مقالات
عمرو الملاّح: نافع باشا الجابري… هل كان معارضاً للسلطان عبدالحميد الثاني أم مهادناً له؟
بقلم عمرو الملاّح – التاريخ السّوري المعاصر
كلمة لا بد منها:
كثيرة هي الشخصيات في تاريخنا القريب التي لم تنل حقها من البحث والدرس، بل ونُسجت حولها أحياناً العديد من الحكايات والسرديات القصصية التي اتخذ البعض منها وقائع تاريخية مثبتة. ولعل من أشهر الشخصيات التاريخية تلك الوجيه ورجل السياسة الحلبي البارز نافع باشا الجابري (1853-1917).
والواقع إنني لن أخوض في هذا المقام في مناقشة ما نسبه الكاتب والصحافي البريطاني باتريك سيل في كتابه الموسوم بـ «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» للجابري من مواقف مزعومة اتسمت بالحدة تجاه فيصل الأول ونهجه في الحكم بعد تنصيبه ملكاً على سوريا في العام 1920، تلك المواقف التي أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها من نسج مخيلة سيل الخصبة.
وحسب القارئ أن يعلم أن وفاة نافع باشا الجابري كانت سنة 1917 كما هو مدون على شاهدة قبره التي جرى توثيقها في الكتاب المرجعي «دراسة نقائش العهد العثماني في محافظة حلب»، أي قبل بداية العهد الفيصلي بعام، وتنصيب فيصل الأول ملكاً بثلاثة أعوام.
وأوضح في هذا السياق بأنني سأركز في مقالتي هذه على استعراض الموقف “الفعلي” الذي اتخذه نافع باشا الجابري من السلطان عبدالحميد الثاني بوصفه وجهاً من وجوه ما يمكن تسميته من منظور نسبي بـ”المعارضة” في مجلس النواب العثماني (المبعوثان) الأول (1877-1878)، وتطوره في الأطوار اللاحقة من حياته، وصولاً إلى تمثيله حلب من جديد في مجلس المبعوثان الثاني في العام 1908، محاولاً الوقوف على حقيقة مجاهرته بعدائه للسلطان عبدالحميد و”استكثاره عليه رزقه من بيت المال”، وهل كان ذلك بالفعل السبب وراء حل السلطان مجلس المبعوثان الأول؟ على نحو ما يشير مؤرخ حلب الشيخ كامل الغزي في مقالته عن المفكر عبدالرحمن الكواكبي المنشورة في مجلة “الحديث” الحلبية في العام 1929.
وأحسب أن قراءة متأنية لمحاضر جلسات مجلس المبعوثان الأول المعنونة بالتركية العثمانية «مجلس مبعوثان ضبط جريده سى، 1293-1294 هـ»، والتي باتت الآن إمكانية الوصول إليها وتصفحها متيسرة للباحثين بفضل وجود العديد من المكتبات الرقمية للمحتوى التركي العثماني، توحي بأن ما ذكره الغزي هو أقرب إلى السردية القصصية منه للواقعة التاريخية.
وسأحاول فيما يلي أن أتناول بالعرض والتحليل بعضاً من أبرز المواقف التي أطلقها الجابري تحت القبة البرلمانية في الدورتين التشريعيتين اللتين عقدهما المجلس، وامتدت أولاهما من 19 آذار/ مارس 1877 ولغاية 28 حزيران/ يونيو 1877، وثانيهما من 13 كانون الأول/ ديسمبر 1877 وحتى 14 شباط/ فبراير 1878؛ وذلك بالرجوع إلى محاضر الجلسات، وقد سبقت الإشارة إليها.
الجابري نائباً عن حلب في مجلس المبعوثان الأول:
بدأ نافع أفندي الجابري (الباشا فيما بعد) حياته العملية حينما قام مجلس إدارة ولاية حلب الذي كان والده المفتي عبدالقادر لطفي أفندي الجابري من أعضائه بحكم المنصب بانتخابه نائباً عن ولاية حلب في مجلس المبعوثان الأول، إلى جانب كل من حسني بك باقي زادة، وسعدي أفندي مسعود أفندي زادة، وعبدالقادر بك القدسي، ومانوق أفندي قره جة.
وكان الجابري يعد أصغر النواب سناً، وواحداً من أبرز ثلاثة نواب مثلوا بلاد الشام في المجلس، هما بالإضافة إليه يوسف ضيا أفندي الخالدي نائب القدس (الباشا فيما بعد)، وخليل أفندي غانم نائب بيروت.
وقد برز ثلاثتهم بوصفهم المنافحين الأكثر حماسة عن النظام البرلماني الحديث في الدولة العثمانية؛ فدعوا لتقييد سلطة الحكومة، والتزامها بأحكام القانون الأساسي-الدستور، وألا يجري أي تعديل على مواده إلا عبر مجلس المبعوثان-البرلمان، مؤكدين على تعزيز موقع مجلس المبعوثان باعتباره سلطة تشريعية تمارس دوراً رقابياً إزاء الحكومة بوصفها سلطة تنفيذية. كما طالبوا بإصلاح الدولة، ومحاربة الفساد، والعمل على الإحياء الفكري والثقافي، وتنمية الشعور بالواجب، وحب الـوطـن.
وفي حين تجرأ يوسف ضيا أفندي الخالدي نائب القدس على انتقاد السلطان عبدالحميد الثاني صراحة على نحو ما تجلى في معارضته التعيين غير الدستوري لرئيس المجلس من جانب السلطان، بدلاً من أن يكون منتخباً من أعضاء المجلس، نجد أن نافع أفندي الجابري عارض توجيه أي نقد للسلطان.
بيد أن الجابري أحدث سابقة في تاريخ الحياة النيابية العثمانية تمثلت بمطالبته بإجراء استجواب نيابي للنظار (الوزراء)، حينما دعا لاستجواب كل من ناظر المالية لمناقشة الميزانية العامة للدولة، وناظر البحرية لمناقشة احتجاز الأسطول الروسي سفينة تجارية عثمانية في البحر الأسود؛ وذلك إبان أعمال الدورة التشريعية الأولى، وبعد خمسة أسابيع من افتتاح مجلس المبعوثان وحسب.
ولعل من أبرز مواقف الجابري في المجلس دفاعه عن مبادئ الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الرئيس للتشريع. وحينما اقترح أحد النواب اليونانيين إلغاء مادة في “قانون الولايات” العثماني تنص على أن يكون المفتي عضواً دائماً (بحكم المنصب) في مجالس إدارة الولايات والألوية، انبرى الجابري للدفاع عن هذه الممارسة القانونية، قائلاً إن المفتي كان يجري انتقاؤه من الأهالي، ولذلك يلزم عدم حرمانه من هذه الصفة التمثيلية.
وتعكس مداخلات الجابري ونقاشاته داخل المجلس مدى تأثره- على غرار كثير من معاصريه المنتمين إلى النخبة التنظيماتية الحديثة- بأفكار حركة “العثمانيين الشباب”، التي صاغها المفكرون العثمانيون المتنورون أمثال نامق كمال وإبراهيم شناسي، القائمة على دعم نهج “التنظيمات”، والتوفيق بين الأفكار الليبرالية الأوروبية والإسلام، وإصلاح النظام السياسي والاقتصادي للدولة العثمانية من أجل إنقاذها، وليس تقويضها. ويتعين على المرء أن يميز هنا بين تيار “العثمانيين الشباب” من جهة، وتيار “الأتراك الشباب” الذي نشأ في مرحلة لاحقة وانبثقت عنه جمعية “الاتحاد والترقي” من جهة أخرى.
وكان السلطان عبدالحميد الثاني يحرص عموماً على احتواء التوتر الذي قد يواجهه من النخبة التنظيماتية الحديثة، ولهذا نراه يصدر إرادة سنية تقضي بمنح نافع أفندي الجابري الرتبة “الثانية” في الهرمية العثمانية، التي تعادل رتبة “قائمقام” (العقيد) العسكرية بتاريخ 2 آب/ أغسطس من العام 1877، أي بعد اختتام أعمال الدورة التشريعية الأولى للمجلس.
لقد تزامنت التجربة النيابية العثمانية الأولى مع اندلاع الحرب الروسية-العثمانية (1877-1878)، وما ترتب عليها من خسارة الدولة لمساحات من الأراضي، مما زاد من الانتقادات الموجهة للحكومة داخل مجلس المبعوثان، وأدى إلى تنامي دوره في الرقابة على الحكومة. فما كان من السلطان عبدالحميد الثاني الطامح إلى تعزيز نظام حكمه السلطاني المركزي المطلق إلا أن بادر إلى تعليقه إلى أجل غير مسمى في 14 شباط/ فبراير من العام 1878. وأُعيد عشرة نواب معارضين، ومن بينهم نافع أفندي الجابري، إلى المدن التي كانوا يمثلونها.
اصطدام الجابري مع الوالي جميل باشا:
لا تسعفنا المصادر التاريخية بذكر الكثير من التفاصيل عن أنشطة نافع أفندي الجابري في مرحلة ما بعد حل مجلس المبعوثان باستثناء انضمامه إلى تكتل من الأعيان المحليين مناهض للوالي المشير حسين جميل باشا بقيادة شيخ أعيان حلب أحمد توفيق أفندي الكيخيا.
ولا يمكن النظر إلى اصطدام هذا التكتل من أعيان حلب مع الوالي جميل باشا على أنه يمثل تحدياً للسلطان، بقدر ما كان يعبر عن احتجاج هؤلاء على النهج الذي انتهجه الوالي في إدارة شؤون الولاية، وما مارسه من ضغوط مالية عليهم بغية الحصول على المال لتمويل المشروعات العمرانية على نحو ما، واعتبارهم ذلك أنه بمثابة انتقاص من نفوذهم، وتقويض للقاعدة الاقتصادية التي كانوا يستندون إليها.
لقد كان جميل باشا الذي امتدت ولايته على حلب من العام 1881 ولغاية 1886 والياً متنوراً يجيد الفرنسية، وعرف عنه سعيه إلى وضع حد لتدخل القناصل في شؤون الولاية، والحد من نفوذ الأعيان، فضلاً عما تميز به عهده من إصلاح وتنظيم وعمران وازدهار اقتصادي، وإن لم يخل من ميل إلى استغلال موقعه للإثراء والمنفعة الشخصية.
كتب مؤرخ حلب الشيخ راغب الطباخ يصف الخلاف الذي ذر قرنه بين جميل باشا وفريق من أعيان حلب في كتابه المرجعي «إعلام النبلاء»، فقال:
“قبل مجيء جميل باشا كانت الحكومة بحلب ضعيفة جداً وكان البعض من الوجهاء يسرحون ويمرحون ويفعلون ما يشاؤون ويعاملون الناس بأسوأ المعاملة خصوصًا الفلاحين، فلم يرق ذلك في عين جميل باشا وأخذ في معاكستهم وصار يحول بينهم وبين رغائبهم، فعظم ذلك عليهم وبدأ الخلاف بينه وبينهم، وكان في ذلك الحين قد بدأ يميل إلى منافعه الشخصية وصار ذا ثروة طائلة واشترى أراضي وعدة قرى واستحكر أراضي في محلة الجميلية، أخذها بأثمان بخسة من يد أربابها، والخلاصة أنه لم يقصر أيضاً في جرّ القرص إلى نفسه وطرق باب الطمع والاستبداد والمخالفة للوجدان الطاهر، فاتخذ الوجهاء تلك الأمور أسباباً لتتابع الشكايات عليه إلى أن أدت الحال إلى ما ذكرناه. ولا تنس ما قدمناه من أن أوساط الناس والضعفاء كانوا راضين عنه لعطفه عليهم وأخذه بناصرهم وهم لا يزالون يتناقلون أخباره ومناقبه ويتحدثون بها في مجالسهم بملء الإعجاب”.
وأدى استمرار الصدام ما بين الأعيان والوالي، ونجاح الأعيان في حشد دعم كل من الصدر الأعظم، وناظر العدلية، والشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي شيخ الطريقة الرفاعية ونقيب أشراف حلب المقيم في اسطنبول والمقرب من السلطان خلفهم إلى اضطرار السلطان عبدالحميد الثاني لتنحية جميل باشا وتعيينه والياً على الحجاز، كما يشير الباحث جان داية في مقالته المهمة «سرّ امتداح الكواكبي لأحد رموز الطغيان والفساد أبي الهدى الصيادي» المنشورة في صحيفة “الشرق الأوسط” في عددها الصادر في 10 أيار/ مايو 2006.
ارتقاء الجابري إلى مراتب الباشوية:
شهدت التسعينيات من القرن التاسع عشر انتظام نافع أفندي الجابري في الجهاز البيروقراطي في ولاية حلب عبر تعيينه مستشاراً في محكمة الاستئناف الحقوقية، ثم انتخابه عضواً في مجلس إدارة الولاية مرتين (1897-1898) و(1902-1903)، وفقاً لما ورد في الكتاب السنوي لولاية حلب «سالنامه ولايت حلب».
وتزامن انضمام الجابري إلى النخبة البيروقراطية المحلية مع اتخاذه وسائل شتى للتقرب إلى السلطان عبدالحميد الثاني، على نحو ما تجلى، مثلاً، بإهدائه فرساً وجواداً إلى مزرعة خاصة بالسلطان لتربية الخيول العربية جرى تدشينها في ولاية حلب في العام 1902 باسم “حمره حاراى همايونى”، وكانت تتبع لإدارة الـ”جفتلك همايونى” (الأراضي السلطانية)، وفقاً لما أوردته صحيفة «ثروت» التي كانت تصدر في اسطنبول في عددها المؤرخ في 29 حزيران/ يونيو 1902.
ووفقاً لما أوردته صحيفة «إقدام» التي كانت تصدر في اسطنبول في عددها المؤرخ في 24 أيار/ مايو 1903 كان نافع أفندي الجابري من المشمولين بإنعامات السلطان عبد الحميد الثاني، التي تضمنت ترقيته إلى رتبة “ميرميران”، وهي من الرتب المُلكية (المدنية) الرفيعة، ويقع ترتيبها ضمن النسق الثالث من بين أنساق المراتب التسع في الهرمية العثمانية، وتعادل رتبة “أمير لواء” (اللواء) العسكرية، ويُلقب حاملها بالـ “باشا” من الدرجة الثانية، ويُنعت بـ (صاحب السعادة) دوماً.
ويمكن إدراج ارتقاء الجابري إلى مراتب الباشوية ذات الأهمية الخطيرة في المنظور العثماني لمكانة الأعيان ونفوذهم ضمن السياسة العامة التي انتهجها السلطان عبدالحميد الثاني، والمتمثلة في رعايته تكوين نخبة مدينية قوامها الأعيان المحليون الذين كانوا يجمعون بين صفتي البيروقراطيين-الملاك، وإدماجهم في المؤسسة العثمانية بوصفهم “أرستقراطية بيروقراطية”، وجعلهم يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالبيروقراطية المركزية عبر منحهم الرتب الشرفية، وما يرافقها من ألقاب النبالة العثمانية، وحرصه على أن يكون لهم حضورهم في الهيئات والمجالس الحكومية المحلية.
ويبدو أن نافع باشا الجابري- الذي سيصبح بعد رحيل والده المفتي الأسبق الشيخ عبدالقادر لطفي أفندي الجابري في العام 1907 عميد آل الجابري وكبيرهم- كان في هذا الطور من حياته مرحباً بسياسة الانفتاح التي انتهجها السلطان عبدالحميد الثاني إزاء أسر الأعيان في حلب.
نافع باشا الجابري “شيخ المبعوثان”:
أُعيد انتخاب نافع باشا الجابري نائباً عن ولاية حلب في مجلس المبعوثان، بعد إعادة العمل بالقانون الأساسي- الدستور، الذي كان قد مضى ثلاثون عاماً على تعطيله، إثر الحركة الانقلابية التي قام بها الضباط المنتسبون إلى جمعية “الاتحاد والترقي” المحظورة (تركيا الفتاة بالأمس).
وكان الجابري النائب الوحيد من مجلس المبعوثان الأول (1877) الذي عاد ليحتل مقعداً في الثاني (1908)؛ فلقبه أقرانه من النواب في المجلس بـ”شيخ المبعوثان”، تقديراً لدوره الرائد في الحياة النيابية العثمانية.
ومما يسترعي الانتباه، في هذا السياق التاريخي، التقرير الذي نشرته صحيفة «الاتحاد العثماني» التي كانت تصدر في بيروت في عددها المؤرخ في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1908 بقلم مراسلها في حلب الشيخ راغب الطباخ، ويصف فيه النواب الذين مثلوا حلب في مجلس المبعوثان الثاني بالقول:
“الستة الذين حازوا الأكثرية بعد إتمام الانتخابات في الملحقات هم: عينتابي زادة مصطفى أفندي الذي عين باشكاتباً بعد إعلان الدستور، وملاح زادة مرعي باشا الذي عين عضواً في مجلس الإدارة بعد الدستور، وكواكبي زادة مسعود أفندي، وجابري زادة نافع باشا، وعلي بك ابن راسم باشا من وجوه عينتاب، والحاج رفعت آغا بركات من وجوه أنطاكية. وكلهم مشهورون بالفضل والاقتدار، عارفون بأحوال البلاد والعباد، خبيرون بداء الأمة ودوائها. بيد أن الثلاثة الأخيرين كما هم مشهورون بما أسلفناه هم مشهورون أيضاً في الدور السابق بالاستبداد، غير أن لسان حال أهل ولايتنا يقول: عفا الله عما سلف. وقد غفرنا لهم هذه السيئات بتلك الحسنات، ونحن أبناء اليوم؛ «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره»”.
ولئن أشاد الطباخ في تقريره الإخباري بالمزايا العالية التي كان يتمتع بها الجابري، إلا أن وصفه له لم يخل مع ذلك من توجيهه عبارات نقد بحقه، تتصل بممارسات اعتبر أنها تنطوي على “الاستبداد” نسبها إليه.
ولعلنا نتساءل هنا إن كانت مآخذ مؤرخ حلب الطباخ على نافع باشا الجابري، والتي جاهر بها أثناء حياة الجابري، من الأسباب التي جعلته يُغفل الترجمة له، ويُهمل تتبع أخباره في كتابه المرجعي «إعلام النبلاء»، مع الإشارة إلى أن الجابري كان أحد أهم أعيان حلب الذين عاصرهم الطباخ وعرفهم عن كثب، فاكتفى بذكره في مناسبتين فحسب تتعلقان باصطدامه مع الوالي جميل باشا؛ وذلك على الرغم من أن الجابري كان قد توفي قبل سنة 1345هـــ/ 1926م، وهي السنة التي توقف عندها الطباخ في قسم التراجم، فضلاً عن توسع مؤرخ حلب الطباخ في التعريف بأعلام آل الجابري في كتابه، ومن بينهم والد نافع باشا ذاته المفتي عبدالقادر لطفي أفندي الجابري، وابن عمه أسعد باشا الجابري أحد باشوات حلب الكبار في عصره.
وبالرجوع إلى محاضر جلسات مجلس المبعوثان الثاني التي دأبت على نشرها الجريدة الرسمية العثمانية «تقويم وقايع» نجد أن الجابري انتخب رئيساً للجنة الأموال غير المنقولة، وهي إحدى اللجان المالية في المجلس.
ولعل من أبرز المواقف التي اتخذها نافع باشا الجابري تحت القبة البرلمانية إزاء قضايا مصيرية تتعلق بشكل الدولة ونوع السلطات فيها واختصاصاتها قبيل الإطاحة بحكم السلطان عبدالحميد الثاني، كان مشاركته في وضع تقرير موجه لرئاسة مجلس المبعوثان في 20 كانون الثاني/ يناير من العام 1909، ومذيل بتوقيع عشرة نواب هم بالإضافة إليه: إسماعيل كمال بك (برات)، وزهراب أفندي (استانبول)، وأبو الضيا توفيق بك (أنطالية)، وماهر سعيد بك (أنقرة)، وقوزميدي أفندي (استانبول)، وإبراهيم لطفي باشا (كموشخانه)، وأحمد مفيد بك (أزميد)، ورفعت بك بركات، ومرعي باشا الملاّح (حلب).
يستهل النواب تقريرهم بالإشادة ببيان حكومة الصدر الأعظم كامل باشا التي نالت بموجبه ثقة المجلس بأكثرية ساحقة في الجلسة المنعقدة في 13 كانون الثاني/ يناير من العام 1909، مطالبين إياها بالمسارعة إلى وضع برنامجها الإصلاحي موضع التنفيذ.
وأشار النواب إلى أن حل المشكلات التي كانت تعاني منها الدولة العثمانية في ذلك الحين إنما يتمثل في الأصول والأسس التي تتجلى فيها المشروطية (الملكية الدستورية) المبنية على “الحاكمية الملية”، بمعنى “حاكمية الأمة” أو “السيادة الوطنية”، مبينين أن الشكل الذي تتجلى فيه “الحاكمية” تلك هو الشكل “النيابي الدستوري”، على نحو تصبح فيه “هيئة الوكلاء” (الحكومة) مسؤولة أمام مجلس المبعوثان (المجلس النيابي).
ولئن لم يأت النواب على ذكر السلطان عبدالحميد الثاني صراحة، إلا أنهم أشاروا إلى أن “السلطة المقيدة” تمثل ضمانة لحقوق حاكمية الأمة في شؤونها الداخلية والخارجية، وحماية من التعسف.
كما أكدوا على أنه ثمة حاجة ملحة وحتمية لإصلاح الإدارة المدنية وتحديثها على نحو متكامل بدلاً من النظر إليها بصورة مجزأة تميز بين إصلاحات أصلية وأخرى فرعية، مشددين على أن مهمة الحفاظ على حقوق الملة (الشعب) تقع على عاتق الدولة، مع دعوتهم الحكومة لاتخاذ التدابير السياسية الرامية إلى تحصين الدولة من الأخطار الخارجية المحدقة بها، وضمان رفعة شأنها، مقرونة بتوفير الأمن في أرجائها.
وطالبوا في نهاية تقريرهم بدعوة الصدر الأعظم كامل باشا للمثول أمام مجلس المبعوثان بصورة دورية للمذاكرة في أعمال حكومته، وإدراج ذلك ضمن جدول أعمال جلسات المجلس، تعزيزاً للدور الرقابي الذي يضطلع به المجلس.
ونظراً لما لهذا التقرير من أهمية فقد نشرت خلاصته في الجريدة الرسمية للدولة العثمانية “تقويم وقايع” التي كانت تصدر في اسطنبول في عددها المؤرخ في 3 شباط/ فبراير 1909.
ولكن الأحداث ستتسارع في العاصمة ابتداء بحجب النواب الثقة عن حكومة الصدر كامل باشا القبرصي في 13 شباط/ فبراير من العام 1909 بضغط من الضباط المنتمين إلى جمعية “الاتحاد والترقي”، ومروراً باندلاع “الثورة المضادة” بين السابع والثالث عشر من نيسان/ أبريل من العام 1909 والمعروفة في الحوليات العثمانية بـ(حادثة 31 مارس/ آذار 1325) أو (الحركة الارتجاعية)، في إشارة إلى محاولة القائمين عليها إعادة الحكم الفعلي إلى السلطان عبدالحميد، وانتهاء بزحف جيش سالونيك المسمى بـ”جيش الحركة” الذى كان للاتحاديين الهيمنة عليه إلى العاصمة للإطاحة بالسلطان عبدالحميد الثاني، وتنصيب أخيه محمد رشاد سلطاناً باسم (محمد الخامس) في 27 نيسان/ أبريل من العام 1909، وإعلان الأحكام العرفية.
وقفة أخيرة مع السياسة:
انتخب نافع باشا الجابري في أواخر العام 1909 نائباً لرئيس الحزب “الحر المعتدل” في الآستانة المناهض لجمعية “الاتحاد والترقي”، التي باتت بمثابة الحزب الحاكم في الدولة العثمانية بعد الإطاحة بحكم السلطان عبدالحميد الثاني.
وقد خاض الجابري الانتخابات النيابية في العام 1912 مرشحاً عن حزب “الحرية والائتلاف” المعارض، ولكن لم يحالفه النجاح فيها بسبب سيطرة الاتحاديين على الانتخابات في تلك الدورة، فلم يسمحوا لأي من المرشحين من خارج صفوف جمعيتهم بالفوز فيها.
وكان آخر نشاط لنافع باشا الجابري في الحياة العامة إلقاؤه كلمة ترحيب بأنور باشا وكيل القائد العام للجيوش العثمانية وناظر الحربية في المأدبة التي أقامتها البلدية على شرفه أثناء زيارته إلى حلب، وبرفقته أحمد جمال باشا ناظر البحرية وقائد الجيش الرابع العثماني، إبان الحرب العالمية الأولى في شباط/ فبراير من العام 1916، وفقاً لما أورده العلامة محمد كرد علي في كتابه الوثائقي «الرحلة الأنورية إلى الأصقاع الحجازية والشامية».
حافظ نافع باشا الجابري على ولائه للدولة العثمانية حتى آخر لحظات حياته، فكان يدافع عنها، ويأمل بإحداث الإصلاحات في شتى المجالات. بينما كان شقيقه الأصغر الشاب سعد الله الجابري مندمجاً في الحركة القومية العربية المتشبثة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، معبراً في ذلك عن تباين سياسي بين جيلين في مرحلة الانتقال من النظام العثماني إلى الهوية العربية السورية.
اقرأ :
للإطلاع على تسلسل أحداث التاريخ السوري المعاصر بحسب الأيام
انظر أيضاً – أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات