You dont have javascript enabled! Please enable it!
قراءة في كتاب

التكوين التاريخي للجزيرة السورية كتاب لـ جمال باروت

سمير سعيفان

يشكّل كتاب الباحث جمال باروت حول “التكوين التاريخي الحديث للجزيرة السورية” والذي يتجاوز ألف صفحة وثيقة بحثية مهمة لتاريخ الجزيرة السورية الحديث، منذ دخول الفرنسيين إلى سورية عام 1920 وحتى اليوم تقريباً، وقد استمر العمل به سنوات. وتشمل منطقة “الجزيرة السورية” الجزء الواقع في سورية الحديثة من منطقة بلاد ما بين النهرين، والتي تتوزعها الآن ثلاث دول هي سورية والعراق وتركيا. وتشكل محافظة الحسكة ما تم التعارف على وصفه بالجزيرة السورية، رغم أن جزءا من محافظة الرقة ومحافظة دير الزور يقع ضمن هذا الفضاء. يوثّق باروت لهذه المنطقة خاصة في الفترة السابقة عن مارس/آذار 1963، ويقدم صورة حية غنية بالوقائع، وينهي كل فصل بخلاصة تحليلية.

يكتسب البحث أهمية إضافية كونه يلقي الضوء على مسألة سياسية حاضرة تتعلق بالوجود السرياني والآشوري والكردي في الجزيرة السورية، تؤسس للحقوق التي يمنحها هذا الوجود، والتي يطالب بها بعض الأطراف (ربما) بتطرف. ويبيّن الكتاب أن سكان الجزيرة السورية من أرمن وسريان وأشوريين وأكراد أيضاً، قد نزحوا من الأراضي التي تقع في الأراضي التركية إلى الجزيرة السورية بدءاً من 1916، وبينما توقّف تدفق الأرمن والسريان والآشوريين في ثلاثينيات القرن العشرين، استمر تدفّق الأكراد حتى نهايته، بسبب استمرار الثورات والصراعات بين الأكراد والدولة التركية، مما سبب هجرات مستمرة، لم تتوقف حتى نهايات القرن العشرين، حين توقفت الجزيرة السورية، بسبب إهمالها بعد 1963، عن أن تكون جاذبة للسكان، بينما بدأت تركيا تشهد ازدهاراً اقتصادياً يخلق فرص عمل من جهة، وتمت تهدئة صراع الأكراد مع الدولة التركية من جهة أخرى، فلم يعد الصراع ينتج أعداداً من المهاجرين باتجاه الجزيرة السورية كما كان سابقاً.

تتأرجح طموحات الأكراد السوريين بين الواقعية والتطرف ضمن الأحداث التي تمر بها سورية، بين مجموعات تدعو إلى نيل حقوقهم ضمن وحدة الشعب السوري ووحدة أرض سورية، وبين أخرى تدعو إلى قيام كيان كردي مستقل ذاتياً في شمال سورية على نمط شمال العراق، بما يمهد في ظروف قادمة لقيام دولة كردية كاملة الاستقلال، متذرعين بأن الأكراد يقيمون على أرضهم التاريخية التي يسمّونها “غرب كردستان”. بحث باروت أنه حتى عام 1922 كانت الجزيرة السورية أرضاً شاسعة قليلة السكان، تجول فيها عشائر بدوية عربية غير مستقرة، مع بعض عشائر جوالة كردية في بعض أطرافها الحدودية مع تركيا. وقد أدرك الفرنسيون أهمية هذه الأرض الواسعة وفيرة المياه والخالية من العمران تقريبا، وقليلة السكان، وأردوا تحويلها إلى سلة غذاء ومنطقة لإنتاج القطن، كما أدركوا احتمالات توفر النفط فيها، فقاموا بتشجيع الهجرات إليها والاستقرار فيها. والتقت هذه السياسة الفرنسية مع سياسات أنقرة لتهجير المسيحيين وتقليص أعدادهم في تركيا، ورحبت فرنسا بهجرة الأرمن والسريان والآشوريين إلى الجزيرة، فنشأت مجتمعات أرمنية وسريانية آشورية، كما رحبت بالهجرات الكردية إلى الجزيرة السورية، نتيجة ثورات الأكراد وصراعهم مع الدولة التركية. وبسبب الهجرات نشأت مدينة الحسكة عام 1924 والقامشلي عام 1926، كما نشأت بلدات عديدة أخرى مثل رأس العين وديريك. كما تأسست 1800 قرية حتى عام 1945. وبينما انتهت الهجرات الأرمنية والسريانية الآشورية في الثلاثينيات، فقد استمرت الهجرات الكردية من دون انقطاع حتى أواخر القرن العشرين. وبلغ عدد المسيحيين في الجزيرة السورية عام 1943 نحو 41552 نسمة من أصل 130 ألفاً، هم مجمل سكان الجزيرة في ذاك التاريخ. وارتفع عدد الأكراد في الجزيرة من ستة آلاف نسمة عام 1927 إلى 47 ألف نسمة ربيع 1932 وإلى 54340 عام 1939، وبمعدل نمو سنوي 20.5%. ونتيجة استمرار الهجرات الكردية “الموجة الثانية”، قفز عدد سكان الجزيرة من 146001 نسمة عام 1943 إلى 162145 نسمة عام 1952، ثم الى 239140 عام 1959 بمعدل زيادة 8.8% سنوياً، ثم أصبح عام 1963 نحو 316145 نسمة.

خلق التزايد الكبير في عدد الأكراد في الجزيرة السورية قلقاً لدى الحكومات السورية في وقت مبكر. وبعد 1943 وانتقال السلطة من الفرنسيين إلى السلطة الوطنية، اتبعت الحكومات السورية إجراءات تقييدية تجاه تسجيل الأكراد في السجلات المدنية، ومنحهم الجنسية السورية، وللتحايل على هذه الإجراءات التقييدية نشأ ما يعرف بمشكلة الأسماء المستعارة وبطاقات الهوية المزورة. وفي عام 1962 نفّذت الحكومة السورية عملية إحصاء في 5 أكتوبر/تشرين الأول 1962. وقد تمخض هذا الإحصاء عن تسجيل 85 ألف مقيم في الحسكة بصفة “أجانب أتراك”، لم يكن لهم سجلات مدنية رسمية، وهو ما يعادل 27.5 % من سكان الجزيرة المسجلين في سجلات الأحوال المدنية، والبالغ آنذاك 309279 نسمة. وشكل هذا الرقم نحو 53 % من عدد الأكراد في الجزيرة السورية، وفق التقديرات الأمنية لعام 1963، والمقدر بنحو 160 ألف نسمة. أي بلغت نسبة جميع الأكراد المقيمين في الجزيرة، سواء كانوا بحكم السوريين، أم بحكم أجانب تركيا، بلغت نحو 41% من إجمالي سكان الجزيرة.

يتعرض باروت في كتابه الموسوعي إلى سياسة البعث تجاه الأكراد السوريين، والتي بدأت مع تسلمه السلطة 1963، وكان من أبرز الخطوات التي اتخذها إقامة مزارع للدولة على الحدود السورية التركية بعمق عشرة كيلومترات وطول 50 كم، وهو ما عرف بـ “خط العشرة” أو “الحزام العربي”، إذ جرى نقل قرابة 25 ألف نسمة من مناطق غمر سد الفرات إلى خط العشرة. شكلوا عام 1974 نحو 5.6% فقط من إجمالي سكان الجزيرة المسجلين، والبالغ 441901 نسمة. وبالتالي فإن ما أطلق عليه “الحزام العربي” كان، بحسب باروت، ذا أثر محدود في تغيير التركيبة الأقوامية للجزيرة، وقد كان الحجم الديمغرافي والتسييس القومي والإيديولوجي أسطورة أكثر منه حقيقة، ولكن بقي اسمه الطنان يضخ الحكايات الإيديولوجية ويذكي أوارها.

يتعرض باروت للهجرات المعاكسة التي بدأت تشهدها الجزيرة السورية منذ سبعينيات القرن الماضي. فالعشائر تهاجر إلى السعودية والخليج، والسريان والآشوريون يهاجرون الى أوروبا وأميركا، والأكراد يهاجرون من قراهم إلى مدن القامشلي والحسكة والمدن السورية الأخرى إلى حلب ودمشق، وبأعداد أقل إلى أوروبا. ولا يتوفر إحصاء دقيق للهجرة إلى الخارج ويقدرها باروت عام 2010 بنحو 19%.

يختلف مستوى توثيق الكتاب بين التوثيق الجيد لفترة ما قبل سيطرة حزب البعث في 8 مارس/آذار سنة 1963، إذ يوجد مراجع ودراسات ووثائق يمكن وصول الباحث إليها، وبين التوثيق الضعيف لفترة ما بعد آذار 1963 وسيطرة حزب البعث، حيث تندر الدراسات، ولا يتاح للباحث الوصول الى الوثائق الخاصة بهذه الفترة التي يسودها التعتيم. كما لا يوثق الكتاب تدفق موجات الهجرة الكردية من تركيا إلى الجزيرة السورية، خلال عقود الستينيات وحتى تسعينيات القرن العشرين. ولا يوثّق أيضاً لأية موجات من الهجرة من إقليم شمال العراق “كردستان العراق” إلى الجزيرة السورية خلال فترات اشتداد الصراع بين الأكراد والحكومة العراقية بين ستينيات القرن العشرين وثمانينياته، ولم يوثق الكتاب على نحو كافٍ هجرة السريان والآشوريين إلى خارج الجزيرة في الثمانينيات والتسعينيات، وتحليل العوامل التي أدت إلى دفعهم للهجرة وماذا حل بقراهم وممتلكاتهم. ولا يوثق سعي الأكراد لتوسيع وجودهم في الجزيرة، ودفع أثمان مرتفعة لشراء العقارات من السريان والآشوريين، وكيف تم تكريد مناطق واسعة، وتغيير أسماء القرى السريانية التي هجرها أهلها إلى الخارج.

لعل عاملين اثنين لعبا دورا في ضعف التوثيق والتحليل منذ استيلاء البعث على السلطة عام 1963:
الأول: ضعف الوثائق المتاحة حول هذا الموضوع، وموقف النظام السوري منذ 1963 المعارض لإجراء أية دراسات، أو توفير أية وثائق عن تدفق مزيد من الأكراد من الأراضي التركية إلى الجزيرة، أو هجرة السريان والآشوريين إلى الخارج وإحلال الأكراد مكانهم، أو عن ضعف تنمية منطقة الجزيرة وسياسة الدولة تجاه هذه المنطقة.
الثاني: أن فترة إعداد الكتاب قد جاءت في معظمها خلال فترة الصراع في سورية بعد 2011، والتي ربما لم تمكّن الباحث من استكمال بحثه بالطريقة التي تجعله يستطيع التوثيق، ولو عبر زيارات ميدانية للجزيرة، والاجتماع بشخصيات سياسية وثقافية وباحثين من أبناء الجزيرة، وخاصة من كبار السن من مختلف الطوائف، وتدوين شهاداتهم الحية عن تلك الفترة، وخاصة منذ الستينيات وحتى 2010. وتتمة لاستكمال بحثه القيم ستبقى مهمة استدراك التوثيق الجيد لفترة سيطرة البعث على السلطة منذ مارس/آذار 1963 وحتى اليوم، قائمة أمام الباحث حين تتيح له الظروف ذلك.

(خبير اقتصادي سوري)

المصدر
سمير سعيفان - التكوين التاريخي للجزيرة السورية - العربي الجديد



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى