دراسات وترجمات
مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (3): الإدارة المحلّية وقضية اللغة
للاطلاع على الأجزاء السابقة:
مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (1)
مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (2): جدليّتا المواطنة وفصل الدين عن الدولة
3- المجالس المحلية والإدارية- الدولتية:
كانت قوانين المجالس البلدية ومجالس الإدارة ضمن أجندات المجلس بشكل مستمرّ، ولذا كانت موضع نقاش مطوّل بين الأعضاء، كون كل عضو منهم ينحدر من خلفية مختلفة، وتلقّى تحصيلًا علميًا مختلفًا، ولديه تجربة إدارية أو سياسية مختلفة.
وعلى العموم فإن الأفكار التي عبّر عنها نواب البلاد السورية كانت في أغلب الأحيان منحصرة ، إن صحّ التعبير، في حال ولاياتهم واحتياجاتها، ولم تكن تعبّر دومًا عن احتياجات الولايات العثمانية عامةً. وتوزّعت مداخلات وأفكار النواب السوريين على مستويين اثنين:
المستوى الأول: صالح الولاية مقابل الصالح العام. المستوى الثاني: صالح الولاية المتوافق مع الصالح العام.
من أمثلة المستوى الأول؛ إشارة نائب حلب مانوق قراجيان إلى أهمية وجود مستشار للوالي في كلّ الولايات وليس بعضها. وقد لقي ذلك معارضة من نائب إدرنة راسم بك، حيث سأل: ما حاجة ولاية صغيرة مثل قسطمونو (شمال الأناضول) إلى مستشار؟
بينما نحى نائب العاصمة “واسيلاكي بك” نحوًا آخر، فأفاد أن هذا المنصب لا حاجة له مطلقًا، وهو هدر للمال العام. فإن أراد الوالي الذهاب إلى مكان ما، وكّل مأمورًا في شؤون إدارة الولاية إلى حين عودته.
وردًّا على الآراء السابقة، ألقى نقولا النقاش نائب بيروت خطابًا عن ضرورة استحداث منصب “مستشار الوالي”، حيث أشار في بداية خطابه إلى منصب الـ “كتخدا” الذي كان بمثابة مستشار الوالي ونائبه في زمن الأيالات، ولكن مع لغو هذا المنصب عقد تشكيل الولايات، أصبحت شؤون إدارة الولاية تزداد صعوبة وتأخيرًا نظرًا لكثرتها، ولذا فالأفضل برأيه إحداث منصب المستشار في “بعض” الولايات الهامة. وعلّل ذلك بأن حدوث أمر ما في سنجق من سناجق الولاية، سيضطر الوالي للذهاب بنفسه إلى السنجق وتوكيل موظف بدلًا عنه في إدارة شؤون مركز الولاية، وهذا الوكيل مهما كان ذو دراية لن يستطيع رعاية شؤون الولاية على أكمل وجه.
وبين وجهتي نظر نائبي اسطنبول وإدرنة، ووجهتي نظر نائبي سورية وحلب، يظهر التباين الواضح بين عقلية النائب العثماني والنائب العثماني- السوري، فالأول فكّر في الصالح العام، والآخر ركّز في فائدة ولايته بشكل رئيسي، ولكلّ منهما أسبابه وخلفياته. ولكنّ عقلية النائب السوري في بعض أفكاره، أوجبت أخيرًا غضب رئيس المجلس أحمد وفيق باشا، بعد أن قام نائب بيروت نقولا النقاش بإعادة عرض نقطة تتعلق بترخيص البطرياركيات لطباعة الإنجيل والتوراة والكتب الدينية دون رقابة قانون المطبوعات، فخاطبه قائلًا:
“سيدي، الكلّ يفكّر فقط في المواد التي تخصّه وتؤثر عليه، في حين أننا هنا للتفكير بشكل شامل وعام. ليست كل الأماكن سورية… أنتم تتكلمون فقط في ما يخصّ ولاياتكم وأوطانكم”.
ومن أمثلة المستوى الثاني؛ طلب نائب حلب مانوق قراجيان أن يضاف بند إلى قانون البلديات يوجب الدفن خارج حدود المدينة بمسافة نصف ساعة. ولا شك أن تلك المداخلة كانت مبنية على فكرة متعلقة بمدينة حلب التي ينوب عنها، حيث تنتشر المقابر بكثرة داخل سور المدينة القديمة. ورغم أن تلك المداخلة نابعة عن مصلحة الولاية، إلا أنها لم تكن تخالف مصلحة عامة الولايات.
لقد قام أحد النواب وقال ردًا عليه: أظنّ أن صديقنا هنا من الحجاز أو البلاد العربية، هل سيذهب سكان الولايات الباردة مثل ولاية طونا (الدانوب) مسافة نصف ساعة في البرد القارس لدفن موتاهم؟
فأجابه رئيس المجلس أحمد وفيق باشا: “قبل خمسين وستين سنة، كان الدفن داخل المدينة ممنوعًا بشكل تام، إلا أن هذا النظام سقط حكمه لاحقًا. سوف ننظر به مجددًا”.
وللنواب السوريين أيضًا مباحثات ومداخلات أخرى في مواضيع مختلفة لكن على نفس المستوى، أي مصلحة الولاية المتوافقة مع المصلحة العامة، بل أخذ بعضها طابع المصلحة العامة الصرفة. ومن تلك المداخلات:
– اقتراح نائب حلب مانوق قراجيان تشكيل مجالس زراعية يكون أعضاؤها من أكثر الزرّاع والتجّار المعتبرين، وتكون عضويتهم فخرية، أي بلا مخصصات مالية. وقد أوعزت الدولة بالفعل إلى تشكيل هذه المجالس مطلع العقد الثامن من القرن التاسع عشر، وكانت تلك الهيئات نواة غرف الزراعة في الدولة السورية.
– اقتراحات النائب المذكور بأن تقسّم المدن ذات الخمسين ألف نسمة إلى دائرتي بلدية، وإحداث لائحة توضّح المكاييل والأوزان العامة، وأن تكون مغاليق محال القصابين وبائعي اللحم من حديد.
– مباحثات النائب المذكور حول ضرورة تأمين معيشة الموظفين، خاصة مع تبيّن الجميع أن الواردات الحالية قد لا تكفيهم. مطالبًا بأن تترك الدولة بعض أراضيها للبلديات خلال السنوات القادمة، بحيث توفّر تلك الأراضي عائدًا ماليًا إضافيًا للبلدية، وبالتالي ترتفع مخصصات الموظفين فيها.
– اقتراح النائب المذكور لتخفيض الحد الأدنى من أجل الحصول على حق الانتخاب إلى سنّ الواحدة والعشرين، مستدلًا أن صياغة القوانين يجب أن تأخذ بعين الاعتبار اختلاف الأقاليم، ولا يجب أن تكون تشبّهًا محضًا بالغرب. وضرب مثالًا شابًا من الشرق يبدأ حياته العملية في سوق التجارة بعمر الخامسة عشرة، ويتأهل في سنّ الثامنة عشرة أو العشرين، ويصبح ربًا لعائلة ومعيلًا في سن الواحدة والعشرين. أما في أوروبا يظلّ الشاب حتى نفس العمر مجرد طالب في المكتب أو الجامعة، دون عائلة يعيلها.
– طلب نائب حلب نافع الجابري إلغاء الدباغات والمسالخ المضرة ضمن المدينة من أجل الصحة العمومية.
– خطاب النائب المذكور حول دوائر بلدية اسطنبول وعدد موظفيها الكبير وصلاحية الاقتراض عند تلك الدوائر، مطالبًا بمعاملة اسطنبول مثل سائر الولايات وفقًا للقانون الأساسي (الدستور).
– عرض نقولا نوفل نائب سورية- طرابلس ضرورة إبقاء قوات الضبطية (الظابطية) وعدم سحبها إلى معسكرات الجيش العثماني على جبهات الحرب مع روسيا، كون تلك الوحدات تحمي حواضر سورية وفلسطين كحماة وحمص ونابلس من هجمات العربان. ومع اعتراض نائب حلب نافع الجابري على معروض نوفل بك، موضحًا أن السحب سيكون فقط لقوات الفرسان من الظابطية، بينما ستظلّ قوات المشاة وسيتم تدعيمها بقوات عسكرية من الرديف، تعجّب نوفل بك من مطالعات النائب الحلبي واستعرض وصول برقيات من والي سورية ضياء باشا عن هجوم الآلاف من العربان البدو على حمص.
– تقديم نائب سورية- طرابلس نقولا نوفل لائحة ودراسة مالية يوضّح فيها أهمية تخفيض رواتب المقامات العليا في الهرمية الإدارية العثمانية والفائدة التي ستتحقق للخزينة تبعًا لذلك.
وقد أثارت هذه اللائحة جدلًا بين نقولا نوفل (طرابلس) ونقولا النقاش (بيروت)، فقد أشار الأخير إلى أنه يرى ضرورة رفع الرواتب وليس خفضها. بينما وضّح الأول أن مقصده كان أصحاب المناصب العليا، أما بالنسبة للأنفار وموظفي الطبقة الدنيا فيلزم زيادة معاشاتهم، منبهًا على ان راتب موظف في معية الوالي يقابل معاش 4 سرايا من الحرس، وأن ألقاب الحكّام الإداريين تغيرت بعد الحملة المصرية وارتفعت معها مخصصاتهم الشهرية، أما وظائفهم فهي ذاتها.
4- اللغة الرسمية التركية واللسان المحلّي:
لا يمكن التعرّض إلى قضايا سورية في العهد العثماني دون المرور على قضية اللغة. فقد كانت هذه القضية حاضرة على الدوام في أجندة شؤون الدولة العثمانية ضمن الولايات العربية، وهي نتيجة طبيعية نظرًا لاختلاف لغة السلطة ولغة المنطقة. وعلى العموم لم تكن هذه القضية مدعاةً للخلاف الحاد والشقاق في المجلس النيابي الأول (1877) كما ستصبح في الدورات التشريعية اللاحقة بعد المشروطية الثانية (1908)، حيث اصبحت من المطالب الرئيسية عند النواب العرب، وأصبحت تشمل مجالات التعليم والمحاكم.
وقد عرّج نقولا النقاش نائب سورية – بيروت على هذه القضية أولًا من محور استحداث منصب المترجم في مجالس الإدارة، وذلك حينما كانت تجري المباحثات في قانون الولايات، فأفاد بما يلي:
“إن تواجد المترجم في بعض الولايات لهو أمر مهم. هذا الأمر سبب عجزًا بالنسبة للباب العالي في عديد المرات. أما من ناحية البلاد السورية؛ فإنني أؤكد أن شؤون بيروت والقدس لا تصلح دون مترجم”. وهو يقصد في ذلك مصالح الدول الأجنبية ذات النفوذ في المنطقة، إلى جانب مصالح الأهالي.
ثم أعاد التركيز على هذه النقطة بعد انعقادين، فصرّح بأهمية وضع شرط معرفة القائم مقام باللسان المحلّي للمنطقة، لأن الأقضية قد لا يوجد فيها أحيانًا من هو واقف على اللغة التركية، وكذلك فإن مخصصات القائم مقام المالية لا تكفي لتوظيف مترجم شخصي.
وحينما اقترح نائب أرضروم الأرمني “هامازاسب افندي” أن تكون التحريرات في القرى المسيحية باللسان المحلّي، لأن تواجد من يحسن الكتابة باللغة الرسمية التركية أمر صعب، وقد وافقه في ذلك نائب حلب الأرمني أيضًا مانوق قراجيان، ونائب سورية الماروني نقولا النقاش.
ومع المباحثات الجارية حول قانون البلديات، أشار نقولا النقاش بأن شرط إتقان اللغة التركية لأعضاء المجالس البلدية قد يكون “مانعًا لحرية بعض الأهالي”، وأضاف: “في بيروت مثلًا؛ من الصعب أن تجد الكثير ممن يحسنون التركية”.
فردّ عليه رئيس المجلس أحمد وفيق باشا: “بعد أربع سنوات سيكون صاحب البصيرة والعقل من يتعلّم اللغة التركية… إن شاء الله يسمعون نصيحتنا ويتعلمون التركية”.
لكن الغريب في الأمر أن نقولا النقاش كان قد أكّد سابقًا على أهمية اللغة التركية، كونها لغة رسمية للدولة، فطلب وضع شرط إتقان اللغة التركية قراءةً على الأقل من أجل أعضاء المجالس الإدارية.
ولعلّ ذلك كان أبرز علامات التباين بين مجالس البلدية التي تمثّل فكرة الإدارة المحلّية، وبين مجالس الإدارة، التي تمثّل مركزية الدولة، عند النواب السوريين على الأقل.
انظر الأجزاء التالية:
مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (4): حرية الصحافة والنشر – رسم الخطوط الحمراء
مجلس المبعوثان 1877: التجربة البرلمانية السورية الأولى (5): ما بعد المجلس الأول – الولاية الفينيقية
المراجع والهوامش:
(1). الانعقاد رقم: 13، 12 نيسان 1877م
(2). الانعقاد رقم: 38، 28 أيار 1877م
(3). الانعقاد رقم: 14، 14 نيسان 1877م
(4). مثالًا؛ تشكيل الهيئة الزراعية الخاصة بحمص عام 1882م برئاسة نوري الأتاسي.
(5). الانعقاد رقم: 49، 13 حزيران 1877م
(6). الانعقاد رقم: 10، 1 نيسان 1877م
(7). الانعقاد رقم: 12، 7 نيسان 1877م
(8). الانعقاد رقم: 16، 17 نيسان 1877م
(9). الانعقاد رقم: 40، 30 أيار 1877م
(10). الانعقاد رقم: 10، 1 نيسان 1877م
المراجع والهوامش:
(1). الانعقاد رقم: 13، 12 نيسان 1877م
(2). الانعقاد رقم: 38، 28 أيار 1877م
(3). الانعقاد رقم: 14، 14 نيسان 1877م
(4). مثالًا؛ تشكيل الهيئة الزراعية الخاصة بحمص عام 1882م برئاسة نوري الأتاسي.
(5). الانعقاد رقم: 49، 13 حزيران 1877م
(6). الانعقاد رقم: 10، 1 نيسان 1877م
(7). الانعقاد رقم: 12، 7 نيسان 1877م
(8). الانعقاد رقم: 16، 17 نيسان 1877م
(9). الانعقاد رقم: 40، 30 أيار 1877م
(10). الانعقاد رقم: 10، 1 نيسان 1877م