من مذكرات أكرم الحوراني (30) – محاولة اغتیال صبحي بركات
صرفتنا الأحداث التي كانت تجري في سوريا عن متابعة الدراسة الیائسة في كلیة الطب، وكانت السنة الدراسیة قد شارفت على الانتھاء، فاتفقت مع رفیقي عبد الباسط البني وھو شاب حمصي يلتھب وطنیة، وكان يدرس الھندسة، أنه لا سبیل لاحباط مساعي فرنسا في تكريس الانتداب وعقد المعاھدة إلا باغتیال المتعاونین البارزين معھا، وكان صبحي بركات رئیس المجلس النیابي يكثر من ترداده إلى بیروت حیث مقر المفوض السامي، فاتفقنا على اغتیاله، واشترينا مسدسا صغیرا بواسطة أحد معارفنا.
وصل صبحي بركات إلى بیروت، فقام تنافس شديد بیني وبین عبد الباسط على اغتیاله. فأجرينا قرعة بیننا، فوقعت القرعة على المرحوم عبد البسط، وعندما طلبت تكرارھا وقعت علیه مرة ثانیة، فنقدته كل ما لدي من مال وودعته وجلست انتظر.
نزل عبد الباسط في نفس الفندق الفخم الذي ينزل فیه صبحي بركات وھو فندق رويال لیترصده ويطلق النار علیه، وبینما كان بركات في مجلسه ببھو الفندق، وحوله الوافدون ورجاله المسلحون، قام البني من مقعده القريب في البھو وأشھر مسدسه وصوبه على بركات، فاستعصى المسدس، فسحب البني مديته وھجم على بركات لكن أحد المطارنة عاجله، وكان قويا جسیما، فضربه بالمقعد وأوقعه على الأرض، وجرى عراك بینه وبین رجال صبحي بركات المسلحین، ولا أعلم بالضبط إذا كان المرحوم عبد الباسط قد انتحر بمديته أم انه أنه قتل بمدى رجال صبحي بركات، لأنني كنت أسمعه يقول :
إذا أخفقت في اغتیاله فإنني سأنتحر، وقد ادعى بركات ان الطالب انتحر بمديته.
كنا نعقد معظم الاجتماعات عند عبد الباسط البني في غرفة استأجرھا في بنسیون قرب الجامعة الأمیركیة، وكانت صاحبة البنسیون ترطن باللغة فكنا نظن أنھا لا تفھم ما نقول، فلم نأخذ حذرنا منھا، فروت تلك المرأة للمحققین كل ما كان يدور بیننا حول مؤامرة الاغتیال، كما نشرت بعض الصحف اسمي بصفتي شريكا فیھا، فكنت منتظرا اعتقالي بین يوم وآخر، ولكن صبحي بركات طوى القضیة ولم ير من مصلحته متابعة التحقيق (1).
كان الفندق العربي بساحة البرج مفلسا، فاستأجرت غرفة فیه بسعر زھید، كما كان حكمت وعبد العزيز البرازي أبناء شريف البرازي، جیراننا في حماه، مستأجرين غرفة قريبة مني، فبقیت في الغرفة حیث أنا، وحین لم تتعرض لي السلطة حاولت الاستعداد للامتحان الذي اقترب موعده، وبذلت جھدا كبیرا، ولكنني لم أتمكن من إنجاز دراسة المواد فلم أتقدم للامتحان، ورجعت إلى حماه بخفي حنین، مكتشفا في نفسي میلا جديدا لدراسة العلوم ولا سیما الفیزياء والكیمیاء.
رواية الصحف للحادث :
أقمت في غرفتي بالفندق أتابع ما تنشره الصحف عن الحادثة، وقد ذكرت صحف بیروت في 12 نیسان 1932 أنه بینما “كان السید صبحي بركات رئیس الدولة السورية الأسبق في فندق رويال وحوله بعض الزائرين، وإذا بشاب يدخل الصالون وبیده مسدس يصوبه الى وجه صبحي بركات، ولكن الرصاص لم ينطلق، فاستل سكینا وھجم علیه، فوقف بعض الزائرين حائلا بین الطالب وبین بركات، وكان بینھم السید أنطون اده أمین الحاكمیة الادارية بدمشق فجرح في يده، ولكن الشاب الحمصي لما أخذت السكینة منه استل سكینا أخرى وحاول الھجوم فحال الزائرون بینه وبین صبحي بركات أيضا وانھالوا علیه بالضرب حتى أغمي علیه وجرح جراحات كثیرة، ويظھر أن بعضھم طعنه بإحدى السكینتین. والشاب الحمصي اسمه السید عبد الباسط البني طالب في مدرسة الھندسة ببیروت”.
وفي 13 نیسان 1932 ذكرت الصحف أن “الطالب الحمصي عبدالباسط البني الذي حاول اغتیال صبحي بركات قد انتحر في الحال بحیث أغمد السكین في أحشائه”.
وفي 14 نیسان ذكرت الصحف التفاصیل التالیة: “في الساعة الثامنة والنصف صباحا نزل صبحي بك بركات الى القاعة الكبرى في الفندق لیستقبل زواره، وكان عنده فیھا السید أنطون أده والسید صالح طرابیشي من حلب والاستاذ زانجیان من المحامین الأرمن، وفي الساعة التاسعة إلا ربع أقبل سیادة المطران روفائیل نمر متروبولیت حلب للروم الارثوذكسي ومعه كاتم أسراره، فخف السید بركات الى وسط القاعة واستقبلھما وعاد بھما إلى صدرھا ومعه الشاب الأديب السید باسیل مكرديج، وما استقربھم المقام وصبحي بك لاه بالحفاوة بزواره حتى رآھم يقفزون جمیعا ويصیحون، ذلك أنھم رأوا الشاب عبد الباسط البني قد توسط القاعة شاھرا مسدسه وھو مصوبه على السید بركات، وقد أدرك الجمیع بداھة، رغم ھول المفاجأة، ما يريد ھذا المھاجم، فدفعوا صبحي بك الى القاعة الصغیرة، وھاجموا المعتدي وھم يصیحون ويستنجدون، وكان أربط الجمیع جأشأ سیادة المطران روفائیل الذي رمى المعتدي بكرسي فأسقط المسدس من يده قبل أن يتمكن من إطلاق الرصاص، ويظھر أن الشاب ھاله ما ھو مقدم علیه فارتعدت يده ولم يحسن تحريك المسدس، وكان عبد الباسط مصمما أن يقضي على حیاة السید بركات، فلما فشل ھذا الفشل استل من جیبه خنجرا حادا وھجم به، ولكن محمد المصري المرافق كان أسرع وقبض على يدي عبد الباسط من الوراء، وأخذ الشاب وھو على جانب وفیر من القوة يجالد ويفلت من ماسكیه ويضرب يمینا وشمالا فأصابت مديته محمد المصري في رأسه وفي خاصرته، وھكذا أفلت ثانیة وھجم ملاحقا السید بركات الذي كان سیادة المطران روفائیل يحول بینه وبین الخروج من القاعة الصغرى، وأمسك السید إده بالمعتدي فناله جراح في يديه وفي صدره، وفشل عبدالباسط في الھجومین
التالیین فیئس وغلب علیه القنوط ورأى أنه لا يستطیع الوصول إلى صبحي بك فرد الخنجر إلى بطنه وراح يعمله فیه مرارا، وحینئذا أسرع إلیه السید صالح طرابیشي يجرب أن يأخذ السكین منه فعضه في زنده من فوق الثیاب عضة جرحته جرحا كبیرا وأسالت دمه، وأصاب حینئذ الاستاذ زانجتان في كتفه، وقد نقل الشاب إلى أوتیل ديو وتوفي ھناك متأثرا بجراحه في الساعة الخامسة والنصف مساء”.
وقد ذكرت الصحف أن اسم صاحبة البنسیون ھو مدام خاروني .. كما تساءلت” من ھو شريك الشاب”؟ .. ولاحظت أن الصحف كانت متعاطفة مع الشھید البني، وتريد أن تشكك بقصة انتحاره، كما أن صحف دمشق كانت تنشر مقالات التمجید بھذا الفدائي بأقلام رفاقه الطلاب، بأسماء مستعارة. كما أقام طلاب دمشق صلاة الغائب على روحه.
(1)
في تقديري أن تلك المحاولة التي كانت نتیجة للجو الشعبي اللاھب قد أثرت على موقف صبحي بركات من المعاھدة، ويشیر نصوح بابیل في كتابه صحافة وسیاسة الى ھذا التغییر بما يلي:
وبقي صبحي بركات متعاطفا مع الفرنسیین حتى سنة 1932 عندما اجتمع مجلس النواب لیناقش المعاھدة، وكان بركات يسیطر على اكثر اعضائه، بینما كان عدد النواب الوطنیین -نواب المعارضة- ستة عشر من أصل نیف وتسعین نائبا، وعرضت المعاھدة على المناقشة، فعارضھا النواب الوطنیون بعنف وقوة الى أن دعي النواب للتصويت علیھا، وكانت مفاجأة الجمیع في داخل المجلس وخارجه عندما وقف بركات معلنا رفضه للمعاھدة، لأنھا لا تتفق مع مصلحة البلاد، وقد شاركه في رفضھا عدد غیر قلیل من أصدقائه النواب بالاضافة الى النواب الوطنیین، وھكذا رفضت المعاھدة التي أعدھا الفرنسیون بالاتفاق مع شاكر نعمت الشعباني وزير المالیة الذي كان يمثل حكومته في مفاوضات المعاھدة التي سمیت (معاھدة فرنسا – الشعباني).
نصوح بابیل -صحافة وسیاسة- الطبعة الأولى، لندن، دار الريس صـ 23
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (29) – الشعب السوري يثور ضد تزيیف الانتخابات
من مذكرات أكرم الحوراني (28) – في لبنان عام 1931
من مذكرات أكرم الحوراني (27) – الصدمة الأولى في الجامعة الیسوعیة
من مذكرات أكرم الحوراني (26) – تأسیس أول ناد رياضي في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات