مقالات

ميشيل عفلق عام 1946 : فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي

لا ينتظّرن العرب ظهور المعجزة .. فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي .. من مقالات ميشيل عفلق التي نشرت في افتتاحية صحيفة البعث في الحادي والثلاثين من تموز عام 1946م.


 ليس بين العرب من يجهل أن قضية فلسطين هي اليوم أخطر مشكلة في حياتهم القومية. ولكن ما يجهله أكثر العرب هو أن الطريقة التي تعالج بها هذه القضية بعيدة كل البعد عن الصواب والنزاهة. فإذا عرفنا أن للصهيونية والدول التي تناصرها عقلية سياسية في غاية النضج والحنكة، وأساليب في التضليل والإغراء لا يقيدها شرف، ولا يردعها ضمير، إستطعنا من جهة أن نقدر درجة الخطر الذي ينتج عن الإستمرار في تلك الطريقة السطحية في المعالجة، وأن نسيء الظن من جهة أخرى في قصد الكثيرين من سالكيها ومروجي أساليبها.

ويمكن تلخيص هذه الطريقة في ناحيتين بارزتين: الأولى هي تحويل مشكلة فلسطين الى وجهة عاطفية عقيمة، بأن لا نرى فيها الا صورة لغدر الدول الغربية بنا ورجوعها عما قطعته لنا من عهود وخيانتها لما تدعيه وتتذرع به من مبادئ،  فنقصر كلامنا على فضح هذه النوايا المفضوحة، واقتحام هذه الأبواب المفتوحة، وندعو الى الحذر من هذه الدول الماكرة،  شعباً، لم يكن في يوم من الأيام الا حذراً منها، مرتاباً فيها، ونشجعه على الوقوف موقف المتشائم اليائس الذي لا يرى حوله إلا المؤامرات، ولا يبصر أمامه إلا تكتل قوى باغية طاغية لا قبل له بدفعها، فكأن الشعب الحي لا يفرض فيه أن يحسب لغدر الأعداء ومؤامراتهم حساباً.. وكأن واجبنا لم يكن دوماً أن نصون حقوقنا ونكسب قضيتنا بالرغم مما يقع عليها من اعتداء ويدبر لها من مكائد.

أما الناحية الثانية، فهي أن نسرف في الإطمئنان والتفاؤل بعد اسرافنا في الارتياب والتشاؤم، فنعتمد على خطب الزعماء وتصريحات الوزراء ووعود رؤساء الدول العربية، مع معرفتنا بوسائل هؤلاء السياسيين وامكانياتهم، وبالحد الذي تقف عنده جرأتهم وتضحيتهم، والسهولة التي يتملصون بها من تصريحاتهم هذه أو يناقضونها. وهكذا نرى الخطر محدقاً بنا ثم نرجئ الإستعداد له ونعلل النفس بالوهم. لأن زعيماً هدد وعظيماً وعد! منتظرين أن تظهر المعجزة التي لا نرى دليلاً واحداً ينبئ بظهورها، مضحين بالعقل على مذبح السحر!.

لنقف بجرأة ورجولة أمام الحقائق التالية:

ان تكن الصهيونية بالنسبة الى بلادنا حركة عدوان، فإنها بالنسبة الى أصحابها حركة إيمان. وان يكن وراء الصهيونية رأسماليون يغذونها ويستغلونها ودول إستعمارية تجد في مؤازرتها ربحاً لها، وتثبيتاً لاستعمارها في بلاد العرب فذلك لا يمنع الصهيونية ان تكون في صميمها حركة شعبية وأن تحصل على التأييد الفعال من جميع يهود العالم!

ونرى أيضاً أن الدول الغربية التي تناصر الصهيونية لا تفعل ذلك مختارة بل مكرهة بدافع المصلحة لأنها تجد في مناصرتها من الربح أكثر مما تلاقي في معاداة العرب من الخسارة. وأخيراً فإن واقع اليهود القوي الراقي يجعل من باطلهم في نظر الغربيين حقاً، في حين أن واقع العرب الضعيف التأخر يكاد يحجب حقهم، أو على الأقل يضع هذا الحق مع باطل اليهود في مستوى واحد. فاذا وجب أن نصر على اعتبار الصهيونية بغياً وعدواناً وان نفضح أمام العالم هذا العدوان فيجب أيضاً أن لا نغفل ما يكمن وراءه من عقيدة متينة توحي الى الشعب اليهودي بالتضحية والإقدام وإلى زعماء اليهود بالتجرد والصلابة،  وتطبع الحركة كلها بطابع القوة والجد والاحكام.

فالخطر الصهيوني ليس إذن مجرد غزو إقتصادي يحركه المال والطمع المادي وانما هو بالدرجة الاولى غزو ديني لا يشبهه في التاريخ الا الحروب الصليبية! ولا يقوى على دفعه الا يقظة الإيمان في نفوس العرب، وتجسد هذا الإيمان بشكل عملي فعال. لذلك كان الإتكال على السياسة بحساباتها ومماطلاتها أكبر مخدر لروح النضال في الشعب وأكثف ستار يحجب عن العرب رؤية الخطر الذي يهددهم. فكما أن السر في نجاح الحركة الصهيونية هو كونها حركة شعبية، كذلك لا تحبط مساعي هذه الحركة الإجرامية الا متى أصبحت مقاومة العرب لها شعبية حقة. واذا كان اليهود وهم المشردون في الآفاق، الذين ليس لهم أرض تجمعهم ولا دولة تمثلهم، قد استطاعوا أن ينظموا أنفسهم بشكل نادر التوحيد وأن يسخّروا لأغراضهم دولاً كبرى برمتها فهل يعجز العرب وهم شعب واحد يسكن أرضاً واحدة، عن ان يحققوا مثل تلك الوحدة في تنظيمهم وأن ينقذوا قضيتهم من استغلال حكوماتهم وطبقاتهم المتزعمة، اذا لم يقدروا على توجيه هذه الحكومات والزعامات في الطريق التي تنفع القضية القومية؟

إن العرب يعانون مشكلة أساسية واحدة هي استسلامهم لطبقة إجتماعية تقوم على الإستثمار والإستئثار، وهذا الوضع يشكل ضعفهم الداخلي والخارجي لأنه يخنق معظم قواهم وامكانياتهم في الداخل ويظهرهم أمام العالم بمظهر الشعب المتأخر.

ولئن كان الظرف الآن لا يحتمل الانتظار لكي تعالج المشكلة من أساسها ولا يتسع للانشقاق والإنقسام، فيبقى أمام العرب واجب عاجل لانقاذ فلسطين، هو أن يتركوا الحكومات وشأنها ويودعوا آخر أمل لهم في نجوع السياسة الرسمية فيلتفتوا الى العمل الشعبي ويصبوا فيه كل جهودهم.

أما الحكومات العربية وجامعتها فيبقى أمامها سبيل واحد لكي تبرهن على انها لم توجد لخدمة الأجنبي والعمل بوحيه، هو أن لا تضع العقبات والعراقيل في وجه الشعب المتعطش للجهاد!.

6 آب 1946


انظر مقالات  ووثائق ميشيل عفلق:

في الثلاثينيات:

عهد البطولة 1935
ثروة الحياة 1936

في الأربعينيات:

 القومية حب قبل كل شئ 1940
 القومية قدر محبب 1940
في القومية العربية
1941
نفدي العراق 1941
ذكرى الرسول العربي 1943
التفكير المجرد 1943
واجب العمل القومي
1943
الإيمان
1943
المثالية الموهومة
1943
المثالية الواقعية
1943
المعركة الانتخابية الأولى
1943
حول الاعتداء على استقلال لبنان 1943
الجيل العربي الجديد 1944
الأرض والسماء
1944
موقفنا من النظرية الشيوعية
1944
السياسة الأمريكية حول فلسطين
1944
حول السياسة الأميركية والهجرة اليهودية 1945
موقف الحزب من ميثاق الجامعة العربية
1945
مقابلة ميشيل عفلق مع مجلة النضال
1945
بيان حزب البعث العربي حول مشاكل العرب السياسية  1945
بيان حزب البعث حول الإتفاق البريطاني – الفرنسي “بيفن – بيدو”  1945
حول الرسالة العربية
1946
معالم الاشتراكية العربية
1946
المعاهدة الأردنية – البريطانية
1946
بذور البَعث
03.07.1946
 علة الضعف في سياستنا الخارجية
10.07.1946
الصيغة الجديدة للوطنية
17.07.1946
 الجمهورية والحرية ماذا عملنا لصيانة نظامنا الجمهوري
18.08.1946
المعارضة والقضية العربية
21.07.1946
السياسة الرسمية وشعور الأمة 27.07.1946
السياسة المعكوسة
31.07.1946
كلمة ميشيل عفلق في افتتاح المؤتمر التأسيسي 
04.04.1947

انظر ايضاً:

ميشيل عفلق: التنظيم الإنقلابي

ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب

ميشيل عفلق: حزب الانقلاب

ميشيل عفلق: الدور التاريخي لحركة البعث

ميشيل عفلق: الحركة الفكرية الشاملة

المصدر
بنشر بالتنسيق مع موقع في سبيل البعث وأسرة ميشيل عفلق، التاريخ السوري المعاصر
زر الذهاب إلى الأعلى