You dont have javascript enabled! Please enable it!
من الصحافة

قصة إطلاق أغنية «سائليني يا شآم» من إذاعة دمشق ومنعها بقرار من عبد الناصر

شربل القنطار - صحيفة الشرق الأوسط

إثر اجتياح الجيش العراقي للكويت صبيحة 2 أغسطس (آب) 1990 وفرض الحصار على العراق، وقطع المواصلات الجوية منه وإليه، أضحى السفر إلى بغداد مغامرة تمتد على طول 950 كيلومتراً هي المسافة الفاصلة بين عمان وبغداد في طريق صحراوية. الجزء الأردني منه بقي لسنوات عدة بعد الحصار على حاله وخطورته طريقاً قديمة، مع الكثافة المرتفعة للسير عليه بعدما أصبح الخط الوحيد الذي يربط بغداد بالعالم الخارجي إلى حين انتهاء الأردن من أشغال توسعته. أما في الجانب العراقي، فكان أتوستراد وفق أفضل المعايير الفنية العالمية، لكن خدمات الطريق في الصحراء من محطات استراحة، ومحطات بنزين فلم تكن متوافرة إلا بالحدود الدنيا.

رغم مشقات السفر إلى بغداد لبى الشاعر اللبناني الكبير سعيد عقل دعوة وجهها إليه آنذاك بطريرك الكلدان العراقيين بيداويد، فوصل بغداد في الأسبوع الأول من يوليو (تموز) 1995، وشارك في مؤتمر دعي إليه في فندق بابل، وبعد انتهائه انتقل إلى فندق الرشيد. وللاحتفاء به عقدت ندوة في فندق «فلسطين – ميريديان»، حضرها عدد من المثقفين والأدباء والشعراء العراقيين، وشاركت فيها برفقة الصديق اللبناني ريمون معلوف. وإثر انتهاء اللقاء التقيت سعيد عقل، وأبلغته بأن من دواعي سروري أن ألتقيه بعد عشرات السنين. فطلب مني مرافقته إلى دعوة عشاء على شرفه.

كانت المرة الأولى التي التقيت فيها الشاعر سعيد عقل عندما كنت تلميذاً في الثانية عشرة من العمر سنة 1963 عندما جاء إلى مدرستنا وألقى محاضرة عن اللغة العامية اللبنانية التي كان يدعو إلى استعمالها في ذلك الحين.

خلال زيارته إلى بغداد سألته عن قصيدته الشهيرة «سائليني يا شآم» التي غنتها فيروز، وأخبرنا عن ظروف ولادة القصيدة، قال، إنه نظمها وألقاها أول مرة من إذاعة دمشق في الأربعينات من القرن الماضي، وكانت الإذاعة السورية حينها تدفع للشعراء أكثر بكثير مما تدفعه الإذاعة اللبنانية، وكانت قصيدة «سائليني يا شآم» أطول بكثير من أبيات الأغنية التي تشكل فقط نحو ثلث القصيدة الأصلية.

خلال الوحدة السورية – المصرية، في عام 1958 أو 1959، كان الرئيس جمال عبد الناصر يخطب على شرفة قصر المهاجرين في دمشق، وقال في خطابه وهو يتكلم عن الشآم «إنه سيدخلها التاريخ»، عند سماع الشاعر سعيد عقل هذه الفقرة، تذكر قصيدته عن الشآم وما كان قد أورده في كلامه عن أهلها:

«أهلك التاريخ من فُضْلَتِهم

ذكرهم في عروة الدهر وسام

أمويون فإن ضقت بهم

الحقوا الدنيا ببستان هشام»

فكانت لديه ردة فعل فورية، واتصل مباشرة بالأخوين رحباني وسألهما إذا استمعا إلى خطاب عبد الناصر، فأجاباه بأنهما استمعا إليه واتفقوا على أن يمر عليهم الشاعر سعيد عقل ومعه القصيدة القديمة، وهذا ما حصل.

استعرضوا قصيدة «سائليني يا شآم»، وانتقوا منها الجزء الذي نعرفه وغنته فيروز، وبسرعة البرق نزلت الأغنية إلى الأسواق ولاقت رواجاً كبيراً، وبدأ بثها من الإذاعات العربية، وبخاصة الإذاعة السورية وإذاعة «صوت العرب» من القاهرة.

لكن سعيد عقل وجد أن «الرسالة» للرئيس عبد الناصر لم تصل، فاتصل بالنائب اللبناني إميل البستاني (رئيس شركة «الكات» التي كانت أشهر وأكبر شركة عربية في خمسينات القرن الماضي)، وكانت تربطه علاقة خاصة بعبد الناصر ويلتقي به بشكل متواصل، فأخبره سعيد عقل بما يتصل بقصيدته التي غنتها فيروز، وطلب منه إبلاغ عبد الناصر ظروف الأغنية، وبعد أيام عدة من لقاء إميل البستاني بسعيد عقل سافر إلى القاهرة والتقى عبد الناصر وأخبره عن القصيدة فصدرت من مسؤولي حكومة الوحدة المصرية – السورية «الجمهورية العربية المتحدة» تعليمات بمنع بث الأغنية في إذاعات القاهرة ودمشق، وبقي المنع حتى صبيحة الانقلاب على الوحدة بتاريخ 28 أيلول 1961 الذي قام به عبد الكريم النحلاوي، مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر حاكم الإقليم الشمالي (سوريا).

صبيحة ذلك اليوم بدأت إذاعة دمشق في بث بلاغات انقلاب الانفصال والأناشيد الحماسية، وفي مقدمتها أغنية فيروز «سائليني يا شآم»، وبعد ذلك أصبحت الأغنية الحماسية التي تبث بمناسبة الانقلابات السورية التي تعاقبت في سوريا.

وبالعودة إلى زيارة سعيد عقل لبغداد، فقد لبى خلالها الكثير من الدعوات، وأقيمت ندوة في الحديقة الواسعة لاتحاد الأدباء في بغداد، وحضرت اللقاء برفقة أصدقاء، وكتبت إنعام كجه جي في «الشرق الأوسط»، في 14 ديسمبر (كانون الأول) 2014، مقالة بعنوان «سعيد عقل في بغداد» جاء فيها «زار سعيد عقل بغداد أواسط التسعينات، وزحف كل شعراء المدينة للاستماع إليه، لكنهم وجدوا أستاذاً جاء يلقي عليهم درساً في البلاغة، مستعيداً قصيدة الشاعر الجاهلي ثابت بن جابر، (أتوا ناري فقلت منون أنتم)، وتروي الشاعرة ريم قيس كبة أن صوته كان يهدر عميقاً في الحديقة الواسعة لاتحاد الأدباء وهو يشرح لماذا قال الشاعر (منون)، ولم يقل من أنتم»

أظن أن الشاعر سعيد عقل لم يرد أن يتحول اللقاء إلى مناقشة حادة «وهذا ما كنت أخشاه» حول دعوته لاستعمال العامية والحرف اللاتيني، وهو ما يرفضه معظم العراقيين، لكن من المهم الإشارة إلى أن شعر سعيد عقل تحفظه نسبة كبيرة جداً من الشعب العراقي وليس فقط محيط الشعراء والأدباء.

قال لي سعيد عقل، إنه يود مغادرة العراق بصحبتي إلى الأردن في الطريق البرية. وكنت عازماً على السفر بعد أيام عدة بالتوافق مع برنامجه؛ إذ كان يود البقاء ثلاثة أو أربعة أيام أخرى، لكنني في صباح اليوم التالي تلقيت اتصالاً من الأردن؛ مما اضطرني إلى أن أقرر السفر خلال الليل، فاتصلت بالأستاذ سعيد صباحاً وأخبرته باضطراري إلى السفر الفوري مساء اليوم نفسه، وإنني سأرتب سفره عندما يعلمني بالتوقيت، أجابني بأن قراره هو السفر برفقتي، أصررت عليه البقاء يومين أو ثلاثة، وقلت له إنه ليس لديه فيزا للعودة إلى الأردن، وإنه في حال بقائه يمكنه طلب الفيزا، فكان جوابه إنه «سعيد عقل» ومن سيطلب فيزا من سعيد عقل؟ وقال إنه سيطلب الاتصال فوراً بالعاهل الأردني.

كانت رحلة ممتعة مع سعيد عقل، وعلى الحدود الأردنية ذهب السائق مع جوازات السفر لختمها، لكنه عاد ليعلمني بأن جواز الأستاذ سعيد لا يحمل تأشيرة، ذهبت بنفسي إلى موظف الجوازات وطلبت منه الاتصال فوراً بمدير مركز الحدود وكانت الساعة الواحدة صباحاً، عند مجيء المدير أخبرته عن هوية «الشخص» الذي رفضوا مهر جوازه، وقلت له: هل تريدون أن تُحرِجوا مع الملك حسين؟ أجابني طبعا لا، ورافقني فوراً إلى السيارة وسلم بحرارة على الأستاذ سعيد عقل معتذراً، ومنشداً أبياتاً من شعره.

المصدر
قصة إطلاق أغنية «سائليني يا شآم» من إذاعة دمشق ومنعها بقرار من عبد الناصر- صحيفة الشرق الأوسط، 14505 الصادر في 15 آب 2018



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى