مقالات
د. عادل عبدالسلام (لاش): خروج فرنسا من القنيطرة ووالدي يرفع العلم السوري
د. عادل عبدالسلام (لاش) – التاريخ السوري المعاصر
يتجنب الشركس عادة التبجح والتفاخر بأنفسهم والحديث عن منجزاتهم، لكنني مكره على كسر هذا العرف والقيد وأتحدث عن والدي (الحاج عبدالسلام رفعت لاش)، الذي كان محور حادثة تاريخية مهمة…لم يذكرها أحد.. ولن يكتب عنها أحد لأسباب الإقصائية وطمس أعمال وهوية من لايمت إلى الفئات المسيطرة بصلة.
كانت سنتا 1945 و1946 خاتمة نضال سوري مرير دام ربع قرن من الزمن للتحرر من نير الانتداب الفرنسي، وكان للاحتجاجات التي تفاقمت متزامنة مع مصالح حلفاء الحرب العالمية الثانية (وقوف الولايات المتحدة الأمريكية ضد بقاء كل من فرنسا وبريطانيا في منطقة الشرق الأوسط)، مرحلة مفصلية في سيطرتهم على سورية بعد معركة دمشق سنة 1941 وتحريرها من سيطرة الفرنسيين الفيشيين (حكومة فيشي).
وعلى الرغم من إعلان الحلفاء استقلال سورية تنصل الفرنسيون (فرنسا الحرة) من وعودهم فاندلعت احتجاجات جديدة ضدهم سنة 1945 رد عليها الفرنسيون بوحشية في عدة أماكن أبرزها قصف البرلمان السوري في 29 أيار/ مايو 1945. مما أجج الاحتجاجات التي أدت في النهاية إلى مطالبة مجلس الأمن فرنسا بجلاء قواتها عن سورية في 17 نيسان / أبريل 1946.
ومع تأزم الأوضاع في المنطقة، وتسارع أحداث الحرب العالمة الثانية نقل والدي من مخفر داريا إلى رئاسة مخفر درك مدينة القنيطرة، حيث أقمنا في دار مستأجرة من آل بورسة (شفيق وكمال ….) في حي (بَدْسِيَه) في الطرف الجنوبي للمدينة.
ولقد تميزت إقامتنا في القنيطرة بارتفاع وتيرة علاقاتنا الاجتماعية والزيارات المتبادلة مع أبناء جلدتنا الشركس، وأقربائنا في المدينة والقرى الشركسية. وأكملت الصف الخامس في مدرستها الابتدائية الوحيدة، التي كانت تقع عند مدخلها الشمالي الشرقي على طريق دمشق. وكان من زملائي جودت سعيد من قرية بير العجم، و عبدالغني فهمي من قرية البريقة. وكانا يأتيان من قريتيهما سيراً على الأقدام يومياً تقريبا، حيث كنت أنتظرهما صباحاً أمام بيتنا لنذهب معاً إلى المدرسة. وكثيراً ما عوقبنا بسسب التأخر، خاصة في فصل الشتاء، وأيام تساقط الثلوج.
قدمنا امتحان نهاية المرحلة الابتدائية في دمشق ونجح جميع تلاميذ مدرسة القنيطرة، وحصلت على شهادة المرحلة الابتدائية (السرتفيكا) كما كانت تسمى حينذاك. وكان حملها آنذاك يعد إنجازاً مهماً وفخراً للأسرة والقرية. ويرجع الفضل الأكبر في نجاحنا للجهود الجبارة التي بذلها الأستاذ سيف الدين طوموق، الذي كان يعلمنا الحساب واللغة الفرنسية واللغة العربية وغيرها، وكثيراً ما كان يحتجزنا في المدرسة بعد انتهاء الدوام. وكان رحمه الله يعلمنا في الليالي السابقة للامتحان. كما يرجع لجهود وحسن إدارة مديرها الأستاذ عيسى حاغور الرشيدة، رحمهما الله.
وشاءت الظروف أن أكون شاهد عيان لحدث وطني مهم في المنطقة كاد أن يؤدي بحياة والدي. ففي ربيع عام 1945 وصيفه، ومع ارتفاع وتيرة المطالب السورية بالاستقلال، وانتشار خبر الحكم بالإعدام على ثلاثة شبان شراكسة، هم أمين سوسناق من السلمنية، وعبد الرزاق سليمان من حمص ، وحسن صالح من منبج لتعاونهم مع الثوار ولتمردهم على العدوان الفرنسي على البرلمان، واستبدال الإعدام بالسجن، ورفع قائد فصيل درك حارم الشركسي نادر يغن العلم السوري على قلعتها ، ونشاط سليمان ناجي قوباتي ضد الاحتلال الفرنسي، لم تتخلف منطقة الجولان بعربها وشركسها وغيرهم عن حركة التحرر من الفرنسيين، فزحف حشد كبير جداً من أبنائه على ثكنة الجيش الفرنسي (البورتيه) الواقعة جنوبي المدينة قرب منزلنا، والتي كانت كتيبة الفرسان المتطوعة ترابط فيها، بهدف الاستيلاء عليها وقتل من فيها وإحراقها، وكان حشداً ضم مختلف شرائح المجتمع الجولاني. كانت الفئات الغوغائية المندسة بين الجموع بهدف السلب والنهب قد أرسلت إشارات لسكان المدينة لنهب أملاكهم ومقتنياتهم، منها ما وصلنا نحن أن سجادتي منزلنا ستكونان من نصيب أحدهم.
وكنت في ذلك اليوم الرهيب أقف مع أتراب لي ننظر إلى الحشود المسلحة بالبنادق والأسلحة البيضاء والعصي والفؤوس، الزاحفة بالآلاف من جهة الجنوب باتجاه المعسكر الذي تحصن جنوده فيه وراء جدرانه الحجرية الواطئة، وبنادقهم وثلاثة رشاشات (إف- إم)، مسددة باتجاه المهاجمين. وكانت ساعة مخيفة كادت أن تتحول إلى معركة دامية ومجزرة، والجميع يترقب بدء إطلاق النار من أي طرف.
وفي هذه اللحظة برز رجل أعزل من السلاح، يرتدي لباس الدرك آتٍ من جهة المدينة يعدو باتجاه الأرض الفاصلة بين الطرفين معرضاً نفسه لموت محتم، ومتجهاً إلى المهاجمين مناشداً إياهم التوقف ريثما يتفاوض مع قائد الثكنة، و تبينتُ، كما عرفه الآخرون أنه كان والدي (عبدالسلام) رحمه الله.
وأذكر أن بعض المتفرجين من الجيران كانوا ينادونه بالشركسية للتراجع خشية تعرضه لإطلاق النار من أحد الطرفين. ووصفه بعضهم بالمجنون المرجي (نسبة إلى قريتنا مرج السلطان)، حتى أن بعض المقربين منه ناداه بلقبه القديم (لاش تسئِكئور / أي لاش الصغير)، طالباً منه التراجع، مع ارتفاع اًصوات وصرخات من الجموع الهائجة تنادي بقتله. ومع ذلك فوجئ الجميع بهذا التحول في الوضع وتدخل رئيس مخفر الدرك السوري في الأمر… فتباطأ الزحف.
وبعد مفاوضة قصيرة مع زعماء المهاجمين، وتوقف الجمع عن التقدم، ارتد والدي إلى الثكنة، ودخلها. وطال بقاؤه فيها، خرج بعدها ليعلن للجميع أن حامية الثكنة ستغادرها إن لم يتعرض أفرادها للاعتداء، وتخرج من المنطقة إلى معسكرات تجمع القوات الرديفة للجيش الفرنسي في قطنا قرب دمشق. وطلب من الجميع عدم التعرض لأفراد الحامية أثناء المغادرة، لأنه قطع وعداً لهم بذلك. وفي عصر ذلك اليوم، انسحبت الحامية بكامل أسلحتها وعتادها من الثكنة في رتل أحادي من الفرسان، الذين غادروا القنيطرة عن طريق شرقية خارج البيوت، وفي مقدمتهم الملازم الأول الفرنسي (دانيال) قائد الحامية.
ومع خروج الحامية من الثكنة تدفقت الجموع عليها مهللة ومكبرة مع إطلاق نار كثيف في الهواء فرحاً وابتهاجاً. واجتمع زعماء المنطقة مع والدي وأفراد مخفر الدرك الذين وصلوا لمساندته في ساحة الثكنة، التي تركت الحامية العلم الفرنسي مرفوعاً على ساريتها. حيث قام والدي بإنزال العلم الفرنسي بنفسه في جو صاخب يمتلئ حماساً وبهجة. وفاجأ الجميع بأنه كان يحمل العلم السوري بنجومه الثلاث مطوياً، بسطه وربطه بالحبل، ثم رفعه بيديه إلى أعلى السارية مع تأدية أفراد الدرك التحية لعلم الوطن. وأذكر أن وجهاء المنطقة ورجالاتها أقاموا فيما بعد حفل تكريم لوالدي في مبنى السرايا، حضره جمع غفير من أبناء المنطقة ومن قيادة الدرك السوري في دمشق. ومما يندى له الجبين خجلاً وأسى أن من كان أعلن أن سجادتينا ستكونان من غنائم نهبه لبيتنا، زارنا بعد أمد مع أخرين وصرح (مازحاً) وهو ينظر إلى سجادة غرفة الضيوف، أنه يتحسر على عدم حصوله عليها ؟؟؟
عادل عبدالسلام (لاش) دمشق 2 – 5 – 2019.
انظر:
د. عادل عبدالسلام (لاش): السفر برلك .. سنوات المجاعة والهلاك
د. عادل عبدالسلام (لاش): كوشباي أسعد .. مجاجة الأسطورة
د. عادل عبدالسلام (لاش): صفحة وطنية مشرفة للقائد الشركسي ناظم بيك سنجر
د. عادل عبدالسلام (لاش): أحكام إعدام فرنسية لجنود شراكسة في سورية 1945
د. عادل عبدالسلام (لاش): معسكر جغرافي في الجزيرة العليا – شمال شرقي سورية 1981
د. عادل عبدالسلام (لاش): المواقيت والأزمنة عند الشركس
د. عادل عبدالسلام (لاش): العرس الأديغي (الشركسي) التقليدي في سورية
د. عادل عبد السلام (لاش) : تهجير الشركس إلى سورية وتوطينهم في شريط الليمس الشركسي
د. عادل عبد السلام: من جعبة الذاكرة.. المظاهرات الطلابية السورية
د. عادل عبد السلام: ظاهرة لغوية اجتماعية أديغية (شركسية)
د. عادل عبدالسلام (لاش) : بدايات كرة القدم في مرج السلطان
د. عادل عبد السلام : آداب الطعام و قواعد المائدة الشركسية
د. عادل عبد السلام : الحاتيون أسلاف الشركس
د. عادل عبد السلام : حول الأمير الأديغي ينال الكبير، والسلطان الأديغي (الجركسي) الأشرف ينال العلائي
د. عادل عبد السلام (لاش) : على هامش أحداث الجزائر
د. عادل عبد السلام : أول مسجد في مرج السلطان
د. عادل عبدالسلام (لاش) : بين الجامعة والكلية الحربية وقاسم الخليل
د. عادل عبدالسلام (لاش) :مرج السلطان وعيد الأضحى
د. عادل عبدالسلام (لاش): في ذكرى إبادة الشركس
د. عادل عبدالسلام (لاش): نزوح الشراكسة من الجولان في صيف 1967
د. عادل عبدالسلام (لاش): رحلة مجانية أحن إلى مثلها
د. عادل عبد السلام (لاش) : يوم الحداد الشركسي
د. عادل عبد السلام (لاش) : رحلة شتوية إلى جبال صلنفة
د. عادل عبد السلام (لاش) – مسيرة تربوية تعليمية.. زرعنا فحصدنا
عادل عبد السلام (لاش): حكمت شريف حلمي شاشأه في ذكرى رحيله
د. عادل عبد السلام (لاش): غياض الحَور في مرج السلطان
د. عادل عبد السلام (لاش): اللواء محمد سعيد برتار رجل المهمات الصعبة والملمات الإنسانية
د. عادل عبد السلام (لاش): الضائقة المالية وقرار طردي من معهد غوتة
د. عادل عبد السلام (لاش) – حسن يلبرد
د. عادل عبدالسلام (لاش) : شكري القوتلي في مرج السلطان
د. عادل عبد السلام لاش- مراحل رسم الحدود السياسية لسورية منذ زوال الإمبراطورية العثمانية
د. عادل عبد السلام (لاش) : من رجالات الشركس .. الفريق الركن أنور باشا أبزاخ
د. عادل عبد السلام (لاش) : صورة….. واعتقال