You dont have javascript enabled! Please enable it!
دراسات وترجمات

مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (4): حرية الصحافة والنشر – رسم الخطوط الحمراء

للاطلاع على الأجزاء السابقة:

مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (1)

مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (2): جدليّتا المواطنة وفصل الدين عن الدولة

مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (3): الإدارة المحلّية وقضية اللغة


حرية الصحافة والنشر ورسم الخطوط الحمراء:

لا شك أن مباحثات قانون المطبوعات كانت أكثر مناقشات المجلس إثارة للاهتمام، كونها ترسم صورة واضحة عن حماس العهد الدستوري الأول، ومحاولة تحمّل مسؤولية النيابة الجديدة، والتقدّم بحذر لرسم ملامح الخطوط الحمراء دون إفراط ولا تفريط. إضافةً إلى أنها توضّح شخصيات النوّاب وفكرهم، خصوصًا إن تم ربط مداخلاتهم مع سيرة حياتهم السابقة واللاحقة.

كانت المعضلة الأولى هي تعريف ماهية المطبعة، وما إن كانت جمادًا أو كيانًا. وذلك للجواب على سؤال: هل تحتاج المطبعة إلى ترخيص؟

1- المطبعة والرخصة:

لقد كان رأي نائب حلب مانوق قراجيان: “إن المطبعة هي في الواقع مثل المحلّ التجاري، لا داعي لطلب رخصة منها، بل يكفي أن تقوم بإخطار علم  وخبر في حال افتتاحها… والحقيقة أن هكذا أمور يجب أن تكون حرّة كي نصل إلى ترقّي الوطن”.

أما نقولا النقاش (سورية -بيروت) فقد تكلّم عن هذا الأمر بلغة التاجر التي يعرفها جيدًا، فقال: “تأسيس المطبعة نوع من أنواع التجارة، أما ما يجب الحذر منه فهو المطبوعات. قد أحضر مطبعة لبيعها، لا يمكن لأحد منعي حينها. لكن إن هممت بطباعة شيء ما، يجب على الدولة أن تراقب، ويلزم أن يكون هنالك قانون يبين كيفية طباعة الجرائد والكتب”.

نائب حلب سعدي المرعشلي كان مؤيدًا لمبدأ الرقابة مبكرًا، وهو الذي سيعرف فيما بعد بقربه من السلطان عبد الحميد. فبرأيه أن يكون تأسيس المطبعة تحت نظارة الحكومة وبإذنها، فإن كان عكس ذلك انتشرت “الأفكار المضرّة”. بل وأفاد أن “صاحب مطبعة بلا إذن مثل طبيب بلا شهادة، فإن لم تأمن الحكومة رجلًا يجب أن لا تسمح له بفتح مطبعة. إن أخطأ الرجل ستقوم الحكومة بمحاسبته نعم، لكنها لن تتمكن من منع تأثيره الذي حصل بالفعل”.

أما نائب حلب الشاب نافع الجابري، فقد اتصف رأيه بالاعتدال، حيث أشار في البداية إلى أن طلب رخصة لافتتاح المطبعة تقييد للحريات، لكنه قام بالعدول عن رأيه لاحقًا بشكل صريح وجريء، وارتأى أن الرخصة واجبة، وذلك بعد كثرة الأصوات المنادية بوجوبها، كنقولا نوفل نائب طرابلس.

وقد جرى في هذا الخصوص نقاش بين نائبي حلب نافع ومانوق، حيث قال الأخير:

– لقد قلنا أن المطبعة شيء والمطبوعات شيء آخر … المطبعة عبارة عن آلة، بينما الانتباه يجب أن يكون على المطبوع… أحضرت آلة من مالي الخاص، فإن كان ما سأطبعه مغايرًا للقانون أتحمل جزاءه، والجزاء لا يكون على أدوات حديدية.
– الرخصة غايتها شرعنة استعمال تلك الأدوات الحديدية.

وجاء رأي نائب بيروت الحاج حسين بيهم منطقيًا، فقال:
أرى أن المطبعة ليست كالدكان (كما قيل)، إنها شيء كبير. المطبعة تتطلّب عاملين وحروف وآلية وورق للعمل. على ذلك إن قام أحدهم باستحصل رخصة من الحكومة قبل فتح المطبعة ما الضرر الذي سيحصل؟ وعلى النقيض؛ إن قام باستحضار كل الملازم والمواد وجاء رفض الحكومة لما ينوي طباعته، حينها سيتعرض للخسارة.

ثم نبّه نائب بيروت نقولا النقاش على نقطة مهمة، بعد أن عبّر عن خيبته من القانون الجديد وتوقعاته السابقة في أن يكون أكثر تحررًا من سابقه، بأن استحصال الرخصة من الولاية يجب أن يكون محددًا بضوابط واضحة، فلا تكون منوطة برأي الوالي ومزاجه. واقترح نافع الجابري في هذا الشأن إضافة بند يجبر الحكومة على إعطاء الرخصة في حال استيفاء كافة الشروط المطلوبة، إلا أن الاقتراح لم يطبّق.

وفي خاتمة هذه المباحثات، جرى حوار قصير بين مانوق قراجيان (حلب) ومستشار الداخلية قسطاكي باشا عن نقطة مزاج الوالي في عملية الترخيص:

قسطاكي باشا: يقال أن أذون الترخيص لن تُعطى إن أصبحت منوطة برأي الوالي. ما الداعي لكلّ هذا؟ لقد أعطانا القانون الأساسي الحريّة. فهل لنا حاجة في الضمانات من بعد ذلك؟

يقولون أن الوالي سيمنعها، لا! لن يستطيع منع أي شيء… لماذا قد تمنع الحكومة ترخيصًا عن الشرفاء؟

مانوق قراجيان: تمام، ونحن نقول مستندين على الحرية التي أعطانا إياها سلطاننا والشجاعة التي نستمدّها منه: لا يجب تقييد المطابع.

في حلب قدّموا طلبًا لثلاث وأربع سنوات ولم يحصلوا على مرادهم. يلزم أن لا يُمنع من ينوي تقديم خدمات كهذه تنفع العموم. إن لم يسمح الوالي بالرخصة فما يصنع طالبها؟ يلزم أن نجد حلًا لهذه القضية.

تقولون أن الوالي لن يمنع الرخصة عن أهل الشرف، فماذا يصنع إن فعل؟

قسطاكي باشا، ردًا على مثال الطلب المعلّق في حلب: حينها لم يكن هنالك دستور.

مانوق قراجيان: لكن كانت هنالك دولة!

2- تعميم المطابع على الأقضية:

لقد كانت المسودة الأخيرة لقانون المطبوعات تحصر رخصة افتتاح المطبعة في مركز الولاية ومركز السنجق. ومثالًا؛ تُعطى الرخصة للمطابع في دمشق كونها مركز الولاية، وفي حماة كونها مركز السنجق، لكنها لا تُعطى في حمص، كون حمص قضاء يتبع لسنجق حماة.

وعلى ذلك أيّد نافع الجابري رأي راسم بك مبعوث إدرنة في توسيع نطاق الرخصة ليشمل مراكز القضاء. وأيّده بحماس أيضًا نائب القدس يوسف ضياء الخالدي، الذي أفاد: “لو كان الأمر بيدي لأوعزت بإنشاء المطابع في كلّ مكان، حتى في القرى”.

وجاء رأي نائب بيروت نقولا النقاش معارضًا، وجرى بينه وبين نافع الجابري الحوار القصير التالي:

– النقاش: ما دامت المطابع مهمّة إلى هذه الدرجة، إلى درجة أنها أخطر من النار والبارود، فلنخبّئها بعناية، ولا نعممها إلى مراكز الأقضية.

– الجابري: هل أنت جاد فيما تقول؟

– النقاش: كلّ الجد[mfn]الانعقاد رقم: 24، 7 أيار 1877م[/mfn].

والغالب أن النقّاش، التاجر صاحب الخبرة في مجال الطباعة والنشر، قد ارتأى تضييق نطاق المطابع ضمن مراكز الولاية واللواء فقط، من أجل حصر طلبات الطباعة والنشر لأقصى حدّ ممكن، وتحديدًا ضمن بيروت التي كانت رائدة في هذا المجال على مستوى جميع البلاد السورية. لأن تعميم المطابع سيؤدي إلى كثرة المنافسين، مما سيخفف عمل مطابع بيروت.

3-الجرائد الهزلية:

كالعادة، تباينت آراء نواب سورية حول الجرائد الهزلية، ففي حين كان يوسف ضياء الخالدي (القدس)، مانوق قراجيان (حلب)، نقولا النقاش (بيروت) مؤيدين لاستمرار نشر الجرائد الهزلية، أشار نقولا نوفل (طرابلس) إلى امتعاضه من الفكرة، أما نافع الجابري (حلب) فأبدى نوعًا من الحياد.

وقد أفاد نقولا نوفل أن إثبات التحقير في قضية ضد جريدة هزلية أمر غير ممكن، فأسلوب تلك الجرائد يعتمد على التلميح لا التصريح، واستشهد بالبيت الشهير: خاط لي زيد قباء … ليت عينيه سواء” الذي لا يفهم إن كان المقصد منه دعوة للخياط أم عليه.

وقال أيضًا:

“صحيح أن تقليد أوروبا إلى درجة من الدرجات أمر لازم، لكن ليس كل ما عند أوروبا يوافق تربيتنا. لذا علينا بتقليد الممدوح منها. حصل التباحث في أننا لن نمنع الصحف القادمة من أوروبا، لكن ماذا لو احتوت تلك الصحف ما يمسّ الشرف والعرض؟ هم لا ينتمون لنا بل، لا يعترفون بنا أصلًا”.

على النقيض، أبدى نقولا النقاش (بيروت) تأييده لاستمرار الجرائد الهزلية. ويمكن التبيّن من مداخلته أنه استند على تجربته في المسرح عمومًا والمسرح الكوميدي خصوصًا مع أخيه مارون النقاش مؤسس أولى المسارح العربية، حيث قال:

“يتوضّح لنا من هذه المباحثات أن لهذه الجرائد إيجابيات وسلبيات، وهذا الحال يستوجب الاستفادة من إيجابياتها ومقابلة سلبياتها بأشدّ العقاب. إنني أرى أن الجرائد الهزلية تشبه المسرح والكوميديا بشكل كبير، ولا يمكننا بطبيعة الحال إنكار إيجابيات المسارح والتمثيليات الكوميدية، فإنها ترفّه عن الناس وتعظهم في ذات الآن. وفي حال كانت بعض التمثيليات مغايرة للأدب فعلينا نحن اختيار ما هو أفضل”.

كما قام نائب حلب مانوق قراجيان بمداخلة في ذات السياق، دافع فيها عن الفن بشكل عام، فقال:

“إن كانت الجرائد الهزلية مجونًا كما يدّعون، فلنمنع “الكاراكوز” أيضًا. يقولون أن أصحاب الجرائد الهزلية يسعون لكسب المال من هذا “الفن غير اللائق”، فإن كان ذلك مبررًا لمنع هذا الفن؛ فهناك من الفنون الأخرى ما هو أدنى وأشنع.

يتحدثون أيضًا عن مضرّة الرسومات، فبرأيكم إن أغلقنا جرائد المزاح هل سنستطيع تكبيل أيدي الرسّامين؟”[mfn]الانعقاد رقم: 25، 8 أيار 1877م[/mfn].

ولكنّ مانوق قراجيان عدل عن رأيه قليلًا، فأفاد لاحقًا أنه يجب مراقبة تلك الجرائد ومنح إدارة الصحف والمطبوعات حق إغلاقها بلا محاكمة في حال قامت بأي تلميح مضرّ، لأن التلميح لا يمكن إثباته[mfn]الانعقاد رقم: 26، 9 أيار 1877م[/mfn].

4-رسم الخطوط الحمراء:

حين وصلت المباحثات في قانون المطبوعات إلى قضية انتقاد السلطات العليا، بدأت العملية الفعلية لرسم الخطوط الحمراء تجاه النظام والحاكم الجديدين، ولذا كانت مداخلات النواب السوريين، مع اتسامها بالحذر، تعبّر في الغالب عن توجّهات أصحابها.وقد انقسمت القضية إلى جزئيتين: انتقاد السلطان وانتقاد الحكومة/ النظام.

ففي الجزئية الأولى، كان رأي نائب حلب نافع الجابري أن مدة ثلاث سنوات سجن لمن يجرؤ على استعمال تعبيرات تمسّ شخص السلطان مدة قصيرة، وطلب أن تكون المدة بين ثلاث وعشر سنوات حسب درجة سوء الألفاظ المستعملة. وأضاف أن هكذا فعل “موجب لقتل” صاحبه.

ورغم أن الجملة الأخيرة كانت مجازية، إلا أنها أحدثت لغطًا في المجلس، اضطرّ بعدها الجابري إلى التأكيد على أن رأيه يتضمن السجن فقط.

نقولا النقاش نائب بيروت قام بمداخلة مثيرة للجدل أيضًا اتصفت بالجرأة، وجرت في المجلس المحاورة التالية:

– النقاش: مذكور في اللائحة جملة “استعمال الألفاظ التي تمسّ سلطاننا”. ربما الأنسب لو بدّلت كلمة “استعمال” بكلمة “افتراء”.

– بعض الأعضاء: لا يجوز. لا يجوز.

– لو سمحتم، دعوني أوضّح لكم العلّة فقط. ماذا لو، وأقول معاذ الله، ماذا لو كانت الألفاظ المستعملة صحيحة؟

ويحاول النقّاش افندي هنا الدفع بالخطوط الحمراء إلى أبعد حدّ، بحيث يضمن هامشًا ولو ضئيلًا لانتقاد السلطان. ولكن على العموم لم تكلّل تلك المحاولة بالنجاح، فقد تم قبول البند كما هو دون تعديل[mfn]الانعقاد رقم: 28، 12 أيار 1877م[/mfn].

أما في الجزئية الثانية، وهي انتقاد شكل الحكومة (النظام) فقد وضّحتها المادة رقم 29 في مسودة قانون المطبوعات كالتالي:

“يحكم على من ينشر ضد قواعد وشكل الحكومة المؤسسة والمؤيدة بالقانون الأساسي بالسجن لمدة تتراوح بين شهر وخمس سنوات، وجزاء نقدي بين عشرين ومئة ليرة”.

وكان اختلاف النواب حول وضوح هذه المادة، إذ أن جملة “قواعد وشكل الحكومة” توجب التأويل، بحسب نقولا نوفل (طرابلس)، الذي أعاد التذكير بالاختلاف الذي حصل سابقًا في المجلس حول لفظ المسلم- غير المسلم، فقال البعض أن هذا اللفظ مغاير ومنافٍ للقانون الأساسي، بينما قال البعض الآخر أنه موافقٌ له. وعلى ذلك فقد تم تأويل مواد الدستور بصورة أو بأخرى، “فحتى كلام الله يتم تأويله وتفسيره. ونحن نخاف من التأويل”. وأيّده في ذلك نافع الجابري (حلب) الذي طلب توضيحًا أكثر لعبارة “ضد شكل الحكومة”.

بينما رأى سعدي المرعشلي (حلب) أن البند واضح، فالنظام الحالي قد تأسس فعلًا على القانون الأساسي (الدستور) الذي حدّد مسبقًا شكل الحكومة. فمن ينشر شيئًا ضد أمرٍ محدّد سابقًا في القانون، وجب تبعيده ونفيه.

وعلى العموم فقد تقرّر البتّ في جدلية اعتبار انتقاد شكل الحكومة (النظام) انتقادًا للقانون الأساسي نفسه، بالابقاء على نصّ المادة كما هو[mfn]الانعقاد رقم: 28، 12 أيار 1877م[/mfn].


انظر الجزء التالي:

مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (5): ما بعد المجلس الأول – الولاية الفينيقية



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

فارس الأتاسي

بكالوريوس في الهندسة المعمارية، باحث وكاتب في التاريخ السوري بالحقبة العثمانية fares.atasizade@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى