You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

د.عادل عبدالسلام (لاش): من مذكرات طالب شركسي في جامعة برلين

د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر

كانت العاصمة الألمانية برلين في عقد الخمسينات ومطلع ستينات القرن الماضي مدينة تلملم جراح الحرب العالمية الثانية، مثلها في ذلك مثل ألمانيا المقسمة إلى شرق وغرب متناحرين،. فحين وصلتها سنة 1960 أي بعد 15 عاماً من هزيمتها، كان أهلها يعيشون ذكرياتهم عن العظمة والتفوق العرقي الآري الموروثة من إيديولوجية العهد النازي من جهة، ويعيدون ترميم بقايا ما خلفته الحرب من دمار وإنهيار نفسي، وصدمة معنوية من جهة ثانية. وذلك للدراسة في كلية الرياضيات والعلوم الطبيعية في جامعتها الغربية (جامعة برلين الحرة F.U.B.(، التي كان أغلب أساتذتنا في المعهد الجغرافي فيها من بقايا النظام المنحل، أو من الجنود بل ومن الضباط السابقين في الجيش الألماني… ومنهم من قاتل في جبهة القفقاس وشارك في احتلال ميه قوابة ونالشيك، حسب رواياتهم الشخصية لي.

كما كان زملائي في المعهد من المتشربين في طفولتهم، بملامح العقلية الألمانية العرقية التي استوطنت تفكيرهم، ومتأثرين بها بدرجات متفاوتة، وتعكس معالم سلوكيات أبائهم وجو عائلاتهم التي عاصرت العهد النازي. إذ لمست ذلك في حالات كثيرة من خلال احتكاكي بزملاء الدراسة، الذين كانت مصطلحات التعالي العنصري على غير الألمان، شائعة بينهم مثل نعتهم كل إفريقي وآسيوي بـ: (الهمومبا، لومومبا) وغير ذلك. ولما كنت الأجنبي الوحيد في المعهد، تعرضت، لكوني عربياً سورياً من الجمهورية العربية المتحدة بصورة رسمية، لهذا الوصف من قبل العديد من الطلاب والطالبات، علناً أحياناً، وسراً في مجالسهم أحياناً أخرى…وبصورة خاصة من الطلبة أبناء وبنات العائلات ذوات الأصول الألمانية العريقة. وكثيرأ ما أدى ذلك إلى مشاحنات ومناقشات بيني وبينهم…

لكن حادثة غير متوقعة قلبت كل موازين التعالي والتفوق العرقي، التي كانت تقض مضجعي…وذلك إثر محاضرة عامة للأستاذ الدكتور فولكة، وهو ضابط نازي قديم وحجة في الدراسات الجغرافية الروسية، ألقاها في القاعة الكبرى للجمعية الجغرافية البرلينية عن الإتحاد السوفييتي، ذكر فيها اسم القفقاس، وقال عنه بالحرف:

” موطن وأصل العرق الأبيض وبيت الشركس العريق، الذين ذكرهم الأنتروبولوجي البروفسور يوهان ف. بلومنباخ (Blumenbach)، (1795)، بقوله: أن الشركس والكرج هم أنقى ممثلي العرق الأبيض وأن :

” الشركس هم أقرب البشر من النموذج الإلهي الأصلي للإنسانية”

The Circassians were the closest to God’s original model of humaniy” “

والقفقاس هو بلد أسلاف طالبنا الحاضر بيننا الأن، السيد عادل عبد السلام “.

وأضاف أن الشراكسة هم أصل سلالات العرق الأبيض القفقاسي، وأن الفيلسوف الألماني كريستوف ماينرز هو أول من قال بمصطلح “العرق القفقاسي” سنة 1785. ثم عم وانتشر وتكاملت أركانه على يد أستاذ الطب الألماني وعضو الجمعية الملكية البريطانية، وأحد مؤسسي علم الأنتروبولوجيا والنظرية العرقية الأرية.. في العالم ( يوهان فريدريك بلومنباخ منذ سنة 1790).

ولما كان أغلب الحاضرين يعرفني سورياً ويظنني عربي الأصل، اتجهت أنظارهم إلي. ولتنهال علي إثر ذلك عشرات الاستفسارات والاستيضاحات، التي لم تتوقف إلا بعد ردح من الزمن. كما تغيرت بعد هذه المناسبة نظرة من يعرفني إلي، فأخذت تتسم بالاحترام والصداقة، التي ظلت قائمة مع بعضهم إلى يومنا هذا، الذين لم تنقطع اتصالاتهم للإطمئان على سلامتنا في سورية المنكوبة.

لكن أغرب ما حصل لي في إطار هذا الموقف والمعاملة الجديدة، هو سؤال السيد بانتل مالك المنزل الذي الذي أستأجر فيه غرفة أعيش فيها منذ أمد…سواله لي عن صحة ما وصله عن محاضرة الأستاذ فولكه وأنني شركسي، كما وأكدت له صحة ما وصله من خبر. لكنه وباستغرابي معرفته للواقعة، أفادني أنه وفولكه كانا صديقي سلاح من زمن الحرب. وأسرة (بانتل) هذه ، هي أسرة لطيفة، مؤلفة من زوج مسن كان ضابط طيران في الحرب العالمية الثانية، حولته هزيمة ألمانيا إلى سكير مدمن لايصحو إلا ماندر وإن أفاق عاد فثمل، ومن زوجته الطيبة البسيطة وكلبهما المدعو ماكس. أقمت عندهم أكثر من سنة. وكان الزوج يودني أصلاً لكراهيته المفرطة لليهود ولإسرائيل، زادها إعجابه بالشركس الذين عرفهم حين وصلت القوات الألمانية إلى الغرب الشركسي في الحرب العالمية الثانية.

فكان كل هذا أنه زكاني لأكون واحداً من (شلة) مؤلفة من ثمانية متقاعدين من زملائه، كانت لهم مائدة مخصصة بهم (مائدة الشلة Stam Tisch) في إحد المقاصف البرلينية العريقة. يلتقون حولها في ساعة محددة كل أسبوعين، وهذا أمر غير مسبوق بين الألمان المتزمتين، من ذوي النزعة العرقية….أما مفاجأة السيد بانتل التي لن أنساها فلقد كانت بعد نجاحي في امتحان ما يعرف في القوانين الجامعية الألمانية بـ (الدبلوم الأولية)، فحين عدت إلى البيت، فوجئت به واقفاً في بهو المنزل وقفة الاستعداد، مرتدياً لباساً عسكرياً نازياً كاملاً مزيناً بالصليب المعقوف والأوسمة، وبعد أدائه التحية العسكرية قال لي بلهجة رسمية، أنه يمنحني بإسمه وبالنيابة عن الفوهرر (الزعيم، والمعني هو هتلر) ، بمناسبة نجاحي الباهر، رتبة عسكرية أعلى، وقد تمت ترقيتي عنده إلى رتبة (Rittmeister)، أي ما يقابل آمر الفرسان، في جيش الرايخ. وقدم لي ورقة رسمية مكتوبة تحمل إسمي ومختومة بخاتم عسكري وممهورة توثق ترقيتي.

تبع ذلك، الاحتفال مساءاً بنجاحي وترقيتي مع مجموعته من المحاربين القدماء. وكانت الورقة عبارة عن نموذج رسمي من مخلفات العهد الهتلري يحتفظ بعدد منها، وما زلت أحتفظ بنسختي أيضاً.

وإضافة إلى ما تقدم عشت خلال السنوات الخمس من دراستي، إلى جانب دراستي وبحثي المتصل عن الكتب والمراجع الألمانية عن الشركس ونضالهم ضد الغزو الروسي،،، عشت الكثير من الأحداث المحلية والعاليمية كان أبرزها أزمة إقامة ألمانيا الشرقية الشيوعية جدار برلين بين شطريها الغربي والشيوعي.وحوادث هروب الشرقيين وتهريبهم إلى الغرب عبر برلين، أبرزها حادثة إعتقال صديقي إبن جيراني في حي المهاجرين بدمشق )م. ش.) في ألمانيا الشرقية، والحكم علٌيه بسنة بتهمة تهريبه سيدة من الشرق، وسنة ونصف السنة لتهريبه كلبتها، دون إرادتها ..حكمٌ طالما تندرنا به طويلاً..ومنها حادثة فرشاة الأسنان في إحدى رحلاتنا الجغرافية الميدانية التي كنت طرفاً فيها. وتستحق السرد.

ففي رحلة عمل إلى منطقة مايسنر الوا قعة إلى الشرق من مدينة كاسل – ألمانيا الغربية، بإشراف الأستاذ يورغن هوفرمان في صيف 1961. كانت إقامتنا في نزل مزود بأسرة من النموذج الطابقي، وكان سريري هو السفلي مقابل سرير مشابه يشغله زميل ألماني. وكنا نضع حقائبنا كل منا جانب سريره. وفي الصباح الأول لاحظت حين أردت تنظيف أسناني أن فرشاتي مبللة. فاستغربت ذلك وساورني الشك فلم أستعملها. وفي صبيحة اليوم التالي استفقت قبل غيري وترصدت المعتدي على حقيبتي متناوماً. فرأيت زميلي المقابل لي يخرج فرشاة أسناني من حقيبتي ويضع عليها من معجون أسناني ويذهب لتنظيف أسنانه، ليعود ويضعها كما كانت….. بقيت فترة مفكراً، قررت بعدها بتلقينه درساً لن ينساه في حياته……فنهضت و اغتسلت، وعدت وجلست على حافة سريري وأخرجت فرشاة الأسنان من الحقيبة، وأخذت أنظف بها أظافر أصابع قدمي وما بينها على عن الإ مرأى من الزميل وغيره من الطلاب. وحين شاهد الزميل ما أفعل جحظت عيناه وسألني ماذا أفعل بالفرشاة، فقلت له إنها خاصة بتنظيف أصابع القدمين، فهرول مسرعاً حيث تقيأ في الحمام. ولما علم البعض من الطلبة بما جرى، انفجروا بالضحك، واستصوبوا العملية، لكني رجوتهم كتمان الحادثة. لكننا وبعد عودتنا من الحقل والعمل الميداني، وجلوسنا حول مائدة العشاء، وكان الخبر قد انتشر، لاحظت الهمسات الساخرة والنظرات الموجهة إلى الزميل الذي كانت شهيته شبه معدومة. مما جلب انتباه الأستاذ هوفرمان. وبسؤاله عن الأمر… أخبرته إحدى الطالبات أن يسألني أنا، فامتنعت عن الإجابة. لكنه وبعد العشاء ألح علي ونحن خارج النزل أن أخبره بالأمر. فلما سردت له ما جرى انفجر أيضاً بالضحك، وقال لي إن أموراً من هذا القبيل هي من طبيعة الحياة الطلابية.

وعلى الرغم من ذلك ما زلت أتساءل إلى اليوم وبعد ستة عقود، هل كنت مخطئاً بحق هذا الزميل أم لا ؟؟

عادل عبد السلام لاش

دمشق 19-6-2022


انظر:

د.عادل عبدالسلام (لاش): رفع العلم الشركسي مع العلم السوري في سورية

د.عادل عبدالسلام (لاش): شارع جواد أنزور أم جبران خليل جبران؟

د.عادل عبدالسلام (لاش): أحمد حسن الخطيب رئيس الجمهورية العربية السورية وصداقة 38 سنة

د.عادل عبدالسلام (لاش): في ذكرى استقالة أقدم أستاذ جامعي

د.عادل عبدالسلام (لاش): رقصة الخنجر (القاما) والأمير أحمد شوقي

د.عادل عبدالسلام (لاش): لعبة الـ: ( تشِن) الشتوية

د.عادل عبدالسلام (لاش): من أحداث نزوح شركس الجولان

د.عادل عبدالسلام (لاش): الألقاب عند الشركس

د.عادل عبدالسلام (لاش): ولادة الجمعية الجغرافية السورية

د.عادل عبدالسلام (لاش): ورقة من سيرتي الذاتية في الجولان

د.عادل عبدالسلام (لاش): لعبة الصمت عند الشركس

د. عادل عبدالسلام (لاش): هاجس مزمن .. وواقع معاش

د. عادل عبدالسلام (لاش): مع عمر بهاء الدين الأميري .. الشاعر الإنسان

د. عادل عبدالسلام (لاش): خروج فرنسا من القنيطرة ووالدي يرفع العلم السوري

د. عادل عبدالسلام (لاش): السفر برلك .. سنوات المجاعة والهلاك

د. عادل عبدالسلام (لاش): كوشباي أسعد .. مجاجة الأسطورة

د. عادل عبدالسلام (لاش): صفحة وطنية مشرفة للقائد الشركسي ناظم بيك سنجر

د. عادل عبدالسلام (لاش): أحكام إعدام فرنسية لجنود شراكسة في سورية 1945

د. عادل عبدالسلام (لاش): معسكر جغرافي في الجزيرة العليا – شمال شرقي سورية 1981

د. عادل عبدالسلام (لاش): المواقيت والأزمنة عند الشركس

د. عادل عبدالسلام (لاش): العرس الأديغي (الشركسي) التقليدي في سورية

د. عادل عبد السلام (لاش) : تهجير الشركس إلى سورية وتوطينهم في شريط الليمس الشركسي

د. عادل عبد السلام: من جعبة الذاكرة.. المظاهرات الطلابية السورية

د. عادل عبد السلام: ظاهرة لغوية اجتماعية أديغية (شركسية)

د. عادل عبدالسلام (لاش) : بدايات كرة القدم في مرج السلطان

د. عادل عبد السلام : آداب الطعام و قواعد المائدة الشركسية

د. عادل عبد السلام : الحاتيون أسلاف الشركس 

د. عادل عبد السلام : حول الأمير الأديغي ينال الكبير، والسلطان الأديغي (الجركسي) الأشرف ينال العلائي

د. عادل عبد السلام (لاش) : على هامش أحداث الجزائر

د. عادل عبد السلام : أول مسجد في مرج السلطان

د. عادل عبدالسلام (لاش) : بين الجامعة والكلية الحربية وقاسم الخليل

د. عادل عبدالسلام (لاش) :مرج السلطان وعيد الأضحى

د. عادل عبدالسلام (لاش): في ذكرى إبادة الشركس

د. عادل عبدالسلام (لاش): نزوح الشراكسة من الجولان في صيف 1967

د. عادل عبدالسلام (لاش): رحلة مجانية أحن إلى مثلها

د. عادل عبد السلام (لاش) : يوم الحداد الشركسي

د. عادل عبد السلام (لاش) : رحلة شتوية إلى جبال صلنفة

د. عادل عبد السلام (لاش) – مسيرة تربوية تعليمية.. زرعنا فحصدنا

عادل عبد السلام (لاش): حكمت شريف حلمي شاشأه في ذكرى رحيله

د. عادل عبد السلام (لاش): غياض الحَور في مرج السلطان

د. عادل عبد السلام (لاش): اللواء محمد سعيد برتار رجل المهمات الصعبة والملمات الإنسانية

د. عادل عبد السلام (لاش): الضائقة المالية وقرار طردي من معهد غوتة

د. عادل عبد السلام (لاش) – حسن يلبرد

د. عادل عبدالسلام (لاش) : شكري القوتلي في مرج السلطان

د. عادل عبد السلام  لاش- مراحل رسم الحدود السياسية لسورية منذ زوال الإمبراطورية العثمانية

د. عادل عبد السلام (لاش) : من رجالات الشركس .. الفريق الركن أنور باشا أبزاخ

د. عادل عبد السلام (لاش) : صورة….. واعتقال



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

عادل عبد السلام

الدكتور عادل عبدالسلام لاش من أبناء قرية مرج السلطان، من مواليد عسال الورد عام 1933. يحمل دكتوراه في العلوم الجغرافية الطبيعية من جامعة برلين الحرة. وهو أستاذ في جامعة دمشق منذ عام 1965. له 32 كتاباً منشوراً و10 أمليات جامعية مطبوعة، بالإضافة إلى أكثر من 150 مقالة وبحث علمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى