مختارات من الكتب
مروان حبش: حركة 23 شباط .. شرخ في القيادة القطرية وبين القيادتين (7)
من كتاب البعث وثورة آذار
كانت لمناسبة انعقاد مؤتمر القمة الثالث في الدار البيضاء في يوم الاثنين 2 أيلول 1965، ومشاركة الأمين العام منيف الرزاز فيه بشكل غير مباشر “سافر مع الوفد السوري ولكنه لم يحضر جلسات المؤتمر”، وما صدر عنه من مقررات، وما رافق تلك المقررات من قلق وتساؤل وتشويش متزايد، وبسبب عدم إعلان القيادة القومية عن موقف الحزب من قراراته فور انتهائه، كل ذلك أدى إلى نقاش بين الحزبيين وساعد على تبادل الاتهامات، وخاصة أن الوفد السوري، وبموافقة الأمين العام، قد وقع على (ميثاق التضامن العربي)، والذي يعني سكوت الحزب وحكمه عن مواقف الانحراف التي تقفها بعض الدول العربية من القضية الفلسطينية،كما أن هذا الميثاق سيساعد هذه الدول على تصفية القوى والحركات التقدمية والثورية في بلدانها، دون أن يكون للحزب وحكمه أي حق في توضيح ما يحدث، وإذا حصل ذلك فمعناه (تدخل في الشؤون الداخلية)، لأن ميثاق التضامن المذكور يمنع التدخل في الشؤون الداخلية،كل ذلك أدى إلى توسيع شقة الخلاف بين القيادة القطرية وأمينها من جهة، وبينها وبين القيادة القومية من جهة ثانية.
بدأ الأمين القطري أمين الحافظ يرسم لنفسه اتجاهاً مغايراً لاتجاه القيادة القطرية، وأخذ يعمل ضدها بالتحالف مع القيادة القومية، وبالأحرى، اللجوء إليها وهو عضو فيها.
وكانت القيادة القومية، حسب رأيها، تريد مجابهة القيادة القطرية والعمل على تهديمها، لأنها مُسيَّرة من قبل اللواء صلاح جديد، من جهة، ولأن أكثريتها من القطريين من جهة ثانية، “ومن المفيد التوضيح بأن اثنين فقط من أعضاء القيادة القطرية المنتخبة كانا ينتميان إلى التنظيم الذي سُمي “قطرياً”، وهما فايز الجاسم وحسام حيزة.
أما الأمين العام منيف الرزاز حسب قوله،كانت له مخططاته لإعادة بناء السلطة الحقيقية للقيادة القومية، ومن أجل ذلك كان عليه مجابهة طرفين، الطرف الأول هو القيادة القطرية، والطرف الثاني يشمل مؤسِسَي الحزب الأستاذين (عفلق والبيطار) اللذين يضغطان عليه وعلى آخرين في القيادة القومية من أجل طرد “المنحرفين”، أي القيادة القطرية ومن يشاركها في المواقف التي أقرتها المؤتمرات الحزبية.
عاشت الثورة خلال سنواتها الثلاث الفائتة أزمات معقدة عرقلت مسيرتها، ومنعت انطلاقها، ولقد توالت المؤتمرات العادية والاستثنائية، القومية والقطرية، وتتابعت التقارير والمذكرات الوصفية والتحليلية، وكلها تشير إلى وجود أزمة مستحكمة تتفاقم يوماً بعد يوم، حتى باتت تنذر بوقوع كارثة قومية محتمة، وأن التناقض والنزوع إلى السلطة وصل حداً بالغ الخطورة، وكانت الأبعاد الأساسية لمعالم الأزمة تكمن في الحزب ومنه تمتد إلى الحكم والجيش، ولقد أورد التقرير التنظيمي الذي أقره المؤتمر القطري الثاني في قطر سورية، المنعقد مابين 17 آذار – 5 نيسان 1965, والذي صوّت المؤتمر على عدم اطلاع القواعد الحزبية على مضمونه آنذاك بسبب ولوجه صميم الأزمة استجابة لإصرار أعضاء القيادة القومية الذين حضروا المؤتمر ومنهم الدكتور منيف الرزاز، وأقر المؤتمر ما يلي:
ـ عدم تعميم التقرير التنظيمي المقدم إلى هذا المؤتمر على القواعد الحزبية، خاصة وأن المؤتمر اتخذ قراراً بعدم إخراج التقارير خارج قاعة الاجتماعات بقصد السرية.
ومما جاء في التقرير المذكور :
(إن الثورة التي قادها حزبنا في هذا القطر لم تكن حصيلة تطور شامل لفّ الأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية وحركها نحو الهدف، وإنما كانت وليدة سمعة الحزب ومكانته المعنوية في نفوس الجماهير، إضافة إلى صمود رفاقنا العسكريين البطولي، بمعنى أنها لم تكن وليدة قوى الحزب المنظمة المباشرة الذي جعلنا نواجه مهاماً جسيمة وشاقة في بناء الحزب والحفاظ على الثورة.
إنّ حزبنا أيها الرفاق على مفترق الطرق، فهو إما أن يقف وقفة الحزب الثوري بكل ما في كلمة الثورية من معان، وإما أن يتحول إلى حزب كلاسيكي عقيم تماماً كتلك الأحزاب التي طوت الجماهير صحائفها وباتت في صفائح المهملات، ولذلك لابد أن نجابه أنفسنا بكل الحقائق ومهما كانت مرة قاسية، وندخل تجديداً كاملاً وعميقاً وجدياً على وضع حزبنا التنظيمي، نرفع به من المستويات النضالية والفكرية للأعضاء والمنظمات، وبالتالي نصل إلى خلق علاقات حيّة عضوية بين الحزب كتنظيم والجماهير اللا حزبية بغية قيادتها قيادة أمينة وواعية إلى تحقيق أهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية).
وورد فيه أيضاً:
(إن عدم وجود دليل نظري واحد علمي ومحدد للحزب، فسح المجال أمام بعض القياديين لكي يُنصّبوا أنفسهم أوصياء على الحزب، ويجعلوا من كتاباتهم الخاصة دليلاً نظرياً حتى أصبحوا بنظر أنفسهم هم الحزب, وأصبح الولاء لهم مقياس الولاء للحزب, هكذا تحول تاريخ الحزب إلى تاريخ هؤلاء الأشخاص، فانسجام الحزب يعني انسجامهم، وانشقاقه يعني اختلافهم وانقسامهم.
إن مشكلة منطق الوصاية على الحزب قد أفسد كل المفاهيم و القيم الحزبية في التنظيم، وغدت توزع الألقاب على الحزبيين بسخاء، هذه مجموعة زيد، وتلك مجموعة عمرو، هذا قطري وذاك قومي، والآخر سعدي إلى ما هنالك، من هو القطري ومن هو السعدي ومن هو القومي؟).
ويستمر التقرير موضحاً:
(إن الإخلاص للحقيقة والأخلاق ولقضية الجماهير ولبناء الحزب بناءً ثورياً صحيحاً، يوجب على من جعلوا من أنفسهم المقياس الذي لا يخطئ للحزب، أن يفطنوا وأن يقبلوا أنفسهم مجرد أعضاء في هذا الحزب لهم منظمتهم التي تتسع لكل آرائهم وآراء غيرهم، وأن يحترموا مواقف وآراء الآخرين وأن يسمحوا للعلاقات الموضوعية أن تسود وللديمقراطية أن تقرر، وألا يجعلوا من المنظمات القومية، التي لا يعرِف عددها ولا طبيعتها غيرهم، مِجنّاً يختبئون خلفه كلما تزعزعت مواقفهم في منظماتهم القطرية،لأن هذه الانقسامات التي كان مسرحها الحزب في هذا القطر، سوف تنتقل، وقد بدأت، إلى باقي الأقطار ولن تكون نتيجة أي انقسام في صالح الحزب مهما كانت أسباب ودوافع هذا الانقسام.
ويقول التقرير :
(…لقد مرّ على تاريخ حزبنا أيها الرفاق حدثان بل نكبتان، كانتا كفيلتين بأن تهزّا ضمير أي حزبي حتى الأعماق وتدفعا به إلى التفتيش الجدي عن مكان الضعف في حزبه، التي سمحت لمثل هاتين النكبتين أن تقعا، وإلى تحديد المسؤولية بجرأة وحزم ورجولة، وإيقاع المحاسبة الحزبية العاجلة بحق كل المسؤولين عن تشويه تاريخ حزبنا النضالي، هاتان النكبتان هما 28 أيلول 1961 و18 تشرين الأول 1963، باعتبار أن قبول حل الحزب كان هو البداية المنتظرة لمثل تلك النهاية المؤلمة لتلك الوحدة …، و18 تشرين على اعتبارها طعناً صحيحاً لا لنضال الحزب طوال ربع قرن فحسب، وإنما طعناً لأماني الأمة العربية بأسرها في ثورة رائدة أصيلة، كانت ستغير ميزان القوى في كل المنطقة العربية وتخلق منها مناخاً قومياً تفيء إلى ظلاله كل القوى الشعبية التقدمية في الوطن العربي المؤمنة بالوحدة والحرية والاشتراكية).
وفي المؤتمر القطري الثاني بدورته الاستثنائية في آب 1965، طُرحت معظم جوانب الأزمة بشكل قريب من الصراحة والوضوح، ولكن القادة التاريخيين استمروا على نهجهم في تصعيد وتوتير الأجواء بغية الوصول إلى ما خططوه، حتى جاء موعد انعقاد المجلس الاستشاري القومي للحزب بتاريخ 25 تشرين الأول 1965، إذ تقدمت القيادة القطرية في القطر السوري بمذكرة أشارت فيها بشكل واضح وصريح إلى (إرهاصات المرحلة القادمة، والتي بدأت تتجسد ببروز ظواهر وتصرفات وأجواء مشبوهة ومشحونة تحاكي الظواهر والتصرفات والأجواء نفسها التي رافقت الردة التشرينية في القطر العراقي، كما أن من الظواهر المرضية التي بدأ يعاني منها الحزب، إعلان التبرم والسخط على الحزب وعلى الحكم والتنصل من مسؤولية قيادة الحزب والحكم، ومحاولة الكتل العسكرية استخدام الحزب كوسيلة للغلبة على بعضها، كما أن الأزمات التي مرت بالتنظيم الحزبي على النطاق القومي، والانشقاقات التي كانت تؤدي دوماً إلى فصل مستمر لكوادر قيادية في الحزب وتشتت الفكر الحزبي، وضعف الارتباط، وعدم قناعة بعض الحزبيين القياديين بمقررات المؤتمرات، كل ذلك أدى إلى تفاقم التناقض وإذكائه في جناحي التنظيم الحزبي المدني والعسكري).
كما أشارت المذكرة إلى أن القيادة القطرية (تواجه محاربة عنيدة من الكتل الحزبية في القطاعين المدني والعسكري ومن الطامعين وممن قدر لهم الفشل في الانتخابات الحزبية، وأن القيادة ترى أن لا سبيل إلى القيام بمهمتها إلا بعد الانطلاق من منطلق أساسي ورئيسي وهو وحدة القيادة وتوحيد وجهة نظرها في مختلف القضايا المطروحة).
واقترحت القيادة القطرية في آخر المذكرة عدداً من الحلول منها:
ـ توضيح العلاقة بين مختلف المنظمات الحزبية بشكل لا يترك مجالاً للاجتهاد والتداخل.
ـ إعطاء صلاحيات كاملة للقيادة القطرية في قيادة القطر سياسياً وتنظيمياً لتبقى مسؤولة مسؤولية مباشرة، ولحذف كل محاولات التخطي واستغلال تبني القيادات أو ما يخفي وراء ذلك من نوازع وأمزجة.
ـ دعم القيادة القومية للقيادة القطرية قولاً وفعلاً وفي مختلف المناسبات.
ـ تحقيق الانسجام والتفاعل الكامل بين القيادة القومية والقيادة القطرية لتوحيد وجهات النظر والمواقف.
ولقد أيّد المجلس الاستشاري القومي الطروحات الواردة في مذكرة القيادة القطرية للقطر السوري، ولكن بعض الرفاق وعلى رأسهم الأستاذ صلاح البيطار، استمر في استقوائه على الحزب بالتنظيمات السياسية الأخرى، وفتح معها قنوات اتصال دون الرجوع إلى القيادات الحزبية المسؤولة، واستغلت القوى المعادية هذه الأجواء، وبدأت نشاطاً محموماً، ونشرت شائعات مضخمة ومختلقة عن الخلافات القائمة ضمن الحزب.
تبين النصوص المقتبسة من مقررات وتوصيات المؤتمرات الحزبية، أن الأزمة مزمنة بين قواعد الحزب وقادته التاريخيين، فالقواعد الحزبية ترى أن قومية الحزب منبثقة من إيمان جميع مناضليه بهذه الحقيقة التاريخية، وليست مرتبطة بأشخاص معينين، وأن حقيقة الحزب القومية تاريخية ولا يمكن لأحد الادعاء بأنه شعار هذه الحقيقة.
كما أن شرعية الحزب لا تؤخذ من موقف شخص بعينه، بل الشرعية تكمن في مدى التمسك بمقررات مؤتمرات الحزب وبنظامه الداخلي، حتى لا يكون الحزب تحت وصاية أشخاص، كما كان الأمر حتى 1954حيث وضع أول نظام داخلي، كما أنه لا يجوز لأي شخص أن يضع نفسه في كفة مقابلة لكفة الحزب، ويقرن مصير الحزب بمصيره، ولهذا فإن المؤتمر القومي الثامن أقر: (أن الحلول لأية قضية في الحزب يجب أن تأتي دوماً من خلال الحزب ومن خلال مؤتمراته القومية).
وكذلك الحال في الديمقراطية الحزبية الحقيقية، فإنها تكون في الابتعاد وفي نفي اعتبار الحزبية ملكية شخصية تدار من خلال منطق الوصاية والولاء الشخصي، هذا المنطق الذي مُورس في سلوك التنظيم لمرحلة طويلة من حياة الحزب، ولا يُستثنى من ذلك أيضاً الادعاء بأن أهداف الحزب وشعاراته هي من إبداع القادة التاريخيين شخصياً، بينما هي إملاء من واقع النضال العربي في احتكاكه مع معطيات العصر الحديث، وأن هذه الشعارات هي المضمون التقدمي للقومية العربية.
إن نظرة القادة التاريخيين هذه، انعكست على سلوكهم وعلى العلاقات التي يمارسونها فيما بينهم كأشخاص، أو فيما بينهم وبين القاعدة الحزبية التي يشعرون إزاءها بواجبات الأبوة وحقوقها، وما تستلزمه من رعاية وتوجيه وانتقاص واستهانة بقدرتها على التصرف المعقول، كما نظروا الى الحزب كملكيات خاصة لهم، وليس إلى الحزب ككائن اجتماعي خاضع في نشوئه وتطوره لعملية نمو طبيعي يتسارع بالمعارك التي يخوضها وبالتحديات التي يواجهها، وإذا لم يواكب الحزب ذلك فإنه سينحرف حتى عن مبرر وجوده كحزب مؤهل للبقاء في مواقع القدرة على قيادة الجماهير.
كان القادة التاريخيون يعمدون إلى قسر الحزب ليكون مُفَصّلاً على تكوينهم ويدأبون ليوقفوا الحزب في المواقع التي يريدونها وتُمَكنهم من استمرار قيادتهم، ويستخدمون الولاءات الشخصية والاستعانة بتنظيم الحزب في قطر ضد التنظيم في قطر آخر، وكذلك كانوا لا يعترفون بفكر ليس من
نتاجهم ولا بإنجاز إلا إذا كان من إبداعهم، وهكذا كان الصراع يتأزم بسبب هذا الإصرار، الإصرار على إبقاء التنظيم عند حد إرادتهم ومفاهيمهم الخاصة .
لقد ورد مفهوم هؤلاء في كراس صدر عن تنظيم الأستاذ ميشيل عفلق بعنوان (تقييم أزمة الحزب) وكانوا يرون أن (بداية “التصحيح” هي إيجاد بيت تحتمي فيه فكرة الحزب أو جسد لهذه الفكرة توفر الحد الأدنى من القوة الرادعة للمغامرين والطامعين والمخربين، أي إيجاد بنيان ثوري للحزب وبداية البداية هي إيجاد رأس لجسد الفكرة أي قيادة لها قائد، وهذه هي القيادة الجماعية بالمعنى الصحيح)، ويرون أن (قيادة لها قائد لا تعني أن القيادة تتكون من قائد وزلم أو صنائع، وإنما قيادة من قادة يعترفون لواحد منهم أنه جدير بقيادتهم وبالمركز الأول والكفاءة الأولى)، والمقصود بذلك القائد الأستاذ ميشيل عفلق.
ووجهة النظر هذه ما كان ليقرها الأستاذ صلاح الذي تعرض لنقد دائم من الأستاذ ميشيل ومؤيديه، وكان العديد من قواعد الحزب يُحَمّلون الأستاذ ميشيل مسؤولية التخبطات الكثيرة التي أضعفت الحزب بدءاً من رسالته إلى حسني الزعيم مروراً بقرار الموافقة على حل الحزب تنفيذاً لإصرار عبد الناصر، إلى دوره في انقلاب 18 تشرين في العراق، ويرون أنه أمام هذه التخبطات كان عليه أن يعتزل العمل السياسي – حسب وجهة نظر بعضهم – ولكنه بدل ذلك، كان يصر على اعتبار نفسه بأنه يمثل “الصحيح” في الحزب، ويقول: (إن الحزب عجز عن الانقلاب على أمراضه وتباطأ في إجراء هذا الانقلاب، فانقلبت أمراضه عليه وتغلبت على بقايا الصحة فيه)، وبدل أن ينقد سلوكه بعد حركة 23 شباط، عاد وألقى اللوم على الحزب، وقال: (إن حركة 23 شباط هي عقاب أخير للحزب على تأخره في إعادة النظر في تجربته وفي الارتفاع إلى مستوى رسالته).
إذاً، قد نصّب بعض القياديين من أنفسهم أوصياء على الحزب وجعلوا من كتاباتهم دليلاً نظرياً له حتى أصبحوا بنظر أنفسهم هم الحزب، وغدا الولاء لهم قياساً للولاء للحزب، وهكذا تحول تاريخ الحزب إلى تاريخ أشخاص وانسجام الحزب يعني انسجامهم، وانشقاقه يعني اختلافهم وانقسامهم، وأضحى السعي لإقامة هيكل تنظيمي للحزب تُعْطى فيه المؤسسة دورها المفروض، عملاً موجهاً ضد أشخاصهم، حتى إن الحزب الذي تأسس رسمياً عام1947، بقي دون نظام داخلي لمدة سبع سنوات، و لم يطبق هذا النظام بعد أن وُجِد إلا في السنوات الأخيرة وبصورة مجزأة شكلاً ومضموناً.
إن الأزمة، كما يتبين، قديمة في الحزب الذي شهد انشطارات كثيرة نتيجة ذلك، إضافة إلى الغموض في الفكر النظري الذي طرحه وقصور في الأداة والأسلوب الذي مارسه، مما سبب للحزب أثناء مسيرته أزمة تزداد حدة مع نمو بذور التطور، ومع متطلبات المرحلة التي يمر بها الواقع العربي، وقد تجلت هذه الأزمة بمظاهر واضحة رافقت الحزب فكراً وتنظيماً وأسلوباً، ولا تزال هذه الأزمة، نظراً لتقلص أبعادها على السطح وامتدادها في العمق، تتطلب فهماً واستيعاباً شاملين لأسبابها ومظاهرها، وتتطلب حلولاً جذرية تُخَلِّص الحزب منها ليتحقق له الانسجام الكامل بين نظريته وتنظيمه وأسلوبه النضالي.
أخذ الفريق أمين الحافظ يستقوي بالقيادة القومية، والتقى موقفه مصلحياً مع موقف الأستاذ ميشيل عفلق الذي يريد إعادة الحزب إلى (بيت الطاعة الشخصية)، بينما كان الفريق الحافظ وتكتله العسكري يطمحون إلى إخضاع السلطة إلى (بيت الطاعة الفردية)، وكانت القيادة القطرية ترى أن من واجب أمينها القطري الالتزام برأي الأكثرية في القيادة، وذلك تمتيناً للقيادة الجماعية ودعماً لها ولصلاحياتها، لا أن يتفرد ويؤلب عليها القيادة القومية، كما أن الفريق أمين الحافظ كان يجري مفاوضات سرية مع الأستاذ صلاح البيطار، الذي كان بدوره، قد أجرى مفاوضات في صيف هذا العام1965 وبمعرفة الأستاذ ميشيل عفلق مع اللواء محمد عمران، الذي كان قد أوحى إلى فئة من الضباط من أنصاره كي يزينوا للأستاذ البيطار بأن الجيش كله مع القيادة القومية.
أما الأمين العام منيف الرزاز، فقد تحول تحت الضغوط التي مارسها عليه كل من الأستاذين ميشيل وصلاح، من مادح للقيادة القطرية ولنشاطاتها ومن معجب بما فيها من حيوية وبما حققته خلال فترة قصيرة، تحول إلى ذام وقادح (8)، وأصبح أعضاء القيادة القطرية،في نظره، منحرفين.
إن الأمين العام، الذي كان يتهمه الأستاذ ميشيل بأنه (يحب السلطة والظهور والمراوغة والتهرب)، قد أعطى لنفسه دوراً أكبر من حقيقتة بكثير، كما تصور نفسه منقذاً، وأنه بعصاه السحرية سيتغلب على العقبات، ولكن الأزمة أثبتت سرعة تقلّبه، وعدم ثبات مواقفه، وانغمس في السياسة الرامية إلى تصعيد الخلاف والتأزم، تلك السياسة التي كان الأستاذ صلاح يُحرض عليها، رغم تأكيدات الدكتور الرزاز بأن قواعد الحزب لا تريد هذا التأزم ولا تؤيده، لا داخل القطر السوري ولا خارجه، ويقول: (وطلب الأستاذان من القيادة القومية أن تُعلن وقف النظام الداخلي، وأن تُعيّن قيادة قطرية جديدة على مسؤوليتها، فيها الأستاذ صلاح، ولكننا رفضنا تحمل هذه المسؤولية، مسؤولية مخالفة صريحة واضحة لتقاليد النظام). ويعود إلى القول: (وهكذا بعد أن كنّا نضع آمالاً كبيرة على تحقيق هذه الخطوة في سبيل التصحيح، انقلبت هذه الخطوة علينا، وإذ بنا ننتكس من جديد، بسبب الموقف المتعنت الذي وقفه الأستاذ صلاح ولم أُخْفِ رأيي هذا عن الأستاذين في ذلك الوقت ولا بعده، وحمّلتهما مسؤولية هذه النكسة).
بعد عودة القائد المؤسس ميشيل عفلق من رحلة الحرد الثانية، قال: (لم أصمم على العودة من برلين إلا بعد أن كتب لي الرفاق، ثم ذهب الرفيق شبلي ليؤكد لي بأن القيادة القومية قد اقتنعت بوجهة نظري)، وعلى إثر عودته، قررت القيادة القومية بدءاً من 8/12/1965، فتح دورة من الاجتماعات لا تتوقف إلا بالوصول إلى حل ما، وعقد في بداية الدورة اجتماع مشترك بين القيادتين، وتحدث أعضاء القيادة القطرية جميعاً، وأكدت الأكثرية تضامنها وإجماعها على أن ما تنوي القيادة القومية القيام به بالتعاون مع الأستاذ صلاح واللواء عمران، وهما ليسا عضوين في القيادة، سيخلق أزمة حادة تضاف إلى الأزمات المتراكمة، واستمرت القيادة القومية في اجتماعاتها اليومية، (وكان النقاش يطول بشكل مزعج ومثير للأعصاب، ويهبط إلى مستوى لا يصدق، ولاسيما حين يحتدم النقاش بين الفريق أمين واللواء حافظ أسد، ويتبادلان التهم والتهديدات)، و (كان التعقيد بعد ذلك في الوصول إلى الحلول السياسية، فقد كانت هناك حركة ضاغطة قوية لحل القيادة القطرية، وتعيين قيادة قطرية جديدة بعد أن سلكت هذه القيادة سلوكاً أبعدها عن أن تكون مؤسسة قيادية حزبية، وجعلها آلة طيّعة في يد شخص واحد هو اللواء صلاح جديد، وكان الأستاذان ميشيل وصلاح وكل أصحاب الاتجاه القومي المستبعدون يضغطون ضغطاً شديداً لحل القيادة)، و(كان الفريق أمين الحافظ والأستاذ شبلي العيسمي وعلي غنام يضغطون ضغطاً مماثلا داخل القيادة)، (أما نحن أكثرية القيادة القومية ومنها منصور الأطرش وجبران مجدلاني والدكتور على الخليل وأنا فقد كنا نريد أن نرمي بأبصارنا إلى ما بعد الحل، أين هي قوانا الحزبية التي نطمئن إليها؟ هل نطمئن إلى الفريق تمام الاطمئنان، وهو يقف الآن مع القيادة القومية، وقد كان قبل خلافه مع جديد، رأس اللجنة العسكرية، وكان معروفاً بنزقه وتفرده … أم هل نطمئن إلى عمران الذي كان يعرفه الجميع بالقدرة على التلون والتبدل والعمل وراء الكواليس؟ أما الأستاذ صلاح فقد كنا نعلم كفاءته وقدرته في الحكم، ولكننا كنا نعلم أيضا أن قواعد الحزب والجيش قد عُبِئت ضده تعبئة عظيمة سواء عن حق أم عن غير حق) (11).