You dont have javascript enabled! Please enable it!
مختارات من الكتب

سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى 1925 – حب الاستقلال والحرية

من كتاب الثورة السورية الكبرى 1925-1927 (8)

 سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. الأسباب الخارجية –  حب الاستقلال والحرية

عرف أهالي سورية بحب الاستقلال والحرية الشخصية وبعشقهم لعزة النفس وبأنهم دقيقو الشعور، شديدو التغني بالماضي والاعتزاز بالتراث الحضاري المجيد الذي خلفوه وبأن الديمقراطية كانت سائدة في بلادهم من قبل أن يدوس الفرنسيون أرض الوطن بزمن طويل.

كان في هذا الاعتداد والتعطش إلى الحرية المقترنين بالقول الشائع “الجنة تحت ظلال السيوف”، إمكانية كبيرة لتلبية نداء ثورة جديدة، وأشهرها ثورة الشيخ صالح العلي 1919 – 1920 في جبال اللاذقية، وثورة حوران 1920 عقيب ميسلون، وثورة دير الزور، وثورة إبراهيم هنانو في الشمال، وثورة سلطان الأطرش الأولى عام 1922م.

كان الاستبداد العسكري الفرنسي تحدياً وكانت استجابة شعب أحب الحرية وتعهدها بالدم ثورة عنيفة لاهبة.

شكا السوريون من السلطات الواسعة التي تركت للمفوض السامي وزاد شكواهم أن موظفي المفوضية من المندوبين حتى المستشارين، وربما أفراد الجند قد ترك لهم تمثيل سلطة المفوضية في الأقسام الإدارية المختلفة فبدو “مفوضين صغاراً عليهم أن يفرضوا احترامهم في هذا الشرق الذي لا يحترم إلا القوة”.

كان كثير من هؤلاء الموظفين ينقلون من المستعمرات والمحيمات فيقدمون إلى سورية مشربين بالعادات والأساليب المتبعة في مستعمراتهم تلك العادات والأساليب التي لا يمكن تطبيقها في سورية كما أنه ليس علينا أن ننسى، تقول الكاتبة دي سانبوان، أن الأشخاص المشبوهين الذين تريد أن تتخلص فرنسا منهم، كانوا ينقلون إلى سورية كما كانت روما تنقل مشبوهيها إلى رومانيا.

نقمت البلاد على هؤلاء الموظفين وعقليتهم الاستعمارية وعدم كفاءتهم وسوء استعمال وظائفهم وتجاوزت النقمة هؤلاء الموظفين إلى المفوضية الذي يمثلونها وعلى فرنسا نفسها التي أصرت على تجاهل الصرخات الداوية ولو بلسانها الفرنسي بأن على الدولة المنتدبة أن تغير سياستها الانتدابية وأن تغير الرجال وأن تغير الطرق حتى إذا نشبت الثورة ولم تستطع فرنسا أن ترمى كل المسؤولية على العقلية الإقطاعية والتعصب الديني في البلاد رأت مع اللجنة الدائمة للانتدابات أن الوقائع الحالية تعزى إلى حد ما إلى ممثلي الدولة المنتدبة في سورية.

شكا السوريون من الموظفين الفرنسيين على اختلاف دوائرهم إلا أن دائرة الاستخبارات كانت أمقت هذه الدوائر في نظرهم فقد نشطت الجاسوسية في أحد درجاتها وغذت الوشايات والتهم والريب فكل شخص يبدو في الأفق مشبوهاً يستوقف ولو كان رئيساً لجمعية التجار الفرنسيين في سورية ولبنان، ويسأل من أين؟.. وإلى أين؟ .. وما هي دواعي السفر.. والعنوان الكامل “الشارع، الرقم”، يفضون الرسائل الخاصة وينزعون عنها الطوابع.. ويمنعون وصول الجرائد، ويخنقون حرية الشكوى والمطالبة بالاستقلال، والحكم الذاتي بالفظاظة نفسها التي طبعت التوسع الاستعماري في كل مكان حتى ديست الحرية الشخصية بالأقدام وبدأ العهد عهد تفسخ وإرهاب.

ولم يكن مستغرباً أن يتجاوز هؤلاء الموظفون صلاحياتهم، ابتداء من المفوض السامي، وأن يقلدوا هذا المفوض، وهم ممثلوه، في الجمع بين السلطتين العسكرية والإدارية والاستشارية من جهة، وبين سلطة دائرة الاستخبارات من جهة ثانية، فيسلكوا سلوك الزعماء الإقطاعيين ويتطلب بعضهم أن تقام لهم شعائر التعظيم والإجلال عندما يمرون كأنهم سلاطين في جولة، ولم يقتصر هذا على منطقة دون أخرى فقد كانت هذه الغطرسة والمراقبة الشديدة سائدتين في ظل حكم عرفي فاق في بعض نواحيه العهد الحميدي قسوة وتحيزاً، حتى أصبح السجن والتوقيف والنفي والإهانة شيئاً عادياً.

وكان على رأس هذه المظالم التي ضجت منها البلاد، خنق الصحافة وانتشار الرشوة والغرامات والسخرة والعنف..

فقد عمدت السلطة المنتدبة إلى كمّ الأفواه بشتى الطرق، بالرشوة والإغراء حين تنقع الرشوة والإغراء، وبالقوة والنفي والتشريد، فأخفت صوت الشعب إخفاتاً وألغيت حرية القول والطباعة والإجتماع.

وكانت تلك الفترة محنة للصحافة، فمجرد أمر إداري تغلق الجريدة إلى أجل غير مجدود أو تضطر للاحتجاج. وكثيراً ماشوهدت المجلات والجرائد مكدسة في المخافر. لهذا بدت للصحافة مكمومة.. والصحافة الحرة لا وجود لها في سورية ولا في لبنان. وتمنع ممثلو الانتداب وعماله المدنيون والعسكريون بحصانة ضد أفلام الجرائد والمنشورات الدورية، وغير الدورية، والكتب. وقد استمرت الصحف حتى الموالية منها. على الشكوى من قوانين التضييق المتلاحقة ومن استهانة رجال الانتداب بحرمة الصحافة إذ كثيراً ما رمى الصحفيون في السجون القذرة الموحلة وربما دعي بعضهم إلى المبارزة.

ولم يكن التضييق وحده كافياً لخنق المطالبة بالحرية، فاستمرت الدولة المنتدبة نفسها في سياسة الرشوة، تلك السياسة التي بدأتها منذ أن وضعت رجلها على الشاطئ اللبناني، وبالأحرى قبل أن تضعها. إلا أن ضجة المكلفين الفرنسيين اضطرت الحكومة لأن تخفض حصة المفوضية في الميزانية الفرنسية العامة من 185 فرنكاً سنة 1920 إلى 120 سنة 1921، وإلى 50 سنة 1922 حتى بلغت من 8 إلى 9 ملايين قبل الثورة.

كانت هذه الميزانيات وما يلحقها من موارد محلية، تصرف على الأبواب والأنصار، وخصوصاً على بعض الصحف وبعض زعماء العشائر والمتزعمين مما دعا أحد الكتاب لأن يقول بأن فرنسا إنما دخلت البلاد راشية مادياً وأدبياً بتوزيع الذهب والمناصب والهدايا والأوسمة، والوعود.. أما المغضوب عليهم فقد كانوا عرضة للبطش والتغريم، وكان التغريم قاعدة اتبعتها السياسة الفرنسية للانتقام وإضعاف اقتصاديات البلاد ولإشباع أطماع جماعتها بعد أن خفضت مخصصات المفوضية في الميزانية العامة.

وكررت الإدارة الفرنسية قراراتها وتعليماتها بأن العملة المصرية والدينار الذهبي يجب أن يحسبا في خبر كان، ومع ذلك فقد استمرت على فرض الغرامات بالليرات الذهبية، إلى زمن الثورة وما بعد الثورة، وهذا مما بدا سلباً سافراً. وكانت هذه الغرامات تفرض بأرقام خيالية. فقد فرض على العلويين القاطنين في قضاء بانياس خمسائة ألف ليرة ذهبية، وعلى حوران، في السنة نفسها 1920 مئة الف ليرة ذهبية ومثلها على دمشق وجبل عامل.

كما أننا نجد أن السلطة قد غالت في تطبيق قانون بدل الطريق العثماني، الذي يسمح بتسخير الذكور بين السادسة عشرة والستين من العمر. فقد ظل الفلاحون يشتغلون مثلاً في طرق أنطاكية السويدية الصيف كله، وفي اللاذقية أنشء 500 كيلو متر من الطرقات مقابل إعفاء الأهالي من ضريبة سنتي 1919- 1920 ومن غير المستبعد أن يساء استعمال هذا القانون في ظل حكم عسكري متغطرس، وأن تتحول السخرة إلى أشغال شاقة وطريقة لإذلال النفوس. وسنقدم أمثلة على ذلك في الفصل الثاني وفي الوثائق الملحقة.

كان رد الفعل لهذه الرشوات والغرامات والسخرة والإساءة إلى سمعة الدولة المنتدبة. فقد ظهر تحيزها وظلمها كما أن الرشوة قد فسرت ضعفاً وعجزاً، وخنقاً للرأي العام الذي لا يحق له أن يرفع صوته في سورية ولبنان، وإنما يحق لذهب المفوضية وحده أن يسمع.

فرضت هذه الغرامات، وفرضت معها العقوبات العسكرية، لأن الشرق، في نظر العسكريين لا يحترم إلا القوة، فكانت القرى تضرب بالمدافع والطيارات بسبب مرور “شقي” أو عدة “أشقياء” بها أو بجوارها، وتحجز محصولاتها، وينزل بأهلها أنواع التعذيب والانتقام والبلص ولو تكتف الإدارة الفرنسية في سورية ولبنان بأن تستعمل طرق العنف بأنواعها بل كانت تقدم إلى حكومتها، في باريس، جداول بالإضرار التي خلفتها حملات التأديب في النفوس والمزروعات والأموال طالبة تعويض أصحابها ولكنا لم نسمع بأن هذه التعويضات وصلت إلى أصحابها.

كان لاستمرار سياسة العنف والتغريم أثر في إقناع أكثرية الوطنيين السوريين بأن الوسائل السلمية المشروعة لا تؤدي في حال ما إلى تحقيق آمال شعب من الشعوب، وإن دعاة الوسائل السلمية يكونون دائماً ضحايا القوانين التي يريدون احترامها.

وهكذا كانت الثورة تزرع وتشب لا في نفوس رجال الحرب فحسب، بل وفي نفوس أرباب الأقلام وخريجي الجامعات.

ولقد قام إلى جانب عامل حب الحرية والإستقلال عامل آخر، هو العامل الديني، ولازم أحدهما الآخر حتى كادا  لا يتفرقان.

رأينا الأكثرية ترفض فرنسا وتكرهها من قبل أن تدخل فرنسا هذه البلاد. ولكن فرنسا نفسها لم تستطع أو لم ترد أن تكسب ثقة هذه الأكثرية كما أن بعض الكتاب الفرنسيين كانوا يرون بأن فرنسا تبني فوق أرض سورية قصراً إفرنجياً جديداً، وأنه قد بدئ ببعث المملكة الإفرنجية، وبدء صليبية جديدة.

كما أن بعض رجال الدين يخلطون بين الدين والسياسة الفرنسية فتبدو في خطبهم روح التمجيد والتأييد.

وبما أن المسألة الدينية تلتبس في الشرق، بالمسألة السياسية، كما رأى هريو فقد حدث غير مرة أن اصطدم رجال الدين وخاصة المسلمين منهم، بالسلطة المنتدبة.. واشتد هذا الاصطدام بين المسلمين والسلطة المنتدبة على أثر إعلان خلافة الملك حسين بن علي في عمان سنة 1924 ومحاربة الفرنسيين لحركة المبايعة هذه التي وجدت لها بعض الأنصار في سورية.

ورأى الأهالي في عمل الافرنسيين تدخلاً في شؤونهم الدينية الخاصة فأغلقوا حوانيتهم احتجاجاً ودعا بعض خطبائهم لأمير المؤمنين ولكن دون أن يسميه كما أن بعض الوجهاء والعلماء العنيدين، تعرضوا للإهانة وللسجن.

كانت هذه المصادمات آنية، إلا أن مشكلة الأوقاف ومشكلة البغاء ظلتا مثار اصطدامات لا تعرف المهادنة، فقد رأى الفرنسيون في الأوقاف موارد جديدة بالاهتمام فوضعوا يدهم عليها وسلموا الخط الحجازي، وهو أضخم هذه الأوقاف إلى الشركة الإفرنسية D.H.P  “دمشق، حماة، وتمديداتها”، وذلك في أبريل 1924. وأخضعوا قرارات مجالس هذه الأوقاف لمصادقة المفوض السامي أو لمندوب المفوض الخاص لدى هذه المجالس. فكان من الطبيعي أن ينتقم رجال الدين الذين حرموا من هذه الموارد والذين لم يحرموا وأن يضموا صوتهم إلى صوت الزعماء السياسيين في نقد الإدارة الفرنسية.

أما انتشار “الأكواخ الصحية” التي يسميها هارفي “صناعة المصابيح الحمراء” فقد أثار استياء الرأي العام على اختلاف طبقاته ومذاهبه فالأهالي لم يعتادوا رؤية هذه المواخير التي ضمت في دمشق وحدها بين 400 – 500 عاهر ومثلها في حلب، وحوالي الألف في المدن الإحدى عشرة الأخرى كما أن اختيار مراكز هذه البيوت لم يكن دائماً موفقاً، فقد حدث أن أنشء أحدها بين أربعة جوامع في مدينة حماه. وقارن الأهالي بين أخلاق الإنكليز والفرنسيين وبين سلوك الإنكليزيات والفرنسيات فرأوا أن الفرق شاسع فليس في مصر بغي واحدة إنكليزية، بينما نساء الضباط الفرنسيين ينسبن في الأوحال.

وأحس الأهالي بأن هنا خطة مرسومة لإفساد أخلاق الشبان السوريين، وقابلوا مهمة التمدين المقدسة بهذه البدعة فهالهم سوء المصير.

بقي علينا أن ننظر في عامل الزعامة، وعلى الأخص الزعامة الإقطاعية. فقد حمّل الفرنسيون هؤلاء الزعماء القسط الأكبر من مسؤولية الثورة. وجارتهم في ذلك لجنة الانتدابات، إذا أخذت بوجهة النظر الفرنسية القائلة بأن في البلاد طبقة من الزعماء ترى أن كل تدخل أوربي، مهما نوعه ينذر بحرمانهم من المزايا التي يتمتعون بها وأن استقلال البلاد ينطوي على صيانة هذه المراكز التي كسبوها واستبقاء العلاقات الاقتصادية والاجتماعية دون تغيير، وأن هؤلاء الزعماء هم الذين دفعوا الشعب إلى الثورة. والحقيقة أن في هذا الإدعاء شيئاً من الواقع، وشيئاً كثيراً من المبالغة. فالشعب لم يكن في هذه الثورة آلة بيد الزعماء، قد ذاقوا معاً مرارة الظلم. فقد تعرض كثيرون من الزعماء لشتى أنواع الاضطهاد من نفي وسجن وإهانة وحجز حريات بما يشبه الحجر الصحي فلا يزارون ولا يزورون. وأحسوا جميعاً بكابوس السلطة فنفروا منه، وهم الذين تعودوا أن يحكموا بأمرهم. ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن الشعب كان يحس بمثل هذا النفور من مظالم السلطة فكانت مراراة الشعب عاملاً فعالاً في الانتفاض على الإدارة الحاكمة التي لم تبدل شيئاً من وضعيته، بل زادتها سوءاً وأضافت إلى أسياده التقليديين أسياد غرباء اليد والوجه واللسان.


انظر:

سلامة عبيد: فرنسا تفرض نفسها.. (1)

سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مغامز صك الانتداب (2)

سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. مخالفة فرنسا لصك الانتداب (3)

سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. سلطات المفوض السامي (4)

سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. تغيير المفوضين (5)

سلامة عبيد: الأسباب السياسية للثورة السورية الكبرى عام 1925 .. التجزئة (6)

سلامة عبيد: الأسباب الخارجية للثورة السورية الكبرى عام 1925  (7)



 أحداث التاريخ السوري بحسب السنوات


سورية 1900 سورية 1901 سورية 1902 سورية 1903 سورية 1904
سورية 1905 سورية 1906 سورية 1907 سورية 1908 سورية 1909
سورية 1910 سورية 1911 سورية 1912 سورية 1913 سورية 1914
سورية 1915 سورية 1916 سورية 1917 سورية 1918 سورية 1919
سورية 1920 سورية 1921 سورية 1922 سورية 1923 سورية 1924
سورية 1925 سورية 1926 سورية 1927 سورية 1928 سورية 1929
سورية 1930 سورية 1931 سورية 1932 سورية 1933 سورية 1934
سورية 1935 سورية 1936 سورية 1937 سورية 1938 سورية 1939
سورية 1940 سورية 1941 سورية 1942 سورية 1943 سورية 1944
سورية 1945 سورية 1946 سورية 1947 سورية 1948 سورية 1949
سورية 1950 سورية 1951 سورية 1952 سورية 1953 سورية 1954
سورية 1955 سورية 1956 سورية 1957 سورية 1958 سورية 1959
سورية 1960 سورية 1961 سورية 1962 سورية 1963 سورية 1964
سورية 1965 سورية 1966 سورية 1967 سورية 1968 سورية 1969
سورية 1970 سورية 1971 سورية 1972 سورية 1973 سورية 1974
سورية 1975 سورية 1976 سورية 1977 سورية 1978 سورية 1979
سورية 1980 سورية 1981 سورية 1982 سورية 1983 سورية 1984
سورية 1985 سورية 1986 سورية 1987 سورية 1988 سورية 1989
سورية 1990 سورية 1991 سورية 1992 سورية 1993 سورية 1994
سورية 1995 سورية 1996 سورية 1997 سورية 1998 سورية 1999
سورية2000

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى