مقالات
عمرو الملاّح: السلطان عبد الحميد… حديث «الأئمّة من قريش» وفتوى خلعه
عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
يعزو مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي في كتابه المرجعي «نهر الذهب في تاريخ حلب» المعنى المراد من قول شيخ الإسلام في الفتوى التي أصدرها بخلع السلطان عبد الحميد الثاني «… وأخرج من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمّة… إلخ» إلى أنه أمر ذات مرة بأن يُطبع كتاب «صحيح مسلم»، طبعاً متقناً، فنفذ أمره، وبعد أن تم طبع الكتاب، أخبره بعض شياطينه بوجود حديث الإمامة فيه، وهو «الأئمّة من قريش» فأمر في الحال، بجمع نسخه، وإحراقها، وأن يعاد طبعه بعد حذف هذا الحديث منه.
ولعل شهرة الغزي بوصفه رجل دين قبل أن يكون مؤرخاً، وذيوع صيت كتابه «النهر»، وكونه معاصراً للسلطان عبد الحميد جعلت بعض الكتاب ينقلون عنه هذا الخبر دون تمحيص أو تدقيق، ثقة منهم بأنه كان يتحرى الدقة في ما أورده من وقائع وأحداث كان معاصراً لها أو شاهداً عليها.
والواقع إن هذا الخبر الذي ساقه الغزي يفتقر للدقة، وينطوي على مجافاة للحقيقة، وفيما يلي محاولة لبيان بعض المعطيات التاريخية التي من شأنها أن تدحضه:
أولاً- «صحيح مسلم» لم يصدر بأمر من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وليس في الحوليات التاريخية وفهارس المكتبات العامة في العالم ما يشير إلى وجود طبعة «سلطانية» من كتاب «صحيح مسلم» سوى تلك التي أمر بإصدارها السلطان محمد الخامس رشاد خلف السلطان عبد الحميد، والمعروفة بـ«طبعة الدار العامرة» التي بدئ بها سنة 1329 هـ/ 1911 م، وتمّ طبعها سنة 1334 هـ/ 1915 م؛
ثانياً- المجمع عليه تاريخياً أن ما صدر بأمر السلطان عبد الحميد الثاني وقبل خلعه بسنوات طويلة مديدة هو «صحيح البخاري»، وما تزال «الطبعة السلطانية» من كتاب «صحيح البخاري»، التي بدئ بها سنة 1311 هـ/ 1893 م، وتمّ طبعها في بولاق سنة 1312 هـ/ 1894 م أدق وأحسن طبعات «صحيح البخاري» إلى يومنا هذا؛
ثالثاً- كان الخبر الذي أورده الغزي في «النهر» مثار نقد الشيخ محمد عوامة صاحب التحقيقات الكثيرة على كتب السنة والحديث في تحقيقه لكتاب «المصنف» لابن أبي شيبة، الذي كان مأخذه على الغزي أنه كتبه دون تدقيق وتمحيص، مشيراً إلى أن حديث «الأئمّة من قريش» هو من الأحاديث التي ليست في الصحيحين بل وليست في شيء من الكتب الستة سوى النسائي؛
رابعاً- ليس الشيخ محمد عوامة وحده من انتقد كلام مؤرخ حلب الغزي، وإنما كان لمحققي كتابه المرجعي «النهر» د. شوقي شعث وأ. محمود فاخوري مآخذهما عليه أيضاً؛ فاعتبرا أنه «تعجّل في هذا الخبر بلا تثبت»، وأضافا بأن «حديث الإمامة المذكور، لم يروه مسلم أصلاً في صحيحه، ولا البخاري أيضاً؛ بل رواه كل من ابن حنبل، والنسائي، والضياء المقدسي. وهو صدر حديث طويل. ولتتمّته رواية أخرى عند الحاكم ، والبيهقي. انظر كشف الخفاء للعجلوني 1 / 318 والفتح الكبير للنبهاني 1 / 504»؛
خامساً- لئن شهد عهد السلطان عبد الحميد فرض رقابة صارمة على المطبوعات التي كانت تصدر في الدولة العثمانية وتلك التي كانت تدخل إليها، وهي مهمة كانت مناطة بنظارة المعارف والمشيخة الإسلامية، على نحو ما يشير إبراهيم المويلحي في كتابه «ما هنالك من أسرار بلاط السلطان عبد الحميد»، الذي أورد خبر حديث «الأئمّة من قريش» في سردية مقتضبة ومختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي أوردها الغزي، فإن الشيخ محمد عوامة يذكر في تحقيقه لكتاب «المصنف» لابن أبي شيبة بأن حديث ابن عمر، وهو «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان»، موجود في «الطبعة السلطانية» من كتاب «صحيح البخاري»، التي أمر بإصدارها السلطان عبد الحميد، وهي الطبعة التي صدرت أول مرة ببولاق سنة 1313 هـ/ 1895 م 4: 179، 9: 62، ويتكرر ذكره في الطبعتين اللاحقتين من الصحيح اللتين صدرتا بمصر واسطنبول على التوالي؛
سادساً- إنه لمن نافلة القول إن الحديث «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان» الموجود في «الطبعة السلطانية» من «صحيح البخاري» هو أحد الأحاديث التي تتخذ دليلاً على حصر الخلافة أو الإمامة في قريش.
ولعلي أشير، بهذا الصدد، إلى أن إيراد الغزي في «النهر» أخباراً تنتمي إلى السرديات القصصية أكثر من انتمائها إلى الوقائع التاريخية وتناول فيها السلطان عبد الحميد لم يقتصر على اتيانه هذا الخبر من دون تدقيق أو تمحيص فحسب، بل إنه ذكر-على سبيل المثال لا الحصر- في سياق عرضه للسبب الرئيس وراء عزل السلطان عبد الحميد لوالي حلب رائف باشا استبداله قسطل السلطان الموشك على الاندثار والزوال ببدعة الساعة التي هي من بدع الإفرنج (كذا!)، على حد وصف الغزي. ومعلوم أن إقامة برج الساعة بحلب في العام 1317 هـ/ 1899 م تزامن مع إقامة أبراج ساعات مماثلة في كثير من المدن والحواضر العثمانية، ومن بينها اسطنبول. وأقيمت كلها إحياء لذكرى مرور خمس وعشرين عاماً على ارتقاء السلطان عبد الحميد العرش، وبتوجيه منه؛ إذ كان يعدها رمزاً للحداثة والتغيير.
وفي سياق متصل يذكر مؤرخ حلب الغزي في مقالته عن المفكر عبد الرحمن الكواكبي المنشورة في مجلة «الحديث» الحلبية أن السلطان عبد الحميد أغلق «مجلس المبعوثان» المفتتح أول مرة لأجل كلمة قالها نائب حلب نافع أفندي الجابري، وهي استكثاره رزق السلطان من بيت المال. وكنت قد بينت في مقالة سابقة تناولت فيها نافع باشا الجابري أن ما ذكره الغزي هو أقرب إلى السردية القصصية منه للواقعة التاريخية؛ وذلك بالرجوع إلى محاضر جلسات مجلس المبعوثان الأول المعنونة بالتركية العثمانية «مجلس مبعوثان ضبط جريده سى، 1293-1294 هـ»، التي باتت الآن إمكانية الوصول إليها وتصفحها متيسرة للباحثين بفضل وجود العديد من المكتبات الرقمية للمحتوى التركي العثماني.
ختاماً، ليست الغاية من هذه المقالة الانتقاص من مكانة مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي والتقليل من أهمية عمله التاريخي الرائد، بقدر ما تهدف إلى إعادة النظر ببعض ما أتى على ذكره من الوقائع والأحداث واعتبارها مسلمات لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها.
اقرأ:
عمرو الملاّح: حسين ناظم باشا في سطور
عمرو الملاّح: صدور مذكرات أحمد عزت باشا العابد- الصندوق الأسود للسلطان عبدالحميد
عمرو الملاح: زاده… مصطلحا” ودلالة
عمرو الملاّح : بهاء الدين بك الأميري… زعيم سياسي ورجل دولة
عمرو الملاّح : مصباح محرم.. شيخ القضاة السوريين
عمرو الملاّح : زكي مُغَامِز..رائد الصحافة المنسي
عمرو الملاّح : الحلبيون ودورهم في المؤتمر السوري العام (3-3)
عمرو الملاّح: الحلبيون ودورهم في المؤتمر السوري العام (3/2)
عمرو الملاّح: الحلبيون ودورهم في المؤتمر السوري العام (3/1)
عمرو الملاّح: نواب ولاية حلب في مجلس المبعوثان العثماني
عمرو الملاّح: سورية تدخل عصر “المكننة الزراعية” (1922)
عمرو الملاّح: الألقاب في المجتمع السوري بين الأمس واليوم
عمرو الملاّح: أمير في دمشق- فصول من حياة عبدالقادر الجزائري
عمرو الملاّح : مائة عام على إنقاذ فندق بارون من الدمار