من مذكرات أكرم الحوراني – الإنكليز والفرنسيون في حماة
الإنكليز في حماة
في جو حزين كئیب أسود دخل الفرنسیون الى حماه، فكانت المرة الثانیة التي أشاھد فیھا جیوشا أجنبیة تحتل مدينتنا. كانت المرة الأولى عندما دخل الانكلیز مع فیصل إلى سوريا، فصادروا منزلنا وجعلوه مستشفى وعسكروا في ثكنة الشرفة وفي الخیام التي نصبوھا حول المدينة، ولم يكره الناس الانكلیز الذين ساعدوا الجیوش العربیة على طرد الأتراك، ورافق قدومھم الغنى والثروة والشبع، وقد تعمد الانكلیز أثناء وجودھم وعند انسحابھم أن يتركوا في الثكنات والمخیمات كثیرا من المؤن والأرزاق والذخیرة والسلاح بكمیات كبیرة ومتنوعة، وظل الناس شھورا ينقبون عن مخلفاتھم في أرض المخیمات، كما كانت سنة دخولھم إلى سوريا سنة خصبة، فاستقر في الأذھان أن قدومھم قدوم خیر اذ زالت الأمراض والأوبئة، وشبع الجائعون واكتسى العراة وتجمع الناس بعد فرقة وتشتت واغتراب، وعاد إلى أھله من بقي حیا من الشباب الذين كانت تركیا قد نقلتھم إلى ساحات القتال البعیدة، ففي أيام الحرب لم يبق في الأسواق غیر المسنین وكانت معظم الحوانیت مقفلة، وكان الفارون من الجندية يشكلون عصابات حول حماه للسلب والنھب، ويصطدمون بشكل دائم مع دوريات الجیش التركي التي تتعقبھم، فكانت الطلقات النارية تسمع في كل لیلة من جمیع أنحاء المدينة …
وھكذا مع قدوم الانكلیز خرج الأتراك وفر “الكولوغاصي” حاكم المدينة العسكري الذي كان يحیى ويمیت ويعدم في كل يوم العشرات من الشباب الفارين، وكان الكولوغاصي يسكن في بیت قريب من بیتنا، استأجره من حسن آغا الشیشكلي والد أديب الشیشكلي.
الفرنسیون في حماه :
دخل الفرنسیون حماه، فاحتلوا بیتنا لیجعلوا منه مستشفى وأخرجونا منه عنوة، وكان جلاؤنا عنه ذا تأثیر بالغ في نفوسنا يشبه شعور المھاجرين عندما يجلون قسرا عن وطنھم، وكنت قد بلغت سن التاسعة. فاستأجرنا بیتا صغیرا قريبا من بیتنا، لأننا لا نستطیع العیش خارج حینا.
وقد رفض أھلي تناول أجور البیت من الفرنسیین وطالبوا بإخلائه وظلوا يعملون حتى عدنا إلیه بعد أربع سنوات (كان أول مستشار فرنسي في حماه ھو الكابتن “میك”) [1]
وقد زج بمعظم وجھاء المدينة وعلمائھا وقادتھا في السجون، وأذاقھم أنواع الھوان والعذاب، حتى أن حسن آغا الشیشكلي، الذي كان متھما بتھريب السلاح، كان ينقل الأقذار ويغسل الصحون، وكان بین المساجین الشاعر بدوي الجبل. وقد أعدم المستشار میك بعض الحمويین بتھمة تھريبھم السلاح لثورة الشیخ صالح العلي في وادي العیون. وكنا نتتبع بإصغاء واھتمام شديدين القصص الرائعة لثورة الشیخ صالح وكیف أنه أباد حملة فرنسیة عن بكرة أبیھا في وادي جھنم، كما كنا نتتبع بالاھتمام ذاته ثورة ابراھیم ھنانو واخبار ثورة عرب الموالي واستبسالھم في قتال الفرنسیین.
الأمل …
كنت قد بلغت الثامنة أو التاسعة من العمر عندما دخل المحتلون الفرنسیون بلادنا. وكنت أكرھھم واحتقرھم وأزدريھم من أعماقي، فھم الأعداء، والكفار، والظالمون، وكنت رغم طفولتي أشعر بأنني يجب أن لا أنحني أمامھم، فقد كان مفروضا على الناس إذا كانوا جالسین في مقھى، ومر ضابط فرنسي، أن يقفوا إجلالا، وذات يوم ماطر، والوحول تملأ وسط الشارع غیر المبلط، كنت أمشي على الرصیف الحجري في طريقي الى المدرسة، وكیس الكتب القماشي معلق في كتفي، فجاء ضابط فرنسي بالاتجاه المقابل، فقررت أن لا أزيح له وأن أثابر في مسیري على الرصیف، وعندما وصل إلي ركلني بقدمه ركلة عنیفة رمتني في وسط الوحل، فتلوثت ثیابي وتناثرت كتبي. إنني لن أنسى ذلك ما حییت.
كانت حماه، في أشد الأسى والحزن لما يصلھا من أنباء عن وقائع معركة میسلون، ودخول المحتلین الفرنسیین إلى دمشق وكان أشد ما يثیر غضب الكبار في أحاديثھم التي كنت أصغي إلیھا باھتمام شديد، قصة الجنرال غورو عندما سار بموكب الى قبر البطل صلاح الدين الأيوبي في جوار المسجد الأموي، وطرق بسیفه على صفائح القبر وقال : “ھا قد عدنا يا صلاح الدين” … إشارة إلى الحروب الصلیبیة وھزيمتھم فیھا قبل عدة قرون ، وكان الكبار يتحدثون عن الجنرال غورو بأن ذراعه وساقه قد بترتا في الحرب (قرب الدردنیل) كما أن إحدى عینیه، كساقه وذراعه، صناعیه.
على أن أحاديثھم المضطرمة بالغضب والحقد، لم تكن كلھا بائسة، فقد كان بصیص من الأمل والرجاء يلمع أحیانا أثناء تناقلھم أنباء الثورتین المستمرتین، ثورة الشیخ صالح العلي في وادي العیون بجبل العلويین، وثورة ابراھیم ھنانو[2] في جبل الزاوية ومناطق أدلب وحارم وضواحي حلب … كما كانت تصل إلى حماه، بین الفینة والفینة أخبار ثورة رمضان شلاش في ديرالزور.
كان طیر الأمل يرفرف بجناحیه لحظات ثم يغیب.
[1] ومن مشاھد ظلم “میك” أن رجال الشرطة ساقوا جمیع رجال محلة (الحاضر) كبارا وصغارا في )الأسواق تحت السیاط إلى دار الحكومة لأن أحد الأولاد فلتت من يده سلسلة مفتاح فأصابت عین كلب مدام “میك” أثناء مرورھا في الطريق” مذكرات عبد الرحمن الشھبندر، منشورات دار الجزيرة للصحافة والنشر، عمان (ص 46
[2] يتحدث الاستاذ منیر الريس عن ھذه الحقبة من تاريخ سورية في كتابه المسمى: الكتاب ) الذھبي للثورات الوطنیة في المشرق العربي فیقول :لقد نشبت ثورة في شمال سورية يوم كانت فرنسا تحتل منطقة الساحل وحدھا شملت مناطق انطاكیة والأقضیة التي تحاذي المنطقة المحتلة في الشمال كجبل الزاوية، والجبل الوسطاني في قضائي حارم وأدلب، وبعض الأقضیة التي احتلتھا فرنسا والحقتھا بمنطقة الساحل كقضاء الحفة وجسر الشغور (ثورة ابراھیم ھنانو) تحاذيھا ثورة أخرى نشبت بزعامة الشیخ صالح العلي، تحاذيھا ثورة صغیرة ثالثة في جبال بعلبك ثم تلیھا ثورة رابعة في جنوب لبنان مسرحھا وادي التیم وتمتد حتى حدود فلسطین بزعامة الأمیر محمد الفاعور شیخ عشیرة الفضل في الجولان. وثورة لواء دير الزور التي لعب فیھا رمضان شلاش من شیوخ عشائر الفرات دورا، وأرغمت الأنكلیز على الجلاء عن دير الزور وضمه الى سوريه بدلا من العراق، ثم كان ھذا اللواء منطلقا لثورة العراق عام 1920 على الاحتلال البريطاني التي عمت وادي الفرات كله حتى أقصى جنوب العراق، واستمرت أكثر من ستة أشھر كبدت الانكلیز خسائر فادحة في النفوس والأموال، وأرغمتھم على أن يدعوا الملك فیصل الذي طرد من سوريه للجلوس على عرش العراق” (الكتاب الذھبي، دار الطلیعة، بیروت 1967 ص 108 ). كما ورد في المصدر نفسه وصف طريف ممتع عن لسان ابراھیم ھنانو – كما يقول المؤلف- لما جرى له بمدينة حمص في طريقه للجوء الى الأردن، بعد فشل ثورته في جبل الزاوية. يقول ھنانو الذي وصل الى حمص على صھوة جواده، لا بسا ثوبا بدويا عتیقا، وحیدا جائعا عطشا حافي القدمین: دخلت مدينة حمص من جھة الشرق، وتغلغلت في حي الخالدية (نسبة الى خالد بن الولید) وھو في أكثر أھله فقراء، فخطر لي أن أطرق بابا من أبوابه لأودع حصاني لقاء أجر، ثم اتسلل الى المسجد أقضي فیه نھاري مصلیا نائما، حتى إذا لفني اللیل تسللت منه إلى دار صديقي عمر الأتاسي وزمیلي في المؤتمر السوري كي يھيء لي سرا سبیل الوصول الى شرق الأردن”. وبعد اكرام أھل الدار لابراھیم ھنانو، والعناية به دون معرفة، سأله صاحب الدار عن اسمه، فأجاب: “من جھات المعرة، أيھا الأخ، سرقت لي أغنام فركبت في أثرھا الى البادية لعلني اھتدي إلیھا وأستردھا، ولكن خاب أملي وسلبني قطاع الطرق ملابسي”.
اقرأ:
من مذكرات أكرم الحوراني (25) – ذكريات من مكتب عنبر
من مذكرات أكرم الحوراني (24) – في الكلیة الوطنیة بعالیه في لبنان
من مذكرات أكرم الحوراني (23) – فجیعة سوريا باغتیال الغزي
من مذكرات أكرم الحوراني (22): التعرف على الشعراء والزعماء الوطنیین في دمشق
من مذكرات أكرم الحوراني (21) : فرنسا تصطنع الشیخ تاج
من مذكرات أكرم الحوراني (20) : بدء تفتح الوعي السیاسي للقضیة الوطنیة
من مذكرات أكرم الحوراني (19) – من ھم مواطنونا الدروز؟
من مذكرات أكرم الحوراني (18) – البطل رزوق النصر ينتقم
من مذكرات أكرم الحوراني (17) – فظائع الفرنسیین في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (16)- عثمان الحوراني يتحدث عن ثورة حماة عام 1925
من مذكرات أكرم الحوراني (15) – ثورة عام 1925 في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (14) – الحسین بن علي
من مذكرات أكرم الحوراني (13) – الثورة الوطنیة والثورة الاجتماعیة معاً
من مذكرات أكرم الحوراني (12) – في قصر العظم
من مذكرات أكرم الحوراني (11) – الثورات والأمل
من مذكرات أكرم الحوراني (10) – الإنكليز والفرنسيون في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (9) – طائرة ترمي منشورات في حماة
من مذكرات أكرم الحوراني (8) – مرحبا يا ابن الحسین
من مذكرات أكرم الحوراني (7) -الأمير فیصل يتبرع لانشاء مدرسة في حماه
من مذكرات أكرم الحوراني (6) – صفعة ظالمة من جندي الماني وحاكم سورية في ضیافتنا
من مذكرات أكرم الحوراني (5) – في مدرسة ترقي الوطن وأيام كئیبة عند الشیخة
من مذكرات أكرم الحوراني (4) – خلفیة الأوضاع الاجتماعیة بحماه في أواخر العھد التركي
من مذكرات أكرم الحوراني (3) – لماذا لم ينجح أبي في الانتخابات؟
من مذكرات أكرم الحوراني (2) – يا حوراني يا أكحل
من مذكرات أكرم الحوراني (1) – من ذكريات الطفولة