بقلم عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
أولاً- بين يدي البحث:
تمثل حادثة إنعام السلطان العثماني عبدالحميد الثاني على ثيودور هرتزل الصحافي اليهودي النمساوي المجرى الذي يعد المؤسس للصهيونية السياسية بالوسام المجيدي جانباً مهماً في الهجوم على التاريخ العثماني المتأخر، حيث يدأب بعض المدونين والكتاب على توظيفها تاريخياً للإيحاء بأن أفكار هرتزل بشأن إقامة وطن قومي مستقل لليهود في فلسطين وجدت هوى في نفس السلطان؛ فكافأه عليها بمنحه وساماً عثمانياً رفيعاً.
ومأخذي على هؤلاء المدونين والكتاب أنهم ينتهجون في تناولهم لهذه الحادثة ذات الطابع محض “التشريفي-البروتوكولي” ما يسمونه في عملية التأريخ بـ”الاختزال”. وتكمن مشكلة الاختزال في أننا نقع على حادثة هنا أو هناك ولا نرى سياقاتها وملابساتها. ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل تؤخذ الأحكام التاريخية بهذا الاختزال من دون سياقات الحدث وملابساته؟ فالعلاقة بين السلطان عبدالحميد الثاني وهرتزل “معروفة” وأشبعها المؤرخون بحثاً وتنقيباً، وهي علاقة مع صحافي نمساوي؛ مجرد صحافي يعرض مغريات مقابل قطعة من فلسطين في مرحلة لم تكن الصهيونية فيها قد تغولت على نحو ما شهدناه لاحقاً في العام 1948 وما تلاه، إذ لم يكن هناك هاغانا ولا مجازر ولا ترحيل (ترانسفير)[1].
ولئن حاول هرتزل استغلال الوضع الاقتصادي السيء للدولة العثمانية، بعدما بلغ حجم مديونتها الخارجية قرابة 252 مليون ليرة ذهبية بغية تحقيق أهدافه المتمثلة في الحصول على فرمان يجيز قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين، إلا أن السلطان عبدالحميد الثاني كان في واقع الأمر يستخدم هرتزل بوصفه أداة ضغط في مفاوضات أكثر جدية بكثير كان يخوض غمارها مع مجموعة مالية فرنسية يقودها الخبير المالي ورجل الدولة الشهير موريس روفييه من أجل تجميد الدين العثماني؛ فأراد أن يثير غيرة الدائنين الفرنسيين بغية الحصول على مكاسب للدولة العثمانية منهم ويفهمهم أن لديه بديلاً عنهم، ولهذا طالت المفاوضات لمدة ستة أعوام. وما إن تتم تسوية الأمر مع الفرنسيين، حتى يجري صرف الفييناوي (عنينا هرتزل، وهو من فيينا) بأدب[2].
ويشير المؤرخ نيفيل مانديل إلى أنه ليس ثمة براهين على أن السلطان عبد الحميد كان قد تحدث مع هرتزل عن أية قضية تقع “خارج نطاق كونه أحد الخصوم المناسبين لمجموعات رجال المال المتقدمين بعروض لسداد الدين العثماني”[3].
والواقع إنه إذا ما أردنا الغوص في هذه العلاقة طوال مدتها الكاملة فسنضيع في التفاصيل، وسنجد من يتخذ من عمل قام به السلطان عبدالحميد الثاني أو عبارة قالها أو إيماءة بدرت منه مطعناً عليه. وبما أن الأمور ليست ببدايتها وإنما بخواتيمها، فهل حصل هرتزل على المرسوم أو البراءة أو الترخيص أو الوعد أو الميثاق الفرماني للوطن القومي لليهود وبيع فلسطين للصهاينة؟ وما الذي أحرزه غير الأوسمة والهدايا التذكارية ذات الطابع “التشريفي-البروتوكولي”؟ وتلكم هي حقيقة كانت مثار سخرية المؤرخ الإنكليزي جون هاسلب الذي لقب السلطان عبدالحميد بالسلطان الأحمر في كتابه عنه، والذي وضع “تكريم” السلطان عبدالحميد الثاني لهرتزل في إطار مناقض للتكريم الحقيقي؛ فنقرأ أن هرتزل حصل على علبة تبغ مرصعة بالجواهر بدلاً من مطالبه التي كانت ستغير مجرى التاريخ[4].
وسأحاول في ما يلي أن ألقي الضوء على الوسام المجيدي، وتبين مدى رفعته المفترضة بين أنساق الأوسمة التي كانت تمنحها الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، واستعراض القواعد الإجرائية الناظمة لآلية منحه. ومن ثم سأورد مقتطفات من مذكرات هرتزل المعربة تتعلق بتلقيه هذا الوسام، محاولاً أن أخضع رواية هرتزل تلك إلى التدقيق والتمحيص، لكي نتأكد ما إذا كان هذا الوسام “العالي” أو “الرفيع” الذي تلقاه هرتزل يتناسب مع المكانة التي يدعيها لنفسه، وهل راعى السلطان عبدالحميد الثاني في منحه إياه القواعد الإجرائية الناظمة لآلية منحه، بما يضفي عليه الطابع التكريمي والاحتفالي أو ينزعه عنه.
ثانياً- الوسام المجيدي[5]:
كانت الأوسمة في الدولة العثمانية متعددة ومتلقوها كثيرون، وتتفاوت أنساقها وطبقاتها ودرجاتها تبعاً لمكانة الشخصية الممنوحة لها أو أهمية الخدمة المؤداة في الميادين العلمية أو الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية. وكان السلطان عبدالحميد الثاني يمنح الأوسمة تلك لنظرائه من زعماء العالم، ورجال دولته، والشخصيات الأجنبية، ومؤيدي نهجه في الحكم وكذلك معارضيه سواءٌ بسواء.
ولقد وضعت الدولة العثمانية نظاماً حددت بموجبه القواعد الإجرائية الناظمة لآلية منحها، وذلك إما بصورة مباشرة (رأساً) من السلطان إلى نظرائه من زعماء العالم، وكذلك إلى رئيس حكومته المسمى “باش وكيل” أو “الصدر الأعظم”، أو بتزكية وترشيح (استئذان) من الصدر الأعظم لمن هم دون ذلك، بعد الحصول على موافقة السلطان على ذلك في هذه الحالة. وكانت الأوسمة وبراءاتها تمنحان معاً، وذلك بموجب مرسوم خاص يصدره السلطان يعرف باسم الإرادة السـنية (أي الأمر العالي أو السامي). كما كانت هناك سجلات للأوسمة تدون فيها بدقة أسماء متلقيها ومعلومات أخرى تحدد مكانتهم الاجتماعية وأعمالهم وأسباب تكريمهم جنباً إلى جنب مع عبارة “رأساً إرادات سنية” و”استئذان إرادات سنية”، وما زالت السجلات هذه التي تعرف باسم “الدفاتر” محفوظة إلى يومنا هذا ومتاحة للباحثين والدارسين في الأرشيف العثماني في اسطنبول.
وكان للوسام المجيدي الذي أحدثه السلطان عبد المجيد في العام 1851، ويحمل تسميته هذه نسبة إليه المقام الرابع بين أنساق أوسمة الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني؛ إذ كان يتقدم عليه الوسام العثماني الذي له المقام الثالث بين أوسمة الدولة وأحدثه السلطان عبد العزيز في العام 1862، والذي يعلوه وسامان أحدثا في عهد السلطان عبدالحميد الثاني وهما من الأدنى إلى الأعلى وسام الامتياز الذي له المقام الثاني بين أوسمة الدولة، وقلادة خاندان آل عثمان التي لها المقام الأول بين أوسمة الدولة العثمانية.
وكان الوسام المجيدي، مناط البحث، في طوره التأسيسي أشد بساطة، ويتألف من خمس درجات وحسب، ومصنفاً من الأوسمة “ذوات العقد”، حيث كانت قطعة الواسم في درجاته الثلاث الأولى تعلق بشريط في العنق. ولكن نظام الوسام المجيدي ما لبث أن عدل لاحقاً ليصبح معدوداً من الأوسمة “ذوات الأوشحة”؛ وذلك بعدما أضيفت إلى درجاته الخمس الأصلية طبقة جديدة، ألا وهي المرصعة. وبالتالي، أصبح يتألف من ست طبقات أعلاها (المرصع) تليها خمس درجات.
ثالثاً- الرواية التي ساقها هرتزل في مذكراته بشأن منحه الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة:
يذكر هرتزل في مذكراته التي وثقها واعتنى بتحقيقها المفكر العربي أنيس الصايغ في كتابه “يوميات هرتزل” قيامه بزيارة الآستانة في يونيو/ حزيران من العام 1896 برفقة صديقه الكونت نيفلنسكي، الذي كانت تربطه علاقة ودية بالسلطان عبدالحميد الثاني، يحدوه الأمل في لقاء السلطان حاملاً إليه مغرياته مقابل حصوله على فرمان يجيز قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين.
ولقد حاول هرتزل جاهداً مقابلة السلطان عبدالحميد الثاني، ولكنه لم يفلح في ذلك. فما كان منه إلا أن طلب من صديقه الكونت نيفلنسكي نقل عرضه إلى السلطان لدى لقائه به. وكان رد السلطان عبدالحميد الثاني على عرض هرتزل الذي نقله له الوسيط: “لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدا من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد دافعوا عنها بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا … لا أستطيع أبدا أن أعطي أحداً أي جزء منها. ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا، ولن نقبل تشريحنا لأي غرض كان”[6].
وبعدما تلقى هرتزل رفض السلطان على مقترحاته توسط لدى صديقه الكونت نيفلنسكي من جديد لكي يحصل له على وسام من رتبة “عالية”-على حد وصفه- من السلطان قائلاً لصديقه إنه يريد به أن “يكون شاهداً أمام من أتعامل معهم في لندن على أنني أحرزت قبولاً لدى السلطان”، أي أنه كان يقصد به “خداع” داعميه من ذوي النفوذ في إنكلترا الذين كان يتبجح أمامهم بأنهم سيكونون أكثرية أعضاء جمعيته أو حركته على نحو ما أشار إليه المفكر أنيس الصايغ في معرض شرحه لمذكرات هرتزل[7].
ودعونا الآن نتعرف على هذا الوسام من الرتبة “العالية” الذي كان يلتمس هرتزل من السلطان عبدالحميد الثاني الحصول عليه عبر الوسيط، والكيفية التي تم بها منحه إياه.
يسجل هرتزل في مذكراته أن الكونت نيفلنسكي أخبره أن السلطان عبدالحميد الثاني أرسل له هذا! وناوله علبة فيها الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة التي تقابلها في أنساق ورتب الأوسمة الأوروبية رتبة “كومندور” أو “قائد”[8].
يا له من إنعام “رفيع”! وسام ترتيبه الرابع بين أنساق أوسمة الدولة العثمانية، ألا وهو “المجيدي”، ومن الطبقة الرابعة من بين الطبقات التي يتألف منها هذا الوسام وتعلوه ثلاث طبقات هي من الأدنى إلى الأعلى (الدرجة الثانية ثم الأولى فالمرصع). وقد جرى تسليمه له موضوعاً في علبة عبر الوسيط الأجنبي، وليس بوساطة موفد رسمي من دائرة التشريفات التابعة للبلاط السلطاني العثماني (يلدز سراي همايون)، ومن دون أي مراسم تقليد رسمية بحضور موظفين من البلاط السلطاني أو السفراء والقناصل المعتمدين في الآستانة. مما يعني أن السلطان عبدالحميد الثاني إنما كان يعامل هرتزل بوصفه مجرد صحافي، وليس زعيماً سياسياً خطيراً على نحو ما كان يدعي، وإلا لكان أنعم عليه بما هو أعلى من هذا الوسام، عنينا الوسام العثماني. ومما هو جدير بالذكر أن صحافياً سورياً هو سليم عنحوري أنعم عليه السلطان عبدالحميد في الفترة ذاتها بالوسام نفسه ومن الدرجة نفسها[9].
والواقع إن هرتزل لم يكن مسروراً بهذا الوسام على نحو ما أشار المفكر أنيس الصايغ الذي كتب قائلاً في معرض شرحه لمذكرات هرتزل “لكنه كان بعد أربعة أشهر فقط يسخر من ذلك الوسام حينما سلمه السفير التركي براءته”؛ إذ يسجل هرتزل في مذكراته ملابسات تسليمه براءة الوسام فيذكر أنه ذهب لرؤية محمود نديم باشا السفير التركي، أي أن الأخير هو من قام باستدعائه إلى مكتبه، ثم يردف قائلاً بأنه استقبله بحفاوة، وسلمه براءة الوسام المجيدي، وأعرب له عن أمله بأن يقلده الوسام، فتظاهر هرتزل بأنه كان يشعر بفخر كبير[10].
وفي ضوء ما سبق، يتبين لنا أن لقاء هرتزل بالسفير العثماني محمود نديم باشا لا يتعدى حدود المجاملات البروتوكولية. وأما إعراب السفير عن أمله أو رغبته في تقليد هرتزل الوسام المجيدي أو تطلعه إلى ذلك فلا يعني أنه قلده هذا الوسام بيده، وإنما اقتصر الأمر على تسليمه براءة الوسام وحسب، ومن دون أي مراسم تقليد خاصة أقيمت لهذه الغاية، وإلا لوجدناه يسجلها في مذكراته.
كلمة أخيرة
لا ريب أن إعادة قراءة التاريخ ضرورة لا بد منها لرؤية ماضي الإنسان واستشراف مستقبله. بيد أن إعادة القراءة هذه تقتضي إخضاع المصادر التاريخية التي نستقي معلوماتنا منها للنقد والتدقيق والتمحيص، ولاسيما تلك المعلومات التاريخية التي تردنا من مصدر “وحيد” حتى وإن كان مؤلفه بمثابة شاهد عيان على الأحداث. وتتمثل المهمة الحقيقية للمؤرخ والباحث في التاريخ في وضع الأحداث التاريخية في سياقها الزمني، وتجنب تحميلها ما لا تحتمل.
الإحالات المرجعية:
[1] للاستزادة عن الهجرة الصهيونية إلى فلسطين وموقف الدولة العثمانية منها لاسيما في عهد السلطان عبدالحميد، راجع: شعبان الصوان، آثار التغريب السياسي على المجتمع العثماني: التحدي والاستجابة (الجزء الثالث)، < http://www.ottomanarchives.info/2014/02/03/>[2] هنري لورنس، مسألة فلسطين: الكتاب الأول 1798- 1914، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006، ص ص 225- 227.
[3] نیفل مندل، مواقف العرب والأتراك من الهجرة اليهودية الى فلسطين بين عامي ۱۹۱۹ -۱۸۸۲ ، مجلة مركز الدراسات الفلسطينية، العدد 28-29، 1970، ص 25.
[4] جون هاسلب، السلطان الأحمر عبد الحميد، دار الروائع الجديدة، بيروت، 1974، ترجمة: فيليب عطا الله، ص 286.
[5] للاستزادة عن أوسمة الدولة العثمانية وميدالياتها وأنساقها وطبقاتها ودرجاتها، راجع:
Edhem Eldem, İftihar ve imtiyaz, Osmanlı Nişan ve Madalyaları Tarihi .(İstanbul: 2004)
[6] تیودور هرتزل، يوميات هرتزل، اعداد انیس صايغ وترجمة هلدا شعبان صائغ، بيروت 1998، ص 35.
[7] نفس المرجع، ص 36.
[8] نفس المرجع، ص 36.
[9] قارن مع ترجمته في فيليب دي طرازي، تاريخ الصحافة العربية، المطبعة الأدبية، بيروت 1913، ج2، ص 199-200.
[10] يوميات هرتزل، ص 36.