من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
أنشأ الفرنسیون نظام البكالوريا عندما كنت في الصف التاسع. وھذا يتطلب تقوية اللغة الفرنسیة، لذلك اضطررت بعد نجاحي من الصف العاشر أن أقضي العطلة الصیفیة في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان فقد كنت ضعیفا باللغة الفرنسیة بسبب ضعف الأساتذة، وحقدا على فرنسا، ورغم الدروس الخصوصیة اثناء العطل، وجھود “مكتب عنبر” لتقويتنا باللغة الفرنسیة فإن جھودنا كانت منصبة على دراسة اللغة العربیة والفكر الأدبي والتاريخ والشعر العربي. وھا قد داھمتنا البكالوريا التي خصت اللغة الفرنسیة فیھا بعلامات تعادل علامات اللغة العربیة تماما.
وفي الكلیة الوطنیة بعالیه، وھي الكلیة العائدة لمارون عبود، أبي محمد، الأديب والناقد العربي المعروف انھكمت بمطالعة الأدب الفرنسي ودراسة عصر الرومانتیك وأشعار لامارتین وألفريد موسیه وقصصھما في غرازيیلا ورافايیل، وكنت أجد صعوبة في ترجمتھا وفھمھا. وفي ھذه المدرسة التقیت بعدد من الطلاب السوريین كمحمد السراج وشكیب الجابري، ومارست أول احتكاك فكري مع
الشباب اللبناني، فقد كنت أقیم في غرفة واحدة مع سمیر معوض، وھو شاب لبناني تخرج فیما بعد طبیبا، كنت معه دوما في جدل مستمر حول القومیة العربیة والقومیة اللبنانیة.
وذھبت مع الطلاب ذات يوم في رحلة إلى شاغور حمانا، فالتقینا ھناك صدفة بالنائب والسیاسي والمحامي يوسف السودا، فدعانا إلى الغداء، وكنا خلیطا من مختلف البلاد العربیة، فدار نقاش طويل بیننا نحن الطلاب المؤمنین بالقومیة العربیة والوحدة العربیة وبین يوسف السودا الداعیة للقومیة اللبنانیة، كان
يوسف السودا محدثا بارعا لطیفا وذكیا، وكان يبدي استغرابه وتعجبه من أجماع الطلاب العرب واقتناعھم بالقومیة العربیة. وكان يعتبر الوحدة العربیة ضربا من الأوھام.
كانت دراستي الصیفیة في عالیه مناسبة لمتابعة السیاسة اللبنانیة في الصحف والمجلات لا سیما “المعرض” لمشیل زكور وإدراك ما يجري في ھذا القطر العربي من تیارات فكرية وسیاسیة، كما كنت أجد متعة كبرى بقراءة ما تنشره الصحف البیروتیة بین الحین والحین عن أخبار مجاھدي الثورات السورية الذين اجتازوا منطقة صحراوية قاسیة، بین شرقي الأردن ونجد، وصمدوا فیھا عدة سنوات، رغم قساوة ظروف المعیشة، ورغم مسؤولیتھم عمن معھم من أسر وأطفال، دون أن تھن لھم عزيمة أو يقبلوا بالاستسلام.
وإنني لا أزال أذكر كیف قرأت بشغف واھتمام ريبورتاجا طويلا ترجمته جريدة الأحرار التي كان يصدرھا جبران التويني، وقد كتبته صحافیه فرنسیة زارت اولئك المجاھدين الصامدين، بمساعدة رياض الصلح الذي غامر باصطحابھا الى تلك المجاھل الصحراوية اللاھبة بعد أن جعلھا تتنكر بزي امرأة بدوية وقد رجعت عند كتابة ھذه المذكرات إلى مجموعة جريدة الأحرار التي نشرت 29 وورد فیه : /8/ المقال بتاريخ 19
“مضت ساعات والسیارة تنھب الأرض نھبا في الصحراء الحمراء الرمال، الحرارة درجتھا 45 في الظل و 60 عندما نجتاز نقطة تكتنفھا الأحجار البركانیة السوداء فتنعكس علیھا الشمس وترسل منھا جوا يخال لك معه أنك أمام فوھة لاھبة تتمازج فیھا المعادن.
رمال، ثم رمال، لا شيء يتحرك ولا شيء يھتز في تلك الصحراء المملة والجمیلة معا، أمن الممكن أن يعیش الانسان والحیوان في مثل ھذه البقعة من الأرض، وأن تقام فیھا البیوت؟
سرنا مئات الكیلومترات، دون أن يعترضنا مخلوق، واعتراني الیأس وكدت أقول علام السیر؟
وإذا بمضارب الثوار تبرز فجأة وسط بقعة تتخللھا حجارة سوداء، ويركض الأولاد عند رؤيتنا، وتزغرد النساء، ويحدق بنا رجال كأنھم من محاربي العصور القديمة علیھم مظاھر الھیبة والكبرياء.
وتقابل الصحافیة الأمیر عادل أرسلان وسلطان باشا الأطرش، وتصف الأمیر عادل بأن مظھره ھو أقل عنجھیة مما يبدو في صوره، كما أنه يتكلم لغة فرنسیة لا شائبة فیھا، ويعرف كیف يستقبل ببشاشة، وتسأله :
– ھل تقیمون ھنا منذ زمن طويل ؟
– لقد ثرنا منذ ثلاث سنوات، ونحن ھنا منذ عام، وقد كنا سابقا في الأزرق ولكن المستنقعات فیھا كثیرة، ولذلك جئنا الى ھنا حیث الحیاة أصلح من الآزرق، ثم أنه يوجد مقالع ملح ھي مورد رزق لأولئك الذين تبعوني.
وتقول الصحافیة لعادل أرسلان :
أود أن أطرح علیك سؤالا يا أمیر، انك أوربي اكثر من كثیر من الأوربیین، وتلقیت علومك في الآستانة وباريس وفي مدرسة الحكمة في بیروت، وكانت حیاتك في الأوساط الاجتماعیة
والفكرية اكثر منھا في وسط الحرب فكیف يمكنك العیش في وسط ھذه الصحراء؟ ولماذا لا تستسلم؟ ويجیب الأمیر :
كیف تريدين أن اترك ھؤلاء الذين تركوا كل شيء وأبوا الاستسلام عن عقیدة؟ ثم ان الاستسلام فكرة لم تخطر ببالي حتى الآن ..
وتنتھي الصحافیة إلى التعلیق : لقد قال الأمیر ذلك بلھجة صريحة حازمة .. أن ھذا الرجل المثقف ثقافة أوربیة، المرتدي لباسا بدويا، العائش في قلب الصحراء، ألیس ھذا الرجل رمزا حیا لسورية المتمردة على كل اتفاق، والتي لا تقوى القوة على قھرھا، المتوحشة المتمدنة الى حد الافراط، الاقطاعیة والثائرة، والتي ھي مثال دائم من المتناقضات؟
ثم تتحدث الصحافیة في ريبورتاجھا الذي نشرته صحیفة باري سوار وترجمته الأحرار عن خیمة سلطان باشا الاطرش التي زالت ألوانھا، حیث يلتف الثوار حول ھذا المحارب الذي تصفه بأنه طويل القامة، قوي البنیة، صحیح النظرات صافیھا، نحاسي اللون، له شاربان اسودان طويلان، لیس له مظھر فلاح وانما مظھر محارب عنیف جريء من “الغالیین”، وقد ربض بین ركبتیه غلام عمره ثلاثة أعوام كان سلطان يداعبه وقدمه إلیھا قائلا : ولدي.
وتقول الصحافیة :
اقتربت من الطفل وتلفظت بضع كلمات فرنسیة، فما كان من الطفل إلا أن شرع يصیح، فقلت مبتسمة وقد ارتبكت :
– إنه طفل جمیل حقا، ولكن يخال لي أنه لا يحب اللغة الافرنسیة.
فأجابني سلطان وقد بدت على وجھه أمارات الجد القاسیة :
– وكیف يمكنه أن يحبھا؟ إنه لم يسمعھا إلا حین غادر أبوه ورجاله
أوطانھم، فجاءت الطیارات الافرنسیة تلقي قنابلھا على المضارب حیث لم يكن فیھا الا النساء والأولاد.
وتحدث سلطان عن القضیة السورية، والمسیو بونسو، ولكنه لم يحدثني عن الغفران والعفو والاستسلام.
من ھذه الزيارة لمعاقل الثوار يمكنني الاستنتاج أن اولئك الرجال البعیدين عن كل حیاة فكرية في قلب صحراء نجد، واقفون على مجرى سیاسة بلادھم كأنھم في وسط دمشق، فما ھي تلك الأعجوبة التي تجعل أناسا أمیین يتتبعون ذبذبة سیاستنا التي لا تريد أن تعترف لھم بأن القضیة السورية ھي قضیة عربیة قبل كل شيء؟”.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة