مقالات
محمد عدنان حريتاني : المصور عالشمس
محمد عدنان حريتاني- التاريخ السوري المعاصر
التصوير الضوئي فن حديث ولد فعلياً في أواخر القرن التاسع عشر (سبعينيات القرن التاسع عشر) وانتقل إلى سورية بقدوم المستشرقين، ومن ثم دخول القوات الفرنسية عام 1920م.
كان الهدف الأول منه التوثيق نظراً للسرعة في انجاز الصور قياساً بالتصوير الزيتي وبعد اعتماد الصور في اثبات الشخصية عند إصدار الوثائق من هويات وجوازات سفر، برزت الحاجة لوجود مختصين بهذا المجال يقدمون خدماتهم في مناطق عدة وبسرعة في الأداء، ولم تكن استوديوهات التصوير المعروفة حالياً قد افتتحت لعدم انتشار الكهرباء، ولأن التصوير في تلك الأيام يتطلب إضاءة عالية ودون وجود شمس ساطعة أو ضوء نهار على الأقل لا يمكن التصوير ومن هنا ظهرت تسمية الصورة الشمسية التي يشار اليها ضمن مستطيل على المعاملات الرسمية والاستمارات رغم أن المتعارف عليه “صورة على المي”.
المصور في تلك الأيام كان ساحراً يصنع المعجزة أمام الزبون فالكاميرا الضخمة التي تحملها ثلاث ارجل متحركة صعوداً ونزولاً كانت مخبراً يختصر كل معدات الاستوديوهات والستارة السوداء الكالحة بفعل الشمس التي تستعمل كخلفية للصور والكرسي المتهالك وأبريق الماء هي كل الأدوات المساعدة له.
كانت أظافره الصفراء من أثر المحاليل الكيماوية من العلامات الفارقة التي تميزه عن باقي الحرفيين، كان مظهره بائساً إذ لم يكن مرفها فقد كان البرد يقرصه شتاء والقيظ يشوي رأسه صيفاً لأن عمله لا يمارس إلا على الارصفة وزبائنه من مختلف الشرائح الاجتماعية فالكل يحتاج خدماته وتنتهي هذه العلاقة بمجرد ان يستلم الزبون صوره وهو لن يعود ثانية لاستخراج نسخ جديدة عن الصورة إذ لاوجود للنسخة السلبية او المسودة كما كانوا يسمونها.
بعد انتشار استوديوهات التصوير، كان هؤلاء المصورون يتواجدون حول الدوائر الحكومية وأبرزها في حلب كانت السراي الجديدة أمام قلعة حلب حيث كان يقف ما ينوف عن عشرة منهم على الرصيف المحيط بها أمام قلعة حلب وكانوا يتسابقون أحياناً لاقتناص الزبائن ولم يكن الزبون يبدي اي اعتراض على الصور فهي مقبولة مهما كانت النتيجة، والملفت للنظر ان هذا المصور المتواضع يمتلك بعضاً من الاكسسورات المساعدة لخدمة الزبون فتجد لديه مرآة ومشطاً وقميصاً ومعطفاً وطربوشاً وعمامة وربما كان لديه زي فلكلوري أو شعبي للصور التذكارية.
الذين يذكرون هذا المصور قلة فأغلبهم فارقنا، التقاط الصورة كان طقساً مميزاً يبدأ بجلوس الزبون على الكرسي بعد ان يمشط شعره ويعدل الطربوش، ويصطنع ابتسامة تضفي بهجة على الصورة تغطي سوء التقنية.
يبدأ الانتظار حيث يحشر المصور رأسه داخل كم اسود اللون عازل للضوء بعد أن يجهز السلبية ضمن حاملها ومن ثم يقوم بضبط التركيز ليظهر الخيال الذي يتخلل العدسة اوضح ما يكون يغلق العدسة بسدادة ويضع حامل السلبية في مكانه داخل الكاميرا وبعدها يخرج رأسه ليطلب من الزبون الثبات للحظات كي لا تظهر الصورة مشوشة غير واضحة لحظة التقاطها ثم يرفع غطاء العدسة ويبدأ يتمتم همساً انه يعد واحد اثنان ثلاثة أربعة …
ويتوقف العد حسب ظروف الإضاءة ثم يعيد غطاء العدسة إلى مكانه، لم يكن غالق العدسة الآلي الذي يتحكم بزمن تعريض اللوح الحساس للضوء قد اخترع بعد.
تم التصوير يأخذ الزبون وضع الراحة ويتابع الانتظار مرة اخرى يدخل المصور كلتا يديه في كمين اسودين كتيمين للضوء متصلين بصندوقه العجيب ليبدأ عملية التظهير حيث يراقب العملية من خلال منظار يبين ما يجري داخل الصندوق بعد ان يفتح نافذة صغير في صندوقه تسمح للضوء بالمرور الى الداخل من خلال فلتر زجاجي احمر اللون كي لا تتلف الصورة، دقائق ويفتح درجاً صغيراً يخرج منه صورة ورقية مبللة بالماء للزبون لكنها سلبية فقد كان الورق الحساس يستخدم كسلبية ثم يقوم بصبغ الاجزاء الاكثر بياضاً بلون أحمر خفيف ليزيد من تدرجات اللون الرمادي في الصورة ثم يلصقها على حامل خاص أمام العدسة ليعيد تصويرها لكن هذه المرة لتظهر صورة ايجابية ويعيد عملية التظهير وتبقى الخطوة الأخيرة بعد إخراج الصورة النهائية من الدرج وهي غسلها بالماء وانتظار تجفيفها ليتم قصها وتشذيب أطرافها وتكون جاهزة للاستخدام.
هذه العملية تستغرق زمنا يقرب من الساعة، اليوم وبعد قرن من الزمن هذه العملية لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة لتكون صورة جذابة ملونه تسر الناظرين.
هذه حكاية أرويها لأصدقائي ممن لم يعاصروها وهي فصل من الفصول التي مر بها فن التصوير ورغم التقانات الرقمية التي طالت هذا الفن لازالت الكاميرا التقليدية والفيلم الابيض وأسود يسجل أروع اللحظات ويبدع أعمالاً لا تقل قيمة عن باقي الفنون.
ان مصور الشمس الذي انقرض في بلادنا لازال له حضور في الغرب والناس تعتبره جزء من تاريخ وتراث حقبة من تاريخهم ، وهم لازالوا يقفون أمامه في جلسات تصوير للذكرى وربما وثقوها بجوالتهم ، ذلك كي يحافظوا على بقائه كجزء من ذاكرتهم الشعبية حسبما أفادني به صديق لي وتحديداً في مدينة بروكسل.