مقالات
ميشيل عفلق عام 1946 : المعارضة والقضية العربية
المعارضة والقضية العربية .. من مقالات ميشيل عفلق التي نشرت في افتتاحية صحيفة البعث في الحادي والعشرين من تموز عام 1946م
نص المقال:
بيّنا في مقالنا السابق ان المعارضة هي الموقف الطبيعي الصادق للأمة العربية سواء كان ذلك في عهد الاستعمار والانتداب، ام في هذا العهد الذي يسمونه عهداً استقلالياً، وقلنا انه سيظل هذا موقفها الى ان يخلص استقلالها من كل شائبة خارجية كانت أم داخلية.
والبلاد العربية تسير في طريق الوحدة سيرا حثيثا. ولم يعد ذلك مقتصرا على وحدة الروح والأماني القومية، بل اخذ يشمل ايضا وحدة الوضع السياسي والاجتماعي الراهن. فكما ان اماني العرب واحدة، فأسباب استيائهم وشكواهم واحدة ايضا. نحن اذا استثنينا هذا الشطر الكبير الغالي من الجسم العربي، ونعني به افريقيا الشمالية التي ما زال اكثرها يخضع للاستعمار الافرنسي الوحشي ويئن من ظلمهم منتظرا ساعة الخلاص تأتيه من نجدة اخوانه عرب المشرق، نقول إذا استثنينا شمالي افريقيا فاننا واجدون معظم الأقطار العربية الأخرى في وضع مماثل او متشابه، وقد ضمتها كلها جامعة الدول العربية.
فحكومات الدول السبع التي تتألف منها هذه الجامعة تعتبر نفسها حكومات دول مستقلة، بالتالي حكومات شرعية تمثل إرادة الشعب ومصلحة البلاد. ولكن هذا الادعاء يصطدم بالواقع المشاهد الملموس، لأن الشعب العربي في اكثريته الساحقة ناقم على حكوماته حذر منه، معارض لها في الحدود التي يتيسر فيها لمعارضته ان تظهر وتبرز. فما هو السر في المعارضة وتلك النقمة؟ لا نشك في أن الصفة الغالبة على حياتنا السياسية في هذة المرحلة التي نجتازها هي الصفة الاستقلالية. اي اننا لا نزال نقدم مطلب الاستقلال على أي مطلب آخر، ونركز اهتمامنا في تحرير بلادنا من كل اثر لسلطة الأجنبي. لأننا نرى في ذلك مفتاحا لحل جميع مشاكلنا الأخرى. فاذا كانت اكثرية الشعب العربي الساحقة معارضة لحكوماتها، فلأنها ترى ان هذه الحكومات لا تستطيع تحقيق هذا المطلب. فالحكومات العربية لا تزال حكومات مفروضة على الشعب العربي، اي انها لم تصل الى الحكم او لم تبق فيه الا لأنها تفاهمت مع الأجنبي بشكل من الاشكال، مهما كان هذا التفاهم محدودا، ومهما كان شكله لبقا مستورا.
وقد يكون في وضع سوريا ما يوهم بأنه خارج عن القاعدة. فنحن نفاجأ لأول وهلة بظاهرة تبدو انها مختلفة عما هو حاصل في الأقطار العربية الأخرى. فالهيئة السياسية التي مثلت الحركة الوطنية في سوريا فترة طويلة من الزمن والتي كانت تشكل المعارضة للأجنبي انتهى بها الأمر الى ان فرضت نفسها على هذا الأجنبي، ثم تم إجلاؤه عن البلاد على يدها. فما دامت المعارضة “الوطنية” في سوريا قد وصلت الى الحكم، فلا بد ان تكون المعارضة لهذا الحكم الجديد -من ناحية الأهداف الاستقلالية على الأقل- معارضة “غير وطنية”.
ويكفي لازالة هذا الاشكال ان نقارن وضع سوريا بوضع قطر عربي آخر هو مصر -فلقد تمثلت حركة مصر الوطنية في هيئة سياسية كانت لهيئة سوريا مثالا وقدوة، نعني بها الوفد المصري. وكانت الهيئتان مترافقين في النضال، متماثلتين في الأهداف والاسلوب تمثلان نوعا متشابها من الوطنية والعقلية والمصالح. وقد وصلتا الى الحكم معا قبل عشر سنوات خلت، وقبلتا معا بمبدأ التعاقد مع المستعمر. وها اننا نرى الوفد مقصى خارج الحكم، مبعدا مضطهدا، تتمثل فيه المعارضة على اقوى شكل، بينما “وطنيو” سوريا يملكون الدولة من الرأس الى القدم. وقد انقطعت كل صلة بين هؤلاء “الوطنيين” وبين اصدقائهم وزملائهم في النضال الوطني، رجال الوفد المصري، وأمست علاقاتهم وصلاتهم مع حكومة اسماعيل صدقي باشا الذي لم تكن له علاقة بالنضال.
اما تفسير هذا الافتراق في المصير بين هيئتين كانتا في الاصل متماثلتين، فهو ان هيئة سوريا استلمت الدولة، بينما كانت الدولة في مصر شيئا ثابتا موضوعا في ايد لا يجوز تبديلها. اما في سوريا، حيث لم يكن شيء من هذا، فالهيئة الوطنية فيها لم تستلم الحكم فحسب، بل اساس الدولة الثابت ايضا. وان في هذا ما يبعد عنها مصير الوفد المصري، ولكن فيه ايضا ما يحرمها صفة الوطنية التي تفرض الظروف بأن يظل الوفد المصري محتفظا بها. وان التساند الذي نلمس اثره بين الحكومات العربية ليدل على شيء اكثر من رغبة التعاون وتوحيد الجهود في سبيل المصلحة العربية. انه يدل ايضا على تفاهم مشترك بين هذه الحكومات وبين سياسة دولة اجنبية تفرض “تفاهمها” هذا فرضا، وتقبل به الحكومات العربية لا لأنه يحقق بالدرجة الأولى نفعا كبيرا للعرب، بل لأنه يضمن لهذه الحكومات بقاءها واستمرارها. ذلك هو مصير كل حكومة لا تستطيع الاعتماد على الشعب لأنها لم تخرج من الشعب.
ازاء هذه الحقائق، لا بد من تقرير مبدأ يفرضه واقع السياسة العربية الحاضرة، وتؤيده الحوادث كل يوم، وتكفل له ان يزداد مع الأيام وضوحا وقوة، وهو: ان الوطنية، اي التعلق بالاهداف الاستقلالية والاخلاص لها، سواء في سوريا ام في غيرها من الأقطار العربية، وفي سوريا اكثر من اي قطر عربي آخر، قد انسحبت الى صف المعارضة، لأن الحكم اضحى مشبوها.
ميشيل عفلق
21 تموز 1946
(1) افتتاحية جريدة “البعث” العدد 13 الصادر في 21 تموز 1946.
انظر مقالات ووثائق ميشيل عفلق:
في الثلاثينيات:
عهد البطولة | 1935 |
ثروة الحياة | 1936 |
في الأربعينيات:
القومية حب قبل كل شئ | 1940 |
القومية قدر محبب | 1940 |
في القومية العربية |
1941 |
نفدي العراق | 1941 |
ذكرى الرسول العربي | 1943 |
التفكير المجرد | 1943 |
واجب العمل القومي |
1943 |
الإيمان |
1943 |
المثالية الموهومة |
1943 |
المثالية الواقعية |
1943 |
المعركة الانتخابية الأولى |
1943 |
حول الاعتداء على استقلال لبنان | 1943 |
الجيل العربي الجديد | 1944 |
الأرض والسماء |
1944 |
موقفنا من النظرية الشيوعية |
1944 |
السياسة الأمريكية حول فلسطين |
1944 |
حول السياسة الأميركية والهجرة اليهودية | 1945 |
موقف الحزب من ميثاق الجامعة العربية |
1945 |
مقابلة ميشيل عفلق مع مجلة النضال |
1945 |
بيان حزب البعث العربي حول مشاكل العرب السياسية | 1945 |
بيان حزب البعث حول الإتفاق البريطاني – الفرنسي “بيفن – بيدو” | 1945 |
حول الرسالة العربية |
1946 |
معالم الاشتراكية العربية |
1946 |
المعاهدة الأردنية – البريطانية |
1946 |
بذور البَعث |
03.07.1946 |
علة الضعف في سياستنا الخارجية |
10.07.1946 |
الصيغة الجديدة للوطنية |
17.07.1946 |
الجمهورية والحرية ماذا عملنا لصيانة نظامنا الجمهوري |
18.08.1946 |
انظر ايضاً:
ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب
ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث
ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة