من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
كان أول جد لعائلتي في حماه ھو عثمان الحوراني من عائلة الحلقي من بلدة جاسم في حوران، وقد بنى زاوية في حي الحوارنة في حماه لممارسة الطريقة الرفاعیة، ثم دفن فیھا ولا تزال ھذه الزاوية والمسجد والغرف والأقبیة الملحقة بھا موجودة في ھذا الحي الذي سمي باسم جدي، ولا يزال تاريخ وفاته منقوشا على شاھدة قبره المغطى بتابوت مھیب حیث كان الأھلون يتبركون به وھم يقولون بخشوع: “يا حوراني يا أكحل”.
وكان بعض النسوة يأخذن مزقا صغیرة من القماش الأخضر الذي يغطي التابوت للتبرك به واتخاذه تعويذة ضد الشرور والأمراض. وقد جاء في كتاب تاريخ حماه للشیخ أحمد الصابوني أن “الشیخ عثمان بن الشیخ صالح بن الشیخ حسن الحوراني الرفاعي جاء من حوران سائحا، فسكن في حماه وصار له تلامذة يأخذون علیه الطريقة الرفاعیة، ثم توفي ودفن في زاويته المعروفة، وخلفه ابنه أبو الوفا السید علي، وكان السید علي مفتیاً في حماه، فاضلا عالما مھابا كريما، يسكن في محلة سوق الشجرة. انتفع بعلمه كثیرون، وتوفي سنة 1085 ھجرية “.
ولا يزال موجودا لدينا في حماه تسلسل النسب الذي كان يحتفظ به والدي ولا نزال نحتفظ به. توفي والدي في عام 1915 ، في السنة الأولى بعد قیام الحرب العالمیة، ودفن في “زاوية الحوراني”، وكان جدي قد توفي قبله بعام واحد، ورغم صغر سني في تلك الأيام فإنني لا أزال أذكر يوم وفاة جدي الذي كنت أحبه كثیرا لأنه كان يحملني على يده إلى دكان قريب لیشتري لي الحلوى، فطبعت ھیئته ويوم وفاته في ذاكرتي انطباعا لا يمحى، كما أنني أتذكر يوم مرض والدي ووفاته.
وقد قیل لي فیما بعد أنه مات مصابا بالكولیرا إثر انتشارھا بعد قیام الحرب وھجرة الأرمن مشیا على الأقدام من أرمینیا إلى سوريا، ولا أزال أتذكر كیف كان الأرمن يتساقطون موتى على الطرقات، فتحمل جثثھم بالطنابر من (خان أبو بكري) القريب من منزلنا إلى (كرم الحوراني) الواقع في حینا حیث يدفنون في أبار قديمة مھجورة، وقد أخبرتني أمي بأن والدي كان شديد التأثر من بؤسھم، فكان يزورھم ويوزع علیھم الخبز في خان أبو بكري فأصیب منھم بعدوى الكولیرا.
إنني لا أزال أذكر الغرفة في منزلنا التي كان يجري فیھا تمريضه، وزيارات الدكتور عبد الرحمن الكیالي لعیادته في تلك الغرفة.
كان الدكتور الكیالي – الذي أصبح من رؤساء الحزب الوطني فیما بعد- طبیبا شابا في الجیش العثماني، يحمل كرباجا صغیرا يلفت نظري، وكان شديد الاھتمام بوالدي نظرا لصلة النسب التي كانت أقوى رابطة اجتماعیة في ذلك الزمان.
ولم يطل المرض بوالدي، وقد نقلني أھلي يوم وفاته إلى بیت جارنا أبي أحمد الصیرفي المقابل لبیتنا، وكنت أشاھد أمینة، إحدى فتیات المنزل، وھي تطل من الشباك باكیة، فسألتھا عن سبب بكائھا فقالت لي: إن رجلا فاضلا فقدته المدينة… فتقدمت من النافذة ورأيت عددا كبیرا من النساء وھن يندبن، وعددا كبیرا من الرجال يحملون النعش من بیتنا.
وحین رجعت إلى البیت بعد أيام لاحظت جوا من الحزن والأسى يخیم على والدتي وإخوتي وشقیقاتي وأعمامي فعرفت أن والدي قد توفي، ولكنني لم أدرك معنى الوفاة. غیر أنني حزنت كثیرا حین لاحظت أن “الدرة الخضراء” قد صمتت وكان أحد أصدقاء والدي قد أھداه ھذه الدرة الجمیلة، فكنا نكلمھا ونعجب بھا وبفطنتھا عندما تقلد كلامنا، والظاھر أن العويل والبكاء وجو الحزن قد صدم ذلك الطائر الجمیل فلم يعد يتكلم أبدا، وامتنع عن تناول الحبوب، ثم اعتل رغم العناية الشديدة به ومات.
صرنا بعد ذلك نزور قبر الوالد في المناسبات المعروفة، وكان مدفونا في زاوية الحوراني قرب أحد التوابیت الكبیرة الخضراء التي تجلل قبور الأجداد، وفي جانب من فناء الزاوية، خارج ذلك القبر الكبیر، كانت توجد قبور عدد من آل العظم وآل طیفور وغیرھم من الأسر الحموية التي كانت تدفن موتاھا في زاوية الحوراني تبركا، وإلى جانب ھذا القبو حرم كبیر يصلي فیه أبناء الحي، وفي الجانب الآخر من الفناء عدة غرف غیر مكتملة البناء.
شیدت “الزاوية” في موقع جمیل بحي الحوارنة يطل على المدينة ويشرف على عاصیھا المتعرج وبساتینھا الجمیلة الخضراء، وقد حدثني عمي بأن الناس كانوا يعتقدون بأن ربط المجانین بتوابیت زاوية الحوراني يشفیھم من أمراضھم العقلیة، وذات مرة ربطوا بأحد التوابیت مجنونا قويا بدينا، وقبل طلوع الفجر عندما بدأ أبناء الحي يتوافدون إلى مسجد الزاوية لصلاة الصبح، رأوا التابوت الأخضر يسیر ثم يخرج من باب الزاوية، فذعروا وھربوا وھم يصرخون بأن الحوراني قد خرج من القبر، ثم ظھر لھم أن ذلك المجنون قد حمل التابوت على رأسه وخرج به بعد أن ضايقه أسره الطويل.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة