You dont have javascript enabled! Please enable it!
وثائق سوريا

ميشيل عفلق : الجيل العربي الجديد

الجيل العربي الجديد .. من مقالات ميشيل عفلق عام 1944


في حالة رقي الأمة وقوتها تخف مسؤولية الفرد، إذ يكون قادرا على نفعها عاجزا عن الإضرار بها، ولا يكون ثمة تناقض أو اختلاف كبير بين نفعه لها وانتفاعه منها، بل تنسجم المنفعتان في أكثر الأحيان. وبتحقيق الفرد شخصيته تتحقق شخصية أمته، وبقيامه بعمله الخاص يخدم الحياة العامة، وعندما يساهم في أوقات معينة ومناسبات محدودة في العمل العام، يعرف ان مساهمته اذ تضاف الى مساهمة الآخرين تؤدي بصورة أكيدة إلى النتيجة العامة المطلوبة أو ما يقاربها.

ذلك ان الأمة في هذه الحالة تسيطر على مصيرها وظروفها الى حد كبير، فحياتها ايجابية، دافقة، وهي تصعد وكأنها من قوة اندفاعها في نزول. والفرد محمول على تيارها في هذا الصعود يخدمها بلا عناء ولا تكلف.

أما في حالة التأخر والضعف فتتضخم مسؤولية الفرد، إذ يرى كل حركة من حركاته قادرة على الاضرار بأمته، في حين تصبح خدمتها شاقة متعذرة، فاهتمامه بحياته الخاصة ونفعه الخاص لا يكون اهمالا للخدمة العامة فحسب، بل في أكثر الاحيان موجها ضدها. ولا يعود الفرد خلية في جسم الأمة، اذا تغذى غذاها في الوقت نفسه، بل خصما لهذا الجسم لا يقوى الا من ضعفه ولا يسمن الا من جوعه.

واذا أراد أن يدخل الحياة العامة رأى بعد حين أنه بالرغم من رغبته الخالصة في الخدمة، منقاد بمنطق قاهر خفي لان يسخرها لنفسه ومصلحته، ويعيش منها وعليها بعد ان كان ينوي تسخير نفسه وعيشه لنفعها ولخدمتها، ويتضح له أن مساهمته في العمل العام بغية إيصاله إلى هدف مشترك واحد للأمة، لن تؤدي عندما تضاف إلى مساهمة الآخرين، إلا إلى وصول بعض الأفراد إلى أهداف خاصة مختلفة، أي إلى إبعاد الأمة عن هدفها المطلوب.

ذلك أن الأمة في هذه الحالة مسيّرة منفعلة، خاضعة لسلسلة من العوامل والظروف البعيدة والقريبة، الداخلية والخارجية. فبين ظروف الأمة ومصلحتها، بين قدرتها وإرادتها تضارب وتناقض. أي أن عملها عكس نفعها، وواقعها نقيض حقيقتها. وانما تقدر ما لا تريد وتريد ما لا تقدر عليه، فحياتها سلبية وتيارها غائر، اذا تصدى له الفرد شد اليه وغار معه. في مثل هذه الحالة لا يجدي علم بعض الأفراد وكفاءتهم وإخلاص بعضهم الآخر ونزاهته، وغيرة الغيورين وتضحيات المضحين، لأن الآلة الكبرى قادرة أن تتحمل مثل هذا الشذوذ لتتمثله وتهضمه وتطبعه بحركتها وتحوله إلى غذاء لها بعد حين، كما يقدر المجتمع الراقي السليم على تحمل بعض الفاسدين وحتى على الإفادة من فسادهم.

وكل علم يبقى ضمن إطار هذه الآلة هو ناقص، وكل إخلاض مشوب، وكل نزاهة مشتبهة. ولو كان العلم صحيحا لفك صاحبه من هذه الآلة وأخرجه من سجنها ووضعه في موضع حر مجرد يشرف منه عليها ليحيطها بنظرته ويفهم سر تركيبها، ليعرف كيف يهدمها. ولو كان الإخلاص تاما لدفع صاحبه إلى الانفصال عنها والتمرد عليها بدلا من تدعيم قوة الفاسدين. ولو كانت النزاهة حقيقية لحرص صاحبها على نظافة أمته أكثر من حرصه على نظافة سمعته.

ان حالة كهذه تجرف وتشل وتقنط العدد الأكبر. ولكنها قد تخلق أفرادا قلائل وحيدين يصمدون ويعاكسون سيرها، فعندما يتخلى العدد الأكبر عن مسؤوليته يظهر هنا وهناك الفرد الذي يتحمل كل المسؤولية، أي مسؤولية الكل، وهذه خطوة أولى ومربية لأولئك الأفراد يجب أن يعقبها تعارفهم وتوحيد جهودهم، حتى يكونوا القوة التي تحدث في نفوس الآخرين الثقة والاطمئنان إلى أن كل جهد ينصب في هذه القوة مثمر، وانها القوة الوحيدة التي تثمر فيها الجهود. فالعمل ليس عاديا آنيا، بل تاريخيا، وليس سياسة بل رسالة لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية وتهيئة انبعاث للأمة يؤتي أكله في عصور عديدة مقبلة، وليس ينجح فيه جهد افرادي وأسلوب سطحي وإعداد مرتجل، فلا بد اذن من جبل بكامله مهيأ لان يبدع في النضال ويستمر فيه الى نهايته.

اننا اذ نذكر الجيل العربي الجديد نعني به جيلا لم يتحقق بعد وان تكن له في واقعنا ممكنات، ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل اذا لم تظهر فكرته. فالصفة المميزة له انه فكرة كله، وان عمله اشعاع لفكرته، فاذا لم تكن لم يكن. ثمة عمل يترسب منه ما يشبه الفكرة فهي من بقايا العمل وكدره وتفسخه، كعذر وتبرير. لذلك هي اسوء ما فيه وهي دوما دونه، ليس العمل اشعاعا لها بل هي تقطير لظلمته.

ولا يفهم من الجيل الجديد أنه جيل الشباب إذ ليس الشباب فكرة بل هو شرط مناسب لنموها، وقد يكون من الشباب من هم أشد من الشيوخ عداوة ومناقضة للجيل الجديد، لذلك لن تتحقق الفكرة العربية الجديدة الا في نوع معين من الشباب. واهمال هذا الفرق أدى الى فشل كل محاولات البعث التي قامت منذ سنين وما تزال لأنها اكتفت من الشباب برابطة السن وبرابطة أخرى لا تقل عنها خداعا: الثقافة الاصطلاحية. فالجيل الجديد يشترط أيضا وجود فهم معين للثقافة ونوع معين من المثقفين.

ان الوهم الذي ينسب الى السن الشابة قوة خارقة في حد ذاتها هو نفسه الذي ينتظر انتهاء الجيل القديم وموت آخر ممثل له. في حين ان هذا الجيل ليس مجرد أجسام مسنة، بل هو روح وتقاليد قادرة ان تتجسد في الأجيال الشابة الى ما شاء الله. قكما ان الجيل الجديد لا يوجد الا متى وجدت فكرته، كذلك الجيل القديم لا يموت ما لم تمت روحه وتقاليده، او بالاحرى ما لم تقتل بظهور الروح التي تنفيها. وهذا يعني ان كل اصلاح لا يتناول الفكرة الأساسية لحياة الامة هو سطحي فاشل وبالتالي ضار، وكل معالجة تهمل الجذر لتتلهى بالفروع هي اضاعة وقت. ومن هذا القبيل اهتمامنا الذهني (بالأخلاق) وفشلنا العملي فيها، فنحن نحسبها سببا وهي نتيجة، وما الفضائل المتعددة والمتنافرة أحيانا التي نطيل في ذكرها كلما كتبنا او خطبنا الا نتيجة طبيعية لموقف حيوي يجب أن يهيئه الفكر. وان هذه النظرة المعكوسة لتظهر في فهمنا لماضينا المجيد او لحياة أبطالنا، فنحن ننظر الى الأبطال من خلال ضعفنا وانحطاطنا، لذلك نحملهم احمالا من الفضائل لا يتناسب ثقلها مع ما كان لحياتهم من عفوية وطلاقة وتدفق، ولا يتفق تعددها مع ما كان لشخصيتهم من وحدة رائعة.

اذن فنحن لا نطلب جيلا مؤمنا مخلصا جريئا صبورا مضحيا فعالا بل نطلب جيلا جديدا، أي ان يكون له موقف حيوي جديد يستنبع هو نفسه الفضائل التي يتضمنها ويحتاج إليها. ان هذا الموقف لن يكون الا موقفا فكريا يمكن تحديده هكذا:

1- لا نهضة الا من الداخل، من داخل الانحطاط، تنبعث منه لتنفيه، وتستكشف اتجاهه لتعكسه، والجيل الجديد سيخرج من الواقع الفاسد ولكنه سيكون نقيضه، سيولد منه وينفصل عنه، وهو نتيجة للألم، ولا يشعر بألم الفساد إلا من عاش فيه لا منه.

2- ولكن الفساد لا يؤلم دوما ولا يؤلم أيا كان: فالألم قد يخلق ويوضح ويرهف ويجسم ويملأ بالمعنى ويعطي اتجاها. فلا بد من ألم شديد فيه معنى وله اتجاه.

3- ان معنى الألم واتجاهه متوقفان على نوع الاحكام التي يصدرها الجيل الجديد. وحياة هذا الجيل متوقفة على حكمه، لذلك وجب أن يكون حكمه حيا.

من صفات الجيل المنحط انه يحكم على الحاضر حكم مؤرخ، انه مفسر لا مؤثر، يحول الاسباب الى أعذار وقد يحول الاعذار الى مبادئ فلسفية وقواعد اخلاقية. ليس من ضرر في ان يكون حكمنا اليوم على الجاهلية حكما تفسيريا فنستكشف فيها فضائل ونجد لعيوبها اعذارا، ولكن الإسلام حكم عليها حكما حيا وهكذا أدى مهمته. فالذين يحكمون على الجيل القديم هذا الحكم التفسيري هم منه وان كانوا شبابا يافعين، لا بل هم دونه لان القصور الذين اضطر اليه الجيل القديم اضطرارا تعمده جيل الشباب تعمدا. وبما ان التحقيق هو دون المثال دوما، فالجيل الذي يتخذ من النتائج التي وصل اليها الجيل السابق مثلا وغايات سيكون حتما دونه في الخلق والعمل معا.

فالغيرة على الجيل الجديد أي على المستقبل تفرض اسلوبا معينا في وضع المسائل وعرضها ومعالجتها لان ثمة فرقا كبيرا بين وضع المسألة بشكل يوصل الى إيجاد أعذار ومسوغات أو فضائل وحسنات للجيل القديم وبين وضعها بشكل يوصل الى تكوين عقيدة ومثل ومفاهيم تمكن الجيل الجديد من القيام بمهمته التاريخية.

4- ولا يكون حكم الجيل الجديد حيا الا اذا كان له في فكره ونفسه مجتمع مثالي يستمد منه قيمه ويسأله الحكم على تفكيره وعمله. فالمجتمع الواقعي يهدد الشباب بأكبر الخطر اذ هو من جهة يرشحهم لمهام الابطال ومن جهة اخرى يرضى منهم بأبسط الاعمال. فلا بد من الترفع والتغاضي عن المقاييس الواقعية ومن استلهام مقايس المهمة التاريخية، أي المقاييس الخالدة. فالخلود ليس سير الحاضر الى المستقبل بل نقل المستقبل الى الحاضر. وان ابطال العروبة في الماضي المجيد لم يخلدوا لانهم قاموا بالاعمال العظيمة بل قاموا بالاعمال العظيمة لانهم كانوا في حياتهم يعيشون في نطاق الخلود.

5- كل ما تقدم يوصل الى هذه النتيجة: بأن الجيل الجديد لن يكون الا بانفصاله عن الجيل القديم لا في الزمن الاصطلاحي، بل في الزمن النفسي والجوهر، أي في أصل الفكرة ونظام تكونها وصلتها العضوية بمعتنقيها. هكذا نعتبر أصغر تلميذ قابل لان تتجسد فيه الفكرة العربية الجديدة أثمن وأنفع لأمته من أكبر سياسي حافل العمر بالحوادث والتجارب والخدمات. عند ظهور الاسلام كانت قيمة المسلم في كونه مسلما لان فكرة الاسلام كانت كفيلة برفعة الى مستواها، وكان فساد المشرك في كونه مشركا بصرف النظر عن مواهبه وفضائله لأن فكرة الشرك كفيلة بخفضه الى دركها وبتهديم هذه الفضائل وتبديد تلك المواهب. ذلك هو الفرق بين فكرة خلافة وفكرة عقيمة.

الانفصال هو النظرة الصحيحة الى الاتحاد الصحيح، لأن الاتحاد لا يكون في الكم بل في الجوهر والدم، واذا كان الاتحاد الكمي في حالة سلامة الجوهر قوة، فانه يعني الضعف والفوضى عندما يكون الجوهر مفقودا او مشوبا. ففي حالة الازمات الخطيرة التي تتناول جوهر الحياة ينشأ بين الكم والكيف تناقض وتضاد ويتميز العنصر الصالح بخلوه من العناصر الاخرى، وبخوفه ونفوره منها وتخويفه وتنفيره لها، أكثر من تميزه بجمعها واجتذابها. في وقت من الأوقات، وقبل البعثة، كانت الأمة العربية مجرد فكرة ومثال لا يقابلها في عالم الواقع شيء ولا يحققها شخص حي لذلك كانت قوية لانها رفضت ان تتساهل وتقبل بواقع لا يلائمها وانتظرت حتى ابدعت واقعا من فكرها ودمها واحشائها.

وفي وقت آخر عند البعثة كانت الامة العربية رجلا واحدا، وكان هذا الواحد كافيا ليمثلها في ذلك الحين والى ألوف السنين.

فالأمة ليست مجموعا عدديا بل فكرة تتجسد في هذا المجموع كله او بعضه، والأمم لا تنقرض بتناقص عدد افرادها، بل بنقص الفكرة من بينهم. وليس المجموع العددي مقدسا في حد ذاته باعتباره عددا بل باعتباره مجسدا لفكرة الأمة أو قابلا لأن يجسدها في المستقبل، لان الفكرة موجودة في حالة البذور في كل فرد من أفراد الأمة، لذلك يحق للذي تتمثل فيه ان يتكلم باسم المجموع. والزعيم في حالات ضعف الفكرة وتقلصها ليس هو الذي يحظى بالاكثرية أو الاجماع، بل بالمعارضة والخصومة، وليس هو الذي يستعيض عن الفكرة بالعدد بل يحول العدد الى فكرة، وليس هو المجمّع بل الموحّد، أي صاحب الفكرة الواحدة الذي يفرق عنها ويطرح منها كل ما يخالفها ويناقضها.

الجيل الجديد يؤمن بنفسه لانه يؤمن بأمته الخالدة، ويؤمن بأمته الخالدة وبقدرتها على أن تغلب انحطاطها، لأنه يؤمن بنفسه: ما دام هو قد خرج منها، فهي قادرة ان تخرج من نفسها، وما دام هو قد ارتفع فوقها فهي قادرة أن ترتفع فوق نفسها، وما دام هو قد انفصل عنها فهي تستطيع بعمله وتأثيره أن تنفصل عن نفسها، نفسها المنحطة الفاسدة لتعود الى ذاتها الأصلية، لتعود الأمة العربية الخالدة. ولكن كل ذلك يشترط أن يكون ثمة جيل عربي جديد.

عام 1944


انظر مقالات ميشيل عفلق:

في الثلاثينيات:

عهد البطولة 1935
ثروة الحياة 1936

في الأربعينيات:

 القومية حب قبل كل شئ 1940
 القومية قدر محبب 1940
في القومية العربية
1941
نفدي العراق 1941
ذكرى الرسول العربي 1943
التفكير المجرد 1943
واجب العمل القومي
1943
الإيمان
1943
المثالية الموهومة
1943
المثالية الواقعية
1943
المعركة الانتخابية الأولى
1943
حول الاعتداء على استقلال لبنان 1943
الجيل العربي الجديد 1944

انظر ايضاً:

ميشيل عفلق: التنظيم الإنقلابي

ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب

ميشيل عفلق: حزب الانقلاب

ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث

ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة

المصدر
في سبيل البعث



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى