مقالات
ميشيل عفلق عام 1947 : موقفنا من الحكومة الحاضرة
موقفنا من الحكومة الحاضرة .. من مقالات ميشيل عفلق التي نشرت في صحيفة البعث الثلاثين من كانون الثاني 1947.
كثيرا ما ألقي علي هذا السؤال خلال الجولة الاخيرة التي قمت بها في سوريا، وكنت أجيب دوما بصراحة ان موقفنا من الحكومة الحاضرة لا يختلف عن موقفنا من جميع الحكومات التي سبقتها خلال العهد البرلماني الاخير. ونحن حينما ننطق بهذا الحكم انما نستمده من الاسس الثلاثة التي قامت عليها عقيدتنا القومية والتي اصبحت من المميزات البارزة التي أختص بها حزبنا، فكان حزباً: عربياً انقلابياً شعبياً.
ان حزبنا هو حزب عربي بمعنى لم يتخذه اي حزب آخر. فهو لا يكتفي باقرار الفكرة العربية وانما يسعى في واقعه، عدا عن فكرته، الى ان يكون الحزب العربي الشامل المنتشر في كل الاقطار العربية، والذي يعالج المشاكل العربية ككل لا يتجزأ، ولا يعالج المشاكل القطرية ومنها “مشاكل سوريا” الا على ضوء مصلحة الامة العربية الواحدة.
والصفة الثانية لحزبنا هي انه حزب انقلابي، فهو لا ينظر الى الامور السطحية والعارضة في السياسة العربية وانما يسعى الى قلب اسس هذه السياسة، ويعتقد ان الاصلاحات الثانوية التي تنادي بها الحكومة الحاضرة وتعتبرها رئيسية تتبع حتما ذلك الانقلاب.
والصفة الثالثة لحزبنا انه شعبي. فكل شيء لا يمس مصلحة الشعب او لايقدم فائدة لقضية الشعب العربي نهمله ونستخف به، فما دامت هذه الحكومة لا تختلف عن الحكومات السابقة في هذه النواحي الثلاث الرئيسية فموقفنا لن يتغير قط.
هذه الحكومة لا تختلف عن سابقاتها في السياسة العربية، فقد أقرت الانفصال والانكماش بالرغم من التظاهر بالميل الى الوحدة ولكننا لا نجد عمليا أية تضحية فعلية في سبيل الوحدة العربية.
اذ ان الخطوات الاولى في سبيل الوحدة العربية هي التمرد على كل نفوذ يحاول الاجنبي فرضه او تعزيزه في اي قطر من اقطار الوطن العربي، والعمل على ازالة تلك الحواجز والحدود التي فرضها الاجنبي والتي استمرت الفئات الحاكمة العربية على الاعتراف بها واحترامها: كالرسوم الجمركية وجوازات السفر والجنسيات المختلفة التي تجعل العلاقات الرسمية بين البلاد العربية لا تختلف في شكلها عن العلاقات التي تقوم بين دول اجنبية تنتمي الى قوميات مختلفة. وان كل تغزّل بالوحدة العربية تتبجح به الطبقة الحاكمة في سوريا انما هو تغزّل لفظي سطحي ليست له اية قيمة جوهرية عميقة.
وان موقف الحكومة الخائر المتردد من المناورات الاستعمارية البريطانية التي ظهرت على المسرح السياسي بأسم الكتلة الشرقية ومؤتمر لندن ومشاريع التقسيم في فلسطين، والتي من شأنها طعن القومية العربية في الصميم وبلبلة الوعي القومي في نفوس جماهير الشعب العربي، قلت، ان موقف الحكومة الخائر المتردد من هذه المناورات دليل واضح يؤيد ما ذهبنا اليه من عدم تبنيها سياسة قومية عربية تحريرية شاملة.
واما من الناحية الانقلابية فلا يمكن ان ننسب الى الحكومة الحاضرة أية سياسة انقلابية وانما أتت لتخدر بعض التخدير ولتصلح -ان استطاعت- بعض الاصلاح. لقد استفادت من أخطاء الحكومة السابقة فأتت لتربح من المقارنة بينها وبين الحكومة السابقة. وفي رأينا انها لن تربح سوى اشهر قليلة ثم يكتشف الشعب حقيقتها.
اما ما اعلنته في بيانها الحكومي عن احترامها المطلق للحريات الدستورية وعزمها، على تطبيقها بتجرد ونزاهة فلا يزال حتى الآن تعهدا وادعاء. ونحن نؤمن ايمانا عميقا بأن هذا التعهد فرض عليها من قبل الشعب فرضا، لأن الشعب هو الذي كسب معركة الحرية بما اظهره من وعي ونشاط حتى زعزع الفئة الحاكمة واضطرها على الاذعان لرغبته مرغمة. ويجب ان لا ننسى ان اكثر هؤلاء الرجال الذين يؤلفون الحكومة الحاضرة سبق ان كانوا في الحكم، ولم يكونوا مختلفين في سياستهم عن سياسة الحكومة السابقة التي داست الدستور.
وليس للعناصر الجديدة التي اشتركت في الحكم من النفوذ والتأثير ما يسمح لنا بأن نأمل بحصول تبدل في عقلية الحكام. والشيء المرجع في نظرنا هو ان سياسة الفئة الحاكمة لا تزال هي هي لأن العقلية واحدة والمصالح واحدة، وكل ما في الامر ان هذه الفئة التي مرنت السياسة المحلية مرانا كبيرا تعرف كيف تتراجع مؤقتا تحت وطأة الضغط الشعبي ثم تعود الى سيرتها الاولى بعد زوال العاصفة.
ونحن نعتبر ان تعديل قانون الانتخاب وجعله على درجة واحدة انما هو الخطوة الاولى الذي يفسح الطريق ويحطم العوائق التي تقف في وجه الانقلاب المنشود، اذ لا نستطيع ان نتصور انقلابا يمكن ان يتم في ظل هذا القانون الرجعي وأضرابه من القوانين التي فرضها المستعمر ليعزل الشعب عن مشاكله وليمنعه من استلام قضيته بيده وليحول بينه وبين التعبير بملء الحرية عن إرادته وتنفيذ هذه الارادة بعزم وصدق.
والحكومة في بيانها وفي تصرفاتها لم تستطع حتى الآن ان توحي الينا الثقة في صدق عزيمتها على القيام بهذه الخطوة الانقلابية البدائية وانما عمدت الى التلويح الغامض والاشارة البعيدة التي ترمي من ورائها الى تخدير الشعب والتغرير به فأقرت “بتعديل” قانون الانتخاب فحسب دون ان تلبي نداء الشعب باعلان التعديل الحقيقي، الا وهو جعل الانتخاب على درجة واحدة.
ونحن واثقون ان الحكومة لن تذعن لهذا النداء الصارخ ولن تقدم على جعل الانتخاب على درجة واحدة الا بعد ان يعلن الشعب النضال من جديد لحملها على اجراء التعديل عنوة.
اما بصدد الصفة الثالثة، وهي الصفة الشعبية، فإن الحكومة الحاضرة لا تمثل الشعب، لأنها من الطبقة الاقطاعية الرأسمالية المستغِلة التي لا تحس بالآم الشعب: فهي لا تدرك آماله، ولا تلبي حاجاته الحقيقية. فلقد رأيتم هذه المهازل التي يتكرر تمثيلها حول مكافحة الغلاء، وهي مكافحة عقيمة فاشلة عابثة، لأنهم لم يحاولوا معالجة أصل الداء بل يكتفون بالتخدير والاندفاع وراء الحلول السطحية الزائفة.
اننا نؤمن بأن أية معالجة لمشكلة الغلاء لا تتناول مصادر الغلاء الحقيقية في حياتنا هي معالجة سطحية وفاشلة، لأن مشكلة الغلاء في وطننا هي مشكلة عميقة تتصل بأسس نظامنا الاقتصادي والاجتماعي الفاسد. انها مرتبطة اشد الارتباط بوجود هذه الطبقة النفعية المستغِلة الجاثمة على صدر الشعب، وبوجود هذا النظام الاقتصادي الفردي الاناني الطليق من كل رقابة او اشراف فعلي من دولة واعية حازمة تمثل الشعب تمام التمثيل.
فمشكلة الغلاء لن تحل الا على ضوء المبادئ الاشتراكية التي يدعو اليها حزبنا بحرارة وايمان. انها لن تحل الا بتأميم الشركات الاجنبية وجعلها ملكا للدولة، وانقاذ الشعب من استغلال تلك الشركات لحاجاته الحيوية من ماء وكهرباء ومواصلات، والا بتوزيع الاراضي التي تملكها الدولة على صغار الفلاحين فتنقذهم من الترامي في احضان الاقطاعيين الذين يستنزفون دماءهم ويمتصون جهودهم ويمنحونهم نوعا من الحياة هي اقرب الى العري والجوع لقاء كدحهم المستمر في حمّارة القيظ وصبّارة القر، وإلا بحمل كبار الاقطاعيين والرأسماليين حملا على انصاف العمل والحد من طغيان الملكية والرأسمال ومنح الفلاح والعامل حقهما الطبيعي في العيش عيشا انسانيا كريما.
ولكننا واثقون كل الثقة بأن هذه الحكومة وأضرابها – بحكم مصالح أفرادها الطبقية ويحكم وعيها القومي الغامض المضطرب- بعيدة كل البعد عن ان تخضع للمصلحة القومية العليا وان تتحرر من انانيتها الضيقة وطبقيتها الظالمة.
واريد ان اوضح هنا اننا لا نصدر احكامنا بدافع السلبية المتطرفة والتشاؤم المظلم او الحقد الشخصي، وإنما نستوحيها من تحليل دقيق ودراسة شاملة لأوضاع الفئات الحاكمة في بلادنا على ضوء عقيدتنا القومية واستنادا الى الدعوة والمبادئ التي اعتنقها “حزب البعث العربي”.
وسنبقى متفائلين دوما ومؤمنين بالمستقبل المشرق الذي يمليه الغد لأمتنا العربية على يد الجيل العربي الجديد المنبثق من صميم الشعب المدرك لمسؤوليته ولخطورة هذه المرحلة التاريخية التي تمر بها امته، والحامل للواء البعث العربي والانقلاب الشعبي الجديد.
27 كانون الثاني 1947
انظر مقالات ووثائق ميشيل عفلق:
في الثلاثينيات:
عهد البطولة | 1935 |
ثروة الحياة | 1936 |
في الأربعينيات:
انظر ايضاً:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة
المراجع والهوامش:
(1). افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 34 الصادر في 30 كانون الثاني 1947.
(2). جواب الاستاذ ميشيل عفلق، اثناء الاجتماع العام الذي عقده حزب البعث العربي في دمشق مساء 27 كانون الثاني 1947، على سؤال وجهه اليه أحد الاعضاء عن موقف الحزب من الحكومة الحاضرة. ونشر في جريدة "البعث"، العدد 99.
المراجع والهوامش:
(1). افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 34 الصادر في 30 كانون الثاني 1947.
(2). جواب الاستاذ ميشيل عفلق، اثناء الاجتماع العام الذي عقده حزب البعث العربي في دمشق مساء 27 كانون الثاني 1947، على سؤال وجهه اليه أحد الاعضاء عن موقف الحزب من الحكومة الحاضرة. ونشر في جريدة "البعث"، العدد 99.