مقالات
محمد عدنان حريتاني: قراءة في يوميات طفل حلبي .. نانتي والراديو
محمد عدنان حريتاني- التاريخ السوري المعاصر
من اوراق الخريف- قراءة في يوميات طفل حلبي .. نانتي والراديو
عشت مع أسرتي في كنف جدي وجدتي فقد كان والدي الابن الأصغر لهما، وكان عمي قد تطوع في سلك الدرك في أول خمسينيات القرن الماضي و لا ثالث لهما من الأبناء.
تأثرت حياتي بهما كثيراً، لكن جدتي كان لها اﻷثر الاكبر في حياتي وما نسيتها يوماً رحمها الله فما غابت عن بالي لشدة تعلقي بها، وقد شكلت في طفولتي علامة لم تمحها صروف الدهر التي عانيتها حتى اليوم.
عندما كنت صغيراً كان بعض رفاقي لايعيشون مع جداتهم وكنت عندما أخلو إلى نفسي احاول أن أتصور كيف تكون الحياة بدون جدة، و أفشل ﻷني لم اتصور طفلاً يمكنه العيش دون جدته، فلم يكن مفهوم الموت قد تبلور في عقلي المحدود لصغر سني حينها.
فتحت عيني منذ ان وعيت الدنيا وكنا أنا وأسرتي الصغيرة نعيش في بيت واحد يضمنا مع جدي وجدتي، تقاسمناه غرفة واحدة لنا و الأخرى لهم، وكان هناك القبو يستعمل احياناً “للقعدة” فهو دافئ شتاءً وبارد صيفاً وكذلك للمونة، كانت الغرفتان متباعدتان واحدة شمالية وواحدة قبلية، اغمضت عيني وعدت بذاكرتي إلى خمسين عاماً او اكثر خلت في يوم يعيش فيه احفادي بعيدين عني لم أرهم ولم ألتق بهم حتى اليوم والمسافة بيني وبينهم لا تتجاوز بضع عشرة كيلومتراً، فرقتنا حرب ظالمة لا ناقة لنا فيها ولا بعير , وتسائلت بيني وبين نفسي يا ترى كيف يعيش احفادي دون جدهم وجدتهم .
وبدأ دفق من الذكريات يمر في مخيلتي بتفاصيل رائعة بعثت في نفسي شعوراً بالسعادة، نغصها الواقع الاليم الذي أعيشه ويعيشه اهلي وابنائي في حلب شعور حزين سألت الله ان يزيله عن قلب كل محزون .
لقطات متناثرة من يوميات عشتها احببت ان أسردها ﻷبنائي اولاً ولكل عشاق حلب ثانياً، تحكي كيف كانت حياتنا بسيطة، ورغم ضيق الحال فالكل يحمد الله ويثني على نعمائه ويغترف من رغد الحياة ما استطاع اليه سبيلا دون طمع ولا تفريط ولا افراط , وقد رأيت سردها بلهجتنا المحكية التي تتداعى مع اﻷيام محاولاً التذكير بها، ولابأس التمهل في قراءتها واﻹستمتاع بها وسؤال الكبار عن بعض مفرداتها لو غم معناها , وبالحلبي اقول :
(الموات ما بتجوز عليهن غير الرحمة هيك كانوا يقولو، وما لازم تنذكر عنهن الا الشغلات المنيحة والكويسة الي ساووا بحياتن، لهيك قالوا ” اذكروا محاسن موتاكم”.
ها الحكي ما بنطبق على نانتي لأنو بس انذكرت مابتنذكر معا الا الشغلات الكويسة المنيحة، و ما بتذكر انو حدا جاب سيرتها بالعاطل لا في حياتها ولا في مماتها، وقت الي اجت الراديات على حلب مع جية الكهربة، الي حووها كان عددن قليل.
ليش لانو كانت غالية والايذاعات قليلة، والكهربة تصل ضعيفة ما تشغلا، بعد بفترة تحسن وضعا وصارت قوية ورخصت اسعار الراديات شوي قام ابوي اشترى وحدة وجابا علبيت، و ما بقى يعرفو وين بدون يحطوها احتارو، ايخر الشي حطوها في شباك مربعنا على كرسي الضوية الي كانو يحطو عليه لمبة القاظ قبل ما يصير عنا كهربا.
جدي ما رضي يحطا عندو في بيتو قال ما بدو صرعة، ونصبنالها انتيل عالسطوح متل حبل الخسيل ودندلنا الشريط ملطاقة فوق شباكنا حتى وصلا.
بعد كم يوم اشترى ابوي هبرلون وشريط مدو من مربعنا لبيت جدي ووصلو علراديو وصرنا نسمًع نحن ويسمًعو هنن، نانتي كيفت لانو كانت سميعة ويا خيو اش بتعرف غنيني.
من عبكرة الله تقوم تتوضا وتصلي الصبح وتتعربش على مربعنا وتبرك قدام الشباك وتشغل الراديو اول شي علقرآن وكل الايذاعات بتطالع الصبح قرآن وحفظت نانتي محلاتهن عبلورة الراديو.
يفيق ابوي ليرو على شغلو وبعدو نفيق نحن لنرو علمدرسة، وبعدين امي تقوم على حوستها، ونانتي بيركة قدام الراديو من ايذاعة لإيذاعة،لالا شغلة ولا مشغلة، هي تمثيلية هي اخبار هي اغاني، كلو بينسمع.
وقد ما كانت نانتي سكوتية وبحالا صارت تحكي وتلقش وتعرف اش صاير بالدني، واخبار الحروب والانقلابات، حتى حفلات ام كلتوم صارت تعرف اينا ليلة بدا تصير و اش بدا تغني كمان، ومن هداك اليوم فتحت ادني وصرت اتسمع متل ما بتتسمع نانتي وصرت اعرف الي بنسمع والي ما بنسمع.
وكان اذا صدف في طبخة تقيلة بدها تعيونا لأمي فيا تقلها ” ولك بنتي الله يرضى عليكي جيبيلي الطشت لهون بشتغل على بركتي وانا عبسمع “، وعالطولة ساويت الراديو لعبتي وصرت انط عالشباك واسحب فيشة شريط الانتيل من محلا واجك اصبعتي بدالا يقوم الصوت يقوا وتسحب ايذاعات اكتر تكيف نانتي تقلي جكا اكتر بلكي بيقوا الصوط اكتر وكنت اسايرا و اساوي متل مابدا بس ماكان يقوا الصوط ولا يحزنون.
وكانت الكهربة هديك الايام عل مية وعشرة لهيك كانت وقت الي تعتم العين ويشعلو الخلق الاضوية تضعف وتبطل الراديو تشتغل و يخفى حسا تصحلي نانتي مشان اجك اصبعتي اساوي متل مابدا بس مايمشي الحال، ااقلا “نون” الكهربا ضعفت ما تسدقني تقلي جرب كمان بلكي بيطلع الصوط وقد ما ابعبص ايام اتكهرب وانط بأربعتي تعود تسدق ونقوم نطفيها وتاخد درب طريقا وتنزل لعند جدي .
كنا نشوف الراديات شغلة كبيرة , طلع بعدا التلافزيونات وبعدو الدشات والكنبيوترات وكمان الخلاويات والنت والله اعلم لسى اش منا نشوف , والله والله لو جدي ونانتي شافو الي شفناه كان طق عقلن , ويا مثبت العقل والدين تثبت علينا العقل والدين).
هذه ورقة من اوراق الخريف وكثيرة هي اوراقي .