مقالات
مروان حبش: المحادثات من أجل الوحدة عام 1963
مروان حبش– التاريخ السوري المعاصر
إن فصائل عسكرية متعددة تحالفت بدوافع مختلفة لوضع نهاية لحكم الانفصال وإعادة الوحدة وهي:
1 -البعثيون : كان لهم تنظميهم الحزبي داخل القوات المسلحة، من فترة ما قبل الوحدة، وأعيد هذا الارتباط بين الضباط المنقولين إلى الإقليم الجنوبي بقيادة اللجنة العسكرية، ولكن ليس على أسسٍ تنظيمية، وفي فترة الانفصال أعيد التنظيم من جديد، وبقيادة اللجنة التي تم توسيعها وشمل الضباط الذين سرحهم العهد الانفصالي والضباط الذين ما زالوا في صفوف الجيش، ولهذا التنظيم التزامه، كما له منطلقاته الواردة في أدبيات الحزب حول إعادة الوحدة.
2- العقيد زياد الحريري: كان هدفه تحقيق طموحه والوصول إلى مركز قوة يمكنه من حكم سورية مباشرة أو من خلف الستار.
2- الناصريون: كان هدفهم، مع بعض التباين بين تنظيماتهم، هدفاً سياسياً آنياً وهو إعادة الوحدة الفورية بين سورية ومصر.
في ظهيرة يوم 8 آذار صرح عضو في مجلس قيادة الثورة في سورية:
(أيها الأخوة المناضلون من أجل ا لوحدة والحرية والاشتراكية…. بعد مضي شهر على ثورة الشعب في العراق وفي هذا اليوم نمد يدنا إليها, تحية ثورة عربية إلى ثورة عربية مجيدة.
أيها العرب في كل مكان، إن صوت الحق الذي يجلجل اليوم في دمشق يلتقي بصوت الأحرار في الجمهورية العربية المتحدة وفي العراق والجزائر واليمن على صعيد المحبة والإخاء العربي لخنق أبواق الاستعمار وعملائه …).
ورغم إدراك القاهرة أن الانقلاب بعثي، وأنه ليس هو الانقلاب الذي تريده، أعلنت في اليوم نفسه تأييدها للانقلاب في تصريح على لسان وزير الثقافة والإرشاد القومي الدكتور عبد القادر حاتم وبتكليف من الرئيس عبد الناصر. وأعقبت ذلك التصريح برقية تهنئة من القوات المسلحة في الجمهورية العربية المتحدة, وفي صبيحة 9/3 وصلت إلى المجلس الوطني لقيادة الثورة رسالة من الرئيس عبد الناصر فيها: “حمدٌ لله الذي نصر شعب سورية ونصر بثورتها حركة النضال ا لعربي … وأنه لشرف لي، وأنا أقدم التهنئة القلبية إلى شعب سورية وجيشها بنجاح الثورة، أن أنقل اعتراف الجمهورية العربية المتحدة بنظام الحكم الوطني الجديد في سورية”.
وفي رسالة جوابية، رد المجلس الوطني لقيادة الثورة:
السيد رئيس الجمهورية العربية المتحدة المحترم.
“… إن المجلس الوطني يعتبر الاعتراف بالحكم الوطني الجديد في سورية بداية للقضاء على الانفصال، واستئصال أسبابه من الجذور إلى الأبد وبناء وحدة عربية قوية الأركان تقدمية المحتوى راسخة في جذورها الشعبية حاملة ضمانات حمايتها وتطويرها”.
وضع العراق في ظل حكم البعث كل إمكانياته لدعم الحكم الجديد في سورية, وفي بيان عراقي سوري مشترك صدر يوم 13/3, أكدا فيه محاربة أية سياسة يمكن أن تؤدي إلى خلق محاور متعددة بين الأقطار العربية المتحررة، كما عبرا عن إرادتهما المطلقة في ضرورة توسيع التلاقي الذي تم بين القاهرة وبغداد ليشمل الأقطار العربية الثلاثة، “الجمهورية العربية المتحدة، والجمهورية العراقية، والجمهورية السورية”، وفي ضرورة توحيد الخطط بوضع أسس الوحدة بين الأقطار الثلاثة.
ويبدو واضحاً الخطاب البعثي في نص الرسالة الجوابية الموجهة للرئيس عبد الناصر وفي نص البيان السوري العراقي
كان الرئيس عبد الناصر متمسكاً بثابتين، الأول: أنه لا يقبل إلا بوحدة تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل 28 أيلول 1961، والثاني: أنه لا يقبل بوحدة يؤسس لها حزب البعث.
وكما كان ثابته، قبل 8 آذار عدم إقامة وحدة مع أي من حكومات الانفصال فإنه بقي على الثابت نفسه بعد آذار واكتفى بتبديل الجهة, ولا يجب أن يغيب عن الذهن، دور أجهزة المخابرات ودور الذين كانوا يرتزقون من لبس ثوب الناصرية ويوهمون أصحاب القرار في المتحدة بقوتهم وقدرتهم على الفعل، ومن هنا تكونت ثوابت الرئيس ناصر، إضافة إلى أنه تناسى أن البعث يحكم العراق, وهذا كان مصدر خشية له وظن أن وحدة مع بلدين يحكمهما البعث يعني إضعافاً له, وفي هذه الأجواء بدأت مباحثات الوحدة التي امتدت من 14/3 حتى 17/4 بين الجمهورية العربية المتحدة والجمهورية العربية السورية والجمهورية العراقية، وكما كان الرئيس ناصر يفاوض ضباط 28 أيلول ليُغطي على نشاط الضباط الوحدويين للانقضاض على الحكم، فانه اتّبع الأسلوب نفسه في المباحثات الحالية، يفاوض ظاهرياً ليمهد الأجواء للناصريين ويمكّنهم من الإطاحة بالبعثيين في سورية وفي العراق، وهذا ظاهر فيما قاله الرئيس ناصر في افتتاح أول جلسة للمباحثات, إذْ تساءل: “المطلوب منّا الآن أن نقيم وحدة مع حزب البعث، أم مع سورية؟ إذا كان حزب البعث هو الذي يحكم سورية وستكون الوحدة معه فأنا على غير استعداد للبحث على الإطلاق”.
قال الرئيس ذلك بحضور الوفد العراقي البعثي، وخلو الوفد السوري من أي بعثي, ولكنه يعلم أن الانقلاب في سورية هو للبعث.
كما طرح الرئيس ناصر سؤالاً آخر:
“هل الفكرة من وراء الوحدة الثلاثية، هي موازنة الجمهورية العربية المتحدة بالعراق بحيث لا يحدث كما كان البعث يقول تسلط مصري وحتى يحدث توازن في الوحدة؟
هل هذه مناورات سياسية ؟ هل الهدف هو مناورة حزبية بحيث يكون هناك صوتان للبعث ضد صوت واحد غير بعثي هو مصر؟”.
وحاول الرئيس عبد الناصر أن يدق إسفيناً بين بعثيي العراق وبعثيي سورية، وكان كل جهده في هذه المرحلة من المباحثات منصبّاً على التجريح بالبعث.
لم يكن خافياً على البعثيين مآرب الرئيس عبد الناصر، وكان الحزب قد طرح مفهومه للوحدة العتيدة, ويعني هذا المفهوم:
“وحدة متكافئة – تنظيم طلائعي ثوري – القائد هو الشعب المنظَّم – الوحدة الثلاثية يجب أن تتوج بقيادة جماعية بالفعل – الإيمان المطلق بأن التنظيم الشعبي هو وحده الأساس الراسخ للوحدة”.
لأن الوحدة من وجهة نظر الحزب هي قضية ثورية، أسلوبها ثوري وصاحبها الشعب وهو مفجرها وموجهها.
ولكن المرتبطين بأجهزة المخابرات المصرية, وبعد تلك الجولة من مباحثات الوحدة بدؤوا يطرحون شعارات استفزازية، مثل: “نريد وحدة ثنائية، أي استبعاد العراق، لا حرية ولا أحزاب – لا دراسة ولا تدريس إلاّ بعودة الرئيس …”. وقبل المرحلة الثانية من المباحثات التي بدأت في 6 نيسان أصبح الشارع السوري مشحوناً بتلك الشعارات الاستفزازية تمهيداً لانقلاب ناصري على البعث.
وبناء على طلب الرئيس عبد الناصر بأن يكون في وفد 6 نيسان ممثلون عن حزب البعث ومجلس قيادة الثورة، تشكل وفدٌ من 17 عضواً ومن بينهم عن البعث: “صلاح البيطار، شبلي العيسمي، محمد عمران”، وفي اجتماع الوفود الثلاثة تركز النقاش على عتاب بين الرئيس عبد الناصر والأستاذ صلاح البيطار، بلغ أحياناً حد التجريح بالبعث وقادته, وكان الأستاذ البيطار يتحمل كل ذلك كي لا يعطيه ذريعة لإفشال المفاوضات، ومما قاله الرئيس ناصر:
“انتم ما كنتوش عاوزين وحدة بعد 8 مارس ردك على علي صالح السعدي يوم 12 مارس ولاّ يوم 13, وقال الثلاث نقط في مشروع التعاون بين الدول العربية وأنت رديت عليه بالموافقة …معنى هذا أنكم عايزين وحدة كده، بوضوح أيِّ واحد بسيط التفكير كان يقول كده بعد أنت ما رديت على السعدي وقلت إن هذا ما يدور بخلدنا وهذا ما يجول بتفكيرنا”. وأجاب الأستاذ البيطار: “ما حد يجبرنا نسوي وحدة، صدقني وما أحد يجبرنا أن يكون لنا رأيان ونحن هذا شيء قلناه”, ويعني الرئيس ناصر بالثلاث نقط، المشروع العراقي للتعاون بين الدول العربية المتحررة والذي نشر يوم 12/3 /1963، وينص على:
1-وضع مشروع بيان مشترك مع الشقيقة الكبرى الجمهورية العربية المتحدة ومع الشقيقات الجزائر واليمن والجمهورية السورية, تُخَول الجيوش العربية في الدول العربية المتحررة حق التدخل والإنزال واجتياز حدود أي بلد من البلدان العربية الخمسة عند تعرضه لأي عدوان خارجي أو مؤامرات داخلية استعمارية أو رجعية تهدف إلى الإطاحة بالحكم التقدمي في البلدان المذكورة.
2-تشكيل قيادة عسكرية مشتركة وإلحاق ضباط ارتباط بهذه القيادة يمثلون دوائر الأركان العامة في الجيوش الخمسة، ووضع قوات مشتركة تحت أمرة هذه القيادة، ويكون من اختصاصها وضع سياسة موحدة للتجنيد والتسليح والتدريب والتصنيع العسكري وتوحيد الأنظمة والمصطلحات العسكرية.
3-تشكيل قيادة سياسية عليا للتخطيط السياسي في الدول الخمس.
إن استمرار هذا الاستفزاز لقادة البعث من الرئيس ناصر، طيلة مراحل المباحثات، هو ما كان يثير الانتباه، وكذلك رفضه إقامة أية صيغة وحدوية مستقلة بين الجمهورية العراقية والجمهورية السورية، منطلقاً من أن ذلك إذا ما حدث يعني منافسته عربياً ودولياً, وتأكيده لما كان يردده “لا وحدة مع البعث”، وكأن هذه الجملة هي كلمة السر للناصريين كي يبذلوا كل جهد للإطاحة بالبعثيين، ولهذا بذلت أجهزته قصارى جهدها للإطاحة بالبعث في القطرين.
لم تكف أجهزة الإعلام في المتحدة عن الهجوم على حزب البعث، طيلة مراحل المحادثات، رغم الاتفاق على فتح صفحة بيضاء، ورغم المطالب التعجيزية التي كان يضعها، ولكنها ذُللت بالتروي، حتى لا تُبقي للرئيس ناصر ذريعة للانسحاب من المفاوضات.
كان الوفد السوري يلحُّ في المفاوضات على ضرورة إقامة نظام برلماني حسب نسبة عدد السكان وإشراك العناصر الوحدوية غير المنظمة في أحزاب.
بينما أصرّ الجانب المصري على ضرورة تكافؤ تمثيل القوى التي تدعي الوحدوية، وعلى منح صلاحيات وسلطات واسعة للرئيس.
رفض الرئيس ناصر الاقتراحات السورية، وأصر على اقتراحاته، ولفترة يومين من النقاش، وحتى لا تنتكس المباحثات ويحقق الرئيس مبتغاه، وافق الوفد السوري على المطالب المصرية, ووُقع بيان الوحدة الثلاثية ليل 16/17 نيسان, وحُدِّد يوم 17 أيلول موعداً للاستفتاء على الوحدة الثلاثية وقيام الجمهورية العربية المتحدة الجديدة.
اعتبر البعث هذا الميثاق حدثاً مصيرياً ومن الضرورة الدفاع عنه وتمتينه وتطويره، بينما اعتبره مدعو الوحدة ستاراً لما كانوا يخططون له: قلب نظام الحكم الذي هم شركاء فيه، وتنفيذ اغتيالات بقادة البعث من مدنيين وعسكريين.
