مقالات
د.عادل عبدالسلام (لاش):لقاء ساخن مع رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
لقاء ساخن مع رئيس الجمهورية نورالدين الأتاسي
مقالة من زمن كان سيودي بصاحبها إلى المساءلة و السجن بل وإلى القتل
بعد عام من عملي في الجامعة (جامعة دمشق)، تقدمت في مطلع سنة 1967 إلى رئاسة جامعة دمشق بمذكرة، أطالب فيها بإلحاق قسم الجغرافيا التابع لكلية الآداب، بكلية العلوم، المكان الطبيعي له وفي جامعات البلدان المتقدمة….
لكن طلبي رُفض وجُوبه بانتقادات من رئيس الجامعة د. مصطفى حداد، وهو أستاذ في كلية العلوم أصلاً، متهماً إياي بان هدفي هو مادي، وليس علمياً مبدئياً. وأنني أسعى للحصول على تعويض التخصص….
حينها عرفت أن زملاءنا أساتذة كليات الطب والعلوم، يتقاضون ما يعادل 55% من رواتبهم، مقابل ما عُرف بـ (تعويض تخصص)، أما غيرهم فمحروم منه. ولما كان ذلك إجحافاً بحق أساتذة بقية الكليات، لعدم اختلاف تخصص أساتذة كليات الآداب والحقوق وغيرها من الكليات النظرية.
بدأتُ حملة (شعارها: إذا اخترع أستاذ متخصص في كلية العلوم فرشاة أسنان مميزة، لا مانع عندها من تمييزه من غيره). ولاقت الدعوة للمطالبة بالتعويض نفسه للجميع، تجاوباً سريعاً من قبل ذوي العلاقة. لكن رئيس الجامعة ، الذي أصبح وزيراً للتعليم العالي، جنَّد الحزبيين من كلية العلوم وغيرهم، للنيل من زملائهم الأساتذة والمدرسين.
تطورت الأوضاع إلى الأسوأ، الأمر الذي دفعنا إلى رفع عريضة إلى الجامعة والوزارة موقعة من 72 عضو هيئة تدريس في الكليات النظرية، نطالب فيها بإحقاق الحق والمساواة. وشكلنا لجنة للمتابعة مؤلفة من أربعة أساتذة كنت أحدهم. وكان أخطر إجراء اتخذناه، هو اعتذارنا عن تصحيح أوراق امتحانات الدورة الثانية لعام 1967 بعيد هزيمة حزيران.
ففقد الوزير وأعوانه صوابهم، وأوعزوا إلى المعيدين والحزبيين في الجامعة إلى نشر أشاعات تتهم لجنة المتابعة بالعمالة لجهات أجنبية…. كما جرت العادة في كل مناسبة تتعرض فيها السلطة لاحتجاجات مشابهة. ليس هذا فحسب بل هُدد نا بالويل والثبور إن لم نشطب تواقيعنا ونسحب العريضة.
ولما كنت في طليعة المستهدفين، والمهددين بالتسريح والإعتقال ووو….جاءني صديقي الصدوق أحمد الخطيب (رئيس الجمهورية السابق) لينبهني إلى الخطر المحدق بي، بل وبنا جميعاً، وأذكر أنني قلت له: أنا لست وحدي، بل يؤيدني أكثر من سبعين استاذاً. فقال لي: إنك إن اعتقلت لن تجد فرداً واحداً يدعمك منهم، سواي….وصدق أحمد
ولما كانت حادثة كهذه تؤثر في هيبة السلطة والحزب، نوقش الموضوع على أعلى المستويات، وتم استدعاء الوزير حداد من قبل رئيس الجمهورية نورالدين الأتاسي. فاتصل بي الوزير في اليوم نفسه وكان في أواخر شهر تموز، طالباً مني أن أجمع ما أستطيع جمعه من الموقعين على العريضة، والاجتماع به في مبنى فرع الحزب بدمشق في ساحة السبع بحرات بسرعة، لأن رئيس الجمهورية يريد أن يستمع إليهم.
ولما كان الوقت بعيد الظهيرة لم أجد في الجامعة سوى 18 أستاذاً، أذكر منهم، طارق الساطي، فؤاد شعبان، فتحي ناصر، ياسر داغستاني، مفيد العابد، نبيه العاقل، وهبي الزحيلي وغيرهم، فذهبنا إلى الفرع حيث وجدنا رئيس قسم اللغة الإكليزية الدكتور موسى الخوري وهو (زلمة الوزير والسلطة وعميلها)، وانطلقنا منه والوزير بصحبتنا، إلى مكتب رئيس الجمهورية في مبنى مجلس الوزراء خلف المصرف المركزي.
أدخلنا مدير المراسم إلى قاعة كبيرة وجلسنا حيث أرشدنا بانتظار دخول الرئيس علينا. ولما حاولت التدخين طلب مني عدم التدخين إلا إذا دخل الرئيس وسمح بذلك. وبعد تداولنا الأمر تم تكليفي الحديث بناءاً على ما يتطلبه الموقف وعلى ما سيقوله الرئيس، وفي هذه الأثناء كاد أحدهم (و. ز.) أن يتراجع ويطلب شطب توقيعه خوفاً من نتائج موقفنا، فنهره معظمنا.
بعدها دخل الرئيس بصحبة الوزير حداد، ألقى السلام ولم يصافح أحداً منا، وكان جهم الوجه عبوساً قطوباً. وكان يرتدي قميصاً أبيض قصير الأكمام. وكان مجلسي إلى يمينه مباشرة. بدأ حديثه عن موقفنا ومكرمات الحزب والدولة علينا …؟؟؟، انتقل بعدها إلى موقفنا الذي اعتبره مهيناً ومسيئاً، مستعملاً كلمات لا تليق برئيس دولة. ومع ارتفاع وتيرة انفعاله أخرج من جيب قميصه علبة لفافات مهربة من نوع (كِنت)، وأخذ منها لفافة ليشعلها، عندها ولا أدري كيف حدث ذلك ، مددت يدي إلى الرئيس قائلاً :
“يا فخامة الرئيس، ونحن ندخن (كنت) أيضاً “،
طالباً منه العلبة. ففوجئ وأعطاني إياها، فقمت بإعطاء المدخنين من الحضور اللفافات وأعدت الباقي إليه، وأشعل الحاجب لفافة الرئيس والآخرين. بعدها تابع كلامه الذي لم يخل من كلمات بذيئة، أصبنا حين سماعها بالذهول، وختم كلامه بتهديدنا بقوله:
“لن نتنازل ونرد على عريضتكم، بل سنترك أمر حرقها لرعاع (؟) العمال والفلاحين، أما من وقع عليها فسأرسله غداً إلى جبهة الجولان، واستعيض عنكم بسبعين من الآساتذة المصريين!!!”.
خيم علينا جو من الوجوم المشوب بالرعب لم يطل طويلاً، لكننا أجبناه وبشكل لاشعوري:
” يا فخامة الرئيس! لم نعرف أن خدمة الوطن عقوبة إلا في عهدكم، وإننا مستعدون للذهاب إلى الجبهة التي انسحبتم منها، اليوم قبل الغد!!”.
فذهل من هذا الجواب الذي لم يتوقعه، وأخذ يرغي ويزبد. إذ كان مثل هذا الكلام حينها سيودي بصاحبه إلى عقوبة أقلها الإعدام وبدون محاكمة، لكنني أعتقد أن الظروف التي رافقت هزيمة النظام والحزب الحاكم في الحرب ضد الكيان الصهيوني، وصدوره عن أحد ممثلي (لجنة المتابعة) لمجموعة كبيرة من أساتذة الجامعة، ألجم رئيس الجمهورية عن التصرف المعهود لأمثاله في مثل دولتنا الشمولية.
عندها تدَّخل عميد كلية التجارة الدكتور طارق الساطي المعروف بهدوئه ودماثة أخلاقه، إذ وقف وطلب بأدب جم من الرئيس أن يمنحه خمس دقائق ليشرح له المشكلة بهدوء. فوافق قائلاً وباحتقار” هات لشوف !!!”، وبعد الشرح تغير وجه الرئيس، والتفت إلى الوزير الجالس إلى جانبه وقال له:
” ولك مصطفى.. موهيك فهمتني المشكلة، شو عم تكذب علي؟؟ إذا كانت القضية بهالشكل فمع الأساتذة الحق، وبكرة-غداً- بتجتمع مع لجنة المتابعة وبتحضروا لنا مشروع مرسوم”.
خرجنا من اللقاء، والكل حانق على الوزير وكيده وتآمره على زملائه، وحزين على هذا البلد وشعبه الذي يرأسه رئيس كهذا، يخاطب وزراءه بـ (ولَكْ) التي تعني (يا حقير)،. ولقد عبر كثيرون منا عن سخطهم بكلمات نابية، نقلت إلى الوزير من قبل أحد أزلامه المدسوسين والمعروف بيننا وهو رئيس قسم اللغة الانكليزية الأستاذ موسى الخوري.
ومن طريف ما جرى في هذا اللقاء، أن الرئيس سأل أسخف سؤال سمعته في حياتي وهو:
“لماذا تطالبون بتعويض التخصص، فرواتبكم كافية”.
فجاءه الرد من صديقه وابن بلده حمص، الدكتور ياسر داغستاني ساخراً ومتهكماً بقوله:
” إنك تعرف يا نور الدين أن زوجتي اسكتلندية وتتعاطى الويسكي المصنوع في بلدها، وهو من أغلى الأنواع، وراتبي لايكفيها، لذا أطالب بتعويض التخصص وزيادة راتبي”. فلم يجبه الرئيس بكلمة واحدة.
اجمتعنا (لجنة المتابعة) في اليوم التالي في وزارة التعليم العالي برئاسة الوزير، بغية وضع مسودة مشروع مرسوم منح تعويض التخصص للجميع…..
بدأ الوزير الجلسة بقوله، إن بعض من خرج من اللقاء مع السيد الرئيس قد تلفظوا بكلمات نابية بحقي، أي بحق الوزير، فلم أدعه يكمل وقلت له : ليست كلمات نابية، بل شتائم ومسبات، وهذا من حقهم، حين تُكلف أنت الحزبيين والمعيدين في الجامعة بالإساءة إلى الموقعين على العريضة بنشرهم الإشاعات الكاذبة عنهم وتتهمهم زوراً وكيداً وبهتاناً بالعمالة لأجهزة المخابرات الأمريكية و الإنكليزية والفرنسية والألمانية وغيرها ، حينها يحق لهم أكثر من شتمك. فسكت وبدأنا بصياغة مشروع المرسوم ومبرراته.
بعدها بعدة أيام أذاع راديو دمشق وفي الساعة الثانية والربع (موعد نشرة الأخبار) نبأ الموافقة على المرسوم في الوقت المحدد، وانتهت الأزمة، لكنها تسببت فيما بعد في إدراج أسماء الموقعين على العريضة في القائمة السوداء المعادية للسلطة والحزب.
واعتقد أن اختلال توازن وتفكير الحكام نتيجة كارثة حرب حزيران، وما تلاها، والصراع بين الأجنحة الحزبية المدنية والعسكرية (صلاح جديد ومجموعته، وحافظ الأسد وأنصاره) و الخوف من زيادة النقمة عليهم دفعهم للسكوت عن معاقبتنا على مجابهة السلطة. إضافة إلى الصراع الناشب بين جناحين في الحزب والحكم، كانت الغلبة فيه للجناح العسكري الساعي إلى اجتذاب الجامعيين إلى صفه، على الرغم أن العسكريين في سورية، والضباط منهم خاصة مصابون عامة بعقدة نقص الدونية تجاه الجامعيين، ويسعون إلى إهانتهم والإساءة إليهم كلما سنحت لهم الفرصة.
عادل عبد السلام لاش
دمشق 22 – 1 – 2025
