مقالات

عمرو الملاح : في ذكرى رحيلهِ .. علامة حلب الأسدي ورعاية محافظ حلب الشريف له

عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر

عرف عن العلامة محمد خير الدين الأسدي (1900-1971) أنه كان ينفق بسخاء على اقتناء الكتب على الرغم من ضيق ذات يده. وذلكم هو أمر أثر، بالإضافة إلى اعتناقه لآراء النباتيين، في وهن صحته ومرضه في العام 1945؛ فقرر أن يهب مكتبته الضخمة إلى مؤسسة خيرية تعيله لقاءها.

فما كان من إحسان الشريف الذي كان يشغل منصب محافظ حلب ورئيس بلديتها معاً آنذاك إلا أن زار الأسدي في منزله المتواضع وبرفقته كل من أمين سر البلدية المهندس مجد الدين الجابري ومدير دار الكتب الوطنية الشاعر عمر أبو ريشة، وحثه على أن يبادر إلى إهداء مكتبته القيمة الى دار الكتب الوطنية، بل وحرص على أن يجعله في عداد موظفيها، إدراكا منه للعوز الذي كان يعاني منه الأسدي يومئذ، وحاجته الماسة للمال من أجل مواصلة نشاطه في البحث والتأليف.

وسرعان ما اتخذت الإجراءات لنقل المكتبة إلى دار الكتب الوطنية لقاء هبة شهرية قدرها 150 ليرة سورية، مع إسناد وظيفة “قيّم فرع الاختصاص” إلى الأسدي لكي يرشِدَ الباحثين والمؤلفين إلى المراجع، على أن يتقاضى لقاء ذلك راتباً شهرياً قدره 250 ليرة سورية.

وما إن غادر إحسان الشريف منصبه في العام 1946 بالتزامن مع إعادة الفصل بين منصبي المحافظ ورئيس البلدية، حتى شجر خلاف لأسباب لا تزال غير معروفة لم يخرج المتداول منها على الألسنة يوماً عن نطاق الإشاعة بين الأسدي، الذي وإن كان رقيق الحال وينتمي إلى أسرة متواضعة، لكنه كان يتمتع بشخصية لها استقلاليتها، ولا تخلو من غرابة الأطوار، ومتحرراً إلى حد بعيد من الولاءات العائلية والحزبية التي طبعت المجتمع الحلبي بطابعها آنذاك، والمهندس مجد الدين الجابري المعين رئيساً للبلدية ذي الشخصية القوية والنزعة الأرستقراطية والقيادي في الحزب الوطني، الذي كانت تتبع له دار الكتب الوطنية آنذاك من الناحيتين التنظيمية والإدارية؛ فأقيل الأسدي من وظيفته وانقطع عنه مرتبها. ولعل المفارقة تكمن في أن نجل المهندس مجد الدين الجابري الفنان التشكيلي العالمي على الجابري (1942-2002) كان هو الآخر لا يقل عن الأسدي من حيث غرابة الأطوار قبل أن يغيبه الموت في ظروف غامضة في العاصمة الأردنية عمان.

ظل الأسدي يعيش على هبة المكتبة فحسب، وما يأتيه من تدريس بضع ساعات يُكلف بها، وحفنة من الأسهم، كان قد ابتاعها في الشركة السورية للغزل والنسيج لتكون له مورداً ثابتاً يمنع عنه شظف العيش وذل الحاجة. ثم توالت المصائب واشتدت المحن على الأسدي وتعاقبت عليه النكبات بتعاقب أنظمة الحكم، فشمل التأميم أسهمه في الشركة السورية، ثم ما لبث أن حُرِمَ من هبة المكتبة، هذا المبلغ الضئيل نتيجة تراجع القدرة الشرائية مع مرور الزمن؛ وذلك بموجب القرار الصادر عن المجلس البلدي في العام 1963 بذريعة أنه أخذ تعويضات توازي قيمة المكتبة أو تفوقها.

وغني عن القول إن إهداء الأسدي مكتبته القيمة، التي أشاد بها الكونت فيليب دي طرازي واعتبرها واحدة من أهم خزائن الكتب الخاصة في مدينة حلب في الأربعينيات من القرن المنصرم إلى دار الكتب الوطنية بحلب التابعة يومئذ للبلدية، وهي بعد في طور إعادة التأسيس والتطوير والإثراء والتزويد، يمثل منقبة تسجل للأسدي، لا سيما وأنه لم يتقاضى لقاء صنيعه هذا سوى مبلغ هبة سرعان ما انقطع عنه بعد سنوات قليلة.

والواقع إن تلك الرعاية النادرة للأسدي كانت تعد بحق مأثرة من مآثر المحافظ الشريف، الذي كان من خيرة من تعاقب على حكم مدينة حلب في القرن العشرين، وامتدت سنوات إشغاله لمنصبي المحافظ ورئيس البلدية معاً بين عامي 1944-1946، وإليه يعود الفضل في وضع الأساس للعديد من مشروعات البنى التحتية في المدينة، التي بوشر بتنفيذها في عهده ولكنها دُشّنت لاحقا بعد مغادرته منصبه، فجرى نسبها لغيره، بينما تناسى الحلبيون الدور المحوري الذي اضطلع به محافظهم الدمشقي الشريف في تنفيذ هذه المشروعات الحيوية، وتشتمل قائمة المشروعات البالغة الأهمية تلك على كل من الحديقة العامة، والملعب البلدي، وإنشاء شارع الملك فيصل الواصل بين الحديقة العامة وحديقة السبيل.

يُذكر أن إحسان الشريف (1893-1963) كان سياسياً سورياً من أهالي مدينة دمشق، وأحد كبار رجال القانون والإدارة، ومن مؤسسي الكتلة الوطنية، وقد انتخب نائباً عن دمشق (1928، و1932، و1936)، كما شغل عدداً من المناصب الرفيعة، من بينها تعيينه محافظاً لحلب (1944-1946)، ووزيراً مفوضاً في تركيا (1946-1949) في عهد الرئيس شكري القوتلي.


مراجع للاستزادة:

– أسعد كوراني (2000). ذكريات وخواطر مما رأيت وسمعت وفعلت. بيروت: دار رياض نجيب الريس؛

– بشير فنصة (1981). من نوادر ومناقب المعلم خير الدين الأسدي صاحب الموسوعة الكبرى المقارنة. دمشق: مجلة “الموقف الأدبي”؛

–  عبدالفتاح رواس قلعه جي (1980). العلامة خير الدين الأسدي: حياته وآثاره. دمشق: الناشر خاص؛

– فيليب دي طرازي (1947). خزائن الكتب العربية في الخافقين. بيروت: وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة؛

– محمد م. الأرناؤوط (1995). إسهام الأسدي في الكشف عن المفردات العربية في اللغات البلقانية. عمان: مجلة “مجمع اللغة العربية الأردني”.


اقرأ :

عمرو الملاّح: النخبة الحلبية تنظم أول معرض زراعي وصناعي في بلاد الشام عام 1903
عمرو الملاّح: قبل مئةٍ وخمسة عشر عاماً… غرفة تجارة وزراعة وصناعة حلب تنتخب إدارتها
عمرو الملاّح: محمد حسني بك الكوراني… رجل القضاء العثماني البارز
عمرو الملاّح: المخبر الكيماوي لمكافحة الغش ومستوصف مرعي باشا الملاح الخيري بحلب
عمرو الملاح: غلاة الطورانيين يهددون باغتيال أكبر أنجال مرعي باشا الملاح …  
عمرو الملاح: حسني بك باقي زادة ..أحد رواد السياسة في حلب العثمانية
عمرو الملاح: في الذكرى المئوية ليوم الاستقلال .. تعرف على الآباء المؤسسين للدولة السورية
من الأرشيف العثماني.. اليهود من تجار حلب يطالبون بإبقاء الملاح رئيسا لمحكمة التجارة
عمرو الملاّح : زكي الكوراني … حاكم دولة حلب المنسي
الدكتور رضا سعيد في ضيافة مرعي باشا الملاح عام 1925
مؤرخ حلب الغزّيّ ومنهجه في البحث التاريخي… كتاب نهر الذهب أنموذجاً
عمرو الملاّح: الشيخ كامل الغزّيّ.. مؤرخ حلب
عمرو الملاّح: هكذا ودع مندوب المفوض السامي الفرنسي بيوت حاكم دولة حلب المحلي الملاح
عمرو الملاّح : الفهم الصحيح للانتداب بوصفه مساعدة فنية اقتصادية .. الجنرال بيوت أنموذجاً
عمرو الملاّح : نواب مناطق بلاد الشام في مجلس النواب العثماني
 عمرو الملاّح : مائة عام على إنقاذ فندق بارون من الدمار
عمرو الملاّح : الوزير وأمير الأمراء.. باشوات حلب في عصر التنظيمات العثمانية
عمرو الملاَح : مجموعة الطوابع التذكارية المهداة إلى مرعي باشا الملاح
عمرو الملاّح : حديقة مرعي باشا الملاح بحلب
عمرو الملاّح : الآباء الدستوريون المؤسسون للدولة السورية الأولى
عمرو الملاّح : حلب في العام 1926.. المتحف القديم أو قصر الناعورة
عمرو الملاَح: الصورة الرسمية لنائب حلب مرعي باشا الملاح في مجلس المبعوثان
عمرو الملاَح : البطاقة النيابية العثمانية لمرعي باشا الملاح
 عمرو الملاّح:سنجق الاسكندرون لا يفصل عن حلب
عمرو الملاّح : حلب بين الأمس القريب واليوم
عمرو الملاح: قصر والي حلب المشير جميل باشا- قناق الملاح
عمرو الملاّح :مراسم تلاوة الفرمان السلطاني بتعيين ولاة حلب العثمانيين
عمرو الملاّح : حديقة مرعي باشا الملاح بحلب.. من التخريب المنهجي إلى الإزالة
عمرو الملاّح : فارس الخوري
عمرو الملاّح : يوم هب رجالات سورية للذود عن الأقصى والدفاع عنه عام 1911
عمرو الملاّح : حلب- عمارة نصري البلدي 1920
عمرو الملاّح: محمد خليل المدرس.. رائد الصناعات النسيجية في سوريا

عمرو الملاح

كاتب ومترجم وباحث في التاريخ السوري المعاصر
زر الذهاب إلى الأعلى