خلال المباحثات التي كانت تجري بين الوفود الثلاثة, كُشِفت اتصالات يقوم بها بعض القادة العسكريين الناصريين مع الملحق العسكري المصري في عمان والسفارة المصرية في بيروت تمهيداً لانقلاب ناصري، مما اضطر المجلس الوطني (وليس البعثيون وحدهم) لاتخاذ إجراءات في أواخر شهر نيسان، تقضي بنقل بعض الضباط المتورطين إلى وظائف غير عسكرية.
وبالتوازي مع الإعداد للانقلاب، طرح بعض الناصريين الذين جاء بهم البعث ليشاركوه في الحكم شعار “تكافؤ القوى في الحكم”، بغية كسب الوقت وإرباك النظام الجديد قبل أن ترسخ جذوره.
ولما اكتُشِفت خيوط المؤامرة, واضطر المجلس الوطني إلى تغيير مواقع المشتركين فيها، ولإحراج الحكم وبالتنسيق أو بأوامر من القاهرة، تقدم الناصريون باستقالتهم من الوزارة يوم 10/5 ولكنهم أبدوا استعدادهم لسحب استقالاتهم بشرط إلغاء قرار المجلس الوطني حول نقل العسكريين وتلبية مطالبهم في التكافؤ.
على إثر تلك الاستقالات، كلف المجلس الوطني يوم 11/ 5 الدكتور سامي الجندي، الذي أعاد ارتباطه بالبعث بعد أن انسحب من حركة الوحدويين الاشتراكيين، احتجاجاً على تلقيهم الأوامر من القاهرة، بتشكيل وزارة جديدة ولكنه لم يستطع، وقدم اعتذاره بعد يومين، وأُعيد تكليف الأستاذ صلاح البيطار يوم13/5 مجدداً بتشكيلها وضمت بعثيين ووحدويين غير منتمين إلى تنظيمات، ومستقلين.
انظر:
بطاقة مروان حبش عضو المجلس الوطني للثورة عام 1965
مرسوم منع منح امتياز استثمار الثروة المعدنية والنفطية في سورية
قانون تشكيل المجلس الوطني للثورة وتسمية أعضائه عام 1965
انظر ايضاً:
مروان حبش: انقلاب 8 آذار 1963(26)
مروان حبش: عصيان كتلة النحلاوي العسكرية 1963 (25)
مروان حبش: مؤتمر شتورا عام 1962 (24)
مروان حبش: إنقلاب 28 آذار 1962 (23)
مروان حبش: الشركة النفطية التي كانت تتدخل لإسقاط وتعيين حكومات
مروان حبش: حول اللجنة العسكرية
مروان حبش: استثمار النفط وطنياً .. بترول العرب للعرب
مروان حبش : إنقلاب الانفصال 28 أيلول 1961 (22)
مروان حبش: استقالة الوزراء السوريين في عهد الوحدة (21)
مروان حبش: حل حزب البعث عام 1958 وكلمة ميشيل عفلق (20)
مروان حبش: أزمات حزب البعث بعد الوحدة (19)
مروان حبش: حل حزب البعث عام 1958 (18)
مروان حبش: السير نحو الوحدة (17)
مروان حبش: البعث وانتخاب القوتلي لرئاسة الجمهورية عام 1955(16)
مروان حبش: البعث والانتخابات النيابية عام 1954 (15)
مروان حبش:البعث والانقلاب على نظام حكم الشيشكلي (14)
مروان حبش: البعث والقيادة القومية (13)
مروان حبش: قضية انسحاب جلال السيد من حزب البعث (12)
مروان حبش: قضية الضابط داود عويس (11)
مروان حبش: قضية البعث وحسني الزعيم (10)
مروان حبش: دمج الحزبين وزواج لم يُعمِّر (9)
مروان حبش: الدمج بين حزبي البعث العربي والعربي الاشتراكي (8)
مروان حبش: صدور جريدة البعث والمؤتمر التأسيسي عام 1947 (7)
مروان حبش: معارك حركة البعث 1943- 1947 (6)
مروان حبش: تكون حلقة شباب البعث العربي 1942- 1943 (5)
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939 (4)
مروان حبش: الحزب القومي العربي (3)
مروان حبش: عصبة العمل القومي (2)
مروان حبش: نشأة وتكون حزب البعث العربي (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الدواعي والأسباب – المقدمة (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الحزب في السلطة (2)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. سقوط حكم حزب البعث في العراق (3)