من مذكرات أكرم الحوراني (27) – في لبنان عام 1931
لم اكن غريبا عن لبنان عندما وصلت إلى بیروت لأقضي فیھا سنة دراسیة بعیدا عن أھلي، فقد كانت حماه، منذ زمن العثمانیین على اتصال تجاري بحلب وبیروت أكثر من اتصالھا بدمشق، فعن طريق حلب كانت تصدر محاصیلھا الزراعیة ومنتوجاتھا الصناعیة من الغزل والنسیج الى بلاد الأناضول، كما كانت بیروت مرفأھا وطريق تجارتھا وتعاملھا مع الغرب… وكان الحمويون في حفلات الأعراس يرددون أھزوجة: “من بیروت يا يمه جبنا جھازنا وحنه” فقد كانوا يشترون ثیاب العروسین وبعض الأثاث من أسواق بیروت، وكانت الأسر الحموية المیسورة ترسل أبناءھا إلى معاھد بیروت ومدارسھا، كما كان المرضى يقصدون مشافي بیروت للمعالجة الطبیة وكان للصحف والمجلات البیروتیة سوق في حماه، بالبیع والاشتراك، أوسع من سوق الصحف الدمشقیة. كما كانت الكتب التي تطبع في بیروت تتلقفھا أيدي الطلاب والمثقفین في حماه.
وعندما كنا تلامیذا في دار العلم والتربیة، وأنشأ المدير عبد لله المشنوق فرقة كشفیة كنت فیھا رئیسا لفرقة الغزال، اشتركنا بمجلة الكشاف المسلم البیروتیة، ومن قراءتھا وقراءة الصحف والمجلات اللبنانیة الأخرى كنا على اطلاع مستمر على أخبار لبنان والحركة الفكرية وما يصدر من كتب جديدة، ولا أزال أذكر أنني قرأت في ذلك الوقت “ملوك العرب” للريحاني بشغف واھتمام. وكان يلفت نظرنا أولئك الكتاب والشعراء اللبنانیون الذين يعتزون بانتمائھم للعروبة ويضعون الرابطة القومیة فوق الرابطة الدينیة كالشاعر القروي وخلیل مطران وابراھیم يزبك وأمین نخلة ومارون عبود وإيلیا أبي ماضي والیاس فرحات وأديب اسحق ونعمة الحاج ونجیب الحداد وسلیم سركیس وشكري غانم والشیخ ابراھیم الیازجي والأخطل الصغیر والريحاني وجبران وجرجي زيدان واحمد فارس الشدياق وغیرھم.
كنا ننظر لھؤلاء الرواد باعجاب كبیر، فقد كانوا سواء في لبنان أو مصر أو المھجر، طلیعة التحرر العربي الفكري والأدبي والسیاسي والاجتماعي، ولا أظن أن طالبا سوريا في ذلك الوقت لم يكن زاده الیومي مطالعة ما كان ينشره ھؤلاء الطلیعة الكبار.
ھكذا كان الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري والسیاسي بین بیروت وحماه، إلى ما بعد الثلاثینات. ولم تستطع التجزئة السیاسیة التي فرضھا الانتداب بین البلدين الشقیقین سوريا ولبنان أن تقضي على تلك العلائق الوشیجة، لأنھا نتیجة تفاعل طبیعي وتاريخي. كما أن الفرنسیین لم يجدوا من مصلحتھم فك ھذا الارتباط بین البلدين فأنشأوا “المفوضیة العلیا” في بیروت سلطة علیا للبلدين، وأبقوا على الوحدة التشريعیة والتعلیمیة والاقتصادية فأصبحت بیروت بالواقع عاصمة لاتحاد فیدرالي تديره السلطة المنتدبة بواسطة المفوض السامي.
لم تكن الأحداث التي رافقت ثورات راشیا وحاصبیا ومرجعیون، ومحاولة الفرنسیین استثارة المسیحیین اللبنانیین على تلك الثورات بدوافع دينیة، لتثیر في نفوسنا ردود فعل طائفیة، بل كانت بالعكس تزيد اھتمامنا بلبنان وحل مشاكلنا الطائفیة كإحدى أھم وسائل التحرر من الاستعمار الفرنسي البغیض، وكنا على قناعة بأنه لولا الانقسام الطائفي في لبنان لما أمكن لفرنسا أن تجعل منه معبرا لاحتلال سوريا، والشعب اللبناني شعب عربي، ھو منا ونحن منه. فإذن عندما نتمكن من أن نجعل الولاء الوطني والقومي يحل محل الولاء الطائفي في لبنان وسوريا يصبح استقلال البلدين أمرا محتوما بنضالھما المشترك، ھذا ھو طريق الحرية والاستقلال ولا طريق سواه. ھذا ھو اعتقادي عندما وصلت الى بیروت لأنتسب الى الكلیة الیسوعیة عام 1931
في كلیة الطب:
كان الطلاب السوريون في الكلیات اللبنانیة رفاقا يلتقون دوما، أذكر منھم أنور النعمان ومحمد العالم وعبد الباسط البني الطلاب بكلیة الھندسة، ومصطفى عبد الباقي ورياض الأتاسي وعلي الأبرش، رفاقي في الصف التحضیري بكلیة الطب، وكنا نستعین بأمالي الأبرش لأنه كان قويا باللغة الفرنسیة، وقد حاولنا باھتمام وجد أن ننقطع للدراسة.
انبعثت صداقة قوية بیني وبین علي الأبرش، وكان شاعرا وأديبا حقا، ثم ذھب فیما بعد لیتابع دراسة الطب في فرنسا فقتل ھناك في ظروف غامضة. كان معلم الفیزياء المسیو كوزموبولس يفتتح تجاربه الفیزيائیة بالسخرية من رياض الأتاسي والتعرض لوالده ھاشم الأتاسي، فأصبح بقاؤنا في الكلیة صعبا جدا على نفوسنا.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (27) – الصدمة الأولى في الجامعة الیسوعیة
من مذكرات أكرم الحوراني (26) – تأسیس أول ناد رياضي في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً :
أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات