You dont have javascript enabled! Please enable it!
سلايدمقالات

د. عادل عبدالسلام (لاش): أنا والقلمون والوفاء المستدام

 

د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر

أبصرت النور واستنشقت هواء أول شهيق وزفير نقي غير ملوث في وجودي…. في أعالي جبال القلمون السورية وجرودها، إذ كانت ولادتي في بلدة عسال الورد القريبة من الحدود السورية- اللبنانية، وذلك ،على الأرجح في صيف سنة 1933، لعدم وجود أية وثيقة تؤرخ ليوم وشهر ولادتي، حين كان والدي رئيساً لمخفر درك المنطقة، بين عامي 1932 و 1934. وكانت فتاة عسالية من أسرة شديد تعين والدتي في العناية بابن الشاويش (لقب رئيس المخفرالواسع الصلاحية)، وتذكر لي والدتي أن فاطمة (وهذاهواسمها) كانت تحملني وتتجول بي في حارات القرية وأزقتها. 
وتشاء الظروف أن ينقل والدي من عسال الورد إلى مخفر بلدة صوران حيث عاشت أسرتي في بيت مؤلف من قبتين سنتي (1938 -1939)، نقل منها بعدهما رئيساً لمخفر حاضرة القلمون ، مدينة النبك سنة 1939 حيث تم تسجيلي لأول مرة في مدرستها الابتدائية، التي كانت تقع شمال المدينة على الطريق العام إلى حمص، ومكان كازية زمزم فيما بعد. حيث استأجرنا بيت أحد افراد آل طيفور شمال ساحة المخرج في حارة غربي الطريق العام وجسر مقهى المنشية. وأذكر أن أبا عادل طيفور كان وآخرين من وجهاء النبك من المقربين من والدي. كما أذكر تفاخري بعضويتي في فرقة كشافة الصف الأول حين كنا نتجول على وقع الطبل والبوق الوحيدين بين المدرسة ومبني السرايا مرورا بساحة المخرج، وكانت عصا الكشافة على كتفي أطول مني بثلاث مرات، وأطراف الكوفية والعقال تكاد تلامس الأرض.
وتدور الأيام وتمر السنون وأتخرج في الجامعة السورية حاملاً شهادة الإجازة في الأداب – تخصص جغرافية سنة 1955، أتبعتها بشهادة أهلية التعليم الثانوي (دبلوم التربية) سنة 1956. ونظراً لالتزامي تجاه وزارة المعارف (التربية اليوم) تم تعييني مدرساً لمادة الجغرافية. وتشاء الصدف أن أعين في ثانوية القلمون في مدينة النبك، لتذكرني بمتانة عرى ارتباط المرء مادياً وروحياً بمنطقة مسقط رأسه… أي القلمون بالنسبة لي. وما كادت فترة عملي مدرساً تتجاوز بضعة أشهر حتى صدر قرار تعييني مديراً للثانوية، بدلاً من مديرها الأستاذ عزة الحبال الدمشقي، على الرغم من احتجاجي على القرار بحجة عدم تمرسي بالعمل الإداري، لكن حجتي لم تقبل من قبل مدير معارف دمشق المرحوم الأستاذ بكري قدورة…. ومع ذلك وُفقت في عملي، على الرغم من كبر عدد التلاميذ وتنافر انتماءاتهم و تعدد مشاربهم، وكانت الثانوية متكاملة ، تضم شعب كافة الصفوف من الصف السادس حتى الصف الثاني عشر ، إضافة إلى قسم داخلي للمنامة والأكل خاص بالتلاميذ المتفوقين في سورية، والذين تم تجميعهم في ثانوية القلمون نتيجة إلغاء الأقسام الداخلية في مدارس محافظاتهم.

وكان من بين هؤلاء المرحوم المحامي القدير الأستاذ فؤاد أفموغات. وكانت المدرسة مقسومة إلى بنائين أحدهما على تلة مرتفعة، كان ثكنة عسكرية ويعرف بـ (القلـــــعة)، وكان يضم الإدارة والقسم الداخلي والمطبخ والصفوف العليا. وكان الثاني بناءاً عسكرياً آخر في المدينة عُرف بـ (الدبوية) أو المخزن . ومع افتتاح مدرسة إعدادية البنات في بلدة الدير عطية ازدادت أعباء ثانوية القلمون لتزويدها بالمدرسين، يسافرون إليها بسيارة (ستيشن) لصاحبها الملقب بـ (الطيار). وعلى الرغم من تعيين مديرة لها الأستاذة (نجوى البَطل) فإن الإعدادية كانت تعتمد على الثانوية في الكثير من الأمور. ولما كانت الأنظمة تسمح لمعلمي المدارس الإعدادية – الثانوية بالتدريس في المدارس الخاصة مقابل أجر، كان عدد من مدرسي ثانوية القلمون يعمل في مدرسة المطرانية الكاثوليكية الخاصة في بلدة يبرود المجاورة. نتيجة اتفاق بيني وبين (الأب الوكيل) برتلماوس السمان وكيل المطرانية الكاثوليكية، لأسقفية يبرود، و راعي كنيسة القديسة هيلانة فيها. وكان برنامج ساعات التدريس موضوعاً بما يتفق وأوقات المدرسين وفراغاتهم للتدريس في المدرســـــتين ولقد تمت العملية بيسر لسابق التجربة في السنوات الفائتة. لكن أبرز من زارني بعد تسلمي أعمال إدارة الثانوي، وأولهم كان المديرالأول للثانوية ومؤسسها المرحوم الأستاذ ياسين طربوش، الأب الروحي والثقافي لمنطقة القلمون وابنها. فكان لتوجيهاته وآرائه أكبر الأثر في حسن إدارتي للثانوية وتذليل الكثير من العقبات والمشكلات ذات الجذور الاجتماعية والإقليمية والأسرية والحزبية… إذ كانت الثانوية المدرسة الوحيدة من نوعها في أنحاء القلمون ففيها التلميذ النبكي والرحيباني واليبرودي والقاري والديرعطاني والسحلي والجيرودي و… وفيها ابن الجبال والاحواض بينها، وأبناء أغلب المحافظات السورية (في القسم الداخلي)، كما ضمت المسلم والمسيحي والبعثي والشيوعي والأخواني والقومي السوري…وغيرهم ممن كانت الأفكار العشائرية والأسرية المغالية والخشنة توجه علاقاتهم… كل ذلك وغيره …مجمعاً في مدرسة واحدة تضم كافة أطياف المجتمع . ومع أن التوفيق بين الجميع ،وحل الخلافات غير العلمية والمدرسية، لم يكن بالأمر الهين، فلقد كان لتعاون وجهاء المنطقة ورجالاتها أكبر داعم في تجاوزالعديد من المشكلات التي اعترضت عملي، لعل أبرزها المشكلة الطائفية التي ولدها خلاف أتفه من تافه بين تلميذ وإداري أثناء رحلة مدرسية إلى المملكة الأردنية الهاشمية. تم حلها بعد عودتهم مباشرة. 
أما مشكلات القسم الداخلي الذي كان يضم تلاميذا، حتى من منطقة (ديريك)المالكية في أقصى شمال شرق سورية وحتى الجولان في أقصى جنوبيها الغربي، فكانت تدور حول توفير الحياة الكريمة وتأمين طلبات التلاميذ من الطعام و الشراب والفراش النظيف والسكن الدافئ في شتاء القلمون البارد، وكان للطاهي ورئيس المستخدمين أبو عبدالله (محمد ديب محلاية) دور إيجابي في حل المشكلات الطارئة نتجية خبرته القديمة. وأذكرأن تلاميذ القسم الداخلي كانوا كثيراً ما يدفعون زميلهم المرحوم الأستاذ فؤاد أفه موغات ليمثلهم، فيأتيني بشكاوى تلاميذ القسم الداخلي مع رجاء تلبية ما يحتاجونه من نواقص، خاصة وأن أغلبهم أبناء ريف.
ومن الأحداث التي عاشتها المدرسة في أيام الوحدة السورية – المصرية ظهور تياريين أحدهما مؤيد لها وآخر معارض شبه صامت. وعلى الرغم من الحماس الجماهيري الذي اكتسح الإقليم الشمالي (سورية) في بداية قيامها،فإن عوامل انفراطها أكثر من ان أسردها، لكنني أذكر منها ما مس الثانوية والمعلمين وجهات مختلفة من وضع غيَّر في كثير من الأفكار الوحدوية وشكك بها. إذ جاءني كتاب بتعيين معلم مصري في مدرستنا لتدريس اللغة الإنكليزية، رحبنا به ترحيبا حاراً، ندمنا عليه بعد أمد بحرقة وأسى، إذ مالبث أن كشفتُ أوراقه ومهمته في المدرسة والمنطقة بصفته ضابط أمن ومخابرات مصرية يرفع تقاريره عن المعلمين وشخصيات القلمون، للمسؤول عنه بدمشق المعروف بـ (عدلي حشاد) على ماأذكر. إذ تبين لي أنه لا يفقه من اللغة الإنكليزية أكثر مما أعرف من اللغة الصينية. كما أخذ يتصرف بعقلية عسكرية ويتعامل مع الأخرين بفوقية مقززة، وعُثر في حوزته على تقارير بحق ثلاثة معلمين لاثنين منهم ميول دينية (أخوانية إسلامية) والثالث شيوعي الانتماء. ولما جابهته بالأمر مع التقريع واللوم أخذ يهددني بالويل والثبور. لكن الله سلم، إذ سافر في نهاية الأسبوع نفسه إلى دمشق، جرياً على عادته وعادة المعلمين الدمشقيين وعادتي، لكنه لم يعد، ولم نسمع عنه بعد ذلك أبداً. وحل محله في نقل أخبارنا وأخبار المنطقة زبانية عبد الناصر في دمشق عملاء من أبناء المنطقة مأجورون، ومن غلاة أنصار الوحدة، التي كان لها أن تعيد بعض الكرامة المهدورة لسورية ومصر بعد الهزيمة النكراء التي منيتا بها في سنة 1967، لولا ما حيك لها داخليا وخارجيا من أسباب ومخططات دمرتها في مهدها.
ولقد حظيت في السنوات الأربع من عملي في النبك بإقامة علاقات اجتماعية طيبة مع مختلف شرائح المجتمع القلموني أخص بالذكر منها آل النفوري وآل طيفور وطربوش وملحم وآل البطل والكسار والبريديي وقانصو وقدور والحسواني وخنشت ورهبان بطركية يبرود وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم. كما كانت فرصة مناسبة لتوسيع أفق معارفي الجغرافية بزيارة الكثير من المعالم التضريسية لجبال القلمون ولبنان الشرقي، ولقرى وبلدات الإقليم ودير مار موسى الحبشي، وعادت علي بالنفع لبحثي الميداني لأطروحة الدكتوراه عن أشكال تضاريس البادية السورية ولبنان الشرقي فيما بعد (1965-1966)، ويسرته. ولعل زيارتي لمسقط رأسي، عسال الورد، والتعرف إلى معارف والدي القدماء من أهلها، وكذلك لقائي بأفراد من أسرة شديد… كانت من أكثر الذكريات حميمية… رحم الله من فارقنا ممن أحاطني بصحبته وعنايته وأطال في عمر الباقين.
ومن نعم المولى علي أن صحبة ووفاء أبناء القلمون لم يتوقف على فترة عملي في ديارهم، بل امتد سنوات وسنوات… وما زال.. إلى ساعة كتابة هذه الكلمات. ففي سنوات عملي في جامعة الكويت (1973-1976) لم توفر الجالية القلمونية في الكويت وعلى رأسها محمد النفوري (أبو حسام)، جهدأ إلا وبذلته في مساعدتي وتوفير الراحة لي، والطريف في الأمر أن أغلبهم لم يكن من تلاميذي، بل أباءهم أو من بني عمومتهم وأقاربهم. إن قائمة الطيبين والأوفياء طويلة.. تضم في من تضم أبناء لي من علماء الجغرافيا السورية مثل الدكتور أمين طربوش والدكتورأسامة قدوروهما اليوم من زملائي في الجامعة وأعتز بقربهما مني. أما الأخ الجليل والصديق الصدوق القاضي والمشرع القانوني الأستاذ محمود النفوري فهو نبكي أتمتع بدفء صداقته الحميمة منذ قرابة ستة عقود أطال الله بعمره وبعمر رفيقة حياته وأسرته وكل من يلوذ به ويذكرني من أبناء القلمون وبناته.
عادل عبد السلام دمشق- 5 – تموز – 2018.



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

عادل عبد السلام

الدكتور عادل عبدالسلام لاش من أبناء قرية مرج السلطان، من مواليد عسال الورد عام 1933. يحمل دكتوراه في العلوم الجغرافية الطبيعية من جامعة برلين الحرة. وهو أستاذ في جامعة دمشق منذ عام 1965. له 32 كتاباً منشوراً و10 أمليات جامعية مطبوعة، بالإضافة إلى أكثر من 150 مقالة وبحث علمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى