You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

عمرو الملاّح- محمد فوزي باشا العظم ونهضة دمشق العمرانية: الدور المغفل

عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر

كلما ذكرت النهضة العمرانية الفريدة من نوعها التي شهدتها دمشق في العقود الأخيرة من العهد العثماني قفز إلى الأذهان على الفور اسم الوالي حسين ناظم باشا، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تركيز المؤرخين والإخباريين الدمشقيين في كتبهم على تناول أعمال الولاة العثمانيين بصورة رئيسة، ودأبهم على نسبة كافة  المشروعات العمرانية التي جرى تنفيذها في الحقبة تلك إليهم، انطلاقاً من المنهج التقليدي السائد في كتابة التاريخ القائم على الاهتمام بمنجزات السلاطين والولاة ومآثرهم، مهملين بذلك الدور المحوري الذي اضطلع به أفراد النخبة البيروقراطية الدمشقية في النهضة العمرانية التي عرفتها المدينة في تاريخها القريب؛ إذ لا نكاد نعلم شيئاً عن المشروعات العمرانية والاقتصادية التنموية والخدمية التي نهضوا بأعبائها بحكم ما شغلوه من مناصب علیا في الجهاز البيروقراطي المحلي.

وسنحاول في هذا المقال إلقاء بعض الأضواء على سيرة محمد فوزي باشا العظم رجل الدولة والزعيم السياسي الدمشقي، الذي ساهم مساهمة فعالة في منح مدينة دمشق في أواخر العهد العثماني وجهاً حضارياً معمارياً حديثاً نظراً لشدة اهتمامه بالعمران والبناء.

أولاً- نبذة عن حياته:

أبصر محمد فوزي باشا ابن محمد علي باشا العظم النور في مدينة دمشق في العام 1858 في أسرة عريقة ذات نفوذ ومكانة، سطع نجمها في القرن السابع عشر حينما تحقق لجدها الأعلى إبراهيم تسلم زمام موقع عسكري في التخوم الشمالية لإيالة دمشق. وفي الجيل التالي ولي ولده إسماعيل المعرة وحماة ومنحته الدولة العثمانية أراض واسعة في تلك المنطقة بشكل «مالكانة»، أي أراض للدولة عُهد إليه بالتزام ضرائبها مدى الحياة. وقد عملت الأسرة العظمية على استعادة هيبة السلطة العثمانية في المناطق السورية في الشروط الصعبة المحيطة في تلك الفترة؛ فتسلم باشواتهم الحكم في كافة إيالات بلاد الشام في وقت واحد في الفترات الوجيزة قبيل العام 1730 ثم في العام 1755- 1756، وتولوا إيالة دمشق وحدها تسع مرات بين عامي 1725 و1808. ولعل السمة الأبرز لحكم الباشوات من آل العظم هو ما شهدته مدينة دمشق في عهودهم من أعمال التشييد والتعمير، وما رافقها من ازدهار اقتصادي، وحركة سكانية، ونمو عمراني.

وأما والده محمد علي باشا العظم، فقد كان أحد وجوه الزعامة السياسية الدمشقية في مرحلة ما قبل التنظيمات العثمانية، ومن بين أعيان دمشق الذين جرى نفيهم بتهمة الضلوع بأحداث العام 1860، ثم ما لبث أن استعاد حظوته وصلاته بإسطنبول، فأنعم عليه السلطان عبدالعزيز بلقب «باشا» بالتزامن مع إشغاله عدداً من المناصب الرفيعة في الإدارة العثمانية المعاد تشكيلها في عهد التنظيمات، عُرف منها تعيينه عضواً في كل من مجلس إدارة الولاية والبلدية.

تلقى محمد فوزي العظم تعليمه في المدارس الرسمية حتى بلغ شهادة «الرشدية» التي تقابل الثانوية اليوم، وأجاد اللغتين العربية والتركية، وانتظم في سلك الإدارة العثمانية، متقلباً في العديد من المناصب الرفيعة، فكان على التتابع: كاتباً في ديوان مجلس إدارة ولاية سورية (1879-1885)؛ ناظراً لنفوس ولاية سورية (1886-1891)؛ رئيساً لبلدية دمشق (1892-1900)؛ مديراً للإنشاءات لدى الخط الحديدي الحجازي في ولاية سورية (1900-1908).

وفي حزيران من العام 1911 غادر العظم دمشق ميمماً شطر إسطنبول حيث عُهد إليه برئاسة الدائرة البلدية لمقاطعة «بك أوغلي» التي تقع على الجانب الأوروبي من عاصمة الدولة العثمانية، وهو منصب شغله حتى العام 1912، حينما قدم استقالته نظراً لانتخابه ممثلاً عن ولاية سورية في المجلس النيابي المسمى بـ«المبعوثان» في العهد الدستوري العثماني أو ما سُمي بـ«المشروطية»، في إشارة إلى تقييد سلطات السلطان، حيث كان العظم واحداً من ألمع النواب العرب، فجرى انتخابه رئيساً ثانياً لهذا المجلس.

وقد أسند إلى محمد فوزي باشا العظم في 21 تموز من العام 1912 منصب ناظر الأوقاف الهمايونية (وزير) في الحكومة الائتلافية، التي شكلها الصدر الأعظم الغازي أحمد مختار باشا وأُطلق عليها اسم «الوزارة الكبرى»؛ وذلك في إشارة إلى ما ضمته من كبار شخصيات الدولة العثمانية. ولكن هذه الحكومة لم تدم أكثر من ثلاثة أشهر، فقدمت استقالتها في 29 تشرين الأول من العام 1912 بعد الهزيمة التي مُني بها الجيش العثماني في البلقان بالتزامن مع نشوب اضطرابات في السياسة الداخلية عصفت بالحكومة. وأعيد انتخاب العظم نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني في العام 1914.

ثانياً- ارتقاؤه في المراتب العليا للدولة العثمانية:

كان محمد فوزي باشا العظم أحد كبار أعيان دمشق الذين كانت لهم حظوة لدى السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، فقربه إليه ورقاه في المراتب العليا للدولة ومنحه أعلى الأوسمة فيها؛ وذلك إشادة بفضله وتقديراً لخدماته الجلى وإخلاصه.

وقد تدرج في الرتب المدنية حتى نال رتبة «روم ايلي بكلربكي» (بكافين يائيين في التركية العثمانية) في العام 1901، وهي من الرتب «المُلكية» (المدنية) العالية المعتبرة في المقابلات السلطانية، التي لا ينالها إلا القلائل خارج العاصمة اسطنبول، ويقع ترتيبها ضمن النسق الثاني من بين أنساق المراتب التسع في الهرمية العثمانية، وتعادل رتبة (الفريق) العسكرية. ويُلقب حامل هذه الرتبة بالـ «باشا» من الدرجة الأولى، ويُنعت بــ (حضرة صاحب السعادة) دوماً، ويُخاطب في الفرمانات السلطانية بنسق الألقاب وعبارات الاحترام والتبجيل التالية «أمير الأمراء الكرام كبير الكبراء الفخام ذو القدر والاحترام صاحب العز والاحتشام المختص بمزيد عناية الملك الأعلى»، ويُعد من أرباب المراتب العالية، مما يخوله نفوذاً واسعاً وصلاحيات خاصة في دوائر الدولة كافة.

ومما هو جدير بالذكر أنه منذ بلوغ العظم هذه الرتبة العالية جرى تصنيفه في عداد رجال الدولة بعدما كان يعد من أركانها، جنباً إلى جنب مع إدراج اسمه في قوائم «أصحاب المراتب» في الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تتصدر مجموعة الكتب السنوية للدولة العثمانية (سالنامه دولت عليه عثمانيه) الصادرة في استانبول.

كما نال من الأوسمة الوسام العثماني ذا العقد من الدرجة الثالثة (1893)؛ والوسام المجيدي ذا الوشاح من الدرجة الأولى (1904)؛ وميدالية اللياقة الذهبية (1905).

ثالثاً- إصلاحاته العمرانية:

حقق العظم في جميع المناصب التي أسندت إليه إصلاحات إدارية واجتماعية، بالإضافة إلى تنفيذه العديد من المشروعات العمرانية، من بينها تشييد أول دار للبلدية كانت تقع في الجهة الغربية من ساحة المرجة في العام 1896، وهو المبنى الذي أُزيل في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وترتفع مكانه حالياً كتلة اسمنتية ضخمة تعرف باسم «بناء الشربتلي»، وكذلك ترميم الجامع الأموي بعدما نزل به الخراب من جراء حريق العام 1893، وتغطية سوق الحميدية الشهير بالتوتياء والحديد بدلاً من سقفه الخشبي القديم لحمايته من الحريق، فضلاً عن إقامة مشفى الغرباء الحميدي (مركز رضا سعيد للمؤتمرات حالياً)؛ وذلك إبان توليه رئاسة بلدية دمشق.

ومن مآثره العمرانية أيضاً أثناء إشغاله منصب مدير الإنشاءات لدى الخط الحديدي الحجازي في ولاية سورية إشرافه على تنفيذ كافة الأعمال الإنشائية التي واكبت إقامة سكة حديد الحجاز منذ الإعلان عن الانطلاقة الفعلية لهذا المشروع الاستراتيجي في العام 1900 وحتى وصول أول قطار إلى المدينة المنورة في صيف العام 1908، والتي اشتملت أيضاً على تمديد خط الاتصالات البرقية بين حاضرة السلطنة العثمانية إسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق مصاحباً للمواقع المرسومة لخط السكة، بالإضافة إلى تشييد محطتي القدم والقنوات (الحجاز) من جملة محطات أخرى جرى بناؤها على طول خط السكة.

وإنه لمن نافلة القول في هذا المجال، أن نذكر بأنه كان لإنشاء سكة حديد الحجاز أكبر الأثر في عمارة دمشق وعمرانها في أواخر العهد العثماني على نحو ما تجلى في تشييد عمائر زادت من أهمية المدينة، ووسعت خدماتها، ومن بينها إحداث كلية للطب التي تعد النواة الأولى للجامعة السورية في العام 1903، وجر مياه عين الفيجة في العام 1906، وتشييد أبنية مهمة ما زال أكثرها قائماً، ومنها الثكنة أو القشلة الحميدية (كلية الحقوق حالياً)، والسرايا الجديدة (مقر وزارة الداخلية حالياً)، ودائرة الأملاك السلطانية (دائرة الشرطة والأمن العام)، وإدخال الكهرباء في العام 1907، وتسيير الحافلات الكهربائية (الترامواي) في العام 1907، وتدشين خط الاتصالات البرقية بين حاضرة السلطنة العثمانية إسطنبول والمدينة المنوّرة عبر دمشق، وإقامة نصب المرجة التذكاري في العام 1907، وتدشين الخط الحديدي الحجازي مع وصول أول قطار إلى المدينة المنورة في صيف العام 1908، وكلها مشروعات لا بد وأنه كانت لبصمات محمد فوزي باشا العظم الأثر الواضح في تفاصيلها بحكم توليه إدارة الإنشاءات لدى الخط الحديدي الحجازي في ولاية سورية.

ومن دمشق حاضرة ولاية الشام إلى إسطنبول عاصمة السلطنة العثمانية فأشرف على عملية استبدال جسر غلطة القديم المبني باستخدام ألواح من الخشب بآخر حديدي ثقيل ومتين، وهو المشروع الذي بلغت تكلفته 70 ألف ليرة ذهبية عثمانية؛ وذلك إبان  توليه رئاسة الدائرة البلدية لمقاطعة «بك أوغلي».

رابعاً- وقفة أخيرة مع السياسة:  

بعد الانهيار العثماني وقيام الحكومة العربية بدمشق في العام 1918 استطاع محمد فوزي باشا العظم بوصفه إدارياً مجرّباً أن يندمج في البنية الإدارية والسياسية والتمثيلية الجديدة للعهد العربي الجديد، فكان على التوالي: كبيراً لمستشاري الأمير فيصل (1918-1919)، ومن ثم انتخب أول رئيس للمؤتمر السوري (1919)، وهو أول هيئة تشريعية منتخبة في تاريخ سورية الحديث اضطلعت بوظيفتي المجلس النيابي والجمعية التأسيسية معاً.

وفي 14 تشرين الثاني من العام 1919 فجعت دمشق بفقدان زعيمها السياسي محمد فوزي باشا العظم وهو في أوج عطائه وذروة زعامته، وبرحيله فقدت السياسة السورية أحد روادها الكبار.


مصادر:

ابن الامين محمود كمال إينال، اوقاف همايون نظارتنك: تاريخچئه تشكيلاتي و نظارك تراجم احوالي، دار الخلافه العليه – اوقاف اسلاميه مطبعه سي، 1916.

Altıncı Daire’den Beyoglu Belediyesi’ne: 155 yıldır lider kent yönetimi, Beyoglu Belediyesi, Istanbul, 2013.


اقرأ :

عمرو الملاح : في ذكرى رحيلهِ .. علامة حلب الأسدي ورعاية محافظ حلب الشريف له
عمرو الملاّح: النخبة الحلبية تنظم أول معرض زراعي وصناعي في بلاد الشام عام 1903
عمرو الملاّح: قبل مئةٍ وخمسة عشر عاماً… غرفة تجارة وزراعة وصناعة حلب تنتخب إدارتها
عمرو الملاّح: محمد حسني بك الكوراني… رجل القضاء العثماني البارز
عمرو الملاّح: المخبر الكيماوي لمكافحة الغش ومستوصف مرعي باشا الملاح الخيري بحلب
عمرو الملاح: غلاة الطورانيين يهددون باغتيال أكبر أنجال مرعي باشا الملاح …  
عمرو الملاح: حسني بك باقي زادة ..أحد رواد السياسة في حلب العثمانية
عمرو الملاح: في الذكرى المئوية ليوم الاستقلال .. تعرف على الآباء المؤسسين للدولة السورية
من الأرشيف العثماني.. اليهود من تجار حلب يطالبون بإبقاء الملاح رئيسا لمحكمة التجارة
عمرو الملاّح : زكي الكوراني … حاكم دولة حلب المنسي
الدكتور رضا سعيد في ضيافة مرعي باشا الملاح عام 1925
مؤرخ حلب الغزّيّ ومنهجه في البحث التاريخي… كتاب نهر الذهب أنموذجاً
عمرو الملاّح: الشيخ كامل الغزّيّ.. مؤرخ حلب
عمرو الملاّح: هكذا ودع مندوب المفوض السامي الفرنسي بيوت حاكم دولة حلب المحلي الملاح
عمرو الملاّح : الفهم الصحيح للانتداب بوصفه مساعدة فنية اقتصادية .. الجنرال بيوت أنموذجاً
عمرو الملاّح : نواب مناطق بلاد الشام في مجلس النواب العثماني
 عمرو الملاّح : مائة عام على إنقاذ فندق بارون من الدمار
عمرو الملاّح : الوزير وأمير الأمراء.. باشوات حلب في عصر التنظيمات العثمانية
عمرو الملاَح : مجموعة الطوابع التذكارية المهداة إلى مرعي باشا الملاح
عمرو الملاّح : حديقة مرعي باشا الملاح بحلب
عمرو الملاّح : الآباء الدستوريون المؤسسون للدولة السورية الأولى
عمرو الملاّح : حلب في العام 1926.. المتحف القديم أو قصر الناعورة
عمرو الملاَح: الصورة الرسمية لنائب حلب مرعي باشا الملاح في مجلس المبعوثان
عمرو الملاَح : البطاقة النيابية العثمانية لمرعي باشا الملاح
 عمرو الملاّح:سنجق الاسكندرون لا يفصل عن حلب
عمرو الملاّح : حلب بين الأمس القريب واليوم
عمرو الملاح: قصر والي حلب المشير جميل باشا- قناق الملاح
عمرو الملاّح :مراسم تلاوة الفرمان السلطاني بتعيين ولاة حلب العثمانيين
عمرو الملاّح : حديقة مرعي باشا الملاح بحلب.. من التخريب المنهجي إلى الإزالة
عمرو الملاّح : فارس الخوري
عمرو الملاّح : يوم هب رجالات سورية للذود عن الأقصى والدفاع عنه عام 1911
عمرو الملاّح : حلب- عمارة نصري البلدي 1920
عمرو الملاّح: محمد خليل المدرس.. رائد الصناعات النسيجية في سوريا



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

عمرو الملاح

كاتب ومترجم وباحث في التاريخ السوري المعاصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى