You dont have javascript enabled! Please enable it!
عام

د. عادل عبد السلام (لاش): اللواء محمد سعيد برتار رجل المهمات الصعبة والملمات الإنسانية

د. عادل عبد السلام  لاش – التاريخ السوري المعاصر

رجل المهمات الصعبة و الملمات الإنسانية

المرحوم اللواء الركن محمد سعيد برتار (بيرقدار)– أبو أيمن-. (1931-2015).

دأبت في طريق عودتي من عملي في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، إلى منزلي في ساتاغايا-كو على شراء صحيفة (جابان تايمز). وفي مساء أحد أيام منتصف أيلول من عام 1983، قرأت فيها خبر قصف البوارج الأمريكية لمدينة بيروت وغيرها من مناطق لبنانية تعيش حرباً دامت سنوات. وما أن قرأت أن القصف دمر مركز قيادة القوات السورية في لبنان حتى أصابني الهلع والوهل، لمعرفتي أنه مقر أبرز رجالاتنا السورية والشركسية، صديقي اللواء محمد سعيد بيرقدار (برتار) قائد القوات السورية هناك. فلم تغمض عيناي في تلك الليلة حتى تمكنت من سماع صوته عبر الهاتف يطمئنني على نجاته، لخروجه من المقر قبل خمس دقائق من سقوط القذائف عليه وتدميره بالكامل.

عرفت أبا أيمن في عقد الستينات من القرن الماضي، حين كانت أهتماماتنا ببني جلدتنا من شراكسة سورية تستأثر بحيز لا يستهان به من وقتنا الذي كنا نختلسه من أيام عملنا هو في الحقل العسكري وأنا في المجال الأكاديمي والثقافي. وبغض النظر عن مسيرته الطويلة في الجيش السوري ثم في جامعة الدول العربية التي يجدها المرء في أرشيف المؤسسات التي عمل فيها، أرى من حق هذا الرجل علينا أن أعرف القارئ الكريم به، وبأعماله وإنجازاته التي تجاوزت حدود سورية التي قضى عمره في خدمتها والدفاع عنها، وبسيرته باختصار شديد ، قبل حديثي عن نشاطاته وجهوده في خدمة بني قومه في مهجرهم في سورية وطنهم الثاني، وخارجها. التي لن تجدها في أي أرشيف.

ولد محمد سعيد سنة 1931 في قرية عين ظات (عين زات)، التي تعرف اليوم بـ عين النسر من قرى شرقي محافظة حمص. لأسرة شركسية متوسطة الحال من قبيلة البجدوغ Бжъэдыгъу، تعمل في الزراعة. أنهى مرحلة التعليم الابتدائي في القرية، والتعليم الثانوي في مدينة حمص سنة 1953 سيق بعدها لأداء الخدمة الإلزامية ، انتسب في أثنا ئها إلى كلية الاحتياط وتخرج منها ملازماً أول ليرقى إلى رتبة ملازم ثان سنة 1958. تدرج بعدها في الرتب العسكرية، حتى تم تعيينه قائداً للواء 50 في الجبهة السورية في الجولان، ثم رئيساً لأركان الفرقة السابعة في الجيش السوري سنة 1970 وخاض حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973 بعد استشهاد اللواء عمر الأبرش قائد الفرقة. واليه يرجع فضل تأسيس أكاديمية الأسد العسكرية. لكن أهم إنجازاته على الصعيد العسكري وحماية سورية من الأخطار الخارجية فهي قيادته قوات الردع السورية في لبنان بين سنة 1982 و1990. و لعل أبرز ما يسجل لهذا العلم الشركسي السوري بمداد الفخر، عدا إخراجه الجيش الإسرائيلي من بيروت وهزيمته في الجنوب اللبناني وما رافق ذلك من أحداث، هو إخماده الحرب الطائفية – الأهلية في لبنان. وأذكر أنني سألته مرة عن ذلك فأجاب بقوله:
” لم يكن ذلك بالأمر العسير، لأنني حين استلامي عملي في لبنان أوعزت بتوقيف القتال بين الكتل اللبنانية المتحاربة، فلم يستجب أي منهم، وجاءتني بعض الأجوبة، تقول بالرفض وـ أحمض ما عندك اطبخو-، فقمت بدعوة رؤساء الكتل فرداً فرداً وانذرت الجميع بأن أن أية طلقة نار تصدر من أي مكان من لبنان سأقصف مصدرها بالمدفعية دون سابق إنذار. فاستهزأ الجميع بي وقالوا: رأينا مَن سبقك وسمعناه لكن أحداً لم ولن يتجرأ على فعل ماتقول….”. وأردف قائلا : ” لن تصدق ياعادل، أنني اتخذت هذا القرار دون الرجوع إلى أحد في دمشق أو غيرها… لكنني ولسعادتي جاءت التهنئة من حافظ الأسد بعد أول قصف لإحدى الكتل التي لم تنصاع للقرار، والتي أمرت بقصف منطقتها مدة عشر ساعات، كانت كفيلة باسكات أسلحة كافة الكتل المتناحرة حتى مغادرتي لبنان، لكن هذا القرار جذب البوارج الأمريكية التي قصفت مقر قيادتي “. وتتويجاً لخبرته بالشأن اللبناني و صدقه وثقة الجهات المختلفة برأيه وحكمته تم تكليف أبي أيمن بوضع مسودة بنود اتفاق الطائف، التي لم يعدل منها شئ إلا بعض الأخطاء النحوية….. ( ذات الخلفية اللغوية الشركسية…) قالها لي وضحكته تجلجل في أنحاء مضافته في المزة بدمشق. ومن صدف تلك الأيام أن انتشرت مقولة أن أغلب لبنان محكوم بالشركس، فقائد القوات السورية شركسي زاره وفد من شراكسة منطقة برقايل الشركسية اللبنانية وغيرهم، والأمين العام لحزب البعث عاصم قانصو شركسي الأصل، والأمين العام للحزب القومي السوري هو ايضاُ من أصول شركسية بعيدة ؟؟؟؟

وتقديرأ من القيادة السورية لأعمال اللواء محمد سعيد تم ترشيحه، وتعيينه أمينا مساعداً للشؤون العسكرية في جامعة الدول العربية من سنة 1991 إلى سنة 1997. والأزمة اليمنية في أوج توترها، التي بذل جهداً كبيراً في سبيل منع انفصال اليمن، موفداً إليها من قبل جامعة الدول العربية، عبثأ، لصلف علي عبد الله صالح وقبليته الموغلة في الحقد والبغضاء، فانفصلت البلادالسعيدة إلى يمنين تعيسين .

ومع هذه السنوات الحبلى بأحداث البلاد العربية التي آوى تراب بعضها أجداد محمد سعيد بيرقدار، و قيامة برد الجميل لسورية الطيبة بالعمل والتضحيات في خدمتها، لم يتوانى عن الاهتمام ببني قومه الشركس في سورية وأينما كانوا. فهو وإن كان يحرص على عدم الظهور العلني في المحافل الرسمية الشركسية، لم يتردد لحظة من مشاركة أي فرد شركسي عزاءه أو فرحه وخدمته. لقد كنا وبدون تردد نلجاً اليه في كل صغيرة أو كبيرة، نلقاه في منزله أو ياتينا حيث نكون. وكانت إسهاماته غير المعلنة في نشاطاتنا في الجمعية الخيرية الشركسية وخارجها أكثر وأهم من أن تستوعبها مقالتي هذه عن هذا الإنسان الغيور على أهله والعامل في خدمتهم بصمت وابتسامة. أذكر منها أهمها وأخطرها دوره في الظل، أثناء الكفاح من أجل منع إغلاق الجمعية في سورية مع بقية الجمعيات الخيرية والمدنية في سورية ، والوقوف معنا وبالتنسيق معي بالذات في وجه قرار إغلاقها سنة 1982 حيث كنت حينها رئيسها،. حيث نجحنا بشطب اسم الجمعية من قائمة الجمعيات التي أغلقت، بجهوده وجهود أصدقاء آخرين. وكان من نشاطاتنا السنوية التي شملها بروتوكول التعاون مع الوطن الأم، استقبال وفد من الوطن الأم مقابل زيارة وفد من شراكسة سورية للوطن في السنة نفسها. ولما كان مبدؤنا حينذاك هو عدم المساس بصندوق الجمعية لاستضافة الوفد الشركسي، كنا نجتمع ونجمع كافة التكاليف من بعضنا البعض، فكان أبو أيمن يسهم باكثر من نصف المبلغ، ويولم للوفد في منزله. ولعلي في هذا الجانب من نشاطات أبي أيمن لا أذيع سرأ إن ذكرت أن أبا أيمن طرح موضوع الشركس في الشتات مع مسؤولين روس كبار في زياراته للاتحاد الوفييتي السابق. … وهي الزيارات التي ترجع في خلفياتها الى مراسلاتي مع أحد أبناء عمومة محمد سعيد في الوطن الأم أديغييا، وهو الكاتب والشاعر حميد برتار الذي كان صديق مراسلاتي منذ خمسينات القرن الماضي حتى وفاته سنة 1995، إذ مهدت تلك الصله الطريق للتواصل بين محمد سعيد وحميد، وكان يخبرني كلما وصلته رسالة من حميد، ويقدم لي بعض الكتب الشركسية التي كان يرسلها له. تلا ذلك دعوة محمد سعيد لحميد لزيارة سورية، حيث نزل ضيفاً على أبي أيمن لمدة شهر ونصف الشهر سنة 1983، وزيارة أخرى مثلها تلتها. وكانت أيام إقامة حميد في دمشق فرصة لاتعوض لثلاثتنا، تميزت بلقاءات وجلسات تكاد لاتنقطع بيننا إلا حين كان حميد يزور التجمعات الشركسية في منطقة حمص وحماة والجولان.

وكان من نتائج هاتين الزيارتين أن تم توجيه دعوة لأبي أيمن لزيارة الإتحاد السوفييتي بدعوة من وزير الدفاع السوفييتي لمدة 20 يوماً. ولا أرى ضيراً من ذكر ما حدثني عنه أبا أيمن بخصوص هذه الزيارة. إذ روى لي أن مسؤولاُ رفيع المستوى في وزارة الدفاع أخبره بعزم الوزير على دعوته إلى الاتحاد السوفييتي، فما رأيك ؟، فأجبته أنني أشكر السيد الوزير على هذه اللفتة الطيبة، وأرحب بها وأقبلها بسرورلأن برنامجها سيوفر لي حتما زيارة بلاد أجدادي في القفقاس وأحفادهم في أديغييا بالذات…… وفي رأيي الشخصي أن جواب محمد سعيد كان يحوي تورية، وكان جواباً ذكياً ولبقاً وديبلوماسيأ ضمِن به أدخال مضيفه فقرات في برنامج الزيارة ، تحقق رغبات اللواء الركن محمد سعيد في لقاء أهله في أرض أجداده. عاد أبو أيمن من زيارته للاتحاد السوفييتي سنة 1987، والتي شملت موسكو ولينينغراد (سان بطرسبرغ ، بِتِر بِف Бытырбыфعند الشركس) وأديغييا. وقص علينا الحفاوة الحارة الشعبية – الرسمية التي استُقبل بها في ميه قوابه ومدن الأديغيي وقراها. و حدثنا عن بني عمومته وأسرته الكبيرة واعتزازهم به. والحديث في هذا الجانب طويل تحوطه العواطف والمحبة والاحترام، ومشاعر القومية والتاريخية المؤلمة. جرى توديع أبي أيمن بأحسن مما استقبله به أهله من حفاوة ليعود إلى دمشق عن طريق موسكو.

عاد أبوأيمن بعذ هذه المسيرة الطويلة إلى سورية ثم إلى منزله في حي الوعر في حمص ليتفرغ للقراءة والمطالعة إلى أن داهمت الحرب الظالمة الحي فعاش أخر أيامه تحت القصف والقتال رافضاً اللحاق بأسرته في دمشق، إذ قال لي في إحدى المخابرات شبه اليومية، حين أشرت عليه المجئ إلى دمشق: 
“أخي عادل، أيصح أن يقال لي بعد ماضيي الذي تعرفه أنني جبنت وغادرت بيتي في الوعر خوفاً وهرباً من الحرب الدائرة في حمص ؟؟؟ أ ترضى أن يقال عني (قرابغه Къэрабгъэ) أي جبان بالشركسية ؟؟؟”. …. توفي رحمه الله في 10 آذار/ مارس سنة 2015 في منزله في حي الوعر بحمص بعيدا عن أسرته و أهله ومحبيه. ووريي الثرى في قريته عين النسر. وبه فقدنا عَلَماً و رجلاً شجاعاً، وأنساناً غيوراً على قومه وبلده. كان محمد سعيد برتار جندياً حازما وشجاعاً، وشركسياً أصيلا شديد التمسك بالأديغة خابزة. كان أخا لي لم تلده أمي وصديقاً وفيا صدوقاً. يميت السر ويغيث الملهوف. كثيراً ما زرته في منزله في حي المزة بدمشق، فألقى عنده في أيام الجُمع وفي مضافته عشرات الشركس والعرب من قاصدي معونته ووساطته لدى من يتوسم فيهم الاستجابة. يأتونه من قرى الشركس، ومن مضارب البدو وفلاحي سورية، يحدثهم بصوت هادئ وابتسامة مريحة… يجري ذلك، وأم أيمن الطيبة وبناتها الحبيبات ريم ورنا ورولا، ومن يساعدهم، تنوس بين المطبخ ومائدة الطعام لإكرام من تواجد في منزلها المضياف. فإن كان الضيوف شركساً فأطباق الطعام شركسية، وإن كانوا عرباً فالأطباق شامية/ سورية. وابنه ايمن واقف بانتظار أي أمر أو طلب عليه تنفيذه. أذكر عنه أملوحة (حمصية) لطيفة رواها بقوله:
“وعدتُ بعض أصحاب حاجة من حمص مقابلتي في بناء الأركان بدمشق، ونسيت إخبار الحرس وتزويده بأسمائهم، فلم يسمح لهم بالدخول، فعادوا أدراجهم إلى حمص، فاتصلوا بي من هناك وأخبروني بما حصل… فقلت لهم لم تتصلوا بي من دمشق. فكان الجواب حمصياً بامتياز: لم يخطر ذلك ببالنا..” . رحمه له كان يحب المزاح والمرح مع المهابة.

ملاحظة: أدين لللأخ للعقيد ايمن دياب كوبة ولرانيا محمد سعيد بيرقدار بالشكر، لمساعدتي في كتابة هذا الموضوع حول هذه الشخصية التي تعد نجمة من نجوم سورية، وشمساً من شموس الشراكسة.

عادل عبدالسلام )لاش)
دمشق 30 – 6 – 2017.

1-اللواء الركن المرحوم محمد سعيد بيرقدار (برتار)
2- اللواء برتار مع وزير الدفاع السوفييتي سنة 1987.
3- اللواء برتار يسجل كلمة في سجل الشرف والضيوف في أدبية.

 



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

عادل عبد السلام

الدكتور عادل عبدالسلام لاش من أبناء قرية مرج السلطان، من مواليد عسال الورد عام 1933. يحمل دكتوراه في العلوم الجغرافية الطبيعية من جامعة برلين الحرة. وهو أستاذ في جامعة دمشق منذ عام 1965. له 32 كتاباً منشوراً و10 أمليات جامعية مطبوعة، بالإضافة إلى أكثر من 150 مقالة وبحث علمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى