مقالات
ميشيل عفلق عام 1946 : لا تزال قضيتنا قضية تحرر قومي
الجمهورية والحرية .. لا تزال قضيتنا قضية تحرر قومي .. من مقالات ميشيل عفلق التي نشرت في افتتاحية صحيفة البعث في التاسع عشر من آب عام 1946م.
كانت حجة هذه الفئة التي تزعّمت فيما مضى حركة النضال الوطني عن غير استحقاق، واستلمت من بعد مقاليد الحكم عن غير جدارة ولا حق، ان قضية البلاد هي “قضية خارجية”، اي انها تنحصر في التحرر من الحكم الاجنبي، فاذا ما تحقق للبلاد استقلالها انصرفت الى ما يقتضيه العمل الداخلي من اصلاح وانشاء. هكذا كانت تبرر عجزها عن تربية الشعب وتنظيمه في العهود السلبية، وامعانها في استغلال الشعب وافساد الحكم بدلا من معالجة الفساد والترفع عن الاستغلال، في العهود الايجابية، اي عندما كانت تصل الى الحكم وتصرّف اموره. تلك كانت حجتها الى عهد قريب، اي الى ما قبل الجلاء، كما هو واضح في خطاب للسيد سعد الله الجابري في المجلس النيابي. وكنا نردّ دوما على هذه الحجة بقولنا: صحيح ان قضيتنا هي قضية تحرر من الأجنبي، ولكن قوة موقفنا من الأجنبي متناسبة مع قوة تنظيمنا وتماسكنا وسلامة اوضاعنا في الداخل. وقناعتنا ان الفئة الحاكمة لم تكن تهمل الاصلاح الداخلي تنفيذا لخطة مرسومة من قبيل تأجيل أمر لتقدّم عليه ما هو أهم منه، بل إنها مسوقة الى ذلك سوقا، مضطرة اليه اضطرارا، بعامل خاصتين بارزتين فيها: جهل بإدارة الدولة مطبق، ونفعية متأصلة ملازمة لتكوين هذه الفئة التي لا تستطيع ان تبقى في الحكم ساعة واحدة اذا هي لم تبح وظائف الدولة وموارد البلاد لاستغلال أسرها الكبيرة وأعوانها وحواشيها.
واليوم يبدو على الفئة الحاكمة الارتباك، ويخون المنطق دعاتها وصحافتها الأجيرة، فلا تدري كيف تبرر استمرار التدهور واستفحال المرض، بعد ان فقدت بذهاب الأجنبي (حجتها) الكبرى، وعذرها المزيّف الواهي، فهي من جهة تعلن ان الاستقلال قد تم على اكمل شكل، ومن جهة اخرى ترى نفسها اعجز عن الاصلاح منها يوم كان الاجنبي في البلاد، لأنها خسرت بجلاء الأجنبي كل الذين كانوا يؤيدون حكمها او يتئدون في مهاجمته حرصا على قوة الموقف في وجه العدو، فلم يبق حولها الآن الا زمرة المنتفعين الذين يشكلون اكبر عائق في سبيل الاصلاح، فكيف يرجى تحقيقه على ايديهم. ان التناقض والمغالطة قدر محتم على كل قيادة مصطنعة لا تمثل مصلحة الشعب ولا ترتكز على اسس شعبية متينة، فالفئة الحاكمة التي يعوزها التأييد الشعبي الصحيح فلا تعرف كيف تحتال لكسبه، رأت نفسها مضطرة الى المبالغة في وصف الاستقلال الحاصل لكي تنسب فضل ذلك اليها، فانساقت الى التناقض عندما تبين أن هذا الاستقلال بكل ما فيه من تمام وكمال، لم يمكنها من تبديل شيء في حالة الشعب الراهنة، واضطرت الى المغالطة عندما قدم رئيس الوزارة الحاضرة الى الامة بيانا انقلابيا بينما عهده لا يزال حتى هذه الساعة استمرارا وتوسيعا لكل ما في العهود الماضية من مساوئ.
اما الحقيقة التي يدركها الشعب من خلال التناقضات، وبالرغم من المغالطات، فهي ان وجود الأجنبي في الماضي لم يكن المانع الحقيقي لتلك القيادة من ان تحقق الاصلاح، ضمن حدود الممكن، وان جلاء الأجنبي اليوم ليس سببا كافيا لتمكينها من تحقيق هذا الاصلاح بل العلة هي في صلب القيادة نفسها، وفي عقليتها الجامدة واوضاعها الاجتماعية الفاسدة. ولئن كان الأجنبي قد حال دون شيء فانما دون ظهور القيادة الصحيحة. وإذا كان جلاؤه يسمح بشيء فهو ان يعترف الشعب الى قيادته الصحيحة فيتبعها عن وعي ويدعمها بايمان وينبذ المحتالين المستغلين نبذا مؤبدا.
فنحن نقول للفئة الحاكمة ان باستطاعتها ان تعود الى التذرع بحجتها القديمة! فقضيتنا لا تزال -على حد تعبيرها- قضية خارجية، اي قضية تحرر من الأجنبي، اذ ما دام الأجنبي محتلا لكثير من الأقطار العربية المحيطة بنا فهو دائم التهديد لاستقلالنا، حائل بيننا وبين وحدتنا، وليس لدينا من سبيل لدفع خطره، واتقاء تهديده، غير العمل الداخلي الذي يقوي تماسكنا وينظم نضالنا، ويضاعف قوى هذا النضال في شعبنا، اننا لم نعتقد في يوم من الأيام ان دور الانشاء قد جاء. ولا يكون الانشاء الا بلاد عربية موحدة تحررت من كل اثر لسيطرة الأجنبي او نفوذه. ولكن مهمتنا في المرحلة الحاضرة، بعد ان جلت الجيوش الأجنبية عن بعض اقطارنا، وخفت وطأة احتلالها في البعض الآخر، هي ان ننشئ النضال القومي ونبنيه بناء محكما قويا. ونحن اذ نحمل على هذه الحكومات التي ابتليت بها سورية، وندعو الى التخلص منها ومن الطبقة الاقطاعية المستغلة التي تكمن وراءها، فليس ذلك لأننا نطمع بأن يتحقق لنا في هذا الظرف المجتمع العادل الناهض الذي نريد، بل لعلمنا ان بقاء هذه الحكومات التي لا تستطيع ان تعيش الا في الفوضى والاستغلال والانقسام هو الذي يضعف موقفنا من الاجنبي، ويؤخر تحررنا النهائي منه، كما يؤخر وحدتنا القومية، ولسنا في هذا الظرف نحارب الاستغلال والسرقة والرشوة وفساد الادارة ونقص الكفاءة لأننا نحرص على العدل، ونتوق الى النزاهة، ونطمع في ان ينال المواطنون حقوقهم المشروعة فحسب، بل لعلمنا أن استغلال اقلية من المتزعمين والاقطاعيين لأموال الدولة وجهود الشعب يفقد هذا الشعب معظم قواه المادية والمعنوية التي يستطيع بها ان يدافع عن استقلاله، ويناضل من اجل اهدافه القومية، ولعلمنا ان الحكم الذي يقوم على المنتفعين والسارقين والمرتشين، قد يقبل أشخاصا ان يضحوا بثروة البلاد وبمستقبل اجيالها كي يضمنوا لأنفسهم ربحا زهيدا، وجاها حقيرا. فالصحف الأجيرة ترضى لكي تربح العشرة أن تستمر معائب الحكومة التي تربح التسعين والحكومة التي لا يهمها الا هذا الربح، تترك للشركات الاجنبية والدول الاجنبية ربح الملايين! هكذا يفرض هذا النوع من الحكم على بلادنا ان تبقى مستثمَرة ليس من قبل بعض ابنائها فحسب، بل من قبل الأجانب ايضا، وان تكون ضعيفة ليس في نهضتها الداخلية فحسب بل ايضا وخاصة في موقفها من الأجانب الطامعين المستعمرين، وفي صميم استقلالها ووجودها.
ان الشعب واع يقظ. فهو يعرف كيف يغتبط باستقلاله، ويتفاءل بمستقبله، دون ان ينخدع بأضاليل الذين لا يتم لهم ما يريدونه من استثمار وانتفاع الا اذا اخفوا عنه ما يشوب استقلاله من نقص ويهدد مستقبله من خطر. الشعب مصمم على التخلص من الحكم الحاضر لأنه مصمم على الاحتفاظ بالاستقلال.
ميشيل عفلق
19 آب 1946
انظر مقالات ووثائق ميشيل عفلق:
في الثلاثينيات:
عهد البطولة | 1935 |
ثروة الحياة | 1936 |
في الأربعينيات:
انظر ايضاً:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة
المراجع والهوامش:
(1). افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 34 الصادر في 19 آب 1946
المراجع والهوامش:
(1). افتتاحية جريدة "البعث"، العدد 34 الصادر في 19 آب 1946