حمصي فرحان الحمادة – التاريخ السوري المعاصر
عام 1925م، حدثت فيه عدة أحداث هامة في منطقة الرقة جعلها تدخل في التقويم الشعبي الرقي وسنستعرضها بإيجاز:
الأول : (سنة موتة هويدي)
الشيخ (هويدي الشلاش) شيخ العفادلة يرحمه الله من الشخصيات البارزة في تاريخ الرقة، ولكن بكل أسف لم يلتفت أحد لتوثيق سيرة حياته، وأذكر حدثين هامين للشيخ هويدي الشلاش يرحمه الله:
1- بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى، وانسحاب القوات العثمانية من بلاد الشام ومن الرقة، تداعى شيوخ منطقة الرقة ووجهاء المدينة، وتم الاتفاق على تشكيل (هيئة المشورة) برئاسة (الشيخ هويدي الشلاش) يرحمه الله وضمت عدداً كبيراً من شيوخ المنطقة ووجهاء مدينة الرقة.
ومهمتها إدارة شؤون المنطقة وحفظ الأمن إلى حين وصول القوات العربية التي دخلت سورية بتاريخ 18 حزيران 1918م.
2- ذكر الأستاذ محمود الذخيرة نقلاً عن الوجيه أحد الحاج عبد الله، أنه بعد دخول القوات الفرنسية إلى الرقة قبل حلول عام 1922 ثلاثة عشر يوماً اجتمع قائد القوة الفرنسية بشيوخ ووجهاء المدينة للتعرف إليهم وتبليغهم أن مهمة القوات الفرنسية هي الانتداب بموجب قرار دولي، وعندما جاء دور الشيخ هويدي الشلاش لف يده اليمنى بكم ثوبه وصافح الضابط الفرنسي قائلاً: أنه لا يريد لكفه أن تلامس كف خنزير كافر.
وفي عام 1925 توفي الشيخ هويدي الشلاش يرحمه الله، وصارت سنة وفاته سنة تقويم رقي باسم (سنة موتة هويدي).
الثاني (سنة فيضة هويدي)
كان فيضان نهر الفرات وقبل بناء السدود وعلى مجراه في تركيا وسورية يبدأ في شهر نيسان مع بدء ذوبان الثلوج ويستمر لمدة تطول أكثر من شهر، ثم يبدأ بالانحسار تدريجياً إلى منتصف حزيران تاركاً طبقة طينية غنية، حيث كان يعمد أهالي الرقة إلى زراعتها خلال الصيف بالبطيخ والدبشي والقثاء والعوين.
ولكن في بعض السنوات يكون الفيضان مدمراً، مخلفاً الكثير من الدمار والخراب، فيصبح هذا الفيضان المدمر تقويماً شعبياً، وفي عام 1925م، حدث فيضان مدمر تزامن مع وفاة الشيخ هويدي الشلاش شيخ العفادلة يرحمه الله فسمي العام (سنة فيضة هويدي).
الثالث : (سنة الطنايا)
كتب لي أحد الإخوة قائلاً:
(الطنايا) لقب محصور بشمر وتعني المتلثمين الزعلانين المصممين على أمر مهما بلغ الثمن.
يذكر أجدادنا حصول خلاف بين شمر والفدعان بريف الرقة ما دفع الشيخ دهام الهادي شيخ شمر للقدوم إلى الرقة لحل الخلاف. ونزل بمضافة العجيلي بالرقة، وأرسل مراسيله تتحقق بالوضع عند الفدعان وعند شمر فوجد أن البدو كانون منقسمين لرأيين:
الأول: مع محاربة شمر.
الثاني: مع الصلح ووأد الفتنة.
فأرسل للفدعان. رسالة يطلب منهم الصلح وأن لم يوافقوا فسيعتبر هذا إعلان الحرب.
وافق الفدعان وذهب إليهم الشيخ دهام الهادي والتقى الشيخ مجحم بن مهيد شيخ الفدعان وتم الصلح بين الطرفين، وبقي الشيخ دهام الهادي ضيفاً عند الشيخ مجحم بن مهيد معززاً مكرماً مدة ثلاثة أيام احتفالاً بالصلح.
وخلال عودته راجعاً لدياره كان القائد الفرنسي (اروش) ناصباً لهم كميناً بالطريق لأن شمر ترفض دفع الجزية كبقية العشائر. وحدثت بينهم معركة انتصر فيها رجال شمر وأسروا أروش وعدداً من عناصره، وأخذهم الشيخ دهام معه ولم يتركهم في الرقة خوفاً من تهريبهم أو هجوم الفرنسيين وفك أسرهم. فقال شاعرهم مفتخراً أبياته المعروفة:
اروش وشلك بالطنايا
تنبيلك وازاهم وزى
تحسبهم فريج شوايا
كل يوم تطلبهم جزا
الرقة ما فكت وثيج
والغولي ما عمره غزا
ثم أطلق سراح الأسرى باتفاق بين شمر والفرنسيين بشرط عدم تعرضهم لأي شمري وعدم مطالبتها بدفع ضرائب.
وكتب الأستاذ محمود الذخيرة في كتابه (أهل الرقة) عن سنة الطنايا ما يلي:
بعد دخول الفرنسيين المنطقة عام 1922م، أخذت الفتن تزداد يوماً بعد يوم، خاصة وجود القبائل المتبدية في المنطقة بشطريها (الشامية والجزيرة)، والعداوة ما بين قبيلتي شمر والفدعان.
والمعروف أن قبيلة شمر تجوب مراعي المنطقة حتى حدود أبي هريرة غرباً، وبعض أطراف الشامية المحاذية للجهة الجنوبية من الفرات.
وكذلك قبيلة الفدعان التي كانت تتوضع في منطقة البليخ، منتشرة على البرازي المحاذية للنهر، وشمر تجمعاتها الرئيسية شرقي نهر الخابور من جهة الشرق إلى العراق، وكانت هذه المنطقة تحت النفوذ الإنجليزي، فأصبحت شمر توالي الإنجليز، ومنطقة الرقة تحت النفوذ الفرنسي التي تنتشر عليها قبيلة الفدعان التي أصبحت توالي الفرنسيين.
فالصراع بين الإنجليز والفرنسيين في مناطق نفوذهم كان له أثر واضح على العشائر التي تتواجد. جغرافيا حدود نفوذ الدولتين المذكورتين، وأدعت كل منها الوصاية على العشائر التي تقع تحت نطاق انتدابها، فاتخذ الإنجليز شمر كرأس حربة لهم في المنطقة، وكذلك فعل الفرنسيون لقبيلة الفدعان وبات الصراع واضحاً بين القبيلتين.
وأخذ الإنجليز بتحريض قبيلة شمر على القبائل الأخرى التي تقع تحت النفوذ الفرنسي، فزودتها بأحدث الأسلحة والعتاد الحربي، وباتت فرق شمر تعارك هذه القبائل في مناطق الجزيرة التابعة لدير الزور والرقة والموصل.
حاربت العقيدات والبقارة وعشيرة المللي والفدعان وميران الكردية وعشيرة الجحيش وعشيرة البومتوت التي قامت بينها وبين شمر في عام 1946م أعنف معركة حدثت في منطقة الجزيرة بأسرها بين القبائل في القرن العشرين راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى.
فقط قبيلة الأبي شعبان لم تنازعها شمر، علماً أنها تحتل القسم الأكبر من الجزيرة السورية من الجهة الغربية، وهذا يعود إلى التحالف الذي نشأ منذ القدم بين عشيرتي شمر والعفادلة كما بينا، وكان الفرنسيون يحذرون العفادلة دائماً بعدم تسهيل أمور عشيرة شمر التي أخذت تجوب المنطقة من الشرق إلى الغرب.
وفي عام 1925م أخذت شمر تتحرش بالفدعان بتحريض من الإنكليز للضغط من خلالها على الفرنسيين، وتصدى لها الفرنسيون وحرموا على شمر التجويل في الشامية، مناطق الأبي شعبان المحاذية لنهر الفرات، واتجهت إلى الشمال ومن ثم إلى الشرق حتى دخلت منطقة العفادلة، واستراحت فترة من الزمن، وتابعت طريقها إلى الشرق للتجمع هناك شرق الخابور، كانت شمر تجتمع للقيام بغزوة كبيرة ضد الفدعان، ومن خلالها تمرغ هيبة الفرنسيين بالمنطقة، وهذا ما يرغب به الإنكليز.
لقد اتخذ الفرنسيون احتياطات صارمة للأمر وأنذر (اليوتنان كولونيل ربيرت) معاون مندوب المفوض السامي لدى منطقة دير الزور عشيرة العفادلة حليفة شمر، إنذاراً موجهاً إلى الشيخ محمد الهويدي، بألايسهل أو يساعد على أعمال الشقاوة التي تقوم بها العشائر المتنقلة، ويقصد من وراء هذا الكلام (شمر).
وهدد بضرب العفادلة بالطائرات، وحجة (الليوتنان ربيرت) حماية القبائل المستوطنة وحماية مزروعاتهم من البدو.
ولكن مخطط الإنكليز ماضي قدماً في تحريض شمر على ضرب الفدعان، وعلى حين غرة جاءت شمر بجموع غفيرة لم تشهد لها المنطقة مثيلاً من قبل تقدر بثلاثة آلاف مقاتل، ألف منهم فرسان يمتطون الخيول، وألفين يسمونهم (مردوف) يركبون على ظهر ألف جمل، وهكذا وبهذا العدد الهائل من المقاتلين الاشداء داهمت شمر عشيرة الفدعان. في براري منطقة الرقة، كان جيشهم هذا مقسماً إلى فرق كل فرقة تضم مئة فارس على رأسها عجيد يأتمر بأمر قائد الغزوة الشمرية الكبرى (دهام الهادي).
واستنفر الفرنسيون أهالي المنطقة للوقوف بوجه شمر وصد غزوتها، وأخذ (لاروش) المسؤول العسكري الفرنسي بالمنطقة بالضغط على العفادلة للمشاركة، لكن العفادلة اعتذروا لأنه ليس بينهم وبين شمر عداوة، نتيجة الضغط الشديد شارك عشرة خيالة فقط، وانضموا إلى القوات الرادعة، إلا أن هذا لم يفد شيئاً اجتاجت شمر المنطقة التي تنتشر عليها قبيلة الفدعان وتقاتلا بضراوة، وانسحبت الفدعان أمام جموع شمر إلى جهة الغرب، واضطر لاروش الضابط الفرنسي المسؤول بطلب نجدة من القوات الجوية الفرنسية في منطقة حلب، وفعلاً وصلت طائرات حربيتان وأخذت تقصف جموع شمر في موقع الفيض قرب مدينة الرقة، والشمريون يوجهون أفواه بنادقهم إلى الطائرات ويطلقون عليها.
عندها انسحب شمر وتراجعت إلى الشرق وظنت الطائرات أنها أنجزت مهمتها فقفلت راجعة إلى مطاراتها.
وأخذت جموع أهل المنطقة الذين زجهم (لاروش) الضابط الفرنسي ضد شمر بملاحقة الغزاة المنسحبين ترافقهم عدد من المصفحات الفرنسية يعززها حوالي خمسين جندياً، وأصبحت هذه القوة تتشكل من العسكر الفرنسيين والمشاركين من أهل المنطقة.
وفي موضع في البادية شرقي نهر البليخ يقال له (أبو دحل)، وبعد أن اطمأن غزو شمر لانسحاب الطائرات شنوا هجوماً معاكساً على القوات التي يتقدمها لاروش بمصفحاته كانت الفرق الشمرية المهاجمة منظمة بشكل دقيق، ما جعلهم يدحرون القوات التي تلاحقهم وتهزمها شر هزيمة، وهجم الشمريون على المصفحات الفرنسية وقتلوا من عسكرها بضعة جنود، ولا تزال المواضيع التي قتل بها هؤلاء الجنود تأخذ أسماءهم مثل (ليوان) نسبة إلى السرجنت الفرنسي (ليون).
المرجاني نسبة إلى الجندي (مرجان) وتحولت أسماء هذه المواقع إلى عقارات مسجلة بشكل رسمي لأراض بعلية تحمل نفس أسماء الجنود الفرنسيين الذين قتلوا نتيجة هذه الغزوة، ومنهم الجندي هدايات الذي قتل أيضاً في هذه المعركة.
اكتفى الشمريون بهذا القدر وتراجعوا وهم يهزجون بهذه الأحدية الشهيرة.
أروش شللك بالطنايا توازيهم عالهوشة وزة
وفي عام 1926م عقد مؤتمر الصلح بين الفدعان وشمر، لأن الفرنسيين كسبوا قسماً من شمر إلى جانبهم، لقد انقسمت عشيرة شمر إلى قسمين، قسم موال للإنكليز بالعراق، وقسم موال للفرنسيين في الجزيرة السورية، وشمر الجزيرة السورية تحت مشيخة دهام الهادي الذي عينت له السلطات الفرنسية راتباً شهرياً، إلا أنه في عام 1929م، تحدد الخلاف بين شمر والفدعان (الخرصة) على مراعي جبل عبد العزيز، وتدخلت القوات الفرنسية بطائراتها وحسمت الخلاف، وعقدت مؤتمراً ثانياً للصلح بين القبيلتين في مدينة دير الزور، وانتهى خصام الفدعان وشمر من ذلك التاريخ.
آروش: ضابط فرنسي/ شلك: ماذا تريد منا/ الطنايا: نسبة إلى شمر / توازيهم : تحرضهم/ هالهوشة: القتال.
ولأهمية الحدث أطلق على عام 1925 في التقويم الرقي اسم (سنة الطنايا).
الرابع: (سنة موتة حسين الدرويش)
الشيخ (حسين الدرويش المحمد البوحبال) شيخ عشيرة المدلج الظاهر.
عاصر الشيخ حسين الدرويش ثلاث حقب سياسية، العثمانية، العربية، الفرنسية.
خلال الحقبة العثمانية: منح الشيخ وسامين في عامين متفرقين من قبل السلطات العثمانية كعادتها مع الكثير من شيوخ القبائل.
خلال الحقبة العربية: بعد انسحاب القوات العثمانية من الرقة عام 1918م، وقبل وصول القوات العربية. تم تشكيل (هيئة المشورة) من عدد من شيوخ العشائر ووجهاء المدينة برئاسة الشيخ هويدي الشلاس، لإدارة شؤون المنطقة إلى حين وصول القوات العربية، وتم تكليف الشيخ حسين الدرويش بـ (قيادة الأمن الداخلي والمحافظة التامة).
وبعد دخول القوات العربية إلى مدينة حلب بقيادة الأمير فيصل بن الحسين أرسل له الشيخ حسين الدرويش رسالة تأييد موقعة من عدد كبير من مخاتير المنطقة. فرد عليه الأمير فيصل بن الحسين برسالة شكر ودعوته لزيارته بحلب.
كما شارك الشيخ حسين الدرويش وعشيرته بالقوات التي انطلقت من الرقة بقيادة القائمقام رمضان الشلاش لتحرير دير الزور من القوات البريطانية وتمكنت القوة وبمشاركة عشيرة البوسرايا وبعض العشائر بمنطقة دير الزور من طرد القوات البريطانية وأسر عدد من الضباط والجنود.
هذا المواقف جعلت وفاة الشيخ (حسين الدرويش) حدثاً هاماً يدخل التقويم الرقي باسم (سنة موتة حسين الدرويش).
انظر:
حمصي فرحان الحمادة: التقويم الرقي عام 1917 ..سنة الجوع .. سنة الغلا.. سنة الحميضة
حمصي فرحان الحمادة: التقويم الرقي عام 1918 ..سنة سقوط العصملي – سنة الوجع
حمصي فرحان الحمادة: التقويم الرقي عام 1919 .. سنة الشريف
حمصي فرحان الحمادة: التقويم الرقي عام 1920 .. سنة حاجم – سنة زكرت حاجم
حمصي فرحان الحمادة: التقويم الرقي عام 1922 .. سنة دخول الفرنسي
المراجع والهوامش:
(1). حمادة (حمصي فرحان)، التقويم الرقمي بين عام 1709 - 1988، توتول للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 2022م، 144-153
