وثائق سوريا
كلمة مصطفى طلاس في حفل تأبين سامي الدروبي عام 1976
أقام اتحاد الكتاب العرب حفل تأبين للدكتور سامي الدروبي مساء السابع والعشرين من آذار 1977 بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته.
وقد حضر الحفل ممثل رئيس الجمهورية اللواء زهير غزال، محمود الأيوبي رئيس مجلس الوزراء، محمد حيدر نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وجورج صدقني عضو القيادتين القومية والقطرية رئيس مكتب الثقافة والدراسات والإعداد الحزبي، والعماد مصطفى طلاس وزير الدفاع، ونجلا الرئيس جمال عبد الناصر عبد الحكيم وهدى، وعدد كبير من الوزراء وأعضاء قيادة حزب البعث.
كما حضر الحفل رئيس وأعضاء المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، وعدد من أعضاء السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي ، وحشد كبير من رجال الفكر والثقافة والأدب.
ألقى العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع كلمة في الحفل، هذا نصها:
أيها السيدات والسادة،
أيها الحفل الكريم !
في البدء كانت الكلمة .. ورغم ذلك فإنني أشعر أن الكلمات عاجزة عن تصوير هذا الموقف ” الذي استجد بعد رحيل الدكتور سامي الدروبي إلى جوار ربه. ومع أن القاعدة الفقهية. تنص على أنه “لا يفتى ومالك في المدينة”، فإني أجد لدي الجرأة الأدبية لأن أتكلم بعض الشيء في الفلسفة على الرغم من وجود الدكتور بديع الكسم بيننا.
إن الموت كحدث في حياة الإنسان لا مفر منه حتى ولو بلغ من الكبر عتياً جعل منه مادة خصبة للكتب السماوية وللأنبياء والفلاسفة والعلماء.
غير أن القرآن الكريم يحتل المكان الأول في تحليله لهذه الظاهرة ومعالجته لها، وإذا تصفحنا آيات الذكر الحكيم لوحدنا أن كلمة “موت” وما يشتق منها يتردد بكثرة حتى ليكاد يبلغ سبعة وثلاثين ومائة موضع.
وقد استهدفت الله سبحانه وتعالى من هذا التركيز المكثف على قضية الموت بالدرجة الأولى أن يغرس الإيمان في قلوب الناس ويزيل عامل الخوف والقلق من هذه الظاهرة الحتمية.. وأن يحث المؤمنين على العمل الصالح، لأن فترة الحياة الدنيوية محدودة بأجل ..”فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون”
إذن العمل الصالح هو جوهر الحياة الدنيا .. وهو الذي يبقى من الإنسان بعد رحيله إلى رحاب الآخرة.. “من عمل صالحاً من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة ولنجزيهم أجرهم بأحسن مما كانوا يعملون”.
فخلود الإنسان – قولاً واحداً- لا يكون إلا بالعمل الصالح، أما بالعكس بهو الموت الحقيقي له حتى ولو كان حياً يدب على الأرض.. ومن هذه الزاوية أود أن أنظر إلى رحيل فقيدنا الكبير سامي الدروبي.
لابد لي قبل الكلام عن أعمال فقيدنا “أبي مصباح وليلى” من أن أحدثكم عن كيفية معرفتي بهذا الإنسان العظيم.. إن قصتي معه تبدأ من أواخر الأربعينيات عندما كان استاذاً للفلسفة والمنطق في ثانويات جمص.
كان استاذنا وسيماً ربع القوام يتدفق حيوية.. ويفيض نشاطاً.. وعندما يتكلم كان ينبوعاً من العطاء والمعرفة.. كان يسبي العقول في منطقه.. ويأخذ بمجامع القلوب في حديثه.. ولذلك فلا غرو إذا قلت لكم لقد سخرنا على الرغم من عدم إيماننا بالسحر..
ولكم كانت فرحتي عظيمة عندما التقينا سورية في حزب واحد هو حزب البعث العربي الاشتراكي.. وعلى الرغم من فارق السن بيننا وهو الفارق البسيط الذي يكون بين الأستاذ والتلميذ.. فقد أحببنا بعضنا، ومنذ النظرة الأولى “بعد الاستئنذان من عشاق آخر الزمان”.
في بداية الخمسينيات أوفد الأستاذ سامي الدروبي إلى فرنسا لإتمام دراسة الفلسفة ونيل درجة الدكتوراه.. وانخرطت في سلك الجندية، ولذلك لم يعد يرى أحدنا الآخر إلا لما ما..
وجاءت وحدة 1958 بين القطرين “السوري والمصري” لتجمع بيننا في أوائل الستينيات حيث ندب الدكتور سامي الدروبي للتدريس في جامعة القاهرة، وندبت للخدمة في القوات المسلحة في الإقليم الجنوبي.
وكانت مفاجأة سعيدة أن يلتقي المحبون على ضفاف النيل بعد هجران طويل.. كان مقهى جروبي سليمان باشا الواحة التي تجمع شملنا أيام الجمع، وكان رجال الفكر والأدب يلتقون هناك، وإذ كنت أحضر بينهم مرتدياً اللباس المدني، ولم تكن الموضوعات العسكرية تطرح للمناقشة في ندوتنا.. لذلك لم يخطر في بال أحد منهم أنني غريب عنهم، سيما أن الدكتور شاكر الفحام كان من الحريصين على حضور هذه الندوة، وقد أسهم دونما شك في قبولي كعضو طبيعي فيها.
ومن أطرف المصادفات أن الدكتور سامي الدروبي حمل في صبيحة أحد الأيام على عناصر السلك الخارجي وبدأ ينتقد تصرفاتهم.. ويفند شكواهم المستمرة من نقص “تعويضات السفر.. “وأنهم غير محقين بذلك.. دون أن يعلم – وهذه حقيقة – أن اسمه قد أدرج في كشف المنقولين إلى وزارة الخارجية.. كمستشار ثقافي في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في البرازيل.
وحدثت مأساة الانفصال بين القطرين السوري والمصري في أيلول 1961 وكان موقفه مشرفاً ورفض التعاون مع المسؤولين في وزارة الخارجية آنذاك..
وعاد إلى التدريس في جامعة دمشق.. وبعد قيام ثورة الثامن من آذار أصبح الدكتور سامي الجندي وزيراً للتربية والتعليم ثم سفيراً للجمهورية العربية السورية في المغرب ويوغسلافيا، وفي عام 1967 عين سفيراً في مصر، وهنا تعرض فقيدنا الغالي لأصعب موقف في حياته وقد عبر عن ذلك في خطاب الاعتماد الذي ألقاه أمام سيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسأنقل لكم الكلمة بنصها الحرفي لأنها أفضل ما كتب الدروبي في حياته..
(سيادة الرئيس:
إذ كان يسعدني ويشرفني أن أقف أمامكم، مستشرفاً معاني الرجولة والبطولة، فإنه ليحز في نفسي أن تكون وقفتي هذه كوقفة أجنبي، كأنني ما كنت في يوم مجيد من أيام الشموخ مواطناً في جمهورية أنت رئيسها، إلى أن استطاع الاستعمار متحالفاً مع الرجعية أن يفصم عرى الوحدة الرائدة في صباح كالح من صباح خريف حزين يقال له 28 أيلول، صباح هو في تاريخ أمتنا لطخة عار ستمحي، ولكن عزائي عن هذه الوقفة التي تطعن قلبي يا سيادة الرئيس، والتي كان يمكن أن تشعرني بالخزي حتى الموت، أنك وأنت تطل على تاريخ فنرى سيرته رؤية نبي وتصنعه صنع الأبطال قد ارتضيت لي هذه الوقفة، خطوة نحو لقاء مثمر “بين قوى تقدمية ثورية” يضع أمتنا في طريقها إلى وحدة تمتد جذورها عميقة في الأرض فلا انتكاس، وتشمخ راسخة كالطود فلا تزعزعها رياح”، ذلك عزائي يا سيادة الرئيس، وذلك شفيعي عندك، وشفيعي عند جماهير أمتنا العربية التي لا تعترف بالانفصال إلا جريمة، وشفيع من ندبوني لهذه الوقفة ثواراً شجعاناً يقفون في معركة النضال العربي الواحد على خط النار، ويؤمنون بلقاء القوى الثورية العربية إلا بديلاً للوحدة، بل خطوة نحوها).
وفي هذه المناسبة التي نجتمع فيها لتكريم فقيد الأمة العربية الدكتور سامي الدروبي أجد نفسي في موقف مهيب “عندما أرى في الصف الأول هدى وعبد الكريم جمال عبد الناصر يشاركون معنا في تكريم الفقيد العزيز وإنني لا أرى في عملهما هذا سوى تجسيداً لمبدأ “الوفاء” الذي يعتبر من أكرم المناقب العربية في الوقت الذي أصبح فيه الغدر والطعن في الظهر سمة من سمات هذا العصر.
وإنني بأسمكم جميعاً أقول لهما: أهلاً بكم في دمشق التي أحبت جمالاً والتي أحبها جمال، قال: “إنها قلعة النضال العربي”.
أيها الأخوات والأخوة:
سأعود معكم إلى بداية كلمتي لأقوم بمراجعة صغيرة وتقديم كشف بالأعمال الصالحة التي نهض بها فقيد العروبة لنرى إذا ما كانت هذه الأعمال الجليلة تكفي لتخليد هذا الرجل إلى قيام الساعة؟ اعتقد أنه لا يوجد اثنان يختلفان في هذه البدهة” فلو أخذنا أعمال فقيدنا الغالي “ترجمة المؤلفات الكاملة لدستو فسكي” إلى اللغة العربية ورمينا كل ما عمله غير ذلك في البحر لوجدنا أن هذا العمل الضخم قمين بتخليد صاحبه أبد الدهر.
وإذا كان جيلنا المعاصر لم يعط حتى الآن هذا الجهد الكبير ما يتسحق من اهتمام فإن الأجيال العربية القادمة ستذكر بالشكر والعرفان هذا العمل الجيد.
وختاماً ربما تقولون لماذا لم أعد لكم مناقب الفقيد الكبيرة؟ وهي كثيرة.. أرجو بكل تواضع أن تعذروني عن هذا الصنيع، لأني محب.. والمحب لا يجد في حبيبه إلا كل ما هو جميل.
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.