You dont have javascript enabled! Please enable it!
مقالات

د. عادل عبدالسلام (لاش): أحكام إعدام فرنسية لجنود شراكسة في سورية 1945

د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر

أحكام إعدام فرنسية لجنود شراكسة

أمين سوسناق / توسناق وعبدالرزاق سليمان وحسن صالح

ركزت سياسة الإنتداب (الاحتلال) الفرنسي لسورية منذ سنة 1920، على استغلال نسيجها البشري المتنوع طائفياً ودينياً وعرقياً واجتماعياً وإقليمياً وعشائرياً… وبشكل خاص اقتصادياً ومعيشياً، لتجنيد أبناء هذه الفئات لخدمة أغراضها وبث الفرقة بينهم لتمتين دعائم حكمها في مواجهة أية حركة مناهضة لفرنسا.

وكان الوضع المادي السئ لشرائح هذا النسيج من أبرز العوامل التي استغلها الاحتلال في تحقيق إهدافه فقام بإغراء أعداد من أبناء الأسر الفقيرة للانتساب إلى القطعات العسكرية الرديفة لجيش الشرق الفرنسي برواتب خيالية دفعت بالكثيرين من الشركس والعرب للإنتساب إلى الكوكبات الرديفة بسبب الحاجة والفقر المدقع، الذي كان علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صرح بقتله بقوله: “لو كان الفقر رجلا لقتلته”، إذ كان المتطوع البسيط في الكوكبة الرديفة يتقاضى مبلغاً خيالياً قدره 13- 14ليرة ذهبية شهرياً إضافة إلى الميزات الأخرى. أما راتب قائد الكوكبة فكان يصل إلى 25-30 ليرة ذهبية شهرياً. ولمعرفة قيمة هذا المبلغ، على المرء إن يعرف أن راتب قاضي محكمة التمييز السوري في ذلك الوقت كان يقدر بنحو3- 4 ليرات ذهبية شهرياً. ويبدوأن تركيا تسير اليوم على سنن هذه السياسة بتجنيدها آلاف المرتزقة السوريين الفقراء للقتال في ليبيا وأذربيجان مقابل رواتب شهرية مغرية.

وأبطال هذه المقالة هم ثلاثة من الشبان الشراكسة الذين دفعهم الفقر للانتساب للقوات الرديفة لجيش الشرق الفرنسي، وما قاموا به من التمرد على الفرنسيين بحماية الثوار الدمشقيين من القوات الفرنسية، وانقاذهم من مذبحة أكبر من المجزرة التي ارتكبها السنغال في البرلمان السوري سنة 1945.

تعود الحادثة محور حديثنا إلى يوم الثلاثاء من 29 أيار سنة 1945 حين قرر الجنرال الفرنسي (أوليفيه روجيه) قصف دمشق وضرب المجلس النيابي السوري وإبادة النواب والوزراء السوريين في جلسة كان مقرر لها أن تنعقد في الساعة السادسة من مساء اليوم المذكور. وذلك بالتزامن مع التحاق أعداد كبيرة من أغلب السوريين العاملين في القوات الفرنسية بالقوات الوطنية، وكانت الكوكبات الشركسية في طليعة الجيش الوطني السوري الذي شكلوا نواته في يعفور وشمالي قطنا. ومع تدخل بريطانيا إلى جانب تحرر سورية من الانتداب الفرنسي، ورفض فرنسا ذلك، حسب ما ذكره ديغول في مذكراته إذ يقول:

”بسبب قناعتي بتآمر البريطانيين مع السوريين فإننا لن نرحل إلا إذا كنا مجبرين وسنذهب إلى حد مقاتلة الثوارالسوريين والإنكليز معاً»

ومع تصاعد المطالبة الوطنية السورية بالتحرر، أصدر الجنرال الفرنسي أوليفييه روجيه بياناً إلى القوات الفرنسية في سورية صادراً عن دائرة الأركان الحربية ب – د رقم 24، جاء فيه:

“أيها الضباط والجنود العاملون تحت العلم الفرنسي، عليكم التقيد بالتعليمات التالية:

1-وجوب إبادة جميع عناصر الشغب التي تريد إخراج فرنسا من سورية

2-وجوب احتلال جميع دوائر الحكومة ومؤسساتها ومنشآتها الثقافية والاقتصادية

3-منع اتصال الحكومة السورية مع جميع دول العالم وبالدرجة الأولى مع جيرانها العرب وأصدقائها الدول الاشتراكية

4-وجوب تجريد جميع أفراد الشعب من أسلحتهم وآلاتهم الجارحة خلال 24 ساعة من الآن

5-وجوب وضع البلاد تحت الحكم العسكري وإعلان الأحكام العرفية.” (منقول)

أتبعه بتوجيه إنذار إلى رئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري بعدم عقد الجلسة، ولما لم يكتمل نصاب الجلسة ألغيت في الساعة الخامسة. وبرفض حامية مبنى المجلس النيابي (البرلمان) من الشرطة والدرك السوري أداء التحية للعلم الفرنسي أثناء إنزاله من سارية دار الأركان الفرنسية المقابل لمبنى المجلس طوقت المصفحات الفرنسية دار الحكومة والمجلس النيابي، فاحتشدت جماهير دمشق و خرجت إلى الشوارع في محاولة لفك الحصار عن المجلس النيابي، لكنها جوبهت بالقوات الفرنسية. التي قامت بمهاجمة حامية البرلمان، مستخدمة قوات السنغال، المزودة بمدافع الهاون والرشاشات والمصفحات.

وأحداث هذه الواقعة معروفة في تاريخ سورية المعاصر، ونجدها مسجلة في مواقع كثيرة، وسمي شارع بإسمها بدمشق…. لكن الجانب المجهول منهاهو دور ثلاثة من الشبان الشراكسة الذين دفعهم الفقر للانتساب للقوات الرديفة لجيش الشرق الفرنسي المؤلفة من شتى شرائح الشعب السوري، في أحداثها، والمتمثل بحماية الثوار الدمشقيين من القوات الفرنسية وانقاذهم من مذبحة أكبر من المجزرة التي ارتكبها السنغال في البرلمان في اليوم المذكور.

ولقد أدركتُ أحدهم وهو المرحوم الحاج أمين سوسناق/ توسناق من أبناء قرية السلمنية/ العدنانية في الجولان ومختارها فيما بعد، وسجلت عنه روايته، وما قام به مع زميليه الأبطال، وحكم عليهم بالإعدام من قبل الفرنسيين جراء دعمهم الثوار، وذلك في مقابلة أجريتها معه، أدرجها فيما يلي: لتوثيق الحادثة والتأكيد على حقيقة تضافر مكونات الشعب السوري بعربه وشركسه وبقية مكوناته في الدفاع عن أرضه ومختلف شرائحه. وإلجام ألسنة الإقصائيين وزارعي الفتنة والتفرقة. والتصدي لناشري الطائفية والعنصرية التي أضحت جزءاً لا يتجزَّأ مِن تكويننا.

رواية أمين سوسناق / توسناق في مقابلة معه في دمشق صيف 1965 مترجمة من اللغة الشركسية:

” قبل اندلاع المعارك حول البرلمان السوري، كان الفرنسيون قد وزعوا الجنود السنغال حول منطقة البرلمان، حيث كان مقرراً أن تنعقد فيه جلسة للنواب. وكان الدرك السوري يقوم بحراسة المبنى وحماية النواب. وقبيل قصف البرلمان وهجوم السنغال عليه وقتل أفراد الدرك فيه بليلة واحدة في مجزرة رهيبة، تم استدعاء ثلاث مصفحات فرنسية من مفرزة (البورتيه)-مدرسة الشرطة سابقاً وشرطة المرور حالياً بشارع جمال باشا – النصر-، لحماية مبنى الأركان الفرنسية الواقع عند بوابة الصالحية، وكنت -الرقيب الشركسي أمين سوسناق /توسناق (مختار قرية السلمنية/ العنانية فيما بعد)-، المسؤول عن إحدى هذه المصفحات ، فلما رأيت اندلاع النيران في الليلة المذكورة، وكانت لدي الأوامر بإطلاق النار على المواطنين السوريين، أوعزت إلى عناصر المصفحة بعدم توجيه اسلحتها إلى الجماهير أو نوافذ وأبواب المنازل، وأمرتهم بإطلاق النار في الهواء، وترك الفوارغ وتكديسها في أرض المصفحة، لأثبت لرؤوسائي قيامي بما أُمرت بتنفيذه. لكني وفي هذه الأثناء وبتنبيه من حسن وعبد الرزاق شاهدت من كوة المصفحة جموعاً غاضبة من الثائرين من أبناء دمشق، تتجه نحو الأماكن التي توزع على أسطح بيوتها الجنود والقناصة السنغال، فخرجت من المصفحة مسرعاً وتقدمت من الجموع ورجوتهم عدم الذهاب بالاتجاه المذكور، لأن السنغال يكمنون بانتظارهم ومعهم الرشاشات الثقيلة (الهوتشكيس) والأخف منها رشاشات الـ (إف- إم). فارتد الجمع فحُقنت دماء أعداد كبيرة من الدمشقيين نجت من موت محتم. وانقضت الليلة بعد قضاء الفرنسيين على درك البرلمان، إذ هاجم الجنود السنغال (وهم للأسف مسلمون) بحدود الساعة السادسة من مساء اليوم المشؤوم، مبنى البرلمان، وذلك بعيد مقتل أحدهم أثناء تبادل إطلاق النار بينهم وبين درك البرلمان، فقتلوا أفراد الدرك وعددهم قرابة 30 دركياً نجا منهم اثنان فقط، بأسلحة مختلفة وخاصة بسكاكين عريضة شبيهة بالسواطير كانوا يحملونها ويسمونها (كوﭗ كوݒ).

وفي صبيحة اليوم التالي تم استدعائي مع كل من الرقيب الشركسي عبد الرزاق سليمان من شراكسة حمص، والعريف حسن صالح من شراكسة منبج إلى مبنى الأركان الفرنسية ووجهت إلينا تهمة تأييد الوطنيين والتعامل معهم وحمايتهم، بوشاية اثنين من العملاء، أحدهما سوري أرمني والآخر سوري كاثوليكي، كما وتم تجريدنا من رتبنا و سجننا لحين صدور قرار إعدامنا ميدانيا. إذ نُقلنا بعد ذلك إلى سجن المزة..حيث تم إيقافنا أمام كتيبة الإعدام، التي تراجعت عن قتلنا نتيجة تدخل بعض الضباط والوجهاء كما علمنا فيما بعد. من بينهم قائد كوكبة مدينة دوما المرحوم ناظم بك سنجر (وبخ)، الذي عرف عنه تعاطفه مع الوطنيين، وحكم عليه في ثلاثينات القرن الماضي بالإعدام لوقوفه في وجه الزحف الكبير للقوات الفرنسية لإبادة ثوار دوما المطالبين باستقلال سورية.”

لم يابه الأبطال الثلاثة، أمين، وعبد الرزاق، وحسن، بالتضحية بانفسهم، على الرغم من قناعتهم بمصيرهم المحتوم تجاه وقوفهم إلى جانب آلاف من المناهضين الدمشقيين للاحتلال الفرنسي وإنقاذهم، ولابالموت في سبيل حماية هذا البلد الذي وطن العثمانيون فيه آباءهم من الشركس الذين هجرهم الروس من ديارهم واحتل وطنهم الأم أديغيا سنة 1864.

فهذه مقالة مكرسة لتخليد ذكراهم، ولتوثيق ما لم ولن يوثقه التاريخ، وتكريماً لأنصار المواطنة وحب الوطن، ونموذجاً للمقارنة مع ما أصبحنا عليه اليوم (2021) من فرقة وتشتت وأحقاد نتهم الغير بإيصالنا إليها… وذلك ضمن الأسطوانة المشروخة لمفهوم المؤامرة. ورحم الله رجالاتنا.

 دمشق 4-2-2021


اقرأ:

د. عادل عبدالسلام (لاش): معسكر جغرافي في الجزيرة العليا – شمال شرقي سورية 1981

د. عادل عبدالسلام (لاش): المواقيت والأزمنة عند الشركس

د. عادل عبدالسلام (لاش): العرس الأديغي (الشركسي) التقليدي في سورية

د. عادل عبد السلام (لاش) : تهجير الشركس إلى سورية وتوطينهم في شريط الليمس الشركسي

د. عادل عبد السلام: من جعبة الذاكرة.. المظاهرات الطلابية السورية

د. عادل عبد السلام: ظاهرة لغوية اجتماعية أديغية (شركسية)

د. عادل عبدالسلام (لاش) : بدايات كرة القدم في مرج السلطان

د. عادل عبد السلام : آداب الطعام و قواعد المائدة الشركسية

د. عادل عبد السلام : الحاتيون أسلاف الشركس 

د. عادل عبد السلام : حول الأمير الأديغي ينال الكبير، والسلطان الأديغي (الجركسي) الأشرف ينال العلائي

د. عادل عبد السلام (لاش) : على هامش أحداث الجزائر

د. عادل عبد السلام : أول مسجد في مرج السلطان

د. عادل عبدالسلام (لاش) : بين الجامعة والكلية الحربية وقاسم الخليل

د. عادل عبدالسلام (لاش) :مرج السلطان وعيد الأضحى

د. عادل عبدالسلام (لاش): في ذكرى إبادة الشركس

د. عادل عبدالسلام (لاش): نزوح الشراكسة من الجولان في صيف 1967

د. عادل عبدالسلام (لاش): رحلة مجانية أحن إلى مثلها

د. عادل عبد السلام (لاش) : يوم الحداد الشركسي

د. عادل عبد السلام (لاش) : رحلة شتوية إلى جبال صلنفة

د. عادل عبد السلام (لاش) – مسيرة تربوية تعليمية.. زرعنا فحصدنا

عادل عبد السلام (لاش): حكمت شريف حلمي شاشأه في ذكرى رحيله

د. عادل عبد السلام (لاش): غياض الحَور في مرج السلطان

د. عادل عبد السلام (لاش): اللواء محمد سعيد برتار رجل المهمات الصعبة والملمات الإنسانية

د. عادل عبد السلام (لاش): الضائقة المالية وقرار طردي من معهد غوتة

د. عادل عبد السلام (لاش) – حسن يلبرد

د. عادل عبدالسلام (لاش) : شكري القوتلي في مرج السلطان

د. عادل عبد السلام  لاش- مراحل رسم الحدود السياسية لسورية منذ زوال الإمبراطورية العثمانية

د. عادل عبد السلام (لاش) : من رجالات الشركس .. الفريق الركن أنور باشا أبزاخ

د. عادل عبد السلام (لاش) : صورة….. واعتقال



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

عادل عبد السلام

الدكتور عادل عبدالسلام لاش من أبناء قرية مرج السلطان، من مواليد عسال الورد عام 1933. يحمل دكتوراه في العلوم الجغرافية الطبيعية من جامعة برلين الحرة. وهو أستاذ في جامعة دمشق منذ عام 1965. له 32 كتاباً منشوراً و10 أمليات جامعية مطبوعة، بالإضافة إلى أكثر من 150 مقالة وبحث علمي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى