مروان حبش: التاريخ السوري المعاصر
في مرحلة ما بعد الشيشكلي ازداد الصراع على سورية من أجل ربطها بالمشاريع الاستعمارية للمنطقة،وسخت عراق الوصي عبد الإله – نوري السعيد بدفع الأموال قبل وبعد الشيشكلي لشراء ذمم بعض الشخصيات من عسكريين ومدنيين سياسيين لتحقيق بغيتها، كما سخت السعودية بمالها ومصر بنفوذها السياسي بغية إبعاد سورية عن الارتباط بالمخطط الهاشمي- البريطاني.
كان حزبا الشعب والوطني يعتبران انتصارهما بعد الانقلاب على الشيشكلي بإبعاد البعث عن التشكيلة الحكومية بحكومة صبري العسلي فرصة لا يجوز تفويتها لأنها ستساعدهم على تنفيذ سياستهم في المجالين الخارجي والداخلي، كما ستساعدهم على قلب موازين القوى في الجيش.
غيّرت الانتخابات النيابية ميزان القوى في الساحة السياسية، وأصبح للبعث كتلته البرلمانية التي لا يمكن تجاوزها، وتزداد إذا أضيف إليها نواب القوى التقدمية وبعض المستقلين والقوة العسكرية والشعبية ذات الأثر الكبير في الشارع السوري وفي كونها ضابطاً لأي توجه سياسي تريد الحكومة اتخاذه.
كلف رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي السيد فارس الخوري لتشكيل أول وزارة في العهد الجديد، بعد الانتخابات النيابة وبعد أزمة وزارية مصطنعة استمرت طويلاً، ولقد تم ترشيحه من قبل حزب الشعب والحزب الوطني ليمررا من خلال حكومته صاحبة الأكثرية الشعبية ما يرمون إليه، وتبين ذلك أثناء مناقشة البيان الوزاري لهذه الحكومة، إذ اعترضت بعض الكتل النيابية على فقرات في ذلك البيان ومنها (تتعهد الحكومة بعدم إبرام أي حلف أجنبي) وقال خالد العظم: (تستطيع الحكومة الدخول في مباحثات مع الدول الأجنبية، ثم الاعتماد على أكثريتها النيابية لتغطية مواقفها، وهكذا تبرم الاتفاق وتتم الرواية). وطلب تعديل الفقرة لتصبح: (يَعِدُ رئيس المجلس -مجلس الوزراء- بعدم الدخول في أية مفاوضات مع دولة أجنبية، وأنه يتعهد بألاّ يطلب من المجلس السماح له بذلك). ويقول العظم: وافق الخوري، ودمدم أعضاء حزب الشعب.
حدد البعث موقفه من هذه الوزارة ببيان أصدره بتاريخ 25/10/54، ومن أبرز نقاطه: (إن للخوري صلات وثيقة مع الفئات الرجعية، وإن اختيار رجل من خارج المجلس سابقة خطيرة، وإن الأزمة الوزارية لم تتعقد لأسباب شخصية، وإنما كانت بسبب البرامج الانشائية والخطوات الديمقراطية التي يعيرها حزب البعث العربي الاشتراكي الاهتمام الأول، في حين كانت بعض الأحزاب والكتل البرلمانية تعتبر الأزمة منبثقة عن رغبتها في إيصال مرشح معين إلى منصب رئاسة الجمهورية السورية عن طريق المناورات( المقصود شكري القوتلي)، وإن بيان حزب الشعب الذي أذيع قبيل تكليف الأستاذ فارس الخوري وأعلن الشعبيون أنهم يقبلون بكل من يكلفه رئيس الجمهورية بتأليف الوزارة الجديدة بلا قيد أو شرط، إنما هو مؤامرة مفضوحة لم يعمد إليها الشعبيون إلا بعد أنْ بقوا عدة أيام يرفضون كل حل إنشائي للأزمة تمهيداً لهذا الاختيار الأخير.
كان حزب الشعب ومؤيدوه، وبعض كبار شخصيات ونواب الحزب الوطني، وأكثرية نواب العشائر الذين لهم صلة، أساسها المال الذي كان يغدق عليهم، مع عراق نوري السعيد ، هؤلاء كانوا يقاومون التيار الذي كان يرى أن سياسة العراق تخدم مصلحة البريطانيين وتؤدي إلى إزالة كيان الجمهورية السورية المتحرر، وإعادته إلى دائرة النفوذ الأجنبي، وهذا التيار يلتقي في تطلعاته مع مصر والسعودية في رفض مشاريع الأحلاف الاستعمارية.
امتد تفكير المتصارعين على سورية إلى الشخصية الرئاسية التي تناسبهم وتسهل لهم تنفيذ مخططاتهم في مرحلة ما بعد الشيشكلي، وتم اتفاق مشبوه وعليه أكثر من تساؤل، بين حزبي الشعب والوطني المتنافسَين والمتخاصمَين سياسياً وشخصياً، على شخص شكري القوتلي لمنصب الرئاسة الأولى.
كان القوتلي قد اختار بعد انقلاب الزعيم مدينة الإسكندرية منفى اختيارياً له، و ما إن تمت الإطاحة بالشيشكلي حتى راودته الآمال بالعودة إلى رئاسة الجمهورية، وبدأ نشاطه للعودة إلى البلاد قبل الانتخابات النيابية، وكان رئيس الأركان الزعيم شوكت شقير يلعب في الخفاء دوراً مؤيداً لهذه العودة، بينما يُظهر في العلن أن ذلك الأمر يمكن أن يتحقق بعد الانتخابات.
وفي تلك الفترة تكوّن محور عربي يجمع مصر والسعودية، وكان هذا المحور مؤيداً عودة القوتلي وداعماً له، وفي منزل القوتلي بالمنفى عُقد اجتماع لبحث التطورات في سورية بعد الانقلاب على الشيشكلي بأيام، حضره الملك سعود والرئيس محمد نجيب وقطبا حزبي الشعب والوطني : رشدي الكيخيا وميخائيل ليان. ولكن هذا الاجتماع لم يستطع التغلب على مصالح الحزبين السياسية والشخصية.
كما أن الاتفاق على اختيار القوتلي أجمعت عليه بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا مع بعض الدول العربية، وظهر دعم هؤلاء من خلال زيارة السفيرين الأميركي والبريطاني له، ومن برقية فيصل آل سعود إليه لمناسبة العيد التي عبر فيها عن “تمنياته بتحقيق الآمال”.
عاد القوتلي إلى البلاد قبل الانتخابات البرلمانية، ولم يستطع البعثيون والتقدميون من تأخير هذه العودة، ومنذ وصوله طرح شعار وحدة الصف لتكتيل قوى الإقطاع ورجال الدين وبعض السياسيين من أحزاب الشعب والوطني و السوري القومي والتعاوني الاشتراكي وشخصيات سياسية مستقلة وأخرى نقابية بهدف:
1 – محاربة حزب البعث والقوى التقدمية الأخرى، وخالد العظم وأنصاره.
2 – تأمين أكثرية نيابية في المجلس النيابي المزمع انتخابه، وهذه الأكثرية تؤمن له كرسي الرئاسة الأولى. ولكن هذه المساعي لم تكلل بالنجاح، وغادر القوتلي سورية إلى مصر ثانية.
اتجهت أنظار البعثيين نحو التحالف مع خالد العظم ودعمه في انتخابات الرئاسة الأولى، وحول هذا التوجه يقول الأستاذ أكرم الحوراني في مذكراته ج2ص1658: ( زارني الدكتور سامي كبارة الخصم العنيد للقوتلي والذي كان يحظى بدعم شعبي قوي في أحياء دمشق وعرض عليَّ إقامة جبهة انتخابية مع خالد العظم في دمشق فوجدتها الفرصة السانحة لإحداث الانشقاق في صفوف القوى الرجعية… فعقدنا اجتماعات عديدة في بيت خالد العظم حضرها الأستاذ صلاح البيطار واشترك فيها الزعيم شوكت شقير الذي كان يشجعنا على إقامة مثل هذه الجبهة…).
كان حزب البعث ينتقد باستمرار السياسة الداخلية والخارجية للقوتلي، وبسبب ذلك تعرض الحزب وقادته، وخاصة، في الفترة الأخيرة من ولاية القوتلي – قبل انقلاب حسني الزعيم – لاعتداءات ظالمة وشرسة.
ناقشت قيادة البعث التي كانت تسعى كي يرشح حزب الشعب أحد أقطابه للرئاسة الأولى، موضوع عودة القوتلي وانعكاسات هذه العودة على الحياة السياسية السورية، وأبلغت رأيها حول انتخاب شكري القوتلي لرئاسة الجمهورية إلى التنظيم الحزبي في النشرة الداخلية التالية:
(يحدث دوماً عند وقوع حادث يصدم الرأي العام أن يقع الناس حيارى في بحر من التأويلات المتناقضة التي أدت إلى وقوع هذا الحادث، وأن ينتهز الخصوم والأعداء هذه الفرصة بالذات لشن دعاية مركزة يحمّلون بها الشعب مسؤولية الحادث الذي صدم الرأي العام.
ونحن كحزب نضالي يعتمد في نضاله على قوى الشعب المناضلة، نحمل في مثل هذه الظروف مسؤولية كبرى علينا أن نشعر كما شعر الشعب بأن ثمة نكسة قد حلت في البلاد. ولكن علينا أن نبين للشعب بأنه في نضاله ضد القوى الرجعية والاستعمارية لا بد وأن يصاب دوماً بنكسات وأن انتصاراته ليست دوماً متوالية، وأن عليه ألاّ يستسلم للتشاؤم وأن يرد عنه سهام الدعاية الرجعية المسمومة، وأن يعتبر أخيراً بأن القوى المادية الداخلية والخارجية قد تغلبت مؤقتاً على القوى الشعبية فيهب ليعيد تنظيم قواه من جديد ويخوض المعركة المستمرة التي لا يمكن أن تنتهي إلاّ بالنصر الشعبي المؤزر.
لأن غرض الدعاية المسمومة التي يقوم بها الخصوم والأعداء في مثل هذه النكسات أن يجعلوا الشعب يشكك في صحة نظريته النضالية وسيادته التحررية، وأن يجعلوه يتراجع عن هذه الخطة الثورية ويستسلم لسياستهم وقياداتهم، وبذلك وحدهم ينالون ما يبتغون وهو قيام حكم رجعي قوي في سورية.
وعلى هذا نحلل الوضع الحاضر كما يلي:
1- البديهية الأولى التي يجب أن تمثل دوماً في مخيلتنا هي أن وضع البلاد وأحد أجزائها سورية، وضع استعماري، بمعنى أن للاستعمار قوة في داخل البلاد يعتمد عليها ويدفعها في توجيه السياسة في اتجاهه أو في تعويقها عن السير في الاتجاه الشعبي التحرري.
ومعنى ذلك أن الصراع قائم دوماً بين القوى التحررية التقدمية التي تريد أن تحقق للبلاد الاستقرار والحرية والاشتراكية وبين القوى الرجعية المرتبطة بالاستعمار، عن طريق المفوضيات والبنوك والشركات والنظام الرأسمالي، فعند كل معركة أو عند بحث رصيد معركة لا بد وأن ندخل في الحساب قوى الاستعمار.
2 – البديهية الثانية هي أن هدف الاستعمار الأساسي في مرحلتنا الحاضرة منع البلاد من أن تخطو أية خطوة إنشائية أو بعبارة أخرى منعها من أن تستقر استقراراً صحيحاً حقيقياً، فالاستعمار يعمل دوماً على مستويين:
– إما أن يقيم أوضاعاً دكتاتورية أو بوليسية وحكومات رجعية قوية تقمع كل خطوة تقدمية لأن الخطوة التقدمية لا يمكن أن تتم إلا بمشاركة الشعب وهذا ما يسمى بالاستقرار الكاذب، وهذا ما يقوم به في بعض أجزاء الوطن العربي.
– وإما أن يعطِّل، عندما يكون ذلك ممكناً، كل خطوة تقدمية نحو الاستقرار الحقيقي عندما يلتقي الشعب بقيادة شعبية تفتح أمامه طريق الانطلاق المنظم والعمل الإنشائي، مثل هذا الوضع يتمثل اليوم في سورية التي هيأت لها أوضاعٌ خاصة جواً نسبيا ًمن الحرية الداخلية، سمح للشعب أن يتصدى للرجعية والاستعمار ويقف دون هجومها عليه كما جرى في الانتخابات الأخيرة.
إن كل ما تدعيه الفئات الرجعية من طلب الاستقرار إنما من باب الدعاية، فسياسة القوى التقدمية في سورية بعد الانتصار الذي حققته على الدكتاتورية هي أن تحيط هذا الحكم الديمقراطي نسبياً بسياج من التشريعات التقدمية والإصلاحات الاقتصادية، ومثل ذلك يتحقق في جو من التعاون والسلم أكثر مما يتحقق في جو من الصراع والحرب.
ولكن الاستعمار يأبى هذا الاستقرار الحقيقي لأنه يهيئ للشعب قوة فوق قوته ويوطد هذه القوة، ولهذا فإن هدف الاستعمار في سورية إبقاؤها في حالة الاضطراب وإيقاع الانقسام بين صفوف شعبها وصرفه نحو انشغال الفئات والأحزاب بعضها ببعض لمحاربة بعضها بعضاً.
3 – إن الاستعمار -كما قلنا- لا يتدخل بصورة مباشرة في توجيه سياسة البلاد، وإنما يتدخل عن طريق الرجعية التي تمثل المصالح الاستغلالية والعادات والعقائد التقليدية، وهذه الرجعية لكي تستطيع خداع الشعب لا بد لها من طلاء تقدمي في الظرف التاريخي العلمي، كي تقسم الصفوف التقدمية وتقسم بالتالي القاعدة الشعبية، لأن الرجعية التي يستطيع الاستعمار أن يعتمد عليها لا بد من أن يكون لها أتباع من غير ذوي المصالح من أبناء الشعب، كي لا ينفضح أمرها بصورة سافرة.
4 – إن حزب الشعب، بحكم مجيئه تاريخياً بعد الحزب الوطني، أي بحكم وجود أفراد من بين أعضائه يتمتعون بقوة شعبية لأنهم يعتنقون بعض الأفكار التقدمية، هو الحزب المهيأ أكثر من غيره لقيادة الطبقة الرجعية في البلاد، ولكن لا يستطيع أحد أن يشك بأن سياسته لن تكون إلا سياسة الطبقة الرجعية نفسها التي تلتقي مع سياسة الاستعمار، لا لأنه يمثل مصالح هذه الطبقة وحسب، بل لأن الكثرة الساحقة من أعضائه هم من ذوي المصالح الكبرى: “كبار المزارعين، كبار الملاكين، وكلاء شركات أجنبية، وكبار المقترضين من البنوك الأجنبية، وكبار المساهمين في الشركات الوطنية المرتبطة بمصالح الاستعمار”.
5 – لقد قيل إن طبيعة الظرف السياسي الحاضر تتطلب تعاوناً وثيقا بين حزب الشعب وحزبنا، وبذلك وحده يقدم حكماً مستقراً مفتوحاً نحو المستقبل وآخذاً بتطور الأحوال. وهو قول حق، بل هي خطة حزبنا السياسية التي أحيينا سلوكها منذ بدء هذا الدور التشريعي، ولكن هذا النوع من الحكم المستقر هو الذي لا تريد الرجعية والاستعمار له أن يقوم كما سبق أن بينا ذلك، وهو ما يفسر فشل المحاولات العديدة التي قام بها حزبنا مع حزب الشعب.
لقد جرت الانتخابات فكشفت عن تقدم الحركة الاشتراكية وتراجع الفئات الرجعية، وكان من الطبيعي أن يتعاون حزبنا وحزب الشعب وهما اللذان يؤلف كل منهما مجموعة منسجمة كبرى، عقب تلك الانتخابات التقت قيادة حزبنا مع النواب الشعبيين التقدميين نسبياً على برنامج سياسي داخلي وخارجي، حين آن تشكيل الحكومة الرجعية التي ترأسها السيد فارس الخوري.
6 – ولكن حكمها تعثر عندما برز الهدف الخارجي الذي جاءت لتحقيقه وهو التعاقد الذي وضح للشعب خطره أثناء المعركة الانتخابية وكانت شعاراتنا ضده، وقتئذ رأت الحكومة أنها سارت في خطتها بأسرع ما يلزم وأنها انكشفت أمام الشعب والمجلس فاضطرت للاستقالة.
ودخل حزبنا عنصراً أساسياً في حل الأزمة الوزارية، معتمداً على قوة الرأي العام ضد الأحلاف الأجنبية، واشترك في الحكم رمزياً ليدلل على أن الاستعمار ليس قدراً مقدوراً، وأن خططه يمكن أن تفشل عندما تكو ن القضية موضحة في ذهن الشعب، وعندما يقودها حزب يعتمد على الشعب. وفي الواقع فإن سياسة الحكومة التي اشتركنا فيها جاءت لأول مرة واضحة في الغاية الخارجية كل الوضوح. ولأول مرة تُعْرَض هذه السياسة في مؤتمر باندونغ وفي سان فرنسيسكو كما حددناها في الشعار الحزبي: الحياد الإيجابي وعدم الانضمام لسياسة المعسكرين.
7 – ومع ذلك، وخلال الحكم الذي اشتركنا فيه، كنا نقوم باتصالات مع أعضاء حزب الشعب بقصد الاتفاق على ميثاق قومي ومنهاج سياسي داخلي وخارجي يتضمن شعارات حزبنا تحقيقاً لخطتنا، بأن اتفاقنا وحزب الشعب سيقيم في سورية الاستقرار الحق ويحقق لها تقدماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وكان حزبنا هو الذي يبادر دوماً، ولكن أي اتفاق يتطلب موافقة الطرف الثاني، وكان حزب الشعب وقيادته الفعلية يتهرب دوماً في اللحظة التي يكاد الاتفاق يصبح رسمياً.
8 – ولقد بدأت المعركة الانتخابية، وحزبنا يرى أن مركز الرئاسة في الظرف التاريخي الذي تمر به البلاد مركز خطير. صحيح أن رئيس الجمهورية ذو صلاحية ضيقة محددة في الدستور، ولكنه يستطيع، والمجلس على ما هو عليه من انقسام، أن يلعب دوراً كبيراً في السياسة، فيؤلف الحكومات التي يريدها ويضرب الأحزاب بعضها ببعض ويزيد الانقسام أكثر مما هو قائم. وحزبنا لم يجد من الممكن ولا من الجائز أن يرشح أحداً منه. كما أنه بطبيعته ضد ترشيح القوتلي للرئاسة لما يعلم عن سيئات ماضيه في الحكم وبصورة خاصة عن عبثه بالدستور. وبقي أمام حزبنا أن يختار بين خالد العظم ومرشح حيادي ومرشح شعبي، ومن بين هؤلاء وجد الحزب في خالد العظم ضمانة أكبر مما يجدها في الآخرين. ولكنه لم يتخذ قراراً بذلك ولم يغلق الباب أمام البحث مع الفئات الأخرى ولاسيما مع حزب الشعب في اختيار المرشح الأنسب. وفيما يتعلق بالقوتلي صرح دوماً بأنه أمام هذا الخطر لا يتأخر حزبنا من أن يصوت للمرشح الشعبي، غير أن حزب الشعب كان يصم آذانه ولم يبادرنا في بحث هذا الموضوع، بل كان كبار أعضائه الذين طبخوا موضوع الرئاسة بصورة سرية يوهمون نوابهم الشباب بأننا ( أي البعثيون ) لا نحيد عن خالد العظم ولا نقبل إلا به، خلافاً لتصريحاتنا الشخصية والرسمية.
وعندما قوي خطر ترشيح القوتلي، دعونا رسمياً حزب الشعب لاجتماع رسمي ولكنهم كانوا يماطلون خوفاً من أن تفسد الخطة التي رسموها وهي عدم ترشيح مرشح شعبي واقتراعهم لمصلحة القوتلي.
9 – يتساءل البعض: ألم يكن من الممكن أن يتفق حزبنا مع حزب الشعب بأي شكل كان على مرشح منهم لقطع الطريق على القوتلي؟
إن في طرح هذا السؤال على هذا الشكل خطأً كبيراً لأن حزباً مثل حزبنا لا يستطيع أن يستسلم لحزب آخر، وكل ما يستطيعه أن يلتقي معه في منتصف الطريق فالاتجاه السياسي هو العامل الأساس في انتخاب الرئيس، ولا يعود ثمة فرق كبير بين المرشحين إذا استوى الاتجاه عندهم.
وحزب الشعب لم يأتِ ويفاوضنا على أساس الند للند، ونستطيع أن نجزم بأن حزب الشعب معنا في معركة الرئاسة، إنما كانت تملي عليه مصلحته كحزب رجعي انتهازي يراعي أول ما يراعي مشيئة الاستعمار، والاستعمار حارب خالد العظم حرباً لا هوادة فيها لمجرد سيره في الاتجاه السياسي الاستقلالي الذي رسمه حزبنا. وحزب الشعب الذي يخاف أن يصبح مشبوهاً في نظر الدول الأجنبية إذا ما نجح بأصواتنا بعد أن رفض الحزب الوطني والكتل اليمينية تأييد مرشحه لم يجد أصلح من طبخ الرئاسة على الشكل الذي تم.
10 – والسؤال الصحيح الذي يجب أن نتوجه به إلى أنفسنا وحزبنا: هل فعلنا كل شيء لمنع عودة القوتلي؟ والجواب على ذلك: لا.
لقد كان على حزبنا أن يجعل من قضية الرئاسة قضية عامة ويسلمها للشعب. فالقضية عندما يستلمها الشعب، عندما تصبح قضية شعبية، تكون دوماً رابحة في حال النجاح أو الفشل. لأن الوعي الشعبي الذي تخلقه القضية يزيد في نضالية الشعب ويهيئه أكثر بكثير للنضال المقبل. وقد كان قصور حزبنا كبيراً في إيصال القضية ليد الشعب.
والآن، بعد أن أصاب هذه القضية الفشل، يقع على حزبنا الواجب الأكبر في أن يستخرجوا منه وفي أن يستمدوا منه حافزاً قوياً لنضال جديد وتفاؤل بالنصر الأكيد:
أولاً، على حزبنا أن يدرك أن هذه المعركة هي ثالث محاولة بعد الانقلاب الأخير حاول بها الاستعمار تكتيل القوى الرجعية في البلاد ضد القوى التقدمية وبصورة خاصة عزل حزبنا وتطويقه.
ثانياً، على حزبنا أن يفشل هذه المحاولة كما أفشل سابقتيها وليس ذلك بمسايرة الفئات الرجعية والمساومة على شعاراته والتخلي عن سياسته، بل بزيادة اتصاله بالجماهير الشعبية وبتوضيح الوضع السياسي العام وخفايا معركة الرئاسة بصورة خاصة، فالشعب لا يناضل ولا يقاتل إلاّ في سبيل قضية واضحة.
ثالثاً، فضح موقف حزب الشعب وموقف نوابه في معركة الرئاسة أمام الشعب، حتى تضطرب صفوفه وتتخلى عنه قاعدته ويضطر نوابه المخدوعون الذين لا تزال تربطهم بالشعب بعض الروابط أن يعودوا إلى صفوف الشعب ويبعثوا بالذين خدعوهم إلى صفوف الرجعية. وبهذا يكسب حزبنا عدداً عديداً من القاعدة الشعبية التي كانت تظن حتى اليوم أن في حزب الشعب القدر الذي لا بد منه من الوطنية والتقدمية وأنها لذلك تمشي وراءه).
تشرين الأول 1954 القيادة القومية
في 22 نيسان 1955 اغتيل العقيد عدنان المالكي الذي كان معارضاً شديداً لعودة القوتلي إلى الرئاسة، وبعد مدة وجيزة من اغتياله بدأ النشاط في الوسط السياسي من أنصار القوتلي وأخذوا يروجون قرب عودته و نيته الترشيح للرئاسة مدعوماً بذلك من مصر وقوى عربية وخارجية، بينما كان رأي قيادة البعث أن خالد العظم هو الشخصية المناسبة للقوى السياسية العربية التقدمية، وتعزز هذا الرأي بعد البيان السياسي الذي ألقاه خالد العظم بصفته وزيراً للخارجية فضح فيه السياسة البريطانية- الأميركية والدول العربية السائرة في ركابهما، وأكد فيه على المحافظة على استقلال سورية وسيادتها في ظل النظام الجمهوري الديمقراطي، وأن تعمل دائماً لتجنيب سورية وبقية الأقطار العربية أخطار السيطرة الأجنبية، وأن سورية تستوحي سياستها الخارجية، دائماً، من مصلحة الأمة العربية… و وضّح أهداف الميثاق العربي الجديد، وأكد على السير بالدول العربية نحو الوحدة العربية المنشودة، وأن سياسة سورية إيجابية إنشائية وترفض الأحلاف الأجنبية، وتصر على الحلف العربي الثلاثي.
عاد القوتلي إلى سورية في أواسط الشهر السابع من عام 1955، أي قبل موعد انتخابات الرئاسة بحوالى الشهر، واجتمعت المتناقضات من مؤيدي مصر والسعودية ودعاة حلف بغداد وأجمعوا على انتخاب شكري القوتلي الذي نجح في الدورة الثانية من الانتخاب. وعن كواليس هذه الانتخابات يروي مطيع السمان في مذكراته “وطن وعسكر” أن رشدي الكيخيا قال له: (إن خالد بكداش جاءه موفداً من خالد العظم، بعد الاقتراع الأول على رئيس الجمهورية، طالباً دعم حزب الشعب في انتخابه لرئاسة الجمهورية مقابل تعهده بأن تكون رئاسة المجلس النيابي ورئاسة الوزارة لحزب الشعب أو إلى الذين يختارهم الحزب طيلة فترة وجوده في منصب رئاسة الجمهورية).
اقرأ :
مروان حبش: البعث والانتخابات النيابية عام 1954 (15)
مروان حبش:البعث والانقلاب على نظام حكم الشيشكلي (14)
مروان حبش: البعث والقيادة القومية (13)
مروان حبش: قضية انسحاب جلال السيد من حزب البعث (12)
مروان حبش: قضية الضابط داود عويس (11)
مروان حبش: قضية البعث وحسني الزعيم (10)
مروان حبش: دمج الحزبين وزواج لم يُعمِّر (9)
مروان حبش: الدمج بين حزبي البعث العربي والعربي الاشتراكي (8)
مروان حبش: صدور جريدة البعث والمؤتمر التأسيسي عام 1947 (7)
مروان حبش: معارك حركة البعث 1943- 1947 (6)
مروان حبش: تكون حلقة شباب البعث العربي 1942- 1943 (5)
مروان حبش: زكي الأرسوزي وتأسيس الحزب القومي العرب عام 1939 (4)
مروان حبش: الحزب القومي العربي (3)
مروان حبش: عصبة العمل القومي (2)
مروان حبش: نشأة وتكون حزب البعث العربي (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الدواعي والأسباب – المقدمة (1)
مروان حبش: حركة 23 شباط – الحزب في السلطة (2)
مروان حبش: حركة 23 شباط.. سقوط حكم حزب البعث في العراق (3)