من مذكرات أكرم الحوراني – التراث عامل تطوير لا تجمید
في 19 أيار 1935 نشرت صحف دمشق النبأ التالي:
تألفت لجنة برئاسة معالي وزير الدولة للنظر في مشروع الموجبات الذي نفذ في لبنان ويراد الان وضع قانون على مثاله لینفذ في سوريا، وقد اھتم طلاب الحقوق بھذا المشروع لأنه سیؤدي إلى إلغاء التقاضي بمجلة الأحكام العدلیة، فعقد فريق منھم اجتماعا درسوا فیه ھذه القضیة ثم رفعوا تقريرا مطولا الى رئیس الوزراء وأعضاء اللجنة العدلیة لفتوا فیه أنظارھم الى المحاذير التي تترتب على إلغاء “المجلة”، والى ضرورة مراعاة أحكام الشرع الاسلامي التي امتزجت مع طبائع الأمة وتقالیدھا.
ھنیئا لأمة لھا تاريخ … إذا عرفت كیف تستفید من ھذا التاريخ بأن تجعل من الماضي المنیر حیا في الحاضر.
ان تراث الشعوب يمكن ان يكون قیدا يعیقھا عن النھوض والسیر الى الأمام، ويمكن – بالمقابل – أن يكون ذخیرة وعونا ومددا وقوة في بنائھا الحضاري الجديد المتصل بالماضي العريق دون انفصام، وأكثر ما تعانیه امتنا العربیة منذ بدء نھضتھا في أواخر العھد العثماني قصور مفكريھا وقادتھا وجبنھم عن تقییم تراثنا العربي، فبقي ھذا التراث، سواء بالنسبة للمتشبثین به أو المنسلخین عنه سببا من أسباب تخلف العرب وعدم انطلاقھم السريع ووھن اتصالھم بحضارة العصر.
لیس ھذا الاختیار سھلا ولیست دقة التمییز متیسرة بین ما يصلح أن يوضع من التراث في المتاحف وبین ما لا يزال من التراث جاريا في عروقنا وأھلا بطاقاته الايجابیة لإغناء حاضرنا.
إن حل مشاكلنا التاريخیة وإرثنا الحضاري يتوقف على مستوى عبقرية وشجاعة وإخلاص القیادات الطلیعیة الفكرية والفنیة والسیاسیة لأن إرث الماضي لیس مادة جامدة يمكن التصرف بھا كیفما كان، بل ھو عادات وتقالید وأخلاق وحقوق وفنون ودين وفكر، متوارثة، تجري في عروق المجتمع وشرايینه.
ان فھم حضارة العصر واستشراف صورة المستقبل وتقییم التحديات المطروحة على الشعوب المتخلفة ھو السبیل لتحديد مواقفنا من ھذا التراث وشق طريقنا للمستقبل.
ان الموقف من التراث ما زال يشكل أزمة فكرية ووجدانیة في المجتمعات العربیة، وما زال المفكرون يتجنبون الخوض والمعالجة مما أدى الى انفصام الشخصیة لدى الانسان العربي الجديد، ففي میدان التشريع الحقوقي لدينا تراث غني بالفقه الاسلامي ولكنه انقطع عن العصر وأصبح جزءا من التاريخ الحقوقي المنصرم.
كان لبنان سباقا في استغنائه عن “المجلة” بقانون الموجبات والعقود وبدلا من أن يكون ھذا التجديد في التشريع اللبناني حافزا لشباب كلیة الحقوق – ظافر القاسمي ورفاقه لأن يطالبوا بالغاء مجلة الأحكام العدلیة قاموا يطالبون، بتشجیع من أساتذة معھد الحقوق، ببقاء المجلة سارية المفعول.. وسوف يرى في الصفحات القادمة كیف انتظرت سورية خمسة عشر عاما نتیجة ھذه المعركة بین أنصار القديم وأنصار التجديد في التشريع.
عن الثقافة الوطنیة:
على أن كل تلك السلبیات في الجامعة السورية تقابلھا فضیلة كبرى، وھي أنھا كانت أول جامعة في البلاد العربیة، وضعت منذ تأسیسھا المصطلحات العلمیة وعربت منھاجھا وتدريسھا حتى في الفروع العلمیة المحضة … أي أنھا انفردت بالمحاولة الفذة لإيجاد ثقافة وطنیة عربیة.
إن الشعوب التي لا تختص بثقافة وطنیة تفقد ھويتھا الحضارية، وتتفكك وتضیع وتتقاذفھا أمواج الثقافات الأخرى، وينعدم فیھا وضوح الفكر وتضطرب فیھا حتى اللغة ومعاني المفردات، ولقد انتبه العرب في العصر العباسي الى ھذه الناحیة الخطیرة عندما أرادوا إغناء الثقافة العربیة بنتاج ثقافات الشعوب الأخرى فعربوھا، وكان غنى اللغة العربیة وثراؤھا وطواعیتھا وقدرتھا على التعبیر والتحديد والتدقیق، خیر معوان لھم في النجاح بما تطلعوا إلیه وقاموا به. وقد اتضحت أھمیة الثقافة الوطنیة في العصور الحديثة بشكل بارز جدا. واذا كانت ثقافتنا الوطنیة ھي التي تصل ماضینا بحاضرنا ومستقبلنا، فإنھا ھي المحور الفكري الرئیسي لوحدتنا القومیة، وھي المرتكز الذي بدونه لا يمكن للعرب أن يقدموا عطاءات جديدة للحضارة الانسانیة …. وأن الموضوع كله يعود إلى “اللغة” وينحصر فیھا… وھذا ما تنبه إلیه الاستعمار والصھیونیة ولم نتنبه له نحن العرب مع الأسف، حتى الآن، ولذلك فإن الاستعمار والصھیونیة، اللذين لا يريدان للعرب أن يكونوا ثقافة وطنیة، يشنان حملاتھما التخريبیة المباشرة على اللغة العربیة بالذات، تلك الحملات القديمة المعروفة، والتي اتضحت بشكل ضار وشرس بعد ھزيمة الخامس من حزيران 1967 بحیث أصبحنا نسمع الدعوات الوقحة للتخلي عن لغتنا العربیة بحجة انھا لغة قاصرة لا تتیح لنا التواصل مع منجزات العصر.
ولكي أبین مدى التخريب الذي نزل بھذه القضیة يكفیني أن أشیر الى أننا وصلنا الى مرحلة لا يعرف فیھا الكاتب كیف يسمي حتى الاشیاء المادية، ففي كل قطر تأخذ الأشیاء أسماء تختلف عما تسمى به في الاقطار الأخرى، فما بالك بالمصطلحات الفكرية الرمزية الدقیقة؟ ولیس سبب ذلك عدم وجود مؤسسة لغوية عالیة تضع قاموسا للكلمات وتحدد معاني الفكر ومصطلحاته فحسب، بل سبب ذلك ايضا أن الجامعات العلمیة في البلاد العربیة لا تزال تدرس الكثیر من العلوم بلغات أجنبیة، بحجة قصور اللغة العربیة عن استیعاب تلك العلوم والتعبیر عن مصطلحاتھا الجديدة بدقة.
إذن فنقطة الانطلاق، لتكوين ثقافة وطنیة عربیة سلیمة وصلبة، ھي جعل اللغة العربیة لغة التعلیم في كافة مراحل التدريس واختصاصاته.
إن الیھود عندما أرادوا أن ينشئوا ثقافة وطنیة صھیونیة جعلوا التعلیم في كافة مراحله واختصاصاته باللغة العبرية المتخلفة جدا عن اللغة العربیة والتي كانت تعتبر لغة میتة، وقل الأمر ذاته بالنسبة للصینیین والیابانیین، الذين حققوا انجازات علمیة فذة، كما حقق شعراؤھم وأدباؤھم فتوحات في عالم الأدب والثقافة النظرية خولتھم لنیل جائزة نوبل – على المقیاس العالمي – .
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (26) – تأسیس أول ناد رياضي في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (27) – الصدمة الأولى في الجامعة الیسوعیة
من مذكرات أكرم الحوراني (28) – في لبنان عام 1931
من مذكرات أكرم الحوراني (29) – الشعب السوري يثور ضد تزيیف الانتخابات
من مذكرات أكرم الحوراني (30) – محاولة اغتیال صبحي بركات
من مذكرات أكرم الحوراني (31) – جذور الحركة الشعبیة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (32) – أهل الصفة
من مذكرات أكرم الحوراني (33) – لقاء مع ابراهیم هنانو
من مذكرات أكرم الحوراني (34) – وفاة الملك فیصل بن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (35) – وحدة القضیة السورية الفلسطینیة
من مذكرات أكرم الحوراني (36) – في معھد الحقوق بدمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (37) – تخلف معھد الحقوق