وثائق سوريا
عظة البطريرك الياس الرابع معوض في عيد الفصح عام 1972
عظة البطريرك الياس الرابع معوض بطريركية أنطاكية وسائر المشرق في عيد الفصح عام 1972.
(الفصح يعني العبور، عبوراُ من الظلمة إلى النور، من الألم والحزن إلى الفرح والأنشراح، من الكراهية والحقد إلى المحبة والغفران، من الأنانية إلى بذل الذات، من الكبرياء إلى التواضع، من الضياع إلى اللقيا، من العبودية إلى الحرية، من الموت إلى الحياة.
ليس سهلاً أن نعبر من الموت إلى الحياة، هذا العبور يفترض أن نجتاز طريق الجلجلة، يفترض أن نحمل ثقل الصليب، وأن نسقط تحت ثقله، أن يتصلب عرق الأوجاع من أجسامنا، وتستمر أيدينا وأرجلنا وتشق الأشواق أثلاماً في جباهنا، ونحن مغتبطون داخلياً، وتشع أعيننا بضياء الغفران أمام الأعين التي تحدق إلينا حقداً وكراهية وتشفياً وانتقاماً، وتنفتح قلوبنا بالمحبة لتحتضن إنسانية شريرة تائهة ملجنة معربدة في كأس هزئها وسخريتها، وأن تطعن جنباتها بحراب فتنشق على عالم كله حب ورحمة وإنسانية أن نكفر بذواتنا.
“من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه وليحمل صليبه ويتبعني”، إلى أين يجب أن نتبعه، وما معني الكفر بالنفس؟
هناك حقيقة واحدة لا حقيقة غيرها، ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ من ملَكَ العالم لا يعني أنه ملك نفسه، وأما من ملك النفس فقد ملك الدنيا، جعلها عجينة بين يديه، ويخلق منها تمور بالجمال وصوراً تتحرك بالروعة.
الكُفر بالذات يعني امتلاكها، لكي تكسبَ الدنيا يجب أن تتركها، إذا تركتها جرت وراءَك، طاردتك شوقاً، انصاعت إليك، شعرت أنها مرتبطة بك، أنك سَيدها، مالكاً لها بك.
في هذه الحالة تكون مالك نفسك وسيدها، مالكاً لظفرك، مالكاً لقيامتك تعمل بوحي منها وتحقق لنفسك كل معطياتها الروحية والفكرية، في عالم خُلق ليكون موطئ قدم لك، لصعودك الحر إلى السدرة الإلهية، ولعبورك الخلاق إلى المعرفة الكلية.
العبور من الموت غلى الحياة عبًور داخلي يفرض صراعاً عميقاً مضنياً لتقرير المصير. من هناك كان طريق الألم ضرورياً والتمزيق شرطاً لازماً.
الوجع البشري لا يلعب دوراً مهماً في عمل الخلاص والألم الروحي الحاصل من الشعور بضرورة الانعتاق والتحرر هو الألم الخلاق الذي ينتهي إلى ثمرة الصليب.
الإرادة وحدها لا تستطيع أن تبتّ بمصيرها الأزلي، بدون النعمة الإلهية يكون فعل الإرادة محدوداً في عالم الأرض والنعمة الإلهية هي منبع الحياةن لا حياة للنفس والجسد بدونها، الصراع في الإرادة يبتدئ عندما يصبح وجود النعمة محسوساً والصراع الإرادي يعنف كلما تعظم وجود النعمة فيها، وكلما تعاظم هذا الوجود كلما ازداد شوقنا إلى الوجود المطلق، وكلما غزت مياهُها نفوسنا كلما ازدادت تموجات محيطاتها بهاء وسناء.
في هذه الحالة تشتد مقاومة إرادة الأرض ليزداد عمق الصراع ويأخذ طابع الألم العنيف، طابع ألم يشعُرك بابتداء تحكمك بمصير الكون.
الإرادة التي تعمل مستقلة، بمعزل عن الروح القدس تنتهي إلى الموت، أما الإرادة التي تقفل أبوابها على العالم لتفتحها على عالم النعمة، تستنزل كل الثالوث ليجعل مُقامه عندها، يحيى أمواتها ويصقلها بالنور ويرفعها إلى حيث يجب أن تكون نوراً في النور وحياة في الحياة ومواطنة من مواطني الملكوت.
العقل والإرادة والخيال مع النعمة تشكل ثالوثاً موحد الجوهر وبدونها تصبح هذه الحركات ترابية تنتهي بالعدم لأنها حركات عدم، فإذا كان العقل والإرادة والخيال قد تركت في مجرى التاريخ سماتها، فهذه السمات هي بقايا حنين الصورة، ينبعث كلما تجرد الإنسان من أنانية أو غرق في يأس رأي من خلاله مثالاً.
من هنا كانت قيامة المسيح إرادية.
تصميم الله على خلاص الإنسان، على قيامته من موته، تصميم يستهدف شفاء العقل والإراداة والخيال من مرض الأنانية والكبرياء، لتتمكن من النهوض والتحديق إلى الأبعاد السماوية بدلاً من أفق الجحيم المحدود.
عندما تنهض، عندما تقوم هذه الوجودات وتسلك الطريق المنعم، يتبعها الجسد، وتتم القيامة الإنسانية المتوخاة من نزول الكلمة المبدعة إلى الأرض.
القيامة إذا هي قيامة العقل والإرادة والخيال أولاً، ومن ثم قيامه الجسد، قيامه الخليقة كلها والخليقة بالخطيئة ماتت لأن الروح مات، وبالظفر على الموت، بعودة النعمة الإلهية إلى النفس تعود الجياة إليها وبالتالي إلى المسكونة، وهكذا تعمر الأزلية خليقة الله المحسوسة وغير المحسوسة، لذلك كانت قيامة المسيح قيامتنا نحن.
مات المسيح باختياره ثم قام، لنموت نحن بارادتنا، وعقلنا وخيالنا، ونقوم ونتمتع بظفر القيامة ومجدها.
قيامة المسيح هي قيامتنا نحن الساقطين في الخطيئة ، المسيح لا يحتاج إلى أن يقوم، المائتون يحتاجون إلى القيامة، المسيح هو القيامة هو الحياة، إنه هو منذ الأزل، الطاهر، القدوس البرئ من الدنس، البهاء الكلي، والقدرة الكلية، به كان كل شيئ، وبغيره لم يكن شيئ من كان.
إنه المجد الذي لا مجد سواه، والقدرة التي لا قدرة غيرها، به نحيا وبدونه نموت.
يكره الظلمة لأنه نور! نزوله إلى الأرض وموته استهداف القضاء على الظلمة، وعمر كل خليقته بالنور لأنه النور الحقيقي الذي ينير ويقدس كل إنسان، إنه النور المشرق في الظلمات ولا تغشاه الظلمات.
الله يكره الخطيئة لأنها ظلمة، الظلمة تتنافى مع جوهر ألوهته، لا مكان للظلمة حيث يكون الله، ولا الله حيث تكون الظلمة، القيامة هي بداية حكم النور، بزوغ مقدس لعالم تلدُه قداسة النور.
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
مجلة اليقطة، العدد 2-3 شباط وآذار عام 1972م.