرنا العربي الكبير “مصر” وفي غير مصر من الأقطار إذا لم نتمرد على التجزئة، حتى ولو لم نستطع أن نحقق الوحدة الكاملة التي تتطلب زمناً وطريقها ما تزال طويلة، إنما علينا أن نبني المستقبل بالإرادة وبالوعي وبالرؤية الموضوعية، ننظر إلى هذه الفوارق بين الأقطار، وننظر إلى ما يمكن للاستعمار والصهيونية أن يستفيدوا وأن بينوا عليه من تلك الفوارق لكي نجعل النضال العربي أكثر استيعاباً لحاجات المجتمع العربي ولأمراض الواقع العربي، لكي نجد لها العلاجات الناجعة، لكي نسهل عملية الوحدة، لكي تكون الوحدة في الشعور وفي التجاوب الشعوري مع أبناء شعبنا وقومنا في أي قطر كان، قبل أن تصبح الوحدة وحدة سياسية، يجب أن تكون وحدة شعورية صادقة حتى تتحول إلى وحدة نضالية وحتى تثمر فيها ما بعد الوحدة السياسية.
أيها الرفاق
إن ما يستغله الاستعماريون والصهاينة من ثغرات في أوضاع شعبنا العربي في مصر-أوضاعه الاقتصادية- أيضاً يجدون ما يستغلونه في أوضاع شعبنا في فلسطين سواء الباقي في الأرض المحتلة الذي يعاني من مظالم الاحتلال أو الذي شرد من وطنه ويعاني أيضاً من نتائج هذا التشريد. فقد كان جواب الشعب العربي الفلسطيني ثورة فريدة في هذا العصر فرضت احترامها على العالم فإننا كعرب وحدويين لا يجوز أن نهمل بعض الحقائق فإن وراء العقلية الوسطية التي تتمثل في بعض القيادات الفلسطينية هذه العقلية التي تريد للنضال أن ينتهي في وقت، وللثورة أن تتحول إلى دولة ونظام بالتسويات من دون انتزاع ذلك بالثورة والنضال. هذه العقلية تستند للأسف إلى ثغرات في أوضاع الشعب الذي أُخرج من وطنه والشعب الذي يعاني من ويلات الاحتلال وهذا يوصلنا إلى عبرة ودرس بأن قضية فلسطين، إن لم تتحول إلى قضية كل قطر عربي، وإلى قضية كل مناضل عربي في نضاله اليومي، وإذا لم نمض في طريق العمل الوحدوي لكي نعطي البرهان الساطع على أن القضية القومية وحدة لا تتجزأ وأن الثورة الفلسطينية إذا لم تكن جزءاً عضوياً من الثورة العربية وإن لم تتفاعل معها ومع جماهيرها، فإننا معرضون لمثل ما نشاهده أحياناً من ركض أو سعي وراء التسويات التي تتنافى مع حقوق أمتنا في أرضها ومع أهداف ثورتنا العربية في التحرر الكامل.
هذا ما يرتب على سيرنا في المستقبل أن نكون أكثر استيعاباً لأوضاع أقطارنا وألا نرتاح في الأجزاء التي نعمل فيها متناسين ما يعاني منه شعبنا على الساحات الساخنة.
إن النضال العربي الذي يقوده حزبنا يجب أن يجسد الوحدة العربية تجسيداً حياً بأن نكون عرباً حاضرين في كل قطر ومع كل طبقة كادحة معانية مجاهدة، وأن نشعر بآلام شعبنا أينما وجد. هذه المرحلة التي ندخلها الآن تهيئ لنا سبلاً ووسائل أنجع في مكافحة المؤامرات الاستعمارية والصهيونية لكي لا ينشأ اختلاف أو تضعضع في الثورة والنضال ولكي نسترد الذين ضللوا زمنا وفي ظروف استثنائية..
أيها الرفاق
هذه الظروف الأخيرة أعطت تأكيداً لتصور الحزب بأن الأمة العربية تعيش مرحلة انبعاث وأنها في تنام وصعود رغم المظاهر التي قد تخدع بين الحين والآخر عن رؤية هذه الحقيقة.. هذا التصور هو أثمن ما يمكن المناضلين أن يتسلحوا به لأنه يضعهم دوماً في حركة التاريخ، في انسجام مع حركة التاريخ.. قد لا يجنبهم الأخطاء الصغيرة ولكنه بالتأكيد يضمن لهم الانتصارات المهمة وفي الظروف العصيبة الحاسمة مثلما حدث في هذا الظرف. فالامبريالية جهد ما تستطيعه أن توظف عملها واختراعاتها لإعاقة سير الأمة العربية نحو أهدافها، وظنت أنها وجدت أخيراً ما يضرب هذه النهضة العربية ويكسر موجتها وانطلاقتها عندما توفر لها عميل مثل السادات، استفاد كما قلنا من ظروف شاذة في أوضاع مصر الاقتصادية، ولكن عمل الامبريالية هو دوماً من الخارج بينه وبين العمل العربي النضالي فرق نوعي كبير. العمل العربي النضالي الواعي المستند إلى التصور التاريخي الذي يمثله حزب البعث، هو عمل من الداخل بناء للأمة تساهم فيه بكل أبناءها بكل إمكانياتها ومواهبها بأجيالها الغابرة، بتأريخها وتراثها وبإمكانياتها للمستقبل، عمل حي، عمل عضوي إيجابي بناء، بينما العمل الاستعماري والصهيوني هو للتخريب، للإعاقة، للتضليل وشتان بين العملين. هل التصور أيها الرفاق بأننا نبني بنضالنا للأمة العربية كلها وأن الأمة العربية في نهضتها وانبعاثها تبني للإنسانية كلها، هذا التصور، هذا الإيمان والدأب على متابعة السير لتحقيق هذه المثل والأهداف هي التي تضمن آخر الأمر وفي كل منعطف تاريخي مصيري تضمن لحركتنا أن تتفوق على التخريب الاستعماري مهما يكن بارعاً وتضمن بأن يعلن نضالنا عن انسجامه مع حركة التاريخ ومع سير الإنسانية نحو مثلها الخيرة، وتضمن بالتالي أن يكون الرأي العام العالمي إلى جانبنا كما تضمن أن تعزز ثقة العرب بأنفسهم وبمصيرهم وبرسالتهم في هذا العالم. فنحن على اختلاف أقطارنا واختلاف أوضاعنا الاجتماعية والحضارية لن ننسى مطلقاً بأننا أمة واحدة، وأن هذه الفوارق ليست جوهرية وأنه جسم واحد لا بد أن يزيد من تفاعله مع أعضائه، لا بد أن يقترب من نفسه، لا بد أن ننقل نضالنا ومبادئنا الي كل قطر مهما تكن المسافة بعيدة ومهما تكن الأوضاع الفكرية والمادية مختلفة، متباينة، يجب أن نحقق هذه الوحدة في تصورنا وفي اندفاعنا نحو الانتشار في وطننا الواسع وفي إيصال صوتنا ومبادئنا إلى أبناء قومنا في أبعد الأقطار.
إنها مرحلة جديدة تبدأ، والأمة لا تجد على امتداد الوطن الكبير أملاً يرتجى ومركزاً أو محوراً تلتف حوله جهود المخلصين، جهود الجماهير العربية التي تعاني وتكافح، تتلفت فلا تجد غير هذه الشعلة يمثلها ويحملها حزب البعث وهذا يرتب مسؤوليات ضخمة، يرتب أن نستوعب هذا التقدم الذي حققناه لكي تنقل إلى مرحلة أعلى، أن نضع الأسس العقلانية التي تكفل لهذا التقدم أن لا ينتكس ويتراجع بل أن يستمر في تقدمه الذي حققنا بالجهد الصبور والعمل الطويل مستوى أهّلنا لأن نرد على الأخطار المصيرية هذا الرد الكبير. ولن نحافظ على هذا المستوى ولن نطوره إلى أعلى إلا بنفس الفضائل التي أوصلتنا إليه، أي بالعمل الدءوب، بالتفكير العلمي العقلاني الذي لا يمكن أن يسكت فينا حماستنا وعاطفتنا واندفاعنا، فهذه متوفرة ولكن الصعوبة هي في أن نركز على العقلانية التي هي الطور الجدير بمرحلتنا الجديدة كلما وصلنا، كلما خرجنا من مآزق كثيرة ومصاعب كثيرة ظننا أنها ليس منها مخرج ولكن بهذه العقلانية، بهذا التوفر على النضال الواعي وصلنا إلى هذا الحد، فإننا نستطيع أن ننظر إلى المستقبل بأمل كبير وثقة بالنفس عميقة، فقد أعطتنا الظروف الجديدة مصداقية لأسلوبنا، لأسلوب عملنا ولصحة مسيرتنا ولصحة التصور التاريخي الذي بني حزبنا عليه..
والسلام.
26/تشرين الثاني/1978
(1) لقاء مع طلبة الدورة الثامنة عشرة الاعتيادية لمدرسة الإعداد الحزبي في 26/11/1978.
————————————-
المؤامرة والرد التاريخي
أيها المناضلون البعثيون(1)
يا جماهير أمتنا العربية المناضلة
ولد حزب البعث العربي الاشتراكي في جو عربي قومي، منفتح على أرجاء الوطن الكبير أوسع انفتاح، ومتصل بماضي الأمة ومسرح بطولاتها الخالدة أعمق اتصال ومتطلع الى صورة مستقبلها وتحقيق إمكاناته بكل اندفاع الشباب وروحه الثورية المتحررة. ففي نظر البعثيين لم يكن ابعد قطر عربي في المشرق او المغرب، بأقل قربا الى قلوبهم وتفكيرهم من القطر الذي يناضلون على ساحته. و في تجربتهم النضالية، كان تراث أمتهم الروحي والحضاري اشد حضورا بينهم من الحاضر نفسه، كما ان المستقبل العربي الذي صاغوا صورته من عصارة فكرهم، وصدق معاناتهم، تحوّل لديهم إلى حاضر حي يستلهمون قيمه، ويطبقون مقاييسه، وهكذا استطاعوا ان يكونوا وسط الضياع والجمود والإصصناع، تلك النواة الحية ذات الجذور الأصيلة، والطاقة الخلاقة، التي كتب لها، حدها من بين شتى المحاولات ان تنمو وتستمر، وتكتسب الملامح المميزة، والقدر الخاص الذي يلتقي في الأعماق بقدر الأمة، وينصهر فيه، ويخفق مع نبضاته.
وفي هذه اللحظات التي يدفع فيها الخوف على المصير أبناء الأمة من كل قطر، ومن أي موقع، ومن أي رأي واجتهاد، الى التنادي، والتعاطف ورصّ الصفوف، للوقوف في وجه الخطر، يجد المناضلون البعثيون في إحياء الذكرى الثانية والثلاثين لانعقاد المؤتمر الأول لحزبهم، الذي سبقته ومهدت له سنوات من النضال الفكري والسياسي على ارض سورية العربية، مناسبة حافزة لتجديد الصلة، وتحقيق التفاعل مع تلك الروح الثورية والروح القومية الشاملة الوحدوية التي ميزت نشأة الحزب الأولى. تلك النشأة التي أكسبته مناعة وتوقدا فكريا وأخلاقيا، مكن نواة الحزب خلال سنوات متواصلة من النضال ان تصل الى قلب الجماهير الشعبية وان تنقل إليها فكرتها، وتحرك فيها روحها القومية، وإمكاناتها الثورية، وآفاقها الحضارية وان تجتاز الصعاب والمحن، مجردة من كل قوة اصطناعية، ومن كل نفوذ اجتماعي، إلا من إيمان مناضليها، بفكرتهم واندفاعهم في سبيلها. وانه لمِمّا يزيد صلة نشأة الحزب بحاضره، قوة وفاعلية، ان حزب الأمة العربية، حزب البعث العربي الاشتراكي، يقف اليوم وقفة تأهب لولوج مرحلة جديدة حاسمة من مسيرة نضاله، فيها الأخطار المكثفة والمؤامرات التي يُعدها الاستعمار والصهيونية على الأمة العربية ومستقبلها، وفيها أيضا الأمل والتفاؤل، بما بلغه النضال العربي، والوعي القومي الثوري، من تقدم وعمق عند الجماهير العربية الكادحة وطلائعها الثورية في الوطن الكبير.
أيها الرفاق المناضلون
يا أبناء شعبنا العربي
ان المؤامرة التي دبرتها الامبريالية الأميركية، وحليفها الكيان الصهيوني، وخططت وعملت لها منذ سنين للوصول الى عزل مصر عن معركة المصير العربي، وبالتالي فصلها عن الجسم العربي، بغية تمزيق هذا الجم وتشتيته.. هذه المؤامرة هي اخطر ما توصل إليه أعداء الأمة العربية منذ قيام دولة الاغتصاب الصهيوني في تآمرهم على أمتنا. وان واجب الجماهير العربية وطلائعها الثورية، وجميع المناضلين والمثقفين العرب ان يولوها الاهتمام المتناسب مع خطورتها، وان يكون ردهم عليها معبرا عن وحدة الأمة، ووعيها المتعاظم.
فالمؤامرة الراهنة لا يقتصر هدفها على عزل مصر عن جسم الأمة العربية كما يتردد القول، وإنما تستهدف محاربة الثورة العربية، والعمل على تغيير خط النهضة العربية وإرجاعه الى الوراء، وجر الأقطار العربية الواحد تلو الآخر، الى التبعية للامبريالية والتعامل مع الكيان الصهيوني، وفرض التجزئة بشكل هجومي، أي محاربة كل العوامل المساعدة على الوحدة. لان هذا كله من شروط بقاء الكيان الصهيوني، وازدهاره وبقاء السيطرة الامبريالية في المنطقة.
ونحن إذ ندعو جماهير امتنا الى اليقظة والحذر، والى التعبئة والنضال العارم الشامل، ضد هذه المؤامرة الخطيرة، نعلن في الوقت نفسه إيماننا العميق بحتمية فشلها. لان الجانب الأكبر فيها مصطنع. فهي ضد طبيعة الأشياء. ضد التاريخ الطويل العريق لهذه الأمة، وضد الموقع البارز لمصر في هذا التاريخ العربي، القديم والحديث على السواء، وضد المصالح الحيوية للوطن العربي كله، بل للمنطقة كلها، بما فيها الأقطار والشعوب المجاورة للعرب. او ليست المفارقة كل المفارقة في ان تتحرر ايران من قبضة الامبريالية والتغلغل الصهيوني وتلتحم بالقضية الفلسطينية، فيما تقع مصر في قبضة الامبريالية والصهيونية، وتصبح معهما في الصف المعادي للأمة ولقضيتها؟.
ان المؤامرة الأخيرة كانت واضحة كل الوضوح منذ زيارة السادات للقدس، لأنها كانت اعترافا للعدو بشرعية اغتصابه، ثم توالت الخطوات الخيانية بعقد اتفاقات كامب ديفد التي كرست القبول بكل شروط العدو الغاصب، وأخيرا بتوقيعه معاهدة الصلح الخيانية. وكان الأعداء مطمئنين الى ضعف الرد العربي، وبطئه وعجزه عن تحريك الجماهير في مصر، دون ان يقيموا وزنا لإرادة الشعب العربي، لأنهم كانوا مطمئنين الى وجود ظاهرتين موظفتين لصالح مخططاتهم، هما غياب الجماهير، وغياب الوحدة.
لقد استهدف أعداء الأمة العربية دوما، دور مصر الوحدوي، وأرادوا تعطيله، بالحرب أكثر المرات.. وبالسلم هذه المرة.. سلم الخيانة والعمالة والذل.
فقد حملت النهضة العربية الحديثة في مصر منذ بداياتها بذور الوحدة، مما أثار مخاوف الغرب الاستعماري، فتصدى لها بالسلاح والحرب. فدفع شعب مصر الثمن من دماء أبنائه. ووصل التآمر الاستعماري الى حد إقامة الكيان الصهيوني العنصري عقبة بالغة الخطورة لكي يمنع الوحدة، ويؤخر النهضة، ويقيم حاجزا جغرافيا وبشريا بين مصر والمشرق العربي. ودفعت مصر و شعبها ثمن التصدي لهذا الحاجز الخطر دما غزيرا في أربعة حروب، حتى أصبح في كل بيت شهيد.
وكان اللقاء التاريخي بين حزب البعث وثورة عبد الناصر مشروعا قوميا كبيرا لفك حصار العزلة وقهر الحاجز المصطنع. وأثمر أول تجربة وحدوية في العصر الحديث. ولكن التهيئة والوسائل والأدوات والعقلية لم تكن بعد في مستوى المشروع الكبير، فلم يصمد طويلا لمؤامرات الأعداء وعملائهم.
لقد كانت عبقرية عبد الناصر تكمن في إدراكه لحقيقة مصر العربية، وفي العمل على الكشف عنها واعتمادها في سياسته. ولم تكن مؤامرة الأعداء في حزيران عام 1967، والهزيمة العسكرية التي ألحقوها به لتثنيه عن خطه الوحدوي الذي آمن به. ولكن غيابه المفاجئ أتاح للأعداء ان يقتنصوا الحاكم المستسلم لإرادتهم، فتنازل لهم بالمجان ليس عن دور مصر الوحدوي والقيادي فحسب، بل عن أسباب القوة والنهضة، وكل ما يعتبره الامبرياليون والصهاينة قابلا لان يساعد مصر على استعادة دورها هذا. فهم لا يراهنون على بقاء السادات رهانا جديا، ولكن اعتمادهم هو على المواقع الاساسية التي حصلوا عليها بواسطته، على كل الأصعدة: العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، والتي تؤول كلها الى إضعاف مصر، وتفسيخ مجتمعها بشكل يصعب عليها معه، ان تقوم بأي دور ايجابي في المحيط العربي.
فإذا سألنا أنفسنا: هل نخشى على مصر من خيانة السادات، ومن تآمره مع الامبريالية والكيان الصهيوني بقصد إخراجها من صف الأمة العربية، ووضعها في صف أعداء هذه الأمة؟ الجواب، نعم، وإنها لخشية كبيرة تستوجب اليقظة والتعبئة والإعداد لمواجهة شاملة قد تنتظرنا في مستقبل قريب!
ولكن: هل نخشى على شعب مصر؟ هل يمكن ان ينخدع؟ هل يمكن ان يستسلم؟ نجيب: لا، بكل الثقة واليقين.
لان الارتداد عن خط مصر الوحدوي، وعن دورها القيادي في النهضة العربية يتناقض مع الحقائق الموضوعية للتاريخ والنضال. وهذه المؤامرة خدعة مفضوحة ومصطنعة لأنها، بمحاولتها إلغاء دور مصر العربي، إنما تتطاول على التاريخ، وتصطدم بحقيقة مصر وبجوهرها النضالي. ولكن المؤامرة لم تكن ممكنة لولا وجود ثغرات في الوضع المصري لا تنفصل عن سلبيات الوضع العربي بشكل عام، تتمثل أكثر ما يكون في التجزئة.
فالتجزئة هي التي سمحت للمنحرفين ان يستغلوا السلبيات للتذرع بها من اجل النكوص والتخلي عن دور مصر في النهضة العربية.
ونحن إذ نجدد إيماننا الذي لا يتزعزع بوطنية شعبنا العربي في مصر، وبحتمية فشل هذه المؤامرة، فإننا نعتبر ان تغييرا أساسيا وجوهريا يجب ان يدخل على حياة العرب منذ الآن. كما يجب ان يدخل هذا التغيير على منطق الثورة العربية وعملها. ثورة الوحدة يجب أن تبدأ، وكذلك ثورة الجماهير العربية للمطالبة بالوحدة ولفرضها بقوة النضال. مرحلة جديدة من النضال الوحدوي، أساسه الحرية، يوحد الأرض، ويوحد الشعب، ويوحد الإنسان العربي مع نفسه، وينقذه من ازدواجية الشخصية التي أوجدها الخوف والجهل والتآمر.
وهذا التحول الجذري يجب ان ينصب على محاربة التجزئة بعقلية وأساليب جديدة فعالة، تحطم هذه القدسية المصطنعة والبالغة الخطورة لمفاهيم التجزئة الراهنة، وللحدود الإقليمية، ولمفهوم الكيانات القطرية. هذه المفاهيم والكيانات والحدود التي أخرت حتى الآن بلوغ الحد الأدنى من وحدة النضال بين الأقطار العربية في المعارك المصيرية التي تهدد وجودهم وبقاءهم.
أيها الرفاق البعثيون
يا جماهير أمتنا العربية المناضلة
ان التجزئة وأسوارها الشاهقة، هي التي كانت تحول دوما دون ان تتجمع القوة الجماهيرية العربية. وان ما تطلبه الجماهير في هذه المرحلة، هو التطابق بين الحقائق التي يكشف عنها التحليل السياسي لهذا الظرف المصيري، و بين الممارسة، فمؤامرة التسوية والصلح مع الكيان الصهيوني، وتصفية قضية فلسطين لصالح الإمبريالية والصهيونية، هي التحدي المهدد لوحدة الأمة ومصيرها، وهي القضية المركزية التي تتطلب جوابا منبعثا من ضمير الأمة، ومن أرادة الجماهير العربية المكبوتة، المتطلعة الى دورها التاريخي. والجواب هو حتمية الوحدة فحتمية فشل المؤامرة له تعبير وحيد هو تحقيق الوحدة، وتحقيق حالة جماهيرية جديدة في الوطن العربي.
فالوحدة العربية الآن تأخذ معناها الثوري الحاد بان تكون هجومية ومتقدمة دوما الى امام، فهجوميتها هي الشرط الضروري لانتصارها على المؤامرة، وللدفاع عن بقائها كحركة تاريخية.
ان اللحظة التاريخية تتطلب حدوث تحول جذري لدور الجماهير في الواقع العربي، لكي تكون الوحدة وحدة نضال وكفاح، وحدة دفاع عن المصير والمستقبل، وعن كل ما يحمله المستقبل من آمال وإمكانات وطاقات تزخر بها الأمة العربية وأجيالها الصاعدة. فوحدة صحوة الضمير والاضطلاع بالمسؤولية هي وحدها الجواب على المؤامرة الكبرى على الأمة.
انها وحدة الجماهير الكادحة التي تعيد للنضال العربي حرارته، وتحتضن الجماهير الفلسطينية المقاتلة، وتحرك الجماهير المناضلة في مصر، وتزيد في عزلة السادات ونظامه الخائن. الوحدة التي تعطي العروبة وجهها الحضاري الحديث، ومضمونها الشعبي الديمقراطي، وتتجاوب مع أعمق حاجات الجماهير، وظمأها الى العادل والحرية، والى الكرامة الإنسانية والقيم الروحية والأخلاقية التي تتضمنها فكرة الرسالة.
وهي الوحدة التي تتعاطف معها وتتضامن، حركات التحرر في العالم الثالث بشكل خاص، والتي تحظى بدعم القوى الاشتراكية والتقدمية المؤمنة بحق الشعوب.
أيها الرفاق البعثيون
يا أبناء شعبنا العربي العظيم
ان خصوصية الثورة العربية تكمن وتتلخص في الوحدة وعقيدتها. فالثورات لابد ان تبدأ في قطر بحكم واقع التجزئة في الوطن العربي. وقد تتقنع التجزئة بأقنعة متعددة دفاعا عن بقائها. وقناع التقدمية والاشتراكية والتحديث والتحضر، ليس اقل تلك الأقنعة خبثا وتمويها.
وليس غير الحزب الثوري ذي العقيدة الوحدوية العلمية بقادر على دحر التجزئة وملاحقتها حتى آخر معاقلها، وفضح حججها، ومغالطاتها، وتمزيق أقنعتها المتعددة الأشكال والألوان.
فقد أدرك حزبنا خصوصية الثورة العربية التي تفرض التمييز بين (ثورة قطر) وبين (الثورة العربية في قطر). ففي حين ان الأولى هي ثورة انتهت وأصبحت نظاما، فان الثورة العربية في قطر تعني ثورة دائمة، ما دامت التجزئة قائمة، وهي تحول القطر الى قاعدة انطلاق وإشعاع لفكرة الوحدة، والربط الحي بين الوحدة والحرية والاشتراكية.
وإذا كانت خصوصية الثورة العربية تكمن وتتلخص في الوحدة وعقيدتها، فان تحقيق الوحدة لا يمكن ان ينفصل عن الحزب الذي أنتجته الأمة، والذي اعتبر ان الطريق التي لا توصل الى الوحدة هي طريق ضالة لثورة ناقصة او مزيفة، فحزب الوحدة يعود الآن الى نفسه والى وحدته عن طريق وحدة الوطن والأمة. وبتحقيق الوحدة، يسترجع البعثيون شخصيتهم القائمة منذ البدء، على هذا الأساس، فتتحقق هذه الشخصية وتنتعش وتتفجر في هذا الجو الصحي المنقذ، بعد ان عانت حركة البعث من جرح التجزئة والانقسام أمدا طويلا. وإذا بالخطر الكبير والألم العميق، إضافة الى تعلقها بأهدافها القومية الكبرى، يضعها امام مسئولياتها من جديد فتتنادى لحمل عبء الوحدة وشرفها. لأنها بتصديها لأعتى الأعداء في أشرس هجمة لهم على امتنا، إنما تجعل من وحدتنا منطلقا لتوحيد الأمة والانتقال بنضالها إلى مواقع الهجوم، ويرتفع ببنيانها الداخلي الى المستوى المتكافئ مع العمل التاريخي الذي ندبت نفسها له.
ان ولادة الوحدة في هذه الظروف هي الولادة المثلى. لان الوحدة و هي اهم وأعلى هدف من أهداف الثورة العربية ينبغي ان تعكس الظروف المصيرية للأمة. أي ينبغي ان تكون صورة الأمة في حالة النضال والصراع من اجل الوجود، ومن أجل تحقيق الذات، وان تعكس في ان واحد ضرورة الاندفاع الثوري، ومستوى النضج الذي بلغته الثورة العربية في هذه المرحلة.
ان الوحدة التي تشكل الجواب الوحيد على المؤامرة، هي الوحدة التي تكون تعبيرا عن الثورة العربية وعنوانا لإشعاعها، انها الوحدة التي تخلق أملا للجماهير العربية في كل مكان، يعزز صمودها، ويجعلها تلتقي بحقيقتها، انها الوحدة الاشتراكية التي تنقذ الاشتراكية من محاولات الإلهاء عن الوحدة، او طرح نفسها بديلا لها. انها الوحدة المقاتلة التي تتجه نحو تحرير فلسطين.
أيها الرفاق المناضلون
أيتها الجماهير العربية المناضلة
ان الثورة العربية وهي تدخل مرحلة النضج بارتكازها على دعامتي: الأصالة والحداثة، وبفهمها الثوري لتراثها الروحي الخالد، مطالبة بان تستشرف في مثل هذه الظروف المصيرية دورها الطليعي بين الشعوب الإسلامية كجزء أساسي من دورها الحضاري في العالم.
وفي يقيننا ان الشعوب الإسلامية تبادلنا مشاعر الأخوة، والتنبه الى أخطار المؤامرة الكبرى على القضية الفلسطينية، وتنظر الى الأمة العربية وثورتها المعاصرة، نظرة أمل ورجاء واستلهام واقتداء، تدرك بالتجربة التاريخية الطويلة ان عزّ الإسلام مرتبط بعزّ العرب.
ونحن كعرب، نعتز بعاطفة القربى تجاه الشعوب الإسلامية التي حمل إليها الإسلام مع العقيدة الدينية شيئا من الروح العربية… وأواصر القربى هذه ترتب على الأمة العربية مسؤوليات تجاه هذه الشعوب في كل الأحوال. فكيف إذا كانت في حالة ثورة على الظلم والفساد وفي سبيل التحرر من الاستعمار، ومن كل ما يعوق الجماهير الشعبية عن التقدم. لذلك فنحن نستقبل الثورة الشعبية في ايران بالفرح العميق، وبالشيء الكثير من التعاطف. فحيث يكون الإسلام تكون العروبة وعبقريتها. إذ لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فالإسلام روح العروبة، ومكون شخصية الأمة العربية، ومع ظهوره دخلت القومية العربية مرحلة جديدة ناضجة وحاسمة. حتى ليمكن القول بأنها خلقت مع هذا الحدث التاريخي العظيم. فالعرب أصبحوا مع الإسلام أمة عظيمة، ولكن الأمة العربية هي التي حملت رسالة الإسلام، وقوته من قوتها، كما أن ضعفها يضعفه. وليس غريبا أن تظهر ثورة الإسلام اليوم في أكثر الشعوب الإسلامية التصاقا وامتزاجا بالأمة العربية وتأريخها وحضارتها، وأن تقف ثورة ايران هذا الموقف المشرّف الحاسم من القضية الفلسطينية، وأن تكون مهمة تحرير بيت المقدس من الصهيونية المرتبطة بالإمبريالية، هي أساس الرابطة الكفاحية التي تستند إلى مفهوم ثوري للإسلام كحركة جهاد ونضال من أجل القيم الإنسانية، قيم الحرية والتحرر والعدل الاجتماعي والمساواة بين الشعوب.
وهكذا تقف الأمة العربية في مواجهة المؤامرة الكبرى على مصيرها اليوم، متسلحة بثقتها بنفسها وإيمانها بجماهيرها، وبوحدة الثورة العربية والثورة الفلسطينية، وبالدعم الذي تحظى به من الشعوب الإسلامية وحركات التحرر في العالم الثالث والأنظمة الاشتراكية، وبخاصة الإتحاد السوفيتي، حيث تقوم العلاقة مع هذه القوى الشقيقة والصديقة والحليفة على أساس إدراك الخطر المشترك الذي يحتم الانطلاق في هذه المرحلة من منظور استراتيجي جديد يطرح الوحدة كمرحلة حتمية ذاتية وموضوعية، وكجواب حاسم على مخططات الأعداء، وهجمتهم الضارية على الأمة العربية.
إن الردّ الأقوى على المؤامرة هو الوحدة بين العراق وسورية، تلك الوحدة المتوجهة نحو خوض معركة المصير العربي في فلسطين، وما يعنيه ذلك من التقاء وتفاعل وتوحّد مع نضال شعب فلسطين، وحركة المقاومة الفلسطينية. وهذا ما أدركته الجماهير العربية بحسها الثوري، وعبرت عنه بالإنتعاش والفرح والتفاؤل، وهو الردّ الثوري الحقيقي، لأنه لا يتكافأ مع الأخطار المداهمة فحسب، بل يشكل النواة الصلبة والمشعة للتضامن العربي. وهو أخيرا الظاهرة الأكثر تأثيرا في جماهير مصر العربية، تعزز ثقتها بنفسها، وارتباطها العربي المصيري، وترفع من قدرتها على مواجهة نظام السادات وإفشال تآمره.
ان المقاومة الفلسطينية ظاهرة ثمينة مشرقة من ظواهر الثورة العربية المعاصرة، وتعبير تاريخي عميق وصادق عن جانب أساسي من جوانب هذه الثورة. فمنذ قيام دولة الاغتصاب الصهيوني على ارض فلسطين، أصبحت قضية فلسطين، قضية العرب المركزية، التي تتلخص وتتركز فيها السمات الاساسية لصراع الأمة العربية التاريخي، مع أعدائها: الاستعمار الغربي والامبريالية والصهيونية. وأصبحت معركة فلسطين متسعة اتساع الوطن العربي، وأصبحت كل معركة تخوضها الجماهير العربية في أية ساحة من ساحات النضال ترتبط بمعركة فلسطين تؤثر فيها وتتأثر بها. ولكن شعب فلسطين الذي لم يهدأ نضاله منذ بداية المشروع الصهيوني الاستعماري، شق لنفسه بهذا النضال المتواصل دورا طليعيا في حركة الثورة العربية لا غنىً عنه ولا بديل له. وكانت المقاومة الفلسطينية تجسيدا تنظيميا لهذا النضال الطليعي، شمل تأثيره الوطن العربي كله، كما حمل رسالته الى كل أحرار العالم.
ان تعاظم التآمر الامبريالي الصهيوني على مستقبل امتنا، دفع القوى الثورية المخلصة الى مضاعفة الجهد من اجل التكافؤ مع متطلبات المرحلة الجديدة، وتجسد هذا النضج الثوري في الاندفاع نحو بناء الوحدة العراقية-السورية، وفي تصاعد نضال المقاومة الفلسطينية، وانفتاحها وتفاعلها مع هذه الوحدة المتوجهة نحو الصمود والتحرير.
ان الوحدة العراقية-السورية، والمقاومة الفلسطينية الموحدة، هما ذراعا الثورة العربية للرد على الأعداء، وللاتصال بالأصدقاء في العالم، للتعبير عن الوجه الحضاري الحقيقي للأمة العربية، فالحضارة لا تنفصل عن الثورة والنضال في سبيل استرداد الحقوق، ومحاربة الظلم والطغيان في العالم.
ان المطلوب في هذا الظرف الخطير، هو التحرك الجماهيري على الساحة العربية كلها ضد المصالح الامبريالية، وضد الأنظمة المرتبطة بها او المهادنة لها ويفترض هذا تعاون وتوحيد عمل جميع الحركات والهيئات الوطنية والتقدمية المناوئة للامبريالية وحليفتها الصهيونية، وذلك في جبهة عريضة على امتداد الوطن العربي.
وفي هذه الظروف العصيبة التي تتطلع فيها امتنا العربية الى ما يشد أزرها ويعزز فيها الأمل والتفاؤل والثقة بالمستقبل، يبرز العراق وتجربته الثورية منارا للنضال الذي لا يعرف التردد، وقلعة للقوة العربية المتوثبة، وللعقيدة القومية الراسخة المتوهجة. فلقد أثمر نضال حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد أكثر من ربع قرن مضى على بدايات الحزب في هذا القطر، وبعد أكثر من عشر سنوات مضت على تفجير الحزب لثورته في السابع عشر من تموز من العام 1968، معالم نهضة جدية شاملة، تمثل تطورا نوعيا ثمينا في الحياة العربية الحديثة.
وقد عبرت ثورة الحزب في العراق عن هذه المزايا في المبادرات القومية المتتالية التي بدأتها على اثر اتفاقات كامب ديفد، والتي قضت على حالة اليأس والتداعي، وأحدثت تغييرا ايجابيا كاملا في نفسية الجماهير العربية من اقصى الوطن الى أقصاه. هذه المساهمة التي يقدمها العراق بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي الى الأمة العربية والى مسيرة البعث التاريخية، لجديرة بان تكون موضع اعتزاز العرب، والتفاف مناضلي الحزب والأمة حولها.
أيها البعثيون المناضلون
يا جماهير امتنا العربية المجيدة
لقد اعتبر البعث نفسه منذ نشأته الفكرية النضالية الأولى، انه ليس إلا نتاج أمته، وان الأمة أعطته كل شيء، وانه مَدين لها بكل شيء، فضميرها هو الذي نبه الجيل الأول من البعثيين الى دوره ومسؤولياته، وتراثها هو الذي أمدهم بالإيمان والثقة بالنفس، وقضاياها القومية، ومشاكل مجتمعها هي التي خلقت وطورت وأنضجت فيما بعد تجربتهم النضالية، وتجربة الأجيال التي تعاقبت على المسيرة الطويلة.
ان قومية البعث وعروبته ووحدويته، هي حبّ قبل كل شيء، كانت كذلك منذ البدء، وفكرها نبع من الانتماء والالتزام، والأمة العربية في ضمير البعث تتجمع وتتلخص، حيث تكون المعاناة أشد وأعمق، وحيث يحمل أبناؤها السلاح دفاعا عن حريتهم وكرامتهم، انها تتجمع في الجزائر، عندما تكون الجزائر ثائرة، وتتجمع في لبنان عندما يغدو لبنان طليعة الفداء العربي، وتتجمع اليوم في مصر، حيث تعيش مصر محنتها ومحنة العرب الكبرى، وتتجمع وتتلخص دوما في فلسطين.
فلنصعد نضالنا في كل ساحة عربية ضد مصالح الأعداء وركائزهم، فان ذلك يفت في عضد السادات ويزيده افتضاحا وعزلة امام جماهير مصر، ولنسرع خطانا على طريق الوحدة، فذلك يمد هذه الجماهير بمزيد من العزم والأمل. ولتشع مبادئ الرسالة العربية من خلال نضالنا الوحدوي ليكون فيها الرد على كل الذين يشككون في انتماء مصر العربي ويحاولون فصلها عن المصير العربي.
– تحية إجلال لذكرى شهداء الحزب والأمة الذين شقوا بتضحياتهم الطريق الى الكرامة والنصر.
– تحية الى مناضلي حزبنا الذين يصنعون الوحدة والمستقبل العربي المنشود.
– تحية الى مناضلي الأمة العربية وطلائعها المقاتلة في كل أرجاء الوطن العربي.
– تحية الى جماهير شعبنا العربي الأبي في مصر.
– تحية الى شعبنا الصامد في الأرض المحتلة الذي يمنح البطولة ويمارس الفداء كل يوم.
– تحية الى الحركات والقوى التحررية والتقدمية، والى الدول الاشتراكية والصديقة في كل أنحاء العالم.
– المجد والخلود لامتنا المناضلة ولجميع الشعوب المكافحة من اجل الحرية والعدالة والتقدم.
( 1) كلمة في السابع من نيسان عام 1979، لمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.
—————————
القضية الفلسطينية قضية العصر
ان ابرز فكرة في حزب البعث العربي الاشتراكي هي فكرة الوحدة (1)، وهي للعرب، ولكن ايضا للانسانية ولكل الشعوب المحبة للتقدم. وما شاهدتموه في العراق من رسوخ لمبادئ الحزب في جماهير الشعب يطمئنكم على مستقبل الثورة العربية.
ان القضية الفلسطينية هي قضية العصر، وقضية الثورة، وهي معيار الثورية في حزبنا.. وعندما تتحرر فلسطين لن يبقى استعمار على وجه الارض. هذا من جهة دليل على صعوبة القضية، ولكونها قضية انسانية وليست قضية العرب وحدهم. ولذلك فان الشعوب الثائرة والمنتصرة للحق والعدل والتقدم عندما تتضامن كلها في دعم الثورة والقضية الفلسطينية سيكون ذلك في نفس الوقت تحررا لهذه الشعوب والإنسانية.
ان هذا الكلام نشأنا عليه، وعشنا عليه، وهو كلام النضال والثورة لان المناضلين والثوار يتعارفون بلحظة واحدة وكأنهم رفاق حياة وعمر. ان قضية الحرية لا تتجزأ من النضال ضد الامبريالية والاستعمار والصهيونية لانها قضية واحدة، لذلك فان لقاءنا مع رفاقنا من أفريقيا الثائرة هو لقاء مبدئي وعميق وان قضية الأمة العربية مرتبطة ارتباطا عميقا ووثيقا بمصير وحرية العالم الثالث. ان احلام السادات والامبريالية والصهيونية باطلة ووشيكة الفشل لان شعب مصر شعب له تاريخ عريق بالوطنية والنضال وهو جزء من الأمة العربية، فلا يمكن ان يكون له طريق غير طريق الثورة مع بقية اجزاء الوطن العربي. إننا لا نشك لحظة بان السادات شيء عابر وستعود مصر أشد وطنية ونضالا من قبل، والثورة الصحيحة هي التي تحول هذه الخيانة الى شيء ايجابي لمصلحتها، فهي بعد هذه المعاناة والتجربة القاسية ستكون أعمق اتصالا بالجسم العربي وبروح الثورة العربية.
ان السادات يمثل ظاهرة مرضية، لانه في الواقع شيء سلبي يعتمد على أمراض ما زالت موجودة في المجتمع العربي والمصري ويعتمد على القوى الباغية الاستعمارية التي توهمت انه يستطيع ان يقود العرب الى الخيانة وهذا منتهى الغباء. باعتقاده انه يحكم الآن اكبر قطر عربي، ولكن اكبر قطر عربي يستطيع ان يقود العرب الى الثورة وليس الى الثورة المضادة.
ان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يتخذ قرارات بمفرده وكانت الأمة العربية كلها تتبعه لان قراراته كانت ثورية ضد الاستعمار والصهيونية. وان دليل زيف السادات كونه سياسيا وليس زعيما شعبيا حقيقيا وانه يحكم على الامور بسطحية ويظن بانه يستطيع ان ينجح في خيانته. انه لا يمثل مصر العربية.
ان من علائم الصحة في الثورة العربية كونها تستفيد حتى من التجارب السلبية.. فخيانة السادات أتاحت فرصة لظهور العرب بشكل متضامن ضد الانحراف.
13كانون الاول 1979
(1) من حديث مع السيد سامورا مويزس ماشيل رئيس حزب (فريليمو)، رئيس جمهورية موزنبيق الشعبية في 13/12/1979
——————————-
1980
الإغتراب والنهضة القومية
ان الشباب هم امل المستقبل ونريد ان نذكركم بالاعباء والمهام الكبيرة التي تلقيها عليكم امتكم ليس عندما تعودون الى الوطن فحسب ولكن منذ ان اغتربتم لطلب العلم.
ان حزب البعث العربي الاشتراكي يقدر هذا الاغتراب في المنظور القومي لأنه تهيئة لكم للعمل مستقبلا في الوطن نفسه مزودين بكفاءة أعلى ومعرفة أوسع وبتجربة إنسانية أعمق. ان من حقكم ان تذكرونا في مثل هذه المناسبة بمسؤولياتنا وبما تعاهدنا عليه منذ ان ضمتنا هذه الحركة القومية من العمل الدائب، والعمل بروح ثورية وبعقلية حديثة واساليب جديدة وناجعة من اجل الاقتراب من الأهداف القومية الكبرى.
الاغتراب لطلب العلم واجب قومي
ان الاغتراب لطلب العلم بشتى فروعه هو واجب قومي أساسي، وليس من تحصيل الحاصل ان نحاول التعمق قليلا في معنى هذا الاغتراب وفي مضمونه وفيما يرجى ان يعطيه من نتائج. فلو افترضنا ان كل الفروع التي ذهبتم للتخصص فيها موجودة في الوطن وبنفس الدرجة من الكفاءة العالية يبقى للاغتراب فائدة أكبر، لأنكم تحصّلون العلوم التي تتخصصون بها وتحصّلون أشياء أخرى تحتاجها نهضتنا الحديثة، فهي لا يؤتى بها من الخارج بشكل جامد لانها ليست مجرد أدوات او تكنولوجيا وتخصص في شتى العلوم، وانما هي اشياء معنوية، روحية وفكرية، يلاحظها المرء نتيجة الانتقال من وسط الى آخر، نتيجة الاختلاف بين بيئة وأخرى، بين مستوى وآخر، بين جو فكري واجتماعي وآخر، وملاحظة هذه الاشياء لا تأتي في يوم ولا تأتي في سنة، وانما هي شيء بطيء يأتي بالحس البطيء وبالتفاعل.
نهضتنا الحديثة
اننا في نهضتنا الحديثة بحاجة بالدرجة الاولى الى ان نرى ما هو مختلف عنا وليس بالضرورة ما هو متخلف. اما اذا كانت هناك مجتمعات أرقى توفرت لها وسائل لم تتوفر لنا وكانت حياتها في صعود مستمر لم تعرف النكسات التي عرفها مجتمعنا ولم تأت عليها قرون من الظلام ومن التخلف فهذا يكون من الطبيعي مجالا انسب لنا للإفادة. إني وضعت الأهمية الأولى للاختلاف أكثر من الرقي والتقدم ففي رأيي –وهذا شيء اساس– أن يكون أفقنا واسعا وألا نتقوقع وألا نتجمد على صورة واحدة ونظن أننا وجدنا وحدنا في الوجود، علينا ان نقبض على حركة الحياة بملاحظة هذا التباين والاختلاف بين البشر لكي نصل الى التوازن النفسي والعقلي، وبالتالي تقترب مقاييسنا وأحكامنا من الموضوعية والعدل، ونصبح جزءا أصيلا من الإنسانية، وجزءا حيا ومتفاعلا معها بعد هذه القرون التي مرت من التجمد والعزلة، فنحن في الماضي كنا في صميم الإنسانية، كنا بؤرة اشعاع.
الحضارات العربية
ان الحضارات العربية ذات المكانة المعروفة في التاريخ لم تولد وتزدهر الا عندما توسعت آفاق العرب، وعندما جابوا الامصار، وعندما تمازجت العقليات والحضارات. هذا الكلام بدون ضوابط لا يعطي النتائج التي نرجوها. ان هذا الكلام موجه الى شباب ملتزم بعقيدة وبنضال، واغترابه مؤقت ووسيلة من اجل ان يعود ويؤدي واجبه بشكل أكثر كمالا ونضجا وتوازنا، وبنفس الحماسة أدعو كل الشباب الذي اغترب ان يعود الى أمته ووطنه ولا يضيع قسما منه تحت أي عذر من الأعذار في الحياة الأجنبية وينسى روابطه القومية وأصالته وواجبه في إفادة أمته من اختصاصه ومكتسباته المعنوية خلال فترة اغترابه. انتم تعيشون في فترة من الفترات الصعبة المعقدة التي يمر بها نضالنا العربي، تكاد صورة المستقبل فيها تعلوها أحيانا الظلال ولكن حركة الثورة العربية في هذا العصر انطلقت من مفاهيم تتطلب النظر البعيد والنفس العميق وتتطلب ان نجمع صفتي الإيمان والعقل وهما صفتان أساسيتان، وان لم يكن الجمع بينهما سهلا.
17 كانون الثاني 1980
(1) من حديث مع مجموعة من الطلبة والشباب العرب في العالم خلال زيارتهم للعراق في 7 / 1 /1980..
—————————————-
وحدة النضال بين القوى التقدمية والثورية في العالم الثالث
اسمحوا لي، ايها الرفيق والأخ العزيز،(1) ان اعبر لكم مرة أخرى عن سعادتنا العميقة بلقائكم في عراق البعث، عراق الثورة، آملين ان تكون مثل هذه الزيارة هي القاعدة في اللقاء لا الاستثناء، لأننا نعتقد ان مستقبلا كبيرا سيفتح امام تعاوننا، بسبب التقارب الكبير بين حزبينا في كثير من النقاط الأساسية. وان تعدد اللقاءات والزيارات في المستقبل، سيسهم في تعميق وجهات النظر، وفي توضيح الأسس الفكرية لحزبينا، وسيضفي على علاقة العراق بغينيا بعدا خاصا يمدها بالقوة والثبات.
لقد وصلت، ايها الرفيق والاخ العزيز، في ظروف دولية حساسة ودقيقة، مما يعطي لزيارتكم اهمية خاصة، ذلك ان تجربتكم الغنية، وماضيكم النضالي، وحرصكم على استقلال بلدكم يعطي للقائكم مع البعث قيمة اضافية.
اننا نعتقد أن ثمارا ناضجة ستنتج عن هذا اللقاء، كما ان لقاءكم بالرفيق الرئيس صدام حسين ورفاقنا في الحزب سيعطي لزيارتكم فائدة وفاعلية، تمكن شعوب العالم الثالث بشكل خاص، وشعوب العالم المؤمنة بمبادئ العدالة والحرية والسلام بصورة عامة، من القيام بدورها الضروري والفعال في مواجهة هذه الظروف الدولية الدقيقة. اننا نأمل ان تفتح هذه الزيارة، الطريق الى تعاون أوثق وأعمق وأكثر حيوية وتنظيما بين شعوب العالم الثالث الحريصة على حريتها واستقلالها، وبين كل الشعوب، للوقوف ضد التبعية وهيمنة الكبار.
إني واثق بأنكم ستجدون هنا تفهما أعمق واشمل مما ستجدونه في أي مكان آخر، لان العراق يملك وراءه تجربة اثني عشر عاما من العمل الثوري، وانه الآن، ومنذ اقل من سنة يدخل مرحلة إشعاع استثنائي بقيادة الرفيق العزيز الرئيس صدام حسين.
ان الأفكار التي طرحتموها، ايها الرفيق والاخ العزيز، تستقي من الينبوع الفكري والروحي نفسه الذي يستقي منه البعث. وهذا ما يسهل التفاهم بيننا ويمكننا من ارساء قواعد واسعة للتعاون العميق، وخاصة ما تفضلتم به عن أولوية الفكر وعن كرامة الإنسان. ان الثروة في حياة حزب البعث هي أمر طارئ. وهي كذلك في حياة الأمة العربية. ونحن لا نعير هذا الأمر أكثر مما يستحق من أهمية، فالثروة لا تثير اهتمامنا الا عندما تكون في خدمة فكرنا الثوري التقدمي والإنساني، لانها في هذه الحال تساعد ملايين البشر على التحرر الاجتماعي والاقتصادي والفكري، وكذلك تسهل التحرر القومي.
إني سعيد بما أشرتم اليه من دور حزب البعث في قيام دولة الوحدة عام 1958 أيام عبد الناصر هذه الوحدة التي يعتبر حزب البعث مساهمته الفاعلة فيها كحدث تاريخي. وإذا ما أردنا اختصار تعريف حزب البعث بكلمة واحدة لقلنا بانه حزب الوحدة العربية. لقد شخص منذ ولادته النقاط الجوهرية لواقع الأمة العربية ولمستقبلها ومصيرها والتي تصب جميعها في هدف الوحدة. وإن نظرة الحزب الى وحدة النضال بين القوى التقدمية والثورية تتجاوز حدود الاقطار العربية الى آفاق العالم الواسعة، وبشكل خاص العالم الثالث.
لقد ذكرنا لكم قبل قليل، ان شعوبنا التي عانت واضطلعت بمهمة التحرير وبناء المستقبل، عبر التجارب المؤلمة قد ارتبطت بالتراث الروحي للشعب. ومنذ لقائنا الاول في العام الماضي، عبرت لكم عن سروري بأنكم وجدتم الطريق السليم والعادل لفهم الاسلام، الذي نعتبره من أقوى الروابط التي تجمعنا. الإسلام كثورة إنسانية عظيمة قادرة على التجدد دوما وخير برهان على ذلك: ما نشهده في المرحلة الحاضرة.
لقد ساهم الاسلام لقرون عديدة في الحفاظ على هوية شعبنا وقيمه الروحية، وكذلك على هوية كثير من الشعوب الأخرى، ومكنها من الصمود ضد الغزوات الأجنبية، فهو الذي ساعد الجزائر على الصمود قرنا وثلث القرن في وجه الاستعمار والدمار و المذابح الجماعية ومحاولات القضاء على شخصية شعبنا.
كما ان الثقة بالشعب هي التي جعلت من حزب البعث، منذ البداية، يتجه بأنظاره لمبدأ عدم الانحياز، وهو ما كنا نسميه الحياد الايجابي. لان حركة عدم الانحياز او الحياد الايجابي لا يمكن ان تكون ثغرة للهروب من النزاعات الدولية، ولكن يجب ان تكون موقفا فعالا وخلاقا. كما ان هذا الأمر يعني بالنسبة لنا موقفا ثقافيا وحضاريا وتحرريا، لأن حزبنا ولد من الظروف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وكان واضحا لديه ان العالم الامبريالي يتجه نحو الهبوط والانحطاط. وان الشيوعية التي تميزت ببعض المزايا لم تلبّ كل حاجات الشعوب الى الحرية والاستقلال، فقد حملت كثيرا من الآثار السلبية وجاءت كرد فعل على الأوضاع الفاسد ة التي كانت سائدة في اوروبا القرن التاسع عشر. انها لا تحمل الحل لمشاكلنا.
اما البعث فان نظرته للامور كانت واضحة منذ البداية. وهي ان له دورا ايجابيا عليه ان يفعله تجاه نفسه وتجاه العالم. وبدون التراث فان البعث ما كان لتتولد فيه مثل هذه الثقة بنفسه، ولا نفس الطموح لأن يقود النضال العربي. وأسارع الى القول وأوضح.. بان الشيء الجوهري هو ما نفعله في الحاضر، وان العودة الى الماضي مهما كان الماضي عظيما سيبقى شيئا ناقصا ما لم تقترن هذه العودة بالنضال في الحاضر، النضال من اجل التحرر والتحرير. من اجل تحرير النفس والعقل اولا، ثم يأتي بعد ذلك التغيير الجذري للبنى المادية والاجتماعية. المهم في نظر البعث ربط نضال الحاضر بالماضي الحي، وعلينا ان نثبت بأعمالنا استحقاقنا لهذا الماضي.
بالنسبة للظروف الدولية الراهنة، فنحن لا نضع على قدم المساواة القوتين العظميين. ولكن ما جرى حتم علينا ان نعارض الاتحاد السوفييتي وهو صديق لنا وليس عدوا. وان نتخذ موقفا شجاعا يذكره بخطورة اللعب بالمبادئ.. لأنه لا تكمن وراء غزوه لأراضي افغانستان اسباب تقدمية. انه لخطر كبير ان يقع التباس بين حكومة تقدمية لها مطامع توسعية وهذا ما يلقي مرة أخرى على عاتق دول العالم الثالث وحركة عدم الانحياز بشكل خاص، واجبا مشرفا بان تنهض بدورها الثوري الصحيح، عندما تقوم الدول الكبرى بسحق شعوب الدول الصغرى لأسباب ذرائعية.
إن تطابق موقفينا في مضمون عدم الانحياز تجسد في النضال ضد الامبريالية الغربية في نفس الوقت الذي أدنّا فيه التدخل السوفياتي في افغانستان، رغم فهمنا المشترك للفرق بين المعسكرين وصداقتنا للسوفييت.
ان آمالنا في حركة عدم الانحياز، وفي مستقبلها كبيرة جدا. ومنذ زمن بعيد نظرنا اليها على انها يجب ان تكون كالجسم الحي لتحقق الحد الأدنى او ما يتعداه من تطابق الافكار، ليس على الصعيد السياسي فقط، وانما ايضا على الصعيد الايديولوجي والتقارب الاجتماعي ووحدة التجارب.
ومن اجل ذلك كنا قلقين على مستقبل هذه الحركة عندما رأينا المنحازين يختلطون بغير المنحازين. الا اننا نثق بان وحدة النواة القوية والحية المشكّلة من بلدان العالم الثالث، والتي تؤمن بهذه الفكرة ايمانا خالصا مرتبطا بايديولوجيتها وثقافتها، هذه النواة ستقود بتماسكها البلدان الأقل منها ايمانا بهذه الفكرة، وتخطو بها الى دائرة التجسيد الكامل لمضمون عدم الانحياز في مستقبل قريب.
اننا نرى ظواهر مشجعة على الصعيد الدولي، فأوروبا مستعدة أكثر فأكثر للتقرب من هذا الموقف (موقف عدم الانحياز) رغم ان ماضيها الاستعماري لا يزال حديث العهد، ولم ننسه بعد. ولكن علينا ان نكون مؤمنين بأنفسنا وبالمستقبل ليكون بامكاننا القيام بهذا الدور.
وهناك عوامل ايجابية من شانها ان ترسي قاعدة للتعاون بين العالم الثالث وأوروبا التي أصبحت تخشى أطماع العملاقين الكبيرين.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فقد أتيح لنا الحديث عنها معكم في زيارتكم السابقة في العام الماضي. ونحن لا نعتقد بوجود حل قريب لها، لان أي حل آني وفي واقع الضعف والتجزئة العربية، هو بالضرورة حل وسطي وتوفيقي لا نقبل به. ولهذا فإننا نعارض دوما مثل هذه الحلول، ورفضنا هذا ليس رفضا سلبيا، لأننا نعد انفسنا وبلادنا وننسق مع الاقطار العربية الاخرى التي تبدي استعدادا للتقارب او الاتحاد، وهذا أمر متروك للمستقبل. انها قضية ليست قريبة الحل وصراعنا مع الصهيونية صراع طويل الأمد.
اما شعبنا العربي في مصر، فلنا ملء الثقة في وطنيته وفي وعيه القومي، ونحن لا نخشى من هذه الناحية شيء. اما السادات الذي ارتضى ان يلعب دور الخيانة الصريحة، فلا اجد كلمة نصفه بها اقل من الخيانة للشعب والأمة. صحيح انه لا يزال في السلطة، ولكنه لن يتقدم قيد أنملة. ويزداد الخناق عليه اكثر فاكثر، ويوما بعد يوم من قبل الشعب العربي في مصر، وفي سائر انحاء الوطن العربي. فالقوى الثورية في مصر الان، تعيد تشكيل نفسها وتنظيم اوضاعها، لانها بقيت مع الأسف عشرين عاما، منقطعة عن النشاط السياسي والتنظيمي، بسبب الاوضاع السابقة. فاستفاد السادات من هذا الفراغ السياسي، ومن غياب التنظيم الثوري. ولكن الشعب ماض في ملء هذا الفراغ، وفي خلق قوى جديدة، ومعلوماتنا تدل على ذلك.
هناك اشارة اخيرة احب ان أقف عندها، وهي: اننا كما تعلمون، كنا نستعد في العام الماضي لإقامة وحدة مع شعبنا في سورية. ولكن حدث مع الأسف إساءة استعمال الثقة. فالنظام هناك لم يكن مخلصا ولا يستحق هذا الانجاز.
ونحن الآن نجد أنفسنا اقرب الى الوحدة، لأننا اخترنا طريق المبادئ، طريق الاستقامة والشرف، وهذا امر يعرفه الشعب في سورية. النظام هنا في ازدهار وإشعاع، انه يرتكز على الإخلاص للمبادئ، وتدعمه الجماهير الشعبية. واذا لم يكن الحكام في سورية في مستوى يمكنهم من تحقيق متطلبات خلاص الأمة، لأنهم أرادوا ان يحققوا فوائد شخصية على حسابها، فالجماهير في سورية تعرف ذلك وقد ابتعدت عنهم. وقد تسنح لكم الفرصة للتحقق من هذا الامر شخصيا.
هذا ما اردت ان أقوله لكم في هذا اللقاء، ولا أحب ان اقتطع من وقتكم الثمين كثيرا. فالتشابه في وجهات النظر والافكار يجعلنا نتفاءل، ونأمل في لقاءات مقبلة اكثر خصوبة. نحن سعداء ان نلتقي.. وانتم هنا في بلدكم وبين إخوانكم.
28 شباط 1980
(1) حديث خلال استقبال السيد احمد سيكوتوري الأمين العام للحزب الديمقراطي الغيني، رئيس جمهورية غينيا الثورية الشعبية.
——————————————–
البعث طاقة حية متجدّدة
ايها الرفاق المناضلون (1)
يا جماهير أمتنا العربية الخالدة
تأتي هذه الذكرى، الثالثة والثلاثون، لانعقاد المؤتمر الاول لحزب البعث العربي الاشتراكي، لتذكرنا بجملة من الحقائق الموضوعية التي ميّزت مسيرته. وكانت معالم بارزة في حياته، وفي ُمقدمة تلك الحقائق: استمراريته النضالية.
ان ماضي أربعة عقود من المعاناة النضالية، ومن الآلام التي تخللتها، ان هذا الماضي، قد صنعه مناضلون مؤمنون من ابناء هذه الأمة المجيدة، تتابعوا قوافل وأفواجا، يحملون راية النضال والتضحية والصبر. فكانوا يتساندون ويتناوبون. وعندما كانت مسيرتهم النضالية تضعف في قطر، او تتعرض لنكسة، كان المناضلون في الاقطار الاخرى يضاعفون عزمهم وجهدهم. ان هذه الاستمرارية قد كانت تبرز دوما كحقيقة ناصعة، بالرغم من العثرات والنكسات والنواقص الذاتية، وهي التي أكدت هوية فكرية، و عبّرت عن شخصية متميزة، ورسمت خطا ً نضاليا ً تاريخيا.
وهذه الحقيقة الموضوعية، هي ما يجدر ان نركز عليها الانظار، وان يستخلص البعثيون المعنى العميق الذي تنطوي عليه. فجوهر هذه الاستمرارية، انما يكمن في السمات التي ميزت فكر البعث ونضاله، وجعلت منه حركة تاريخية يتعلق بها الشباب العربي، ويرفدها باستمرار بالمناضلين لانها كانت تحقق له ما لا يراه في حركات اخرى، ولأنه كان يعتبرها المؤهلة لأن تحمل مبادئ الثورة العربية واهدافها بالشكل الجدي والثوري والعقلاني الحديث، المتجاوب مع روح العصر ومع تطلعات الجماهير.
فالبعث كان يشكل في نظر الاجيال العربية المتعاقبة، الروح الصامدة المتفائلة المُصممة التي لا تعرف المساومة ولا التراجع ولا التردد. والروح الاخلاقية الصادقة التي تكشف كل ما هو زائف في الحياة وفي النضال. والحركة التي انطلقت من الاصالة والارتباط الوثيق بالتراث الى الحوار مع المجتمعات الحديثة، والتي آمنت بالشعب وبالجماهير وإنها هي التي تصنع التاريخ. وآمنت بالانسان وبالحرية، وبان رسالة الأمة لا تتحقق الا في امة موحدة، وكانت فكرتها عامل تصحيح وتعميق مستمر للوعي القومي وللمسيرة النضالية.
ايها الرفاق البعثيون
إن الأفواج المتلاحقة من المناضلين العرب، الذين تناوبوا حتى ُيوصّلوا شعلة البعث إلى الأجيال الجديدة، لا يمكن أن ُيوفى ماضيهم حقه من التكريم والتقدير، والإجلال لتضحيات الشهداء إلاّ إذا جعلت الأجيال الجديدة من هذه المناسبة القومية سبيلا ً وحافزاً إلى اقتحام المستقبل، بنفس الروح التي انطوت عليها مسيرة البعث خلال أربعين عاماً، بكل ما فيها من توتر، وطاقة مختزنة ومتحفزة للانطلاق والتحقق.
فقد كان البعث حاضرا بكل مبررات وجوده، في كل مناسبة قومية ُتذكّره بماضيه، لينتزع العبرة من هذا الماضي وُيسلط الضوء على المستقبل، حتى يبقى منسجماً مع ذاته ومع السمات التي جعلته حركة أصيلة، تشق طريقها الصعب، وهي موطدة العزم على انجاز مهماتها التاريخية كاملة.
فقد كان دأب حزبنا المستمر، ان يبني بناء صامداً للزمن، وان يحفر مجراه بعمق في المسيرة التاريخية للأمة، وهذا ما جعل البعث يتميز عن الحركات التي اكتفت بان تفجر اوضاعاً، وان تنهي مرحلة دون ان تتمكن من وضع اساس راسخ لبناء متين، يكفل لها الاستمرار العميق. فكانت تلك الحركات تتألق ثم ما تلبث ان تخبو بعد قليل، وينحسر تأثيرها، وتدور حول مشكلاتها القريبة فلا ترى البعيد، وحول نفسها، فلا تتمكن من تطوير نضالها وتتجاوز ذاتها.
في حين بقي البعث طريقا صاعدة، وطاقة حية متجددة، تنتصر على النكسات، وتصنع الانتصارات. ولا سيما بعد ان استلم العراق شعلة البعث المتوقدة، وأعطاها قوة وتوهجاً عظيمين.
يا ابناء شعبنا العربي
لقد جاءت الاحداث تؤكد صواب نظرتنا القومية الاشتراكية المستقلة، المعبرة عن نظرة جديدة الى العالم، والى العلاقات الدولية، فان ما يجري اليوم من احتكاك بين القوى الكبرى، واقترابها من الساحة العربية، انما يعزز هذا النهج والمنطق الذي رافق مسيرة البعث، والذي أستند الى يقين، بان الجماهير العربية قد بلغت درجة من النضج والتمرس بالنضال، تؤهلها لشق طريقها المستقل، والاعتماد على قواها الذاتية وبناء مستقبلها الخاص الأصيل.
وهذه الحقيقة نفسها، هي التي تلقي الضوء على مستوى الصمود الذي تواجه به الأمة العربية شتى ضروب التآمر على قضيتها. وبخاصة الهجمة الامبريالية – الصهيونية المتمثلة باتفاقية (كامب ديفد) التي استهدفت طمس الحقوق القومية وكل التضحيات التي دفع الشعب العربي في مختلف أقطاره ثمنا لها، على امتداد نضاله الطويل.
فالاحداث تأتي لتكشف بعد سنة من توقيع هذه الاتفاقية، ان ما يجري الآن هو مكابرة لتغطية فشل اخراج مصر من معركة المصير العربي. فالسادات يزداد عزلة ً عربية يوما بعد يوم، وبزداد عزلة عن جماهير مصر ذاتها، هذه الجماهير التي ادركت خطورة الحدث وحجم الخيانة التي اقدم عليها السادات، وكشفت الخدعة المسرحية التي حاول ان يغطيها بمختلف اشكال المنطق المُستعار، والقيم الهجينة، ليخدر الشعب، ويطامن المصالح الطبقية التي تعيش على استغلال الشعب، والتي اصبحت قاعدة نظام السادات، المعادي لثورة عبد الناصر البطولية.
فالجماهير، بقطاعاتها الطلابية والعمالية والمثقفة في مصر، التي تعبر عن استنكارها بين حين وآخر، وتتعرض للاضطهاد والقمع، انما تؤكد ما توقعته الأمة العربية من قطرها المناضل، وتعزز الثقة بالقدرات النضالية المتنامية فيه، وبقدرتها على افشال المخططات الامبريالية والصهيونية، التي ينفذها السادات.
فالزمن يسير نحو انضاج التعبير الشامل والجارف الذي اعتادت عليه جماهير مصر. وبالرغم من الفراغ التنظيمي والسياسي لعشرين سنة، والوضع العربي الممزق، تؤكد الدلائل الايجابية الواعدة بانتصارها على محنتها، هذه المحنة التي تشكل اليوم الجانب الموجع والاكثر إيلاما من محنة الأمة.
فالأمة العربية، بنضالها المتصاعد في كل قطر عربي، انما تنهي مرحلة من الشك والقلق، استغلها، وراهن عليها الأعداء، والانظمة المستسلمة لمخططات التسوية. لان وعي الجماهير العربية، على امتداد الوطن العربي، بات يطوق المؤامرة، ويستوعب الحقائق النضالية التي كشفتها الاحداث، والمعاناة القومية. وفي مقدمتها الحقيقة التالية: وهي ان نضال كل قطر، لن يكون قادرا على التخلص الكامل من قيوده، ولا على الاقتراب الجاد من تحقيق أهدافه الوطنية، والقومية التحررية، اذا لم يتعزز بنضال قومي موحد.
لذلك باتت الجماهير العربية تدرك بوضوح العلاقة العضوية المباشرة، بين المشاريع الاستسلامية، وبين المخططات المعادية للوحدة، والمآل الخطير لتلك المشاريع، مهما اختلفت صيغتها، على مصير الأمة. وان وحدة الأمة هي الطريق الوحيد لحل مشكلاتها الاساسية.
يا ابناء امتنا المناضلة
إن تآمر الأعداء ينصب بالدرجة الأولى على هدف الوحدة. لان الوحدة، منذ ان تحققت اول تجربة لها قبل اثنين وعشرين عاماً، لم تعد تعني، حتى بالنسبة للامبريالية والصهيونية، إلاّ بداية تحرير فلسطين. وبتعبير آخر، فان التجزئة اصبحت تساوي بقاء واستمرارية الكيان الصهيوني المغتصِب لفلسطين.
وكما ارتبطت قضية الوحدة بمعركة التحرير، فانها ارتبطت بنفس الدرجة وبنفس القوة بثورة الجماهير العربية. لان تلك الوحدة، لم تكن ممكنة، إلاّ لأن الجماهير العربية قد عرفت في ذلك الحين أعظم وأوسع مد ثوري نضالي.
ان جماهيرنا العربية، تدرك بحسها العميق ان الوحدة مرادفة لحياتها ومصيرها ومستقبلها، وانها وحدها هي الثورة. وانها معيار التقدم والنهضة. والكاشف الثابت والدائم لنواحي الضعف والخلل والتقصير في مسيرة الثورة العربية.
وهكذا يغدو مطلب الوحدة ثورة مستمرة في الحياة العربية الحديثة، يستدعي المراجعة الدائمة لكل نواحي العمل الثوري: في التوعية العامة، وفي التربية، وفي التنمية، وفي إعداد القوة المسلحة، وفي توزيع الثروة، وتأهيل الجماهير الواسعة، وإطلاق حريتها لكي تعبر عن إرادتها الوحدوية، وتجسدها نضالا، يخترق الحدود القطرية المصطنعة، وُيلحِق الفشل بكل مؤامرات الأعداء، ويخلق تحركاً تاريخيا لا يتوقف الا بتحقيق الأهداف القومية.
يا جماهير امتنا البطلة
لقد جاء الإعلان القومي، الذي طرحه الرفيق الرئيس صدام حسين في الذكرى السابعة عشرة لثورة 14 رمضان البطولية الاصيلة، مستوعباً لتلك الدروس كلها. فهو قد توجّه في ظرف من اخطر الظروف التي تمر على الأمة العربية، الى الانظمة العربية على اختلاف اتجاهاتها، ومن فوق الانظمة، الى الجماهير العربية في ارجاء الوطن الكبير، لكي يجعل من الصراعات الدولية، والاطماع التوسعية، المهددة لاستقلال الاقطار العربية، والطامعة في الاستيلاء على ثرواتها، ويحولها الى مناسبة فريدة، تعبر فيها الأمة العربية وجماهيرها المناضلة، عن إرادتها الراسخة في الاستقلالية، ورفض التبعية، وانتزاع حقها الطبيعي في ان يكون لها دور وكلمة مسموعة، على الصعيد الدولي، في قضايا السلم والحرب، وقضايا التحرر والسيادة، والقضايا الاقتصادية، التي تمس مصير الشعوب، ومستقبل العالم.
ففي الاعلان القومي، روح ثورية لا بد ان تقوى وان تتعمق، وان تكون مقدمة نحو إنعاش آمال وحدوية، كلما تجاوبت، وتفاعلت مع الجماهير العربية.
فقد قدم العراق، من خلال تجربته الثورية، دليلا جديدا على نضج التجربة العربية الثورية. وان الثورة العربية، التي هي حصيلة قرن ونصف من المعاناة الفكرية والنضالية، ماضية نحو استكمال حقيقتها كقاعدة انطلاق نحو مرحلة انسانية جديدة.
ايها الاخوة المناضلون
ان نضج التجربة العربية المعاصرة، هو الذي جعل الأمة العربية تستوعب امراض واقعها وأمراض عصرها. وجعل نضالها على مستوى الانبعاث العميق الشامل، والمستوعب للأبعاد الروحية والإنسانية للوجود القومي. لذلك كان من الطبيعي ان يؤكد تراث حزبكم من البداية، على ان الانبعاث القومي، لا بد ان يقترن بانبعاث روحي ينبثّ في كل حياتنا، الخاصة والعامة، كروح وأخلاق ودافع للثورة وللتجدد، ومحرض على التعمق، والتحرر من الجمود والمصالح الخاصة، او من الزهو والغرور الذي يرافق السلوك السياسي السطحي، والعودة الى الينابيع الروحية والاخلاقية. فالانبعاث الروحي يفعل المعجزات عندما يحرك أعمق القوى في الجماهير، ويدفعها الى الاستشهاد والبطولة.
ولكن عندما يراد لهذا الانبعاث الروحي ان يقنن في اشكال ضيقة، تدخلها عوامل ومصالح غريبة عن روحه، ويرتبط باهداف لا تستوعب منطق العصر، فان المنطلق الروحي يبتعد عن حقيقته. لا بل، ويهبط احيانا الى مستوى الارهاب المعنوي والمادي الذي تمارسه اليوم، القوى التي تدعي لنفسها تمثيل القيم المطلقة، والتي يعطل حقدها الدفين على العروبة كل استعداد للحوار والتعاون المخلص مع حركة الثورة العربية، وما تنطوي عليه، من آفاق رحبة، وانبعاث روحي عميق، والتي لا تعرف الضيق والحقد والتعصب، لانها تنظر الى الحرية والى الأفق الإنساني الحضاري كشرط للانبعاث الروحي الاصيل.
لذلك فنحن البعثيين، نستشعر الحاجة الدائمة في نضالنا الى الاستلهام الحر للينابيع الروحية، والانشداد الى جو القيم المطلقة، والى استنشاق هذا الهواء النقي، لكي تبقى الثورة القومية في مستوى عال، وفي تدفق حيوي، وفي منظور حضاري رسالي انساني.
وعندما تكون المسيرة ثورية بكل ابعادها، القومية والاجتماعية والاخلاقية والانسانية، فانها تروي ظمأ النفوس المتعطشة الى المُثل، وخاصة تيار الشبيبة المتطلع الى الخلق والابداع والانجاز التاريخي.
فالشباب يفتش عن مسرح لبطولته، وعندما تغيب الملامح القومية والآفاق الروحية المُفجّرة للدوافع العميقة للثورة، فانه يؤول الى التمزق والقلق، واحيانا ً الى العنف.
وقد ادرك البعث منذ الوهلة الاولى، اهمية الطاقة الثورية المثالية لدى الشباب. كما نظر الى هذا العصر من خلال كونه عصر الجماهير الشابة. ونظر ايضاً الى الأمة العربية في نهضتها على ضوء هذه النظرة. فهي أمة شابة ثائرة. وهي لابد ان تعتمد في ثورتها اعتماداً اساسيا على عنصر الشباب.
لذلك انطلق البعث من اجواء الشباب، فكانت الشبيبة المثقفة قاعدة نضاله الأولى، ومنها انطلق الى البيئات الثورية الحية الاخرى، حيث الكادحون من العمال والفلاحين والجنود وابناء الشعب المناضلين.
فالبعث يرى في معاناة الاجيال الجديدة، وفي قلقها، دليلا على اعتمال الثورة في نفوس الشباب العربي، وحاجة هذه الثورة الى التحقق، جنباً الى جنب مع نضال الجماهير ومن خلال الحرية والمسؤولية، كشرطين أساسيين، لجعل هذه الثورية عميقة وجدّية، وعامل تجديد دائم لأعمال الثورة العربية، وبخاصة في الاقطار التي اصبحت انظمتها عقبة في وجه دور الشباب، وتطلعاتهم وطموحهم، واصبح واقعها تشويه لدوافعهم المثالية، وإجهاض للدور القومي المُتميز لتلك الاقطار.
يا جماهير امتنا العربية
ان طاقات ضخمة ما تزال معطلة في الأمة. وما تزال اوضاع التجزئة تغري اعداء النهضة العربية، برفع التحدّيات في وجهها، وإنزال النكسات في مسار القضية العربية. هذا في وقت تتجمع فيه الدروس والعبر الكافية لاستخلاص الحلول، وشق طريق جديد امام النضال العربي. والدرس الاول، يكمن في ضرورة التواصل والتساند بين القوى العربية المناضلة، وتجنب آفات الاستئثار في العمل القومي، والتوجه نحو القوى المختزنة في الأمة لإطلاقها في وجه العدو.
فالأمة باتت ُتعوّل على دور الجماهير العربية، التي ما تزال طاقة احتياطية لم ُتستغل بعد. وعلى مجيء المغرب العربي بقوة أكبر حاملا معه، اصالة تونس، وتطلع المغرب، وثورة الجزائر، التي كان لها ولا يزال، رصيدها النضالي الكبير في المشرق العربي، يشجع دوما على التفاؤل بدور متصاعد لها مع الاقطار ا لمغربية الاخرى، في المعركة القومية. اي في تعزيز الروح القتالية المتجهة نحو فلسطين، لمواجهة التحديات المصيرية. وكذلك في العمل الوحدوي الذي يشكل ضمانة التحرير.
ان اعداء الأمة يدركون معنى اندماج نضال المشرق بالمغرب، وأهميته في تحقيق انعطاف حاسم في مسار القضية القومية، ودفعها في طريق الانتصارات. لذلك كان من الطبيعي ان يضعوا كل ثقلهم لاصطناع العقد المختلفة حتى يباعدوا بين جناحي الأمة العربية. ولكن جواب المغرب العربي، لا بد ان يكون معبراً عن نضج المرحلة النضالية الجديدة التي تمر بها الأمة العربية. فالمغرب العربي عندما يأتي بكل ثقله الى المعركة المصيرية، قوة تاريخية لها دور قومي وحضاري كبير في بعث الأمة العربية.
ايها البعثيون المنا ضلون
عندما تتجمع الاخطار على أمة، وُيخيّم جو من القلق والانفعالات السلبية على أبنائها، تفاجئ الأمة نفسها بظهور قوى كانت خفية إلاّ انها مهيّأة للظهور، هكذا القوى التاريخية، تتجمع وتتفجر في وجه العوامل المهددة لمصير الأمم، فتكون ظروف المحن عوامل إنضاج وتحضير لانبثاقها.
وهكذا انبثقت حركتكم التاريخية أيضا، كجزء طليعي من نهضة امتنا العربية الخالدة، التي لا ترى في الوضع الراهن قوى قادرة على تفجير إمكانات جديدة سوى في هذا الجزء الحي المتمثل في ثورتكم في العراق، وفي القوى الثورية التي ما تزال، في مختلف ارجاء الوطن الكبير، تتمسك بشرف المبادئ والقيم التي قام عليها الوجود العربي في التاريخ.
فاذا كان البعث قد ملأ مرحلة، وسدّ فراغا نضالياً في حياة الأمة، ونقل نهضتها من مرحلة العفوية الى مرحلة ثورية، وشقّ طريقاً معبراً عن روح الأمة، وعن وعيها لذاتها وعياً معاصراً. فان ثورة هذا الحزب في العراق، جاءت لتجعل هذه المسيرة النضالية ركيزة ثابتة، لا تتزعزع ولا تتراجع عن تحقيق الاهداف الانبعاثية للأمة.
فانتم ايها البعثيون، على ارض هذه التجربة الثورية الأمينة، تشكلون الأمل في بِحران القنوط والتشاؤم واليأس، تفتحون نوافذ جديدة وابواباً للتفاؤل الكبير وللنضال عندما تشتد محن الأمة.
انتم الذين استوعبتم دروس مسيرتكم القومية، وتقدّمتم في الوعي وفي النضال، فتجنّبتم الأخطاء المدمّرة، وارتفعتم الى مستوى المهمة التاريخية، فلم يكن عملكم سياسياً تقليدياً، ولا مبدئياً مجردا، ولم تكن معالجتكم لقضايا الأمة، معالجة ظرفية آنية. كما انها لم تغرق في محيط الاحلام اللامرئية للمستقبل.
انتم الذين حملتم الأمانة بصدق، وأخلصتم لتراثكم، وكنتم أوفياء لمسيرة الحزب النضالية الطويلة وجعلتم من المبدئية والاخلاقية والرصانة والجدية، وهي السمات البعثية الاصيلة، منهج عمل وحياة، وعنوان شخصية بطولية فذة.
انتم الذين رعيتم الفكر ووضعتم الثقافة في مكانها، سلاحا في المعركة، وترجمتم المعاناة الى ضوابط موضوعية ثورية.
انتم الذين وضعتم العراق العظيم على طريق قيادة الانبعاث للأمة، فأعدتم له دوره التاريخي في الحياة العربية، انتم ايها الرفاق، مفاجأة البعث لنفسه، ومفاجأة الأمة لذاتها.
اننا نتطلع الى المستقبل بثقة، لان جيلا ً عربياً صهرته المبادئ والتجارب، قد اكتسب النضج، ولإن قطراً عظيما كالعراق، قد أصبح مسرح بطولة هذا الجيل، يتقدم الى امام، على طريق الوحدة والحرية والاشتراكية، ُيفجّر طاقات الجماهير، ويزرع الحرية على أرضها، لتنبت الابداع في النضال وفي صنع الحضارة.
فالأمة التي طال حنينها الى الانتصار. الأمة التي فقدت اجزاء غالية من كيانها، وتكاد تفقد أجزاء جديدة، الأمة التي تعيش جماهيرها المناضلة في الكدح، في وقت تتبعثر فيه الثروة العربية وتغترب، ان هذه الأمة التي ملأت تاريخ العالم، لا يمكن ان ُتغمض الجفن على واقع يتناقض مع حقيقتها، ويهدر طاقاته، ويمزق جسدها ويسيء الى كرامتها، وينتقص من عنفوانها. لانها امة ذات رسالة.
وانتم ايها الرفاق، تحملون اليوم شرف بعث هذه الرسالة، لأنكم بها جديرون. المجد لشهداء الأمة وشهداء البعث.
وتحية نضال لكل قوى الثورة والنضال على الأرض العربية.
ولجماهيرنا العربية عهد البعث، بان يكون وفيا لمطامحها، متقدما صفوف النضال حتى ترتفع راية الأمة على أرض الوحدة والحرية والاشتراكية.
(1) كلمة في السابع من نيسان عام 1980 لمناسبة الذكرى الثالثة والثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي.
———————————-
روح الأمة وروح العصر
إنها لحظات سعيدة(1) إذ أجدد لقائي بالرفاق المناضلين في هذه الحركة التي نذرت نفسها لخدمة الأمة العربية ولخدمة نهضتها وانبعاثها والتي برهنت بفضل نضال شباب الأمة في مختلف أقطارها وبفضل استجابة الجماهير العربية لنداء هذه الحركة، على ارتباطها العميق بأمتها وبروح شعبها وبأصالة تراثها وتأريخها وبأنها جديرة بان تحمل الأهداف القومية الكبرى، وان تطمح لبناء المستقبل العربي المنشود. في كل سنة من هذا الشهر نستذكر جميعا ما قطعه حزبنا من مراحل على دربه الصعب الطويل، كما نستذكر البدايات الأولى، لان البدايات في حركة أصيلة تكمن فيها البذور الاساسية التي تلهم وتخصب المسيرة كلها، ولطالما قلنا، وكررنا القول بان حركتنا لم تقم على أفراد او أشخاص، وإنما كانت متلقية للدوافع القومية والآمال القومية التي كانت تجيش في قلوب الشباب العربي وفي روح الجماهير العربية، وفي معاناتها ولم يفعل الأشخاص أكثر من ان اجتهدوا ليترجموا ذلك ويعبروا عنه بقدر ما توفر لهم من صفاء في الفكر، ومن صدق في الشعور ومن تجاوب مع روح الأمة وتاريخها وبقدر ما كان يربطهم من حب عميق بأمتهم، لان الحب كما ذكر رفيقنا الأستاذ كمال كان الدافع الأعمق لهذه الحركة، وسيبقى كذلك، وسنبقى متفائلين بالمستقبل وبقدوة امتنا وبشبابها المناضل وجماهيرها الكادحة على ان تُمد هذه الحركة بالدّم والقوة والروح، لكي تتابع رسالتها، لأنها منذ بدايتها ومنذ تصورها الأول وطدت نفسها وصارحت جماهير الأمة وشبابها بان مسيرة البعث مسيرة طويلة وشاقة، لأننا نريد ان تكون نهضتنا متناسبة ومتكافئة مع عظمة أمتنا، ولا نرضى لأمتنا بعد طول انتظار وفي هذا العصر الذي تتصارع فيه القوى وتتفنن في اختراع أسباب الرقي وأسباب الدمار في آن واحد، لا نريد ان يكون عملنا ضعيفا، او واهيا، او مؤقتا وإنما ان نعمل للأجيال القادمة، وعلى أساس صلب متين مستفيدين من تجارب أمتنا في حاضرها وفي ماضيها مستفيدين من تجارب الأمم، وتجارب العالم وعبر التاريخ كله. لذلك فالحركة تملك ثقة بالنفس قلما تتوافر لحركات غيرها، لان نظرها كان بعيدا ولان إعدادها الفكري كان عميقا ولان حرصها على بقاء أمتها وعلى مستقبل هذه الأمة جعلها تنشد الحقيقة، وتنشد الكسب الباقي الدائم، ولا تكترث بالفورات العابرة والانفعالات السطحية والنجاحات التي تبهر آنا ثم تنطفئ.
فنحن أيها الرفاق عندما تتذكر هذه الدوافع وهذه المرامي التي كانت وراء نشوء حزب البعث، فلكي نستمد من ذلك عبرا وثقة بالنفس لكي نتابع الخطى بروح الايمان والتفاؤل ولكي ندرك جدية المعركة التي تخوضها الأمة العربية في هذا العصر فهي معركة قاسية، معركة بقاء، او اندثار، معركة وجود أصيل، او وجود هامشي على هامش الحياة والتأريخ.
أيها الرفاق، أيتها الرفيقات
لا شيء يعدل النزاهة والموضوعية في النظرة من اجل ان تبقى حركتنا وان تنمو وتتقدم وتنضج. النزاهة في النظرة، الصدق مع النفس، الموضوعية العلمية هي التي سمحت وتسمح دوما بان تجدد الحركة ذاتها وان تصحح ذاتها، لأنه لا يفترض في أية حركة وخاصة في ظروف الأمة العربية في هذا العصر ان تأتي كاملة او ان تكون صائبة في كل شيء وبدون خطأ او تعثر فلا بد من التجارب، ولا بد من المحن التي تمتحن الأفكار، والتي تعطي الأفكار حياة وتدخل الأفكار الجديدة في الممارسة والسلوك، لو كان الأمر قراءة كتاب بالنسبة للنهضة العربية لتحققت النهضة منذ زمن بعيد، لان الأفكار مطروحة، ولكن المهم أولا ان تكون الأفكار حية من صلب روح الأمة، ومصلحتها ومعاناتها، ثانيا ان نصل إليها ونفهمها ونتوحد معها وننصهر فيها من خلال النضال، ومن خلال التجارب فتكون عندئذ الأفكار التي تصنع التاريخ. ان حقيقة أساسية يجب ان تُعرف وتكون دوما ماثلة أمامنا، وهي ان النهضة العربية تحتاج الى الروح الثورية والفكر الثوري، إذن لا بد ان نضع في رأس القيم هذه السمة التي ميزت حركتنا والتي انطلقنا منها، وهي أننا أدركنا بان الأمة العربية امتنا بحاجة عميقة قاهرة الى الثورة. أي الى تغيير جذري عميق شامل في كل نواحي حياتها ومجتمعها في الفكر والأخلاق وفي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية هذا الذي لا يدركه الذين يحسبون ان باستطاعتهم ان يبعثوا الروح في الأمة بعد طول هجوع وبعد قرون من الغفوة والتخلف دون هذا الإقبال على الفكر الثوري الذي يغير المفاهيم ويغير النظرة الى الحياة، ويخلق الموقف الحيوي الجديد الايجابي الفاعل ضد الاستسلام والتسليم، ضد التقليد والجمود. الموقف الذي يحرك قوى الإبداع والخلق، يحرك قوى الثورة والتمرد على الواقع المريض، يحرك الطموح والاعتزاز بقدرات الأمة، وان نصل من خلال الثورة والموقف الثوري الرافض للحاضر البائس، الرافض للضعف والجمود والاستكانة، ان نصل من خلال هذا الموقف الجديد الى الأصالة، الى تاريخنا الحي، الى الروح العربية. عندما انطلقت وتجلت على أروع شكل وأعطت أعظم عطاء في عهد البعث الأول، في عهد الرسالة الخالدة، عندما أعطت للعرب و الإنسانية جمعاء عطاء باقيا على الزمن، لم يكن ممكنا ان نصل الى هذه القيم الخالدة إلا من خلال موقف حي، موقف إرادي موقف نضالي موقف خلاّق وبنّاء وبعد ان نكتشف هذه الحقائق من خلال الثورة ندرك حقيقة أخرى ثمينة بلا شك وهي ان الأصالة كانت سابقة للثورة دون ان ندري فالأصالة الحقيقية هي التي تدفع الى الثورة وهي التي تهدي إلى الموقف الثوري، أي إلى الصدق وإلى الحق، وإلى رفض الظلم ورفض الموت ورفض المرض والجمود ورفض الشك والخور، إلى بعث الثقة بالنفس، فتلهم الايمان، الايمان بالإنسان و بالحياة.
أيها الرفاق
نقول أن السمة الأولى لحركتنا كانت في هذا الانتقال النوعي الى النظرة الثورية، وإلى الموقف الثوري، أي إلى روح العصر والتفاعل مع روح العصر لأن الأمة التي تريد ان تنهض، وتريد ان يكون لها شان في العالم، وان تكشف عن حقيقتها وتطلق كل إمكاناتها، لابد لها ان تعيش في عصرها وان تتفاعل معه، هذه السمة الثورية، هذا التفاعل مع الفكر ومع روح الحرية، إذا أردنا ان نلخص روح العصر بكلمات نقول: انها الفكر العلمي وروح الحرية، انها العقلانية التي لم يبلغها الإنسان بسهولة بل دفع أثمانا باهظة دفع الآلام الكثيرة على مد ى أجيال وقرون لكي يصل الى العقلانية التي تسلح الإنسان بما يمكّنه من السيطرة ليس على الطبيعة فحسب، وإنما على نفسه وحياته وحياة مجتمعه، على إرادته وعلى غرائزه. العقلانية التي لها في تاريخنا نصيب كبير وصفحات مشرقة من المفكرين والفلاسفة العرب، هي التي تميز روح العصر في وقتنا هذا والتي كانت الخطوة الأولى الى الثورة في حركة البعث، وهي تتضمن روح الحرية أيضا، لأنها، أي العقلانية هي التي تحرر الإنسان من الوهم ومن الضعف، وتجعل عقله سيد مصيره وتطلق إرادته حرة قادرة. هذه هي السمة التي ان كنا نتذكرها اليوم، فلأنّنا سنبقى دوما بحاجة إلي ان نستعيد الجو والظروف التي تجمعت فكانت الدافع الى نشوء حركتنا. كان هذا الانتقال هو الفاصل، هو الحدّ الفاصل بين المعالجات السطحية وبين الموقف الجدّي، كما قلت كان طموح البعث أكبر بكثير لقد بدأ بالتفاعل مع روح العصر، ولكنه، بدافع من صلته العميقة بالأمة، أوصله الموقف الثوري الى رؤية الماضي الخالد ورسالة الأمة الخالدة في ضوء الحاضر، حاضر العصر وحاضر العرب، فكانت الحقيقة الثانية والمكملة والتي بها وحد الحزب بين مستقبل الأمة وماضيها الخالد، وحّد بين اندفاعها للحياة وبين روحها وقيمها العميقة فكان ذلك الشعور بالاطمئنان وبالارتياح الداخلي العميق بأننا نسير مع التاريخ ونسير مع روح الشعب، ونسير أيضا باتجاه المستقبل.
أيها الرفاق
تعرفون ان مسيرة حزبكم لم تكن سهلة وقد حورب الحزب منذ بدايته وحورب بكل الأسلحة ومن الخارج ومن الداخل وحورب حتى في الأفكار والقيم التي كانت عناوين له وصفات مميزة، فلكم من مرة أتهم في وطنيته واتهم في وحدويته، واتهم في صلته بتراث أمته، أي في أثمن ما يتعلق به، وأثمن ما جاء به ليقدمه طريقا للثورة العربية فكان الافتراء وكان التزوير وكان التشويه دليلا قويا على مقدار الخطر الذي يمثله هذا الحزب على أعداء الأمة، ولكن شعورا قويا عميقا يسري في حياة هذا الحزب منذ بدايته حتى الآن يعزز صموده ويؤجج روحه النضالية واندفاعه للعمل، هذا الشعور هو انه على حق وان هذه الافتراءات ليست إلا بدوافع سلبية عدائية لتعطيل النهضة العربية ولتعطيل دور الأمة العربية في هذا العصر. الحزب كما قلت لكم لا يدعي انه خال من الثغرات لا يدعي انه لا يخطى، ولم يخطى، هذا قدر الحركات البشرية والحزب عمل إنساني بشري تسري عليه القوانين التي تسري على غيره ولكنه يستطيع ان يصحح الخطأ ما دام يشعر بأنه على حق وانه مؤهل ومهيأ ومصمّم على ان يقوم بدور تاريخي في سبيل نهضة الأمة وما دام يمتلك هذا الشعور بأنه نذر نفسه للنضال وللثورة وللبناء من اجل الشعب وبالاتصال بالشعب وبالتفاعل والتعاون الدائم بينه وبين جماهير الشعب، فالأخطاء أيها الرفاق لا تشكل إلا خسارة مؤقتة يمكن تداركها ويمكن تصحيح الخطأ ولكن الشيء الذي لا يتدارك ولا يصحح والذي يشكل خسارة نهائية هو ان يبتعد الحزب، عن طريق الحق وحزبنا إنما يشعر ويثق ويوقن بأنه كان دوما على طريق الحق.
أيها الرفاق
ذكرت بان النزاهة في النظرة وان الصدق مع النفس كانا دوما الواقيين للحزب من الجمود او من الضلال والانحراف، وقد استطاع دوما ان ينهض من عثراته، وان يجدد نفسه ويجدد اندفاعه، ذلك لأن فكرته نفسها تشكل له هذا المحرك هذا المحرض، على المنظر النزيه على مراجعة النفس، على محاسبة النفس، فالحزب هو للعرب جميعا، هو حزب الوحدة العربية هو حزب النهضة العربية لذلك لا يستطيع ان يهدأ ويرتاح أو يفتر، أو يكتفي اكتفاء خادعا، فكرته تحرضه باستمرار على النقد الذاتي تدفعه الى المكان الأرحب والى الزمن الأبعد، الى الوطن الكبير، الى الجماهير العربية الكادحة في ابعد أجزاء وطننا، والى معاناتها والى ظروفها القاسية، فلا يمكن لحزب البعث ان يتجمد على انجازات محدودة مهما تكن رائعة فهو يعرف ان مهمته أبعد وأوسع، كذلك هو ينظر الى الزمن الأبعد، هو ندب نفسه لعمل مستقبلي لعمل طويل النفس لعمل أصيل يصمد للأحداث وفيه مقومات البقاء، وهو لا يكتفي بالنظر الى الوطن العربي وإنما ينظر الى العالم، الى الإنسانية، لان الأمة العربية لا وجود لها و لا معنى لوجودها إلا في قلب الإنسانية متفاعلة معها ومشعة عليها، فالمستقبل العربي لا ينفصل عن المستقبل الإنساني، لذلك فالحزب في جدل مستمر مع نفسه مع أجزاء وطنه الكبير مع الإنسانية وهمومها ومشاكلها ودور الأمة العربية المستقبلي كما يؤملها إليه ماضيها المجيد، وكما تدفعها وتحدوها إليه رسالتها الخالدة، عروبتنا أيها الرفاق ليست مجرد لفظ ليست تسمية ليست صفة وإنما هي محملة بقيم غالية بقيم إنسانية خالدة. فنحن ان كنا متعلقين بعروبتنا محبين لها مدافعين عنها. فمن اجل ان تتحقق هذه القيم وتعلن عن نفسها كما أعلنت في الماضي بشكل خالد على الزمن، هذه العروبة مهما نعمل ومهما نناضل ونضحي ومهما نبدع ونبتكر فسنبقى مقصرين بحقها ولن يكون استحقاقنا لها سهلا. لأنها كما قلت حاملة قيم ورسالة وحاملة آمال عظيمة لأجيال مقبلة من الأمة العربية.
أيها الرفاق
قلت لكم ان الحرب على الحزب لم تهدأ ولم تفتر منذ ظهوره حتى الآن لأنه برهن على امتداد أربعة عقود من الزمن على انه الحركة الوحيدة الحية المتماسكة ذات الشخصية المميزة التي صمدت للزمن والتي يكتب لها ان تبقى وتستمر، لذلك فهو هدف الأعداء ومن خلال الحزب يريدون ضرب الأمة وضرب مستقبلها وإمكانات هذا المستقبل. ان العداء الذي وُجّه للأمة العربية في هذا العصر وما يزال لم يوجه لأي شعب في العالم لأي بلد في العالم. لم يهدأ هذا العداء منذ عشرات السنين وانتم تعرفون التاريخ وهو مستمر في هذا العصر. الحروب الصليبية لم تنته بعد وصيغتها الأخيرة هي الكيان الصهيوني كما تعرفون وصيغتها الأخيرة هي زرع هذا الكيان ليكون عقبة كأداء في قلب الأمة العربية ليشغلها عن بناء نهضتها ليزرع الفتن والانقسامات في داخلها ليجلب العدوان بين الحين والآخر عليها. لم يعرف شعب من الشعوب مثل هذه الوسيلة التي لجأ إليها الغرب الاستعماري ليدمّر حياتها ونهضتها بإقامة هذا الكيان المصطنع، ونضالنا يجب ان يكون في مستوى هذا التآمر التاريخي. ولذلك قلنا النهضة العربية لا تستطيع ان ترضى بالإصلاحات العادية بالتغيير السطحي، لأن ذلك لن ينقذ الأمة. فالإنقاذ يكون بمستوى العداء الموجه الى أمتنا وهذا كان واضحا للحزب منذ بدايته بان نطلق طاقات الجماهير العربية كلها فتكون قادرة على رد هذا العداء وعلى تصحيح ما أفسده الأعداء في حياتنا، لكي تكون نهضتنا قادرة على التكافؤ مع أعدائنا ومع أسلحتهم الخبيثة المدمرة لابد ان نرجع الى فكرتنا الاساسية بان الثورة العربية يصنعها الشعب العربي تصنعها الجماهير العربية الكادحة الواسعة، أي ان نوصل أفكار الثورة الى أبعد نقطة من وطننا الكبير، الى أعمق مستوى من مستويات حياة الشعب والطبقات الشعبية، ان نحرك الوعي والروح في شعبنا، ان ندخله في جو العمل التاريخي، ان يشعر الشعب بأنه إنما يعمل للأجيال المقبلة لبقاء الأمة لعزة الأمة لكي تستعيد مجدها ولكي تنشر رسالتها، الخبز مطلوب، المادة مطلوبة لكي نرفع مستوى جماهير شعبنا. ولكن الشعب العربي لن يقنع بحياة مادية لن يكتفي بان يضمن احتياجاته المادية انه يطلب البطولة ويطلب الشهادة في سبيل أمته، حركة البعث أيها الرفاق من بدايتها كما قلت تُوحّد بين الايمان وبين روح العصر. ابتدأت بالثورة نتيجة تفاعلها مع روح العصر ولكنها أدركت ان هذا نصف العمل وان هذا نصف الحقيقة، حقيقة الأمة العربية لا تكتمل إلا بالإيمان إلا ان تسري روح الرسالة في جماهير هذه الأمة وان تشعر بأنها تقدم شيئا ثمينا للحياة وللإنسانية وللمستقبل وللخلود ونحن سائرون على الطريق أيها الرفاق طريقنا طريق الحق والصواب نشعر لأول مرة في تجربة حزبنا في هذا القطر العظيم بان الأفكار أصبحت لها قيمة وقيمة حقيقية. ان الأفكار أصبحت تنبت حياة.. نشعر بثقة ونؤمن بأنه لأول مرة توجد سياسة مقترنة بروح الرسالة نشعر لأول مرة بان الكلام ينبع من الضمير ومن الصد ق وما علينا إلا ان نتابع السير ونضاعف الهمّة ونعزز الايمان. ان ما تحقق حتى الآن ليس بالشيء البسيط إذا قيس بما نراه في أجزاء وطننا الممزق وأثمن من كل المنجزات المادية. أيها الرفاق الأمور المعنوية هي هذه الصفات وهذه السمات التي تتجلى في مسيرتنا وفي تجربتنا والتي قد تمضي أحيانا مئات السنين ولا يتوافر مثلها. هنا اتخذ البعث صورته التاريخية كحركة أجيال عربية تدرك مهمتها التاريخية، هنا اتخذ البعث صورته الصادقة لأنه تجديد، ولو ضمن الإمكانات البشرية وفي الحدود المتواضعة للعرب في هذا العصر وفي هذه الظروف الصعبة، المريرة اتخذ البعث هنا صورته بأنه تجديد للقيم الروحية والأخلاقية التي عرفتها ارض العروبة في عهدها الذهبي. إننا لا نقنع بما حققناه. هو كثير بالقياسات النسبية إذا قيس كما قلت بما نراه في أجزاء الوطن ولكنه قليل وقليل جدا إذا قيس بأهداف الأمة العربية وأهداف حركة البعث وبما تحتاجه الأمة العربية من نضال ومن تضحية ومن عقول نيّرة مبدعة تغير الواقع وتقتحم أسوار التجزئة وتنجد الإخوة العرب حيث يعانون المحن. لا ننسى ما حل بمصر لا ننسى المحنة التي يعانيها شعبنا في مصر، نؤمن بأنها محنة عابرة ولكنها قاسية وتتطلب جهودا وآلاما كثيرة حتى ننقذ مصر من براثن الأعداء الذين ورّطوها في مؤامراتهم وأرادوا فصلها عن الجسد العربي وعن المصير العربي، ومنْ غير حزب البعث بعروبته المحبة الحانية الشاملة يستطيع ان يحمل الى جماهير مصر عون الأخ لأخيه مع ثقتنا بان جماهير مصر لن تسكت على ضيم وان عروبة جديدة نقية مصهورة بالألم ونار الثورة ستولد او هي في طور الولادة في مصر المناضلة، ومن ينقذ سورية التي تعيش مأساة التزوير ومأساة التشويه للحركة التي كانت سورية مهدا لها، من ينجد شعبنا الأبي في سورية وهو يعاني يوميا من القمع الوحشي، ان مهمات حزبنا أيها الرفاق كثيرة وواسعة ولا أذكر فلسطين وبطولات شعبنا في تصديه للاحتلال الصهيوني، لان فلسطين أصبحت الأرض العربية كلها والشعب العربي كله فحيث ينبض عرق للعروبة توجد فلسطين بكل معاناتها وبكل آمالها في التحرير.
أيها الرفاق والرفيقات :
إنني سعيد بهذا اللقاء متفائل الى أبعد الحدود مؤمن كل الايمان بقدر حزبنا وبعظم دوره في حياة العرب الحديثة وبأنه سيبقى وسيؤدي الرسالة. وسوف اكتفي وأقدر ان لديكم أسئلة تجول في ضمائركم وأذهانكم وأنا بشوق وحاجة الى ان اسمع مباشرة ما يجول في عقول رفاقي المناضلين في هذا القطر، لذلك اترك لكم المجال لطرح الأسئلة.
***
أسئلة و أجوبة
● برزت في الآونة الأخيرة مسألة – وإن لم تكن جديدة في تاريخنا العربي- هي الصراع العربي الفارسي، وقد تزامنت مع مخططات مكشوفة للامبريالية والصهيونية في المنطقة، ما هو في تصوركم البعد التآمري لهذا التحرك الامريكي – الصهيوني- الشعوبي الجديد ؟
النقطة الأولى عن الصراع العربي الفارسي، ما عودتكم أيها الرفاق إلا الصدق والمصارحة، فأنا أقول انه بالنسبة لما تم في ايران منذ سنة وأكثر من ثورة شعبية أسقطت حكما باغيا فاسدا تحت شعارات روحية إسلامية هذا شيء لم يسُؤنا بل أفرحنا واهتززنا له وتجاوبنا معه وقلنا حيث يكون الاسلام يكون نفس من العروبة. ولكن مع الأسف الشديد تطورت الأمور الى ما نراه ونشاهده. لقد بينت في كلمتي أيها الرفاق بان الحزب لن يرضى لأمتِه إلا بالأسس المتينة الصلبة القابلة للحياة والاستمرار من اجل نهضة أصيلة وتاريخية، ولذلك كان أول تعبير للحزب هو فكره الثوري وتفاعله مع روح العصر ثم اتصاله بالتراث الخالد. ففقدان نصف الشرط لاكتمال الثورة أو العقل الحديث العقل النير الفكر العلمي يوقع في مثل هذه الانحرافات ويلقي ظلالا على المبادئ السامية، إن هذا الصراع الذي نلمس او نتابع تطوراته وآثاره يوما بعد يوم ليس من العدل في شيء وليس من النزاهة في شيء ولا يمت الى القيم السامية التي ينتسب إليها، لان العراق بما يشكل من قوة عربية سليمة جدية تبني نفسها كل يوم من أجل مجد الأمة العربية ومن اجل معركة حريتها ومن اجل وحدتها بنفس صادق أخلاقي. هذا القطر لا يجوز ان يعامل وكأنه هو الممثل للفساد ولما شاهدوه وعانوه في بلدهم فشتان بين ما كان سائدا زمن الشاه، وبين الحياة الصحية السليمة التي يحياها العراق. ان أي منصف يستنكر هذا التجني ولا يسع المنصف إلا ان يرى روح الأحقاد التاريخية وغير التاريخية وراء هذا التجني غير المشروع وغير المبرر.
نحن أيها الرفاق نريد أمتنا ان تجسد قيمها الروحية الإنسانية التي تجاوزت كل العنعنات والعصبيات الجاهلية والقبلية والعنصرية. نحن نؤمن بان الأمة العربية في مستقبلها وفي دورها الحضاري في العالم ستتجاوز كل ما نراه على الساحة الدولية من شراهة في الاستغلال ومن قسوة في التناحر ومن همجية متلبسة بلباس الحضارة، نريد هذه القومية العربية المشبعة بروح القيم الأخلاقية المستلهمة لروح السماء ولا نريد ان نرجع القهقرى الى العصبيات عصبيات بين عنصر وآخر وبين شعب وآخر..فنحن في موقف الدفاع ليس بمعنى الضعف ولكن بمعنى أننا لم نرد هذه المعركة ولا ترضينا، ولكننا لم نضعف أمامها ولن نضعف.
اما محاولات الامبريالية للاستغلال فهذا شيء محسوب دوما وهل للامبريالية عمل إلا عمل الشر، إلا الاستغلال وإلا الإفساد وإلا التآمر؟ وما دمنا متنبهين ويقظين وما دمنا متوجهين الى جماهيرنا في هذا القطر أولا والى الجماهير العربية المناضلة ضدّ الامبريالية وضدّ الصهيونية وضدّ كل استغلال وكل نفوذ أجنبي فإننا لن نقع في لعبة الامبريالية أو غيرها.
● تتعرض منطقة الخليج العربي لأخطار مصيرية ولتحد امبريالي من نوع جديد، فقد جاء في احدى المحاضرات بان نسبة السكان العرب أصبحت لا تتجاوز %25 من مجموع السكان، فما هي مؤشرات الحل كمدخل لدرء هذا الخطر؟.
بالنسبة للخليج العربي أولا هذه أوضاع نعتبرها مؤقتة تزول بزوال النفوذ الأجنبي والسيطرة الأجنبية والامبريالية كما تزول بوحدة العرب وعندها ستبقى أرض العرب للعرب وسيعيش عليها العرب والأقليات التي ترضى بقوانين الدولة العربية وتُخلص لمبادئ الدولة العربية. ولا يؤذينا أن يكون بيننا بعض او أعداد قليلة من غير العرب إذا كانوا مخلصين وغير مزدوجي الولاء، ثم ان في السياسة التي ينتهجها الحزب ممثلا بقيادة الثورة في العراق وبالرفيق القائد صدام حسين ما يسهل مهمة تجنيب الخليج مثل هذه المخاطر، أي هذا الانفتاح الذي تمثله سياسة القطر تجاه دويلات الخليج يعزز عروبة الخليج ويعزز ثقة شيوخ هذه الإمارات والدويلات بأنفسهم امام الضغط الفارسي او الإيراني ففيه كما نلمس جميعا إنعاش للروح العربية في الخليج وتصليب لموقف الحكام رغم أننا لا نجهل حقيقة هؤلاء والأسس الضعيفة التي تقوم عليها كياناتهم وارتباط هذه الكيانات المصطنعة بالمصالح الأجنبية.
● ما هو في تصوركم مستقبل الصراع على الساحة اللبنانية بضوء ظهور كيان جديد في جنوب لبنان، وسعي العدد من الأطراف السياسية اللبنانية الى الإعلان عن قيام كيانات مصطنعة مستقلة عن لبنان العربي الموحد؟
الجواب لا يختلف عن الجواب السابق لان هذه المشاكل الجزئية يفتعلها الأجنبي يفتعلها المستعمر والعدو الصهيوني لإشغال الأمة ولتبديد قوتها ولزيادة انقساماتها وان أي تقدم يحرزه النضال العربي وتحرزه حركتنا وقطرنا المناضل ينعكس ايجابيا على هذه الساحات الصغيرة، فتذكروا قبل عام يوم كان هناك مشروع علقنا عليه الأمل فترة من الزمن مشروع الوحدة بين العراق وسورية فبمجرد ان أعلن عن هذا المشروع تغير شيء في لبنان وصار يحسب حساب للدولة الجديدة التي يمكن ان تقوم وتضم أكثر من (20) مليون عربي وتمتد من الخليج الى البحر المتوسط وفيها حزب عربي مناضل ضد الامبريالية وضد الصهيونية. فالأدوات العميلة بدأت تخاف وتحسب حسابا للمستقبل، ولكن لما طُوي المشروع عادت الى سابق عهدها، فنحن أمامنا دوما مهمات عاجلة ومهمات آجلة، المهمات العاجلة هي ان نعالج هذه الانقسامات وهذه التراجعات بما يخفف أضرارها وبما يحد من رقعتها ومن امتدادها، والمهمة الآجلة هي ان نعمل للأهداف الكبرى للمعركة الكبرى لمعركة الوحدة لمعركة التحرير وعندها تكون مثل هذه الحالات هينة وحلها غير عسير.
● ظهرت خلال الفترة الماضية من مسيرة الحزب النضالية، العديد من الانشقاقات، وفي أكثر من قطر عربي، عرّضت الحزب لمخاطر حقيقية، فما هي العوامل التي أدت الى مثل هذه الانشقاقات؟.
الحزب أيها الرفاق حركة تعمل ضمن الواقع العربي وضمن المجتمع العربي بكل ما فيه من أمراض ومن تدخلات أجنبية استعمارية ومصالح رجعية معادية للثورة ولنهضة الأمة، الحزب لا يعمل في الفراغ ولا يعمل عملا نظريا وإنما لابد ان يصادف مثل هذه الصدمات – لابد ان تتسرب حتى الى داخله بعض الأمراض – المهم هوان يقوى على المرض، ليس الحزب معصوما لا من الخطأ ولا من المرض ولكن عليه ان يبرهن بان بنيته صحيحة وقوية وأنه رغم الانشقاقات فهو باق وخطه الأساسي الأصيل باق يتابع السير.
● وردت عبارة في الكلمة التي ألقيتموها في المؤتمر القطري السوري الاستثنائي في شباط عام 1964، هذا نصها ” أنا لست ضد الماركسية ولكن البعث هو اشتراكية علمية زائدًا روح”، فهل لكم توضيح ذلك؟
الحزب تميز عن الماركسية ولكنه لم يعتبرها عدوا. لقد وجدها ناقصة وغير ملبية لحاجات الأمة العربية. وقد تصلح لان تهتدي بها حركات أخرى في بلدان أخرى. اما القول بان اشتراكيتنا علمية فانا قصدت ليس الاصطلاح وإنما المعنى الحقيقي للفظة علمية.. اصطلاح الاشتراكية العلمية محتكر للماركسية ونحن نجادل الماركسية في هذا ولا نعترف لها بصحة هذا الادعاء بان اشتراكيتها هي وحدها العلمية، نحن بنينا اشتراكيتنا على أساس علمي ولم نكتف بالعلم لان حركة البعث كما قلت لكم من الأساس اعتبرت ان نصف الحقيقة ونصف الثورة هو التفاعل مع الفكر العلمي. ولكنّ الروح هي الأساس ولذلك قلت بان اشتراكيتنا هي علمية وأيضا هي روح – أي قيم روحية وأخلاقية-.
● حقق الحزب في العراق قبل وبعد ثورة السابع عشر – الثلاثين من تموز 1968، من الانتصارات والمنجزات ما عجز عن تحقيقها في أي قطر عربي آخر، رغم ان ظروف النضال في العراق تُعدّ أعقد وأصعب منها في كثير من الأقطار العربية الأخرى، ما هو تفسيركم لذلك؟
مسيرتنا أيها الرفيق طويلة وطموحاتنا بعيدة وكبيرة، ولذلك لا نعتبر ان الفترة التي مرت على الحزب حتى الآن هي فترة طويلة جدا، بل نعتبرها مقدمة لنضالات مقبلة، الوطن العربي فيه اختلاف وتباين في الأوضاع الاجتماعية والسياسية وفي المستويات الحضارية والثقافية ويختلف أيضا من حيث الموقع كل قطر، الموقع القريب من الساحة الساخنة او البعيد كثيرا او قليلا عنها، الحزب في سورية بنا أشياء كثيرة وثمينة – الحزب في سورية بقي حتى عام 1958 عندما أسهم في تحقيق أول تجربة وحدوية منذ مئات السنين والتي ما كانت لتقوم لولا الحزب، لكنها فشلت لان الحزب كان مبعدا عنها – الحزب في سورية خاض نضالات عديدة معروفة ونشر فكرته على امتداد أكثر من عشرين سنة ولكن مواطن ضعف ذاتية في الحزب يضاف إليها ظروف لم يكن الحزب مسؤولا عنها مسؤولية مباشرة أو حقيقية جعلته في حالة تمزق وضعف – وهذا كما اعتقد غير خاف على البعثيين-الحزب ضحى بتنظيمه في القطر السوري من أجل ان يقوم انجاز قومي كبير هو وحدة سورية ومصر جاءت النتيجة على عكس ما أراد الحزب وتمنى جاءت النتيجة ان هذا الانجاز فشل وخرج الحزب منه جريحا مثخنا وممزقا أي لم يحتفظ بوحدته، بل انقسم وتفرق وجاء انقلاب 8 آذار في عام 1963 الذي كان هو الى حد كبير نتيجة الدفع الذي أعطته ثورة رمضان في العراق، جاء والحزب لمّا ينهض بعد من عثاره وهكذا تسلط عليه العسكريون والبقية معروفة، فإذن التساؤل هل كان بمقدور حزب البعث ان يحجم عن اهتبال الفرصة التي سنحت في إقامة وحدة… إقامة تجربة وحدوية ضخمة في ذلك الحين في الخمسينات، وأثر عبد الناصر في الحركة المقاومة للاستعمار مع حزب البعث كان شيئا كبيرا، ولكن التجربة فشلت وكان هذا أهم سبب في ضعف الحزب، اما في الأقطار الثانية لم تقم حتى الآن تجارب ناجحة، هذه لم تتهيأ فيها بعد القوة الحزبية الكافية، هناك تنظيم حزبي يمشي ويسير و يتقدم في بعض الأقطار ولكن يحتاج أيضا الى استكمال بعض عناصر القوة، الفرصة قائمة ومفتوحة بالنسبة للحزب على امتداد الوطن العربي وإذا استطاع الحزب في العراق أن ينجح في إقامة هذه التجربة فهذا طبعا بالدرجة الأولى لمزايا اختص بها حزبنا في العراق مزايا معروفة ومقدرة كل التقدير، وأيضا لأنه أفاد من كل تجارب الحزب السابقة من النجاحات والنكسات على السواء فتجربة الحزب هنا هي أيضا حصيلة لتجارب الحزب كلها.
19 نيسان 1980
(1) حديث في مدرسة الإعداد الحزبي بتاريخ 19 / 4 / 1980.
————————————
حوار حول الدين والتراث
- ما هو رأي الرفيق القائد المؤسس بما يجري من تسعير لحملة العداء والحقد العنصري على العروبة؟ وضد العراق؟ وما هي حقيقة نظرة الحزب منذ التأسيس للدين؟
هناك صلة قوية. إن فترة التأسيس فيها ما يتصل بالظرف الحاضر والأزمة الراهنة التي نواجهها، وفي شعوري إن فترة التأسيس تحوي كل شيء. إنها ثرة وغنية، وقد لا تكون عبرت عن نفسها التعبير الكافي، لكن أكثر الأفكار التي جاء بها الحزب على امتداد مسيرته الطويلة، كانت متضمنة في الفكرة الأساسية. ما أود الإشارة إليه هنا هو التالي: حركة البعث ولدت من نظرة فكرية لنسمها فكرية حتى لا نقول فلسفية على أساس أن فلسفية كلمة ضخمة، أقول من نظرة فكرية ممتزجة بمعاناة وجدانية أرادت ان تجمع شيئين أساسيين هما: الإيمان والعقلانية.
التجربة الروحية في حياة العرب، أي الإسلام، وروح العصر هذان هما الإيمان والعقلانية، ووراء هذه الإرادة قناعة بأننا لا نجمع نقيضين، ولا حتى شيئين مختلفين وانما شيئا واحدا يأخذ مظهرين حسب اختلاف الزمان.
- ونظرة الحزب إلى الإسلام، كيف كانت منذ البداية؟
نظرة الحزب إلى الإسلام هي هذه: انه حي في هذا العصر أكثر من أي شيء آخر، عصري، ومستقبلي أيضا، لأنه خالد يعبر عن حقائق أساسية خالدة، لكن المهم هو الاتصال بهذه الحقائق لكي تؤثر وتكون فاعلة ومبدعة. فكان رأي الحزب نتيجة التفكير ونتيجة المعاناة معا، ان هذا الاتصال لا يكون بالنقل الحرفي، ولا بالتقليد وإنما بان تكتشف هذه الحقائق من جديد، من خلال ثقافة العصر ومن خلال الثورة والنضال.
- كيف إذن تعامل البعث، منذ فترة التأسيس مع هذه الحقائق ليصل الى الثورة؟
الحزب وضع مبادئ عقلانية علمية للثورة العربية، أستنبطها من ثقافة العصر، ومن واقع الأمة العربية واقع جماهيرها الواسعة، جماهيرها الكادحة، ورسم لهذه الجماهير طريقا للنضال من اجل بلوغ أهدافها وفي الوقت نفسه وضع هذا النضال في جو الرسالة العربية وقيمها الروحية والأخلاقية أي انه وضع ثورة الجماهير العربية في أفق حضاري متصل بماضي الأمة وتراثها الخالد من اجل تجديد هذه الرسالة في المستقبل.
- إذن الحزب لم يكن مع الإلحاد؟
أبدا.. هذه كتاباتنا، على قلتها، ومنذ “ذكرى الرسول العربي“ عام 1943 وقبل ذلك، أقول في ذكرى الرسول العربي –واعتقد في الصفحة الثانية– “يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوى المحكم الصائب“، فهذه قناعاتي الفكرية العميقة، بان الفكر النير وحده لا يكفي بل لابد أن يتحد مع الصلاة ومع الساعد المفتول (تعبير عن الشجاعة، عن حيوية الإنسان وإرادته). قبل ذلك، ماذا أقول في ذكرى الرسول العربي.. قلت “نحن أمام حقيقة راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. كانت الشخصية العربية كلا موحدا، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها، بين أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياة العربية تامة، ريانة، مترعة يتضافر فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية، أما نحن، فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فان الروح تجفوها، وان داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها: إما فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبدا محرومة من بعض القوى الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامها.“
هذه الأمور القليلة.. كتاباتي، وهي كل قناعاتي أمامكم، كل ما كتب على امتداد أربعين سنة، إذا أستطاع أحد ان يجد عبارة واحدة تشذ عن هذه الروح في كل ما كتب –عبارة من منبع فكري آخر– تناقض أو تختلف.. فليقل ذلك صراحة، إنها روح واحدة عبرت عن نفسها في مناسبات مختلفة. قناعات فكرية لم تختلف، لكن الظروف السياسية وظروف المجتمع، صعوبة العمل الثوري في مجتمعنا، هذه الأمور أخرت ظهور هذه الأفكار وإعطاءها الاهتمام المطلوب.
والآن نشعر بأن في تجربة حزبنا في العراق للمرة الأولى تأخذ أفكار الحزب مداها.
- والتآمر الذي تتعرض له التجربة في القطر العراقي؟
يهمني ان أوضح حقيقة الحزب.. حقيقة الثورة العربية. الثورة العربية ستكون بحجم الأمة العربية التاريخي والحضاري لذلك هي لا ترضى إلا أن تكون نهضتها عربية أصيلة، ذات إشعاع عالمي ولو اقتضى ذلك أن تمر بتجارب وصعوبات في منتهى الشدة، بل أن هذه الصعوبات مطلوبة حتى تبلغ الثورة العربية أو النهضة العربية عمقها المطلوب وأصالتها. ولذلك فهي تتخذ من كل أزمة ومن كل صعوبة مناسبة للتعريف بنفسها لمزيد من التوضيح ولمزيد من التعمق ولمزيد من النضج.
لقد عرف أعداء الأمة العربية منذ زمن بعيد هذا الوزن الكبير الذي يمكن أن يؤثر في المسار الإنساني، فجعلوا عداءهم على مستوى هذا الوزن، على مستوى عظمة الأمة العربية وغنى إمكاناتها لكي يخنقوا نهضتها أو على الأقل يضعفوها، أو يؤجلوا تحقيقها، وكانت الأسلحة التي استخدموها متنوعة، وليس أضعفها سلاح الافتراء، والتزوير والتشكيك والتشويه، وكان الحزب منذ بداياته الأولى مضطرا لان يرد على الافتراءات والأباطيل الكثيرة، ولولا روح الإيمان والصدق في أصل بناء هذا الحزب، هذه الروح التي سرت فيه في تاريخه، وفي مسيرته، لكان نجح الأعداء الخارجيون والداخليون في خلق الهوة أو الحاجز بين الحزب وبين جماهير الأمة.
ولكن استمرار الحزب حتى الآن وما تعبر عنه تجربته من حيوية وإبداع وتألق كل هذا يقيم الدليل على فشل كل هذه المحاولات وعلى أن البعث كان وسيبقى ضمير الأمة العربية.
الامبريالية عدوة الشعوب.. عدوة شعوب العالم الثالث متآمرة على حرية هذه الشعوب وعلى تقدمها، بقصد استغلالها ونهب ثرواتها، ولكن هناك حقيقة دلل عليها التاريخ في الماضي وتقوم عليها عدة أدلة في الحاضر وهي أن ما يخشاه الاستعمار وما تخشاه الامبريالية بالدرجة الأولى هو نهضة الامة العربية ووحدتها، والامبريالية مستعدة أن تتساهل في أمور كثيرة ومع جهات كثيرة معادية لها، شريطة ان تستدرج هذه القوى إلى مواقع التناقض مع الثورة العربية لإضعاف هذه الثورة، وخلق الانقسامات في داخلها.
الاستعمار خلق الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي ليعطل وحدة هذا الوطن ونهضة شعبه، العداء الأكبر هو دائما موجه للأمة العربية ولثورتها.
- يدعون في إيران إنهم يريدون تحرير فلسطين والقدس، وهم يحتلون جزرا عربية ويعتدون على العراق، ويحاربون العروبة، كيف إذن يدعون أنهم سيقاتلون لتحرير فلسطين؟
تحرير فلسطين لا يكون إلا على يد الجماهير العربية أبناء الأمة العربية، بالدرجة الأولى، تساعدهم وتلتف حولهم كل الشعوب التي شملتها الرسالة العربية الإسلامية، وأوجدت بينها وبين الأمة العربية أواصر روحية لا تبلى. ولكن من غير المنطقي أن يساهم أحد من الذين تجمعهم الأخوة الروحية بالعرب في تحرير فلسطين بالنيابة عن العرب أو من خلال معاداتهم لهم، كما هو الواقع الراهن. إذن كيف يكون إدعاء تحرير فلسطين صادقا وهم يبدأون بتوجيه عدائهم للقطر العراقي الذي يوجه كل ناحية من نواحي نهضته الشاملة لتصب كلها في معركة تحرير فلسطين؟
- إن للموت شعائر وطقوسا خاصة، وان للجنائز قدسيتها عند جميع الأديان، فماذا نقول فيمن يدعي الإسلام ويلقي بالقنابل على موكب تشييع الجنائز؟
يحزنني أن تقوم، وفي هذا الظرف بالذات، بيننا وبين هذا الشعب المسلم خصومة، والذي كان يفترض أن يجمعنا وإياه طريق التحرر والاستقلال ورد العدوان الخارجي، ويحزنني بصورة خاصة أن أرى هذه الخصومة التي لم نردها ولا نرى لها مبررا، تفتقد كل القيم والروادع الأخلاقية والإنسانية، وفي هذه الأساليب التي لا تشرف الذين يجيزون استعمالها ما يكشف عن الخلل والمرض في عقليتهم المتخلفة والحاقدة والتي لا يمكن ان تخرج منها ثورة، أو أي بناء يمكن أن يصمد أمام روح العصر.
نريد ان نظهر نقطة وهي انه مما يطمئننا على مستقبلنا، المستقبل العربي، ومستقبل النهضة العربية، أن مبادئ الثورة العربية وممارساتها تجاوزت التعصب القومي وكل أنوع التعصب، روح الرسالة العربية حاضرة دوما في سيرة الثورة العربية وممارساتها، نستطيع منذ الآن أن نقدم للعالم بعض ثمرات هذه القيم التي استلهمناها من تراثنا سواء بحل المسألة الكردية الحل الإنساني، الذي قدمناه نموذجا للعالم أو في احترام حرية المعتقدات والخصوصيات والمذاهب التي تنبع من روح الحرية والتي تتضمنها الرسالة العربية. أنا كنت ممن فرحوا بالثورة على الشاه، استبشرت وانتظرت خيرا، كنا نتوقع أن تكون ثورة الشعوب الإيرانية سندا لنا هنا في القطر العراقي وسندا لحركة الثورة العربية ولكن للأسف…
15 نيسان 1980
حوار أجرته جريدة الجمهورية، ونشر على صفحاتها في 27/4/1980
——————————————————
تجربة عقلاتية ثورية
اهنىء الطبقة العاملة والطبقات الشعبية الكادحة في قطرنا المناضل وفي وطننا العربي الكبير بعيدها العالمي(1)، وأؤكد بهذه المناسبة ثقتي وقناعتي العميقة بدور هذه الطبقات التاريخي في تحرر امتنا العربية وتقدمها ووحدتها.
كما اهنىء مجلة (وعي العمال ) والقائمين على تحريرها وطباعتها واثمن دورهم في نشر الوعي القومي والاشتراكي بين صفوف العمال والكادحين. ولئن تعذرعلي ان البي طلب (وعي العمال) في الاجابة بشكل واف على الاسئلة التي طرحتها، فلن يفوتني ان اجمل رأيي في جواب واحد على اسئلة قيمة يستحق كل واحد منها ان يفرد له بحث مستفيض.
كانت نكبة فلسطين عام 1948 حدا فاصلا بين زمنين وعقليتين ومفهومين للثورة. فقبل النكبة كانت المعركة معركة تحرر فاصبحت بعدها معركة مصير، وكانت معركة تقدم فاصبحت معركة حضارة، وكانت معركة اقطار فاصبحت معركة امة.
ان الجماهير العربية التي عرفت في الخمسينات مدا ثوريا شاملا، من المحيط الى الخليج، قد برهنت، بتجاوبها النضالي الرائع، وعطائها السخي، على استيعابها العفوي الصادق لهذا الفارق النوعي الذي يميز المرحلة الجديدة، في حين قصر معظم القيادات العربية الثورية عن فهم هذا الفارق وبالتالي عن توفير شروطه ومستلزماته.
فوحدة 1958 فشلت في التطبيق لانها جعلت الدولة غايتها لا الثورة، ولان قيادتها واجهزتها البيروقراطية لم تفهم الوحدة كثورة دائمة وان دولة الوحدة هي التي تفتح امام الجماهير طريق ثورتها الوحدوية الشاملة.
لقد جاءت الوحدة بمعطيات وحقائق جديدة، كان لابد من حد معقول لاستيعابها. فالظروف الموضوعية باتت اكثر تعقيدا، وشروط القيادة للتجربة الوحدوية اصبحت اكثر صعوبة، تتطلب مستوى اعلى من قبل، وكفاءات جماعية نضالية تستند الى منظور قومي شمولي، مستند الى فهم علمي منظم للنضال الشعبي والى نظرة اشد قسوة على الذات، واقترابا من الموضوعية، ومن الانسجام مع طبيعة المعركة الجديدة التي استنفرت كل احقاد الامبريالية والصهيونية والرجعية في وجه الوحدة، وجعلت هذا الحلف يضع التآمر على الوحدة في مركز اهتماماته ومخططاته اللئيمة.
وبعد حرب حزيران التي كان لها معنى الكارثة القومية التي كانت لنكبة 1948، نشأ مناخ دافع الى المراجعة والنقد والنقد الذاتي والى تبين حجم المؤامرة، والمستويات الجديدة المطلوبة للنضال في المرحلة الجديدة.
وقد ادركت ثورة الحزب بعد السابع عشر من تموز 1968 هذه الحقائق، وبرهنت خلال مسيرتها، وفي النهج الرصين الناضج الذي اتبعته، على تهيوء الجماهير العربية للدخول في مرحلة ايجاية جديدة اكثر نضجا وعقلاية وثورية. كما برهنت على عمق وعيها للشروط اللازمة للرد المتكافىء مع حجم المؤامرة على المصير العربي اي الرجوع الدائم الى الجماهير، ثم الانطلاق بها نحو الفضاء الوحدوي وتخطي التجزئة، من خلال تصور شمولي للمعركة، ولقدرات العدو، ولمتطلبات معركة تحرير فلسطين، التي تشكل العمود الفقري لمسيرة النهضة العربية، اي لمسيرة الثورة الدائمة التي لا تأخذ معناها التاريخي ولا تكتمل الا بالوحدة والتحرير وانتصار الجماهير.
ميشيل عفلق
بغداد في 30 نيسان 1980
( 1 ) حديث خاص لمجلة وعي العمال لمناسبة الاول من ايار (عيد العمال العالمي).
——————————–
الشباب جيل الثورة العربية
ان حزبنا في فكرته الأساسية اعتبر الثورة العربية ثورة الجماهير الواسعة(1)، ثورة الجماهير الكادحة وليست ثورة فوقية، او ثورة نخبة او ثورة طبقة، وانما ثورة مجموع الشعب باستثناء الفئات المريضة المستغلة والفاسدة والتي هي دوما قلة..
ان الحزب أعطى، منذ تصوره الأول، للشباب وللطلاب هذا الدور التاريخي باعتبارهم الطليعة المهيئة والمؤهلة لان تفهم وتعي قبل غيرها من فئات الشعب ضرورات الثورة وضرورات الانقلاب العميق ونوعيته ومداه وأبعاده، وان تعطيه ابعاده التاريخية وان تتقدم الصفوف وان ينتقل الفكر الثوري والايمان بالقضية منها الى جماهير الشعب. لقد لاحظتم من الكتابات الأولى منذ بدايات الأربعينات، وحتى قبل ذلك التاريخ، هذا التركيز على الشباب، على الجيل العربي الجديد وتحديد المواصفات الاساسية لهذا الجيل.
ليس كل الشباب هم جيل الثورة العربية اذ لا بد من توافر شروط معينة لان هناك حركات رجعية وفاشية اعتمدت على الشباب، لان الطبيعة زودت الشباب بالحيوية والاستعداد للثورة وللنضال. ولكن اذا لم تقترن هذه المؤهلات الطبيعية بالفكر الثوري الصحيح وبالمبادئ السليمة يمكن ان تنحرف الاستعدادات الطبيعية ويمكن ان تشوّه وتسخّر لأغراض مناهضة للثورة.
ان المنطق الثوري الذي تضمنته فكرة البعث هو منطق ثورة دائمة متجددة، ويكفي ان نأخذ موضوع الوحدة العربية وان ننظر الى فكرة الوحدة في منطق البعث، لنتأكد بان ثورة البعث هي ثورة دائمة لا تتوقف ولا تنتهي لان الحزب يعتبر ان كل انجاز في حدود القطر الواحد يبقى ناقصا ومعرضا للتشويه والضياع ما لم يكن خطوة دافعة الى النضال الوحدوي. فالوحدة العربية التي هي أبعد الأهداف القومية وأصعبها، ستبقى المحرك الأساس لثورة البعث ولصحة منطقه. ان من دواعي السرور ان يكون هذا اللقاء مع الرفاق الآتين من المنظمات الشبابية والطلابية في الخارج، فهذا يعطي صورة مكتملة لتصور الحزب. كلكم ناضلتم في هذا القطر وسجلتم بطولات مشهودة ولكن طبيعة المهام، طبيعة العمل، اقتضت ان يذهب قسم منكم الى الخارج وان تبقى الأكثرية في طبيعة الحال متابعة نضالها داخل القطر. فالابتعاد او الاغتراب والاطلاع على أنماط جديدة من الحياة العصرية مطلوب وعامل مكمل لتصور صحيح لدور الشباب ودور المناضلين البعثيين.
ان حزب البعث العربي الاشتراكي وضع كهدف له ان يحقق للامة العربية النهضة المتناسبة مع العصر الحديث والتي فيها المقومات الأساسية لمجاراة الأمم الراقية. ان الثورة في القطر العراقي تستلهم الثورة العربية بكل أبعادها وأهدافها، وان الجماهير الشعبية في هذا القطر قد وصلت الى مستوى من الالتحام بالثورة والتفاعل الخلاق معها لم تبلغه في اي قطر آخر وفي أي زمن سابق، وهي مندفعة بقلوبها وعقولها لتكون صانعة لثورة البعث، لثورة الوحدة العربية. لا يجوز ان يغيب عن أذهاننا ان الثورة العربية هي بحجم مكانة الأمة العربية في التاريخ وفي العصر الحاضر، وأعداء الأمة العربية يعرفون هذا الحجم ولذلك هيأوا في الماضي ويهيئون يوميا الوسائل لتعطيل هذه القوة.
ان هذه المناسبة تدفعنا الى استذكار الجهد النضالي عبر مسيرة شعبنا العربي ومن اجل صيانة المبادئ والأهداف الكبيرة. اننا نتفاءل دائما لان النواة الصحيحة للثورة حية، وهي تنمو باستمرار، وهذا كسب تاريخي للأمة العربية لان نجاح ثورة الحزب القائد في القطر العراقي عزز من ثقة جماهير الأمة العربية بقدرتها وحيوية مسيرتها التاريخية. ان تجربة العراق الثورية هي تجربة رائدة وتحمل كل مواصفات ديمومتها وهي ايضا ثمرة نضال الحزب واقتداره الدائم على مواجهة كل التحديات.
11 أيار 1980
(1) من حديث مع رؤساء ومندوبي فروع الاتحاد الوطني لطلبة العراق خارج القطر في 11/05/1980
————————————–
الثورة العربية وقضية فلسطين
إن الثورة العربية هي مشروع كبير، لزمن طويل، لعشرات من السنين، لأجيال متعاقبة من الشباب المناضل الذي يشكل الطليعة المؤهلة تاريخياً لحمل أعباء هذه الثورة، لأنه المؤهل لفهم واستيعاب الروح الثورية وللسير بالإندفاع والحماس والإيمان العميق والفكر الواضح في مسيرة الثورة العربية التي يعرفون سلفا بأنها ستكون طويلة وشاقة. إن هذه الصورة للثورة العربية لم نكتمها، وإنما كانت واضحة ومعلنة منذ بدء حركة حزب البعث العربي الاشتراكي، إذ أننا لا نعمل لظرف وقتي ولا لعدد من السنين وإنما للأجيال القادمة.
إن الأمة العربية تتمخض عن حركة إنبعاث عميق له دلائل منذ ما يقرب من قرنين وهو سائر في طريق النضج والتحقق، وإذا كان يصطدم بين الحين والآخر بعقبات مصطنعة ضخمة فلأن الأمة العربية بحكم وعيها برسالتها وبحكم أصالتها لا ترضى بالحلول السطحية ولا ترضى بالتسويات وإنما تصر على تحقيق النهضة العميقة الشاملة، ولهذا يزيد الأعداء من العراقيل في طريق الأمة العربية ومن المؤامرات على نهضته، ولكن القوة المخزونة في نفسها، في أعماق جماهيرنا الكادحة الواسعة، والقوة المخزونة منذ قرون والتي تريد أن تنطلق وتبني نهضة تاريخية، كفيلة بأن تتغلب على جميع العقبات والمؤامرات..
إن الفكر في نظرنا هو الأساس ولكننا نؤمن بالثورة، نؤمن بالنضال وبالتضحية الكلية في سبيل القضية، نؤمن أن الثورة العربية هي تفتّح لكل الملكات والمواهب في الإنسان العربي، هي بعث لحيويته ولقدراته ولجدارته وكفاءته في كل النواحي والجوانب وليست مقتصرة على جانب واحد، لذلك أنتم تجسدون بنشاطكم الرياضي هذا التعدد في فكرة الثورة، فالثورة ليست فقط في حمل البندقية وإنما هي يقظة وتفتّح وإنماء في الشخصية، في الحرية وفي امتلاك الإرادة، في السيطرة على ظروف هذا العصر المعقد الذي يتطلب إلماماً بالفكر والعلم وبالفنون وبضروب القتال والنضال على اختلاف أوجهها وأشكالها.
نطمح الى أن يكون الإنسان العربي متكافئاً مع متطلبات هذا العصر لا يشعر بنقص أو عجز ولا يشعر بضمور ما بشخصه، ولا يجهل ناحية ويقف حيال الأمم الأخرى والمجتمعات الراقية مشدوها مستغربا يتساءل كيف وصلوا إليه، ولماذا التخلف أو بقاياه في مجتمعاتنا. نريد للإنسان العربي أولا أن يستمد ثقة لا محدودة بالنفس، ثقة بنفسه من ثقته بأمته، بتاريخها، بأمجادها، بما حققته وبنته من حضارات خالدة، وبما أعطته للإنسانية قروناً وقروناً، أن يتسلح بهذه الثقة، ثم يتسلح بالفكر الواضح العلمي وأن يعرف أن قدره أن يشق طريقا لأمته بنضاله، بنضال الجماهير العربية، وان يشق طريقا للقضية المصيرية رغم كل المصاعب.
إن الرياضة هي باب ومجال يستنشق فيه الشاب العربي المناضل هذا الهواء الصحي النقي، هواء الحرية والانطلاق والانضباط في الوقت نفسه، فالرياضة مدخل الى النضال وليست بعيدة عنه وملهية عنه، وإنما هي باب من أبوابه وناحية من نواحيه، إن الفكرة الثورية التي ننشدها والتي نبنيها ليست جديبة وليست فقيرة وليست محدودة وإنما هي إطلاق لكل المواهب، إطلاق وتربية لكل الملكات في الإنسان، لأننا بهذا نتكافأ مع المصاعب الجمة التي تعترض نهضتنا، أن نخلق ونبني الإنسان الذي يعرف أن أمته مستعدة، متهيئة لتجديد حضارته، لبناء حضارة في مستوى أصالتها وتراثها وتاريخها لأنه هو الخلية الأساسية في جسمها، الإنسان الذي يفكر ويبدع ويبني ويناضل ويقاتل. إننا نعتبر القضية الفلسطينية قضية كل جزء من أجزاء وطننا العربي ونعتبرها هدف كل عمل جزئي نقوم به في أي مجال من مجالات نشاطنا.
إن جبهة التحرير العربية تجسد الفكر القومي الذي كان وراء تأسيسها والتصور القومي هو أن نوحد تفكيرنا كبداية لتوحيد وطننا وشعبنا وأمتنا. إن هذا الفكر يحارب من قبل الأعداء أشد محاربة في محاولة لتيئيس الإنسان العربي من نجاح قضيته الكبرى وبلوغ هدفه الأكبر في الوحدة والتحرر، في وحدة أمته وفي معركة التحرير الفاصلة بيننا وبين الإمبريالية والصهيونية، لذلك يعمل الأعداء الى افتعال المعوقات، الى كسب بعض الحكام من ضعاف النفوس، من النفعيين والجبناء في محاولة لإعطاء الدليل على عقم النضال القومي، على عقم نضال الوحدة وعلى عقم هدف التحرير، لكي تذل الإرادة العربية عن طموحاتها وتقبل بالحلول الصغيرة، الوسط، بالتسويات التي تقضي علينا كأمة.
هكذا يريدوننا دويلات متفرقة متنابذة ليس لها شأن ولا يمكن أن تشكل قوة أو أن تبني شيئا جديداً. إذا هي تنازلت عن الإنتماء للأمة العظيمة وعن حمل مسؤولية الأهداف الكبرى. نرى بين الحين والآخر صوراً ومشاهد مؤذية ولكن الشباب العربي المناضل يزداد إيمانا بصحة سيره الثوري وطريقه الثوري، يزداد تشبثا بأهداف ثورته الكاملة، يزداد شعوراً بعظم المسؤولية التي حملها القدر لهذه الأجيال الشابة. وإن الخيانة التي جسدها السادات والتخاذل والغدر والنفعية والعبودية للمنافع والمصالح الخاصة التي تبديها بعض الأنظمة الرجعية عندما تنتكس وتتراجع وتكشف القناع عن عمالتها، نعتبرها خيراً وحافزاً للقوى الثورية ومزيلة للإلتباسات، وملقية مزيدا من الوضوح على طريق ثورتنا لنعرف المناضلين الحقيقيين، ولنعرف المخادعين والمتسترين بثياب الوطنية والعروبة وهم متآمرون علينا.
إنكم تشعرون وتدركون مثل كل المناضلين العرب حراجة الظروف التي تمر بها الأمة العربية والقضية القومية، وخاصة قضية الأمة العربية المركزية فلسطين، وإنكم تنتسبون الى جبهة التحرير العربية التي قامت على فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، هذه الجبهة التي لم تهدف من وراء تأسيسها إضافة فصيل جديد الى فصائل المقاومة بل كان القصد منها أن تمثل فرقا نوعيا لا يتعارض مع ما هو موجود على ساحة النضال الفلسطيني.
29 أيار 1980
(1) حديث مع أعضاء الوفد الرياضي والفني لجبهة التحرير العربية في 29\5\1980.
———————————-
التفاعل الخلاق بين الشعب والقائد
الاخ الحبيب والرفيق العزيز الرئيس صدام حسين المحترم
يسعدني ويطيب لي في ذكرى قيام ثورة تموز المجيدة وألقها المتجدد، أن اوجه اليك والى رفاقنا المناضلين في الحزب والى جماهير الشعب أجمل التهاني واعمق عواطف المشاركة والمحبة والاخاء والتقدير.
ان ما تحقق في هذا العام الاول لرئاستك من انجازات كبيرة ومواقف شجاعة وتفاعل صميمي رائع مع جماهير الشعب يشكل تحولا نوعيا كبيرا في حياة الحزب والثورة وحياة الجماهير الشعبية في هذا القطر العظيم، ولو انه لا ينفصل عن كل ما بذلته من عمل دؤوب متصل في بناء الثورة ودولتها وفي بناء المجتمع القومي الاشتراكي الحديث والمواطن الواعي المسؤول، وما قدمته من إنجازات ضخمة لمصلحة جماهير هذا القطر ولمصلحة الامة العربية طوال السنين التي مضت على قيام الثورة المجيدة بالتعاون الصميمي مع الرفيق العزيز القائد احمد حسن البكر وبمشاركة رفاقك الاوفياء المناضلين في الحزب.
ان كل الصفحات المشرقة للثورة وكل الانجازات العظيمة وكل البناء المتين الرصين الذي خطط له عقلك المبدع وايمانك النابع من روح الامة وتراثها، وارادتك التي هي إرادة الرجال التاريخيين تجمعت كلها وتلخصت في هذا الانجاز الثمين الذي يفوق كل الانجازات الا هو علاقة الحب المتبادل بينك وبين الشعب على اروع ما يكون الحب والثقة والتفاعل والانسجام في اندفاع عفوي عميق متطلع الى العمل التاريخي، وهذا أعز ما كان يطمح اليه الحزب لانه التعبير الصادق عن حقيقة حركة البعث وعن اصالة منشئها وطموحها الحضاري.
ان هذه الصورة الحية للديمقراطية بمضمونها السياسي والاجتماعي والشعبي التي تحققت في هذا القطر والتي كانت اولى ثمرات التفاعل الخلاق بين الشعب والقائد، إنما تحمل من الطاقة الروحية واصالة الاخلاق العربية، امكانات للاشعاع والتأثير تتجاوز حدود القطر العراقي الى المحيط العربي والانساني. هذه الديمقراطية هي تعبير عن وضع صحي قوي وعن حالة شعب يتحفز بكل فئاته وبكل قدراته الى النهضة والتقدم والعطاء والتضحية وهي بهذا المعنى ديمقراطية تحمل بذور الوحدة العربية وروحها وتستطيع ان تتخطى الحدود القطرية والحواجز المصطنعة لتصل الى قلوب الجماهير العربية التي تعاني من الاوضاع المريضة الفاسدة لتشعل فيها نور الامل وشرارة الثورة.
أيها الرفيق العزيز
ان سعادتي عميقة وغامرة برؤية الملامح الصادقة لصورة البعث متجلية في التجربة الثورية في العراق الحبيب بخلاف ما اصاب صورة الحزب من تشويه وامتهان في قطر عزيز تعيش جماهيره المأساة كل يوم، لقد ادركت منذ البداية ان تاريخ حزب البعث ومستقبله مرتبط بمصير هذه التجربة لا لأنها تزخر بالروح النضالية والكفاءات الغزيرة والمزايا الكثيرة فحسب بل لأنها تجسد فكر البعث وتصوره الاساسي في عمق واصالة اتجاهه وعظم طموحه في المشاركة الجدية المخلصة في المصير العربي وفي نضال جماهير الامة العربية في سبيل الوحدة والحرية والاشتراكية، وفي التفهم الجدي والمسؤول لحقائق العصر وطبيعة التقدم وشروطه والاتصال الحي بثورة الاسلام الخالدة كثورة عربية انسانية نموذجية.
واستطيع القول دون تردد ان حزبنا وشعبنا في العراق بقيادتك الحكيمة الفذة وفكرك العلمي الحديث وخلقك العربي الصافي قد جسد الصورة الصادقة للبعث ولفكرته القومية ذات المضمون العلمي والافق الحضاري والبعد الروحي النابع من
رسالة الاسلام العظيم.
وكان طبيعيا لثورة البعث في العراق المستندة الى هذه المقومات الايجابية ان تحتل كذلك المكانة العربية والدولية المرموقة وان تأخذ دورها القيادي في بلدان العالم الثالث ومجموعة دول عدم الانحياز وان تجسد باقتدار مبدأ البعث في الاستقلالية والحياد الايجابي. حفظك الله ورعاك لحزبك وشعبك وامتك العربية والسلام.
الرفيق ميشيل عفلق
الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي
16 تموز 1980
(ا ) رسالة الى الرفيق القائد صدام حسين بمناسبة ذكرى ثورتي تموز المجيدتين والذكرى الاولى لتسلم الرفيق القاند صدام حيسن الموقع الاول في الحزب والدولة.
——————————————-
طموح البعث أن يكون حركة حضارية
حزبنا في القطر السوداني، له مكانة خاصة في نظر قيادة الحزب، لأننا لمسنا فيه، منذ البداية، التوجه السليم، والروح النضالية والإرادة مع الفهم الحديث، فكانت بدايته، من البدايات السليمة في تاريخ الحزب وفي الأقطار العربية.
إعتمدت هذه البداية اعتمادا كلياً على جهود الرفاق في السودان، فالحزب لم يمدهم بأكثر من الرصيد الفكري والنضالي، أمدهم بتراث، بخلفيةٍ، بماضٍ، ولكن هم الذين تكفلوا في بناء حاضرهم ومستقبلهم، كمناضلين بعثيين في السودان ولا شك عندي بأن هذا الإعتماد على النفس، والذي كان أكثره إضطراريا، لحسن الحظ، ولحسن حظ الحزب، وحظ منظمته في السودان، أن الظروف كانت قاسية، صعبة الى حدّ أنها لم تسمح للمركز بأن يرفد المنظمة في السودان، كما هو المنتظر عادةً.. ان هذا الاعتماد على النفس قد أدى الى نتائج إيجابية ثمينة، فكانت هناك ظروف سياسية عربية صعبة، وكانت هناك ظروف داخلية في الحزب أيضا، تعطل هذا الدور، دور الإتصال الفعال بين المركز والمنظمة، وكان على الرفاق ان يجدوا طريقهم بأنفسهم، وان يبتكروا، وان يجددوا ويهتدوا بالتجربة، بالاهتداء بتراث الحزب -كما قلنا- ولكن بصورة خاصة بالنظر نظرة مستقلة ومبدعة الى الواقع، فأوجدوا تلك الصورة الحكيمة التي سمحت لحزبنا في السودان ان يتجنب ما تعرض له في بعض الاقطار، نتيجة الخلاف الذي حصل بين الحزب وبين (الله يرحمه) عبد الناصر، وبالتالي بين الحزب وبين جماهير الحزب، والجماهير الناصرية، وكانت الجماهير الناصرية أوسع بما لا يقاس من جماهير الحزب، لأن الحزب هو الذي أطلق –في البداية– هذه الأفكار التحررية والوحدوية، ولما تبناها عبد الناصر، إمتزج الحزب مع عبد الناصر بشكل أنه لم يعد بالإمكان الإبقاء على الحدود التي تميز شخصية الحزب؟ وكان لذلك نتائجه، ولا مجال للخوض فيها الآن.
المهم أن هذه الصورة التي اهتدى اليها رفاقنا، كانت بحد ذاتها، معبرة عن جدارتهم وكفاءتهم، وعن رؤية غير إعتيادية، ليحافظوا على موقع الحزب بين الجماهير، ليتجنبوا التناقض بين الحزب والجماهير، الجماهير الواسعة، وتطورت هذه النواة بالشكل السليم أيضا، والحزب يتطلع باستمرار، بأمل كبير الى النضال القائم في السودان.
كانت هناك فترة حرجة، مر بها الفرع وامتُحن فيه، ونجح في الإمتحان. كان محصورا في وسط جامعي طلابي مثقف وكان مهددا بخطر مزدوج، ألا ينجح بالوصول الى الجماهير الواسعة الكادحة، ان يبقى يسير بالوسط المثقف والطلابي، أو أوساط المعلمين، المحامين، والأطباء الذين تخرجوا من الجامعة، وكان الخطر الآخر الذي له علاقة بالأول وهو أن تفوته فرص النضال القومي، ان تكون تجربته النضالية ناقصة. قلت بأن الحزب نجح في الامتحان، لأنه خاض معارك، وهذا يعني أنه انتصر على نفسه، إنتصر على القوقعة الثقافية، التي تقف أحيانًا سداً حاجزاً بين الشاب الثوري المثقف وبين الفعل، بين الفكر والممارسة، فكانت لحظة ثمينة وحاسمة عندما زج الحزب بنفسه في هذا المعترك، وهذا ما مكنه – ايضاً – من التغلب على المشكلة الكبرى وهي عدم الإنحصار في حدود العمل الطلابي، أو المثقفين، والوصول الى الجماهير الواسعة. فأصبح للحزب رصيد نضال في السجون وفي المعتقلات.. رصيداً من الآلام التي يحملها المناضل، والتي تلفت اليه نظر الجماهير وتجعله موضع ثقة.
هذا بالإجمال ما نشعر به، من خلال استعراض تاريخ منظمتنا في السودان، بالخطوط العريضة، وتجعلنا متفائلين دوما، ومنتظرين المزيد من العطاء، الشيء الهام الذي أود أن الفت إنتباهكم إليه، وأنا متأكد أنكم تعونه، ضرورة أن تكون منظمات الحزب القومية في الوطن العربي قائمة بدورها بكل جدية، كما لو لم يكن لها هذا السند الكبير والثمين الذي هو تجربة الحزب في العراق وتجربة الحكم في هذا القطر الذي هو -كما يسميه الرفيق بدر باستمرار- القاعدة المحررة للأمة العربية، للثورة العربية، فالحالة المثالية هي أن يعمل الحزب.. أن تعمل منظماته بدرجة من الجدية والإندفاع والإعتماد على النفس كما لو كانت وحدها المسؤولة، نقول كما، إذا، هنا يوجد واقع إيجابي، تعب الحزب طويلا حتى حققه، هو تجربة الحزب في العراق، وعندما تنجح مثل هذه التجربة وتنمو وتتكامل بشكل غير إعتيادي.. بشكل فيه من عوامل الصحة والإستقامة والإبتكار والإندفاع والجد، ما يجعلها تجربة فريدة ورائدة.. وهي جديرة أن تكون هي القاعدة للثورة العربية كلها، فإذن هي قادرة أن تخطط لنضال الحزب القومي وهي قادرة أن تزود الحزب القومي بشتى الوسائل المادية والمعنوية، أن تقدم له الكثير من تجاربها، من ثمار التجربة النضالية والتنظيمية والسياسية، بشكل يسهل على فروع الحزب في الأقطار العربية ويمكنها من إختصار الزمن.
إن هذه الإيجابيات لا يمكن ان نهملها او نتجاهلها، ولكن في الوقت نفسه، لا يجوز ان نتعامل معها بدون تعمق في النظرة، وبدون إنتباه وتوتر في الوعي وبالشعور، فلكي تكون هذه الأشياء الإيجابية التي تقدمها ثورة الحزب في العراق الى الحزب القومي، لكي تكون -فعلا– إيجابية، أي مضافة الى المزايا النضالية التي يتمتع بها الحزب القومي، لا بد أن تكون مدركة لتلك الضرورة وإلا فإنها تصبح متكأ وبديلا، أو ما يشبه ذلك، وتكون مضعِفة لروح الإستقلالية ولروح الإعتماد على النفس، وعندئذٍ تنعكس الآية فلا الحزب القومي يستفيد، ولا ثورة الحزب في العراق تستفيد لأن الحزب القومي الذي لا يحسن التعامل مع هذه الإيجابيات يضعف دوره، أو يفقد دوره في قطره، ويصبح عبئاً أيضاً على ثورة الحزب.
نضال الحزب لا يمكن أن ينحصر في مكان واحد ولا في مكانين، وإنما يجب أن يكون في كل الأقطار التي إستطاع الحزب أن يكوّن فيها نواة، وأن يكون الإعتماد على النفس هو القانون الأول، عندها تكون المحصلة محصلة ضخمة وإيجابية عندها يكون – فعلا – النضال نضالاً قوميا، لأنه قام على المشاركة الفعلية لجماهير شعبنا العربي في كل جزء من أجزاء الوطن العربي، وليس النضال بالنيابة، ليس شيئاً فوقيا، نحن أجزاء لوطن واحد، ولأمة واحدة، ولكن النضال يجب أن يكون في كل قطر يقوم به الحزب، وأن يشرك فيه جماهير الشعب حتى تكون المحصلة بأن جماهير الشعب العربي كلها، تكون قد شاركت في صنع ثورتها التحررية الوحدوية الإشتراكية، وتكون هذه المشاركة الفعلية في مستوى واحد من الوعي المتقارب، عندئذٍ تكون جماهير الأمة، في مختلف أقطارها، محصنة ذاتيا، فهي عندما تدفع الثمن، وعندما تشارك، وتصنع نضالها، تكون محصنة ضد النكسات وضد التأثيرات الخارجية.
والآن أترك للرفاق مجالا لطرح الأسئلة.
******************
الرفيق نائب الأمين العام، عندما تكلم عن دور النشاط الخاص في البناء الإشتراكي، أشار إلى أن الملكية الخاصة في الحزب، عندما تطرح في المرحلة الحالية، لا تطرح باعتبار أنها مسألةً مرحلية مرتبطة برغبتنا بأن يشارك القطاع الخاص بعملية التنمية.. إنما النشاط الخاص مرتبط بالإشتراكية فهو نشاط ثابت ودائم في تفكير الحزب، في حين نلاحظ في المنطلقات النظرية وردت إشارات الى أن الملكية الفردية، مهما كان نطاقها ضيقاً هي بالنهاية ستكون ملكية مستغلة.. وأن اشتراك الحزب في الملكية الفردية، بمرحلة محددة من المراحل، كان له آثار ضارة على تفكير الحزب، وهنا نؤشر وجود افتراق بين الطرحين، نحن نلاحظ أن الأطروحات الموجودة حاليا في الساحة العراقية منسجمة مع الأفكار والمبادئ التي طرحها الحزب في الأربعينات والخمسينات، أكثر مما ورد في المنطلقات النظرية نفسها.. ونلاحظ أن الرفيق القائد المؤسس كان له بعض الإعتراضات على المنطلقات النظرية نفسها، والتي كان قد أشار لها في اجتماعات اللجنة العقائدية أو في اجتماعات المؤتمر القومي السادس، باعتبار أن العناصر التي كتبت التقرير العقائدي نفسها – كانت تحاول أن تطعن في تاريخ الحزب وفي تراثه، وكان عنده اعتراضات عليها.. الشيء الذي نريد أن نعرفه من الرفيق القائد المؤسس: هي الظروف التي وضعت فيها المنطلقات النظرية، والتي جعلتها تفترق عن الطروحات والمبادئ التي كان الحزب قد طرحها في البدايات من نشوئه، والظروف التي مكنت الحزب حالياً من خلال التجربة العراقية، أن يعود مرة ثانية لمنطلقاته الأساسية. (الظروف التي صاحبت اصدار المنطلقات النظرية في المؤتمر القومي السادس بتلك الصورة، والظروف التي صاحبت تجربة الحزب في القطر العراقي، والتي جعلته قادرا على أن يعود بمنطلقات الحزب الأصيلة، متجاوزا مثل هذه الظروف).
– الرفيق نائب الأمين العام على صواب، عندما يقول بأنه ليس شيئاً مرحليا، وإنما شيء ثابت لفكر الحزب من بداية الأربعينات، كل الأفكار الأساسية في حزب البعث متكونة عند الذين بدأوا، متكونة تكويناً فكريا، نتيجة تفكير مستقل، ونتيجة درس واطلاع على التجارب الثورية الأخرى، نتيجة دراسة التاريخ العام، وتاريخ البشرية، والدروس التي يمكن أن نستخلصها من التاريخ، ومن تاريخنا القومي، من حياة أمتنا، كل ذلك كان حاضرا عندما سجلنا هذه الأفكار الأساسية، سواء في المؤتمر الأول، في مواد الدستور، أو قبل ذلك في الكتابات، ومن جملة هذه الأفكار موضوع الملكية الخاصة. نحن طموحنا كان، أن حزب البعث ليس مجرد حزب سياسي، ولا حتى مجرد حزب ثوري، وعندما نتكلم عن الطموح نعني ان المهمة التي على الأجيال المناضلة أن تحققها فيما بعد لكي تجعل هذا الطموح حقيقة: الطموح بأن يكون حزب البعث حركة نهضة عربية شاملة، حركة حضارية، حركة تجديد وبعث وانبعاث للأمة العربية في كل نواحي النشاط الإنساني، وإن دلائل كثيرة تشير إلى أن الأمة العربية مهَيأة لهذه النهضة وهي تتمخض عنها، لذلك فإن الرفاق الأوَل في الحزب، إنطلقوا من ثقة بالنفس، متأتية من ثقة بالأمة، وهي ليست وجدانية وإنما موضوعية، هناك دلائل كثيرة تشير الى هذا الإستعداد وهذا التحفز، فعندما يكون الطموح بناء حركة تشق الطريق لنهضة عربية شاملة، في السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد وفي الحرب وفي السلم، والإختراع، وفي الفنون، سميناها البعث العربي، ولفظة إشتراكية، أتت فيما بعد، عندما صار الإندماج بين حزبنا وحزب الأستاذ أكرم الحوراني. كان ثمة إصرار على إضافة كلمة إشتراكي، لأن لها جاذبيتها، ولها تأثيرها لكنها من حيث منطق الفكر البعثي، فهي محصلة بديهية، لأن البعث العربي بعث لكل شيء، وللاشتراكية، فاذن ما هي الا مزاودات، والمنطلقات النظرية تدل بدورها على عقلية مراهقة، وخلف المزاودين على القيادة التاريخية للحزب، آنذاك كانت تكمن دوافع الإنتهازية، دوافع القفز السريع الى السلطة والمراكز القيادية فحشروا هذه المبالغات، دون قناعة، دون دراسة. فالملكية الخاصة لم تكن عندهم الضحية الوحيدة، فقد كانوا يريدون ذبح القومية بكل بساطة، لأنهم كانوا يعتبرون أن القومية شيء متخلف ويجب أن تزول، طبعا لم يُترك لهم المجال لأن يعبثوا بمصير الحزب وبمصير الأمة بمثل هذه الخفة، لكن رغم ذلك بقيت بعض البصمات على المنطلقات النظرية.. بصمات الغوغائية والإنتهازية، فإذاً، من يفكر في المستقبل الناهض المبدع للأمة العربية لا يمكن أن يأخذ الأمور بمثل هذه البساطة، بإلغاء الملكية الخاصة، إنما يتقيد بمبدأ منع استغلال الإنسان للإنسان واتخاذ التدابير لمنع تشكّل قوى إقتصادية يمكن أن تكون مستغِلة لجهود الآخرين. أما الملكية في حدود بسيطة، فهذا هو الشيء الواقعي… هذا هو الشيء المتزن والمعبر عن نضج في النظرة، هذا هو الشيء الذي ينم عن دراسة للنفسية البشرية بما فيه نفسية الإنسان ونفسية المجتمع. فالإنسان كإنسان، والمجتمع كمجموعة متجانسة، لا يمكن أن يرضوا بحياة ميكانيكية.. حياة خلايا النحل والنمل، لا بد من مراعاة الجانب الإنساني، جانب الحرية، جانب المبادرة الفردية، فالملكية الخاصة في الحدود التي لا تتناقض مع روح الإشتراكية تضمن للإنسان هذا الجانب المعنوي، جانب الإستقلالية، جانب الشعور بحريته، بفرديته، ضمن دوره الإجتماعي، والتجارب الإشتراكية كلها تسير في هذا الإتجاه، إتجاه التخلص من النظرة الحَرفية للمبدأ الإشتراكي، النظرة المتطرفة، والأخذ بعين الإعتبار الواقع الإنساني، واقع النفس الإنسانية. فنحن قلنا لسنا بحاجة الى أن نكرر التجارب الخاطئة، نبدأ بالشيء الصحيح، علما بأن هذه التجارب – عندما بدأ حزبنا– لم تكن بعد قد أعطت كل نتائجها ولم تكن كل أخطائها قد اتضحت، فكان الحزب يملك الرؤية المتعمقة والرؤية المستقبلية.
لماذا تمسك حزبنا في العراق بالأفكار الأساسية التي طرحها الحزب في الاربعينات؟
الحزب في العراق كان دوماً هو حزب الأربعينات، يعني الحزب الأصيل.. الحزب التاريخي وهذه الفترة التي مرت عليه في العام 1963 هي فترة عابرة وقصيرة، دخلها تشويش المراهقة، تشويش عدم النضوج. الشباب، بعض الشباب المتنافسين فيما بينهم، وصلوا الى السلطة في ظرف في منتهى الحراجة، ولم يكونوا مهيئين للقيادة، لقيادة هذا الحزب في قطر كالعراق، وفي ظروف كتلك الظروف.. فكان الإرتجال والتخبط والمزاودات، والطروحات غير النزيهة التي لا تصدر عن قناعة، وإنما فقط من أجل إحراج آخرين، من أجل تحقيق مكاسب شخصية عملية، للوصول الى المراكز في ذلك الوقت. إن ثورة السابع عشر من تموز هي ثورة النضج، نضج الحزب للإستفادة من الدروس، دروس ثورة (14 رمضان) وانتكاستها والردة التي أعقبتها والآلام التي نتجت عن ذلك، فالإرادة الجبارة التي قررت الا تستسلم وأن تعيد بناء الحزب، وأن تستعيد السلطة للحزب، هذه الإرادة، هذا العقل الجديد كان لا بد أن ينجح، ولا بد أن يتسم بالنضج، بالواقعية، بالرصانة، بالأصالة، بالرجوع الى الأفكار البعثية الأساسية التي كان الحزب في العراق -كما قلت- متشبعاً بها وهذا ما يجعلنا على هذا النحو من الاستبشار الذي تلمسون آثاره، نعبر عنه أحيانا بالمناسبات لأننا متفائلون في مستقبل الحزب، بمستقبل هذه الثورة في العراق، لأنها فعلا برهنت، وبرهن العقل الذي يقودها على عدة مزايا كبيرة، من جملتها ومن أهمها هذا العمق، هذه الأصالة التي أهلته الى أن يفهم الأفكار الأساسية لحزب البعث كما أُريدَ لها ان تُفهم منذ البداية، بقيت زمنا لم تحظ فيمن يفهمها مثل هذا الفهم العميق.
كيف نوفق بين علمانية البعث ونظرته الإيجابية للدين؟
– باختصار وكما سبق أن أشرت الى أن طموح الحزب، فكر الحزب من حيث الطموح -أي طموحنا- كان هكذا: بأن يكون هذا الفكر فكراً للنهضة العربية الشاملة، فكراً لتجديد الحضارة العربية في هذا العصر، فأي فكر بهذا الطموح يبدو وكأنه يجمع المتناقضات، قد يبدو كذلك، ولكن علينا ان نتعمق لنرى، إذ ما يبدو متناقض، هو ليس كذلك، فهو علماني، وله نظرة إيجابية، ونظرة عميقة ورائدة سبق فيها الكثيرين، بمعنى أنه في الوقت الذي ظهر الحزب فيه، كانت الماركسية سائدة فكرياً بين المثقفين في العالم فلم يستسلم لإرهاب فكري عالمي، وأعطى للدين أهميته في النفس الإنسانية، وفي التاريخ الإنساني، وفي المستقبل الإنساني أيضا، لأن الحزب نظر الى الدين كشيء خالد، فالحاجة للدين شيء عميق وأساسي، ولا يمكن ان يزول في أشكاله وصوره، يمكن أن تتطور. التدين قابل للتطور لكن الدين من حيث أنه حاجة إنسانية خالدا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نظر الى تراثه الروحي من خلال الأمة العربية، وأعطاه المعنى الحي الثوري الذي يمكن أن يكون أساس الثورة العربية الحديثة، فالفهم العميق للدين والفهم العميق للإسلام، كدين وكتراث عربي ثوري حضاري، هذا الفهم أوصل الى نتيجة يمكن أن نعبر عنها هكذا: الحياة العربية الحديثة.. المستقبل العربي الذي نريده، الذي نناضل من أجله، نناضل لبنائه، هذه الحياة العربية الناهضة، المعافاة، المبدعة، القادرة على الإبداع، القادرة على تجديد الحضارة، لا يمكن أن تكون بهذه الصفات، وأن تؤدي هذه المهام والأغراض، إذا لم ترتَوِ الى أبعد حدود الارتواء من مَعين التراث الروحي للأمة العربية، وأن تكون نظرتها الى الروح بصورة عامة، نظرة إيجابية، عميقة.
لنرجعكم الى كتابات الأربعينات، في بداية الأربعينات، مقال في عام 1941، موجود في كتاب (في سبيل البعث) بأن القومية العربية، وأظن بالأصل، العنوان هو، “القومية العربية ليست لفظا مجرداً بل حقيقة حية”، هذا المقال نشر في مجلة اسبوعية بدمشق في بداية العام 1941، فيه إشارات عن علاقة العروبة بالإسلام، إشارات ليست مستفيضة، الى التصور الأول، وهو أن القومية في نظر البعث هي المضمون الجامع لكل شيء، هي المستوعبة، والدين جانب أساسي من جوانبها، لذلك قلت لكم بأننا أطلقنا على الحزب إسم (البعث العربي)، وفي مقال في سنة 1950، قلنا أنه لا بد أن يرافق البعث، بعث القومية، أن يرافقه بعث في الدين. طبيعي أن الأمة عندما تنهض وتشعر بوجودها، تشعر بشخصيتها، تشعر برسالتها ونهوضها، فإن ذلك لا يكون مقتصرا على ناحية واحدة بل هي تنهض بكل روحها، وبكل إمكاناتها، وبكل طاقاتها، وبكل تطلعاتها.
فالدين شيء أساسي، في الحياة، الناحية الروحية، الأخلاقية، نظرة الإنسان الى الكون، هذا شيء متعلق بالدين في بداية الإنسان ونهايته، بداية الكون، الحكمة من وجوده،كل هذه تساؤلات مصيرية رافقت وجود البشر على الأرض، فعندما تنهض الأمة نهوضا سياسيا واجتماعيا، لا بد أن تنهض نهوضا دينيا؟ وفي إطار هذه النظرة لا يعود ممكنا أن يبقى الدين وكأنه اختصاص جماعة، حلقات في المجتمع، كما حصل في أُوربا. نحن أولا نفهم هذه الناحية بشكل آخر، ثانيا، إن نظرتنا أدخلت الشيء الأساسي والجوهري في الدين، أدخلته في الحياة القومية، إلا أنها لم تجعل مهمتها دينية، يعني مهمة البعث العربي ليست شؤون الآخرة، وشؤون العقاب والثواب..، جوهر الدين، حركة تنقية، تطهير للنفس وللمجتمع ورجوع الى الصفاء، الى البديهة، الى الفطرة، الى التجاوب السليم مع قوانين الحياة التي لا تستقيم الا بالمقاييس الأخلاقية، وبمقاييس العدل، ومقاييس الرحمة، وهذه الأشياء التي نص عليها الدين، بالإضافة الى كل ذلك، نحن فهمنا من الإسلام الوصايا، وصايا نموذجية لحياة العرب، ولها إشعاع إنساني، وهو ثورة إنسانية، ظهرت في أرض العرب ومادتها العرب، العرب هم مادة الإسلام، لكن هي ثورة إنسانية بأعمق معاني هذه الكلمة، لأن الإسلام يعالج كيف ينبغي للعربي وغير العربي أن يتصرف، كيف ينبغي للإنسان أن يسلك ويعالج مصير الإنسان، ووجود الإنسان في الحياة، فالإسلام يتوجه الى البشر عامة، لكن هذه الرسالة ظهرت عند العرب وجنودها وأبطالها هم من العرب، مرت بأطوار ومراحل هي النموذج الأعلى والأرقى لكل حركة ثورية صادقة وأصيلة وجادة، مراحل نشوء الدعوة والأطوار التي مرت بها هذه مفروض إننا كلنا نعرفها، وكيف تتجلى فيها القومية، النضال، الجهاد والفكر، الفكر الثوري وتأثير الممارسة وما استلهم من تجارب جديدة، ومن تطوير للفكرة الأساسية، كل هذا كان في نظر الحزب درسا ثمينا، يمكن أن يتجدد دوما، وليس شيئا للحفظ، للتقديس، للإعجاب فقط وإنما فيه قابلية دائمة في الأمة العربية لأن تجدد نفسها حسب هذا النموذج، أي نموذج الإسلام، جوهر الإسلام كما ققلنا، إرجاع النقاء للإنسان في المجتمع، إزالة الزيف، إزالة الشر، وإرجاع الحرية، والإنطلاق والتحرر من الخرافات ومن القيود، ومن عبودية الأفكار الموروثة والسقيمة التي أصبحت عوائق، أصبحت عامل تفرقة، عامل تناحر في المجتمع، عامل ظلم لفئة ضد فئة، تحرير للعقل، تحرير للفكر من الخرافات، من المعتقدات الموروثة، فقلنا أن الإسلام هو دين العقل في الدرجة الأولى، العقل السليم الصحيح، الذي يرفض التناقض ويرفض المستويات المتدنية، ويرتقي بالانسان الى التفكير المنطقي، التفكير الناضج. كل الجدل القائم في زمن البعثة بين المسلمين، بين الدين الجديد وبين المشركين، أو أهل الكتاب، الذين هم على أديان سماوية، كان قائما على أساس العقل العلمي الناضج، وعلى أساس حرية التفكير، فلا ضغط ولا إكراه، فنحن في هذا العمر، وفي سعينا لبناء المستقبل الجديد الناهض، مهمتنا ليست إنشاء دولة دينية، بل دولة قومية، الدين جزء أساسي فيها، كروح ينْبثّ في فكرها، ينبث في نظرتها الأخلاقية، في نظرتها الإنسانية. نحن أُمة عربية، تعيش غير معزولة عن العالم، ضمن عالم، ضمن شعوب لها ديانات مختلفة ولها حضارات مختلفة، ولها بلدان وأقاليم وظروف مختلفة، علينا أن نتعامل مع هذا العصر ومع هذه الإنسانية، فلا يمكن أن نتقيد بحرفية النصوص، أو نرجع الى أمور تكون هي عامل تفرقة وقد تكون مظهر تخلف بدلا من أن تكون عامل نهوض، هذا المقصود بالعلمانية. العلمانية: تريد أن تبني مجتمعاً قومياً ودولة قومية، لا تفرق بين المواطنين، تحترم حرية كل الفئات وكل المذاهب والمعتقدات، ليس هناك تمايز أو تمييز بين فئة لها امتيازات على فئة أخرى، الكل في عرف القانون، في عرف الدولة متساوون، أمامهم نفس الفرص. نحترم حرية الإنسان، كرامة الإنسان، ولكن هل هذه العلمانية تعني فقط بأن نجمع فئات متباينة في هذا المجتمع ونسميها أمة عربية؟ أم أننا نحرص على الإنسجام الحقيقي العميق، الإنسجام الفكري والروحي في هذه الأمة؟.
الإنسجام هو أساس تكوّن الأمة وأساس استمرارها وأساس تطورها وعطائها. هناك التربية القومية التي يدخل جوهر الدين فيها وروح الإسلام، لأنه هو التراث العربي، وهو النموذج الثوري العربي، المثل العربية الأخلاقية الإنسانية فيه، تدخل في التربية القومية. عندما نؤمّن لكل المواطنين تربية قومية واحدة توحدهم، عندها لا يهمنا أن يكون هنا هذا المذهب، وهناك هذا الدين، وهناك هذه الطائفة، طالما أن كل المواطنين إنصهروا في تربية قومية واحدة، عندها الإنتماء للأديان وللطوائف يصبح انتماء لأشياء، قد تكون تراثية، تاريخية، أي شيء، لكن لا يتناقض ولا يتعارض مع أهداف الدولة العربية، بهذا نكون قد ضمنا نموذجاً واحداً وموحداً، لكل المواطنين في الدولة العربية.
حول بناء الإشتراكية في بلد عربي واحد، ونظرة الحزب إليه.
– الحزب كان يدعو دوماً للسير في طريق الإشتراكية، لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الإصلاحات الإشتراكية، دون أن يقتنع بأنه يمكن الوصول الى تحقيق كامل للإشتراكية من دون الوحدة العربية. الحزب مؤمن بأن التحقيق الكامل للإشتراكية يكون عندما تتحقق الوحدة العربية، لكن باستمرار وبالممارسة عندما كان للحزب دور في سورية، حتى قبل سنة 63 عندما كان له دور في النظام البرلماني السوري، كان له وزن مؤثر في سَن التشريعات ذات الطبيعة الإشتراكية.
مفهومنا للإشتراكية هو ككل مفاهيم حزبنا، مفهوم يختلف عن المألوف، هو أعمق، لذلك لم نحصر فهمنا بالأمور الاقتصادية والاجتماعية، وإننا من البدء تناولنا الإشتراكية من زاوية الإنسان وحرية الإنسان، والهدف الروحي والحضاري للإنسان، أكثر مما هو لتأمين الحاجات، لإيجاد الرخاء والعدل، إعتبرنا كل هذا مقدمة ووسيلة لبلوغ غاية أهم، هي تحقيق شخصية الأمة العربية، تحقيق رسالة الأمة العربية في الوجود، تحقيق شخصية الإنسان العربي من خلال قيامه بدوره في حركة النهضة والبعث، الدور الفاعل والمناضل، لو سلمنا بأن الإشتراكية يمكن ان تتحقق في قطر عربي واحد لتوفر عوامل مساعدة كثيرة، الثروة وأشياء كثيرة، لو سلمنا بهذا وهذا نفترضه افتراضاً للجدل، تبقى الناحية المعنوية، شخصية المجتمع وشخصية الفرد، الإنسان، هذا المجتمع الذي هو جزء وليس كُلاً، دائما يشعر بالنقص ودائماً يفتقد الكل، يعني، يشعر بأنه هو جزء من كل وليس مستقراً وليس مطمئنا، وهذا الإنسان العربي، في هذا الجزء من الوطن العربي، الذي يحقق الاشتراكية، هذا الإنسان، لو وفرت له الدولة كل حاجاته، يبقى من الناحية المعنوية يشعر بالنقص، يشعر بالإستلاب، لأنه هو ايضاً موجود في نفسه وفي حسه وضميره ووعيه، موجود مع اخوانه في الارض المحتلة، موجود مع الجماهير في كل قطر عربي يعاني من الإستبداد والإستغلال والقهر، موجود في كل مكان، وبالتالي، اذا كانت الإشتراكية غايتها إسعاد المجتمع وإسعاد الأفراد فهو لن يكون سعيداً في حالة التجزئة، انما يكون سعيداً في النضال، الإشتراكية تقدم له ما يسد حاجاته وتقدم ما يؤهله للنضال في سبيل تحرير باقي أجزاء الوطن وفي سبيل توحيد أجزاء الوطن، هذه ناحية مهمة وهي ناحية معنوية. لكن اذا اخذنا ايضا الناحية المادية، الإشتراكية العربية، هي بمستوى الحضارة العربية، الإشتراكية العربية شيء يقدم للعالم كله، يعني هو تعبير عن الحضارة العربية الجديدة، الحضارة العربية الجديدة لا يبنيها قطر عربي واحد مهما كان. الحضارة العربية الجديدة تستند الى جهود كل العرب والى تجارب كل العرب والى كفاءات ونضالات كل العرب،كل الجماهير العربية، عدا عن ناحية الموارد الإشتراكية العربية التي تعتمد على الأرض العربية كلها وليس على جزء واحد للتكامل سواء في الزراعة او في التصنيع، او في الاختراع. اذا قلنا بأنه يمكن أن نحقق حداً جيداً من الإشتراكية في قطر اذا توافرت شروط الحزب المناضل الواعي والقيادة التاريخية والشروط المادية وغيرها، ممكن، لكن هذه الاشتراكية في قطر واحد ممكن منذ الآن ان تحمل سمات الاشتراكية العربية، ان تشير الى نسَبها لأنها هي منتسبة الى هذه الصورة التي سوف تتحقق في المستقبل، فيها بعض المعالم، بعض الملامح، كما يشير الإبن الى ملامح نسبه وأهله، لكن كما قلنا، الإشتراكية العربية هي طموح حضاري مقترن بحالتين: بحالة التحرر الوطني العربي من كل سلطة أجنبية ومن كل استلاب لجزء من أراضيه وبصورة خاصة، تحرير المركز أي فلسطين ووحدة هذا الوطن، ووحدة هذه الأمة، لتصبح في حالة العطاء، وعندها تكون اشتراكيتها ذات معالم عربية.
كيف نواجه المؤامرات الإستعمارية وفي الوقت نفسه خطر الفكر الإشتراكي الأممي الذي يطرح نفسه كبديل لفكر الثورة العربية؟
– هذا السؤال قديم، وهو مازال يحتفظ بأهميته ولو انه لم يعد بنفس الدرجة من الأهمية. هذا السؤال مطروح، مطروح علينا ونحن طرحناه على أنفسنا، لأن التحرر من الإستعمار كان من الدوافع الى تكوين الحزب، فقد كان هناك استعمار عالمي، طبعا استعمار غربي، يستعمر معظم أجزاء الوطن العربي في ذلك الحين، وكانت هناك الحركة الشيوعية والدولة الشيوعية الكبرى، قلعة الإشتراكية، كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت، التي تقدم البديل للإستعمار وتطرح نفسها كمحررة للشعوب. فنحن قلنا ان الإستعمار يأتينا من الغرب، فالخلاص والإنقاذ يُفترض أن يكون منا، ان ننقذ نحن أنفسنا، فالذين كانوا يقولون، نحن نريد ان ننقذكم، كانوا بذلك يتجاهلون دورنا، ويعمدون الى إلغائه، إلغاء دور الأمة العربية.
فبدايات الحزب كانت مقترنة بالثقة بأن الأمة العربية لا يمكن ان تكون على هامش التاريخ، وأن لها دوراً، ولها رسالة، وهي صانعة حضارات منذ فجر التاريخ، وهي قابلة أن تتجدد وتبني حضارتها من جديد ولا يمكن أن تكون تابعة، هذا كان واضح في ذلك الحين، منذ بدايات فكر الحزب، وإنضاج ولادة الحزب، في النصف الثاني من الثلاثينات، عندما كانت الحركة الشيوعية تابعة للنظام الستاليني.
في الأربعينات، خرج الحزب الى النور، وبداية الأربعينات تعني الحرب العالمية الثانية، فكان أمامنا واقع لا يترك مجالاً لأي التباس، وهذا ما سجلناه في كراس هو خلاصة لأحاديث مع الشباب في البيوت عام 1943 ونشر عام 1944، عن (الشيوعية والقومية العربية). من جملة هذه الأحاديث ان الاتحاد السوفيتي متحالف مع ما كان يسمى بالديمقراطيات، يعني، بريطانيا وفرنسا، ضد ألمانيا النازية وايطاليا واليابان.. قلنا، متى سيتفرغ الاتحاد السوفيتي للوطن العربي، من أجل أن يساعد على تحريره؟ هل هو الآن يساعدنا ضد الإستعمار البريطاني والفرنسي أم انه يساعد بريطانيا وفرنسا علينا؟ عمليا فهو متحالف معهما وداخل في حرب حياة او موت، الى أن ينتصر على ألمانيا. هل علينا ان نسكت عن الإستعمار البريطاني في مصر وفي فلسطين وفي عدن وفي السودان؟ هل نسكت عن فرنسا في المغرب العربي بطوله، وفي سورية ولبنان، وهكذا..؟ كان هذا الموقف امتحاناً بسيطا وواضحاً جدا للمنطق الأممي، الذي يطلب منا أن نقف على النقيض من حقوقنا المشروعة في الدفاع عن حريتنا، في المطالبة بإستقلالنا، وفي النضال ضد مستعمرينا، ودخلنا في الاصطدامات الفكرية والعملية مع الشيوعيين في ذلك الوقت، أثناء الحرب، طبعاً بعد الحرب الأمور لم تحتفظ بهذه الحدة، بهذا التناقض الحاد. الاتحاد السوفيتي خرج منتصرا، صار ممكنا أن يقوم بدور إيجابي في الحياة الدولية لمصلحة كل الشعوب التي تخضع -بشكل أو بآخر- للإحتلال وللإستعمار، مما ساعد الأحزاب الشيوعية، فلم تبق بنفس الوضع الحرج والمحرج التي كانت فيه في زمن الحرب بل انتقلت الى وضع اقل بعداً عن الجماهير، فيه شيء من التوافق، لكن كان يستحيل عليها ان تصل الى درجة من الانسجام والتوافق التي يصل لها حزبنا، أي التي يصل لها حزب وطني مخلص، لأن الحزب الشيوعي له نظرة وارتباطات أممية تتعدى قدرة البلد الذي يعمل به؟ ومنذ ذلك الحين حتى الآن،كانت تأتي الأدلة كلها على أن هذا المنطق الأممي هو منطق نظري، أكثر مما هو منطق واقعي، منطق نظري انكشفت نواحي الضعف فيه، خلال سبعين سنة من الممارسة، فكان لابد أن تحدث تراجعات عديدة عن ديكتاتورية البروليتاريا، وعن الموقف من القومية ومن الدين. لقد ضعف تأثير الشيوعية حتى من الناحية الفكرية، وأصبحت المسافة بعيدة وطويلة بين تلك الهالة القدسية التي كانت لها، تلك الهيبة والعصمة العلمية التي كانت تحاط بها الشيوعية منذ أربعين سنة أو 45 سنة، وبينها الآن.. فإلى جانب التراجعات العديدة في مجال الإشتراكية وعلى صعيد الفكر والتطبيق الإشتراكي، ومجالات أخرى، حتى تصمد التجربة الإشتراكية أمام تحدي الغرب، حدث انقسام شطرَ العالم الشيوعي الى شطرين: الصين والإتحاد السوفيتي، الأمر الذي يدمغ النظرية الشيوعية بالضعف عن حلّ مشكلات هذه التجارب. فالشيوعية ما عادت تشكل خطورة كما كانت في الماضي، لم تعد هي البديل، لكنها من جهة أخرى، موجودة حاضرة، ولا بد أن نكوّن فكرة عنها، وأن يكون لنا أسلوب في التعامل معها، فهي أحيانا قد تكون صديقة حميمة، وأحيانا أخرى، قد تشكل خطر، وقد تكون معادية، لكنها ليست العدو الأول، طالما الإستعمار والصهيونية والإمبريالية موجودة، يعني هناك أولويات، فالصورة التي انطلق منها الحزب في البداية، هي صورة الإستقلالية التي ما زالت صحيحة، وستبقى صحيحة، الإستقلالية التي عبر عنها بالحياد الإيجابي، وعدم الإنحياز.
فالمنطلق الأول الذي كان منذ بداية الحزب واضحاً جدا، وشيئاً أساسيا في نظرية الحزب، هو استقلالية طريق الأمة العربية، الأمة العربية لها طريق مستقل في التحرير وفي البناء في طورها السلبي، أي نضالها من أجل التحرر، ثم في طورها الإيجابي، في العطاء وبناء مجتمعها وحضارتها. قلنا بأن مصداقية الشيوعية كنظرية، كفكر، ضعفت، ضعفت كثيرا، لانها صارت تجرّ وراءها عددا من التناقضات والأخطاء التي تضعف هذه المصداقية، يبقى أن البعض مازالوا -في أُوربا وفي أجزاء من العالم- يقولون بأن الماركسية يمكن ان تقدم دليل عمل، الماركسية فيها نظرية، فيها جهد فكري كبير ومحترم، وربما تطورت أيضا، وتناولتها أدمغة عديدة وكبيرة واجتهدت فيها وطورتها، فهي وكل النظريات الاجتماعية يمكن ان يستفاد منها.
نحن ما أغلقنا عقولنا عن الماركسية، إستفدنا منها، وقرأنا أشياء كثيرة فيها، بنظرة علمية ونقدية، ليست نظرة متعصبة، ولكن نظرة نقدية، وقلنا من البداية، بأن المارسكية فيها نواح خاطئة وفيها نواح سطحية، النواحي السطحية مثلا، فهمها للدين فهو فهم سطحي. الخطأ مثلا، الخطأ الكبير، إغفالها للقومية، حقيقة القومية، وأيضا، سطحية الفهم للأممية، فأمميتها أممية نظرية. نحن نؤمن بنوع من الأممية، بصيغة من الأممية، لنا مفهوم واعي ولكنه مفهوم حي يختلف عن هذا المفهوم المجرد الذي تبين أنه فاشل.
الفلسفة التي قامت عليها الماركسية، فيها تعصب، فيها مبالغات، فيها تأكيد على جانب من الحقيقة يضخم كثيرا، كما يضخم أيضا الخطأ الذي في غيره، وهذا يعني، انها تفتقر الى النزاهة العلمية رغم ادعائها بالعلمية، فهي براغماتية، بمعنى انها تستهدف النجاح بصرف النظر عن الوسائل، لذلك فهي تبالغ، وتقلل، وتزيد، وتنقص، فتبتعد عن الموضوعية التي هي شرط المعرفة العلمية. نحن نشعر براحة عقلية وراحة وجدانية، لأننا لا نحتاج الى المغالطة، والى المبالغة، لا نحتاج الى ان نعمل هذه الاشياء التي لجأت لها الماركسية.
الفلسفة المادية التي بنيت عليها الماركسية، فيها نواحي الضعف وفيها نواحي القوة التي لا تنكر، وقلنا بوضوح بأنها هي أول محاولة فكرية للنظر الى التناقضات الاجتماعية، بنظر واقعي وجدي بعيد عن الطوباوية، بعيد عن الاحلام، يعني هي إنزال هذه المثل الانسانية القديمة، في العدل وفي المساواة وفي الحلم.. في المجتمع السعيد والعادل، انزالها الى أرض الواقع، لذلك قدرت أن تؤثر، وقدرت أن تفجر ثورات، أما تفاصيل هذه الفلسفة، فإنها تنطوي على تفسيرات متعسفة وغير جدية وبخاصة، إغفالها لأهمية النواحي الروحية في حياة البشر.
2 آب 1980
(1) حديث مع الرفاق السودانيين، بتاربخ 2 / 8 / 1980
————————————————
الموقف المسئول أمام التاريخ
أيها الرفاق
اشعر دوما بسعادة عميقة عندما التقي بالرفاق المناضلين على مختلف ساحات النضال، هذه اللقاءات تؤكد لي قوة الحزب، أصالة الحزب، صدق منشئه والدوافع التي دفعت إلى تأسيسه. عندما أرى الرفاق بهذا العدد، بهذه الكفاءات، بهذا الشباب المتجدد، بعد عشرات السنين، تتعزز ثقتي بحزبنا وثقتي بمستقبل أمتنا، سوف استمع إليكم بعد هذه الكلمة، سوف استمع بشوق إلى تجربتكم، إلى ملاحظاتكم لازداد قربا من حياة الحزب، من ممارساته اليومية، من تفاعله مع الواقع الحي وازداد قربا من الأجيال الجديدة، أفكارها وطموحاتها وهمومها، لكي اشعر بهذه الحياة المتجددة في الحزب وفي الأمة.
من الطبيعي لرجل مثلي وفي سني تجاوز الحاجات العابرة، أن أتذكر الماضي، أن أتذكر السنين الأولى التي بدأ فيها الحزب يبشر بأفكاره ويناضل في سبيل تلك الأفكار، او ان أتذكر السنين التي سبقت ظهور الحزب، التي كانت بمثابة مخاض وتلمس طريق وحوار داخلي مع النفس ومع الرفاق الأقربين إلى أن توضحت معالم الطريق، ويمكننا أن نعتز بهذا الحزب الذي هو من الأمة ، أن نعتز به لأنه لم يكن من النوع الرخيص، لم يكن تلبية لحاجات عابرة، لم يكن معبرا عن طموح شخصي، كان منذ البداية حزبا تاريخي، بمعنى انه وضع التاريخ أمامه ووقف أمام التاريخ وقفة مسؤولة وفكر وصمم على أساس العمل الطويل لأجيال عديدة، لأنه إنما نشأ من تاريخ الأمة العربية، من تراثها، فكان من الطبيعي أن يشعر ويفكر ويخطط بمقياس ما للأمة العربية من وزن تاريخي، من وزن حضاري.
أيها الرفاق
لا يمكن أن نتذكر هذا الزمن الأول، هذه السنين التي أصبحت بعيدة دون ان نتذكر وان نذكر حدثا جلل، حدثا بعثيا وقوميا، جرى قبل فترة وجيزة هو استشهاد رفيقنا الأستاذ صلاح البيطار. لا اريد ان يغلبني الحزن لان هذا الحدث هو اكبر من الحزن، انه ليس استشهادا عاديا وليس مجرد جريمة ارتكبها المجرمون القتلة في النظام السوري، انه من جهة تتويج لحياة كلها نضال وأخلاق، ويبدو لي انه كان الخاتمة الضرورية لهذه الحياة، الخاتمة الحتمية لأنه جاء كالثمرة الناضجة. لم يأت صدفة ولم يرتجل ولم يفتعل، فالأستاذ صلاح البيطار لم يكن في تقديري يجهل ما كان ينتظره، ورغم ذلك مضى في طريقه يكتب الصفحة الأخيرة من هذا الحب العميق لأمته، من هذا الوجد الذي كان يعتلج دوما في قلبه نحو الشعب العربي، وكان ثباته وإصراره رغم معرفته بالخطر، كان، كما قلت في الأول، تتويجا لحياة مليئة غنية صادقة،لم تود أن تنتهي بالموت البطيء وباعتلال الجسم وإنما بعمل يختصر العمر كله ويكثف النضال والإخلاص كله في لحظة واحدة خالدة تكون لها القدرة على الإشعاع وعلى التوليد والخلق.
ماذا تنتظرون مني أن أقدم لكم، وان يكون شيئا ذا نفع، أحسن ما استطيع تقديمه لكم هو تذكيركم بهذه الروح التي ولد منها البعث، أن أذكركم بقوة الروح بصورة عامة ليس فقط بالنسبة إلى البعث، ولكن في كل الحالات وفي كل الأزمان وعند كل الأقوام والروح هي الأقوى دوما. حزب البعث، حزبكم، نشأ نشأة بسيطة متواضعة وبشر بهذه الأفكار الكبيرة وتصدى للحكومات وللأحزاب المناهضة له ولم يكن يملك ويستعمل عصا بل قطعة السلاح، لم يكن لديه لا سلاح و لا حتى اقل من السلاح. قوة الروح، قوة الإيمان، قوة التصميم، هذا هو المنشأ ويأتي يوم يواجه الحزب أمورا لا بد منها، واقعا قاهرا، فيرى انه لا بد له إن يتسلح فتسلح، وان لا بد له من وسائل يستطيع بها أن يحمي نفسه، أن يدافع عن فكرته وعن رسالته أمام شراسة الأعداء من كل جانب، ولكن بعد أن بنى تراثا ورصيدا وأساسا عميقا من تلك القوة الأولى، القوة الروحية، لم تعد القوة المادية بقادرة ان تفسد عليه تكوينه وسلامة تأسيسه، الروح تخلق المادة لا العكس.
إن دعوتكم من قبل القيادة تختلف هذه المرة عن دعوة القيادة لكم في المرات السابقة، اذ ان العامل الرئيسي، الدافع الرئيسي للقاء القيادة بمندوبي المنظمات خارج الوطن، هو طرح سؤال، والتعاون بين القيادة وبين مندوبي المنظمات على الإجابة عنه، نتيجة تبادل الآراء والاطلاع على نشاط المنظمات والواقع الذي تعمل ضمنه، السؤال الذي من اجله دعيتم، ومن اجل ان تساهموا في إيجاد الجواب عليه، هو لماذا لا ينتشر حزبنا بين اوساط الطلبة العرب، كما كانت حاله في الخمسينات؟..
ممكن القول بان الظروف العربية والدولية في الثمانينات والسبعينات مختلقة عن تلك التي كانت في الخمسينات، ولكن هذا جزء من الجواب، ويبقى ان نتساءل ونبحث عما إذا كان الحزب نفسه لم تعد فيه حرارة الخمسينيات، لم يعد فيه ذلك الاندفاع، وتلك الجاذبية، وذلك التأثير القومي الذي كان له.
الماضي مضى ولن نقعد لنتلهف على الأيام الماضية ونأسف، امامنا ظروف جديدة لنواجهها كما هي، ولكن لنرى كيف نستطيع ضمن هذه الظروف الجديدة، أن نبعث الروح، أن نزيل العوائق أمام هذه الروح الأولى، لكي تعود فتظهر المنظمات.. يجب أن تبتعد عن السفارات وعن عمل السفارات وان تنغمس قلبا وقالبا، بالمظهر وبالحقيقة، في الوسط الطلابي، الشعبي، النضالي، وان تعيش الهموم القومية بالوسائل التي تتوفر للمناضلين والتي لا تولد فيهم الاسترخاء والاتكال، أي بالحد الأدنى من الوسائل، كما كان الحزب في الماضي، ان يكون الاعتماد على الفكر، وعلى الثقافة، وعلى الحماسة والإيمان، والاندفاع وإعطاء المثل الصالح والتبشير بالكلمة الطيبة، وبالتعامل الأخوي مع الآخرين حتى المعادين إذا كان ثمة سبيل إلى كسر جدار الكراهية بيننا وبينهم لكي يسمعوا صوتنا ولكي يصغوا إلى حججنا.
الحزب بنى هذه التجربة في العراق وهو معتز بها، ومخلص لها، ويتمنى لو أن كل العرب يقتربون منها لكي يستمدوا منها الأمل والتفاؤل بالمستقبل ولكي يعرفوا أن ثمة شيئا جديا ولأول مرة قد بني على ارض عربية، وهو ينمو يوما بعد يوم وسنة بعد سنة. فمن الطبيعي أن تكونوا مشبعين بهذا الشعور وان تشعروا بالحاجة إلى نقله إلى الآخرين من الشباب العربي والى العرب المتواجدين في البلدان التي تعملون فيها، ولكن هذا لا يجوز ان يكون كل عملكم وان يمنعكم من التعاطف مع أحوال، وظروف وهموم إخوتنا في العروبة بالأقطار الأخرى، في المهاجر، الذين يعانون ويقاسون وبعضهم مضلل يمشي في طرق خاطئة وبعضهم بائس، فالمطلوب إذن أن تكون عندكم موارنة، أن تعيشوا عيشة النضال حتى تستطيعوا التأثير في غيركم، أن لا تنسيكم الانجازات التي حققتها تجربة حزبكم هنا الحرمان الذي تعاني منه الجماهير العربية الواسعة في أقطار عدة محرومة مقهورة، أن لا تنسوا فلسطين في كل عمل، وفي كل حركة، وفى كل يوم من أيام عملكم، وأخير ا لقد تكلمت عن المغزى الكبير لاستشهاد الأستاذ صلاح البيطار وعما يلقيه هذا الحدث على حياة هذا الشهيد وعلى تاريخ البعث من نور، ومن مجد، وهو أيضا يلقي على هذا النظام الذي امتدت يده الآثمة إلى حياة هذا المناضل، يلقي علي هذا النظام الوصمة الأخيرة بعد كل الجرائم التي ارتكبها والتي وصم ودمغ بها. هذا برهان أخير على ان هذه الطغمة غريبة كل الغربة عن هذا الاسم الذي تدعيه، تنتحله، اسم البعث، ليس لأنها اغتالت الأستاذ صلاح البيطار فحسب بل لأنها تغتال الشعب كل يوم، ولم تقدم على اغتيال الأستاذ صلاح إلا لأنه فضحها بكتاباته وانتصر للشعب المقهور، ووضع وزنه لكي يحارب التعتيم المقصود على جرائم هذا النظام، فكان خوف النظام وهلعه من مقالين، مقالين في جريدة، وأقدم على هذه الجريمة. الذين يقدمون على هذه الجريمة لا يمكن أن تكون لهم أية صلة بحزب البعث، والذين يقومون بمذابح جماعية للشعب في سوريا لا يمكن أن ينتسبوا بقليل أو كثير إلى حزب البعث. حزب البعث وجد من اجل الشعب، لخدمة الشعب، فكيف يتحول إلى جلاد للشعب؟
نحن أمام شيء جديد بعد استشهاد الأستاذ صلاح، هذا شيء كبير يمكن أن تتسلحوا به لتعروا هذا النظام في أوساط الطلبة العرب، ولتظهروا الفرق بين البعث في العراق والتفاف الشعب حوله ومحبة الشعب له، وبين تلك العصابة ا لتي تصر على الاستمرار في السلطة، واستغلال السلطة ولو على أشلاء كل الشعب، ويحركها الحقد، وتحركها الشهوات الحقيرة. يجب أن نبدأ بداية جديدة، لا يجوز إن يذهب دم الشهيد بلا ثمن، بل يجب أن نجعل من هذه الشهادة بداية للخلاص، خلاص شعب سوريا العربي من محنته واسترداد القطر السوري بكل ما يمثل من أهمية قومية ومن دور أساسي بالنسبة للقضية القومية عامة، يجب أن نسترد سوريا ولكن ليس ضروريا أن يأتي الحزب ليحكم في سوريا مباشرة بل المهم إنقاذ سوريا من هذه العصابة وإرجاع سوريا إلى الوضع السوي، إلى الحرية، إلى الديمقراطية، إلى أبنائها ليتفقوا ويتصرفوا بمصير بلدهم، ولن يكون تصرفهم إلا وطنيا وقوميا، هذا ما أحملكم إياه كواجب وأمانة، لكي تضعوه في رأس مهامكم النضالية ولكي تظهروا من خلال طرحكم لهذا الموضوع الحيوي إلى حد تردت الأوضاع العربية، والى إي حد التبست المفاهيم، والى إي حد أصبحت القضية العربية والمصير العربي ألعوبة بيد الدول العظمى. فهذا النظام المجرم يسمى تقدميا ويحظى بتأييد المعسكر الاشتراكي، وأي اشتراكية هذه، وأي تقدمية ترضى عن ذبح الشعب..
فنحن أمامنا مهام كثيرة وعندما نقوم بواجبنا النضالي سنجد أننا أدينا في آن واحد خدمات عديدة وبلغنا أهدافا متعددة وصححنا مفاهيم عربية ودولية في نفس الوقت الذي نصحح فيه أوضاع القطر السوري العزيز على كل عربي.
أتمنى لكم التوفيق في عملكم وأنا واثق ومؤمن بأنكم ستعملون بروح جديدة وبعزم مضاعف لان تجربة حزبكم هنا بلغت حدا كبيرا من التألق نتيجة التفاعل العميق مع الشعب، هذا لا بد أن يمدكم بروح مؤمنة متفائلة، ومن جهة أخرى الآلام القاسية التي تحل بالعديد من أقطارنا وبالملايين من جماهير امتنا وهذه أيضا محرك ومحرك قوي لكي يعود البعثي إلى أصالته ويشعر بلذة النضال، وبأنه يصنع التاريخ ويصنع الغد المشرق لأمته والسلام عليكم.
3 أب 1980
(1)حديث في اللقاء مع الرفاق مسؤولي منظمات خارج الوطن بتاريخ 3-8-1980
——————————–
كلمة في الحفل التأبيني للشهيد صلاح الدين البيطار
ايها المناضلون الاحرار
أحييكم تحية العروبة والنضال وأرحب بكم باسمي وباسم رفاقي في الحزب لمشاركتكم في هذا الحفل القومي لتأبين شهيدنا العزيز صلاح الدين البيطار.
لقد جئتم الى بغداد من اقطار العروبة من مصر ومن المغرب العربي ومن لبنان ومن اقطار أخرى، وهذه المشاركة تجسد المعنى الذي نشأ على أساسه الحزب واستشهد من اجله صلاح الدين البيطار، فيه استذكار لمعان وقيم عميقة في نضالنا القومي، وفيه مراجعة صادقة وموضوعية لمسيرة تاريخية امتدت عدة عقود من الزمن، وفهم لحقائق اساسية في واقعنا العربي، كما فيه ذلك الالهام والتحفيز للانطلاق في المعركة التي استشهد فيها صلاح الدين البيطار والقضايا التي عاش ومات من اجلها.
فالاستشهاد اشبه شيء بالانفجار يضيء ويحرق كل ما حوله، هو هزة عنيفة تسلب الراحة وتقضي على الحذر وتعصف بالطمأنينة والاستقرار وتشيع في النفوس القلق المقدس، هو نور يشق ظلمات اليأس ويفتح للأمل نافذة بعرض السماء. ومهما يمعن القتلة المتسلطون في ارهاب الشعب بارتكاب المذابح والكبائر والمنكرات تبقى الكلمة العليا للحق والشرف والمبادئ عندما يقدم انسان حي الضمير، أبي النفس، على التضحية بحياته فداء لهذه القيم والمبادئ.
وكما ان الاستشهاد تركيز عنيف لانتباه الناس وهز لضمائرهم حول موضوع خطير لم يكونوا يقدرون خطورته، بينما يعتبره الشهيد جديرا بان يقدم حياته ثمنا للدفاع عنه، فهو ايضا تسليط لضوء ساطع على حياة الشهيد نفسها ليس في خاتمتها فحسب وانما رجوعا الى الوراء من هذه الخاتمة الى الماضي الطويل الذي سبقها والذي كان التمهيد الطويل والبناء المترابط الموصل الى تلك الذروة.
لقد اراد له القدر كما اراد هو لنفسه وهو المناضل الشيخ الذي ملأ حياته بالفكر والعمل ان يضيف صفحة أخيرة متألقة الى صحائف سفر طويل جليل كان يمكن ان يختتم ويظل محتفظا بقدره وقيمته حتى بدون هذه التضحية الاخيرة.
لقد اراد ان يضع حياته ثمنا لانتصار الفكرة واحقاق الحق، وبهذا الحدث سوف يبدأ تاريخ جديد بالنسبة الى نضال الشعب في القطر السوري وبالنسبة الى موقف الرأي العام العربي والعالمي من قضية سوريا ونكبة شعبها بحكامها المتسلطين. كانت عروبته محور تفكيره وشعوره يعيشها بوجدانه حبا وحنانا لكل العرب ويعيشها بعقله تحليلا ونقدا وتخطيطا من اجل تغيير الواقع العربي المتخلف وبناء المستقبل الحضاري للأمة.
عاشت الأمة العربية في وجدانه بهمومها ومشاكلها وتطلعاتها بماضيها وحاضرها ومستقبلها مثلما سيعيش هو بعد اليوم في وجدان ابنائها واجيالها المقبلة. اعد نفسه للقيادة والحكم كمن يتوفر على دراسة علم من العلوم أو فن من الفنون بكل ما تتطلبه الدراسة من جدية وجهد ونزاهة وشغف ورغبة في النجاح والتفوق، وجعل مقاييسه حضارية لا سياسية، وعالمية لا محلية، وبلغ في ثقافته السياسية مستوى كبار الساسة في العالم وكان عارفا قدر نفسه وواثقا من كفاءته لا يرضى الا ان يضعها في خدمة امته ووطنه وفي المكان اللائق بها. وكان منشأه البعثي النضالي وتربيته العربية الاسلامية يضفيان على ثقافته السياسية وكفاءته القيادية عنصرا روحيا خاصا يمتاز به عن رجال السياسة في الدول الاجنبية فهو عربي وأمته امة الرسالة والشهادة.
والحكم عنده رسالة او شهادة وقد راهن الرهان الأخير عندما واجه مسؤوليته أمام محنة شعبه في سوريا، إما ان ينقذ الشعب بحضوره الحسي الفكري والعملي، او يذهب شهيدا للحق ويخلد في ذاكرة الشعب ويصبح مشعلا هاديا لطريق الحق والثورة والفداء.
قبول الشهادة لا يتاح الا للصفوة من المناضلين المؤمنين الذين أينعت فيهم الصفات والكفاءات العالية التي تحلى بها الشهيد والتي كانت صورة حية للحركة الثورية التي شارك في بنائها، هو ليس قبولا للشهادة بقدر ما هو إقبال عليها ووصول إرادي اليها، وبلوغ لها يساوي تبليغ الرسالة، يكمله ويتوّجه. موقف من الحياة هو نفسه موقف من الموت. الموت كجزء اصيل من الحياة ومرآة لها. ان حدث استشهاد صلاح الدين البيطار يطرح في آن واحد محنة سوريا والمأساة التي يعيشها شعبها، كما يطرح ماضي (40) سنة من تاريخ حزب البعث العربي وتداخل هذا التاريخ مع تاريخ سوريا والقضية العربية في هذه الحقبة من الزمن.
في كل عمل من المستوى التاريخي يكون ثمة عنصران، الشخص والقضية. وقد كانت للأخ الحبيب والرفيق العزيز صلاح الدين البيطار مساهمة أساسية في تكوين حزب البعث كفكر وكحركة، وقد سبق تأسيس الحزب ما يقارب الـ (عشر) سنوات من العلاقة الشخصية والفكرية والرفقة اليومية التي خلقت نوعا فريدا من التفاعل والتكامل بين شخصين ظلت لكل منهما شخصيته المستقلة المتميزة.
كان بدء التعارف في ديار الغرب أثناء الدراسة الجامعية ولم يلبث التعارف ان اصبح التقاء حميما وصميميا على جملة افكار ومواقف ووجهات نظر سلوكية ووطنية ونظرات متوافقة في الادب والفن والاخلاق، وبعد انتهاء مدة الدراسة وعودتنا الى الوطن للتدريس ابتدأت مرحلة جديدة عملية.
وقد كنا مصممين على جعل مهمتنا في التعليم مجالا للتبشير بأفكارنا الوطنية والقومية، وبالاتجاه التحرري الاشتراكي الذي آمنا به، وان نجسد ذلك في سلوكنا ومواقفنا مع الطلاب وضد السلطة الاجنبية المستعمرة والاجهزة المحلية الموالية للاجنبي او المستسلمة له.
كما كنا مصممين على اتخاذ الكتابة وسيلة للتبشير بتلك الافكار. كانت السنوات العشر التي سبقت تأسيس الحزب سنين خصبة عميقة الأثر وقد كانت تجمع الى الشعور بالمسؤولية والالتزام بخط مبدئي شعورا ثمينا بالحرية والرحابة.
لا اقول اننا كنا نتلمس الطريق، فمنذ النصف الثاني من الثلاثينات كانت طريقنا واضحة الى حد كبير في تحديد أهداف الأمة في الوحدة العربية وفي الحل الاشتراكي بالأسلوب الثوري والمنطق الجذري الحاسم، والرفض التام للواقع السياسي العربي والدعوة الى الانتفاض على مرحلة وعقلية وطبقة اجتماعية. ولكننا كنا نتلمس مدى استعدادنا للاضطلاع بالتزام يقرر منهج العمر بكامله. وعندما حزمنا أمرنا في بداية الأربعينات وجدنا في الوسط الطلابي وفي الاوساط الشعبية فيما بعد، تجاوبا عفويا قويا دل على نضج المرحلة لتقبل حركة في المستوى الفكري والسياسي والتنظيمي الذي كنا نطمح اليه، فالشيء الجديد بالنسبة الى المجتمع لم يكن جدة الافكار بقدر ما كان المستوى الذي طرحناه لوضع تلك الافكار موضع التطبيق في النضال الشعبي.
ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم كانت مسيرة حزب البعث هي التمسك بالخط القومي الثوري الاشتراكي الذي اخترناه ورفض اي تفريط بحق من حقوق الأمة وعدم الرضوخ لأي إغراء معنوي او نفع شخصي، وكان الحزب يختار اصعب المهمات والمعارك القومية بإرادته وكان دوما في طليعة المعارك القومية وفي قلبها وصميمها.
وكان هناك دائما لدى البعثيين الحقيقيين شيء ثمين في الشعور وفي الفكر، وذلك ان بينهم وبين الأمة عهدا يربط حياتهم كلها، لهم طريق ينبع من وجدانهم ولا يمكن ان يتراجعوا عنه او يحيدوا. كل مغريات الدنيا لا تكفي ولا تغني عن حياة المبدأ، هذا الطريق هو ايضا طريق الشعب، ولا يمكن أن يسير البعثيون في طريق والشعب في طريق أخرى.
اما المستحيل في نظرهم وما يعادل الكفر فهو أن يقفوا ضد الشعب وان يوجهوا اسلحتهم الى صدور ابنائه. خير لهم ان يكونوا مظلومين من أن يكونوا ظالمين.
هذا هو الخط التاريخي، الخط الاصيل، الخط الاخلاقي، خط الوحدة العربية، خط النضال الشعبي والشعب المناضل، خط الحرية والكرامة والانسان العربي الحر، خط رفض التفريط بأي حق من حقوق الأمة مهما يكن النضال شاقا وطويلا، وكان هذا خط الاستاذ الشهيد صلاح الدين البيطار.
فكرة ثمينة واستعداد خالص واندفاع فتي لحملها وتجسيدها في حركة، ولكنها تصطدم بواقع قاس منذ خطواتها الاولى، وكانت كلما تقدمت ودللت على قابليتها للنمو والانتشار تتضاعف الافتراءات ومحاولات التشويه ليس من الاستعمار واعداء الأمة فحسب بل من بعض تلك الاوساط المحسوبة على القومية والتقدمية ايضا.
تريد عزلها عن الجماهير العربية الواسعة والحد من قوتها وانتشارها، وكان هذا الصراع من اجل البقاء بينها وبين محاولات العزل والتشويه احد مقومات ثوريتها ومحرضا ودافعا لكي تزداد التصاقا بالشعب وتفانيا في الدفاع عن حقوقه.
وقد انتشرت هذه الحركة القومية الثورية في عديد من الاقطار العربية وحمل شعلتها مناضلون مؤمنون واجهوا الظروف الصعبة والتحديات الخطيرة وصنوف الظلم والتعسف، ومنذ عهد مبكر وجدت الحركة في العراق ارضا خصبة وشبابا عربيا مؤمنا ومقداما حمل لواء فكرة البعث وناضل تحت رايتها نضالا رائعا وباسلا، وكانت ظروف العراق القاسية وموحيات تاريخه المجيد منذ ايام الرسالة العربية الاسلامية تدفعه الى النفاذ الى جوهر فكرة البعث والى الرسالة التي يمكن ان تؤديها في هذا العصر الى العرب والعالم، فتصدى للمسؤولية على عظمها وحمل الأمانة رغم جسامتها، وجاءت ثورة (17) تموز فنقلت هذه العلاقة بين البعث والعراق الى مستوى جديد.
ايها المواطنون الاحرار
ايها الاخوة الكرام
وتمر السنون وينتقل البعث من نضال الى نضال محققا الانتصارات الكبيرة المتتابعة من المساهمة في حرب فلسطين عام 1948 ضد اقامة الكيان الصهيوني، الى محاربة النفوذ الاستعماري وسياسة الاحلاف العسكرية والنضال ضد العهود الرجعية والدكتاتورية، الى العمل الجماهيري من اجل الديمقراطية والوحدة وحتى قيامها في 22 شباط عام 1958 متمثلة في الجمهورية العربية المتحدة مع القطر المصري بقيادة البطل القومي جمال عبد الناصر.
وكان البعث يقدم التضحيات ويخوض المعارك من اجل الجماهير الشعبية والقضايا القومية، دون ان ينتظر مكافأة او تثمينا لذلك سوى نيل شرف خدمة الجماهير العربية والتعبير عن ارادتها. وكان الاستاذ صلاح الدين البيطار مجليا في كل هذه المعارك. كان حاضرا في حرب فلسطين وفارس الدفاع عن الديمقراطية والحريات العامة في مقالاته الخالدة في جريدة (البعث) وركنا اساسيا في بناء وحدة سوريا ومصر، تلك الوحدة التي كان يوم إعلانها بالنسبة لكلينا أحلى ايام العمر على الاطلاق.
ايها الاخوة والاصدقاء.. ايها الرفاق
لقد ولد الحزب في مناخ قومي انساني حضاري، وقاوم منذ البدء كل النزعات اللا قومية والمتخلفة كالاقليمية والعشاثرية والطائفية ودعا، الى وحدة ابناء الأمة على اساس الرابطة القومية ذات المحتوى الانساني والثوري. وبعد قيام حركة 8 آذار سنة 1963 في سوريا بدأنا نسمع الناس يتحدثون عن حالة شاذة وغريبة عن الحزب وعقيدته وممارساته تلك هي نزوع عدد من الضباط الذين شاركوا في حركة آذار ووصلوا الى مراكز قيادية فعالة تحت غطاء الحزب، نحو تكتيل عدد من الأعوان على اسس طائفية وتوجيه الاحداث في البلاد على هذه الأسس البغيضة، وفي البداية كنا نرفض ان نصدق ذلك.
وتصورنا ان في ذلك محاولة من الأعداء للتشهير بالحزب والثورة لأن (20) سنة قد مرت على الحزب قبل انقلاب آذار ولم تنشأ فيه مثل هذه الظاهرة، وكان بين البعثيين من أبناء سوريا من المنتمين الى الطائفة العلوية، قادة ومناضلون بارزون، وشيئا فشيئا صرنا نلمس حقيقة هذه الظاهرة التي نشأت ابان حل تنظيم الحزب في القطر السوري وفشل تجربة الوحدة مع مصر التي خلقت أوضاعا سلبية ومريضة لدى بعض الحزبيين، وفي سوريا عموما، فاستغلها هذا النفر من العسكريين المتآمرين والمغامرين لانتهاج هذا السبيل المنحرف والعمل من خلاله للاستيلاء على الحزب والبلاد.
ولما لم تجد كل وسائل الحوار والاقناع والردع بالعقوبات الحزبية ضد هؤلاء، وتأكدنا من تصميمهم على تنفيذ مخططهم الخبيث، وقفنا في وجههم بشكل حاسم لا يقبل الالتباس ولا التردد، حرصا على سلامة خط الحزب وإنقاذا لمستقبله، وصيانة لمصير البلاد من هذا الخطر المزدوج، خطر الطائفية السياسية البغيضة والتسلط العسكري. ولجأت هذه الفئة الى التآمر واغتصاب السلطة، وضرب الحزب بقوة السلاح، وصار واضحا لأصغر مناضل في الحزب ولأوساط واسعة من الشعب ان السلطة في سوريا أمست في قبضة فئة عسكرية ومدنية ذات نهج طائفي تستغل طائفة معينة في البلاد استغلالا خبيثا لبسط تسلطها وتحقيق مآربها مستفيدة من نفر من الأتباع المنتفعين الذين لا يملكون من حقيقة السلطة الا القشور، ورغم ذلك فقد عز علينا ان نشير صراحة الى هذه البدعة في تاريخ سوريا وفي تاريخ حزب البعث، فسمينا انقلابيي (23) شباط بالقطريين. وقد كانوا بالفعل كذلك لانهم تآمروا على وحدة سوريا ومصر وتآمروا فيما بعد على كل مشروع وحدوي سنحت فرصته، وكان آخر تآمر لهم على الوحدة قبل اقل من عامين عندما اقتضت ظروف مقاومة المؤامرة التي تمخضت عن اتفاقية كامب ديفد، ان تجمع اكبر عدد من الدول العربية في موقف موحد رافض لخيانة السادات وإقدامه على عقد الصلح مع العدو الصهيوني.
وكان الميثاق القومي بين ثورة العراق والنظام السوري، ثم مشروع توحيد القطرين، فاعتبرنا ان فرصة ثمينة عرضت لذلك النظام لكي يخرج من المأزق التاريخي الذي يحاصره ويصحح ما فيه من أمراض وانحرافات ويكسب شرف المساهمة في أنبل وأعلى انجاز وحدوي هو أمنية الجماهير العربية في كل مكان.
وجاءت الصدمة عنيفة مبددة للأحلام والأوهام كاشفة مرة أخرى عن الطبيعة التآمرية لهؤلاء الأشخاص وتضحيتهم بالمبادئ والأهداف القومية العليا في سبيل سلطتهم الشخصية، وتأمين مصالحهم الخاصة ولو على حساب دور سوريا القومي، ولو ضد ارادة الشعب الصريحة الواضحة.
وكان طبيعيا ان يكون فشل مشروع الوحدة عاملا جديدا اضيف الى عوامل عديدة للاستياء الشعبي الذي اخذ يعبر عن نفسه بجرأة متزايدة ضد هذا النظام المتسلط والمنحرف. ورد النظام المتسلط والمعزول بالقمع الوحشي والمذابح الجماعية في المدن والقرى بشكل لم تعرفه سوريا في احلك العهود الاستعمارية، وقد توج هذا النظام المجرم اجرامه باغتيال الشهيد صلاح الدين البيطار، لان الشهيد كان في الأشهر الاخيرة الصوت المدوي الذي فضح جرائم ذلك النظام والضمير الحر الذي انتصر للشعب في محنته الرهيبة. لقد اراد النظام السوري من وراء جريمته الاخيرة النكراء ان يقول ويفهم الجميع بانه لن يتورع عن ارتكاب اي شيء في سبيل المحافظة على بقائه في كراسي الحكم ومغانمه التي يتمتع به، ولكننا كنا نعرف ذلك عنه منذ مؤامرة 23 شباط لأنه بتآمره على الحزب قد ارتكب كبيرة الكبائر.
ومنذ ذلك الحين لم نعد نستغرب شيئا مما يصدر عنه، لا تسليم القنيطرة بدون قتال للعدو الصهيوني في حزيران عام 1967، ولا ذبح المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر، ومناضلي الحركة الوطنية اللبنانية عام 1976، وقد برهن هذا النظام انه فاقد لأبسط الضمانات الوطنية والاخلاقية، فمن اجل أي المثل والمبادئ وفي سبيل تحقيق أي البرامج والاصلاحات يجيز رئيس النظام السوري لنفسه ان يبقى في الحكم رغم رفض شعب سوريا لحكمه ونظامه؟ ومن اجل أي الاهداف القومية يجيز رئيس النظام لنفسه ان يقوم بالمذابح الجماعية للشعب وان يرتكب جنوده كل المحرمات والكبائر وهو ما لم يقدم عليه مستعمر غاشم في أحلك عهود الاستعمار؟
أربع عشرة سنة في الحكم منذ 23 شباط 1966، اربع سنوات كان فيها وزيرا للدفاع وركنا اساسيا في الحكم الشباطي ثم السنوات العشر الاخيرة هو الحاكم المطلق، فهل هذه المدة لا تكفي لكي يطبق الحاكم أفكاره ومشاريعه لكي يظهر من خلال هذه المدة ما عنده وما هو قادر عليه وما هو عاجز عن تحقيقه؟
فهل استطاع خلال هذه السنين العشر التي كان فيها الحاكم المطلق ان يكسب ثقة الشعب؟ واذا لم يستطع كسب ثقة الشعب فما عساه يستطيع تحقيقه دون هذا الشرط الاساسي؟ هل الحاكم المقبول من الشعب بحاجة لوضع نصف جيشه لمحاصرة المدن والقرى في بلده ودك ابنيتها بالمدافع على سكانها؟ هل يخاف الحاكم إن هو ذهب على وطنية الشعب العربي في سوريا، وهل يخشى فعلا على شعب سوريا ان يمشي في سياسة كامب ديفد، ام ان اصرار هذا الحاكم على البقاء في الحكم هو الذي يعرض سوريا للانقسام والتقسيم والحرب الاهلية التي هي شرط من شروط نجاح كامب ديفد والصلح مع الكيان الصهيوني وسيطرة هذا الكيان على المنطقة كلها؟ اننا نخاطب اولئك الذين يستغلهم النظام استغلالا خبيثا ضد مصلحتهم الحقيقية وضد مستقبلهم ومصيرهم وضد ارادة شعبهم وامتهم من اجل تأمين التسلط والانتفاع لافراد قليلين من اتباعه، كما نخاطب الذين لا يزالون يماشون هذا النظام ويسكتون عن جرائمه بدافع الخوف او عدم تقدير مسؤوليتهم الوطنية والقومية، ألم يحن الوقت لكي يكون لهم موقف جريء ينقذون به وطنهم وكرامتهم؟
واننا نقول لشعبنا الأبي في سوريا العربية اننا لن نتركه وحده في مواجهة هذا النظام الشعوبي الحاقد، ونعاهده على ان نجعل من تحرير سوريا بداية لنضال جماهيري متصاعد يصحح الأوضاع في الاقطار العربية ويقضي على خيانة السادات ويرجع مصر الى ساحة النضال القومي.
ايها الاخوة والرفاق المناضلون
هدف عزيز على كل حركة ثورية اصيلة هو ان توصل عن نفسها اصدق صورة الى جماهيرها، وان تنتصر على التشويهات والافتراءات التي يصنعها اعداؤها ويلصقونها بها، كما تسعى ان تتغلب على التشويهات والالتباسات الناجمة عن اخطائها او تقصيرها او غفلتها او عدم سيطرتها على نفسها او على منتسبيها.
وقد اردنا ان يكون حكم الحزب في العراق الصورة المشرقة للبعث في وجه الصورة القاتمة المريضة المشوهة التي يمثلها المتسلطون في سوريا.. أردنا ان تتجمع في حزبنا في العراق وفي ثورته المظفرة كل السمات العربية التي ميزت حركة البعث منذ ولادتها، وان تتعزز ثقة جماهير الأمة العربية بهذه الحركة التاريخية، وتميز بين الأصيل والدخيل وبين المنشأ الشرعي الصادق والادعاء المزيف الملفق. أردنا ان يجسد حزبنا في العراق هذه الحقيقة الناصعة الجوهرية التي قام عليها الحزب، وهي ان البعث لا يمكن الا ان يكون مع الشعب مدعوما بإرادة الشعب ومحاطا بحب الشعب، وان البعث بالتالي لا يمكن الا ان يكون ديمقراطيا مؤمنا بالحرية وبكرامة الانسان وبروح الأمة وأخلاقها ورسالتها. وقد كان على حزبنا ان يرفع صرح الحق ليدحض بنيان الباطل، ان يبرهن على كل ما في البعث من قدرة على البناء ليفضح العجز والفراغ والزيف في عمل المفترين على البعث المنتحلين لاسمه، ان نقدم البديل القومي الحضاري الاخلاقي ليس للاوضاع المتردية في سوريا فحسب بل صورة مصغرة عن المستقبل العربي وهي ما تمثله اليوم تجربة الحزب في العراق، تجربة حزب اصيل مناضل وقائد تاريخي هو الرفيق العزيز صدام حسين. ان في بعض اقطارنا العربية وفي القطر السوري بخاصة حالات متفجرة تقتضي من جميع الحركات والفئات والقيادات العربية تعميق وتطوير التشاور والتعاون وصولا الى العمل النضالي المشترك، كما تقتضي تحكيم المصلحة القومية العليا، والمقاييس القومية التقدمية، والنظرة العقلانية التي تستبق مخططات الاعداء من الامبرياليين والصهاينة وعملائهم وأدواتهم لتقطع عليهم طريق استغلال هذه الحالات وتنفيذ مخططاتهم الاجرامية في زيادة تمزيق قوميتنا وأواصر مجتمعنا.
ايها الرفاق الاعزاء
ايها المناضلون العرب الاحرار
لقد خسرنا باستشهاد صلاح الدين البيطار رفيقا عزيزا ومناضلا صلبا ومفكرا كبيرا وقائدا بارزا من قادة النضال القومي، واذا كانت خسارتنا باستشهاده فادحة الى أبعد الحدود، فان متطلبات الوفاء لشخصه وللقضية التي استشهد من اجلها تحتم علينا مواصلة العمل والنضال بدون تردد وبدون كلل من اجل القضية القومية، قضية تحرر الأمة ووحدتها ونهضتها الحضارية وتحرير ارضها المغتصبة.
لقد عمل صلاح الدين البيطار من اجل كل العرب وقد ناضلت سوريا وضحت كثيرا في سبيل العروبة، ومن حق صلاح الدين البيطار ومن حق سوريا على العرب ان يتحملوا مسؤوليتهم ازاءها وهي تعيش محنتها القاسية.
ان ما يجري في داخل سوريا ليس قضية حزبية، وليس صراعا بين تيارات سياسية، بل قضية شعبية، قضية قومية، تهم كل الاحرار من العرب، كل الشرفاء من ابناء الأمة الذين يرفضون الانحراف والتسلط والخيانة والذين يؤمنون بالانسان والشعب والأمة. اننا ندعوكم الى الانتصار لسوريا العربية التي انتصرت لمصر وللجزائر ولتونس وللخليج العربي ولكل جزء عزيز من أجزاء الوطن العربي، ندعوكم الى الوقوف بجانب شعبها الجريح، اننا لا ندعوكم الى موقف حزبي او موقف سياسي معين، انما ندعوكم الى موقف قومي عربي نابع من ضميركم ومن وجدانكم، من حرصكم على أمتكم وعلى سمعتها ومكانتها ومستقبلها.
والسلام عليكم.
4 أيلول 1980
—————————————–
حوار بين القائد المؤسس وجرحى معارك القادسية
في الزيارة التي قام بها الرفيق ميشيل عفلق الأمين العام لحزب البعث العربي الإشتراكي للجرحى الراقدين في إحدى المستشفيات العسكرية بتاريخ 16/10/1980 جرى حوار مع هؤلاء الأبطال، افتتحه القائد المؤسس قائلا:
– ان انتصارات جيشنا العراقي الباسل، جاءت نتيجة إجتماع الشجاعة مع الإيمان والحق وروح العدل، فبهذه الروح التي تشكلت فيكم، لم يعد هناك شك بأن كل الأراضي العربية المغتصبة ستُسترجع بقوة الشباب من أبناء العراق، وبقوة كل الشباب العربي.. فلقد شاركتم مشاركة عظيمة وأنتم في بداية الطريق، وإن أمامكم معارك كثيرة، وهذه المعركة بداية لمعركة فلسطين التي تنتظركم وإن العالم كله يشهد بأن العرب انتصروا بفضل شجاعتكم وإقدامكم.
إن الشعب العراقي كان دوما مُجسدا للروح العربية وقضاياها المركزية وبصورة خاصة قضية فلسطين، وجيش العراق هو جيش العقيدة، لأنه جيش مُكتمل السلاح ماديا ومعنويا وان العقيدة التي يحملها كفيلة بأن تحقق النهضة العربية والانتصار على كل أعداء الأمة وقضاياها المصيرية، فالعراق هو القطر العربي المؤهل لتطبيق مبادئ عقيدة البعث تطبيقا سليما، ولقد قطع شوطا كبيرا في هذا الميدان…
* نحن على استعداد تام للعودة الى ساحة القتال دفاعا عن سيادة العراق وحقوقه المشروعة في أرضه ومياهه الإقليمية وفقا لتوجيهات قيادة الحزب والثورة وعلى رأسها الرفيق القائد صدام حسين، إننا لم نعط للوطن إلا القليل وأملنا كبير في اخواننا ورفاقنا الذين يواصلون تحقيق الانتصارات ويلقنون الطغمة الخمينية الباغية دروسا صعبة تُسقط كل أوهامهم الفارسية القديمة وأحلامهم المزيفة التي انهارت امام ضربات قواتنا الظافرة.
– بفضلكم وبفضل القائد صدام حسين توصلت أمتكم الى هذه النتائج.
* سيدي من يفدي الوطن اذا كنا نحن لانفديه..؟ والله وانني لن أرضى على نفسي الا اذا استشهدتُ في أرض المعركة.
– لا نستغرب.. بهذه الروح المعروفة عنكم وعن الشعب العراقي ستحطمون كل الأصنام انشاء الله.. الشعب العراقي كان دوما مجسدا للروح العربية، وبخاصة قضية فلسطين، وقضية فلسطين بالنسبة للعراق كانت دوما هي الهدف.
* وقد توجه أحد المقاتلين الجرحى بالرجاء الى الرفيق القائد المؤسس بالعودة الى ساحة المعركة ليشفي غليله من الأعداء..
– أديتم الواجب وإخوانكم ينوبون عنكم.. فرصة البطولة متوفرة لأي شعب في العالم خاصة الشعب العربي، لأن الظلم الذي وقع على العرب كان رهيبا، ولا توجد أمة تكاثر الظلم عليها من كل جانب مثل أمتنا. نحن معتزون ببطولتكم، نتمنى لو نقدر أن نقلل جزءا من الآلام التي تعانونها.. هذا شرف ومصدر اعتزاز.
* سيدي.. لقد قدمتم الكثير ومازلتم..
– نحن ما قدمنا شيئا أمام تضحياتكم.. والحمد لله لأن شعبا ينجب مثل هؤلاء الشباب الأبطال، ليس هناك خوف على مستقبل الأمة. هل تشتاقون العودة لساحة المعركة؟
* نعم والله يا سيدي.
– هناك معارك ثانية.. أنتم شباب البعث قدمتم الكثير ومعنوياتكم تبشر بأن معاركنا المقبلة سوف تكون أكثر نجاحا وأكثر تقدما في المهمات والنتائج، ها نحن نطوي صفحة الهزائم.. من الآن فصاعدا كلها انتصارات.
* ان حبنا لقيادتنا الحكيمة جزء من حبنا لوطننا العزيز ونحن نفدي القائد صدام بعيوننا.
– اول صفة للقيادة هي الصفة الشعبية، والحب والوفاء ومزايا ثورية كثيرة، والشعب برهن على حبه الحقيقي له، وإنشاء الله سيرى العالم من العرب شيئا أكثر وأروع.. هذا برهان عملي، وهو أكبر برهان، عندما يضحي الجنود بأرواحهم، وهو برهان على صدق المبادئ، ونحن نعتز بشعبنا، وما زالت الطريق طويلة والمعارك كثيرة، وكلها خطوات على طريق تحرير فلسطين.
نحييكم ونحي روحكم وشجاعتكم وأنتم فخر الأمة العربية، كنتم أمناء حقا بأداء الواجب.. فأنتم الطليعة، والعرب كلهم بهذه الروح، أملنا كبير بشعبنا، وإن انتصار العراق انتصار لكل العرب.
* لقد حطمنا غرور العنصريين الفرس ولقناهم دروسا قاسية.
– اجل.. لكي يشفوا من غرورهم، المعركة درس كبير.. انشاء الله اهم المعارك القادمة تنتظركم.. معركة فلسطين وأنتم أجدر من يتقدم، أنتم الطليعة وليس هناك من خوف على أمتنا وأنتم جنودها وأبطاله. لقد جسدتم أصالة القيادة التاريخية وشجاعة الجندي العراقي وبسالته، ونحن لنا مطامح أكثر بكثير من هذه المعركة مع أنها معركة عظيمة وخالدة، الأمة العربية صاحبة رسالة عظيمة.. وفلسطين تنتظركم.
* انهم يتوهمون النيل من..!!
– دعهم بأوهامهم.. لأن الأوهام كفيلة بأن تقضي عليهم. ان انتصاراتكم أمثلة للأجيال العربية وبعث روح جديدة في الأمة، وأنتم ستكونون القدوة والقبلة انشاء الله..
حققتم نصرا كبيرا للعراق والعرب كلهم، الشجاعة موجودة، والإباء موجود، جاء ت الفرصة في حينها، في وقت أنتم بحاجة لأن تعبّروا عن قوتكم وكذلك الشعب العربي كله، إن الوطن لا يعيش الا بهذه الروح، روح (الفداء)، وعندما يكون الوطن بخير، والمعركة ظافرة، والجيش منتصر، الآلام تنسى ولا نشعر بها..
لقد تمثلتم المثل الرائعة التي تعودنا عليها، وما كنا بحاجة الا للعقل القيادي الكبير لكي تعبر هذه الشجاعة وهذه البطولات عن حقيقتها، وهذه المبادئ هي الكفيلة بتحقيق النهضة العربية والانتصار، والعراق هو القطر المؤهل لتطبيقها تطبيقا سليما.
16 تشرين الاول 1980
——————-
معركة الدفاع المشروع عن الذات
*(1) في هذه المناسبة الخالدة، مناسبة تأسيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق وقبلها مناسبة الانتصارات التي حققها جيشنا وشعبنا في العراق والأمة العربية، اسمحوا لنا أن نرجع الى مقولاتكم في كتاب “في سبيل البعث” حول الرسالة العربية الخالدة، حينها تحدثتم عن الأمة العربية، هي نفس تلك الأمة التي كانت قبل ألف وألفي عام، وان ما يتحقق من انتصارات اليوم، انما يعد امتدادا لانتصارات الأمة العربية السابقة، بما يؤكد ما جاء في مقولاتكم حول الرسالة العربية الخالدة، نرجو من أستاذنا الكبير القائد المؤسس أن يتحدث إلينا عن تصوراته لما أفرزته هذه المعركة القومية الظافرة وما سوف تفرزه على صعيد النضال القومي.
– نحن نعيش أياما خالدة سيكون لها الأثر العميق والحاسم على مستقبل الأمة العربية، لا نرى فيها تحقيقا لمقولة واحدة، إنما لكل أفكار الحزب، وللتصور الأساسي لحزب البعث، مما يدل على أن حزبنا في هذا القطر كان دوما عميق الصلة بفكر الحزب، عميق الصلة بأمته وسجاياها، وأخلاقها، و بطولاتها.
ومهما أشدتُ بقطرنا العراقي العظيم وبشعبنا العظيم في هذا القطر، فإنني لا أوفيه حقه، هذا الشعب الذي أفرز الصورة الأصيلة المشرقة لحزب البعث، حزب المناضلين الشجعان الأخلاقيين، هذا الشعب الذي أنجب القائد التاريخي الرئيس صدام حسين هو نفس ذلك الشعب الذي حمل مشعل الرسالة في الماضي، وأقبل على الشهادة بفرح وغبطة وشعور بأنه يصنع التاريخ لأمته وللإنسانية، هذا الشعب يتمتع الآن بالروحية نفسها وبالطاقة نفسها، بالقدرات التي لم تنعدم وإنما كانت كامنة وغافية، وكان عمل الحزب هو تذكير الشعب بهذه الأصالة وبهذه القدرات الخارقة الكامنة، كما كان عمله الأساسي توفير المناخ الملائم لتفتح هذه القدرات وازدهارها، وذلك ببناء الشروط الموضوعية والشروط الذاتية للمجتمع العربي الجديد، الشروط الاقتصادية والاجتماعية والنهوض بمستوى الجماهير الواسعة التي يكمن فيها الخير، وتكمن فيها الطاقات الهائلة والنوازع الخيرة للبناء والتضحية. والشروط الذاتية وهي دوما الأهم، أي بناء العقل والفكر والنفسية الواثقة والطموح، والعقيدة أن الحياة إنما هي رسالة، ليست للعيش الاستهلاكي، وإنما هي للعطاء والبناء الخالد وللبطولة وللتعبير المتجدد عن الإيمان بالقيم السماوية والقيم الإنسانية الرفيعة الخالدة.
من أهم مقولات حزب البعث… الثقة بالإنسان والثقة بالشعب، وأهم ميزة للقائد التاريخي وللقيادة التاريخية هي الإيمان بالإنسان العربي والإيمان بشعبنا العربي، فعندما يتحقق هذا الإيمان بصدق وعمق، يخلق المعجزات ويتم التفاعل والتكامل والإندماج بين القائد وبين الشعب، فيصبح القائد هو الشعب ويرى الشعب ذاته ومستقبله متجسدا في عمل القائد. في الكتابات القديمة، هذا القول ” اذا وثق فرد واحد بنفسه وثقت الأمة كلها بنفسها”، فالثقة بالأمة هي ثقة بالنفس، مادمنا أبناء هذه الأمة المجيدة، وعندما نثق بأمتنا وبأصالتها وبخلود روحها وبإمكان تجدد قدراتها وسجاياها وبطولتها، فان هذا يمدنا بثقة لا حدود لها بأنفسنا وبعدالة نضالنا وبحتمية انتصارنا، الثقة والإيمان بالشعب هو صورة عن الإيمان بالله، وقديما قيل بان صوت الشعب من صوت الله، وروح الشعب من روح الله. كان لا بد ان يبدأ الانبعاث من قطر من اقطار العروبة، من أرض تحررت قبل غيرها لتصبح القاعدة والمنطلق، أن تصبح قاعدة للإعداد والتهيئة الجدية الطويلة النفس، وعندها يكون نهوض الأمة سهلا ويتم بسرعة أكثر مما هو متوقع، لأن بذور الخير موجودة في كل عربي ولأن الاستعداد للنهضة والانبعاث هو استعداد قوي عميق، برهنت عليه امتنا في هذا العصر بأقوى البراهين وأسطعها في ثورات عديدة، وبدايات نهضة شاملة وبروح البطولة والتضحية التي لم تنضب من الأرض العربية، ولكن لابد للانبعاث الجديد لكي يكون في مستوى الرسالة العربية، وفي مستوى الماضي المجيد العريق، وفي مستوى هذا العصر الذي نعيش فيه، ولكي تسترد الأمة العربية مكانتها ودورها بين الأمم وتبلغ رسالتها من جديد، لا بد لهذا الانبعاث أن يتجاوز مرحلة العفوية وأن تتهيأ له شروط عديدة، وأن يكون مستندا الى فكر قومي إنساني وشمولي، وهذا ما نعتقد انه تحقق لحزبنا – وتحقق بصورة ممتازة لحزبنا في العراق.
كان لابد لهذا الإعداد البطيء الذي يعطي اليوم ثماره الناضجة، أن يقابل من قبل بعض الأنظمة والطبقات المستغلة، المتسلطة، في بعض الأقطار العربية، بالخوف والذعر وبالعداء كموقف دفاعي عن وجودهم وعن مصالحهم غير المشروعة، فهذا شأن كل الرسالات وشأن كل النهضات الأصيلة، لا بد أن تعدم مواطن المرض والفساد في الجسم القومي، لكي تقضي عليها بأن تشيع حالة صحية في مجموع الجسم القومي، حالة نهوض واثقة بالنفس وتوق وحنين الى الأمجاد، الى التراث، والى التحرر والحياة الحرة النظيفة. فعندما نرى هذا التجاوب مع معركتنا لدى الشعب العربي في كل أقطاره، لا نشك لحظة في أن الروح التي عبر عنها شعبنا في العراق ستنتشر وستجرف بقايا المرض والفساد.
هذه الحرب في واقع الأمر، هي حرب دفاعية اضطررنا اليها دفاعا عن هذا القطر الأساسي في الوطن العربي وفي جسد الأمة العربية، هذا القطر الذي هيأه تاريخ ألوف السنين ليكون مؤتمنا على التراث القومي الروحي والحضاري ومجددا لهذه التراث. فعندما يهدد في وحدته ليس في الأرض فحسب، وإنما في وحدة الشعب وتماسكه فان دفاعه عن نفسه مشروع وواجب، لأنه ليس قطرا فحسب، بل هو مسؤول عن الأمة العربية أكثر من أي قطر آخر، ودفاعه مشروع عندما نتذكر الجهد الذي صرف في هذا القطر بشكل استثنائي منذ ثورة 17 تموز ولحد الآن، فهي التجربة الثورية العربية الوحيدة التي كتب لها النجاح والازدهار، فلو فرطنا بها لكانت الخسارة عميمة على الأمة العربية كلها وعلى مستقبلها. وهذه الحرب الدفاعية مشروعة لأنها ايضا، انما تستبق الأخطار المبيتة والمحدقة بمستقبل الأمة العربية، هذه الأخطار التي تهدد بنيان الأمة بالتفتت والتفسخ فتكون هذه الحرب الدفاعية إنقاذا لشخصية الأمة ولقوميتها ولأساس تماسكها ووحدتها، فهي بالفعل جهاد بالنيابة عن الأمة العربية كلها وعن أجيالها المقبلة، ولنقل بصورة أوضح أن الاستعمار والامبريالية والصهيونية وكل القوى الشريرة في العالم جعلت ومنذ بداية القرن على الأقل هدف عدائها وتآمرها الأمة العربية بالدرجة الأولى، للموقع الممتاز الذي توجد فيه أراضيها ولما في هذه الأراضي من ثروات ولتاريخ هذه الأمة الحضاري والروحي الذي يهدد القوى الاستعمارية بزوال سيطرتها واستغلالها، فيما لو بعث من جديد، لذلك فان الاستعمار والصهيونية وكل القوى الشريرة ذات المصالح الاستغلالية الآثمة مستعدة أن تهادن وتساوم اي شعب وأي بلد اذا كان لها مطامع فيه بغية أن تركز عدائها على الأمة العربية. ان بلدان العالم الثالث كلها كانت ضحية الاستعمار والتوسع والاستغلال وما زالت مهددة دوما بعودة الإستعمار في أشكال جديدة ولكنها لا تشكل العدو الأول للاستعمار والصهيونية والقوى الاستغلالية كما هي الأمة العربية.
فالأمة العربية في هذا العصر تخوض معركة الدفاع المشروع عن الذات، عن البقاء، عن إرادة الحياة وعن إرادة النهوض وليس طبيعيا او منطقيا أن تصطدم أي حركة تحرر في العالم الثالث مع الثورة العربية لان هذا الاصطدام والتناقض عندئذ يكون مشبوها ويكون بكل يقين، في حصيلته، لمصلحة القوى الاستعمارية والصهيونية، وأخيرا فلهذه الحرب مشروعية تتميز على كل ما سبق ذكره هي انها كانت مناسبة لتفجر قوة عربية من نوع جديد ومن نوع أصيل وتاريخي وهذه القوة ليست قوة مادية فحسب، وليست قوة مادية بالدرجة الأولى، بل انها قوة روحية وفكرية، قوة إيمان وعقل منفتح، سيطرت على المادة سنين طويلة وبنتها وطوعتها وبنت هذا البناء المتكامل الذي أتاح لهذه البطولات الخالدة أن تتجلى في هذه الحرب، كما أتاح لهذا الشعب العظيم في القطر العراقي ان يفاجئ نفسه بالعطاء والتضحيات، وبسمو في الروح واستعداد للنهوض والتقدم بشكل رائع، كان لا بد أن يحصل لكي تسترد الأمة العربية ثقتها بنفسها، ولكي تتصل من جديد بمعنى وجودها ولكي تتغلب على حالة اليأس والتردي المتفشية في أوضاعها الراهنة. لو لم يكن لهذه الحرب غير هذا المبرر، ولو لم تفرز الا هذا الجانب لكانت حربا مشروعة ورائدة وخالدة.
* ناضل الطلبة البعثيون في العراق كما تعلمون منذ فترة انطلاق البعث في قطرنا وأطرت نضالهم أسماء عديدة منها الطليعة الطلابية التقدمية لسنوات عديدة منذ الخمسينات وحتى حكم عبد الكريم قاسم، واستطاع في 23 تشرين الثاني عام 1961 من دعوة القاعدة الطلابية يمثلها الاتحاد الوطني لطلبة العراق، ولقد كنتم استاذنا الكبير القائد المؤسس مع طلبة العراق والأمة العربية في نضالهم واليوم اذ تصادف الذكرى 19 لتلك الانطلاقة يشرفنا أن نستمع اليكم أيها القائد المؤسس وأنتم تستعيدون ذكرياتكم عن دور طلبتنا في القطر، خاصة وقد كنتم مهتمين بنضالاتهم في تلك الفترة الهامة.
– كنت فخورا ومعتزا بحركة الطلاب البعثيين في العراق وبنضال الاتحاد الوطني، ولا أنسى كل ما قام به الاتحاد في فترات عصيبة وحاسمة من تاريخ هذا القطر الوطني والقومي، وأذكر بالتقدير للاتحاد الوطني التضحيات التي قام بها، والتي وصلت حد الاستشهاد، ولها في نفسي أعمق الذكرى وليس بعد الشهادة برهان على صدق الإيمان وصدق العقيدة وتجرد أصحابها عن الأغراض الزائلة وانصهارهم في مبادئهم وفي أهداف الأمة وطموحها، والشباب كان في حزبنا هو المؤهل منذ البداية لان يستوعب معنى المسؤولية التاريخية التي حملها نداء البعث الى الأجيال العربية والأمة العربية وكان هو العنصر المجدد للروح الثورية، ولأخلاقية الحزب في مجموع الحزب، ليس في عهود النضال السري والسلبي فحسب، وإنما في عهد استلام السلطة من قبل الحزب، كان للشباب البعثي دور أساسي في ابقاء شعلة القيم الثورية والنضالية وهّاجة، وإبعاد الحزب عن أمراض الاسترخاء والترهل والنفعية التي فتكت بثورات أخرى، وبقيت ثورة الحزب في هذا القطر سالمة منها، هذا المناخ الصحي الأخلاقي الذي يحيا فيه شبابنا وطلابنا البعثيون والذي أهلهم دوما لان يكونوا مستنفرين دوما للنضال ويؤهلهم في هذا الظرف بالذات أن يكونوا في طليعة الحاملين لأعباء المسؤولية، مسؤولية الحرب.. إن هذه الروح لم تبق محصورة في نطاق الحزب بل إن الشباب البعثي أشاعها في حياة الشعب كله وادخلها الى كل بيت في هذا القطر حتى فوجئنا بهذه الظاهرة الرائعة وهي تسابق المواطنين الى الفداء من كل الفئات، رجالا ونساء، فتيانا وشيوخا بشكل يعزز ثقتنا بأمتنا وهذا بلا شك بتأثير القيادة التاريخية الفذة التي برزت في هذا القطر والتي كشفت لكل فرد من أفراد الشعب عن أعمق وأسمى ما تنطوي عليه نفسه من نوازع خيرة، فحدث هذا التفجر وهذا التسابق.
إني ابعث بتحيتي لشبابنا في الاتحاد الوطني قيادة وقواعد مع تقديري وتفاؤلي الكبير بمستقبل قطرنا وامتنا والسلام.
كانون الأول 1980
(1) حديثا شامل لمجلة صوت الطلبة بمناسبة الذكرى التاسعة عشرة لتأسيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق والانتصارات التي حققها العراق على الجبهة الشرقية
———————————
معركة عراق البعث
في البدء يطيب لي أن أوجه للجيش العراقي الباسل بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه (1) وبمناسبة الانتصارات الرائعة التاريخية التي يحققها على أرض المعركة، تحية حب وإعجاب واعتزاز، كما أعبر عن عواطف التمجيد والتقديس لأرواح شهدائنا الأبرار الخالدين في ضمير امتنا المجيدة.
كان جيش العراق دوما الجيش الأمين على المبادئ القومية، والمؤمّل لتحقيق أهداف الأمة العربية،كما كان دوما الجيش الذي لم يعرف غير النصر في تاريخه. ولقد انتقل هذا الجيش العظيم بتوجيه مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي وروحه وقيادته الفذة، نقلة نوعية الى مستوى البطولات التاريخية. لقد كان في الماضي جيش الأمة العربية، وهو اليوم جيش الرسالة العربية.
فهذه المعركة هي معركة عراق البعث، وجيش عراق البعث، بقيادة قائد تاريخي فذ، هو ابن العراق وابن البعث، توافرت له المؤهلات القيادية، الفكرية والخلقية والعملية على أروع صورة، لكي يعبر عن فكر البعث وطموحه، تعبيرا أصيلا مبدعا خلاقا.
فالبعث هو عقل ثوري، وأصالة عربية، والعقل الثوري هو العنصر الحاسم، لأن الأصالة كامنة في أرضنا وطبيعة شعبنا.. ولا بد من العقل الثوري لكي يفهم روح العصر ويتعامل معها، ويكشف عن الطاقات الكامنة، وبخلق المناخ لتفتح الأصالة وازدهارها، هذا العقل هو الذي بنى بالجهد الجبار الدؤوب طوال ثلاث عشرة سنة من عمر الثورة، المستلزمات والشروط والنفسية التي تصنع النصر، وقد يكون الشيء الأساسي الذي أحدثه البعث في الحياة العربية، هو أنه وصل الى الماضي الخالد، ماضي الرسالة السماوية الانسانية، عبر الثورة والمعاناة النضالية والفكرية والأخلاقية، وهذا ما يشاهد تطبيقه في القادسية الجديدة. اذ أن اتصالها بالقادسية الأولى وملامستها لروح الأبطال الخالدين الذين حملوا مشعل الرسالة الى العالم، جاء عبر الثورة والبناء والخلق والتجديد.. فكان الاتصال الحي الذي ينفذ الى الجوهر.
إن هذه المعركة التي ترتوي من نبع التراث والأصالة، انما هي بالدرجة الأولى معركة المستقبل والفجر الجديد المشرق للأمة العربية. هي معركة الأفكار الجديدة، ومعركة الحياة الجديدة، في مواجهة الجمود والتخلف والعنصرية والحقد والتي يمثلها حكام إيران اليوم.
لقد وصلت الثورة العربية قبل هذه المعركة، الى مأزق تاريخي، كان لا بد أن تجد لنفسها مخرجا منه. فمنذ عشرين عاما والجماهير العربية سجينة مكبلة، ترى الأهداف والطريق، ولا تستطيع التحرك الى الأهداف والسير على طريقها، ترافق هذه الحالة عملية تعمية وتضليل من قبل بعض الأنظمة والقيادات لتزييف الأهداف والانحراف بالطريق. وكانت الصعوبة في المرحلة الراهنة، أن المضللين كانوا من المتسترين بغطاء التقدمية والاشتراكية والعروبة وقضية فلسطين. وان الامبريالية والصهيونية وكيانها الغاصب المصطنع، كانوا يستفيدون من التضليل ويشجعونه من طرف خفي دون أن يقوموا به مباشرة.
فالمعركة في دوافعها العميقة، أي في الدوافع التي تولدها ضرورات التاريخ، ويهجس بها ضمير الأمة، هي لتصحيح المفاهيم، وتصويب الأهداف وفضح التزييف والقضاء عليه.
لا جدال بان معركة تحرير فلسطين هي المعركة الحاسمة في مسيرة النهضة العربية الحديثة، وأن هذه المعركة ليست مواجهة للكيان الصهيوني فحسب، وإنما للامبريالية الداعمة له أيضا. الانتصار فيها متوقف على مدى ما يستطيع العرب تحقيقه من وحدة وتضامن فعليين حقيقيين بين أقطارهم، وعلى مدى ما يستطيع كل قطر أن يحققه من إعداد جدي لهذه المواجهة، يقوم على مشاركة مجموع الشعب، وعلى علاقة الثقة القائمة بين الشعب وقيادته. ولقد أعطى العراق في معركته الراهنة، الصيغة الجدية للإعداد العقلاني الطويل، والصورة المشرقة للثقة العميقة المتبادلة بين الشعب والقائد وان الانتصارات البطولية التي يحققها جيش العراق على جبهات القتال ضد الفرس العنصريين، وتتلقف الجماهير العربية في الوطن الكبير أخبارها بلهفة واعتزاز، ستحرك في نفوس هذه الجماهير، بالإضافة الى شعور الثقة بالنفس والقوة والاقتدار، وعيا جديدا للأسباب والعوامل الفكرية والنفسية والمادية ولطريقة الحياة الجديدة التي أوصلت الى هذه الانتصارات، والتي بدأتها على أرض العراق ثورة السابع عشر من تموز المجيدة.
6 كانون الثاني 1981
(1) حديث خاص لمجلة “وعي العمال” بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس الجيش العراقي الباسل، وبمناسبة الانتصارات الني حققها على جبهات القتال في معركته ضد الايرانيين.
——————————
معركة المستقبل العربي
ايها المناضلون البعثيون (1)
يا جماهير امتنا العربية المجيدة
في هذه الايام الخالدة، تحل الذكرى الرابعة والثلاثون لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، وعراق الثورة يخوض معركته العادلة المشرفة دفاعا عن أرضه وسيادته ودفاعا عن سيادة الأمة العربية، وعن شخصيتها القومية ووحدة مجتمعها في الحاضر والمستقبل.
واول ما يتبادر الى الفكر في هذه المناسبة هو التساؤل عمّا إذا كان ثمة من علاقة عميقة وصميمة بين هذه المعركة وبين ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي، والجواب الذي يأتي عميقاً وصميمياً من خلال أربعين سنة مرت على ظهور هذا الحزب، يؤكد بان ميلاد الحزب في ذلك الحين، كما هي معركة العراق اليوم، هما دفاع عن قومية الأمة العربية وشخصيتها الحضارية وقيمها الروحية في ماضيها المشرق، وعن حقها في التحرر والوحدة ة والنهضة وبناء مستقبلها الحضاري وأداء رسالتها الانسانية.
فذكرى التاسيس في هذا اليوم تلقي اضواء جديدة على دوافع تأسيس الحزب ومنابع فكره ومسيرته النضالية الطويلة، وما حققته من اشراقات ونجاحات وما تعرضت
له من عثرات ونكسات وتآمر، حتى أوصلت الى تجربة مستقرة متوازنة، ناضجة ومشرقة، وقيادة فذة، حققت للعراق شعبا وقوات مسلحة هذا المستوى المرموق من الانجازات والمكاسب الجوهرية، توّجت بالبطولات الرائعة التي افرزتها المعركة، وبحالة النهوض الشامل، ايذاناً ببدء عهد جديد من القوة والمنعة واليقظة للامة العربية كلها.
وكما ان القادسية الجديدة تمد جسرا من الايمان والاصالة والبطولة، بينها وبين القادسية الاولى، كذلك فهي تمد جسراً من الوفاء الفكري والاخلاقي يصل بينها وبين نشأة الحزب والاجيال العربية الشابة،التي احدثت قبل اربعة عقود من السنين انعطافا حاسماً في مسيرة الثورة العربية، عندما شقت بين التيارات الفكرية المتصارعة من اليمين ومن اليسار، طريق العمل العربي الاصيل المستقل، طريق القومية الانسانية والاشتراكية العربية والعروبة المُجسِّدة لروح الاسلام وقيمه.
فالعلاقة بين التأسيس والمعركة علاقة حتمية وكاملة، لان معركة العراق هي اختيار للأسس التي قام عليها الحزب، وتدعيم لها وتعزيز وتجسيد للقيم الانسانية التي نادى بها منذ تأسيه وتدليل على صحة نظرته وتصوراته وطريقه.
فالحزب التاريخي هو الذي يكشف للامة في مرحلة حاسمة عن قدراتها الحقيقية وعن آفاق عملها ورسالتها في الحياة، وعن الطريق الذي تستطيع فيه ان ُتبلج اهدافها وتحقق ذاتها. وقد كان تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي كما هي معركة العراق اليوم كشفا ًعن القوى الكامنة في الشعب وتفجيرا لها بعمل جريء صعب يشبه الولادة، وهذا هو العمل التاريخي الخلاق، الذي ُيولد معه واقع ثوري جديد، وتبنى اجيال جديدة، وتتفتح آفاق جديدة للمستقبل.
ولقد كان البعث على موعد ا مع العراق منذ بداية التأسيس، عندما بادر البعثيون الاوائل منذ اليوم الثاني لثورة مايس 1941، الى تشكيل تنظيم لنصرة العراق، والمساهمة في معركته، وقد دعت بيانات الحزب الى اعتبار تلك المعركة مخاضا ً لبدء تاريخ جديد لان العراق قام ليحرر نفسه ويوحد العرب.
فالعراق أكد باستمرار إنه حصن المبادئ وارض البطولات وأمل الأمة والتعبير الحي عن ضميرها وإرادتها وطموحها، ومعركته اليوم هي امتداد متجدد لروح الانبعاث في الأمة.
ان عراق البعث ينوب اليوم عن الأمة العربية في الدفاع عن قوميتها وشخصيتها الحضارية، كما ينوب عنها في تحقيق حالة صحية من الثقة بالنفس والشعور بالاقتدار، لابد ان تنتشر في اوصال الجسد العربي كله. فأي جندي في جبهة القتال يعرف ويشعر انه يقاتل في سبيل الأمة العربية واستعداداً للمعركة الكبرى في فلسطين. ولم يكن العراق في يوم من الايام محققا ً كامل خصوصيته ومجسداً في الوقت نفسه أشمل مفهوم لعروبته الاصيلة وقوميته العربية الحديثة المتحررة، مثلما هو اليوم في هذه المعركة، ذلك انه عراق البعث، عراق المبادئ والاهداف الكبرى للامة.
انه لمدعاة للاطمئنان، ان يظل حزب البعث رافعا ً لواء القومية العربية والمدافع الاول عنها والمؤمن والمعتز بها، الوفي المخلص لها، بينما نرى الارتداد والتنكر يصيبان اكثر الانظمة المسماة بالتقدمية، والتي أدت تقدميتها الى رجعية جديدة، تتخذ التقدمية شعاراً تغطي به شعوبيتها،وبانتهازيتها واستهتارها بمقدسات الشعب وكرامته ومصالحه في سبيل التكالب على الحكم والاحتفاظ به بأي ثمن.
وانه لتأكيد لأصالة هذا الحزب وجديته ان يواجه في البدء، كما هو اليوم في معركة عراق البعث، العداء المتعدد المصادر للقومية العربية، وان يجد نفسه يدافع وكأنه يبدأ من جديد عن ابسط حقوق الوجود العربي ومقوماته، ليس تجاه الامبرياليين والصهاينة فحسب، بل ايضا تجاه من كان يفترض ان يكونوا جيرانا وأشقاء وعونا ً للامة العربية على اعدائها.
أليست العروبة هي المستهدفة قبل أية قومية اخرى وأية عقيدة اخرى من الاستعمار والصهيونية وكل قوى الشر والتسلط والاستغلال في العالم؟ أليس حقدهم عليها يرجع الى الحروب الصليبية والى ما قبلها، ولم نشاهد ان الغرب لاحق بعدائه شعبا بمثل الإصرار الذي لاحق به الأمة العربية؟ أليس بدافع هذا الحقد ومن اجل منع الوحدة العربية وتعطيل النهضة العربية اصطنع الغرب الكيان الصهيوني الذي اغتصب فلسطين وأصبح قاعدة كبرى للتوسع والعدوان؟ أليست العروبة هي المستهدفة قبل غيرها، لانها تستطيع ان تجمع وتوحد الشعوب الاسلامية وشعوب العالم الثالث، ضمن منظور حضاري تقدمي يحفظ لكل شعب شخصيته القومية وسيادته ويقيم التعاون على أساس الحرية لا القسر وباتجاه التقدم والمستقبل لا بعقلية التخلف والفوضى؟
هذا هو قدر العروبة، قدر صعب وعظيم تدل صعوبته على عظمته وتنبئ شراسة العداوة التي توجه إليه وضخامة العقبات التي توضع في طريقه عن غنى الإمكانات التي يحملها وعن جدية الخطر الذي تتوجس منه قوى البغي على مصالحها.
ان إصطدام عراق البعث بالعداء الفارسي العنصري، ليس اذن سوى حلقة جديدة من حلقات تلك السلسلة من المواقف المعادية للأمة العربية وقوميتها ووحدتها ونهضتها المعاصرة، وهو عداء تركز على البعث، لان فكر البعث ونضاله قد عبّرا عن روح النهضة العربية.
فالبعث حزب قومي، ولكنه يختلف اختلافا نوعيا ً وجوهريا ً عن الاحزاب القومية التي سبقته وعاصرته، فهو حزب قومي تحرري، ثوري، إنساني ومفهومه للقومية ليس مفهوما مجرداً، بل هو مفهوم حي، مستمد من حقيقة الشعب وحقيقة أحاسيسه ونفسيته ومعاناته ومقوماته الروحية، فهو اذن مستوعب للتراث ولثورية التراث، فقط ارتبط هذا المفهوم القومي الجديد برؤية جديدة للاسلام، تعتبر الاسلام التجربة الثورية العربية الخالدة التي جسّدت العطاء الروحي والاخلاقي والحضاري للامة العربية في أعلى صوره واقصى مداه، فالنظرة الثورية الى التراث قد اعطت المفهوم القومي الجديد ابعاده الروحية والاخلاقية والحضارية، وجعلت منه رؤية صادقة لحقيقة الأمة في طور انبعاثها، تكشف انواع التعسف والتشويه فيما كانت تطرحه الماركسية والسلفية والفكر النازي والفاشي من مفاهيم حول القومية والدين والاشتراكية والحرية.
فشعور البعث بعظمة التراث العربي الروحي والحضاري هو الذي جعل مفهومه للامة يقترن بالاصالة والابداع وبالحرية والاستقلالية وبالأبعاد الانسانية والتقدمية المستمدة من طبيعة العصر، وهو الذي جعله ينشد الحلول الجارية الكفيلة بتحقيق الانقلاب الشامل والعميق في حياة العرب المعاصرة.
قوميتنا هي الاساس والمنطلق والغاية. نقدس قوميتنا ونقدس الشعور القومي الايجابي عند الشعوب الأخرى. ان ادراكنا لإنسانية قوميتنا أوصلنا الى تقرير حقيقة عامة هي حقيقة القومية، بالنسبة الى جميع الشعوب، فهي وسيلتنا للتعبير عن إنسانيتنا وممارسة قيمها، من اجلها بحثنا عن الحل الاشتراكي لكي نرفع الظلم الاجتماعي عن شعبنا لكي يعرف الشعب السعادة والعدالة والحرية، لكي تتفتح كل مواهبه وقدراته، ولكي يضع كل إمكاناته وقواه في بناء مجتمعه، ويعيد لامته مكانتها ودورها الحضاري لكي يساهم في بناء الانسانية الجديدة وينصر الحرية ويكافح الظلم والاستعمار والهيمنة.
ومن اجل قوميتنا ولكي يكون مجتمعنا صحيحا سليما أكدنا ضرورة الدين وانه حاجة ملازمة للنفس الانسانية التي تلبي مطلبا عميقا واساسيا فيها، وان الدين خالد وان كانت أشكال التدين ومستوياته خاضعة للتطور، وهكذا كان الدين الحقيقة الانسانية الثانية التي اكدها الحزب منذ بدايته، في وقت كان الفكر المادي الإلحادي يغزو عقول الشبيبة العربية مستغلاً ظمأ هذه الشبيبة الى التحرر والانعتاق والى الثورة والتجديد.
ومن اجل قوميتنا ولكي تكون صحيحة وصادقة ومكتملة الجوانب والأبعاد الروحية والاخلاقية والحضارية، نظرنا الى اعماق هذه القومية والى جذورها والينابيع التي تنهل منها، فوجدنا الاسلام أهم وأعمق حقيقة في تكوينها وانه روحها وافقها الاخلاقي والانساني.
لقد طرح فكر البعث ذلك كله في وقت شاعت فيه الدعوات التي تنكر القومية والدين او تشوههما وتستغلهما، وفي وقت كانت فيه الاشتراكية مطروحة كنقيض للقومية، وتيار الثورة والتجديد نقيضاً للاستقلالية والأصالة والتراث الروحي. فكان لابد ان يصطدم فكر البعث ونضاله بقوى وبأفكار كان بعضها مدفوعا بالخطأ والالتباس وبعضها الآخر مدفوع بها بغرض الإساءة وينطوي على العداء والتآمر. وها هي المعركة على حدودنا الشرقية تكشف عن موجة تاريخية من العداء المتجدد تطرح نفسها في صور جديدة من التشويه للمفاهيم وللقيم الروحية وللمعاني الثورية والحضارية.
ان الأمة العربية منذ بدء نهضتها المعاصرة قبل قرن ونصف وحتى المعركة الراهنة كانت تقف مدافعة،فهي تتلقى العدوان والغزو، وُتقتطع ارضها، وُتسلب حقوقها، وهي صامدة للموجات الاستعمارية والامبريالية والصهيونية، فقد كانت الهجمات على الأمة العربية من كل جانب وبكل الاسلحة لتفتيت قوميتها وشخصيتها، حتى الحركة الشيوعية وثورتها لم تعترف للأمة العربية وللقومية العربية بخصوصيتها، فقد صنفتها مع القوميات التي نشأت الشيوعية لمحاربتها، مع قوميات الغرب التوسعية الاستعمارية.
وبعد قرن ونصف من بدء اليقظة العربية الحديثة، وبعد أربعين سنة من نضال حزب البعث، تأتي المجموعة الحاكمة في ايران لتتهم القومية العربية بالتهم نفسها وهي لا تقف عند حدود اتهام قوميتنا، وانما لتعمل على تفتيتها والقضاء عليها، وانها يجب ان تزول لتفتح المجال امام التوسع الفارسي العنصري. فأمام هذا التحالف الذي يجمع الغرب المسيحي واليهودية الصهيونية والشيوعية الالحادية والعنصرية الفارسية المستترة بالإسلام تنكشف الهوية الحقيقية العميقة للمعركة التي يخوضها عراق البعث والتي نقلت النهضة العربية من مواقع الدفاع الى مواقع الهجوم، فهي بالرغم من صعوبتها وما بها من تعقيد، تبدو بالنسبة للاجيال العربية الثورية واضحة كل الوضوح، انها معركة المستقبل العربي.
ان النظرة المتعمقة تظهر ان هذه المعركة هي معركة عربية داخلية فرضها منطق الثورة العربية، بقدر ما هي معركة لدفع التآمر والعدوان من بلد مجاور، فهي ما كانت لتقوم لو كان العرب موحدين، ولو لم يبلغ التناقض والتردي في الوضع العربي حداً أصبحت معه الشعارات والأفكار التقدمية نفسها، بعد ان أُفرغت من مضمونها، غطاء للعجز وللتراجع والتقهقر وللتآمر على القوى الحية وقوى النهضة في الأمة.
فالشيء الطبيعي والمنطقي ان تأتي المعركة كضرورة تاريخية، وعملية انقاذ، وان يظهر العمل القوي الذي يهز الأعماق ويكشف عن الزيف والمرض ويقضي على المفاهيم الكاذبة الخادعة وعلى الرموز الانتهازية التي تقتات من هذا الخدع والتضليل، ليعاد الفرز الصحي من جديد وتصب قوى الأمة وقدراتها وإرادتها في المجرى الواضح الصحيح.
فالمعركة هي بالدرجة الأساسية داخل الأمة العربية، لمواجهة واقع التردي وبدء التحول الايجابي في الرد على تحدّيات النهضة العربية. والانتصار في هذه المعركة على العدو (الخارجي) هو في الوقت نفسه وبدرجة أهم بداية الانتصار على التناقضات العربية، لأن هذا الانتصار سيضع حداً فاصلاً وحاسماً لتزييف الافكار والشعارات التقدميّة والتحرريّة ولمخططات الاستسلام والتكيف المهين مع مخططات اعداء النهضة العربية.
فالمعاني الرئيسية لمعركتنا اليوم تتجلى اولا في انتصار فكرة القومية العربية على محاولات تفتيت الأمة العربية الى كيانات طائفية. وثانيا في كونها انتصاراً للعقل الحديث المتحرر الخلاق القادر على فهم روح العصر وروح الشعب، على العقل الخرافي المتخلف. وثالثا في كونها إنهاء لوهم تصدير الثورات وانتصاراً للوحدة العربية ولمفهومها الحضاري عن الخصوصية القومية. ورابعا هو الكشف عن استعداد شعبنا في العراق للعمل التاريخي المبدع، وهو في الوقت نفسه دليل على توافر هذا الاستعداد لدى الشعب العربي في مختلف اقطاره، عندما يتهيأ له ما تهيأ للعراق من شروط الانبعاث. فالمعركة هي في حقيقتها معركة الأمة العربية ومعركة الضمير العربي الحي ومعركة الشباب العربي الذي اندفع للمشاركة فيها وقدم فيها الشهداء على مذبحها مجسّداً بذلك تفتحاً في الوعي القومي ومؤشراً على الاستعداد لتحقيق شروط الانبعاث في كل اقطار الأمة.
واذا كان العراق بحق ينوب عن الأمة كلها في هذه المعركة، وأثبت يوماً بعد يوم بأنه قادر على حسمها لمصلحة مجموع الأمة ولحساب مستقبلها، فان مشاركة كل المناضلين العرب فيها، هو استكمال لثورية هؤلاء المناضلين وتعزيز لانبعاثهم، بقدر ما هو تعبير عن الوفاء لهذا القسم العزيز من الوطن العربي، الذي حمل أعباء معركة الأمة كلها وأناب عنها بإيمان حَمَلة الرسالة الاول، وهي كذلك تمهيد وتهيئة لخوض المعركة الكبرى في فلسطين لان الأمة لا يمكن ان تدخل معركتها المصيرية على ارض فلسطين وهي في حالة الضعف والانقسام والتمزق واليأس والتردّي غير واثقة من نفسها ومن قدرتها على الانتصار. ثم ان هذه المعركة هي انتصار للعروبة والاسلام، ذلك ان البعث نظر اليهما منذ البدء على انهما حقيقة واحدة، فلا بد ان تؤدي معركة العراق الى إرساء أسس صحيحة وسليمة للعلاقة بين الأمة العربية والشعوب الاسلامية، تقوم على الأخوة العميقة والروابط الروحية والتاريخية والاحترام المتبادل لقومية كل شعب، وسوف تكشف لهذه الشعوب، ان الذي يدفع المجموعة الحاكمة في ايران لمخاصمة العراق ومعاداته ليس الاسلام حتما ً ولكنها أطماع التوسع والسيطرة، وان تأييدها الشكلي لقضية فلسطين هو غطاء لعدوانها على عروبة العراق وعلى وحدته وعلى الوحدة العربية، ولا بد ان تكشف المعركة للشعوب الاسلامية عن الوجه الحقيقي للثورة العربية التي يكون الاسلام روحها وقيمها الانسانية وافقها الحضاري.
كما ان معركة القومية العربية سوف توضح لتلك الشعوب الاسلامية الصيغة الحية الواقعية للعلاقة بينها وبين الأمة العربية وبين ثوراتها وبين الثورة العربية، ولا شك في ان ذلك يعني بدء مرحلة جديدة من التفاعل والتعاون الخصب بينها وبين العرب.
ورغم ما أفرزته هذه المعركة من بطولات عراقية خالدة ومرؤات عربية رائعة فان العراق لم يكن يريدها وانما أُلجىء اليها واضطر الى دخولها اضطراراً. فكم من مرة أعلن قائدها اننا كنا نتمنى لو لم تحصل ضناً بالدماء الغالية وحرصاً على روابط روحية وتاريخية كنا نأمل ان تتعزز بعد التغيير الذي حصل في ايران وان تأخذ سبيلاً جديداً تحدده النظرة الثورية وتسوده الروح الاسلامية الحقّة ويكون قدوة للشعوب الأخرى في علاقات الجوار والتعاون. أليس هذا هو منطق المبادئ الاسلامية وهو نفسه منطق الثورة العربية الحديثة؟
فلا خوف على الاسلام لان الاسلام جوهر العروبة وملهم ثورتها الحديثة وسوف يتيح له انتصار العراق ان يخطو خطوة جديدة حاسمة على طريق انبعاثه وتجدده بتحريره من محاولات استغلاله لتغطية نزعات وأطماع ليست منه في شيء، وسيرى العرب والمسلمون ان السير الجدي باتجاه تحرير فلسطين قد بدأ منذ تحقق هذا الانتصار وأشاع روح النهوض في جسد الأمة العربية. حتى ايران فانها سوف تخرج من هذه المعركة متحررة من الأوهام والخرافات والالتباسات والمأزق التي ُوضعت فيها، لأنها لن تجد طريقها الصحيح الا بالتلاقي والانسجام مع الثورة العربية.
لقد وحدت هذه المعركة بين العراق والأمـة العربية بشكل نادر قلما توافر مثله، لأنها اخترقت جدران التجزئة وتحدتها فهي في المقاييس القومية الثورية معركة الأمة بكاملها ومعركة الحرص على دور الأمة من خلال الدفاع عن العراق ووحدة المجتمع العراقي، فهي معركة الوحدة لان العراق في موقع متقدم يستطيع ان ينهض بالاعباء القومية وينوب فعلا ً عن الأمة العربية في ظل الأوضاع العربية الراهنة. وهي معركة الوحدة كذلك، لأن ما تحقق للعراق من نصر، هو تعبير عن حالة نهوض حقيقي يمكن ان يشمل الأمة العربية كلها في وقت غير بعيد، ولان الوحدة لا يمكن ان تتحقق الا في حالة النهوض، فالعراق ومعركته وانتصاره هو تعبير ُمبكّر عن حالة نهوض عربي عام. هو ظاهرة تاريخية تطبع المرحلة العربية، وما كان للعراق ان يدخل مثل هذه المعركة وان يحقق هذا المستوى الرائع من الانتصار، لولا تفاعله العميق مع روح النهضة العربية ومع الوجدان العربي. وهي معركة الاستقلالية لانها أكدت على احد الأسس البارزة في نظرة البعث وعلى اهمية الثقة بالأمـة وبقدراتها، ورفض التبعية والاعتماد على الذات، فهي معركة العروبة الواثقة بنفسها المؤمنة بقضيتها المتطلعة نحو بناء العلاقات مع العالم على اساس الحرية ومصلحة الجماهير وتغليب منطق القيم الاخلاقية والانسانية على منطق القوى المادية والعنصرية.
ايها البعثيون الابطال
يا أبناء عراق البعث
لقد وضع حزبكم منذ ان وجد على ساحة النضال العربي هدفاً له وقانونا يسترشد به، هو أن يعبر عن ضمير أمتكم الخالدة وان يقترب اكثر ما يستطيع الاقتراب من روحها وتراثها وأصالتها، وان يحس بقلبها ويفكر بعقلها ويرى بعينيها، وأن يتلمس المستقبل على ضوء مصلحتها وحاجتها المُلحّة الى التحرر والتقدم والانبعاث، ذلك كان رهانه مع التاريخ وهو مطمئن الى حكم التاريخ والأجيال القادمة.
وكان الحزب يشعر منذ خطواته الاولى ان قدره وقدر الأمة متشابهان ومتوافقان. وكما ان الأمة كانت هدف اعداء شرسين كثيرين، يتآمرون عليها ويفترون على تاريخها ويحاولون طمس شخصيتها وتقطيع أوصالها وتزوير إرادتها، كذلك كانت محاولاتهم في ضرب الحزب والتآمر عليه وتشويه فكرته وتزوير هويته. ولكن الايمان بالأمـة الذي ينبع من الايمان بالحق كان يمدّ الحزب دوماً بقوة الصبر والمقاومة وينتهي به الى الانتصار وجلاء الحقيقة التاريخية الاصيلة، واذا كان حزبكم، قد استطاع ان يشق طريقه وسط المحاربة الشرسة التي واجهها من كل جانب، وان يصمد ويستمر طوال أربعة عقود من السنين، وان يناضل، وان يحقق الكثير لجماهير الشعب وقضية الأمة، فإنما ذلك، لانه حافظ على الصلة بهذا المنبع الذي نهل منه منذ بداية طريقه، منبع الألم الذي هو منبع الحب، حب الأرض والتاريخ والشعب وتحويل الألم بواسطة النضال الى ثورة عميقة مبدعة، والى حياة صاعدة لكل العرب. وسيبقى وتر الألم عنصراً أساسيا في نشيد ثورة البعث، وستبقى نبرة الألم واضحة متميزة في صوتنا حتى عندما نكون في أوج فرحنا وانتصارنا لأننا لا ننسى ولا يجوز ان ننسى مشقة الطريق التي قطعناها على امتداد أربعة عقود في اكثر من قطر عربي، والآلام المادية والمعنوية التي عرفها المناضلون والتضحيات التي قدمها الشهداء.. سيبقى الألم ماثلا في أعيادنا وأفراحنا وانتصاراتنا، لأننا لا ننسى ولا ينبغي لنا ان ننسى ما تعانيه الجماهير العربية في بقية أقطار الوطن العربي وبخاصة شعبنا في سورية من آلام القمع والقهر والإذلال على يد المتسلطين عليه والمتنكرين للروابط القومية العربية ونداء التاريخ، وما تكابده مصر العزيزة وشعبها من جراء امتهان كرامتها وتزوير ارادتها والعبث بمصلحة جماهيرها ومستقبل اجيالها على يد نظام السادات، وما يرتكبه نظام القذافي من مآسي بحق الشعب الليبي وخيانة سافرة بحق الأمة العربية وتخريب لعلاقاتها مع الشعوب الافريقية الصديقة، وما يتعرض له شعبنا العربي في لبنان من استشهاد يومي على يد العدو الصهيوني وصنائعه والمتواطئين معه، وما يتحمله شعبنا في فلسطين من فظائع الاحتلال الصهيوني بصمود رائع أصبح مضرب المثل.
يا أبناء شعبنا في العراق والوطن العربي
لقد برهن عراق البعث من خلال تجربة جيشه العقائدي عن خطوة متقدمة رائعة على طريق صنع الأداة التاريخية المتكاملة، واستطاع ان يحوّل المؤسسة العسكرية الى مصنع تاريخي للبطولات الفذة والى مؤسسة تربوية تخلق الشخصية الواعية المستوعِبة لمهماتها التاريخية. لذلك استطاع عراق البعث ان يفجّر كل الطاقات القتالية المبدعة لدى جنوده الأبطال وضباطه الأشاوس، وان يجعل تلك الطاقات في حالة استلهام دائم للتراث القومي وصور البطولات التي يحفل بها التاريخ العربي، وان يؤهلها للتعامل بكفاءة مع علوم العصر وتقنياته الحديثة. لذلك كان انتصار جيش العراق تعبيراً عن اقتدار يؤهله لأعظم المهمات القومية ولمواجهة جميع التحديات التي تقف في وجه نهضة الأمة.
فالجماهير العربية رأت في ملحمة جيشنا العقائدي حلم التحرير يتحقق، ووجدت في انتصاراته الرائعة شيئاً يثير الاعجاب بقدر ما يدعو الى المحبة والفخر، فقد ملأ نفسها بالثقة، بالمستقبل العربي وبحتمية الانتصار وتحقيق الاهداف وتحرير فلسطين، فلهؤلاء الشجعان الذين قدّموا للأمة أول انتصار عرفه تاريخها الحديث كل التقدير والمحبة والتهنئة، ولشهدائنا الذين جادوا بأرواحهم على طريق النصر تحية الإجلال والإكبار. ولاشك في ان هذه التضحيات التي ُبذلت من اجل الدفاع عن حقوق الأمة وعن حرية الوطن وعن حمى الثورة، سوف تثمر أضعاف ما تحقق من نصر، لانها سوف تشكل نداء لرفاقهم في السلاح في الوطن العربي، لان يضعوا أسلحتهم في موقعها الصحيح مع المبادئ ومع الجماهير العربية في وجه أعداء تحرير العرب ووحدتهم وسيادتهم. ان ما تحقق في ثورة العراق ومعركته هو نوع من المصالحة بين الأمة وذاتها بينها وبين واقعها، بين شعبها وبين قيادتها، فالأمـة التي انجبت البعث قد ولدت القائد التاريخي من داخل البعث ليعبّر من خلال استلهام روح الأمة والقيم العميقة في تاريخنا، ومن خلال أرقى أشكال التعامل مع قوة السلاح، ومع قوة المبادئ الإنسانية ومن خلال السلوك الحضاري، لكي يعبّر من خلال ذلك كله عن الدور التاريخي الذي ينهض به العراق والبعث والأمة. ان القائد التاريخي هو الذي يدرك معنى اللحظة التاريخية ويعطي لهذا المعنى قوة الفعل التاريخي.
تحية لشهدائنا الابرار الذين رسموا طريق النصر.
تحية لجيشنا العقائدي صانع البطولات وحامي الشرف وسيف المبادئ القومية.
تحية لشباب العراق الذين حققوا من خلال جيشهم الشعبي ونضالهم المتعدد الابعاد الصلة الحية بين الشعب والمعركة.
تحية للأدباء والفنانين والشعراء والمفكرين الذين أجادوا استخدام السلاح والكلمة.
تحية لشعب العراق كنز الأمة الحقيقي المتفجر بالعطاء الثوري،
تحية تقدير لأبناء العروبة الذين شاركوا في معركة القومية العربية في العراق والذين ارتفعت مبادراتهم الى مستوى العمل البطولي وتكللت تضحياتهم بالشهادة.
تحية للمرأة العراقية التي استطاعت ان تحقق صورة المرأة العربية في تاريخها البطولي.
تحية إعجاب وتقدير وإكبار للأمهات والزوجات والأخوات اللواتي استقبلن الشهداء بالأهازيج وكنّ على مستوى القدوة للمرأة العربية في هذه المرحلة التاريخية.
تحية لعمالنا الذين حققوا من خلال انتاجهم، الصلة الحية بالمعركة، وفلاحينا الذين كان حماسهم للمعركة منسجماً مع تعلقهم بالارض وإدراكهم لمعنى تحرير الأرض.
تحية للروح الوطنية التي تجلت في أقوى اشكال وحدتها وأعمق معانيها، وجعلت العراق نموذجا ً لوحدة قومياته وطوائفه وحقيقة مشرقة معبرة عن روح لمعركة..
تحية للمناضلين البعثيين الذين وضعوا مصيرهم في المعركة كتعبير عن صدق إحساسهم بقومية المعركة وتعلقهم وإعجابهم بجدارة التجربة التي يقودها عراق البعث.
تحية لقائد ا المعركة الرفيق صدام حسين الذي حقق من خلال تجربة ثورة البعث في العراق، ومن خلال هذه المعركة صورة العراقي الأصيل والعربي الجديد والانسان القادر على حمل الرسالة.
(1) كلمة في السابع من نبسان عام 1981، بمناسبة الذكرى الرابعة و الثلاثين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي
—————————————————
البداية الصحيحة
أيها الرفاق والأخوة الأعزاء
عيد الطبقة العاملة يوحي بأفكار ومبادئ وقيم عزيزة وثمينة، إذ يذكرنا بظهور حزبنا، بنشأته وبالعوامل العميقة والدواعي الإنسانية التي كانت وراء ظهور هذا الحزب.
فلقد كان الخيار الإشتراكي من أهم الخيارات التي وضعتها الأجيال العربية الشابة قبل أربعة عقود من السنين هدفا لها وتعبيراً عن وعي عميق للسمات الأساسية التي يجب أن تتصف بها النهضة العربية الحديثة..
الاشتراكية خيار إنساني
فالإشتراكية لم تكن بالنسبة الى تلك الأجيال خياراً اقتصادياً بالدرجة الأولى، وإنما كانت خيارا إنسانيا وحضارياً يتصل بالقيم الإنسانية والأخلاقية والحضارية التي قام عليها تاريخ الأمة العربية والتي نلتقي بها في حضارة هذا العصر جنباً الى جنب مع نضال الشعوب في سبيل الحرية والكرامة والعدالة وبناء الحياة الجديدة. خيارنا الإشتراكي كان من أجل ان تصبح قوميتنا حقيقة حية فاعلة مبدعة لا أن تبقى كما كانت لفظة عاطفية ليس لها تأثير وفعل جدي في الحياة والتاريخ.
عندما لا تكون الجماهير الواسعة الكادحة المنتجة هي دعامة القومية فإننا قد نكون قد حكمنا على أمتنا بالتخلف والضعف والإندثار. عندما لا تكون الجماهير الشعبية الواسعة الكادحة هي العامل الأساسي للنهضة وللثورة فلن تكون الثورة مشروعا حضارياً وتحولاً تاريخياً بل شيئا سطحياً ووقتياً عديم الإشعاع.
العودة الى الشعب
العودة الى الشعب، العودة الى الجماهير، الى أعماق الجماهير، الى روحها وأخلاقها ومثلها العليا، هذه هي البداية الصحيحة لكل حركة ثورية أصيلة وعميقة، واننا منذ البداية نهلنا من معين الشعب واستلهمنا روح الشعب، لم نختر اشتراكية مجردة وانما كانت إشتراكيتنا حية مستقلة، من نتاج أرضنا، ومن حاجاتنا ومن أخلاقنا، وكنا بذلك نستند الى حقيقة وهي أن الرجوع الى الأصالة والى الخصوصية، خصوصية الشعب وقوميته وتاريخه هي الطريق الصحيح الى الإنسانية، وليس العكس. ليس ان نبدأ بالأفكار المجردة وان نقسرها قسرًا لكي تتطابق مع وسط لم تخلق له ولم تتولد من حاجاته، ذلك لأن إرادة التجدد والتقدم في حزبنا كانت مقترنة منذ البدء بروح الأصالة، وهكذا استطاع الحزب أن يسلك طريقاً طموحة، طريقاً جريئة غير معبدة، طريق الاستقلالية التي كانت رهاناً على المستقبل، ومجازفة قائمة على الثقة العميقة بالأمة وبأصالتها، وبالإنسان العربي وباستعداده اللا محدود للثورة والتجدد والتقدم، كما كانت قائمة على الثقة بالإنسانية وبعمق نزوعها الى الحرية، بأن الشعوب عندما يستلهم كل منها طريقه الخاص الصادق فلا بد أن تصل كلها الى صعيد مشترك وتلتقي لقاءً حراً لا اصطناع فيه ولا قسر.
أيها الرفاق والأخوة الأعزاء
هذه الأيام الخالدة التي نعيشها في العراق العظيم، عراق العروبة والبعث، جاءت لتعزز ثقتنا بتلك الأفكار، بتلك المبادئ، بذلك الطموح. إن هذه الطريق التي اختطها الحزب والتي أراد أن تكون تعبيرا عن إرادة الأمة وحرية الشعب وأعمق حاجاته وتطلعاته، نجدها الآن فعلا قد حققت صورة رائعة فريدة من حيث تطابقها مع الرؤية الأولى التي راودت الحزب عند بداية نشوئه، هذه اليقظة عند مجموع الشعب، هذا الإنسجام بين الشعب وبين المبادئ والأفكار، هذا الإندفاع، هذه الحالة الإيجابية التي لا تتحقق إلا في فترات نادرة في حياة الشعوب، أليست حالة تستحق أن يتوقف عندها الأخوة العرب والرفاق التقدميون في العالم الذين نشترك وإياهم في المبادئ وفي التطلعات الإنسانية؟ هذه حالة نعتقد أن فيها خيراً لأمتنا كلها، وأن فيها خيراً وأنموذجا وحافزاً وإضافة للنضال الثوري الإنساني كله.
عندما تفرض على الشعب حالة الحرب دون أن يريده، وعندما يأتي الاستفزاز والتحرش ومحاولة التخريب ليستهدف وضعاً كوضع العراق في ظل ثورة الحزب في هذا القطر وفي طورها الناضج المشرق السخي بالعطاء الواعد بعطاء أكبر وبإنجازات أعظم، عندما يأتي الاستفزاز والتخريب لينال من تجربة ثورية من هذا النوع، تتميز عن مجموع الأوضاع العربية المؤسفة المحزنة وتكون هي التي تعيد للجماهير العربية ثقتها بنفسها وبالمستقبل، هل تكون محاولة تخريب هذه التجربة بدافع خير وبوحي الحكمة والعقل النير أم انه التعصب الأعمى والجهل والتخلف، يثير عنعنات ومشاكل آن للأمة أن تتجاوزها، وقد تجاوزتها في كثير من أجزائه، وآن للأمة العربية أن تدفن مثل هذه العقليات وان تتطلع الى النور والى التقدم.
قائد تاريخي
لذلك قلت بأن الحرب فرضت على هذا القطر، وان العراق يحارب دفاعاً عن النفس وعن أرضه، وعن تجربته التي بناها وغذاها من عَرق الجماهير الكادحة سنين طويلة أمضتها في بناء هذه التجربة، في ظل هذا الحزب القومي التقدمي، وفي ظل قيادة تاريخية، وقائد تاريخي، جمَع الشجاعة الى الحكمة، وجمع البسالة والبطولة الى العقلانية والعلمية، فكان دفاع العراق هو أيضا عن مستقبل الأمة العربية، عن شخصيتها وعن هويتها، عن دورها الحضاري، عن حقها في التحرر والتقدم وتجاوز مرحلة العقلية الغيبية المتخلفة المريضة.
شيء إيجابي ثمين في الحياة العربية
وها هو العراق في دفاعه يحقق على امتداد ثمانية أشهر النصر تلو النصر باندفاع شعبي أتمنى لو أن كل العرب يتاح لهم أن يشاهدوه، وأن يعيشوه، وأن يلمسوه عن قرب، فهل هذه الحالة هي حالة عادية يمكن ان يتجاهلها العرب ويتناسوها؟ أم أنها شيء إيجابي ثمين في الحياة العربية جدير بأن تحميه القلوب والأفئدة، جدير بأن يتنادى العرب من مشرقهم الى مغربهم لكي يرعوه ولكي يحتضنوه لأنه منهم وإليهم، لأنه لمستقبلهم؟
ليس هذا شيئاً عاديا، ليس نصراً تحقق في أيام ثم انتهى، هو نصر عربي مبين يترسخ على امتداد ثمانية أشهر، ويزداد رسوخا، ويزداد قوة، ويزداد نصوعا، ويقول لأمة العرب: هذه هي إمكاناتك وقدراتك عندما تتحررين من الأوضاع الفاسدة المصطنعة، هذا هو مستقبلك، إنتصار لا يعرف التراجع.
أي مقياس أيها الرفاق والأخوة أصح من مقياس الشعوب، وإرادة الشعب، وعاطفة الشعب؟ هذا هو أصح مقياس، وأصدق مقياس على مر العصور وفي كل البلدان وفي مختلف المجتمعات دوما. فهل يستطيع الحاكم الذي يعلن الحرب على شعبه، ويعيش حالة حرب دائمة مع شعبه، هل يستطيع ان يحارب العدو؟ فإذا قيل لنا هذا نظام تقدمي فنسأل: كيف هي علاقته بالشعب؟ واذا لم تكن علاقته علاقة إيجابية، علاقة حب عميق وتعاطف وتسابق في العطاء والإبداع فتكون تلك التقدمية تقدمية مزورة.
تنتظرنا معركة فاصلة
إننا ننتظر معركة فاصلة نعرفها كلنا، نعرف أعداءنا ولم نقل أن هذه المعركة التي فرضت علينا في الوقت الحاضر هي المعركة المصيرية للأمة العربية، نعرف بأن معركتنا المصيرية هي في فلسطين، معركتنا ضد الصهيونية والإمبريالية وكل أعداء الحرية والتقدم والسلم، هذه هي المعركة الفاصلة، ولكن كيف نصل اليها وكيف نوفر الحد الأدنى لشروطها إذا لم نبرهن على توافر هذا الإنسجام بين الحكم وبين الشعب، على توافر هذا المناخ الصحي النظيف الذي تطمئن اليه روح الشعب فتعطي بدون حساب وتمنح البطولات والمعجزات لأنها تكون قد وثقت وأحبت، فإذا كنا نريد ان نختصر الطريق الى تحرير فلسطين فلنبدأ بتوفير مثل هذه الأجواء لأن الحكم الذي لا يتصالح مع شعبه يكون عمليا قد تصالح مع العدو أو هادنه او تواطأ معه.
بدأنا البداية الصحيحة
البداية الصحيحة هي في المصالحة مع الشعب، في الإنسجام مع الشعب، إننا نشعر بأننا بدأنا البداية الصحيحة والتهيئة الجدية لمعركة المستقبل ولا يخالجنا شك في أن ضمير الأمة الحيّ المتيقظ يرى ويميز ويقف الى جانب الحق وفي صف الحياة الجديدة المبدعة.
4-أيار-1981
(1) كلمه خلال استقبال الوفود العمالية 4/5/1981.
————————-
القادسية وحالة الإنبعاث
تقدرون بلا شك(1) عمق السعادة التي نشعر بها عندما نلتقي بكم وانتم تسطرون البطولات العربية الجديدة وتصنعون تاريخ أمتكم الجديد.
نحن أيها الأخوة معتزون وفرحون إلى أبعد الحدود بما حققتم، وبما تحققون، ولكننا لم نكن مفاجئين ولسنا مستغربين لما نراه ونلمسه لأننا نعرف شعبنا ونعرف أمتنا ونعرف كل الطاقات العظيمة التي ادخرتها منذ قرون، منذ مئات السنين لكي تفجرها في الوقت المناسب عندما تنضج عوامل النهضة.
نحن أيها الأخوة.. أؤكد لكم أيها الإخوة كنا منذ بداية تأسيس حزبكم قبل أربعين عاما نرى بطولاتكم ونؤمن بها بأنها آتية، نراها ونشاهدها بعين الإيمان وبرؤيا العقل والشعور، ولو لم نكن نؤمن هذا الإيمان لما صمد حزبكم أربعين عاما لكي يرى أخيرا الحلم يتحقق على أيديكم، اذ لا تفسير لهذا الصمود إلا بهذا الإيمان بأن الأمة العربية قادرة على أن تنهض وقادرة على ان تكون ليس في مستوى العصر وحضارته فحسب بل في مستوى رسالتها العظيمة التاريخية أيضا، في مستوى الرسالة الروحية التي تفردت بها بين الأمم والتي ستبقى الى الأبد هي المدد وهي المعين الروحي الذي سيدفع امتنا نحو التقدم والرقي والانجازات الحضارية العظيمة.
لم يكن حلما عاطفيا ذلك الحلم الذي بدأ به الحزب، و إنما كان فيه الإيمان مقرونا بالعقلانية، ومنذ البداية وحتى من قبل تأسيس الحزب كانت رؤيتنا أن نجمع إلى برودة العقل لهيب الحماس، لهيب الإيمان، منذ البداية كانت الرؤية تاريخية وليست رؤية حماسية، ليست رؤية جيل شباب فحسب وإنما رؤية جيل مهيأ يصنع التاريخ، لم نفاجأ ببطولاتكم وان تكن بطولات فذة لأننا نعرف أن المستقبل سيكون أعظم، نؤمن بأن ما ينتظركم وينتظر الأجيال العربية الثورية المؤمنة بأمتها وبرسالة أمتها أنها ستفاجئ العالم ببطولات أعظم وبانجازات حضارية أبهى وأروع.
كنا نحدث في هذه الجولة مع القادة الكرام بان الدول الكبرى رغم عظمتها وعظمة وسائلها وخبراتها الطويلة أخطأت الحساب عندما قدرت أن في إطالة هذه الحرب إضعافاً للعراق، إضعافاً لثورة العراق ولشعب العراق لأننا رغم أننا لم نرد ان تطول الحرب ولكن هذا الزخم المختزن في ضمير الأمة والشعب وهذا البناء الثوري المتين الذي أوصل إلى هذا المستوى، هذه حالة لا يمكن للأجنبي مهما بلغ علمه أن يحسبها وان يدخل إلى كنهها وان يفهم قانونها، لان لها قانونها الخاص وهي ستستفيد من كل الحالات، إن كانت الحرب قصيرة فهي منتصرة، وان طالت الحرب فانتصاراتها ستكون أعظم وستكتسب تجارب وخبرات ومعنويات ليس على نطاق القوات المسلحة فحسب وإنما على صعيد الشعب بكامله. الثورية المثلى هي التي تسيطر على الزمن والتي تسّير حتى خطط العدو والأعداء بان تعرف كيف تستفيد من كل الظروف والحالات لأنها مسيطرة على نفسها بالدرجة الأولى.
هذه الحالة أيها الرفاق.. أيها الإخوة هي المستوى الذي كانت أمتنا بحاجة ماسة إليه، هو الحد الفاصل بين التخلف وبين التقدم، هذا المستوى، مستوى السيطرة على النفس وعلى الظروف وعلى الأعداء، هو الذي يبدأ بالفعل تاريخاً جديداً للعراق وللامة العربية، إذ لا فرق بين العراق وبين الأمة العربية، هذا المستوى الذي يخلق الثقة واليقين بأن لا هزائم بعد الآن مهما تتغير الظروف ومهما تكبر الصعوبات لأننا اهتدينا إلى العوامل الأساسية للنصر وللتقدم، هذه الحالة هي التي ستنتقل الى شعبنا العربي في كل قطر، إلى أوصال الجسم العربي، هي وحدها القادرة على أن تخترق الحدود المصطنعة وان تصل الى ابعد مسافة في الأرض العربية وفي النفس العربية لأنها هي الحالة الخالدة، هي رمز الحالة التي كان العرب يبلغونها عندما تنضج عوامل النهضة فيهم، لذلك لم تكن تسمية معركتكم بالقادسية شيئا اعتباطيا، وإنما كان يعبر عن حقيقة عميقة لأننا بلغنا الحالة التي تتضاءل فيها المسافات الزمنية وتتصل بروح الأجداد العظام الخالدين الذين صنعوا تاريخ الأمة العربية..
أمامكم طريق طويل، هذه معركة توفرت لها الظروف الأساسية لكي تستعيد الأمة ثقتها بنفسها ولكي تقتحم المصاعب والعقبات التي تعترض طريق نهضتها ولكي تجهز على الأعداء في كل ارض عربية وفي فلسطين التي هي القضية المركزية وخلاصة الثورة العربية، وإذا كان الأعداء لا بل حتى الأصدقاء لا يستطيعون أن يدركوا كل ما تحتوي عليه قدراتكم وإعدادكم وطاقاتكم فهذا من أهم عوامل الأمل بانتصارات المستقبل لأن معناه أننا سنظل نفاجئ الأعداء وحتى الأصدقاء بقدرات لم يكونوا يتوقعونها، فكيف يستطيع هؤلاء الذين يحكمون إيران، أنّى لهم أن يدركوا ما كانت تنطوي عليه ثورتكم من إمكانات خارقة وهم المتخلفون الذين حسبوا أنهم يحتكرون الإيمان والفضائل وأنهم يحاربون نظاما فاسدا كنظام الشاه؟ كيف يمكن لهؤلاء ان يدركوا ما تنطوي عليه الثورة العربية من إمكانات هائلة، كيف يمكنهم أن يفهموا الإسلام إذا كان ظنهم بالعرب هو هذا الظن؟ إذا كانوا لا يعرفون القطر العربي المجاور لهم، وإذا كانوا لا يعرفون أن اكبر عامل في انتصاركم هو الإيمان وهو الإسلام لان روح حزبكم وروح نهضتكم وثورتكم منذ بدايتها إنما استلهمت روح الإسلام؟ وانتم تعرفون ذلك ولكنه الإسلام العربي، الإسلام الأصيل، الإسلام الحي الخالد الذي يقوم على الروح، على روح الأشياء وليس على مظاهرها، لذلك استطاع ان يجاري العصر ونهضة العصر وان يتفوق وسوف يتفوق أكثر في المستقبل لأنه نشأ من روح هذه الأمة، من روح هذه الأرض الطاهرة.
إنها فرصة ثمينة لا بل فرصة خالدة أن نرى الأبطال الذين يصنعون المستقبل العربي الناهض. ونحن والأجيال العربية في كل مكان على موعد مع القدر، على موعد مع المستقبل لانتصارات وانجازات ستكون بعون الله أروع ما تحقق حتى الآن، ليس لان ما تحقق قليل بل هو عظيم كل العظمة، ولكن ثقتنا بأمتنا وبأنها معين لا ينضب من المروءة والبطولة هو الذي يدعونا إلى هذا التفاؤل وإلى هذا الإيمان.
والسلام عليكم
18 أيار1981
(1) حديث مع المقاتلين خلال زيارة القاطع الشمالي من جبهات القتال في 18/5/1981
———————————–
تحقيق الإرادة التاريخية للأمة العربية
أيها الرفاق الأعزاء (1)
إنها لحظات سعيدة، يصعب عليّ ان اصف مشاعري وأنا أرى الأحلام التي راودتنا في شبابنا وغذت صمودنا حتى نسعد أخيرا برؤية هذا التحقيق الرائع لما كنا نحلم به، لكي نشعر باطمئنان عميق على المستقبل ما دمنا قد أوصلنا الأمانة الى هذا الجيل من الأبطال الذين هم –فعلا– من تلك النوعية التي حملت رسالة العرب الى الإنسانية في الماضي، وكلنا إيمان وثقة بأنكم بدأتم الطريق ولن تتوقفوا عند استرداد الحقوق والأراضي، بل ستتابعون لتوحيد أجزاء هذا الوطن الكبير الغالي ولنشر مبادئ العروبة، ولإحلال الأمة العربية مكانتها في العالم. هذه المعركة –ايها الرفاق– ستكون مادة لدراسات طويلة في المستقبل، وستكون بداية لمعارك مظفرة قادمة، لأنها اذا حللناها بعمق، فإننا نجد فيها العناصر الأساسية لانتصارات المستقبل، نجد فيها المنطلق الصحيح لمعارك المستقبل، نجد فيها الحالة الصحيحة المتكاملة للمجتمع الصحيح الناهض الزاخر بالحيوية، المتعلق بالقيم، المتفجر بالعطاء.
وكان قدر العراق وقدر هذه الأجيال، من مدنيين وعسكريين، الذين يشاركون في هذه المعركة ومن قدر القيادة الفذة التي أتيحت لهذا القطر ولهذا الحزب المناضل، فهنا من قدرهم جميعا ان يشكلوا البداية الصحيحة للنهضة العربية الحديثة، النهضة لم تبدأ مع حزب البعث ولكنها لم تكن في حالة الرشد والنضج والتكامل والوضوح في الأهداف والثقة بالنفس، كل هذه العناصر توفرت في تجربتكم في هذا القطر وفي معركتكم المباركة الراهنة، لم تكن معركة سهلة، وأنا أزداد اطمئنانا كلما سمعت من قادة الجيش ومن القادة الحزبيين بأنهم لا يستسهلون ولا يستخفون بالعدو لان هذا يشكل الضمانة الكبيرة لاستمرار الانتصارات وهو العلامة المميزة للمعارك التاريخية التي ترى الأمور بنظرة موضوعية وعلمية ومنصفة، ففي هذا تزكية كبيرة لمعركتنا ولحزبنا وللقيادة التاريخية لحزبنا في العراق بأن يبادروا وأن يبادر القائد، لأن له الأسبقية وفضل الريادة، الى اقتحام معركة فيها جملة إشكالات كانت كافية لكي يتهيب الكثيرون أمامها، ويتهيب من الولوج اليها. ولكن لا ننسى انها كانت معركة البعث، ولأنها معركة البعث فهي قادرة ان تقبل التحديات الصعبة الكبيرة، وبالفعل كان فيها تحديات لحزبنا الأصيل: هل يستطيع ان يبرهن ليس بالكلام فحسب وإنما في أقسى حالات العمل وأكثرها جدية وهو القتال والحرب، ان يبرهن بأنه هو حامل راية القيم الروحية التي يتستر بها العدو والتي اراد من وراء استخدامها ان يلقي الانقسام في مجتمعنا، وان يلقي الوهن والفوضى؟ فإذا بحقيقة هذا المجتمع تظهر جدية مشرقة وانها قد تجاوزت ومنذ زمن هذه المستويات الرخيصة المتخلفة، وانها هي الأمة العربية صاحبة الرسالة، وإنها في طور انبعاث حقيقي، وان الآخرين لا يستطيعون ان يرهبوها، لأنها على أبواب نهضة عميقة وشاملة وان شروط هذه النهضة قد توافرت وان ما يؤخر ظهورها وانطلاقها في بقية أجزاء الوطن العربي هي الأوضاع المصطنعة التي يفرضها بعض الحكام وبعض الأنظمة المناقضين لاتجاه التاريخ ولسير الزمن، وانه مثل ما أعطى العراق هذا المثل الباهر فان روحا جديدة ستدب في نفس كل عربي. هذه في الواقع هي البداية الصحيحة للوحدة العربية، لان الوحدة العربية يجب ان تبدأ بوحدة النفوس، بالحالة النفسية الموحدة، بالحالة الفكرية الموحدة، فعندها تصبح العقبات المادية سهلة الاجتياز. أما الدرس الذي أعطته هذه المعركة للعدو، ولا ندري هل استوعبه كل الاستيعاب، هو ان الأمة العربية بدأت نهضتها منذ قرنين، وان هذه النهضة هي التي كانت على امتداد الزمن تحرض الشعوب الإسلامية وتلهبها لكي تستيقظ وتنفض عنها غبار التخلف والقعود، فلم يكن من المعقول ان يتجاهلوا كل هذا وان يحسبوا انهم سيعلمون الأمة العربية طريق النهوض وطريق الإصلاح ولكن هذا ما يطمئن على ان حربهم خاسرة ومحاولاتهم فاشلة.
أيها الرفاق
هذه الشروط التي تجمعت لمعركتنا المقدسة هي صورة عن المستقبل الذي نطمح اليه كأمة، والذي يختلج في ضمير كل عربي، اذ يمثل في وقت واحد وفي صيغة حية، اتصالنا بماضينا الأصيل، بماضي الثورة العربية الأولى، بماضي الرسالة العربية وبُناتها الأبطال الخالدين، وفي نفس الوقت انه يمثل العقلية الحديثة المتفتحة للنور وللتجدد وللعلم وللحرية لكي نستطيع ان نصمد في زحام الأمم الراقية في هذا العصر، ولكي نستطيع ان نعبر عن أصالة امتنا بعطاء جديد، بحضارة جديدة تتضمن الروح الأصيلة ولكنها تتجدد مع ما تتطلبه الحياة الجديدة من وسائل التقدم والرقي.
هذا ما يميز تجربة البعث وبخاصة تجربة البعث في العراق وبشكل أخص تجربة البعث بعد ثورة السابع عشر من تموز، هذه العقلية الجديدة، الأصالة، الإيمان الذي يفجر الطاقات والذي يفتح وينشط الحيوية ويدفع الى التقدم والى الحياة الجميلة الراقية التي تسودها روح الحرية والعدالة والإنتاج والإبداع، لا الإيمان الذي يدفع الى الخمول والى الخوف والى الابتعاد عن الحياة والى كراهية الحياة، فهناك فرق أساسي بين أبطالنا الذين يقبلون على الشهادة وهم في ذروة شعورهم بالحياة وبقوتها وبحبها ولكنهم يرون في الشهادة أجمل وأروع تحقق للحياة نفسها، وبين الذين يساقون كقطعان في حالة من غياب العقل، فهذا الفارق يعزز ثقتنا بصحة الطريق الذي اخترناه، لان الأمة العربية ليست امة صغيرة، ليست هامشية، شكلت في التاريخ وزنا من أهم الأوزان الحضارية ورغم كل ما طرأ عليها من تخلف، من ضعف، من مؤامرات وغزوات همجية، وإنها احتفظت بشعورها بأنها أمة عظيمة، وأن لها دوراً في الحضارة وفي تقدم الإنسانية، هذا الشعور لن يفارقها يوما من الأيام حتى في أسوأ حالات التخلف والتجزئة والقهر، فمما يزيدنا ثقة وإيمانا بتواصل الانتصارات و بأنها ستؤدي إلى نصر مؤكد ونصر خالد سوف تذكره الأجيال، هو ما نلمسه عند كل جندي بأنه مستوعب لأهم مميزات هذه المعركة ولأهم معانيها التاريخية. قد لا يجيد التعبير الطويل والمفصل عنها، ولكن هذا واضح في كلماته البسيطة وفي إشراقة وجهه وفي حماسته واندفاعه وفي صبره وصموده، لأنه قد دخل المرحلة التاريخية الجديدة، أصبح مشمولا بالحالة الحضارية الجديدة التي جسدتها ثورة الحزب في العراق وجسدتها معركة القادسية الجديدة، هذا النصر مختلف عن كل ما عرف في حياة العرب الحديثة، لأنه ليس نصرا مؤقتا وليس نصرا جزئيا وليس مجرد نصر عسكري، وإنما هو موضوع في إطار نظرة عقائدية شمولية تاريخية متوجهة نحو المستقبل البعيد، وهذا يختلج في كل الضمائر، لذلك عندنا يقين، يقين مطلق، بان مهما حاولت الدول الطامعة في أرضنا وثرواتنا ومهما حاولت الأنظمة العربية المتآمرة والمذعورة من ظهور الصيغة الثورية الصحيحة، مهما حاول كل هؤلاء ان يضعوا العراقيل، ان يعتموا على النصر، ان يكتلوا ويجمعوا، فنحن على يقين تام بان هذا النصر الذي يتحقق بصورة مثالية لم تعرف الا في حالة الرسالة الروحية، الرسالة السماوية التي انطلقت من ارض العرب، لم يعرف بان الشعب بكامله، بكل فئاته، بكل ادوار العمر يتوجه نفس التوجه ويريد نفس الإرادة بمثل ما هو متحقق الآن.
هذه بداية التحرر العربي، بداية الوحدة العربية، فانه لم يتح حتى الآن، ان تتكون خميرة بمثل هذه القوة، القوة الروحية أولا، والقوة المادية ثانيا كنتيجة للقوة الروحية، الإرادة أولا، والتحقيقات والانجازات والمستلزمات المادية كثمرة ووليد لهذه الإرادة، إذن لقد تحققت طاقة متفجرة، طاقة خلاقة محتوم عليها ان تسري وان تشع، لأنه لا يعقل ان تبقى محصورة في أسوار الحدود المصطنعة المفروضة من الأجنبي على الأقطار العربية، لأنها هي حالة روحية وحالة نفسية وحالة فكرية ونفوس متفتحة لها، وسوف تفعل فعلها وتخصب وتثمر، وسوف نستمر نواصل النضال ونواصل القتال بهذا اليقين، يحدونا اليقين والإيمان لأن ما نعمله وما نحققه انما هو الاردة التاريخية للأمة العربية.. والسلام عليكم..
20 أيار 1981
(1) حديث خلال زيارة دار محافظة البصرة في 20/5/1981
—————————————-
البطولة مرادفة للتواضع
شعوري، الذي يشاركني فيه الرفاق في هذه الزيارة، شعور عميق بالحب والامتنان للأبطال الذين أعادوا إلينا الشعور بالعزة والكرامة والأمل والإيمان بالمستقبل الزاهي المشرق لأمتنا المجيدة. هؤلاء الأبطال اذا كنا نشكرهم ونتغنى بذكرهم فليس من شيء يعادل ويكافئ بطولتهم الا شعورهم هم أنفسهم بأنهم عملوا عملاً تاريخياً خالدا، هذا الشعور الذي نؤمن بأنه مستقر في ضمائرهم، هذا اليقين بأنهم أدوا الرسالة، وانهم وقفوا وقفة أجدادنا الخالدين الذين كانوا يرون الجنة في المعركة تلمع من خلال السيوف. نحن وصلنا الى مرحلة النضج والعطاء، نحن كأمة عربية، وللعراق فضل السبق، ولقائد العراق.
لقائد ثورة العراق ومعركة القادسية فضل سيبقى أبد الدهر لن ينسى، لأنه خطط وبنى وقطف الثمار وفجر الطاقات في الوقت المناسب عندما كان واثقاً من انها ستوصل إلى النصر. والقيادة التاريخية هي التي تملك هذا الحس المرهف العميق الذي ترى به الإمكانات الكامنة للشعب، والتي لا يستطيع الشعب ان يراها الا بعد ان يتقدمه القائد ويوحي اليه بالثقة فينطلق ويعطي العطاء السخي الخالد.
كل يد نصافحها من أيدي المقاتلين الشجعان نشعر اننا صافحنا التاريخ، صافحنا القيم الروحية التي قامت امتنا عليها منذ القديم ونشعر باننا نصافح المستقبل المجيد الذي ينتظر امتنا، ويحق لكم أيها الرفاق بأن تعتزوا، ولو ان البطولة مرادفة دوماً للتواضع وللبساطة. إنها تخلع على صاحبها صفات التواضع والعفوية لأنها تخرجه من دائرة المظاهر الزائلة وتضعه في قلب الخلود، يحق لكم ان تعتزوا لأنكم حررتم أرضاً مقدسة واستعدتم حقوقا غالية ولأنكم عملتم وأنقذتم الأمة العربية من مخطط خبيث وأنقذتم دورها الحضاري الشرعي الذي كانت هناك محاولة خبيثة للتآمر عليه، وهيهات ان يستطيع أحد انتزاع دور الأمة الذي أهلها له التاريخ وأراده لها الله سبحانه وتعالى كما هو واضح في آياته البينات، لذلك فشلت مؤامرات الأعداء ومحاولاتهم.
نحن نزداد ثقة و إيمانا بان هذه الانتصارات ستعزز في كل الظروف والأحوال لانها من نوع يختلف عن كل ما عُرف، انها انتصارات شعب وجيش مهيأ لحمل الرسالة..
والسلام عليكم
20ايار 1981
(1) حديث خلال زيارة مقر الفرقة الثالثة في 20/5/1981
—————————————————-
الصورة المشرقة في العراق
ايها الأخوة الأعزاء (1)
كلما التقي بجمع من الشباب العرب يتجدد إيماني ويتعزز بعقيدتنا وبمبادئنا وباهدافنا الكبرى وبرسالة امتنا. كلكم أيها الاخوة تجسدون أعظم واسمى هدف لأمتنا في هذا العصر هو هدف الوحدة، فأنتم صورته الرائعة وتجسيده الحي، وأنتم الايمان العميق المتجدد بالمباديء، الايمان الذي لاتزعزعه النكسات العابرة ومظاهر التردي والتراجع والفساد التي تطفو على السطح في معظم اقطارنا العربية، ولكنها لا تمثل جوهر الشعب بل هي نقيض هذا الجوهر. وأنتم بايمانكم، بحماستكم بنضالكم تؤكدون بأن هذه المظاهر السلبية السطحية لابد ان تنهزم وفي وقت قريب، لابد أن تنهزم أمام الارادة الشعبية، أمام نضال الجماهير الواسعة، أمام إرادة الشباب العربي، فالشباب له دور تاريخي في كل وقت وفي هذه المرحلة بالذات، وبخاصة أنتم بالفعل مطالبون بأن تعبروا بأصراركم الثوري، بنضالكم العنيد، بمبدئيتكم الصلبة أن تعبروا عن الإرادة التاريخية لأمتكم العربية، إرادة النهوض والانبعاث، وقد حان الوقت وتوافرت الشروط لهذا الانبعاث رغم المظاهر السلبية التي نراها ونصطدم بها، بل إن هذه المظاهر بمعنى من المعاني هي مؤشرات عن قرب ساعة الخلاص لأنها تمثل النزع الأخير للأمراض المتبقية في جسم الأمة، والعناصر الفاسدة واليائسة المستسلمة التي رضيت بأن تمثل دور المعوق لساعة الخلاص، دور المعوق لانبعاث الأمة لانها تعرف أن انبعاث الامة هو موتها ونهايتها.
ايها الشباب
هاقد مضى على حركتكم التاريخية، على ظهورها ونشر مبادئها ونضال مناضليها وجماهيرها ما يزيد على الاربعة عقود من السنين ومازلنا نسعى وراء هدف الوحدة، وهذا الهدف توضع في طريقه أكبر العوائق وتتجمع عليه أخطر المؤآمرات ومع ذلك فانه حي في نفوس الجماهير العربية من الخليج الى المحيط، هو أعمق محرك لنضالها، وهو أعمق باعث لعطائها ولآمالها المستقبلية، هذه الجماهير تدرك بالوعي وبالحس الصادق الصافي بأنها لن تعود إلى مسرح التاريخ ولن تقدم مساهمتها الحضارية إلى العالم إلا عندما تتوحد الأمة العربية، فرغم كل الافتراءآت ومحاولات التشويه والتعتيم لكي يُجعل منها معركة هامشية ومعركة حدود ومعركة خاصة بقطر، ولكن مساهمتكم وتجاوبكم وتجاوب الجماهير العربية في أقاصي الوطن الكبير يدل بأن كل محاولات الافتراء والتضليل والتشويه فاشلة، لان العبرة في العمل، في العمل الصادق، العبرة في التضحية. وادركتم كما ادرك الضمير الشعبي في أمتنا وفي أرجاء وطنها الواسع بأن معركة يُقبل عليها الشعب، شعبنا العظيم في العراق بمثل هذا الايمان، بمثل هذه الحماسة وبمثل هذا الاجماع وهذه الوحدة المقدسة، هذه المعركة لا يمكن ان تكون معركة هامشية ومعركة حدود، لابد أن تكون متصلة بأعمق مقومات الوجود العربي، الوجود القومي، لابد ان تكون طريقاً إلى تحقيق أعظم الاهداف القومية. المعركة التي تبذل فيها التضحيات الغالية بمثل هذا السخاء، المعركة التي تتصل فعلا وصدقا بمعاركنا الأولى معارك الرسالة العربية، بالروح الملهمة الأولى التي نشرت العقيدة والمباديء والتي كان المجاهدون العرب فيها يعيشون في السماء وهم على الارض، يقاتلون ونفوسهم وافئدتهم بالجنة. إن قبسا من تلك الروح المقدسة قد عاد، قبس من تلك الروح الخالدة يؤذن بالنهضة الأصيلة الحقيقية الشاملة التي ستبدأ من هنا لتعم الوطن الكبيركله. أعداء الامة العربية الاستعماريون، الصهاينة لايتركون وسيلة إلا استخدموها لاضعاف أمتنا، لوقف وتأخير نهضتها، لتمزيق كيانها والحيلولة دون وحدتها، يستعملون كل الأسلحة المادية والمعنوية ولكن الجيل الجديد الذي تمثلونه يجمع كل هذه المظاهر وهذه الدروس ليعمق وعيه وليتزود بالوعي الذي يتكافأ مع تحديات الأعداء بكل وسائلهم المتقدمة، والذي يتكافأ مع تحايات العصر من كل نوع.
رأيتم الغرب أيها الرفاق كيف يوارب ويغالط، لقد وقف من التغيير الذي حدث في ايران موقفا سلبيا وأخذ يندد بالعقلية المتخلفة التي سيطرت عليه ويحذر من عواقب هذه العقلية فيما لو نجحت واتسع تأثيرها ولكن عندما وجهت هذه العقلية شرها وتخريبها وجهة الأرض العربية والكيان القومي العربي وشخصية الأمة العربية بغية تمزيقها وتفتيتها أصبحت في نظر الغرب ونظر الصهيونية عقلية مقبولة مستساغة فيها المزايا الروحية والثورية والى آخر هذه الأوصاف، كل ذلك لأن الغرب الاستعماري، الامبريالية والصهيونية العالمية لايعتبرون أن هناك عدوا لهم يعوق إستثمارهم واستغلالهم ويعطل مصالحهم المجرمة في بلادنا وفي العالم إلا الامة العربية، كل ماعداها يصبح في نظرهم أعداء ثانويين يمكن أن يحالفوا، يمكن أن يستخدموا ويوجهوا ضد حركة الثورة العربية، وهكذا ترون التقاء الذين هم في الظاهر أضداد وهم في الظاهر ينتمون إلى معسكرات متناقضة متعادية يلتقون على عداء الأمة العربية ومعاداتها، هذا ماينبغي ان يدخل في وعيكم لكي تخرجوا من هذه التجارب كلها بجديد فيه كل الواقعية والعقلانية وفيه كل الاصرار والعزم والارادة التاريخية، لأننا قادرون أن نواجه مؤآمرات الأعداء ووسائل تخريبهم إذا وفرنا لوطننا ولشعبنا الوسائل التي توحد جهوده والتي تهيء له المناخ الصالح لكي يعطي أقصى ماعنده من إمكانات ومن بطولات وهذا ماقدمه لكم، ما قدمته لكم تجربة حزبكم في العراق، قدمت لكم نموذجا باعثاً على الأمل والتفاؤل، نموذجاً للعمل الجاد المتصل الذي يضع القاعدة الأساسية له، الانسجام مع الشعب، حب الشعب، الاتصال بروح الشعب والسير به نحو عمل كبير، نحو هدف تاريخي يحرك كوامن نفسه وأعمق ذكرياته الحضارية وأعمق تطلعاته الى الحياة الجديدة.
أيها الرفاق
لعلكم تذكرون آية كريمة تقول “والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” جدير بكم أن تتأملوها مليا وان تدركوا من خلالها لماذا تتطلب قضية الأمة العربية صبرا طويلا، ذلك لأنها قضية حق والحق لايبلغ بسهولة دوما، وهو في كل مراحل التاريخ صعب المنال، لابد ان نبذل التضحيات، لابد أن نجاهد ونناضل ونصبر صبر المؤمنين، الصبر المتحرك المملوء بالعمل والنضال وبالفكر لاصبر المنعزل، ذلك لان قضية الحق هي دوما صعبة والامة العربية قضيتها حقة وعادلة ولذلك فهي صعبة وفي غاية الصعوبة، وهذه المعركة من اسطع الأدلة على كون قضيتنا القومية صعبة تتطلب صبرا ونفسا طويلا كما تتطلب نضالا بطولياً وتضحيات غالية، هذه المعركة التي افتعلت افتعالا، فيها الافتعال وفيها التجني وفيها الغرور لأنها ليست معركة ايران، ايران قامت بمعركتها وانتهت، حررت نفسها من حكم ظالم وفاسد فلماذا التحرش بالأمة العربية وبالقضية العربية وبالقومية العربية وبالنهضة العربية واسسها؟ ولكننا إذا كنا نتهيأ لانبعاث أصيل يستمد روحه من الروح العربية الاولى ويطمح الى دور.. ان نتخذ من هذه التجنيات والأعمال العدوانية غير المبررة التي تعترض نهضتنا وتستهدف قوميتنا يجب ان نتخذ من ذلك حافزاً لتعميق معاني النهضة العربية الحديثة وتعميق فكرنا ونضالنا ولكي نصدَّ عن نهضتنا وعن مبادئنا واهدافنا بمزيد من الوضوح والشمول والعمق والاصالة والفكر العلمي الحديث، هذا التحدي الذي جاءنا من ايران وكانوا يحسبون أنه سيوقعنا في الحرج والذعر والتلاشي أمام شعارات ضخمة، ومادروا ان النهضة العربية تقوم في أساسها وفي روحها على هذه القيم الروحية التي هم يدعون الانتماء اليها ويتخذونها سلاحا لمحاربتنا.. هذا تراثنا وهذه قيمنا وهذا وجودنا العميق والأصيل، لذلك باؤوا بالفشل وبالخيبة، وبدلا من أن يجدوا أمامهم الخوف والارتباك والتفتت والانقسام والتراجع والهزيمة وجدوا ثورة صحية معافاة واثقة من نفسها عميقة الجذور الشعبية، عميقة الاتصال بالروح الأصيلة لهذه الأمة، منفتحة على العصر لاتزيدها التحديات الا إشراقاً والا خصباً وتفتحاً وعطاء، ولقد كان تحديهم لنا برغم أننا لم نرد هذه الحرب بل فرضت علينا ولكننا لم نتهرب منها فكانت مناسبة، لكي تعلن هذه التجربة الثورية التي يقودها حزبكم في هذا القطر العظيم لكي تعلن تباعا من خلال المعارك البطولية القاسية عما يكمن فيها من قوى ومن فضائل ومن إمكانات، لكي يكشف الشعب عن جوهره الرائع، لكي يتبارى هذا الجيش البطل في أعمال بطولية جعلته الأمل المرتجى للأمة العربية في معركتها المصيرية القادمة لتحرير فلسطين، اذن عندما يُحدث التحدي مثل هذه الآثار الايجابية، عندما يكون مناسبة لكل هذه الانجازات والعطاءات الرائعة ولانرى في المقابل عند المعتدين إلا صورة كئيبة ليس فيها أي عطاء ايجابي لا لأنفسهم ولا للحضارة ولا للعالم، عندها نعرف ونتأكد بأن معركتنا عادلة وان قضيتنا قضية حق وانها اذا كانت وما تزال أمامها طريق طويلة وماتزال تحتاج الى صبر طويل فذلك لكي لاتكون نهضتنا نهضة سطحية، لكي نكون جديرين بتاريخ أمتنا، لكي يتسنى لشعبنا العربي من الخليج إلى المحيط ان يعطي أقصى واعمق ما عنده كما رأينا شعب هذا القطر يتنافس على الاعمال الخالدة، واننا مؤمنون بأن الشعب العربي هو شعب واحد هو في أي قطر آخر كما هو في العراق وان امامكم انتم أيها الشباب، أيها الاخوة مهمة إن تكن صعبة فهي ايضا لذيذة ومشرفة وملهمة للمروءة وللرجولة ان تندبوا انفسكم لنضال صادق في اقطاركم يتخذ من هذه الصورة المشرقة التي شاهدتموها في العراق نموذجا وحافزا وانتم واثقون كل الثقه بأن التلبية ستكون كاملة وان شعبنا في أي ارض عربية هو نفسه، هو باصالته وبإمكاناته اللامحدودة سيعطي اضعاف ما تطلبون منه.. والسلام عليكم.
ميشيل عفلق
10 تموز 1981
(1) حديث مع مجموعة من الشباب العرب المتطوعين للمشاركة في القادسية، خلال زيارة مدرسة الجيش الشعبي في 10/7/1981.
—————————————
17 تموز تجسيد لمفهوم البعث للبطولة
الثورة في قطر، وفي مثل هذا القطر(1)، لا تنفصل عن أوضاع الحزب ولا عن إطارها القومي..
نظرتي لثورة 17 تموز المجيدة، ولتجربة الحزب في العراق، هي النظرة التي تضعهما في سياق المسيرة الكلية للحزب، وضمن اطار الأوضاع والظروف التي تعيشها الأمة..
بهذه النظرة البعثية، النظرة القومية الحية الشمولية، نتطلع الى ثورة الحزب في العراق.. وهي نظرة تعبر عن موقف ملتزم، لا يكتفي بالتقييم الموضوعي، والبحث الحيادي المجرد، لاننا نحمّل هذه الثورة آلامنا وآمالنا القومية. فتفكير البعث، وبالرغم من إيمانه بالعلم، وانطلاقه من الحقائق الموضوعية.. فان اختياره لطريق الثورة، قد جعله يتطلع دوما إلى الحقائق الحية، ويتعامل مع الأشياء والأحداث تعاملا معبرا عن موقف من الحياة، وعن الالتزام بقضية نضالية، هي انبعاث الأمة في هذا العصر.
ضمن إطار هذه النظرة، كانت تبرز مكانة العراق في حياة الحزب، وكانت علاقتي بحزبنا في العراق، منذ البداية، ذات روابط عميقة. فقد برهن مناضلو الحزب في العراق، منذ الخطوات الأولى، على انتماء عميق لفكر الحزب، على جدية ورجولة متميزة. فكتاب (في سبيل البعث) طبع أول مرة عام 1952 في العراق، وقد فوجئت به عندما أرسلوه لي. فهم الذين اختاروا المقالات، والاسم ثم أخذ يتوسع في الطبعات اللاحقة.
ولم يمض وقت طويل، حتى اتضح لي انه بالاضافة الى المزايا الذاتية للمناضلين البعثيين العراقيين، هناك الظروف الموضوعية للعراق، السياسية والاجتماعية التي كان البعثيون يعملون ضمنها، والتي كانت أكثر ملائمة من ظروف سورية، لكي تأخذ أفكار الحزب مداها الثوري. فأوضاع سورية كانت من حيث تطور الحياة السياسية، ونمو الأحزاب والممارسة الديمقراطية الليبرالية، ملائمة لولادة الحزب، الا انها كانت تدفع بالاتجاه في الطريق نصف الثوري، إذا جاز التعبير.
وهكذا فان الأساس الثوري الأصيل في البعث، الذي كان يتطلع دوما الى ممارسة دوره التاريخي، هو الذي دفعه الى ان ينقذ نفسه من إغراء الانسياق مع الطريق الاصلاحي، الذي كانت ظروف سورية السياسية والاجتماعية، تفرضه، بأنه قفز من فوق هذا الواقع، طرح شعار الوحدة مع مصر. وظل متشبثا به، ومصرا عليه، حتى أصبح حقيقة واقعة.
ومنذ ذلك الحين، وبهذا الانجاز الضخم، الذي ما كان ليتحقق لولا وجود قائد تاريخي فذ هو الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أصبح البعث وفكر البعث، في قلب القضية العربية وفي صميمه.
وكان التأثير الأكبر لهذه القفزة على العراق، وبالتالي على نضال الحزب في العراق. اذ لم تمض أشهر حتى سقط الحكم الملكي الرجعي المرتبط بالأحلاف الاستعمارية كثمرة اولى لقيام الوحدة بين سورية ومصر.
واتسعت مسؤوليات الحزب في العراق، وبخاصة بعد النكسة التي أصيبت بها ثورة 14 تموز، بالانحراف الانفصالي الشعوبي الذي مثله حكم قاسم، وأصبح نضال الحزب في سورية مرتبطا أوثق الارتباط بنضاله في العراق. فكما ان نجاح الحزب في سورية قد ساهم في إسقاط العهد الرجعي في العراق، وغذى نضال الحزب والفئات القومية ضد حكم قاسم.. كذلك فان نضال البعث في العراق، هو الذي أسهم في انتشال سورية من وهدة الحكم الانفصالي المقيت، وذلك عندما فجر البعثيون العراقيون ثورة 14 رمضان المجيدة.
واستمرت هذه العلاقة بين فرعي الحزب في القطرين. كانت بنية الحزب في سورية قد عانت كثيرا من الضعف والتمزق، نتيجة حل التنظيم أيام الوحدة، وسوء تطبيق الوحدة في القطر السوري. لذلك لم يقو الحزب بعد (8 آذار) على منع التسلط الذي مارسته التكتلات العسكرية والطائفية. وزاد في ضعفه اغتيال تجربة الحزب في العراق في ردة 18 تشرين.. فكانت السنوات الثلاث حتى شباط 1966، سلسلة من الصراعات بين الحزب وبين المتسلطين عليه الذين انتحلوا اسمه ليغيروا معالمه، ويدجنوه، ليصبح أداة مسخرة للحكم.
مقاومة الخطر
لقد قاوم الحزب التاريخي ذلك الخطر، وتلك الانحرافات مقاومة بطولية. فكان انقلاب 23 شباط فرزاً موضوعيا، لان المتسلطين لم يستطيعوا كسب احد من المناضلين، بل ملئوا بهم السجون التي شهدت البطولات والتضحيات، المعبرة عن روح الصمود والمقاومة العنيدة للانحراف والتسلط، مما جعل الحكم في سورية يعيش، منذ ذلك الحين، في الفراغ المبدئي العقائدي، والعزلة الشعبية، وعقدة فقدان الشرعية.
في حين انصرف الحزب الى إعادة بناء نفسه، محتفظا بعقيدته كاملة وناصعة، وبتاريخ نضاله المشرق، ومؤمنا بان المستقبل سيكون لهذه العقيدة ولخطها التاريخي. واستطاعت الروح المبدئية ان تنتصر وان توصل الحزب الى المؤتمر القومي التاسع، الذي يعتبر بحق، بالنسبة الى خطورة ذلك الظرف من اهم المؤتمرات القومية.
وجاءت ثورة 17 تموز لتكمل حلقات السلسلة التي كانت تؤشر باستمرار صعود الحزب فوق أزماته ونحو تحقيق أهدافه التاريخية، ولتنقل نضال الحزب الى مستوى جديد.
في 17 تموز، لم نكن مفاجئين، لأننا كنا نعرف قوة تنظيم رفاقنا في العراق، وقوة تصميمهم. فكانت نظرتنا الى ثورة 17 تموز، تحمل منذ البداية، كل ثقل الآلام الماضية التي عاناها الحزب في سورية، وثقل الآمال التي يتيحها إيماننا بعقيدتنا، وبعمق تجاوبها مع ضمير أمتنا العربية.
و الواقع أن ثورة 17 تموز، جاءت في لحظة من أحرج لحظات وتاريخ الحزب والأمة. فكان يتوقف على نجاحها أو فشلها، نجاح وفشل الحزب والقضية القومية، لفترة طويلة، من آثار التآمر والغدر، في ردة 18 تشرين، وما تبعها من قمع وحشي، تعاونت عليه أجهزة أكثر من قطر عربي واحد..
هذه القيادة هي التي استطاعت أن تجدد ثقة المناضلين بحزبهم، وعقيدتهم، وبإمكان التغلب على النكسة، وتحقق النصر على الحكم الرجعي الفاسد. إن هذه القيادة هي التي تشكل العامل التاريخي الذي جعل من ثورة 17 تموز قفزة نوعية في حياة الحزب والأمة.
قلنا بأن ثورة 17 تموز أتت في ظروف في منتهى الدقة والحراجة، أي بعد 23 شباط وبعد هزيمة حزيران، والتي حملت دروس وآمال هاتين النكستين. الدروس السلبية، والآمال في التغلب على الهزيمة والنهوض من الكبوة، على أسس جديدة متينة، يكون فيها العقل العلمي المنظم والمخطط، بنفس مستوى الروح الثورية الاصيلة المتصلة بروح الشعب وجماهيره الواسعة، وبتراث الأمة ورسالتها، وبتطلعاتها المشروعة الى الحياة الجديدة. وهذا ايضا قد توفر بشكل رائع في شخصية الرفيق القائد صدام حسين، الذي كان مهندس الثورة، قبل ولادتها، والذي استمر في بنائها وقيادة خطواتها وتحقيق الانجازات والانتصارات، بالحكمة والشجاعة معا وبالتعاون مع رفاقه المناضلين، حتى بلغت هذا الحد من البناء الصحي المتألق، الزاخر بالحيوية والعطاء، والذي يمثل حالة فريدة نموذجية في الحياة القومية العربية الحديثة، حالة لم يسبق للعرب ان عرفوها او عاشوها، منذ مئات السنين، فهي تعبر عن روح النهضة العربية وعن روح البعث، وهي تمثل حالة تخطي الضعف والعجز والتردد والانقسام وتمثل السيطرة على النفس وعلى القدرات، واستغلال كل الطاقات، وتحقيق أعلى حد من الانسجام والمشاركة بين القيادة وجماهير الشعب، وأعلى حد من الوحدة من خلال تجنيد مجموع الشعب لتحقيق أهداف قومية تاريخية.
وكانت المعركة التي يخوضها العراق منذ عشرة أشهر، دفاعا عن أرضه وسيادته وعروبته ووحدة مجتمعه، وبالنيابة عن الأمة العربية ايضا، دفاعا عن قوميتها وشخصيتها الحضارية ومستقبل نهضتها. هذه المعركة التي فرضت على العراق ولكنه لم يتهرب من خوضها، فقد كشفت أن العراق، انما يقوم بعمل دفاعي، وان قيادة العراق كانت واثقة من انها بهذا التصدي للخطر الشعوبي انما تقوم بواجب مقدس، يندبها اليه تاريخ الامة العربية وضميرها ووعيها الثوري الحديث وانها، عندما قبلت المنازلة، كانت واثقة ثقة مطلقة بالنصر لانها واثقة من البناء المتين السليم الذي هيأتهه لشعب العراق طوال ثلاث عشرة سنة، واثقة من عمق التربية الوطنية والقومية التي قام بها الحزب في اوساط الشعب، وفي كل شرائحه، وواثقة من اعداد الجيش وتدريبه، ومن الروح النضالية البطولية التي تميز بها دوما، وواثقة مما اضافته الثورة الى ذلك من وعي قومي ثوري ومن روح رسالية وآفاق حضارية هيأت الجيش العراقي لان يكون طليعة متقدمة لتحقيق اهداف الامة.
لذلك فنحن لم نفاجأ بالانتصارات، بالبطولات الفذة التي تفجرت من خلال المعركة، فهي لو لم تكن معركة عادلة، ولو لم يكن الشعب مقتنعا بعدالتها لما اعطت هذه النتائج الباهرة، على صعيد القتال، وكل الاصعدة الاخرى.
إننا لم نكن نريد هذه الحرب، رغم ثقتنا التامة بقدرتنا على الانتصار، والعراق منذ الأسبوع الأول حتى الآن، وهو المنتصر دوما، يجدد باستمرار رغبته في السلم لكي يحشد قواه في مواجهة العدو الصهيوني، العدو الاساس للامة العربية، الذي استغل ظروف الحرب ليقوم بعدوانه على المفاعل النووي، ويكشف أمام العالم اجمع عن الدور الذي أنيط به، وهو الوقوف في وجه النهضة العربية الحديثة، والحيلولة دون امتلاك العرب للمعلومات والخبرات التكنولوجية الحديثة التي تساعدهم على استثمار ثرواتهم، وتطوير امكانياتهم والارتفاع إلى مستوى المواجهة المتكافئة مع اعداء نهضتهم.
إن البطولات التي تفجرت في القادسية الجديدة، قد خلقت حالة فريدة في الحياة القومية وأدخلت عنصرا جديدا على حسابات العدو الاساس للأمة العربية، فرأى من خلالها صورة مستقبله وهي تهتز وتنذر بالمخاوف، لان تلك البطولات هي بدورها من نوع جديد: انها (البطولة البعثية) التي تتميز بانها مقترنة بالوعي، تتكامل به وتتفتح معه، وتفتتح عهدا جديدا، للثورية وللفكر الثوري..
البطولة في مفهوم البعث
فالبطولة بمفهوم البعث، هي اساس (الثورية)، والوعي في المرحلة الثورية للأمة العربية هو بحد ذاته بطولة، كما ان نشر هذا الوعي الكامل العميق، الوعي الثوري العربي المرتبط بقيم الثورة العربية واحترام قوانينه والإخلاص له، هو وجه مكمل للبطولة، ومصحح ومعمق لها، لأنه يطالب نفسه بالمزيد من التفوق، والتجاوز لكل ما من شأنه ان يحد من تعميم البطولة وخلق مجتمع البطولات.
فهذه المعركة قد تحولت الى حقل للإبداع البطولي لانها جاءت نتيجة لحالة ثورية اقترنت فيها البطولة بالوعي والايمان، فهي حالة ايجابية متكاملة، وليست حالة اندفاع عابر. انها حالة امتلاء وفيض، أعطت دفعا جديدا لعنصر الوعي كما انها، بحد ذاتها، ثمرة من ثماره.
تكامل الشروط التاريخية
إن هذه التجربة الصحية، والمعركة الظافرة، والحالة النادرة، انما هي تعبير عن تكامل شروط تاريخية للدخول في مرحلة جديدة لكي يندفع البعث بكل قوة وعمق على طريق الانبعاث القومي، لكي تسترجع الأمة كل قواها، وتصب كل طاقاتها في الطريق الصحيح لتحرير فلسطين، وتحقيق الوحدة العربية، لان هذا هو معيار ثوريتها ومبدئيتها وقدرتها على تجديد النضال، والوعي، والارتفاع الى موقع اكثر تقدما في مسيرة النهضة العربية. فكيف لا اشعر بالسعادة لرؤية تجربة ثورية عربية، تحمل الافكار الاساسية للحزب، وتجمع الى الامانة للفكر البعثي، العبقرية والابداع في فهمه واخصابه وتطبيقه. ولئن جاء الحاضر أروع من الأحلام التي راودتنا في بداية الحزب، فإننا نؤمن ان امتنا تخبئ في ضميرها وعبقريتها ما سوف يجعل المستقبل اكثر روعة وعظمة.
17 تموز 1981
(1) حديث لجريدة “الثورة”في العيد الثاني لتسلم الراية، والذكرى (13) لثورة 17-30 تموز المجيدة.
————————————-
طريق البناء القومي الحضاري
هذه المناسبة التي جمعتنا هي لتوديع رفاقنا الذين عملوا في مكاتب القيادة القومية فترة من الزمن وانتقلوا الآن الى مواقع أخرى في خدمة الحزب، وكذلك هي للترحيب بالرفاق الجدد الذين عينوا لهذه المكاتب، وهي مناسبة طبيعية واعتيادية ان ينتقل الرفاق من مكان الى مكان آخر في خدمة الحزب وأن يأتي رفاق آخرون ويستلموا مسؤوليات جديدة، ولكننا نعيش في ظروف غير اعتيادية تضفي على اي عمل من الاعمال التي كانت تعتبر روتينية –ظروفنا الراهنة تضفي حتى على هذه الاعمال والمناسبات– طابعاً خاصاً هو مستمد من الحالة النادرة التي يعيشها الحزب مع الشعب والتي تكاد تلغي من حياتنا كلنا كل شيء اعتيادي، كل شيء روتيني وتعطي لكل ساعة بل لكل دقيقة من دقائق يومنا طعما خاصا، معنى خاصا، شعورا خاصاً يمكن وصفه بأوصاف شتى ولكن يصعب أن نصفه بكلمة واحدة، ولعل تعبير الظرف التاريخي، العمل التاريخي، يوجز بعض هذه الصفات، فنحن فعلاً نعيش ظرفا تاريخيا ونشارك في عمل تاريخي.
عندي قناعة عميقة بأنه من الأعمال التي سيذكرها التاريخ بعد ألف سنة، سيذكرها تاريخنا القومي، ستذكرها الأجيال العربية كما نذكر نحن الآن أحداثاً خالدةً في حياة أمتنا مرت قبل ألف عام وأكثر، فأيّ شرف يفوق هذا الشرف وأية سعادة تفوق هذه السعادة بأن نشعر جميعاً بأننا نعيش في هذه الفترة التاريخية ونساهم في صنعها كل حسب موقعه وظروفه و إمكاناته. هو شرف للبعثيين قاطبة أينما وجدوا، ان تكون هذه التجربة الثورية التي توّجتها هذه المعركة الظافرة ثمرة من ثمار نضال حزبهم، وهي بصورة خاصة شرف للبعثيين العراقيين لأنهم تميزوا واستطاع نضالهم الجدّي القومي الطويل أن يبني بناءً متيناً وأن تُغرَسَ أفكارهم ونضالهم في تربة خصبة طيبة، في تربة هذا الشعب العظيم، وهكذا وصلوا الى حالة تختلف نوعياً وجوهرياً عن كل ما عرف في وطننا العربي الكبير من حالات الثورة والعطاء الثوري، وصلوا الى حالة نادرة في عمق التجارب مع ضمير الشعب ومع تطلعات الشعب واستعداداته الكامنة وسجاياه الأصيلة واستعداده لنهوض تاريخي، لنهوض حضاري، وصلوا الى تحريك هذه الأوتار في قلب الشعب، في ضمير الشعب، في عقل الشعب، حتى أصبحت هذه النهضة أنموذجا وصورة مصَغرة لما تطمح إليه أمتنا في مستقبلها وبداية مشرقة ومشجعة وفياضة بالإلهام والإيمان بمستقبل هذه الأمة وبقدرات هذه الأمة وبأنها تجاوزت مرحلة الضعف والمرض والتخلف، تستطيع فيه ان تستشف حاجاتها الحقيقية الأصيلة وأن تتجاوب بعفوية وطلاقة وحماسة مع مبادئ الحزب الذي هو حزب المستقبل العربي، بالإضافة الى كونه حزب الأصالة العربية الضارب جذوره في أعماق تاريخ أمتنا والمستلهم لأخلاقها وفضائلها ورسالتها.
إذن هذه النتيجة التي وصلتم إليها أيها الرفاق ووصل البعثيون بهذا القطر اليها هي مكافأة كبيرة لكل ما عانيتموه منذ عشرات السنين من الآلام والمشاق، ولما عاناه رفاقكم في أجزاء الوطن العربي من الآلام والمشاق، ولما بذلتموه وما بذلوه من روحكم ومن روحهم بدافع المحبة لأمتكم والغيرة على مستقبل أجيالها وعلى مكانتها في العالم، هذه المكافأة التي تغمرنا جميعاً بشعور السعادة، وتمدنا بأمل جديد وبإيمان متجدد من أجل متابعة الأشواط الباقية من نضالنا الطويل الصعب، لأننا منذ لحظة تكوين هذا الحزب عرفنا جميعاً وتعاهدنا على أن نمضي الى آخر الطريق في نضال البعث حتى تتحرر كل أجزاء وطننا الكبير، وحتى تتوحد في الدولة العربية الواحدة، وحتى نقضي على كل غاصب ومستعمر ومستغل على أرضنا، وحتى نهيئ الشروط لنهضة حضارية فذة تليق بماضي أمتنا المجيد، هذا ما أشعر به في هذه المناسبة، وإن الرفاق الذين يذهبون الى أماكن أخرى والرفاق الذين يأتون الى مكاتب القيادة من جديد يشعرون بأنهم أعضاء في جسم واحد، لا فرق بين مكان ومكان، بين مرتبة ومرتبة، جسم واحد ودم واحد يسري في هذا الجسم وعقل واحد وشعور قوي واحد بعِظَم المسؤولية وشرفها وثقة لا حد لها، ولم تتوفر في وقت من الأوقات مثلما تتوافر الآن في ضمير كل بعثي، وثقة لا حد لها بأن العمل المخلص الصادق الواعي لن يضيع ولن يذهب سدى بل سيصب كله في مجرى واحد، في مجرى هذه النهضة التاريخية، وسيكون خطوة ومرحلة على طريق البناء القومي الشامخ الذي يعمل له حزب البعث العربي الإشتراكي الى مئات السنين، أتمنى لكم التوفيق في أعمالكم حيثما كنتم والسلام عليكم.
21 كانون الأول 1981
(1) كلمة في حفل توديع مدراء واعضاء القيادة القومية بتاريخ 21\12\1981
——————–
1982