You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

ميشيل عفلق: التنظيم الإنقلابي

عام 1950

ان الصفة المميزة للبعث العربي هي انقلابيته، اذ قد توجد احزاب تهدف الى تحقيق بعض مبادئ البعث العربي او كلها ولا تكون انقلابية لانها لا تكون صادقة في تبنيها تلك المبادئ ومحاولتها تحقيقها. فالبعث العربي، لا يفترق عن الاحزاب الرجعية فحسب، تلك الاحزاب التي تقاوم عن وعي وتصميم الدولة العربية الموحدة الاشتراكية التقدمية بل يفترق ايضا عن الاحزاب التقدمية الزائفة التي تدعي ان بامكانها تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، او بعضا من هذه الاهداف عن غير طريق الانقلاب. فالانقلاب في البعث العربي ليس هو الطريق الصحيحة لتحقيق مبادئه فحسب بل هو ايضا محك واختبار لصدق تلك المبادئ واخلاص معتنقيها.

وكما ان الانقلابية تفرض نوعا معينا من العمل في الوسط الخارجي السياسي والاجتماعي فهي تفرض كذلك نوعا معينا من التنظيم والسلوك في داخل الحزب. فالحزب الذي ينبري لمقاومة الاحزاب الرجعية والاحزاب التقدمية الزائفة، لا يستطيع ان يؤدي مهمته الا باتباع اسلوب صارم شديد يضمن له وحدة الاتجاه وتماسك العمل وقوته. ولقد ادت حركة البعث العربي للقضية العربية حتى الآن خدمتين كبيرتين، الاولى توضيح الاهداف العربية الصحيحة وما بينها من ترابط ووحدة، والثانية توضيح الطريق الصحيحة التي تضمن تحقيق هذه الاهداف. وقد  امتلأ الجو العربي بهذه الافكار النظرية والعملية التي نشرها البعث العربي، ولكن بقيت المهمة الثالثة والاكثر خطورة من سابقتيها وهي خلق الاداة الفعالة الصادقة  الملائمة لحمل الاهداف العربية والسير بها في طريق الانقلاب. ويمكن القول بان عمل البعث العربي كان اكثره حتى الآن مقتصرا على التوجيه، اي على تهيئة الجو الخارجي والاستعداد الفكري والنفسي لتقبل الفكرة. ولكن دور العمل الخاص بالبعث العربي كحركة منظمة تضم افرادا مؤمنين منسجمين ما زال ينتظر التنفيذ.

ان تحقيق الانقلاب العربي المنشود رهن بتجسيد الروح الانقلابية في نفوس اعضاء البعث العربي وعقولهم، وان انضمام الافراد الى حزب البعث العربي لا يعني خروجهم من الواقع الفاسد وتهيؤهم لمحاربته والظفر عليه الا اذا تجسدت الروح الإنقلابية في فكرهم وسلوكهم. فاذا لم يتحقق هذا الشرط الاساسي بقي انفصالهم عن الوسط الخارجي شكليا وانتماؤهم الى الحركة الانقلابية سلبياً، اذ لا قيمة لمبادئ يعتنقونها ولا يتحملون تبعاتها ومنطقها العملي الدقيق. وليس البعث العربي مدرسة فكرية حتى يكتفي باعلان حقيقة آمن بها، وانما هو حركة رسالتها النضال في سبيل ظفر هذه الحقيقة.

ان التنظيم الانقلابي هو الذي يضمن تحقيق هذا الانفصال الحاسم بين الواقع الفاسد ونفسيته المنفعلة واخلاقه النفعية وعقليته الرجعية، وبين حركة الانقلاب اي الجيل العربي الجديد المتحرر من كل هذه الامراض. ومهمة هذا التنظيم الاساسية هي التوفيق والتوحيد بين غايتين تبدوان في الظاهر مختلفتين متناقضتين، خلق الفرد العربي الذي هو اساس الجيل الجديد، الفرد الواعي المسؤول المؤمن، ثم جعل هذا الفرد اداة فعالة صادقة في الحركة التي ستغير تاريخ امته. وكما ان كل اهمال لإيقاظ الوعي والمسؤولية الاخلاقية والإيمان الروحي في نفس هذا الفرد ينتقص من انتمائه للحركة الانقلابية وانسجامه معها، فكذلك كل تهاون في ضبط هذا الفرد في منطق القدر التاريخي الذي يرتب عليه ان يكون اداة منفذة لهذه الحركة يجعل منه عنصر عرقلة وهدم وتخريب. هذا التوفيق بين الغايتين هو الذي يجعل الفرد العربي عضوا بعثيا.

الحركة الانقلابية مسؤولة عن تهيئة ادوات صادقة للانقلاب، اي عن انسجام أعضائها مع نظرتها ومبادئها، وبهذا المعنى نقول ان لا فرق بين الغاية والوسيلة وان الوسيلة جزء متصل بالغاية نابع منها، وانها ليست مجرد طريق تختاره للوصول الى الغاية بل اشعاع من الغاية يعين لنا الطريق الموصل اليها. والحركة مسؤولة بالدرجة نفسها عن نجاحها في اداء مهمتها، اي عن ضرورة تماسكها ووحدتها واطراد نموها واتساعها، والتنظيم المطلوب هو الذي يضمن للحركة وحدتها واتساعها مع بقاء العقلية والاخلاق والروح الانقلابية مسيطرة عليها.

للحركة الإنقلابية كما ذكرنا نوعان من الأعداء ، العدو السافر وهو كل الفئات والاحزاب الرجعية (والرجعية تشمل الرجعية السياسية والفكرية والاقتصادية) والعدو المقنع وهو الاحزاب والفئات القومية التقدمية الزائفة، لذلك كان عليها  واجبان : المحافظة على اتجاهها الفكري، والمحافظة على اتجاهها العملي. فكل تساهل او انحراف في المبادئ يوقعها في شراك الرجعية، كما ان كل تساهل او انحراف في اسلوب العمل يهددها بالتجزئة والتناثر. فالتنظيم المطلوب هو الذي يقيها هذين الخطرين فيضمن ثبات الفكرة ووحدة الحركة.

ان التنظيم الملائم للحركة الانقلابية هو الذي يستمد من تعريفها، فهي حركة تاريخية فاصلة يتوقف على نجاحها مصير ملايين العرب وبقاء الامة العربية. ان الحركة الانقلابية لاتزال في بدء تكوينها واولى مراحلها، اي انها نواة صغيرة جدا في كيان الامة الكبير، ومع ذلك فهي مسؤولة عن هذا الكيان كله. لذلك فهي تنظم سيرها لا بالنسبة الى واقعها الحاضر بل بالنسبة الى هدفها البعيد النهائي، وهذا هو معنى مثاليتها. ومثالية البعث العربي ليست من قبيل التصوف الروحي او التحرج الاخلاقي او الفكري النظري، وانما في تقدير المسؤولية القومية التي تجعل كل خطوة من خطى المعركة ذات اثر بعيد في مصير  الامة كلها.

حمص، 23 شباط 1950


اقرأ:

ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب

ميشيل عفلق: حزب الانقلاب

ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث

ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة

المصدر
كتاب في سبيل البعث، الجزء الأول، الباب الثالث 18



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى