You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

ميشيل عفلق عام 1946 : الصيغة الجديدة للوطنية

الصيغة الجديدة للوطنية .. من مقالات ميشيل عفلق التي نشرت في افتتاحية صحيفة البعث في السابع عشر من تموز عام 1946م

نص المقال:

 في عهود الانتداب(1) كان منطق المصلحة الوطنية يقضي بأن تكون المعارضة لتلك العهود هي الشيء الوحيد الجائز، الواجب، المشروع. ولكن الذين قدّر لهم آنذاك بفعل ظروف وعوامل مختلفة، ان يمثلوا الحركة الوطنية في وجه الانتداب قرنوا الوطن بأنفسهم، وأعتبروا مصلحته مرادفة لمصلحة اشخاصهم، فلما اضطر الاجنبي أمام مقاومة الشعب، ان يقبل بتحديد سيطرته، وان يتنازل عن كثير من صلاحياته لممثلي الحركة الوطنية فهم هؤلاء من ذلك ان اسباب المعارضة قد زالت، وان التأييد الاجماعي قد أصبح الشيء الوحيد الذي تجيزه مصلحة الوطن وتقتضيه.

لقد احتاج هؤلاء السياسيون الوطنيون الى عشر سنوات مُلئت بأعنف الحوداث الداخلية والخارجية، ليقتنعوا أخيرا بأن المعارضة هي ايضا شيء واجب ومشروع، يمكن ان يكون فيها للوطن بعض الخير.

والواقع ان هذه الطبقة التي آل اليها في فترة من الفترات أمر تمثيل الحركة الوطنية في البلاد، هي أبعد ما تكون عن روح المعارضة وعن فهم ضرورتها والتمشي مع مقتضياتها، لأنها طبقة شائخة هرمة نضبت حيويتها وتراخت الصلة بينها وبين روح الامة، واستُعبدت للمصالح الاقتصادية والنفوذ الاجتماعي التقليدي فتعذر عليها ادراك المميزات التي تتصف بها الحياة العربية في هذا الطور من أطوار تاريخها، وكان من نتيجة ذلك ان دخلت النضال مكرهة وهي تحلم بالاستقرار وتحن الى الراحة. وكم من مرة توهمت خلال هذه الفترة القصيرة من النضال الوطني أن الرواية قد انتهت، والامانة قد أديت، وان وقت قطف الثمار واستيفاء الاجرة قد حان، لولا ان الشعب بحيويته المتجددة وغريزته اليقظة، وثوراته المتكررة، ينبهها بين حين واخر الى بطلان اوهامها ويذكرها تذكيرا عنيفا بأن النضال لم ينته بعد.

ولما اثمرت جهود الشعب وتضحياته وأجلي المستعمر عن ارضه عاود السياسيين الوطنيين حلمهم القديم بالاستقرار والاستئثار، فهم يصرون على اعتبار حكمهم غاية ما تطمح اليه الامة ولا يريدون ان يروا في المعارضة الا حالة شاذة عارضة، تحركها الاغراض الشخصية، وتبررها بعض الاخطاء الجزئية الثانوية في جهاز الحكم لا في اساسه. ولو ان هذا الوهم أو هذه الخدعة كانت مقتصرة على رجال الحكم لهان الامر، ولكن البلية هي في ان اكثر المعارضين يشاركون الحكومة في نظرتها ويرون في المعارضة سبيلا الى تبديل اشخاص بآخرين، وترميم ما تصدع من البناء بأيسر الجهود واقرب الطرق.

ذلك لأن المعارضين ما زالوا أضعف من المعارضة، يقصرون عن فهم معناها العميق ويعجزون عن بلوغ مستواها والتعبير عن قصدها ومرماها، وهكذا كان شأن الوطنيين مع المعركة الوطنية بما اظهروه من تقصير في مجاراتها، وانحراف عن فهم حاجاتها، وليس هذا مجرد قياس وتشبيه، فإن ما نسميه اليوم معارضة هو عين ما كنا نسميه وطنية، والمعارضة هي الصيغة الجديدة للوطنية.

اما علة الوهم والخداع فهي في عقلية الفئة التي مثلت الحركة الوطنية قديما، وهي اليوم ممثلة في الحكم القائم، فاٍن انشغال هذه الفئة بنفسها وبمصالحها جعلها تمزج بين قضيتها الخاصة كطبقة اجتماعية مسيطرة، وبين قضية الشعب العامة، في حين أن بينها وبين الشعب تناقضا في الروح والمصلحة، فرجال الحكم يعتبرون ان البلاد انتقلت من عهد الى آخر هو نقيض الاول، وكما ان المعارضة كانت في العهد القديم هي القاعدة الوطنية والتأييد كان شذوذا، ففي العهد الجديد عهد الاستقلال يصبح التأييد هو القاعدة الوطنية، والمعارضة تكون الشذوذ والاستثناء.

اما أن يكون الاستقلال نقيض الاستعمار، فهذا ما لا يشك فيه احد، ولكن ذلك لا يستتبع ان يكون “الوطنيون” من رجال الحكم القائم نقيض المستعمرين، لذلك استمرت الامة في معارضتها بالرغم من انتقالها الى العهد الاستقلالي بعد عهد الانتداب، بل ان هذا الانتقال قد زادها امعانا في المعارضة وجرأة، لأن من جملة الانتداب انه كان يشغلها بظلمه عن محاربة الظلم في نفسها، ولان من نعم الاستقلال ان الامة تستطيع ان تجابه مشاكلها مجابهة صريحة.

فالذي ينتج مما تقدم هو ان المعارضة قدر الامة في هذه المرحلة من مراحل تطورها، بعد أن كانت شديدة زمن الانتداب وهي اليوم أشد، وكانت تمثل فيه الحركة الوطنية، وهي اليوم تمثل وطنية أصلب وأعمق وأشمل، لأنها تستهدف بعد أن رفعت من طريقها العثرة الاجنبية ان تعيد النظر في بناء المجتمع من أساسه، وان تعمل وتناضل، حتى تتم الغلبة في هذا المجتمع لعناصر الحياة على عناصر الموت والفساد.

هذا هو الموقف الطبيعي الصادق للامة. وسيظل هذا الموقف الى ان يزول التناقض ويستلم الشعب مقدراته بيده، ولا ينقص من قوة هذا الموقف أن تكون طبقة المنتفعين المستثمرين خارجة عنه، ولا يشوه حقيقته وجود معارضين لا يمثلونه في صدقه وعمقه. فالمعارضه هي بالنسبة الى الامة العربية طور تاريخي، وضرورة تفرضها الحياة، وهذا ما يكفل لها ان تهتدي في وقت قريب الى ممثليها الحقيقيين، وان توحدهم في الفكر والعمل.

17 تموز 1946


(1) نشر في جريدة “البعث” في 17 تموز 1946.


انظر مقالات  ووثائق ميشيل عفلق:

في الثلاثينيات:

عهد البطولة 1935
ثروة الحياة 1936

في الأربعينيات:

 القومية حب قبل كل شئ 1940
 القومية قدر محبب 1940
في القومية العربية
1941
نفدي العراق 1941
ذكرى الرسول العربي 1943
التفكير المجرد 1943
واجب العمل القومي
1943
الإيمان
1943
المثالية الموهومة
1943
المثالية الواقعية
1943
المعركة الانتخابية الأولى
1943
حول الاعتداء على استقلال لبنان 1943
الجيل العربي الجديد 1944
الأرض والسماء
1944
موقفنا من النظرية الشيوعية
1944
السياسة الأمريكية حول فلسطين
1944
حول السياسة الأميركية والهجرة اليهودية 1945
موقف الحزب من ميثاق الجامعة العربية
1945
مقابلة ميشيل عفلق مع مجلة النضال
1945
بيان حزب البعث العربي حول مشاكل العرب السياسية  1945
بيان حزب البعث حول الإتفاق البريطاني – الفرنسي “بيفن – بيدو”  1945
حول الرسالة العربية
1946
معالم الاشتراكية العربية
1946
المعاهدة الأردنية – البريطانية
1946
بذور البَعث
03.07.1946
 علة الضعف في سياستنا الخارجية
10.07.1946
 الجمهورية والحرية ماذا عملنا لصيانة نظامنا الجمهوري
18.08.1946

انظر ايضاً:

ميشيل عفلق: التنظيم الإنقلابي

ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب

ميشيل عفلق: حزب الانقلاب

ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث

ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة

بواسطة
ينشر بالاتفاق مع موقع "في سبيل البعث" وأسرة ميشيل عفلق، موقع التاريخ السوري المعاصر



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى