مقالات
أنطون سعادة: عصران يتصارعان.. مبادىء أساسية في التربية القومية
أنطون سعادة: عصران يتصارعان.. مبادىء أساسية في التربية القومية
نشر في المجلة، بيروت المجلد 8 العدد 1، الصادر في الأول من آذار عام 1933م.
نص المقال:
(إنّ لهذه المحاضرة التي يرى المطالع نصها فيما يلي، رواية طريفة تمثّل هذا الصراع الصامت المحتدم بين عصرين: الواحد منهما قد بلغ من الكبر عتياً، والثاني لا يزال في بدء حياته. الأول يتمسك بنظامه المحافظ القديم، والثاني آخذ في إنشاء نظام حر جديد. الواحد منهما قوي يضعف ويتقهقر، والآخر قوّته تتزايد يوماً يوماً. أحدهما يقول: «أنا دولة الفكر». والثاني يقول: «إنما دولة الفكر هي الفكر الحر نفسه». أولهما ينادي «أنا القديم الذي كان»، وثانيهما يجيبه «إنما أنا الجديد الكائن والذي سيكون» ــــ صراع صامت هائل هو صراع موت وحياة.
والخبر أنّ المحرر بُعيْدَ عودته من أميركة منذ نحو سنتين ونصف أمَّ دمشق وهناك تعرّف إلى السيد محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي وهو حينئذٍ وزير معارف الحكومة السورية المؤقتة. وتمّ الاتفاق بين الإثنين في المقابلة الأولى على أن يعدّ محرر المجلة محاضرة يلقيها في المجمع العلمي. فأنشأنا هذه المحاضرة، ورغب السيد كرد علي في الاطلاع عليها، قبل تعيين موعد إلقائها، فقدمناها إليه بواسطة الشيخ عبد القادر المغربي الذي اطّلع عليها أولاً ووضع علامات استفهام تجاه بعض العبارات التي لم يتمكن من فهمها، والقارىء يرى الإشارة إلى ذلك في محله. ومع ذلك فالشيخ المغربي لم يرَ فيها ما يعترض مع إلقائها في المجمع. ولكن السيد محمد كرد علي أعاد المحاضرة وقد علّق عليها بقلم رصاص ما يأتي:
«في هذ المحاضرة عدة أماكن وقع فيها إبهام شديد أشير إلى محله والمحصَّل من مجموعها قليل يحتاج صاحبها إلى درسها ثانية ونزع الأفكار التي يراها في الأتراك وهي مخالفة لما عليه المنطق والواقع».
لم نأسف لهذا التحكم الصادر من رئيس المجمع العلمي العربي ولكننا أسفنا للحقيقة التي وقفنا عليها، وكنا نجهلها من قبل، وهي: أنّ المجمع العلمي العربي معقل «دولة الفكر التحكمية» ضد «دولة الفكر الحر»، وإنْ كان بين أعضائه نفر يدينون بحرية الفكر وكنا نود أن يحترم السيد محمد كرد علي الحرية الفكرية ويضعها فوق «منطقه وواقعه» ولكنه أبى إلا أن يصدمها. أما نص المحاضرة فكما يلي):
الأمة التي لا تظهر حيويتها القومية إلا في السياسة:
أمة لا تعرف سبل النجاح:
إنّ درسنا تاريخ تطور الأمم الحية يفيدنا أنّ كيان الأمة يتوقف على حياة الشعب قبل كل شيء آخر، مهما كان ذلك الشيء مهماً. فالشعب الحي سواءً أكان مؤلفاً من عنصر واحد، أم من عناصر متعددة، مختلفة الأصول يمكنه أن يكوّن أمة ذات شأن بفضل قابليته للتطور الراقي. فإذا كان مؤلفاً من عناصر متعددة امتزجت عناصره بعضها ببعض وأوجدت قومية ممتازة بمزاجها وطبائعها وعاداتها، لها وسائلها الخاصة بها لاحتلال المركز المعد لها تحت الشمس، لذلك كانت المبادىء الشعبية المادة الحيوية للأمم، وهي الأسس التي عليها يجب بناء التربية القومية.
إنّ أكثر الذين تكلموا في محيطنا عن القومية والتربية القومية جعلوا همهم أن يبحثوا الموضوع من وجهة سياسية بحتة، ولذلك رأيناهم يؤكدون لنا، أنّ الحرية والاستقلال هما الغرضان الأسميان في حياة الأمم، والحقيقة أنّ الحرية والاستقلال يقصران عن أن يكونا ذينك الغرضين. إنّ أغراض الأمم السامية هي مطالبها العليا، أما الحرية والاستقلال، فليسا سوى الوسيلتين، اللتين لا غنى للأمم عنهما لتحقيق تلك المطالب. ومتى بطل أن يكون لأمة ما مثلٌ أعلى تريد تحقيقه، لم تبقَ لها حاجة إلى الحرية والاستقلال.
يتضح لنا مما تقدم، أنّ كل مبدأ عام لا يكون الغرض منه خير الشعب وضمان وسائل تقدمه نحو مثله الأعلى يكون عديم الفائدة، وفي التاريخ شواهد عديدة على ذلك. على هذه النظرية قامت الروح الشعبية التي دفعت أمم العالم الحية إلى الارتقاء الذي هي عليه الآن، وأصبحت المحور الذي تدور عليه التربية القومية التي لا تفشل. والأمم الحية التي أثبتت أهليتها للبقاء والاحتفاظ بكيانها القومي، هي التي تمكنت من تنزيه مبادئها الشعبية عن المبادىء الدخيلة عليها، فإن من هذه المبادىء ما لو اختلط بالمبادىء القومية الشعبية لكان وبالاً عليها وعلى الشعوب التي تعمل به. لنبحث الآن في بعض هذه المبادىء التي لها دخل في القضية القومية السورية والقضايا القومية القريبة منها كــ«المبادىء العنصرية» و«المبادىء الدينية»:
المبادىء العنصرية:
إذا دخلت المبادىء العنصرية على المبادىء الشعبية لأمة لم تتمكن منها التربية القومية المتينة، وكان القصد من دخولها ضم الأمم التي هي من عنصر واحد في الأصل في قومية واحدة وكيان واحد اقتضت أن تتنازل تلك الأمة عن مثلها الأعلى وأن تفنى قوميتها في قومية تعم الأمم التي تشترك معها في العنصر. وهذه عملية دقيقة من الطراز الأول قد يفوق خطرها على الأمة الواحدة، خطر تقسيم هذه الأمة إلى أقسام متعددة، لأنه ما دامت الأمم المطلوب توحيدها، لا تشكل وحدة اجتماعية شعبية، أو وحدة أخلاقية أو وحدة نفسية أو وحدة عقلية، فلا بدّ في هذه العملية من أن تذهب أمة ضحية لأمة وشعب ضحية لشعب. إذا اتحدت الأمم اللاتينية الآن في قومية واحدة، فقد تلتهم إسبانية البرتغال، وقد تلتهم إيطالية إسبانية. وما يقال في الأمم اللاتينية يقال في غيرها.
ليس من أجل هذه النظرية فقط لا تقدم الأمم على التمسك بالمبدأ العنصري تمسكاً أعمى، بل لأنها تدرك أنه لا يمكن القول بأمة خالصة العنصر. ليس في العالم أمة واحدة ليست خليطاً من أكثر من عنصر وعنصرين. لذلك كانت الأمم الحكيمة ولا تزال، تقدم على التعاون العنصري لا على الاتحاد العنصري. متجنبة إثارة مسألة عنصرية في نفس الشعب الواحد تمزقه تمزيقاً. وفضلاً عن ذلك فلا موجب لهذا الاتحاد فالعالم لا يشهد الآن تطاحناً عنصرياً تجمع فيه العناصر صفوفها ليقوم بعضها على بعض مريداً فناءه، بل يشهد تسابقاً أممياً شعوبياً.
إذا أمعنا النظر في هذه القضية، ووفيناها حقها من الدرس، اتضح لنا أنّ مزج القضايا العنصرية بالقضايا القومية قبل أن تكون الأمم العنصرية في حالة وحدة اجتماعية شعبية نفسية، عقلية، اقتصادية، الخ. منافٍ لخير الشعوب، هادم لقومياتها لأنه يفقدها حياتها الخاصة ومزاياها ومواهبها الخاصة التي تدفعها نحو مطلب أعلى خاص بها. والشعوب التي تفقد هذه الخصائص التي هي من مواهبها الطبيعية لا يعود يفيدها شيئاً شأن الدولة والحرية السياسية ونسبها العنصري . والنسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر.
لا يعني ما تقدم، أنه يجب التخلي عن المبدأ العنصري بالمرّة، لأن التخلي عنه، يضعف مواقف الأمم التي تنتمي إلى عنصر واحد تجاه مواقف الأمم المنتمية إلى عناصر أخرى. ولكن ذلك يعني ضرورة التمييز بين المبدأ العنصري والمبدأ القومي الشعبي، لكي لا يحدث بينهما تضارب مضرّ بالأمة والعنصر كليهما. إنّ المبدأ القومي الشعبي هو المبدأ الأساسي الضروري لحياة الأمم. أما المبدأ العنصري فهو المبدأ الكمالي الذي يجب أن لا تتناوله الأمم إلا بعد التثبت من رسوخها في المبدأ الأولي، بحيث تستطيع الأمة الواحدة الانخراط في قضية تعاون عنصري، بدون أن تعرّض نفسها لفقدان مطلبها الأعلى واستقلالها في مناحي حياتها، أي أنه لا يجوز أن تتضارب المصالح العنصرية والمصالح الشعبية، فإذا حدث شيء من ذلك وجب تقديم هذه على تلك لأن الشعوب قوام العنصر وليس العنصر قوام الشعوب. إنّ المبدأ العنصري يجب أن يخدم الشعوب، لا أن تخدم الشعوب المبدأ العنصري، فكل ما يقدِّمه هذا المبدأ من وسائل التضامن بين الأمم لتحسين شؤونها عموماً هو الخير، أما قضية التوحيد التي أشرت إليها فنتيجتها تكون، أنّ بعض الأمم القوية تستأثر بالزعامة والقيادة لتحقيق ما هو أكثر انطباقاً على مطلبها الأعلى ومشيئتها. بناءً عليه أقول: إنّ التربية القومية يجب أن تكون من الشعب، في الشعب، للشعب.
إسمحوا لي أن آتي على وجهة أخرى من وجهات خطر التخلي عن المبادىء الشعبية والتمسك بالميول العنصرية. هي وجهة خطر التواكل، أي الاتكال على الغير، بعكس ما لو كانت الميول الشعبية هي الغالبة، فإن فيها قوة الثقة بالنفس العجيبة التي هي مصدر العزم والهمة والأعمال الجبارة، ولها أمثلة باهرة في تاريخ الأمم، فما من شعب يلجأ في حل قضاياه الخاصة، كقضية حريته وإثبات وجوده في عداد الشعوب الحية إلى الاعتماد على قضية عنصره، إلا كان شعباً خاملاً ليس له ثقة بنفسه وبمزايا طبيعته الخاصة ولا حياة مثلى يسعى إلى تحقيقها كما يريد هو، بل كان عالة على عنصره وعلى البشرية.
إنّ الثقة بالنفس كانت لا تزال وستظل العدة التي لا يقوم شيء في العالم مقامها في حياة الأمم. إنّ ثقة الشعب بنفسه لا يمكن أن تقوم مقامها ثقته بعنصره، فإن في العالم الآن شعوباً لها مراكز أولية فيه هي خليط من عناصر شتى. وقد قرأت مرة لكاتب مواطن نقل عن رينان هذه العبارة «إنّ الشعب الوحيد الذي يصح أن يقال عنه إنه خالص العنصر هو الشعب اليهودي، ومع ذلك فاليهود خليط من جميع الأمم»، وهذا القول المبني على درس عميق في تركيب الشعوب يؤيد النظرة الشعبية كل التأييد، وفرنسة وبريطانية والولايات المتحدة وسائر الأمم شواهد حية على ذلك.
لا تتضارب هذه النظريات والحقائق مع ما هو ثابت من تأثير العنصر في المزايا الشعبية بفعل الوراثة، بل هي، على العكس من ذلك، تدل على مبلغ مرونة العنصر ومقدرته على اتخاذ الطبائع والمزايا التي يقتضيها مختلف أحوال أممه، وكلما كانت روح القومية الشعبية في الأمم قوية كانت برهاناً قاطعاً على جودة العناصر التي تنتمي إليها. وعكس الأسباب يقتضي عكس النتائج.
المبادىء الدينية:
أعتقد أنّ ما أوردته بشأن المبدأ العنصري كافٍ لإيضاح وجهة مضارّه ووجهة فوائده بالنسبة إلى المبادىء الشعبية التي يقصد منها خير الشعوب وارتقاؤها. والآن ننتقل إلى البحث في «المبادىء الدينية» التي إذا تدخلت في مبادىء الشعب، حيث لا قضية روحية بحتة، كانت خطراً عظيماً على كيانه وعلى معنى وجوده.
إذا درسنا تطور الشعوب في الغرب وجدنا أنّ بلوغها الشأوَ الحاضر في الحضارة والعمران لم يتسنَّ لها إلا بعد أن تمكنت من التغلب على كل ما ليس من المبادىء الشعبية، والانتصار على قوة عظيمة كانت دائماً تقاوم الروح الشعبية جهدها وتضغط عليها ضغطاً شديداً، وهذه القوة هي القوة الكنيسة التي كانت تعتمد على الدين لاستخدام الشعوب في مصالحها الخاصة. ولقد قبضت هذه القوة، في الماضي، على أساليب التربية والتهذيب كلها، فكان التهذيب الديني أحد الأسلحة القاطعة التي حاربت تقدُّم الشعوب بتدخلها في شؤونها الدنيوية والمادية بدلاً من الاهتمام بشؤونها الروحية. ولولا مجيء العرب إلى أوروبة واشتغالهم فيها بالعلوم والفنون لكان الجهل أبقى الشعوب الأوروبية تحت رحمة الكنيسة إلى زمن لا ندري أمده.
يجب أن لا يفهم من هذا، أنّ المبادىء الشعبية القومية منافية للدين. كلا. ولكن المسألة مسألة أمرين يستقل كل منهما بخصائص ومزايا لا يمكن إدغامها بخصائص ومزايا الآخر بدون أن يؤدي ذلك إلى نتائج سيئة في حياة الشعوب، ولهما وظيفتان متنوعتان وكلاهما يجب أن يكون غرضهما العناية بالشعب وتوفير أسباب نموّه، ولا يحدث بينهما تضارب إلا إذا تدخل أحدهما في شؤون الآخر تدخلاً يفسد عليه عمله.
الحقيقة أنّ أولى منافع الدين كانت خدمة الشعوب وإنقاذ مطالبها العليا من التلف وإنعاش معنوياتها، وهكذا نرى أنّ الدين أعاد الأمل والإيمان إلى الشعب اليهودي وأخرجه من عبودية مصر إلى الحرية، وهو الذي جعل الشعب السوري يتمسك بمبادىء السلام مع الحرية ويقوم بخدمات كبيرة للإنسانية، وهو الذي استفز الشعب العربي إلى نفض غبار الخمول وإنشاء ذلك المجد الباذخ على الكيفية المدوّنة في التاريخ. بيد أنه إذا فقد الدين صفته الروحية وأمس أداة مادية يستغلها أهله استغلالاً في سبيل مصلحة سلطتهم على حساب حرية الشعب ومصالحه الحيوية، تحوّل من نعمة مُنِيت بها الشعوب إلى نقمة شريرة تجلب عليها الكارثات، وتكون سبباً في انحطاطها فتضعف روحها القومية وتفقد ثقتها بنفسها ويستولي عليها الخمول وتمسي مطايا للشعوب الأخرى التي تتمشى على المبادىء الشعبية ذاهبة دائماً إلى الأمام ــــ إلى التقدم والفلاح.
يدلنا التاريخ على أنّ الشعوب كانت تضطر، في كل حادث من هذا النوع، إلى إجراء عملية استئصال، لا للدين نفسه، بل للفساد الذي يطرأ عليه، مصيّراً إياه مادة دنيوية ــــ متاعاً للإتجار والمضاربة، والمزاحمة على السلطة والقوة. فلما قويت سلطة الكنيسة الرومانية، إلى حدٍّ سوَّلت لها نفسها عنده تصريف شؤون الشعوب كما تريد، حتى صارت هذه مجرّد قطعان بشرية لا تكاد تفرق عن القطعان البهيمية إلا بخاصة النطق فقط، ساءت أحوال هذه الشعوب إلى حد خطر. حينئذٍ ظهر لوثر المصلح الخالد الأثر، الذي كان إصلاحه الديني إصلاحاً شعبياً من الطراز الأول، إذ بواسطته استعاد الشعب الألماني حريته النفسية واستقلاله القومي، والعبارة الألمانية المشهورة إلى هذا اليوم القائلة «لوس فن روم» أي «الإفلات من رومة» تدل دلالة واضحة على ذلك. وفي الثورة الفرنسية لتحرير الشعب اضطُرَّ الشعب الفرنسي إلى القيام بجميع أعمال الإرهاب للتخلص من معاكسة إكليرسه الفاسد لمصالحه الحيوية.
إذا كنتم تريدون شاهداً أقرب على النظرية المتقدمة، فإنكم تجدون هذا الشاهد في القرون العديدة التي سيطرت في أثنائها الخلافة التركية على الشعوب الإسلامية. فقد استعمل الأتراك سلطة الخلافة ضد مصالح الشعوب المذكورة، وفي جملتها الشعب السوري، فاضطرت هذه الشعوب إلى الانتقاض على الخلافة التركية فيما يختص بأمر الجهاد الديني، الذي أصدره الخليفة التركي إبّان الحرب الكبرى لمصلحة شعبه الخاص وبلاده والقيام بثورة دموية ضد تركية. ولقد أدرك الأتراك مؤخراً أنّ المبادىء الشعبية هي المبادىء الوحيدة التي تمكنهم من التقدم نحو مثلهم الأعلى، فاضطروا إلى إجراء التعديلات التي تعرفون أمرها بحيث بقي الدين سالماً منزَّهاً عن الأمور الدنيوية، وانفسح المجال لنمو الروح الشعبية ونشوء التربية القومية الصحيحة. فعل الأتراك كل ذلك دون أن يكون لأي شعب إسلامي آخر أن يقول إنه أكثر إسلاماً من الشعب التركي. فالإصلاح الذي قام به مصطفى كمال باشا في الإسلام سيكون له نتائج شبيهة بالنتائج التي كانت للإصلاح الذي قام به لوثر في المسيحية. وإن كان لم يتخذ شكل الإصلاح الديني العام كهذا.
كما كانت الجامعة الدينية وبالاً على الشعوب المسيحية في الغرب، كذلك كانت الجامعة الدينية وبالاً على الشعوب الإسلامية في الشرق، فرومة هناك كانت تتصرف بمقدّرات الشعوب وتصرّف شؤونها حسبما تريد، صارفة النظر عن نفسياتها المختلفة وعقلياتها المتنوعة ورغباتها المتعددة، متشبثة بمبدأ فاسد يقول: إنّ الحياة التي تريدها رومة يجب أن تريدها الشعوب الأخرى، وإنّ ما تراه رومة جيداً يجب أن يكون جيداً للشعوب التي تبسط هي سلطانها عليها. والقسطنطينية هنا كانت تتصرف بمقدّرات الشعوب التي كانت تبسط سلطانها عليها وتصرّف شؤونها حسبما تريد، صارفة النظر عن نفسياتها المختلفة وعقلياتها المتنوعة ورغباتها المتعددة، متشبثة بمبدأ فاسد يقول: إنّ الحياة التي تريدها القسطنطينية يجب أن تريدها الشعوب المذكورة، وإنّ ما تراه القسطنطينية جيداً يجب أن يكون جيداً لها. ولكن كما أفلتت الشعوب الغربية من قبضة رومة لتسير إلى ما فيه صلاحها وفلاحها، كذلك أفلتت الشعوب الشرقية من قبضة القسطنطينية لتسير إلى ما فيه صلاحها وفلاحها. والويل للأمم التي تلتفت إلى ورائها لترى ما حلّ برومة والقسطنطينية فإنه يصيبها ما أصاب امرأة لوط حين التفتت إلى ورائها لترى ما حل بسدوم وعمورة!
ترون مما تقدَّم أنّ مسألة التربية القومية مسألة دقيقة جداً، إذا لم يستوفَ درسها لمعرفة ما يحيط بها من المعاثر والأخطار لم تأتِ بالنتائج المطلوبة، وقد تأتي بنتائج معكوسة إذا أهمل أمر دخول المبادىء اللاشعبية عليها، فيكون الخطر كل الخطر حيث يظن أنّ هناك السلامة كل السلامة. وهذا هو السر في عدم حصول أمتنا على المركز الذي تؤهلها له مزاياها ومواهبها السامية. فبينا نحن نرى أنّ تحرير الشعب الألماني من ربقة رومة وتنزيه تربيته القومية عن كل ما يعاكس المبادىء الشعبية، أدَّيا إلى نشوء روح شعبية قوية فيه كانت باعثاً على النهضة الألمانية الحديثة، وإيجاد تلك الثقة العظمى بالشعب التي كان من ورائها ظهور الفلسفات التي تجعل الشعب الألماني محور أمل العالم بارتقاء البشرية ، حتى أصبح كل ألماني وألمانيَّة يعتقدان يقيناً بمستقبل شعبهما ويؤمنان إيماناً ببلوغه مناه ــــ وهذا هو سرّ القوة الألمانية التي ترهبها الشعوب الأخرى ــــ أقول: إنه بينا نحن نرى ذلك، إذا بنا يبلغ من ضعف تربيتنا القومية وإهمالنا أمرها أن تنشأ بيننا اعتقادات غريبة كالاعتقاد بأن الضعف مقدرة.
نأخذ مثلاً القول الشائع بأن للسوريين مقدرة عظيمة على تقليد الشعوب الأخرى ومجاراتها في أساليبها وطرق تفكيرها، تقليداً ومجاراة لم يكونا لغيرهم من الأمم. أقول: إنّ هذه المقدرة الدالة على بعض مزايا الفهم الحسنة هي الضعف بعينه، فهي دليل بيّن على عدم وجود تربية قومية سورية تحمل الشعب على الاحتفاظ بنفسية وعقلية سوريتين صحيحتين. فالسوري، أينما وجد، يتبع غيره، فهو في الجامعة الأميركية، مثلاً، يقلد الأميركةن وفي المدارس الفرنسية يقلد الفرنسيين. وقلَّ أن ترى سورية ويسير على طريق خاصة به، وهذا عيب من أكبر عيوبنا القومية.
لقد آن الأوان للضرب بمثل الاعتقاد المتقدم عرض الحائط، وأن ننشىء لأنفسنا تربية قومية مؤسسة على المبادىء الشعبية الصحيحة التي تقوي فينا روح احترام النفس والثقة بالنفس، وأن نوجد لأمتنا مركزاً محترماً بين الأمم القريبة والبعيدة، وأن نحقق نحن بأنفسنا مطلبنا الأعلى الذي نفتخر بأنه يمثل مزايانا الخاصة بكل ما فيها من الروح السليمة والمدارك العقلية العالية ونجعله منارنا الخاص الذي يهدينا إلى ما فيه فائدتنا وفائدة البشرية جمعاء.
إنّ في الحياة السورية مثلاً أعلى هو العمل للخير العام في ظل السلام والحرية. وإن تحقيق هذا المثل واجب مقدس يدعو كل واحد إلى القيام بنصيبه منه. فلنجمع قلوبنا حول مطلبنا الأعلى وحذار من الالتفات إلى الوراء.
الأمة التي تنظر دائماً وأبداً إلى الوراء لا تستطيع السير إلى الأمام وإذا هي سارت فإنها تعثر. فلننظر دائماً إلى مثلنا الأعلى ــــ إلى الأمام!
انظر:
أنطون سعادة: الوحدة السورية ومخاوف اللبنانيين
أنطون سعادة: السوريون والاستقلال
أنطون سعادة: السوريون في عالم الاقتصاد
أنطون سعادة: الفاتح العربي الجديد
أنطون سعادة: القضية الوطنية .. الصهيونية وامتدادها
أنطون سعادة: الجنسيات السورية واللبنانية والفلسطينية
أنطون سعادة: بدء النهاية – ثورة الشرق
أنطون سعادة: نص كتاب استقالة أنطون سعادة : إلى «محفل نجمة سورية»
أنطون سعادة: المناطق الأجنبية المستقلة في سورية.. سورية صين جديدة
أنطون سعادة: معرض التلوين الصوري
أنطون سعادة: موقف فرنسة من سورية .. الحدث الجديد
انظر ايضاً:
أنطون سعادة: الغول الروسي مشروع السنين الخمس
أنطون سعادة: الفاتح العربي الجديد
أنطون سعادة: السوريون والاستقلال
أنطون سعادة: الوحدة السورية ومخاوف اللبنانيين