إياد محفوظ – التاريخ السوري المعاصر
تمهيد
تحتفظ معظم سيدات حلب من الشرائح الاجتماعيّة الميسورة بحظوظها في اختيار يوم في الشهر لاستضافة أقرانها من الأصدقاء، والأقارب، والجيران.
وهو تقليد كان متبعاً على نطاق واسع في المدينة حتى نهايات القرن العشرين، ومنتشراً بنسب متفاوتة في أحيائها، لا سيما في حي الجميليّة، حيث تقطنه أغلبية من الأسر المسلمة ذات الطابع المنفتح على الحياة العصرية.
ضمن ما يسمى بالاصطفاء الطبيعي والانسجام العفوي، تبادر مجموعة من السيدات، يتشاركن في صفات اجتماعيّة متقاربة على توزيع أغلب أيام الشهر فيما بينهنّ، وثمّة سيدات من ذوات الهمم العالية ينتسبْن إلى مجموعتين مختلفتين، وفي هذه الحال لا بدّ من أن تقع تلك النسوة في حيرة إذ غالباً ما تتضارب المواعيد بين المجموعتين، فإمّا أن يقمْن بجولتين على نحو متتابع في اليوم نفسه، أو أن يلجأن إلى زيارة إحداهن كل شهرين مرة، وهذا الاحتمال قليل الحدوث، ولا تدانيه اللباقة.
في حين قلما نجد سيدة تشترك في ثلاث مجموعات دفعة واحدة، إذ تنطوي هذه المغامرة على صعوبات جمّة، إنْ كان من حيث العدد المهول المتوقع أن يحضر في يوم استقبالها، أو في توزيع وقتها على إرضاء أفراد المجموعات الثلاث.
ولا يخفى على أحد مدى نوبات العتاب الأليف، وحجم اللوم الودي الذي سيطال السيدات الغائبات عن الاستقبالات على نحو متكرر، دون عذر مسوغ، وذلك في الحالين الأخيرتين.
طقوس وتقاليد
تتنافس سيدات المجتمع الحلبي في جعل يوم استقبالهن مناسبة زاخرة بالبهجة والرفعة والبهاء، إذ تتقاطع في هذه الأمسية ألوان المرح والتسلية، من خلال الغناء والرقص وتوابعهما، مع تقديم أصناف الضيافة المنظومة، كما تحرص صاحبة الاستقبال على أن تسود النظافة، وتزهو الأناقة في سائر أرجاء المنزل، واستكمالاً لطقوس هذه السهرة النسائية، ولضمان نجاحها فإنّ سيدة المنزل تبادر إلى تشجيع زوجها وأولادها الشباب إلى الخروج من المنزل، حيث تحثهم على مغادرته في وقت مبكر لئلا يشوب ليلتها أية منغصات. ها هنا نجد أنّ بعض الرجال يقتنصون هذه الفرصة الذهبية لارتياد سهرات مشبوهة لا يجرؤون على الاقتراب منها في الأيام العادية، في حين يقبع أغلبهم في أماكن قريبة لمعالجة أي أمر طارئ، كنفاد الضيافة، أو ما شابه، نظراً لعدم معرفة صاحبة “الأبول” عدد السيدات المشاركات في استقبالها بصورة مسبقة.
من الأمور الطريفة، قيام صاحبات الاستقبال بإرسال أبنائهنّ الصغار إلى منازل صديقاتهنّ وجيرانهنّ، بغية تذكيرهنّ بموعد “أبولهنّ” خشية أن يغدو استقبالهنّ مقتصراً على عدد قليل من السيدات، وهذه إشارة غير حميدة قد تسبب لهنّ نوعاً من الخوف والقلق من الدخول في دائرة الاقتراب من حافة الإفلاس الاجتماعي.
لا شكّ في أنّ مناسبة “الأبول” تعدّ ساحة مفتوحة لاستعراض أناقة السيدات، ورفعة أذواقهن في ارتداء آخر ما توصلت إليه دور الأزياء، فضلاً عن سعيهنّ إلى التفاخر بمكانتهنّ الاجتماعيّة، عبر إبرازهنّ لما يقتنيْن من مجوهرات جديدة ومصاغ فاخرة لا سيما “البغمة” اللولو، و”البروش” الألماس، ناهيك عن تبرجهنّ وتصفيف شعورهنّ بما يتناسب مع آخر صيحات الموضة مثل (الطّبز، والموزامبلي، والشينيون، وغيرها)، ونشير إلى أنّه في تلك الفترة كان العزوف عن ارتداء الحجاب أمراً مألوفاً وسط أفراد هذه الشريحة من المجتمع الحلبي، ومن باب الحشمة قد يضع بعضهن (إيشاربات)(2) خفيفة على رؤوسهنّ، تكاد لا تستر أكثر مما تكشف من شعورهنّ إزاء تلك الفنون المبتكرة التي تجعلها منتصبة في الاتجاهات كافة.
كما أنّ سهرات الاستقبال تغدو ميداناً رحباً لتقليب البنات، إذ تعمد معظم السيدات إلى اصطحاب بناتهنّ العازبات، لا سيما البالغات حديثاً منهن، بغية إثارة شاهية الموجودات في نقل أخبارهنّ والتدليل عليهنّ، حيث تبادر النسوة إلى إطلاق عبارات الإطراء فور وصول تلك الفتيات إلى “الأبول” على غرار: “ما شا لله صارت بنتك صبية، الله مصلي على النبي إيش هالحلاوة، وين كنتي مخبيتيا، إلخ”.
عادة ما يبدأ توافد السيدات إلى الأبول بعد أن ينحسر الضجيج في الجهة الأخرى من المدينة، ونشير إلى أنّهنّ يجلبْن معهنّ في فصل الصيف أحذية ذات كعب عالٍ، يبادرن إلى انتعالها عند الباب قبل الدخول إلى قاعة الاستقبال، وفي أيام الشتاء يخلعن أحذيتهنّ العادية عند المدخل ويستخدمْن بدلاً منها بوابيج خاصة، متعددة الألوان والتصميمات، متشابهة بالشكل والغرض.
يستمر إيقاع “الأبول” الاحتفالي متوهجاً بكل ما فيه من بهاء إلى ساعة متأخرة من المساء، وفي بعض الأحيان يبقى حافلاً بالبهجة والسرور إلى أن يلامس صفحة منتصف الليل، وذلك إذا ترافق وقوعه مع وجود مناسبة سعيدة لصاحبة الاستقبال، وما أكثر تلك المناسبات المبتدعة عند معشر النساء، أو إذا تزامن مع مواسم الأعياد أو الأفراح، وفي هذه الحالات لا بدّ من أن تصبح الضيافة أشد سخاء، والخوجة أكثر رفعة وشهرة.
ونشير إلى أنّه في حالات قليلة ربما تكون نادرة ينقلب الأبول إلى مجلس عزاء من طراز فريد، حين تتعرض سيدة المنزل لحدث حزين مفاجئ، كفقدان أحد أفراد أسرتها مثلاً.
من الأشياء الجميلة الأخرى مسارعة أصحاب السيارات الخاصّة في توصيل صديقات زوجاتهم، إلى منازلهنّ إثر انفضاض عقد الاستقبال.
المغنى والفرفشة
من جهة أخرى نجد أنّ معظم سهرات “الأبول” تزهو بألوان الطرب والرقص والفرفشة، إذ كثيراً ما تشارك إحدى الخوجات المشهورات في حي الجميليّة في نشر أسباب الفرح والمتعة بين الحاضرات، وأذكر منهنّ (فيروز، جميلة سمعان، زاكوية، نظلة، وغيرهن)، وثمة من احترف الغناء في تلك السهرات الأنثوية دون مقابل مادي، حيث كنّ يقمن بتلك المبادرات على نحو ودّي وطوعي، يسَعُنا تصنيفها في هذه الحال شكلاً من أشكال الخاطر لصاحبة الاستقبال، منهنّ (السيدة عدوية نجار، والدة الفنانتين الكبيرتين ميادة الحناوي والمرحومة فاتن حناوي)، والسيدة أم المطرب (نور مهنّا)، التي كانت تمتلك صوتاً عذباً، وأداءً طربياً متميزاً، فضلاً عن السيدة (صبيحة مامللي)، التي كانت تمتلك حضوراً لافتاً في عالم الاستقبالات والمناسبات، حيث أجمعت المصادر على أنّ “أبولها” كان زاخراً بمشاركة العديد من النسوة اللاتي يتقنّ ألوان العزف، والغناء، والرقص الشرقي البريء.
ها هنا يسعنا الخلوص إلى أنّ كثيراً من نساء تلك الفترة كنّ يُجدْن العزف على إحدى الآلات الموسيقيّة مثل (العود، أو الطبلة، أو الرق، أو واحدة أخرى)(3)، وفئة لا بأس بها منهنّ كنّ يمتلكْن صوتاً طربياً، أو مهارة لافتة في أداء النغمات العذبة، وذلك بالاتكاء على مخزونهنّ الشعبي من المقامات السمعية المتوارثة من جيل إلى جيل، أما إتقان الرقص الشرقي فحدث ولا حرج، إذ يبدو أنّ هذه السمة تتميز بها أغلب الإناث على نحو فطري وعفوي، في الأمكنة والأزمنة جميعها.
وغالباً ما تضم كل مجموعة سيدة وربما أكثر يتحليْن بروح الدعابة والمرح، ويمتلكن خبرة ومهارة واسعتين في نشر أجواء البهجة والفكاهة بين الحضور من خلال قدرتهنّ على التهريج وإلقاء النكات الملغومة، إضافة إلى إيتائهنّ لبعض الحركات ذات المغزى الملموز، وفي حال اعتذار إحداهنّ عن المشاركة لسبب طارئ أو ما شابه، تسعى صاحبة الاستقبال إلى دعوة سيدة أخرى تتمتع بالمواصفات المرحة نفسها.
وقد أطلق الحلبيون صفات عدّة على هؤلاء النسوة منها:
“دمها خفيف، ما إلّا دم، بتضّحك المخوزق، و(مسخنة)(4)“.
من تلك السيدات اللاتي عُرفن بخفة الدم في محيط جدتي: أختها الحاجة أميرة فرّا، وصديقتها السيدة أمينة عبه جي.
في هذا السياق يُروى عن السيدة أمينة عبه جي حادثة طريفة، فقد التزمت منزلها إثر وفاة زوجها أسوة بما تفعله النساء المسلمات جميعهنّ، ولكنها ظهرت فجأة في أحد “الأبولات” العامرة بالطرب والكرم، الذي كان قائماً في “قناق” إحدى سيدات مجتمع حي الجميليّة البارزات، فطفت علامات التعجب والحيرة على وجوه عدد كبير من الحاضرات إزاء علمهنّ بأنّها ما زالت تقضي فترة عدّتها الشرعية، فانبرت إحدى السيدات الجريئات، وسألتها بلهجة لا تخلو من مكر عن سبب كسرها للشرع والتقاليد، فأجابت السيدة أمينة عبه جي بنبرة صادقة فيها كثير من العفوية: يا حبيبتي! للضرورة أحكام.
وفي مرّة أخرى شاهدت السيدة أمينة عبه جي حركة مريبة تجري في منزل صاحبة “الأبول”، حيث شدّ انتباهها انسحاب سيدة إثر أخرى من صالون الاستقبال، وعودتهنّ بعد حين وقد ارتسمت على وجوههنّ علامات الرضا والراحة، فما كان منها إلّا أن نهضت على نحو متحفّز، وتبعت السيدات المتسربلات بخفة إلى غرفة داخلية، فاكتشفت السر حين وقع بصرها على إحدى النساء وهي تقوم بضرب الإبر الطبية في مؤخرات عدد من السيدات الموجودات، إذ يبدو أنهنّ أحضرن معهنّ أدويتهنّ إزاء معرفتهنّ بأنّ هذه الطبيبة أو الممرضة من ضمن المدعوات إلى هذا “الأبول”، فعادت إلى الصالون وهتفت بلهجتها الساخرة: “بدي أفهم! هدا استقبال نسوان، ولاّ استقبال طياز”.
من الأمور اللافتة التي تتميز بها الاستقبالات بصورة عامة تلك الأحاديث الجانبية التي يغلب عليها سمة النميمة العابرة، حيث لا يتعدى حدود المشاركة فيها سوى سيدتين أو ثلاث على أحسن تقدير، وقلما نجد حواراً أو حديثاً تلتف حوله النسوة الموجودات في الأبول جميعهن، بل من الطبيعي أن تتعالى الأصوات في الاتجاهات كافة وتتداخل فيما بينها على نحو عشوائي كما لو أنهنّ يسعين إلى تطبيق المقولة المشهورة “حمام نسوان مقطوعة ميتو”.
أنواع الضيافة
إنّ صاحبات الاستقبال يعمدْن إلى التحضير الجيد لمثل هذه المناسبة حيث يسعين إلى تقديم ضيافة منظومة، تبرز سخاءهنّ ومكانتهن الاجتماعيّة على الرغم من أنّه توجد أعراف وتقاليد متبعة تلامس الحدود الدنيا، التي لا يليق لصاحبات الاستقبال أن يحجمن عن تقديمها.
إنّ أصناف الضيافة التي توفرها صاحبة الاستقبال هي في العموم جزء من الأطعمة والمأكولات المعروفة في المطبخ الحلبي الشهير، الذي له أوّل كما هو معروف وليس له آخر، وحيث إنّ نساء حلب يتفنّنّ في صنع الأطعمة وفق ما هو متوافر من منتجات غذائيّة في كل فصل من فصول السنة، فمن الطبيعي أن تختلف أنواع الضيافة التي تقدمها السيدات في يوم استقبالهن على مدى تقلب الشهور والفصول، على أنّه في الحالات كلّها لا غنى عن فنجان القهوة العربية المغلية، وقطعة من الشوكولا، لاسيما المحشية منها بالفستق الحلبي أو البندق، وبجوارها يفضل تقديم قرص راحة صغير، أو إصبع من هريسة اللوز، أو قطعة نوكا، أو ربما غريبة إستنبوليّة، وقد يبادر بعضهنّ إلى تقديم أكثر من نوع من هذه الضيافة إثر الفراغ من ارتشاف القهوة، ومن الطبيعي أن نجد تفاوتاً بين ضيافة سيدة وأخرى.
فضلاً عن تقديم المربيات الحلبية التي توضع عادة في مجاميع خاصة بها، حيث تحمل صاحبة الاستقبال صينية تضم تلك الأوعية الشاهية، ثم تقوم بعرضها على ضيفاتها بعد أن تبادر إلى توزيع صحون وشوكات صغيرة من الفضة عليهن، ومن الأنواع التي نالت شهرة واسعة في حلب (مربى البانجان، مربى القرع، مربى الجوز، ومربى الكباد).
في موسم الصيف يحلو لسيدات حلب الاستمتاع بأكل البوظة (الدندرمة)(5)، لاسيما (البوظة على كرز)(6)، او “الكلاسّة”، كما تفضل النسوة تناول أحد أنواع الشرابات الباردة في هذه الفترة من السنة، ومن أهمها في حلب شراب البرتقال، وشراب الليمون، على أن تكون كاسة الشراب زاخرة بقطع الثلج الصغيرة، حيث يحلو للسيدات هزّها على نحو متتالٍ قبل تناول رشفات منها، فهذا السلوك يحقق لهنّ متعة حاسة السمع من جهة، ومزيداً من الاستمتاع بحاسة التذوق إثر ذوبان قطع الثلج من جهة أخرى.
كما أنّه تكتمل المتعة وتتحقق الرفعة إذا رافقت قطعة من الكاتو صحن البوظة، أو كاسة الشراب، ونشير إلى أنّ قطعة الكاتو غالباً ما تكون من نوع بهارات “مارينغا”.
وربما تبادر بعض النسوة إلى تقديم الهيطلية مع بوظة بحليب، من خلال صحون وملاعق خاصة بها، مصنوعة عادة من الخزف الصيني.
أمّا في أيام الشتاء الباردة فيطيب لنساء حلب تناول الأطعمة المصنوعة من الحليب وما أكثرها، على رأسها (الرز بحليب، المهلبية، الرز بحليب المبطن، البالوظة، الزردة، الحبوب، إلخ).
تواريخ من الذاكرة
أذكر أن والدتي رحمها الله اتخذت من يوم السابع عشر من كل شهر يوماً مخصّصاً، وموعداً ثابتاً لاستقبالها.
ولا أعرف لِمَ ما زال طيف من ذكريات تلك الأماسي عالقاً في مخيلتي، حيث كنت أكابد أحلاماً غريبة في ليلة أبول والدتي إثر انصراف ضيوفها، فقد اعتادت معاطفهنّ المدججة برشقات العطور الفاخرة الارتماء فوق سطح سريري، الذي كان الأقرب بين أقرانه إلى صالون منزلنا القديم في حي الجميليّة.
أما حماتي الحاجة نظمية فقد اختارت يوم التاسع عشر موعداً شهرياً لاستقبالها، في حين كان الخامس عشر من كل شهر تاريخاً مشهوداً ليوم “أبول” جدتي من أمي (الحاجة نهيدة فرّا)، إذ عُرفت في محيطها بأنّها سيدة صالون من طراز رفيع، وسأعرض بإيجاز بعض السمات التي كان استقبالها يتميز بها.
“أبول” الحاجة نهيدة
كان لجدتي خمس أخوات يتمتعن بالدرجة نفسها من الحضور الاجتماعي، فضلاً عن عدد كبير من بناتهن المتعلمات منهن، وغير المتعلمات، واللاتي لايقللن شغفاً عن أمهاتهنّ بتلك اللقاءات. عدا عن توافر قائمة طويلة ومتجددة من الصديقات، والجارات، والمعارف، اللائي يتقاسمْن مع جدتي المكانة الاجتماعية عينها.
أذكر أنّ الصالون الكبير في منزل جدي في حي الجميليّة كان يستعد لاستقبال “أبول” جدتي قبل أيام عدّة، إذ غالباً ما تبادر “نانتي”(7) إلى تنظيفه، وتلميع كل قطعة أثاث فيه، كما لو أنّها تقوم بعملية تعزيل سنوية له.
في صباح اليوم الموعود تحرص جدتي على القيام بإجراءات تدقيق إضافية، لا سيما التحقق من عدم وجود غبار في أي ركن من أركان قاعة الاستقبال، ومن ثَمّ تعمد إلى وضع أنفس ما لديها من (الأراتي)(8) (الجخ)(9) من نوع الأغباني، أو المطرزة يدوياً، وذلك على الطاولات والأماكن الأخرى المشابهة لها، فضلاً عن توزيع (تباسي)(10) الكريستال، والصمديات، والتحف البديعة، في أرجاء الصالة.
هذا من ناحية الشكل، أمّا في ما يخصّ الضيافة التي تجهزها مسبقاً وتقدمها في يوم استقبالها، فقد كانت تتماشى بما عرف عنها من كرم وسخاء، وتتناغم معها.
في المختصر المفيد كان موعد استقبال جدتي يوماً حافلاً بالحضور المتميز، وعامراً بألوان الفرح والبهجة كلها، وزاخراً بأشكال الطرب والمتعة والفرفشة جميعها.
أخيراً يسعنا الخلوص إلى أنّ مناسبة “الأبول” كانت في تلك الحقبة أشبه بمهرجان أنثوي مبهر، كما لو أنّه حفل زفاف نسوي مصغّر.
الهوامش:
(1) الأبول: القَبول- عربية، مصدر قَبِل، والحلبيون أطلقوها على يوم في الشهر تخصّصه المرأة لزيارة صديقاتها إيّاها يأتونها فيه، وتقدم لهنّ الضيافات المتنوعة، ويطيب لكثيرات من النساء في هذه الليلة أن يجلبْن إحدى الخوجات لإحيائها، لا سيما إذا ترافقت مع حدوث مناسبة خاصة كالأفراح، والأعياد، وما شابهها.
انظر موسوعة حلب (المقارنة)، تأليف خير الدين الأسدي، وتحقيق محمد كمال، المجلد السادس، الصفحة (152).
(2) إشاربات: إيشارب- يطلق على حجاب المرأة، وهو منديل ملون، تضعه المرأة على رأسها ويبقى وجهها ظاهراً، يُطوى على بعضه بشكل قطري، ويربط من نهايتيه على صورة عقدة تحت الذقن.
(3) من الذاكرة: في هذا السياق حدثتني والدتي – رحمها الله – غير مرّة أنّ جهاز العروس في حلب كان حتى أواسط القرن الماضي يكاد لا يخلو من آلة موسيقيّة كالعود، أو القانون، أو الرّق، أو ما شابهها، كما أخبرتني أنّه يستحسن أن تجيد الفتاة الحلبيّة العزف على إحدى تلك الآلات، وأن تتقن شيئاً من علوم الغناء لاسيما إذا كان صوتها عذباً جميلاً، وهذا ما يجعلها جاهزة وحاضرة لإسعاد زوجها، وتسليته عند اللزوم.
(4) المسخنة: ومذكرها المسخن: يقولون: كان في جامع العدليّة ساعاتي (الحاج جميل ساعاتي) مسْخنْ، ودمّاتو خفاف، بضحك المخوزق. يريدون أنّه حاضر النكتة، وفي أصلها المذاهب التالية كما نرى:
أ- أنّها – على حد وضعها -: من السخونة ضد البرودة، كأنّ نفسه يعتلجها حرارة الأنس والضحك والسرور فيصب منها على غيره.
ب- أنّها من “سخَن” الفارسية، بمعنى: البليغ والشاعر والقصّاص، وهؤلاء يغلب أن يلازمهم إيراد النوادر.
ج- أنّها من العربية: أثخن في الحديث، بالغ فيه، وفي التاج: المثخن: المبالغ في الحكاية وإيراد الأقوال، وفيه أيضاً: المثخن: المتحرك بكلامه وفي حركاته.
نقول: وفن التمثيل الهزلي يقوم في كثير من مشاهده على العرض المبالغ فيه، لأنّ الحقيقة تافهة في موضوعهم التندري.
انظر موسوعة حلب (المقارنة)، تأليف خير الدين الأسدي، وتحقيق محمد كمال، المجلد السابع، الصفحة (104).
(5) الدندرمة: وتلفظ ضنْضرْمة، من التركية: دوندرمة بمعنى: المجمدة، أطلقها أهل حلب على الشراب المجمد، وأطلقوا عليها لاحقاً: البوظة، وحالياً يسود المصطلح الإنكليزي: آيس كريم، ومن أغاني أهل حلب: دندرمة بوظة بحليب – وأنا بحبك ياحبيب.
انظر المصدر السابق، المجلد الرابع، الصفحة (79).
(6) البوظة على كرز: تمتلك شهرة كبيرة بين أبناء المدينة دون سواها من أصناف البوظة الأخرى، وتصنع من عصير الكرز الصغير ذي اللون الأحمر الداكن والطعم الحامض المميز، ويطلق أهل حلب على هذا الصنف من الكرز اسم (الوشنا).
(7) نَانَا: نَانَه: من التركية عن الفارسية، نَنِه: الجَدّة، الأم أو من يقوم مقامها. ولدى النداء: نَانَا، أو نَانوْ. وفي الإيطالية: (NANNA) أو (NONNA).
من تهكماتهم:
كبرتي يا نانَه ولبستي كتّانَه، ونسيتي طرّ الحفا من خانَه إلى خانَه.
كبرتي يا نَانَا وصار لك قبة وخزانَة
لو كان لنانتي بيضات كنت صحت للا: جدو.
حصنتك بكيس تتن نانتك.
انظر موسوعة حلب (المقارنة)، تأليف خير الدين الأسدي، وتحقيق محمد كمال، المجلد السابع، الصفحة (258).
(8) الأراتي: جمع الأرْتي: أو أوْرتي: من التركية: أورتو بمعنى الغطاء، الدثار، غطاء المائدة.
انظر المصدر السابق، المجلد الأول، الصفحة (100).
(9) جخّ: جخّ فلان علينا، يريدون: صرف بسخاء، وفي أصلها المذاهب التالية:
أ- أنها من جخّ (العربية): اضطجع واسترخى، استعملوها بمعنى تنعّم وترفه، ذهاباً إلى أنّ الاضطجاع والاسترخاء، من ملابسات التنعّم والترفّه عند كسالى الشرق.
ب- يرى الدكتور أحمد عيسى أنّ الجخّ، من الجخف (العربية): التكبّر والافتخار.
ج- وقال العلايلي: جخّ عامي مفصح: الشخص بالغ وتأنّق في لباسه ورياشه، وأظن أنّها ترجع في الأصل إلى لباس الجوخ، وكان علامة ثراء ونعمة.
انظر المصدر السابق، المجلد الثالث، الصفحة (44).
(9) التباسي: جمع التَبْسية، من التركية: تَبْسي: الصحن، والحلبيون استعملوها كما يلي:
أ- تَبْسية السيكارات: صُحين ترمى به فضلاتها ورمادها.
ب- تَبْسية الأركيلة النحاسية: صُحين أكبر من تَبْسية السيكارات.
وتجمع على التباسي والتبسيات.
انظر المصدر السابق، المجلد الثاني، الصفحة (244).