من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
انصرفت في العام الدراسي الجديد لدراسة مواد القسم الأول من البكالوريا – الفرع الأدبي – باھتمام كبیر، وكنت، إلى جانب البرنامج المدرسي، ألتھم كتب الأدب والتاريخ والعلوم السیاسیة والاجتماعیة، فاقرأ كتب بعض المفكرين العرب وما يترجم للمفكرين الأجانب.
كانت البكالوريا الأولى عائقا أمام الطلاب يصعب اجتیازه لمتابعة تحصیلھم العالي. فقد تقدمنا للامتحان وعددنا 250 طالبا من جمیع أنحاء سوريا، فكنت أحد الناجحین من بین 25 طالبا فقط.
تعرفت في تلك السنة على خالد بكداش، وكان يسبقني في القسم الثاني (بكالوريا رياضیات) مع رفاقه نظیم الموصلي وجمال الفرا وأنور النعمان … الخ.
ولم تخل دراستي في مكتب عنبر من بعض المشاكل الصبیانیة، فقد اصطدمنا نحن الطلاب الحمويین مع طلاب دير الزور، واشتبكنا لیلا في عراك معھم نتضارب بأحطاب الموقد المشتعلة، مما اضطر مدير المدرسة عبد الحمید الحراكي لمعاقبتنا بالطرد من القسم اللیلي لمدة شھر، بعد أن قال لنا بلھجته الحمصیة اللطیفة : “لا تظنوا أنكم أنتم الحموية أقوياء، فأنا ولله لو ضربت رأسي بھذا الحیط لنفذت منه”.
كان مدير مكتب عنبر عبد الحمید الحراكي طويلا مھیبا طیب القلب خفیف الظل حتى في احرج الحالات، فقد قمت ذات مرة مع برھان الأتاسي بتحريض الطلاب على الاضراب والتظاھر ضد الانتداب في احدى المناسبات.. واتجھنا، والطلاب وراءنا، نحو باب المدرسة نريد فتحه لتنطلق مظاھرتنا الى الشارع، فاعترضنا المدير عند الباب وسألنا : ماذا تريدون؟ فقال له الأتاسي بعصبیة وحدة رافعا يده إلى وجھه: نريد استقلالنا .. فقال له الحراكي ببرود : خذ استقلالك .
ومد يده إلى جیبه لیناوله الاستقلال.
تولى تدريسنا في “مكتب عنبر” كبار الأساتذة كالاستاذ سلیم الجندي الذي كان عضوا في المجمع العلمي العربي ومختصا بدراسة ابي العلاء المعري، والشیخ عبد القادر المبارك عضو المجمع العلمي العربي أيضا وأستاذ الفقه واللغة، وبتأثیرھما توثقت الصلات الثقافیة والفكرية بیني وبین أبي العلاء المعري وأبي الطیب المتنبي.
كما لفتت محاضرات الاستاذ عبد القادر المبارك أنظارنا للاھتمام بدراسة المتصوفة العرب وأشعارھم، كالحلاج وابن عربي، وقد كان المبارك أكثر من عرفت فھما لھؤلاء الفلاسفة العظام، ولا شك أن ماسینیون المستشرق الفرنسي الذي كان لا ينقطع اتصاله بالمجمع العلمي العربي استفاد فائدة كبرى من اتصاله بعبد القادر المبارك في فھم التصوف العربي الاسلامي واستیعابه … فلم يكن ھؤلاء المتصوفة أصحاب طرق بل كانوا فلاسفة كبارا. ولم يكونوا سلبیین بل كانوا مناضلین وشھداء، وكان لمحاضرات المبارك عنھم تأثیر كبیر في نفوسنا.
كان للأستاذين الجندي والمبارك ذاكرة خارقة، فكثیرا ما كنا نخرج الألفاظ المھجورة من “لسان العرب” والفیروزبادي ونسألھم عن معناھا، ولا أتذكر أن أيا منھما أخطأ في الاجابة أو عجز عنھا مرة واحدة، بل كانا يزيدان على القوامیس في تفسیر وايضاح معاني تلك المفردات، متتبعین أصولھا واشتقاقاتھا، مستشھدين بالقرآن الكريم والحديث والشعر القديم.
وكانت ھذه الاسئلة إحدى الھوايات التي نماھا لدينا الاستاذ عمر يحیى في دار العلم والتربیة بحماه، وقد كان الاستاذ عمر يحیى من طراز ھؤلاء العلماء في اللغة والأدب.
في صف البكالوريا الثانیة :
اجتمع في صف البكالوريا الثانیة كل الطلاب الذين نجحوا في البكالوريا الأولى، من مختلف المدن السورية، فتوطدت أواصر المعرفة والصداقة بیني وبینھم، وكانت السنة الدراسیة غنیة جدا ببرنامجھا الكثیف، وكنت أصغي بشغف واندھاش لمحاضرات الاستاذ جمیل صلیبا القیمة الجذابة في علم النفس والاجتماع وما وراء الطبیعة والمنطق والفلسفة وعلم الجمال والأخلاق، وھي المواد التي كان يدرسنا إياھا … وكان اساتذة المواد الأخرى من خیرة أساتذة سوريا ومعظمھم من المختصین في معاھد باريس العلیا، سواء بالفلسفة أو العلوم.
أما اللغة الفرنسیة فكان يتولى تدريسھا المسیوغولمیه والمسیوتريس. كان المسیوغولمییه شابا واسع الاطلاع والثقافة، مختصا بالفلسفة، لطیفا مھذبا، أما المسیوتريس فقد كان محدود التفكیر لئیم الطباع، وكانت أكثر دروسه تمضي للھزء والسخرية بنا وبإضراباتنا ووطنیتنا التي يعتبرھا شغبا وكسلا وتزجیة للوقت، وكنا نتصور فیه كل مساويء الانتداب الفرنسي وغطرسته وعجرفته وحقده على العروبة وعلى البلاد.
وقد استفدنا من منھجیة المسیوغولمییه العلمیة في الكتابة والتفكیر. كان يشبه الكتابة بالبناء الذي يجب أن يوضع له التصمیم قبل انشائه، وكان يدرك الطريقة العربیة السائدة في الإنشاء آنذاك، إذ يبدأ الكاتب بالإنشاء قبل التفكیر بالموضوع وقبل أن يضع مخططا له، فیؤخذ بالعبارة واللفظة ويصبح الفكر تابعا للعبارة مقودا بھا سائرا وراءھا.
ولا شك أن دراسة الأدب الفرنسي واللغة الفرنسیة والنصوص الفلسفیة أفادتنا كثیرا في فھم المنھجیة العلمیة في التفكیر والكتابة.
لم أر المسیو غولمییه بعد تخرجي إلا مرة واحدة عام 1935 ، في إبان الأزمة بیننا وبین الفرنسیین، شاھدته مارا في الطريق بدمشق فتجاھلته نظرا للحقد الذي كان يغلي في عروقنا على الفرنسیین عامة في ذلك الوقت.
وفي عام 1965 ، أي بعد عامین من انقلاب الثامن من آذار، ذھبت الى فرنسا للتداوي، بعدما أفرج عني من السجن بسبب المرض، فدعاني الطلاب العرب إلى ستراسبورغ وأخبروني بأن المسیو غولمییه أصبح أستاذا في الجامعة، وأنه ما زال وفیا لسوريا ومحبا لھا، وأن ذلك يتجلى في محاضراته التي يتحدث فیھا عن ذكرياته ويحمل فیھا حملة كبیرة على السیاسة الاستعمارية الفرنسیة وحماقاتھا وارتكاباتھا، وقد حمل فرنسا عار تأخر سوريا ربع قرن، وضرب مثلا ما شاھده من تقدم في سوريا حین زارھا بعد الاستقلال بسنوات قلیلة، فأشاد إشادة كبیرة بنھضتھا وتقدمھا مما يبلغ حدود الإعجاز بالنسبة لضعف إمكانیاتھا. ومن سوء الحظ أنني لم أجتمع بالمسیو غولمییه في ستراسبورغ لأنه كان مسافرا.
حزت على أرفع العلامات في الفحص التحريري بالبكالوريا دون أن ارجع إلى أكداس “النوط” التي دوناھا عن محاضرات الأستاذ جمیل صلیبا. وفي الفحص الشفھي تولى امتحاننا الاستاذ صلیبا ومستشرق فرنسي كان أستاذا في معھد اللايیك، دخل معي في نقاش، تاركا الأسئلة الروتینیة جانبا، فكنت جريئا في مناقشتي له، فسألني من أي معھد أنت؟ فقال له الأستاذ صلیبا: إنه من تلامیذي، فھنأه أمامي.
بعد نجاحي في البكالوريا الثانیة عدت إلى حماه لقضاء صیف عام 1930 ، وفي تلك الفترة تعرفت لأول مرة على الاستاذ زكي الأرسوزي، عندما دعانا عثمان العلواني مع رفاقه الحمويین الذين يدرسون في تجھیز حلب إلى غداء أقامه على شرف استاذه الأرسوزي، وكان العلواني ورفاقه يتحدثون عنه بإعجاب شديد. كان الأرسوزي شابا لطیفا مثقفا ومحدثا مؤثرا الى درجة بعیدة نظرا لما كان يتخلل حديثه من النكات والصور الفنیة المعبرة
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة