مقالات
“الملك فيصل الأول” للمؤرخ سيار الجميل.. إعادة اكتشاف دور زعيم عربي في عصر التحولات
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
شهدت السنوات القليلة المنصرمة الاحتفاء بعدة مئويات لأحداث تاريخية وتحولات سياسية مفصلية رسمت مصير المنطقة العربية عموماً، وبلاد الشام والعراق المنفصلين عن الإمبراطورية العثمانية في الأطوار الأخيرة من أفولها على وجه الخصوص؛ وتلكم هي تحولات كبرى ما زالت مفاعيلها تلقي بظلالها وتأثيرها على واقعنا العربي المعاش. ولعل أبرز المئويات تلك “مئوية الثورة العربية الكبرى” (1916)، و”مئوية الحكومة العربية” في دمشق (1918-1920)، و”مئوية الدولة العراقية الحديثة” (1921). وإن نظرة فاحصة متأنية في تلك الأحداث والتحولات تقودنا إلى الإقرار بالتأثير الذي مارسه فيصل بن الحسين في أطوار حياته المختلفة شريفاً، وأميراً، وملكاً في سيرورتها وتطوراتها.
ويأتي إصدار المؤرخ والأكاديمي العراقي الدكتور سيّار الجميل لكتابه المرجعي الجديد «الملك فيصل الأول 1883-1933: أدواره التاريخية ومشروعاته النهضوية» عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت (2021) ليمثل رافداً معرفياً مهماً للجهود البحثية المتعاظمة مؤخراً والرامية إلى إعادة تقويم الدور التاريخي المحوري الذي اضطلع به فيصل الأول في التحولات الكبرى، التي عرفتها المنطقة العربية في مراحل ما قبل الحرب العالمية الأولى وإبانها وما بعدها وحتى رحيله عام 1933. ويشتمل هذا الكتاب، الذي يقع في 432 صفحة، على مقدمة، واثني عشر فصلاً، وخاتمة، وإرجاعات ببليوغرافية، وفهرس عام.
المؤلف
يعد الدكتور سيّار الجميل، المفكر والكاتب والأستاذ الجامعي البارز، واحداً من أهم المؤرخين العرب المعاصرين الذين يمتلكون مشروعا معرفياً متكاملاً يقوم على إعادة قراءة التاريخ قراءة نقدية عقلانية وفق منهج علمي يتوخى الدقة والموضوعية في معالجة الأحداث وتفسيرها. وقد عمل منذ حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة سانت أندروز البريطانية في عام 1982 محاضرًا وأستاذًا في جامعات عربية ودولية عدة. وصدر له أكثر من ثلاثين كتابًا قرأ فيها سفر تكوين العرب الحديث ومحطات النهضة العربية الحديثة، بالإضافة إلى العشرات من البحوث العلمية بالعربية والإنكليزية.
إعادة اكتشاف الإرث التاريخي لفيصل الأول
يستهل المؤلف كتابه بمقدمة تتضمن تحديد الغرض الذي يتوخاه من تأليفه ومؤداه أنه لم يُكتب لإعادة الاعتبار للملك فيصل الأول تاريخيًا، ولا لتعداد مآثره والتغني بأمجاده، أو تجريحه وتعداد أخطائه بقدر ما أنه يأتي من أجل أن تدرك الأجيال القادمة أن زعيمًا مثل فيصل كان أقرب إلى الإيجابية منه إلى السلبية، وأنه سخر حياته كلها من أجل أن يبني شيئًا مصيريًا للعرب، وسواء نجح في مهمته أم أخفق، فإنَّ حجم أعماله كان أكبر بكثير من سنوات عمره القصيرة، مميطاً اللثام في سياق إعادة اكتشافه الإرث التاريخي لفيصل عن معلومات تاريخية جديدة بل وربما يجهلها المؤرخون، متجاوزاً في ذلك ثنائية التمجيد والتخوين، التي كثيراً ما نجد أنها تطبع الأدبيات التاريخية العربية بطابعها، ليكرس جل اهتمامه على تناول التحديات التي واجهها فيصل وكيفية استجابته لها.
الطريق إلى الزعامة
يعالج المؤلف في الفصل الأول العوامل التي تضافرت معاً وأفضت إلى تبوء فيصل الأول موقع الزعامة في عصر التحولات الكبرى، وفقاً لمفهوم الزعامة الكارزمية أو الملهمة في إطاريها الاجتماعي والسياسي الذي وضعه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864- 1920)، متمثلة في البيئة التي نشأ وترعرع فيها منذ ولادته في مدينة الطائف عام 1883 والتي كانت تابعة لولاية الحجاز العثمانية، في سلالة عربية موغلة في القدم من الأشراف المكيين الهاشميين الحسنيين والتي انتقلت في أطوارها التاريخية من الباشوية إلى الإمارة إلى الملكية، ومن ثم انتقاله إلى اسطنبول برفقة والده الشريف حسين بن علي (1854-1931).
ففي عاصمة بني عثمان ذات الصبغة العالمية-الكوزموبوليتانية آنذاك، يبين المؤلف أن فيصل قضى سنوات صباه وشبابه المبكر بين عامي (1891-1910)، حيث حرص والده على تربيته وتعليمه فألحقه بمدرسة “غلطة سراي”، التي كانت أول معهد علمي عال افتتح في الدولة العثمانية لتدريس العلوم العصرية بالفرنسية لأبناء الأرستقراطية العثمانية. ولئن لم يكن فيصل طرفاً في الأحداث التي كانت تدور هناك نظراً لحداثة سنه، إلا أنه تعلم الكثير، والتقى بأنواع مختلفة من الناس، وفهم مبدأ التعايش العثماني الذي عاشت عليه الإمبراطورية تلك كل أزمنتها، بل وكان شاهداً على التحولات المصيرية التي عصفت بها، ولا سيما الانقلاب الدستوري عام 1908 وتداعياته عام 1909.
وإذ يشير المؤلف إلى ما كان للمدة التي قضاها فيصل في العاصمة العثمانية من تأثير على تكوينه الثقافي والمعرفي، فإنه يبرز الخبرات التي اكتسبها من المهام والأدوار المحورية التي اضطلع بها بعدما تولى والده إمارة مكة عام 1908؛ إذ انتخب نائباً عن جدة في مجلس النواب العثماني (المبعوثان) عام 1913، ثم أوفده والده عام 1916 في مهمة إلى اسطنبول ضمن سياق محاولته تسوية الخلافات مع جماعة الاتحاد والترقي التي باتت بمثابة الحزب الحاكم في الدولة بعد الإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني، وكان هؤلاء ينتهجون سياسة شديدة المركزية يرمون بوساطتها إلى الحد من نفوذ أبيه وسلطته في الحجاز. كما زار دمشق مرتين، وكان في إحداها وراء تأسيس ما يُسمى بـ”بروتوكول دمشق” لعام 1915، الذي طرح إمكانية إقامة تحالف عربي مع دول الوفاق-الحلفاء في مواجهة الاتحاديين الذين كانوا قد ربطوا مصير الدولة العثمانية بدول المركز في الحرب العالمية الأولى مقابل وعد الحلفاء بدولة عربية مستقلة تمتد من الأناضول إلى الخليج والبحر الأحمر، وانضم إلى جماعة العربية الفتاة التي عُدّت الأب الروحي للقومية العربية.
إن من شأن وضع هذه المرحلة التكوينية من حياة فيصل في سياقها التاريخي، أن يظهر لنا بجلاء نجاح المؤلف في كسر الصور النمطية والذهنية المرسومة عنه بوصفه مجرد أعرابي من بدو الصحراء، والتي جرى نسجها في مخيال أولئك الذين ينقمون عليه و/ أو يستخفون به.
قيادة الثورة العربية الكبرى
يتناول المؤلف في الفصل الثاني بالبحث والتحليل اندلاع الثورة العربية الكبرى في صيف عام 1916، التي أسندت قيادتها العسكرية لفيصل، وما حققه من نجاح في السير بها نحو تحقيق أهدافها. ولئن أشار إلى المساعدات اللوجستية التي تلقاها من البحرية الملكية البريطانية والتي حرص فيصل على الاستفادة منها وتوظيفها في الدفع بمسار الثورة، فإنه يعزو بلوغ الثورة العربية غاياتها إلى العلاقات القوية التي نسجها فيصل بنخبة من الشبان العرب السوريين المثقفين والضباط العراقيين المتمرسين، مما مكنه بعد مرور أقل من عامين على انطلاقتها من دخول دمشق فاتحاً في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1918.
وضمن سياق عرضه للثورة العربية الكبرى بوصفها “فاتحة مشروع نهضوي عربي”، يقدم المؤلف مراجعة نقدية لنزعة استشرت لدى العديد من المؤرخين القوميين الأتراك تقول بأن فيصل الأول هو الذي حارب العثمانيين وأخرجهم من الحجاز وسورية، مبرزاً في معرض رده على هؤلاء أن فيصل كان في بداية أمره موالياً للدولة العثمانية، ويدعو للتفاهم بين الترك والعرب والحكم اللامركزي، مستعرضاً المحاولات التي بذلها في خضم الحرب العالمية الأولى والرامية إلى ثني أحمد جمال باشا الكبير (1873-1922) الملقب بــ”السفاح” عن اضطهاده للعرب، وإيقاف إعدام نخبة من مفكريهم. غير أن الاتحاديين المتحالفين مع ألمانيا القيصرية رفضوا مطالب العرب المشروعة، فلم يبق أمامهم إلا الثورة المسلحة والذهاب مع الحلفاء، فلا عتب للأتراك المعاصرين أن يتهموا العرب بالانفصال عن العثمانيين، مستدلاً على ذلك بأن قوميات أخرى انفصلت عنهم قبل العرب، الذين حاولوا إقناع الاتحاديين بالعدول عن سياساتهم المضادة القائمة على المركزية والتتريك دون جدوى.
تأسيس الحكومة العربية بدمشق
يعرض المؤلف في الفصلين الثالث والرابع لمحطة مهمة في مسيرة فيصل الأول كانت سمتها الأبرز تحوله من قائد عسكري ثائر إلى رجل دولة، مبرزاً الدور المحوري الذي اضطلع به في تأسيس الحكومة العربية بدمشق (1918-1920)، التي تعد بمثابة نقطة تحول تاريخية من “العثمنة” إلى “العروبة” نظراً لكونها أوّل محاولة قومية عربية لإنشاء كيان سياسي عربي مستقل، وتجربة فريدة في التاريخ العربي الحديث باجتماع سوريين من سورية الطبيعية، وعراقيين، وحجازيين لتأسيس نواة دولة حديثة في دمشق عاصمة الأمويين سابقاً.
يتناول المؤلف ما واجهه فيصل من تحديات في سورية على الصعيدين الداخلي والخارجي، والمتمثلة في الافتقار إلى الخبرات الإدارية، وانعدام الوزن السياسي في مجتمع مفكك أنهكته الحرب، وتنامي العصبيات المحلية التي عمل على تفكيكها، والتآمر الإنكليزي-الفرنسي الذي تجلى في إصرار هاتين الدولتين العظميين الحليفتين على المضي قدماً في تطبيق اتفاقية سايكس بيكو لاقتسام أشلاء الدولة العثمانية المهزومة في الحرب من جهة، ولإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين من جهة أخرى، وما طرأ على هذه الاتفاقية من تعديلات على الأرض وأهمها انتزاع بريطانيا الموصل ذات الأهمية الاقتصادية البالغة بسبب آبارها النفطية من حليفتها فرنسا مستغلة وضعها غير المستقر في سورية، ومحاولة فيصل إقامة تحالف بين الحركتين الاستقلاليتين العربية والتركية في مواجهة الخطر الاستعماري المشترك ولكن سرعان ما أجهضته الهدنة الفرنسية-التركية في صيف عام 1920، وما تخلل ذلك كله من قيام فيصل برحلتين خارجيتين إلى أوروبا، والضغوط التي مورست عليه من أجل إبرام اتفاق مع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان ولكنه حين وقع عليه كتب بخط يده وباللغة العربية شرطاً تحفظياً بضرورة تنفيذ بريطانيا لتعهداتها باستقلال العرب، مما أفقد هذا الاتفاق معناه السياسي، على حد وصف المؤلف، فبقي مجرد وثيقة ميتة ذات قيمة دعائية، وحضوره أعمال مؤتمر باريس للسلام عام 1919، حيث كان همه الأساسي إقناع الولايات المتحدة، التي ظهرت على الساحة الدولية بوصفها قوة سياسية بازغة في مرحلة ما بعد الحرب، بأحقية مطالب العرب في نيل استقلالهم بعد ثورتهم الكبرى، وعلى الرغم من موقف فرنسا الرافض لحضوره المؤتمر، إلا أنه تمكن بدعم بريطانيا من الدخول إلى قاعة المؤتمر وإلقاء خطابه، بيد أنه كان عليه في المقابل أن يقبل هيمنة فرنسا على سورية؛ إذ لم تكن بريطانيا مستعدة لإذكاء الخصومة مع فرنسا بشأن المشكلة السورية.
الحركية السياسية في سورية الفيصلية
لئن لم يستعرض المؤلف منجزات حكم فيصل في دمشق نظراً لكثرة ما كتب عنها، إلا أنه رصد الحركية السياسية النشطة التي شهدتها سورية إبان العهد الفيصلي القصير الأمد، التي تمثلت في التحول من “العربي” إلى “السوري” تحت تأثير الظروف الدولية المستجدة، وانعقاد أول هيئة تشريعية منتخبة في تاريخ سورية الحديث اتخذت اسم “المؤتمر السوري العام” الذي توج مداولاته الجدية والمكثفة بإعلان استقلال سورية بحدودها الطبيعية استقلالاً تاماً بما فيها فلسطين، ومبايعة فيصل الأول ملكاً دستورياً على المملكة السورية العربية، ووضع القانون الأساسي-الدستور، الذي يعد أكثر الدساتير التي عرفتها المنطقة العربية تقدمية.
يتوقف المؤلف عند مشروع “الحكومات (أو الولايات) العربية المتحدة” الذي طرحه فيصل الأول باعتباره أهم مشروع نهضوي عربي في مرحلة ما بعد الحرب؛ وذلك في إطار دولة عربية قومية اتحادية واحدة تشكلها كيانات ذاتية مرتبطة ببعضها الآخر ضمن إطار فيدرالي مستوحى من تجربة نظام الحكم الفيدرالي للولايات المتحدة الأمريكية، وتقوم على مبادئ الاتحادية، واللامركزية الإدارية، والديمقراطية، والدستورية القانونية، والعلمنة المدنية، والاستقلالية السياسية. لكن هذه التجربة العربية الرائدة أجهضت بعد سنتين من ولادتها بفعل الأمر الواقع الذي فرضته فرنسا بعد فاجعة ميسلون البطولية ودخولها دمشق في 24 تموز من عام 1920.
تفكيك أسطورة لورانس العرب
يتوقف المؤلف في الفصل الخامس عند شخصية توماس إدوارد لورانس (1888-1935) الكاتب والعسكري البريطاني الذي عُرف باسم “لورانس العرب”؛ فيفكك ما نسج من أساطير بشأن دوره في الثورة العربية الكبرى، والذي جرى تضخيمه بريطانياً وترسخ في المخيال الشعبي للغرب سواء تحت تأثير لورانس ذاته على نحو ما تجلى في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة” أم عبر فيلم “لورانس العرب”، وهو عمل سينمائي يرى المؤلف أنه كان جائراً فلم ينصف فيصل أبداً. ويبين بالرجوع إلى الوثائق والتقارير والمراسلات التاريخية أن الدور الذي اضطلع به لورنس كان تقنياً محضاً واقتصر على عمله مترجماً وميسراً للاتصال بين فيصل من جهة والقيادة البريطانية من جهة أخرى، واضعاً لورانس في حجمه الطبيعي، ومبرزاً حقيقة مؤداها أن فيصل وحده من كان يرسم وبمعيته نخبة من ضباطه الشريفيين العراقيين استراتيجية الحرب وتقدم الثورة.
بوليفار العرب
واصل المؤلف في الفصول اللاحقة عرضه لأهم المحطات في سيرة فيصل الأول التي توجت بارتقائه عرش العراق بعدما منيت تجربته الرائدة في حكم سورية بالإخفاق. فيبحث في الفصل السادس عن الكيفية التي استطاع بها أن يستقطب من حوله “نخبة شريفية” قوامها العسكريون والمدنيون الذين تخرجوا من تحت عباءته العربية، ليمثلوا مدرسة في أدوارهم المتنافرة منذ أن غدوا طبقة سياسية حاكمة في العراق، ولكنهم سيتفرقون بعد رحيله.
وأما في الفصل السابع، المعنون بـــ”بوليفار العرب” في إشارة للروح الثورية والاستقلالية لدى فيصل التي يرى المؤلف أنها تحاكي سيمون بوليفار (1783-1830) قائد حركة تحرر واستقلال ووحدة أمريكا اللاتينية عن الاستعمار الإسباني والبرتغالي، فيتناول مؤتمر القاهرة لعام 1921 الذي انعقد في مخاض صراع الإرادات على عرش العراق الذي سيفوز به فيصل نتيجة للخبرة التي اكتسبها إبان حكمه لسورية من جهة، وما أبداه من المرونة والحنكة في التعامل مع الأطراف الداخلية والخارجية من جهة أخرى، فضلاً عن إجماع إرادة العراقيين على اختياره، مفنداً بذلك مزاعم فئة من العراقيين ممن يعارضون فيصل كونه من الحجاز، وأنه غير عراقي، وتلكم هي معزوفة بدأت منذ مئة عام، ولم يزل يرددها البعض ليس لأسباب وطنية وإنما ديماغوجية؛ إذ لم يكن الإنكليز وحدهم وراء ترشيحه، بل كان أعيان العراق في أغلبهم مع ترشيح فيصل كي يعتلي عرش العراق، كاشفاً عن أن الإنكليز قد غيّروا رأيهم في اللحظة الأخيرة بناء على إصرار العراقيين في أن يكون فيصل الأول ملكاً بدل غيره من المرشحين العراقيين، بل وحتى شقيقه الأمير عبد الله.
تكوين العراق الحديث
يعرض المؤلف في الفصل الثامن لمبايعة فيصل الأول ملكاً على العراق، حيث سيبدأ فصلاً جديدًا من حياته السياسية يتمثل بتكوين العراق السياسي. ويتوقف في الفصل التاسع عند المشكلات الصعبة المحفوفة بالتحديات التي واجهها فيصل وهو يحكم العراق سواء المتعلقة بمشكلة إيران الحدودية المزمنة، أو مشكلة الموصل التي أثارتها الجمهورية التركية في إثر تسلم مصطفى كمال أتاتورك مقاليدها، أم بتمرد كل من الشيخ محمود الحفيد وملا أحمد البارزاني في كردستان أم إخفاقات عبد المحسن السعدون مع الإنكليز وانتحاره (أو قتله)، بالإضافة إلى تمرد الآثوريين وهو في أُخريات أيام حكمه، مبيناً أساليبه في معالجة كل تلك المشكلات، ومبرزاً نجاحه في عقد معاهدة مع البريطانيين لإنهاء حقبة الانتداب وانتزاع الاستقلال، الأمر الذي مهد لدخول العراق لاحقًا عضوًا في عصبة الأمم في عام 1932، أي قبل عام على رحيله.
وأما في الفصل العاشر فيبحث عن قيمة الرجل وقد غدا هو الرمز العربي على صعيد الأمة، وسيكون في زمنه محور دائرة الإنتلجينسيا في المنطقة، إذ سيغدو ذلك الرعيل بدءًا بالحاشية وصولاً إلى النخبة السورية المتحلقة حوله والتي كان المفكر ساطع الحصري (1879-1968) وجهها الأبرز الطبقة السياسية في العراق، وهم الذين سيبقون بعد رحيله حتى لما بعد الحرب العالمية الثانية. ويتوقف في الفصل الحادي عشر عند الدور الحاسم الذي اضطلع به فيصل الأول في بناء المجتمع الحديث مع مشروعات تحمل بصماته ورؤاه وتطلعاته في العراق والتي بقيت سارية المفعول حتى عام 2003 بفعل ذلك التأسيس ومبادئه القوية.
أخيراً، يعالج في الفصل الثاني عشر مشروع تجديد العراق، فيحلل المذكرة الخطيرة التي تركها للتاريخ قبل عام من رحيله والمتضمنة رؤيته المستقبلية لتجديد مؤسسات الدولة والتي يرى المؤلف أنها تصلح منهاج عمل لمستقبل العراق اليوم كما كانت صالحة بالأمس. وينهى كتابه بخاتمة تتضمن خلاصة من الاستنتاجات المعرفية والدروس التاريخية التي يمكننا التأمل فيها عن تجربة رجل مؤسس لا يقل أهمية عن زعماء نهضويين ومجددين عاصروه في القرن العشرين.
كلمة لا بد منها
يكاد أن يكون هناك إجماع بين أطراف متناقضة بل ومتنابذة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار على محو الإرث التاريخي لفيصل الأول، ولا سيما في مرحلة المد القومي الراديكالي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وما تلاها، والذي طبع التوجهات الأولية للكتابات التاريخية في المجال العربي بطابعه؛ فأصبح الرجل أنموذجاً لجيل من القادة العرب المتهمين بالخيانة والعمالة للاستعمار. ولعل هذا من الأسباب الكامنة وراء تهميش فيصل الأول بل وحتى تشويه صورته في الدراسات التاريخية السورية، مثلاً، والتي ما فتئت تنظر إلى العهد الفيصلي على أنه مجرد مرحلة انتقالية قصيرة الأمد بين أفول شمس الإمبراطورية العثمانية ووقوع البلاد تحت الانتداب الفرنسي. ويأتي الكتاب المرجعي «الملك فيصل الأول»، الذي يعد أحدث منجز بحثي للمؤرخ الدكتور سيّار الجميل، ليشكل خطوة إيجابية مهمة على طريق استعادة إرث فيصل الأول ومقاربته بموضوعية بعيداً عن الأحكام والتعميمات المتسرّعة النابعة من الصور النمطية المرسومة عنه في الأذهان، وعلى نحو يكسر ثنائية الشيطنة والتقديس، ويدفع باتجاه بناء المستقبل على أساس التصالح مع التاريخ.
اقرأ :